أكتوبر 12, 2021
مقالات
نجيب محفوظ.. وخصوم الإسلام!
د. حلمي القاعود
عقب هزيمة عام 1967م، قرأت للعميد احتياط السابق “ما تيتاهو بيليد”، قائد الجبهة الشمالية أيام الهزيمة السوداء، بعض ما كتبه عن نجيب محفوظ (11 ديسمبر 1911 – 30 أغسطس 2006م).
“بيليد” -ومثله عدد كبير من ضباط جيش الاحتلال الصهيوني- لا يكفون عن الدراسة والبحث العلمي في أدبيات المنطقة، إلى جانب احتراف القتال، لمعرفة تفاصيل الحياة والقيم والعادات والتقاليد، وفهم ما يجري داخل الشعوب العربية، وطريقة تفكيرها، وإدراك تصوراتها للماضي والحاضر والمستقبل.
حاول “بيليد” بعد الهزيمة أن يلتقي نجيب محفوظ شخصياً، ويبدو أنه فشل، ولم ينجح إلا بعد “كامب ديفيد” (1978م)، ولم يحصل من الرجل على شيء ذي قيمة؛ فقد كان اللقاء فيما يبدو مجاملة وعابراً من خلال جلسة ضمت محفوظاً مع بعض مريديه.
الشاهد في الأمر أن “بيليد” اهتدى بعد قراءة أدب محفوظ إلى أن رواياته تعبر عن قيم إسلامية، وعن مجتمع إسلامي، ويعني ذلك في المفهوم الصهيوني خطراً كبيراً على كيان الاحتلال؛ فالإسلام يمثل عنصر المقاومة الحقيقي المؤثر ضد الغزاة، أما المحاولات اليسارية والعلمانية للمقاومة، فهي هشة وصورية وزائفة أكثر منها عملية ومؤثرة ومؤلمة، ولذا لا يهتم بها الغزاة مثل اهتمامهم بالمقاومة الإسلامية، صحيح أن محفوظاً لم يُشر في رواياته وقصصه إلى العدو الصهيوني بكلمة أو يعالج القضية الفلسطينية أو الاحتلال الصهيوني للأرض العربية والمقدسات الإسلامية، ولكن الباحث الصهيوني ومثله كل الصهاينة يرون في التعبير عن القيمة الإسلامية مؤشراً على وجود عنصر يهدد وجودهم الإرهابي الاحتلالي الظالم!
نبوءة “نوبل”
في الأربعينيات، تناول المفكر والأديب سيد قطب على صفحات “الرسالة” روايات نجيب التاريخية التي نشرها تباعاً في ذلك الحين “عبث الأقدار”، “كفاح طيبة”، “رادوبيس”، “القاهرة الجديدة” (1945م)، وأشاد بها وتنبأ لصاحبها بمستقبل باهر في ميدان الرواية، وكأنه تنبأ له بجائزة “نوبل” (1988م).
وقد نشأت بين قطب، و محفوظ، علاقة أدبية، استمرت لفترة طويلة، كان يزوره في بيته بحلوان، ويتبادلان الحوار حول الشؤون الثقافية والأدبية، ولكن ما تعرض له قطب من سجن واعتقال، وحكم بالإعدام، جعل نجيب محفوظ الذي كان حريصاً على سلامته الشخصية، يتراجع عن الوفاء لصاحبه الشهيد بإذنه تعالى؛ فجمهورية الرعب دفعت كثيراً من الكتَّاب والأدباء إلى قول ما لا يؤمنون به خوفاً على أنفسهم، ولذا رأينا محفوظاً في روايته “المرايا” (1972م) يصوّر شخصية قطب تحت اسم “عبدالفتاح إسماعيل” تصويراً يرضي السلطة، ويبعده عن شبهة تأييده أو التعاطف معه، بعد أن أبرز ذكاءه، وتفوقه الفكري والأدبي، لقد حاول أن يلقي عليه ظلالاً من الشك والريبة، ووضعه في دائرة التنظيم السري، وأضفى عليه غموضاً عجيباً، مع أن سيد قطب كان واضحاً في فكره وسلوكه لدرجة لا تخفى على أحد، ثم ذكر أنه “لم يرتح إليه”!
لم يكن محفوظ من الإسلاميين الذين ينطلقون من تصور إسلامي خالص، وقد تطور فكره على مدى عمره الطويل، مذ درس الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة (تخرج عام 1934م)، واتصل بسلامة موسى (1887 – 1958م)، الذي أثر في فكره تأثيراً جذرياً، ومعروف مدى رفض موسى للإسلام، وتعصبه المقيت ضده، وحفاوته بالثقافة الغربية والدعوة إليها، وقد تابع محاولات محفوظ الروائية الأولى، وراجعه فيها، ونشر له في مجلته الشهرية مقالاته الفلسفية، وروايته الأولى التي قدمها هدية للمشتركين بدلاً من عددي الصيف اللذين كانت تحتجب فيهما المجلة، كان محفوظ وفدياً يحب سعد زغلول، والنحاس باشا، وعبر عن حبه ذاك في عدد من رواياته خاصة “الثلاثية” (1956 – 1957م)، وحين صوَّر الإخوان المسلمين كان مدفوعاً بالتعصب الحزبي، ولكنه لم يسئ إليهم أو يتهمهم بالعمالة والخيانة والكفر والظلامية، كما يفعل غيره من الشيوعيين والناصريين والليبراليين والانتهازيين والمرتزقة، صوَّر بعضهم في سلوكيات متحفظة، واهتمامات شخصية ضيقة، ثم أنصفهم في روايته “الباقي من الزمن ساعة” (1982م)، وأثار التعاطف معهم لنقائهم ومظلوميتهم، وتعرضهم للقهر والتعذيب.
قرأ الرجل الثقافة الغربية والتراث الإسلامي، والقرآن الكريم، وظهر تأثره واضحاً بالقرآن الكريم والحديث النبوي في أسلوبه الروائي، وقد خصص أحد الباحثين كتاباً كاملاً لدراسة هذا التأثر في رواية “اللص والكلاب”، لا تكاد تخلو فقرة في صفحة من صفحات الرواية من التأثر الأسلوبي بآية من الآيات، أو حديث شريف، مما يدل على التطور الفكري للرجل وانتمائه للثقافة الإسلامية والتشبع بها، وإن اختلف فهمه لمفهوم الدين والدولة، أو رؤيته العلمانية لفصل الإسلام عن السياسة بحكم دراسته للفلسفة وتأثير الفكر الغربي.
وقد تتبعتُ رواياته وكتبت عن عدد منها في وقت لم يكن يبالي به كثير من اليساريين وأشباههم، وخاصة في الروايات التي يظهر فيها النبض الروحي الإسلامي، فتناولت روايته الضخمة “ملحمة الحرافيش” (1977م) قبل أن يتناولها الآخرون، وهي تعد من وجهة نظري تصحيحاً بارعاً، وبناء فنياً أفضل من رواية “أولاد حارتنا” (1959م)، وكتبت عنها دراسة مطولة نشرتها في مجلة “البيان” الكويتية، عقب صدور الرواية مباشرة، وهو ما لفت انتباه رجاء النقاش، فكتب عنها مقالاً ممتداً على عددين من مجلة “المصور” جعل عنوانه “نجيب محفوظ يكتب بالفارسية”؛ لأني توقفت وقفة غير قصيرة في دراستي المشار إليها عند استلهام نجيب للشعر الفارسي في الرواية.
ثم رأيت رواية “الكرنك” (1974م) التي تناولت التعذيب في العهد الناصري، وأشدت بها لأنها كشفت جانباً مظلماً من جوانب النظام المهزوم الذي انتصر على شعبه وحده، وهي رواية لم يتناولها اليساريون، بسبب موضوعها الذي يدين النظام الذي أيَّدوه ومنحهم صدارة المشهد الثقافي والإعلامي والفكري والفني والتربوي.
نظام ملفق
تصوَّر محفوظ في فترة تطوره الفكري والثقافي أن يقوم نظام سياسي في بلادنا العربية، يعتمد على ديمقراطية الغرب والعدالة الاجتماعية في النظام الشيوعي، والبناء الروحي في صوفية الإسلام، وقد عالج هذه الرؤية في روايته “حضرة المحترم” (1975م)، وواضح أن هذا التصور يدل على قصور واضح في فهم التشريع الإسلامي، الذي وضع أسساً إنسانية لتوفير العدالة الاجتماعية وتحقيق الشورى وواقعية الإيمان وبساطته، وفي كل الأحوال فالرجل لا يعادي الإسلام ولا يشهّر به، كما فعل ويفعل الشيوعيون ونظراؤهم في الفكر والاعتقاد والسلوك.
وفي روايته “رحلة ابن فطومة” (1983م) التي تناولتها في أحد كتبي، عرض محفوظ لأبرز النظم السياسية في العالم، ومعظمها يقوم على الاستبداد والقهر والظلم، ولكنه كان حريصاً حين يرى حالة إيجابية أو فكرة إنسانية، يتساءل على لسان ابن فطومة الأزهري الذي حفظ القرآن واستوعب التراث: أليس هذا موجوداً في ديننا؟ كان محفوظ يحلم بالحرية والعدل والشورى أو الديمقراطية، ورأى أخيراً من خلال الرواية أنها قائمة في الإسلام.
لوحظ أن الشيوعيين والناصريين والقوميين والانتهازيين والمرتزقة لم يكتبوا حول الروايات التي عالجت مسألة التعذيب أو انحازت إلى الإسلام أو بعضه، فركزوا على “أولاد حارتنا”، وهي رواية من حيث الفن ضعيفة بالقياس إلى بقية رواياته، ثم إنها استغلت الرمز الديني استغلالاً فجاً، سواء ما يشير إلى الذات الإلهية أو الأنبياء، صحيح أن نجيب محفوظ صنع بيئة شعبية لتكون فرشة فنية يضع عليها بضاعته الفكرية، ولكنه أخفق في إبعاد الحقيقة عن ذهن القارئ، فعرف أن الجبلاوي يرمز إلى الذات الإلهية، وعرف أدهم، وإدريس، وجبل، ورفاعة، وقاسم، وعرفة، الذين يرمزون إلى الأنبياء وإبليس والعلم، وكان موت الجبلاوي قاصمة الظهر؛ لأنه يعني موت الإله، وهو ما جعل القرَّاء المسلمين يغضبون.
كان محفوظ فيها يؤرخ للبشرية من خلال الحارة المصرية بسياقاتها الاجتماعية والاقتصادية وحكم الفتوات (رمز الاستبداد والقوة الغشوم والولاء للفتوة الأقوى) دون أن يُظهر أثراً للوحي أو تعاليم السماء، وجعل المستقبل لعرفة (العلم) وحده بعد موت الجبلاوي.
وقد أثير حول الرواية لغط كثير حولها إلى أزمة تدخلت فيها السلطة والأزهر عقب نشرها مسلسلة في “الأهرام” على عهد محمد حسنين هيكل، وكانت الأزمة بتدبير بعض الشيوعيين في جريدة “الجمهورية” نتيجة الغيرة الأدبية من محفوظ وخاصة لدى الشيوعي الحكومي التائب يوسف إدريس، فقد فوجئ القراء برسالة من شخص مجهول تظهر في باب الرسائل بالجريدة، ينبه فيها إلى أن الرواية التي تظهر مسلسلة في “الأهرام” تسيء إلى الأنبياء والإسلام، وكان المشرف على صفحة الرسائل بعض الشيوعيين، أبرزهم أحمد عباس صالح، لم يُعرف عن الشيوعيين حرص على الإسلام والأنبياء، فهم يعدون الدين أفيون الشعوب، ووقف كتَّاب “الجمهورية” اليساريون من الرواية موقفاً أشعل الموقف، وجعل السلطة تتدخل، وتعهد بلجنة من أساتذة الأزهر تضم الشيخ أحمد الشرباصي، والشيخ محمد الغزالي، والشيخ محمد السعدي فرهود، وهم متخصصون في الأدب والنقد يقومون بفحص الرواية، ويصدرون تقريراً عنها، فطلبوا وقف نشر الرواية حفاظاً على قدسية الذات الإلهية واحتراماً لمقام الأنبياء، ولكن محمد حسنين هيكل، رئيس تحرير “الأهرام”، تحدى التقرير وأصر على إتمام نشرها، بينما امتنع محفوظ عن نشرها في كتاب احتراماً لرأي الأزهر.
وبعد سنوات ظهرت الرواية مطبوعة في بيروت، حيث نشرتها دار الآداب المعروفة بميولها الماركسية، مع أن صاحبها تعلم في الأزهر الشريف، وكان يرتدي العمامة!
ابن حضارتين
تطورت أفكار محفوظ وكتب “ملحمة الحرافيش” -كما سبقت الإشارة- وهاجم الحكم العسكري بشراسة في بعض رواياته خاصة التي صدرت بعد الهزيمة (انظر مثلاً: روايته “يوم قتل الزعيم” عام 1985م)، وفي كلمته التي ألقاها يوم تسلم جائزة “نوبل”، وألقيت نيابة عنه، عبَّر عن انحيازه إلى الحضارة الإسلامية، وجاء في بعض فقراتها: “سادتي، أخبرني مندوب جريدة أجنبية في القاهرة بأن لحظة إعلان اسمي مقروناً بالجائزة سادها الصمت، وتساءل كثيرون عمن أكون، فاسمحوا لي أن أقدم لكم نفسي بالموضوعية التي تبيحها الطبيعة البشرية، أنا ابن حضارتين تزوجتا في عصر من عصور التاريخ زواجاً موفقاً، أولهما عمرها سبعة آلاف سنة؛ وهي الحضارة الفرعونية، وثانيهما عمرها ألف وأربعمائة سنة؛ وهي الحضارة الإسلامية، ولعلي لست في حاجة إلى التعريف بأي من الحضارتين لأحد منكم، وأنتم من أهل الصفوة والعلم، ولكن لا بأس من التذكير ونحن في مقام النجوى والتعارف”.
وبعد حديثه عن الحضارة الفرعونية، تحدث عن الحضارة الإسلامية فقال: “وعن الحضارة الإسلامية فلن أحدثكم عن دعوتها إلى إقامة وحدة بشرية في رحاب الخالق تنهض على الحرية والمساواة والتسامح، ولا عن عظمة رسولها، فمن مفكريكم من كرَّمه كأعظم رجل في تاريخ البشرية، ولا عن فتوحاتها التي غرست آلاف المآذن الداعية للعبادة والتقوى والخير على امتداد أرض مترامية ما بين مشارف الهند والصين وحدود فرنسا.
ولا عن المؤاخاة التي تحققت في حضنها بين الأديان والعناصر في تسامح لم تعرفه الإنسانية من قبل ولا من بعد، ولكني سأقدمها في موقف درامي -مؤثر- يلخص سمة من أبرز سماتها، ففي إحدى معاركها الظافرة مع الدولة البيزنطية ردت الأسرى في مقابل عدد من كتب الفلسفة والطب والرياضة من التراث الإغريقي العتيد، وهي شهادة قيمة للروح الإنسانية في طموحها إلى العلم والمعرفة، رغم أن الطالب يعتنق ديناً سماوياً والمطلوب ثمرة حضارة وثنية”.
ثم ختم قائلاً: “قُدر لي يا سادة أن أولد في حضن هاتين الحضارتين، وأن أرضع لبنيهما وأتغذى على آدابهما وفنونهما، ثم ارتويت من رحيق ثقافتكم الثرية الفاتنة، ومن وحي ذلك كله، بالإضافة إلى شجوني الخاصة، ندت عني كلمات أسعدها الحظ باستحقاق تقدير أكاديميتكم الموقرة؛ فتوجت اجتهادي بجائزة نوبل الكبرى؛ فالشكر أقدمه لها باسمي وباسم البناة العظام الراحلين من مؤسسي الحضارتين..”.
وفي ذكرى وفاة محفوظ كل عام، يستغل خصوم الإسلام من المتهوّدين والمتنصّرين واليساريين والمرتزقة، فيستدعون حادثة طعنه (أكتوبر 1995م) على يد شاب جاهل، ويرتبون على ذلك إدانة الإسلام والمسلمين جميعاً، ونعتهم بأشد الألفاظ قبحاً وبذاءة، كما يحاولون إخراج محفوظ من دائرة الإسلام والإيحاء أنه ابن معتقداتهم المنحرفة، مع أن الرجل في أواخر حياته كان لا يستطيع الوضوء، فطلب من سكرتيره الشخصي الحاج محمد صبري، رحمه الله، وكان يقرأ له الصحف والكتب أن يعلمه كيفية التيمم ليصلي، وهذا سمعته بأذني من الرجل، ثم إنه بنى مسجداً فخماً على الطريق الصحراوي بين القاهرة والإسكندرية في قرية العزيزية التي يرتبط بأرضها وأهلها، وتكفّل بأجور العمال والإمام، والقائمين على تحفيظ القرآن الكريم، وكان يذهب في المناسبات ليوزع الصدقات ويقضي بعض وقته هناك، وما زالت أسرته أو ما تبقى منها (ابنته) تقوم بهذه الزيارة.
ولكن اليساريين لا يأتون على ذكر صلاته وإيمانه أبداً، ووجدوا في بناء مسجد العزيزية أمراً جللاً، وخيانة لهم، وتطرفاً كان يخبئه نجيب محفوظ! كأنهم تعاقدوا معه على عداوة الإسلام!
والغريب أنه بعد حادثة طعنه التي استنكرها المسلمون وغيرهم، راحوا يتحدون الأزهر والسلطة معاً، ونشروا “أولاد حارتنا” في “الأهالي” جريدة الحزب الشيوعي، الذي يسمى التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، ويسخر منه المصريون فيسمونه حزب “توتو”!
مؤسف جداً أن يتفرغ خصوم الإسلام الذين يدعون النضال والكفاح من أجل الكادحين والفقراء إلى هجاء الإسلام والتشهير بالمسلمين، ولو كانوا في قامة نجيب محفوظ!