وقفت عند باب المنفردة رقم (4) شبه عارٍ أحمل ثيابي وحذائي في يدي، أنظر مشدوهاً إلى تلك الوجوه التي يجتمع فيها بؤس الدنيا كلّه -لن أنسى تلك اللحظة ما حييت- قال لي أحدهم: “البس ثيابك”. بينما كانت تتزاحم عليّ أسئلة الآخرين: “كم الساعة الآن؟”، “ماذا يجري في الخارج؟”، “متى اعتقلوك؟”. المنفردة في الأصل مخصصة لمعتقل واحد، ولكن لكثرة المعتقلين، وإمعاناً في الإذلال والوحشيّة انقلبت إلى زنزانة جماعيّة، وصل عدد نزلائها في يوم من أيام وجودي فيها إلى سبعة معتقلين، لك أن تتصور أنّ زنزانة طولها حوالي 200 سم وعرضها حوالي 120 سم؛ يحشر فيها هذا العدد من المعتقلين، إذا أراد أحدهم أن يستلقي أو يتمدد فلن يجد الآخرون متسعاً ليقعدوا لا ليستلقوا، فكيف ينامون، إذا نزل عدد نزلائها إلى أربعة في يوم من الأيام؛ كان كأنّه يوم عيد.
لا يوجد لمكان قضاء الحاجة في الزنزانة باب أو ستارة، يقضي المعتقل حاجته أمام الباقين الذين يغضون أبصارهم، ويتجاهلون ما يفعل، وهو يحاول أن يستر نفسه ما استطاع، ولا يوجد صابون للتنظيف، يحك المعتقل يديه ببعضهما ما استطاع وينتهي الأمر، لم أستطع أوّل الأمر تصوّر حصول هذا، ولكن مع الوقت اعتدت عليه، فكان قضاء الحاجة عقوبة بحدّ ذاته، في مكان قضاء الحاجة صنبور ماء، هو المصدر الوحيد لكلّ وجوه استعمالات الماء، منه نشرب، ومنه ننظّف أنفسنا، ومنه ننظّف الزنزانة، كانت المياه مقطوعة أغلب الوقت، وفي بعض الحالات حين تأتي لا نكاد نجد الوقت الكافي لنملأ كلّ القوارير القذرة المركونة بين القذارات (زجاجات بلاستيكيّة قديمة لمشروبات غازيّة أو مياه معدنيّة) وهي حوالي عشرة موجودة في طرف المرحاض، ولا أدري كيف وصلت إلى هنا، اختار نزلاء الزنزانة اثنتين منها، كانتا الأقلّ قذارة ليخصّصوهما للشرب، في كلّ مرّة يتمّ غسلهما بشكل جيّد.
الحمام مليء بالأوساخ وبقايا الأطعمة القديمة، وهو مرتع للصراصير والحشرات التي دخلت أشكالها قاموس معارفنا حديثاً، في أعلاه ربط ما يشبه الحبل -لا أدري كيف ربط- ولكنّه عبارة عن قميص قديم ملفوف على شكل حبل، وضعت عليه بعض الثياب البالية القذرة، أظنّ أنّها لمساجين سابقين، في بعض الأوقات الحرجة عندما اكتظّت الزنزانة بالنزلاء، حاول أحدهم أن ينام فيه -مكان قضاء الحاجة- وضع رأسه خارجها ومدّ رجليه داخلها ومع ذلك لم يستطع النوم.
لم أستطع في الأيام الأولى أن أكره نفسي على قبول ما يقدّم لنا على أنّه طعام، وهو عبارة عن وجبتين واحدة في الصباح والأخرى في المساء، القاسم المشترك بينهما ما شكله كشكل الخبز، ولكنّ رائحة عفونته وحموضته تسبق إلى أنف الإنسان، يخصّص لكلّ معتقل رغيف في الصباح ومثله في المساء، ويقدّم معه كطعام لوجبة الصباح -على الغالب- لبن شديد الحموضة هو أقرب إلى السائل، قدموا لنا نوعاً من أنواع المربّى مرّة أو مرّتين، ومثلهما بضع حبّات زيتون أخضر شديد المرارة، خلال فترة إقامتي في الفرع، وهي ما يقارب الشهر، ما يقدّم لا يكاد يكفي شخصين، يتمّ توزيعه على العدد الموجود في الزنزانة، وأمّا وجبة المساء فغالباً هي أرز أو برغل، يقدّم لنا في كيس نايلون – كيس خبز قديم- هو كخلطة (الإسمنت) تكاد تتّحد حبات الرز أو البرغل فيه لتكون حبّة واحدة كبيرة، ولا يقدّمون معه شيئاً أبداً، وأذكر أنّهم عندما قدموا لنا مرّة -بعد انتقالي إلى الجماعيّة- بضع حبات من الفجل كان كأنّه يوم عيد.
ومع ذلك كنّا نحمد الله تعالى على هذه النعمة، فقد مرت أيام على أهل حمص القديمة أيام حصار عصابات الأسد لهم أكلوا الحشائش وأوراق الشجر، كما أنّنا سمعنا وقرأنا عن معتقلين بالمئات بل بالآلاف قضوْا جوعاً، بل أقسم لي أحد الأطباء من معتقلي الثمانينيّات- مكث في سجن تدمر أكثر من عشر سنين- أنّ البيضة الواحدة كانت مخصّصة لثمانية معتقلين، وكانوا يقطّعونها بالخيط إلى ثمانية أقسام.
أمّا النوم فكأنّما قد حلف أيماناً مغلّظة بأن يجافيني فلم يقربني أيّاماً، وكانت أقسى اللحظات تلك التي ينام فيها جميع من في الزنزانة وأبقى يقظاً وحيداً. تغدو بي الفِكر وتروح، وتعصف بيَ الذكريات وتسكن، أعود إلى طفولتي، إلى أصدقاء الطفولة، إلى اللحظات الجميلة، إلى الأعياد والأفراح، إلى المآسي والأتراح، إلى أيام المدرسة إلى بعض أساتذتنا المميزين الذين فقدناهم في سجون الطاغية الأب، إلى أيام الجامعة وتسلّط الموالين على مفاصل الإدارة فيها، إلى خدمة العلم والقهر والذل والابتزاز الذي يعيشه المجندون، إلى العمل في تدريس التربية الإسلامية والخوف الدائم من التقارير، إلى السفر وابتزاز الراغبين فيه بجواز السفر والموافقات الأمنيّة، إلى أمور تكاد لا تنتهي من القهر والظلم والإذلال.
هكذا قدرنا، شاء الله تعالى أن نولد في عهد حكم حزب البعث لسوريّة الذي تحوّل بعد انقلاب حافظ أسد إلى حكم الطائفة النصيرية ثمّ إلى حكم أسرة الأسد، يا الله هل يعيش أولادنا ما عشناه من الظلم والقهر؟
ها أنا هنا الآن عاجز مقهور محروم من أبسط حقوقي الإنسانية في هذه الزنزانة القذرة بين إخوة لي، مصابهم كمصابي، ولكن لا أدري كيف ينامون؟!
عبدالكافي عرابي النجار