د. عبد الكريم أحمد عاصي المحمود
مقدمة:
توجه معظم النقاد الإسلاميين إلى نقد المذاهب الغربية أثناء عرضهم لنظرية الادب الإسلامي ومحاولاتهم رسم ابعادها وملامحها وآفاقها الأدبية والنقدية، فكان الناقد الإسلامي يتوقف امام كل مذهب من تلك المذاهب ليكشف عن أسسه الفلسفية والعقائدية في جذورها الوثنية اليونانية والرومانية القديمة، او نظرياتها المادية الحديثة وملابساتها الاجتماعية والتاريخية والعوامل الخاصة التي دفعت بكل مذهب منها إلى الظهور والانتشار، ومن خلال ذلك يكشف الناقد الإسلامي عن انحراف تلك المذاهب وتصادمها مع أسس المذهب الإسلامي في الادب والنقد مع مجافاتها لواقع المجتمعات الاسلامية ؛ ولذلك فلا تصلح تلك المذاهب الغربية أن تكون مرجعاً للناقد او المبدع الإسلامي، على خلاف من بعض النقاد الاسلاميين في امكان الافادة من تلك المذاهب على صعيد الأشكال الفنية وبعض المضامين الموافقة لمبدأ الإسلام وأصوله العقائدية الثابتة مما سنتطرق اليه لاحقاً. ومن خلال مواقف النقاد الاسلاميين يمكننا أن نجمل المؤاخذات والانتقادات الموجهة لكل مذهب من مذاهب الادب الغربي.
نقد المذهب الكلاسيكي:
إن المذهب الكلاسيكي “قام أصلاً على محاكاة أدب قدماء الأغريق والرومان، وهو ادب وثني يدين بتعدد الآلهة ويؤمن بالصراع بينها من جهة وبينها وبين الانسان من جهة اخرى. وقد بلغ هؤلاء الآلهة عندهم حداً لا يكاد يحصى… وقد دارت كثير من الاساطير اليونانية حول هؤلاء الآلهة…. ولا يخفى على مسلم ما في هذا الادب من عبادة للأوثان التي جاء الاسلام لاجتثاثها من جذورها والقضاء عليها إلى غير رجعة ” (1). ومن ارتباط الكلاسيكيين بالأدبين اليوناني والروماني وتأثرهم بالروح الوثنية فيهما، فقد صوروا القدر في صورة ظالم شديد يقوم على الكيد للإنسان وايذائه وهذا مخالف للتصور الإسلامي ورؤيته الناصعة للقدر(2) كما استنبطت الكلاسيكية من هذين الأدبين ” قواعد مرسومة وقوالب محدودة والزمت الادباء بالسير عليها وحصرتهم في حدودها، فما وافق من انتاجهم ادب اليونان والرومان قبل، وما خالفه رفض. وقد أذاقوا الخارجين على هذا الادب مرّ العذاب ومارسوا معهم ضروب الارهاب وقادوهم إلى المحاكم كما يقاد المجرمون “(3).
ومما يؤخذ على هذا المذهب أن أتباعه انصرفوا – غالباً – عن مشكلات الحياة الاجتماعية والسياسية ووجهوا اهتمامهم إلى الطبقة الارستقراطية العليا في المجتمع دون الاهتمام بالطبقات الاخرى. في حين يدعو المنهج الإسلامي إلى ادب لايقتصر على فئة من الناس بل يهتم بهم جميعاً ويعالج مشكلاتهم المتنوعة (4)، ويكاد الكلاسيكيون يقصرون اعمالهم الادبية على الجوانب المادية من حياة الانسان وما يدور حول هذه الجوانب من العواطف والمشاعر. أما الجوانب الروحية وما فيها من تألق وصفاء فهي لا تحظى بشيء من اهتمامهم. والادب الإسلامي يعطي الحياة المادية حقها كما يعطي الروح حقها أيضاً بل إن حقوق الروح عند الأديب المسلم تنال الحض الأوفى من الاهتمام “(5).
أما عن ارتباط الادب الكلاسيكي بالمبدأ الخلقي، فهو أمر يتوافق مع الاتجاه الإسلامي في عمومه ولكن مفهوم المبدأ الخلقي عند الكلاسيكيين يختلف اختلافاً كبيراً عن مفهومه الإسلامي. فالأخلاق الفاضلة عندهم هي التي يأخذ بها المجتمع! وهذا غير صحيح لأن ما يقره المجتمع ما هو إلاّ نتاج عقل بشري وهو قابل للتغير بتغير الظروف والأحوال. بينما يتميز المبدأ الخلقي في الإسلام بالثبات والتنزه عن الخطأ والبطلان لأنه لا يتقيد بأعراف المجتمع السائدة ولا يعدها مصدر تشريع الأخلاق، بل تقرر أصوله ارادة سماوية عليا وتترك للجماعات البشرية أن تتصرف في فروعه دون خروج عن تلك الأصول(6).
وبالاضافة إلى ما سبق فإن الكلاسيكية تطرفت في منح العقل سلطة مطلقة في مجال الادب والفن رغم تأثر العقل لديهم بالمناهج الخاطئة من وثنية اليونان واستبداد الرومان وتحريفات النصرانية في القرون الوسطى. أما في المنظور الإسلامي فإن العقل ينتج ويبدع ويكتشف اذا راعى في ذلك كله منهج الدين الحنيف في الاعتقاد والنظر والتصور. وقد تطرف المذهب الكلاسيكي كذلك في العناية بالقوالب والأشكال على حساب المضامين الأدبية وهذا خلاف ما ينبغي أن يكون عليه الادب الحقيقي من التوازن والتعادل بين الأشكال والمضامين كما هو في الادب الإسلامي (7). وأخيراً فإن “الادب الكلاسيكي يقوم على تصوير النماذج البشرية والأحداث الواقعة بخيرها وشرها ويمحّض فنه للإبداع في التصوير من غير تمييز بين الخير والشر. وانما يترك ذلك لنفس القاريء وميوله. والادب الإسلامي يصور الخير والشر أيضاً ولكنه يهدف من ذلك – على الدوام – إلى الترغيب بالخير والحض عليه وتزيينه في النفوس والتنديد بالشر واجتثاثه من القلوب”(8). هذه خلاصة سريعة للانتقادات التي وجهها النقاد الاسلاميون لمذهب الكلاسيكية في الأدب الغربي.
نقد المذهب الرومانسي:
أما بالنسبة للمذهب الرومانسي او الرومانتيكي فان اول ما يؤخذ عليه هو التطرف والمغالاة في الجانب العاطفي والخيالي من العمل الادبي، وسبب ذلك أن هذا المذهب يمثل ردّ فعل قوي لجموح الكلاسيكية نحو العقل، اذ بمقابل ذلك جمحت الرومانسية نحو القلب المفعم بالعواطف والأوهام والتخيلات البعيدة عن الواقع الاجتماعي الرازح تحت أغلال الكنيسة وقيودها المدعومة بقوة السلطة الحاكمة المتحالفة معها، فقد لجأ الرومانسيون إلى ذواتهم واحتكموا إلى عواطفهم واتخذوا منها مصدراً للمعرفة يرونه أشد إخلاصاً وصدقاً من العقل. ولذلك فقد تنكروا للأدب القديم واتخذوا بديلاً عنه مايمليه عليهم الطبع والسليقة الفنية. ومن ثم برز في أدبهم النزوع الفردي والتعبد للطبيعة بمواجهة سلطان الكنيسة مع اسرافهم في التغني بالآلام واستعذابها وامعانهم في العزلة والانطواء على الذات (9). ولذلك فقد عاش الاديب الرومانسي حالة من فقدان التوازن وكانت تنقصه الدعامة الدينية والفكرية والاجتماعية اذ غرق في ذاتيته وأصبح عاجزاً في أكثر الأحوال عن التكيف مع مجتمعه هائماً على وجهه في بيداء الشك والحيرة والكآبة، وهذه حالة لا يرضاها الاديب المسلم لنفسه وهو يملك رصيداً عقائدياً كبيراً وأهم ما يقدمه له هذا الرصيد هو الطمأنينة الراسخة التي تحفظه من الحيرة والشك (10).
ومن المعلوم أن منهج النقد الإسلامي لا يرفض تجاوب الانسان مع ذاته وعواطفه أو مع الطبيعة، ولا يعد ذلك انحرافاً، بل يرى الانحراف فيما تطرفت فيه الرومانسية من ذلك تطرفاً عبودياً وثنياً (11)، اذ”تحول المذهب الرومانسي عند الشبان الفرنسيين – بعد هزيمة نابليون بونابرت الساحقة – إلى مآتم وأحزان وزين لهم الانطواء على انفسهم ومداراة أحزانهم بما فيه من سلبية. والادب الإسلامي أدب ايجابي بنّاء يفعم نفوس قرائه ثقة بالله عز وجل وايماناً بحكمته ورضاءً بقضائه وقدره”(12) وإن الرؤية الاسلامية للأدب لا تقبل أن يصطبغ دائماً بالحزن والكآبة. والآلام الرومانسية لا تنسجم مع الشخصية الاسلامية، والحزن دون سبب مرفوض في الإسلام وإن المسلم مدعو الى مواجهة ظروفه بشجاعة والى التسليم لقضاء الله من جهة وتلمس الاسباب للخروج من الأزمات من جهة أخرى.
والرسول الكريم (ص) هو أعلى نموذج لمواجهة الظروف الصعبة وتاريخ المسلمين مليء بالفواجع والمحزنات ولكن دينهم لا يرضى لهم أن يستسلموا للحزن. ومن هنا فالإسلام لا يرفض الحزن العارض ولا ينكره ولا يرفض التعبير عنه بالأدب وغيره ولكنه يرفض الاستغراق فيه(13)، لأن هذا الاستغراق بما فيه من الانطواء والسأم والقنوط والتشاؤم، ينغص على الانسان حياته ويورثه نظرة سوداوية ويقتل في نفسه روح الابداع ودافع التغيير وحب السعادة الحقة. وما يطلبه الإسلام هو التزام التعبير عن العواطف الصالحة والمشاعر النبيلة والأحاسيس النفسية المثمرة بدل فسح المجال لكل البدائل والدوافع والميول النفسية الهدامة (14) كما شاع عن الرومانسيين تقديسهم للألم واعتباره مطهراً للنفس، لكن الألم ما لبث أن غدا عند كثير منهم “دعاوى كاذبة وتصنعاً بغيضاً يراد منه إظهار النفس بمظاهر البطولة ووضعها في مقام الاستشهاد الرخيص او مبرراً للانحلال الخلقي وارتكاب الرذائل، والاسلام الذي هو دين الفطرة يكره التصنع والتعمل ويحارب الانحلال الخلقي ويكافح ارتكاب الرذائل “(15) ويرفض اسراف الرومانسيين في إطلاقهم العنان لذواتهم الفردية إلى درجة أن صارت شيئاً مقدساً لا يُمس بسوء.
إن اطلاق العنان للذات لتفعل ما تشاء من المحرمات ليس مسلكاً لائقاً بالإنسان وانما هو طريق شيطاني ودعوة للسقوط والتردي وانحطاط الأخلاق وانهيار المجتمع (16). ومن الواضح – بالمنظور الإسلامي – بطلان مقولة الرومانسيين بأنْ ليس من الضروري أن يكون الاديب الفذّ فذّ الخلق وليس الادب عبداً خاضعاً لقوانين الأخلاق، فهذه المقالة لا توافق ما يدين به الاديب الإسلامي من سموّ أخلاق المسلم وترفعه عن الدنايا وسعيه لتحقيق هذه المنقبة امتثالاً لقول الرسول الكريم (ص): أكمل المؤمنين ايماناً أحسنهم خلقاً (17). أما موقفهم من العقل وادعاؤهم بأن ما لا يتفق مع العقل ليس رديئاً بالضرورة فهو مناقض لبداهة الفطرة الانسانية وروح الإسلام، وإن”الاديب المسلم الذي يعيش في رحاب القرآن ويبني أدبه عليه لا يعزب عن باله أن كلمة العقل وما يشتق منها قد وردت في الكتاب العزيز نحواً من أربعين مرة وان الله سبحانه قد دعا الانسان إلى ايقاظ عقله والاعتماد عليه في صحة عقيدته وصفاء سلوكه”(18)، وبأثر الموقف السلبي للرومانسيين من العقل فقد أنكروا دوره في الابداع الادبي ونادوا بتحرير الاديب من قيود العقل والواقعية والانطلاق في رحاب الخيال المجنح والعواطف المشبوبة حتى في معالجة السياسة و قضايا المجتمع، فقد كانوا عاطفيين موغلين في العاطفة والأحلام (19) مستغرقين في ذواتهم ورؤاهم الشخصية الحالمة بعيداً عن توازن العقل في رؤيته للواقع، وهذا الموقف الرومانسي المتطرف من العقل ودوره في الابداع والسلوك يتناقض أولاً مع طبيعة الكيان الأدبي الذي تؤلف الأفكار جزءاً مهماً منه، ومصدر الافكار هو العقل. ويتناقض ثانياً مع طبيعة الإسلام الذي يدعو الاديب المسلم إلى الاهتمام المتعقل بقضايا الحياة والأمة ولا يرضى له أن يكون نرجسياً لا يعرف الا ذاته، ولا يرضى له اقصاء العقل والاعتماد على المعتقد العاطفي الذي يهون الاثم ويخفف المسؤولية عن الآثام او يسقطها. فالإسلام عقيدة وسلوك ولا قيمة لطيب السريرة اذا كان السلوك خلافها (20). هذا مجمل ما سجله النقاد الاسلاميون من المؤاخذات على المذهب الرومانسي في الادب بالنظر إلى خصائصه العامة التي تبلورت بعد مخاض طويل وتنوع وتفاوت عبر المراحل التاريخية المختلفة.
نقد المذهب البرناسي:
أما بالنسبة لمذهب البرناسية او ما عرف بنظرية (الفن للفن)، فأول ما يؤخذ عليه هو ما تشير اليه تسمية هذا المذهب من الارتباط بالأصل اليوناني الوثني، اذ “تعود هذه التسمية إلى (البرناس) وهو سلسلة جبال في وسط اليونان شاهقة الارتفاع، ذراها مكللة بالثلوج وتنتشر فيها الكهوف التي تزعم أساطير اليونان أنها مسكونة بالآلهة الريفية والحوريات، والبرناس هو مأوى الالهين أبولون وديونيزوس وربات الالهام الشعري والموسيقى”(21)، وفي الحقيقة فإن هذه التسمية تشير إلى الارتباط النفسي والعاطفي ولكن الارتباط الفكري يظل قائماً على صورة من الصور نابعاً من النظرة الوثنية والفكر المادي، يحمل كل حين زخرفاً جديداً وزينة جديدة (22). لقد جاء هذا المذهب الشعري ” في أعقاب الرومانسية احتجاجاً على امعانها في الذاتية التي وصلت حد اللامبالاة بأي شيء خارج الذات وعلى تهاون شعرائها في الصياغة الفنية”(23) وقد حمل لواء الاحتجاج والتمرد شاعران فرنسيان هما: لكونت دليل، وتيوفيل كوتيه مناديين بأن الفن للفن وأن الادب لاغاية له لأنه غاية في نفسه وقد كانت فلسفة (كانت) ومن تأثر به من الفلاسفة أقوى دعامة لدعاة الفن للفن، فمن المعروف أن (كانت) حصر الجمال في الشكل وجعله ذاتياً في ادراكه وحرر العبقرية من كل قيد، “بل رأى أن الجمال الحق يتجلى في صورته المحضة في الموسيقى والزخارف التي لامضمون لها اذ هو غاية في ذاته. وقد أصبحت آراء كانت الفلسفية ذائعة في فرنسا بعد أن تحدثت عنها مدام دي ستال وفكتور كوزان في محاضراته عن (كانت) في السوربون من عام 1816الى عام 1818 وكان من أوائل من تأثروا بها من دعاة الفن للفن هو تيوفيل كوتيه. ففي مقدمة مجموعة أشعاره الاولى عام 1832يتحدى الغائيين في الادب بقوله: يسألون: أية غاية يخدم هذا الكتاب! إن غايته التي يخدمها أن يكون جميلاً. وفي مقدمة قصته (الفتاة دي موبان) 1826 يقول: لا وجود لشيء جميل حقاً الا اذا كان لا فائدة له، وكل ما هو نافع قبيح. ثم يصرح كوتيه في مقالة له في الصحيفة التي عنوانها (الفنان) بقوله:نحن نعتقد في استقلال الفن، فالفن لدينا ليس وسيلة ولكنه الغاية وكل فنان يهدف إلى ما سوى الجمال فليس بفنان فيما نرى “(24)، ومن أقوال كوتيه التي أصبحت قواعد للبرناسية أنه (ما أن يصبح شيء نافعاً حتى يتعطل كل جمال) ودعا في قصيدة نظمها بعنوان (الفن) إلى كمال الشكل (لأن الشكل العامل الأساس الذي يكفل للآثار الادبية الخلود) (25) وهكذا عني المذهب البرناسي بالشكل الفني دون المضمون اعتقاداً منه أن الاول لا الثاني هو موطن الجمال، فمعاناة الاديب ينبغي أن تكون في أجواء الصياغة والبناء الفني، أما الأفكار والمواقف وغيرها فهي عناصر دخيلة وأطراف أجنبية عن الفن الصحيح “وان خطوط المذهب البرناسي المشتركة هي اللامبالاة بالفائدة الاجتماعية أو الأخلاقية وعبادة الجمال الصافي “(26).
والحق أن الجمال لا ينحصر في الشكل الخارجي للنص الادبي بل يشمل مضمونه أيضاً. أضف إلى هذا أن طبيعة الموضوعات وخصائصها تعد من مصادر جمال الشكل وعلى هذا الاساس فُسّر تولد الأنواع الادبية وتعددها وتنوعها بتنوع الموضوعات اذ يطلب كل موضوع ما يلائمه من نوع أدبي. وبهذا فان التأثير الفني يشترك فيه كل من الشكل والمضمون حين يتحقق بينهما الانسجام والتكامل والتوازن(27)، ولذلك فان مفهوم الجمال عند البرناسيين قاصر لا يستوعب المجالات التي يتعامل معها الادب، وان جمال العمل الادبي لا يقتصر على الصياغة إلاّ إذا كان هذا العمل خالياً من المضمون وليس الادب نقوشاً وزخارف صماء ولا مجرد وصف لوردة أو حديقة. والمعاني التي يحملها تعرض – غالباً – مشاعر ترتبط بقيم وأفكار عقدية أو قومية أو وطنية أو اجتماعية، فلا يصح أن يجعل الادب كالحقائق الرياضية لا علاقة له بالخير والشر كما تدعي ذلك البرناسية، فهذه مغالطة تخرج الادب عن حقيقته الواضحة بأنه نشاط انساني مشحون بالمشاعر والاحساسات ويعالج قضايا معينة ولايمكن عزله عن الحياة الاجتماعية والسياسية كما حاول ذلك البرناسيون من دعاة الفن للفن بعد أن اتخذوا من الادب غاية في ذاته وحولوه إلى مايشبه العقيدة فأهملوا في غمرته القضية الأخلاقية ولذلك انتشر فيهم ما يسمى بالادب المكشوف، وكانوا بارعين في تدليس الرذيلة وغرس الانحراف في قصص وقصائد ومسرحيات متقنة، فكان هذا المذهب فتاكاً بالقيم والأخلاق. واذا كنا نسلم بأن الادب ليس أداة دعاية للأخلاق على حساب قيمه الفنية، فإننا لا نقبل أن يكون خصماً معانداً لها ولا أداة للانحراف والالحاد وتهديم الأخلاق مهما كانت قيمه الفنية قوية وبارعة (28). واذا كان هذا المذهب الجمالي قد استمد مقوماته من الفلسفة المثالية بخاصة فإنه يسقط بسقوط هذه الفلسفة التي تم تفنيدها بالأدلة العديدة في مصادرها العتيدة (29). وقد أشرنا إلى تأثر هذا المذهب بفلسفة (كانت) التي نقلت اليه سلبياتها فأضحى يخبط خبط عشواء وسط نظريات فنية انشأها على ضوء ما أملته تلك الفلسفة.
وعلى صعيد النقد الأدبي فقد أخطأ أتباع هذا المذهب الجمالي في رفضهم دراسة شخصية الاديب وحياته تطبيقاً لمفهومهم عن الجمال المفرغ من كل محتوى نفسي أو روحي والحق أن الدراسات المنهجية الدقيقة التي قام بها كبار النقاد تثبت أن الفهم السديد لطبيعة النتاج الادبي وخصائصه الجمالية يظل ناقصاً مبتوراً إذا أهملنا دراسة صاحب هذا النتاج ومميزاته الشخصية. وهذا ما أثبته كذلك علم النفس الادبي وعلم الاجتماع الادبي (30). ومما يكشف عن سخف هذا المذهب وتهافت مبادئه أنه دفع أحد كبار زعمائه وهو لكونت دوليل إلى أن ينكر المسيحية وأن يدين بالبوذية التي تنكر الآخرة وتلغي تطلع الانسان اليها وتشغله عنها بـ(النرفانا) ومن التصور البوذي المنحرف استمد (دوليل) دعوته إلى موضوعية الادب وعزله عن مشاعر الاديب وقضايا الحياة وكان في عزلته يتوق إلى الموت ويتلهف عليه في شعره ويغبط الموتى الذين سعدوا بالفناء دون ايمان باليوم الآخر، وغنيّ عن البيان أن الادب الصادر عن تصور يرفض الآخرة أو يخدم هذا التصور، فهو مرفوض في الإسلام مهما كانت صياغته ومعانيه (31). “ولا يستطيع أحد أن يعبر عن قبح ما يدعو إليه (دوليل) أكثر من دوليل نفسه فقد كان يعلم في حقيقة نفسه أن ما يدعو إليه هو أمور همجية بربرية فسمى ديوان شعره (قصائد همجية). والمدرسة البرناسية كلها مرفوضة في إشراقه الإيمان ووضاءة الإسلام. فالبرناسية ظلام لا يضيئه هدف مشرق. والايمان نور ممتد وأهداف مشرقة والبرناسية حيرة وتيه والاسلام يقين وصراط مستقيم “(32)، وما دعى اليه أنصار هذا المذهب من نظرية الفن للفن لا يتفق مع نظرة الإسلام إلى الادب إذ” تؤكد فاعليته وايجابيته وأن المسلم محاسب على كل قول أو فعل يصدر عنه، لكننا في نفس الوقت نستطيع أن نذهب عن عقولهم مخاوفهم التي تدهمهم من جراء الاشكال الفنية، فهم يعتقدون ان الالتزام قد يشوه الأشكال الفنية وبالتالي سيصبح الانتاج شيئاً غير الفن، ونحن معهم في أن الشكل الفني يجب أن يظل محافظاً عليه فلا فن بدون شكل معين، المضمون وحده لا يقوم كعمل فني هذا مؤكد فقد يكتب أحدهم مسرحية ثرية المضمون قوية المعنى نبيلة الغاية لكنها مهلهلة البناء شائنة الحوار لا عمق في تصوير شخصياتها ولا حياة في حركتها المسرحية، مثل هذه المسرحية لا تعد فناً على الاطلاق بل هي مجموعة من الخواطر والآراء أو المباديء قذفوا بها على قارعة الطريق. والاسلام لم يضع لنا أشكالاً فنية معينة ولم يربطنا ببناء فني خاص نسير على منواله لأن القرآن ليس كتاباً في علم الاستطيقا (الجمال) وانما ارتباطنا بالإسلام هو ارتباط بالمثل والمباديء التي انزلها الله وجعلها مصدراً نصدر عنه ونتمثل معانيه. ثم نحاول – جادين – الحفاظ على الأشكال الفنية والمساهمة في انمائها واكتمالها وتطويرها مثل غيرنا من أدباء العالم. بهذا يمكننا أن ندع مذهب (الفن للفن) وقد كفلنا لأنفسنا في ادبنا الإسلامي كل الضمانات التي تجعل الفن فناً “(33)، هذا فضلاً عن عدم تلاؤم هذه النظرية في جانبها الأخلاقي مع طبيعة الأدب العربي والفكر الإسلامي، إذ شن أنصارها حرباً شعواء على القيم الأخلاقية والفضائل والآداب الاجتماعية معتبرين إياها دخيلة على جوهر الأدب ودعوا الاديب إلى التحرر من جميع القيود الأخلاقية مما يتضمن دعوة إلى الاباحية والحرية المطلقة التي تهدد مستقبل البشرية وتعرقل سيرها نحو التطور(34)، وقد اتجه دعاة التغريب من أدباء العرب لتطبيق نظرية (لا أخلاقية الأدب) أو تحرير الأدب من قيد الأخلاق وذلك من خلال نظرية الفن للفن الغربية ” وجرت المحاولات المتصلة لفرض هذا الاتجاه جرياً وراء الموجة الغربية التي سادت أدب أوربا في العصر الحديث.
ومن الحق أن هذا الاتجاه الوافد بدأ غريباً في محيط الأدب العربي وأفق الفكر الإسلامي، ذلك أن كلمة (أدب) عند العربي كانت ترتبط أساساً بأدب النفس كل الارتباط “(35). ولذلك فقد هذا المذهب مساحات اجتماعية كبيرة إذ لم يسلك مع الناس مسلك التواصل والافهام والتأثير بعد غرقه في الشكليات الباهتة وضياعه في دوامة الالفاظ والعبارات والايقاعات الفارغة. وقد انقسمت جماعة البرناس على نفسها وانفصل عنها فيرلين ومالارميه ليكوّنا اتجاهاً عرف فيما بعد بالرمزية وكان روّادها الأوائل ” قد أخذوا على الرومانسية مبالغتها في الذاتية والانطواء على النفس بحيث غدت غير آبهة بما يجري خارج الذات، وإفراطها في التهاون اللغوي والصياغة الشكلية ثم أخذوا على البرناسية بالمقابل المبالغة في الاحتفاء بالشكل ولاسيما في الأوزان مما قد يحرم الشاعر من أمكانية التلوين والتنويع ومواءمة التموجات الانفعالية، وأخذوا عليها أيضاً شدة الوضوح والدقة بينما توجد في عالم الشعر مناطق ظليلة واهتزازات خفية يصعب التعبير عنها بدقة ووضوح. فالوضوح والدقة والمنطق والوعي والقيود اللغوية والفنية كلها شروط تخنق الابداع وتكبح تيار الانفعال ولابد من الانطلاق مع العفوية والحرية الكاملة ليجري الابداع في أجواء خالية من القيود والسدود، ولابد من التماس أدوات لغوية جديدة هي الرموز للتعبير عن الحالات النفسية الغائمة بطريقة الايماء لا بالطريقة المباشرة الواضحة “(36).
نقد المذهب الرمزي:
إن عيب الرمزية الكبير أنها بالغت في طلب الغلو والجري الحثيث وراء كل غموض وتعمية، فقد طالب الرمزيون بأن يكون الشكل غامضاً لا يصرّح بأي سرّ أو دلالة خلفه! ولكن ما جدوى ذلك الانتاج إذا كان يلفه الغموض من كل جانب وهل يكتب الاديب الرمزي لنفسه أم لغيره؟ وقد أساءت الرمزية فهم الايحاء في مجال اللغة الأدبية فزعمت أن الإشارة البعيدة إلى الشيء كفيلة بأن تحافظ على جماله ورونقه وقوة أثره في نفس المتلقي، ولكن هذا الزعم ينكشف خطؤه وقصوره من خلال اعتراضين أولهما: أن لغة الايحاء تحقق للنص الأدبي جماله بشرط ألاّ تخلّ بعنصر الايضاح الذي يقابله المتلقي ببذل جهد معقول في الفهم العقلي والادراك الوجداني أما حين يتلقى نصاً كثير الطلاسم مليئاً بالألغاز فإنه سوف يعجز عن تذوقه ويصيبه النفور من متابعته.
والاعتراض الثاني أن اللغة العربية بخاصة هي بحد ذاتها لغة الايحاء فهي تمنح الاديب رصيداً ضخماً يستثمره في التعبير عن كل المواقف النفسية والأحاسيس الوجدانية وقد تكون ألفاظ نتاجه وتعابيره واضحة إلا أنها بمزيد من التفهم والتمعن تدلنا على أسرار وخفايا كثيرة وهذا راجع إلى عبقرية اللغة العربية وقدراتها الدلالية الهائلة التي لا يحدّها حدّ(37). فلا صحة لما رآه الرمزيون من أن اللغة ليست وسيلة لنقل المعاني الواضحة وعرض الصور البينة وإنما هي وسيلة لنقل العدوى من الكاتب إلى القاريء إذ” الاديب الإسلامي يدين بأن القرآن الكريم هو كتاب العربية الأكبر وان الحديث الشريف يحتل منزلة وسطاً بين كلام الخالق وكلام المخلوقات وان هذين المصدرين الكبيرين ليسا وسيلتين لنقل العدوى إلى القاريء وإنما هما وسيلتان إلى إرشاده وتوجيهه وأداتان لوضع قواعد حياته الخاصة والعامة”(38).
ويبدو أن التطرف الذي وقعت فيه الرمزية كان ناتجاً عن شعور الإنسان الأوربي بحاجته الى الفرار من التناقض الشديد في المباديء والأفكار والاختلاف والتبدل السريع في المذاهب من كلاسيكية ورومانسية وواقعية وبرناسية، لقد جرب هذه المذاهب والفلسفات وانتقل من واحدة لأخرى فما أفادته قيود الكلاسيكية والتزامها ولا انطلاق الرومانسية وانعتاقها ولا أفاده تقديس الواقع أو العلم أو الفن. لقد أقام الإنسان الأوربي لنفسه صنماً بعد صنم وظل هو يحطم أصنامه بيديه فما هدأت نفسه ولا عرف الأمن والراحة. وتابع الهروب والفرار في ظلام والى مجهول. وظلت فرنسا هي منطلق معظم االمذاهب الادبية الى ذلك المجهول. يريد أن يهرب من هذا كله، فلم يبق أمامه ألا أن يخفي التعبير ويضمّن المعنى ويرمز إلى ما يريد رمزاً دون وضوح وفي غموض وابهام حتى لا يفجعه الواقع ولا العقل ولا التاريخ. هرب إلى الرمز، إلى الغموض، عسى أن يجد في ذلك راحة. فظهر المذهب الرمزي مع نهاية القرن التاسع عشر يقوده بودلير و مالارميه و فرلين متخذين من الرمز في التعبير مهرباً عن الافصاح والوضوح مهتمين بالجرس الموسيقي للألفاظ وايحاءآتها محاولين الفرار من ضغط الواقع وحقائق الحياة والسنن الإلهية في مظهر من مظاهر القلق والاضطراب ومحاولة فاشلة في البحث عن الأمن والطمأنينة والسكينة من خلال الايغال في التعقيد والغموض والاغراق في الرمز. وهذا المسلك في الواقع يخالف مسلك الإسلام الداعي إلى الوضوح في النية والفكرة والكلمة والسعي ونبذ جميع الوسائل التي يمكن أن تكون منافذ فتنة وأبواب شر(39). ولذلك فإن الإسلام يرفض ما نادى به الرمزيون من أن عقل الإنسان الظاهر الواعي محدود ضيق وأنه يملك عقلاً غير واع أرحب من عقله الواعي بعشرات المرات وأحفل، ذلك لأن الكتاب العزيز قد حفل أشد الاحتفال بالعقل الواعي ودعا إلى الاعتماد عليه والاستنارة به للوصول إلى الحقائق.
ولقد نادى الرمزيون بأن العالم الخارجي الواقعي لا يصلح لأن يكون مجالاً للشعر! والأدب الإسلامي يناقض هذه الدعوة ويناهضها ويدعو الادباء الإسلاميين إلى أن يجعلوا أدبهم رحب الآفاق بحيث يشتمل على الكون بره وبحره وأرضه وسمائه. ومما قاله الرمزيون أيضاً: “إن الاديب إذا عرض قصة من روائع قصص التاريخ فان قصته هذه لا تدخل في رحاب الأدب مهما كانت مثيرة للقراء ذلك لأنها قامت على عرض الواقع، والواقع لا يتسم بالوجود الحقيقي عندنا. والقرآن الكريم والحديث الشريف حفلا بالقصص الواقعية التي لا يأتيها الباطل. ففي الكتاب العزيز نحو من خمسين قصة وفي الحديث الشريف قريب من مائة وخمسين قصة. وهذه القصص لم تعرض للتسلية وسد الفراغ وإنما عرضت لتحقيق غرض من أنبل الأغراض. وفي قمة ما هدفت إليه بث روح الأيمان بالله ورسوله في نفوس القراء والانتصار للخير في صراعه مع الشر وما إلى ذلك من الأغراض الجليلة النبيلة “(40). ونتيجة ما بالغت فيه الرمزية من الغموض والتعقيد والتعمية، فقد انزوت من الوجهة الاجتماعية أكثر من انزواء البرناسية والجمالية، واستدبر الناس كل نتاج ينهج هذا النهج ويسلك هذا المسلك. وجدير بالذكر أن الغموض الرمزي هو غير الغموض الفني الذي يعد من قواعد الفن الأصيل، وفحواه أن الأديب العبقري يتمكن من إشراك القاريء في معاناته النفسية والفنية حين لا يفصح له إلا عن بعض المعالم الدلالية الكبرى لنصه أو نتاجه بعامة. لكن إذا أغلق عليه كل أبواب الفهم والدراية والتعرف فإن الغموض لا يصير في هذه الحال فنياً مهما حاول هذا الأديب الدفاع عن موقفه(41). ومثلما كانت البرناسية والرمزية ردّ فعل على الرومانسية واحتجاجاً عليها من الوجهة الشكلية والجمالية، فقد جاءت الواقعية رداً عليها من الناحية الموضوعية.
نقد مذهب الواقعية الغربية:
لقد” نشأت الواقعية الاوربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر رداً على المدرسة الرومانسية التي أوغلت في الخيال والأوهام والهواجس والأحلام والانطواء على الذات والفرار من الواقع الاجتماعي منزوية في الأبراج العاجية ومبتعدة عن الواقع المعيشي ومنصرفة تماماً عن معالجة شؤون الأنسان وشجونه في صراعه اليومي ضمن مجتمعه المصطخب وظروفه الموضوعية “(42)، ولكن المذهب الواقعي أوغل – بالمقابل – في تقديس الواقع المادي بعد أن حصر نظرته للواقع بما تدركه الحواس، وبهذا أصبح الواقعيون – على اختلاف اتجاهاتهم – يدينون بأن لا اله وأن الحياة مادة ولا يؤمنون بما وراء الطبيعة، واتفقوا في نظرتهم المادية الحيوانية للإنسان القائمة بدورها على الداروينية التي ولدت في أحضان المذهب المادي القائل أنه لا حقيقة إلاّ حقيقة المادة ولا موجود إلاّ ما تدركه الحواس. وقامت على مادية الإنسان وحيوانيته جملة مذاهب في الاقتصاد والاجتماع والسياسة وعلم لنفس، فقام ماركس وأنجلز يطبقان النظرية الداروينية في الاجتماع والاقتصاد على أساس أن المادة هي العنصر المسيطر على الحياة والإنسان وأن التطور – الاقتصادي والاجتماعي – قوة حتمية لا يد للإنسان فيها ولا حرية له إزائها وأن سعي الإنسان ليس إلى الحق والعدل الأزليين وإنما سعيه إلى الطعام والى الانتاج المادي وأسلوب الانتاج هو الذي يحدد له وجوده ومشاعره وأفكاره ومُثُله ونظمه وعقائده ولا شيء من ذلك كله ثابت لأنه لا وجود لقيم ثابتة وإنما كل شيء متطور تبعاً لتطور وسائل الانتاج. وهذا التفسير المادي للتاريخ كان امتداداً ولاشك للتفسير المادي الحيواني للإنسان.
وقام فرويد يطبق النظرية الداروينية في علم النفس فيقرر حيوانية الإنسان كاملة في التفسير الجنسي للسلوك البشري، فالطاقة الجنسية – في نظر فرويد– هي أعظم طاقات الجسم وهي المسيطرة على كيان النفس وهي المحرك الأول لكيان البشرية وهي أصول نشوء الضمير والقيم العليا بفعل الكبت وعقدة أوديب. فالجنس هو كل شيء في حياة الانسان، وفي السياسة راح قوم من المفكرين يشجعون الاستعمار والسيطرة والتوسع على أساس فكرة الصراع الداروينية وبقاء الأصلح قائلين بوجوب سيادة الجنس الأبيض لأنه أصلح للبقاء. كما أخذ اليساريون فكرة الصراع هذه فرسموا على أساسها نظريتهم في الصراع الطبقي المؤدي إلى سيادة طبقة البروليتاريا ومحقها لجميع الطبقات. وهكذا اتسعت النظرية الداروينية – القائمة على مادية الإنسان وحيوانيته – حتى شملت في الواقع كل اتجاهات الفكر الأوربي وكل مناحي الحياة وأصبح الاحساس بالمادية والحيوانية هو الايقاع الذي يتلقاه الناس في حسهم في القرن التاسع عشر والعشرين، ومن ثم كانت (الواقعية) في فنهم وأدبهم تعبيراً عن هذا الايقاع وما يتجاوب معه من الاحساس بانحصار عالم الإنسان في هذه الأرض وانقطاع صلته بخالقه ونفي الروح العلوية عنه وعدم جدوى ما يؤمن به من حق وعدل أزليين وتبعيته الحتمية للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وعدم ثبات قيمة من القيم التي يؤمن بها(43). وانطلقت هذه الواقعية في حماسة محمومة تعمل على تشويه صورة الإنسان وتحطيم بطولته وفضائله وقدوته من الانبياء والرسل والعظماء واعتبار كل ذلك من الخرافات البدائية لأنها صورة خارقة لمستوى الفرد العادي المتميز – في أغلب حالاته – بأنه نفعي انتهازي منافق مخادع ضعيف ملتوٍ غير مستقيم.
ومن ثم تكون هذه الصفات هي فضائل الحياة التي يتصف بها البطل الذي ينبغي أن تسلط عليه الأضواء في نظر الواقعية. وهكذا أصبح البطل في القصة الحديثة هو الشخص العادي معروضاً – في الغالب – من نقطة الضعف المسيطرة عليه أسيراً لدوافعه المادية وغرائزه الحيوانية وإذا ما حاول الارتفاع فسرعان ما يتحطم ويندم. ومن كتاب الواقعية من تخصص بالأدب الجنسي مثل د.هـ. لورنس الذي يصور الحياة كلها شهوة جنس عارمة تبحث عن المتاع المسعور، زاعماً أن هذا هو الواقع الحقيقي للإنسان ّ ومما لاشك فيه أن هذا التصور لحقيقة الإنسان والحياة الإنسانية هو تصور منحرف لجيل من البشرية أصيب بشتى أنواع الشذوذ النفسي والفكري والروحي وشتى أنواع الاختلال في حياته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والاضطراب العنيف في القيم والمعايير. انه تصور جيل كفّره الواقع السيء الذي عاش فيه بضعة قرون بالقيم والمباديء العليا كلها، كما كفّره بالله والعقيدة وهو فوق ذلك جيل مغرور فتنته الكشوف العلمية التي وصل إليها فظن أنه قد ملك قياد نفسه وأنه – مادام يخترع ويكتشف – فلا بد أن يكون كل تفكيره حقيقة وكل ما يخطر في باله فهو صواب.
والتصور الإسلامي للإنسان والحياة البشرية لا يمكن بحال أن يجاري هذا الانحراف، لأن الإسلام لا يأخذ واقع فرد أو جماعة أو جيل على أنه حقيقة (حتمية) ما دامت قد وقعت بالفعل، ولا على أنه حقيقة صحيحة الوجود لمجرد أنها موجودة بالفعل. والإنسان خاضع لقدر الله ولكنه مع سلبيته إزاء الله إيجابي ازاء كل قوى الكون والمادة والاقتصاد لأن الله قد سخر له كل ما في السماوات والأرض وجعله عنصراً ايجابياً في الحياة يغير الأمور عن طريقه، وعنصراً فعالاً يؤثر فعله في صورة الحياة على وجه الأرض في الشر والخير(44). وبهذا فإن الواقعية الاسلامية تختلف عن الواقعية الغربية البائسة في نقطتين أساسيتين أولاهما طبيعة تصورها للإنسان وموقفه من الله والكون والحياة وأخيه الإنسان. والنقطة الثانية طريقة تسجيلها لّلقطات البشرية التي تختارها للتعبير الفني. فالإنسان في نظر الإسلام إنسان لا هو بالحيوان ولا هو بالملاك. أنه يشتمل على شيء من طبيعة الحيوان ولكنه يتصرف فيه بطريقة الإنسان، كما يشتمل على شيء من طبيعة الملاك ولكنه يتصرف فيه كذلك بطريقة الإنسان، هو مخلوق ليس شراً خالصاً ولا خيراً خالصاً وإنما فيه الاستعداد للخير والشر، مخلوق هو قبضة من طين الأرض ونفخة من روح الله، ومن ثم فالفن الإسلامي يصور الإنسان على هذه الصورة المزدوجة التي هي طبيعته الحقيقية، يصوره في لحظات ضعفه ولحظات قوته، لحظات هبوطه ولحظات رفعته.
وهنا النقطة الثانية التي تختلف فيها واقعية الإسلام عن واقعية الغرب التي اقتصرت على تصوير لحظات الضعف والهبوط في حياة الإنسان وأضفت عليها صفة البطولة لتقول بأن الهبوط هو الحقيقة الواقعية السوية وأن الارتفاع عنه خرافة وشذوذ. أما الواقعية الاسلامية فهي لا تنكر أن حالات الهبوط هذه حقيقة واقعة ومع ذلك لا تمجدها ولا تسلط عليها الاضواء لأنها في حقيقتها لحظات هبوط ونقائص ينبغي أن يرتفع عليها الإنسان. وهنا مفرق الطريق إذ الواقعية الاسلامية لا تزورّ عن تصوير الخطأ والشر في تصرفات الإنسان ولكنها تقول عنه إنه شر وتصوره على أنه خطأ لا ينبغي أن يكون، ولا يعني هذا أنها تصور البشر ملائكة بل يعني أن يكون الضوء مركزاً على لحظات الارتفاع فوق الواقع المادي لا على اللحظات الهابطة إلى عالم الضرورة. وهذه هي الواقعية الحقة المنسجمة مع الواقع الأكبر القائل بأن هدف الحياة ليس مجرد استمراء الحياة على سطح الأرض وإنما هو الوصول بها إلى مرتبة الجمال والكمال.
ذلك موقف الواقعية الاسلامية من تصوير (الأبيض) و(الأسود) في النفس الإنسانية. أما موقفها من تصوير الصراع الاجتماعي والاقتصادي والطبقي وموقف الإنسان من هذه القوى المتصارعة فإنه يهتدي بالروح ذاتها التي أهتدى بها في تصوير الأبيض والأسود في نفس الإنسان إذ الفكرة الاسلامية لا تنفي وجود الله من واقع البشرية ولا تنفي واقع الروح بل لا يمكن لهذا الإنسان ان يرتفع عن مهابط النقص والشر إلا بالارتباط بالله وتربية الروح وتهذيبها بتعاليم السماء والإيمان بأن سنّة الله في نصر الحق وأصحابه سنّة ماضية لا تتبدل وأن أعمار الأفراد ليست هي المقياس والجولة العارضة ليست هي الجولة الأخيرة، فلابد أن يتحقق النصر في موعده ولا يأس من روح الله، وبهذا لا يكون التصور الإسلامي مجاوزاً للواقع وهو يرسم صوره الفنية ولا يكون متخذاً مقاييس خيالية يقيس بها الناس و الأوضاع والأشياء (45). ولا يكون الأدب مجرد مرآة عاكسة لأحوال المجتمع وتصوير آلي لما يجري فيه من أحداث ووقائع وصراعات دون أن يسهم في تغيير المجتمع وإصلاحه، كما هو في المذهب الواقعي، فهذا التصور الضيق لوظيفة الأدب فيه كثير من الظلم والاجحاف لأنه يطرح جانباً الوظيفة الحقة والفاعلة التي يتميز بها الادب الجدير بالبقاء والاستمرار.
ان الواقعيين يريدون من الاديب أن ينقل ما يراه في مجتمعه نقلاً يسمونه بـ(الأمين) خداعاً ونفاقاً. والحقيقة أن هذا مدخل خطير يسوغ للأديب الاباحي نقل الغثاء والفساد والضلال والانحراف إلى فنه بشكل حرفي بل أنه يجمّله ويزينه كي يحرك غرائز النفس وشهواتها وأهوائها (46) ومن هنا فقد انتج اولئك الواقعيون أعمالاً أدبية ” شوهت صورة الإنسان والإنسانية وعبثت بالقيم والمُثُل وألحّت في دعوة الشباب والشابات إلى التحّلل من الأخلاق إذا أرادوا التفوق والنجاح. ثم زعموا بأنهم إنما دعوا إلى ذلك ليفتحوا عيون الشباب المغمضة ويبصروهم بالحقائق التي تخفى عليهم، والمسلم يرفض ذلك أشد الرفض ولاغرو فمتى كانت الخسّة ذكاءً وعبقرية والدناءة هدفاً ومطمحاً والتسلل على الناس كالوباء مسلكاً يدعو إليه الدعاة وينادي به الادباء؟! وكيف يحق للأديب – مهما كانت مقاصده – أن يدعو الشباب وهم في عمر الورد إلى تلويث أيديهم بالخسّة إذا أرادوا الثراء وإقناعهم بأنه لا فائدة ترجى من العفة ولا منفعة تتحقق من النبالة والشرف!” (47).
إن ما دعى كتاب الواقعية إلى كل هذا الهبوط هو فهمهم الخاطيء للواقع وايمانهم بمنهج وتصورات مستمدة من فلسفات بشرية منحرفة تجعلها تتعارض مع المنهج الإسلامي وتصوراته في جوانب عدة أهمها بالنسبة للواقعيتين الانتقادية والطبيعية أن هاتين الواقعيتين تجعلان الحياة محكومة بالشر والفساد، وهذه نظرة سوداوية متشائمة لعلها من آثار النظرة اليونانية للقدر. والإسلام يرفض هذا التصور فليس ثمة ما هو محكوم عليه بالشر أو محكوم عليه بالخير وليس ثمة ما يمنع فاعلية الإنسان من التأثير في الحياة والمجتمع. وتزعم هاتان الواقعيتان بأنهما تبرزان صور الشر والفساد في المجتمع لإضرام الثورة فيه وتغيير قيمه، غير أنهما في الحقيقة لا تقدمان أي بديل لهذه القيم. ونحن – المسلمين – لا نقبل أن يكون الهدم وحده غاية العمل الأدبي فلابد من التخطيط المسبق للبديل الذي يعوض عما نريد هدمه (48).
نقد المذهب الطبيعي:
لقد كانت الواقعية الطبيعية نكسة كبيرة في عالم الأدب، إذ ” إن الطبيعية مذهب فلسفي إلحادي يتصدّى للأديان السماوية جميعها ويعمل على اجتثاثها من جذورها وإحلال الطبيعة محل الإله واستبدالها به. والمسلم لا يتحقق إسلامه إلاّ إذا آمن بالله فاطر السماوات والأرض وبرسوله خاتم الرسل. وإن من مهمات الاديب الإسلامي الوقوف في وجه المذاهب الأدبية المنحرفة واقتلاعها من جذورها وإنشاء أدب إسلامي بديل يمتع النفوس ويغني العقول ويرسّخ الايمان ويحضّ على الخير وينهى عن الشر “(49). ولا بد لمنهج النقد الإسلامي من الكشف عن الأصول الفلسفية الضالة لهذه المذاهب الهدّامة كالمذهب الطبيعي الذي ادعى في مجال الأدب بأنه يسلك مسلك العلم مع أنه في الحقيقة يعتبر مرآة أدبية مشوّهة تعكس آراء الماديين والفلاسفة الطبيعيين، فلم تكن آراء تين و برونتيير وسانت بيف التي اعتمدها المذهب الطبيعي، سوى نظريات اصطنعت حججاً واهية كستها رداء العلم خداعاً ونفاقاً ولو فرضنا أن هذا المذهب يستقي قواعده وأصوله ومبادئه من العلم الخالص فإن هذا لا يمنحه شرعية كونه مذهباً أدبياً لأن طبيعة الأدب تتباين وطبيعة العلم تبايناً كبيراً. فإذا كان العلم يكشف لنا عن حقائق الوجود بطرائقه التجريبية الجافة التي هي بعيدة كل البعد عن تأثيرات ذاتية الباحث فإن الأدب بعكس ذلك يتطلب بالضرورة أن ينبع من ذات الإنسان وأن يجسّد من حين لآخر في مضامين ذات إيحاءات وأبعاد محيطية وواقعية. وقد يستفيد الأدب من العلم واكتشافاته الشيء الكثير بيد أن هذه الاستفادة لا تتجاوز الحدود العرضية للنتاج الفني وتتمثل غالباً في بعض المضامين وخصائص الشكل المنطقي للأفكار والدلالات الأدبية، وبعكس ذلك لا يسمى أدباً ما دام قد تنكر لطبيعته وجوهره، وعلى هذا فلم يكن المذهب الطبيعي مقدراً طبيعة الأدب حين وقف من الاديب موقف العالم من العضو الفيزيولوجي، فالأديب سلبي متأثر يخضع بالكلية لعوامل البيئة والمحيط الاجتماعي مثلما يخضع ذلك العضو خضوعاً حتمياً لقوانين جهازه الذي ينتمي إليه. والحق أن الأديب يمتلك فعالية هائلة تجعله ايجابياً، فمواقفه خاصة وفنه خاص ونتاجه خاص وتفكيره خاص، و الدليل على ذلك أن أدباء العصر الواحد والبيئة الواحدة يختلفون فيما بينهم في مواقفهم النفسية والفكرية وفي مستواهم الفني الثقافي، بل يصل الاختلاف إلى حد التناقض والصراع في المجتمع الواحد (50). وقد تجسّد المنهج الطبيعي الخاطيء بأجلى صوره لدى إميل زولا الذي أطلق على الإنسان أسم (الحيوان البشري) واعتمد في تقويمه على التجارب العلمية والعملية التي أجراها على بعض الأفراد ثم عمّمها على جميع الناس. وقد ردّ سلوك الإنسان وميوله إلى عوامل عضوية وأخضعه إلى قانون الوراثة وبنى أعماله الأدبية على هذين الأمرين، وقد كتب نحواً من عشرين قصة دارت حول أسرة واحدة وذلك ليؤيد مذهبه (51). “وادعى أنه يكتب الروايات الطبيعية (المادية) لان العلم لا يتعامل إلاّ مع الأحداث المادية، إن الأخلاق والعواطف محكومة حكماً حتمياً بقوانين مناظرة لهذه القوانين التي تحرك البيولوجي والفسيولوجي، وتكون القصة – من هنا – ملحقة بالتاريخ الطبيعي والطب، وتخضع كما يخضع هذان العلمان إلى منهج مزدوج من الملاحظة والتجريب.
وإذا كانت القصة الواقعية قد مالت إلى البيئة الاجتماعية الواسعة موجهة همها إلى عامة الناس، مقللة من العناية بالفئات الحاكمة أو الثرية المترفة فإن زولا قد عمل على تركيز أدبه في أتعس ما في فئات الشعب من معيشة، في الأوساط المنحلّة، وفي مظاهر القبح ودواعي الاشمئزاز واستحالت قصصه دراسة للعيوب والعاهات كأن هذه الأوساط انسب للتجريب ومتابعة تطور العيوب الأخلاقية والمرضية في أفراد الأسرة، ولاغرو أن قال فيه أنا تول فرانس – وقد ضاق بأدبه ذرعاً – لم يشتم الإنسانية أحد كما شتمها زولا. واذ ألتزم زولا هذا المنهج في تقصي المنحلين والمرضى، جرّه منهجه أبعد وأبعد عن الواقعية لأنه يختار الشواذ وغير الطبيعيين على حين تقف الواقعية عند العام والسائد والطبيعي”(52) من الواقع المادي.
وهكذا تعرض الإنسان إلى الامتهان في المذهب الطبيعي، وهو ما يرفضه الإسلام الذي رفع من شأن الإنسان وأعلى من قدره وكرّمه على غيره من المخلوقات فقال الله سبحانه:(ولقد كرّمنا بني آدم) (53) كما قال عز وجل:(لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) (54). واذا كان المذهب الطبيعي يرى أن الحياة النفسية لا تزيد على كونها ظاهرة طفيلية تسلّقت على جسم الإنسان فإن الإسلام يدين بالحياة النفسية ويعدّها الركيزة الأولى في بناء هذا الكائن المكرّم حيث يقول سبحانه (ونفس وما سوّاها. فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح من زكّاها. وقد خاب من دسّاها)(55). واذا كان المذهب الطبيعي قد نشأ بسبب الصراع العنيف بين عقل الإنسان الأوربي وتعاليم الكنيسة التي أغلقت الأبواب في وجهه ووضعت حاجزاً كبيراً بين العلم والدين فإن المسلم ليست لديه كنيسة تسيطر عليه ولا رجال دين يتصرفون في أمره وفق هواهم، وإنما هو خاضع لكتاب الله وحديث رسول الله (ص) وهما قد ألحّا في دعوته إلى النظر في ملكوت السماء والأرض وما فيهما من اسرار وتسخيرهما لخدمة الإنسان (56).
ويتضح مما سبق أن” النظريات الفلسفية التي تبناها الطبيعيون قد أفسدت الأدب حين اُُقحمت فيه. وأن دعوة الادباء إلى أن يخيطوا أثواب أدبهم على قدود هذه النظريات قد ضيّق الخناق عليهم وكبلهم بالقيود وقضى على رسالتهم في الحياة. أما الأدب الإسلامي فقد فتح الأبواب رحبة أمام الاديب وعبدّ له المسالك ووسّع له الآفاق… وليس هناك من قيد يقيّده إلاّ أن يكون هادفاً في أدبه بعيداً عما يجافي الإسلام ويناقضه”(57). ومن أخطر النظريات التي بلغها الفكر الواقعي هو ما تجسد في الفلسفة المادية الجدلية والمادية التاريخية على أيدي فيورباخ وإنجلز وماركس مما كان له الأثر الكبير في ظهور ما سمي بالواقعية الاشتراكية في الأدب.
نقد مذهب الواقعية الاشتراكية:
لقد وقع هذا المذهب في عدة أخطاء بشعة أضرت بقيمه الفنية وألحقت الخلل بمضامينه أيضاً ومن تلك الأخطاء ما يتعلق بالنظرية الماركسية نفسها واعتمادها أساساً على العامل الاقتصادي وحده في تفسير حركة التاريخ وتطور الفكر بالاضافة إلى نظرتها الظالمة لمن لا ينضوي تحت لواء طبقة البروليتاريا واعتباره خائناً وعدواً لجماهير الشعب مما أدّى إلى امتلاء النفوس بأحقاد طبقية قاسية انتهت إلى برك من الدم ومظالم لا تحصى وبالنسبة لأدب ما بعد الثورة البلشفية فقد أكتظ بالدعوة المذهبية الصارخة والشعارات الطنانة التي تصرخ في قصصهم ومسرحياتهم وأشعارهم دون مواربة أو لباقة وكان هذا على حساب القيمة الفنية للأعمال الأدبية وكان من جراء ذلك أن كادت تموت بعض ألوان الأدب الأخرى التي تعالج مشاكل الإنسان الخاصة العاطفية والنفسية. وقد ضاعت الحرية في ظل هذا المذهب الضيق المحدود الذي يعتبر كل خروج عليه أو أي تصدّ بالنقد له خيانة ومروقاً وعصياناً بعد أن أحتفل بالقيم الجديدة المنحرفة التي سادت المجتمع الجديد، تلك القيم التي حطمت الرابطة الأسرية في بدء الثورة الروسية وسخرت من القيم الروحية ورمتها بالعفن والسلبية والتفاهة فجفّ في أدبهم معين الأشواق الروحية والصلات العائلية بعد أن تحول الإنسان – في نظرهم – إلى ترس في آلة يعمل ليأكل وهو مطالب بأن يجهد نفسه فوق الطاقة كي يحقق أقصى ما يستطيع من إنتاج دون النظر لاحتياجاته النفسية وآماله الذاتية الخارجة عن نطاق العمل (58). ورغم ذلك فقد حاولت الواقعية الاشتراكية أن تستغل بعض نظريات علم الاجتماع تمويهاً لمقولاتها الايديولوجية الضالة. والحق أن علم الاجتماع لا يؤيد معظم تلك المقولات، ونادت هذه الواقعية بوجوب تسجيل الأحداث والوقائع اليومية ونقلها على صفحة الأدب نقلاً أميناً تسويغاً منها لنقل الفساد ومظاهر الاباحية وأصناف المجون والخلاعة. وقد رفضت النظرة الاجتماعية الشاملة في سعيها إلى إذكاء نار الصراع الطبقي بين الناس لتسيطر طبقة على أخرى مخالفة بذلك المنطق السديد الذي يلح على ضرورة تنمية العلاقات الاجتماعية بين جميع الناس بحيث يعرف كل منهم دوره المنوط به والواجبات التي ينبغي أن يؤديها لفائدة الآخرين، ومن أبشع الأخطاء التي ارتكبتها الواقعية الاشتراكية هو محاربتها للدين محاربة شديدة مستعملة طرائق شتى وأساليب متعددة منها المباشرة ومنها الملتوية(59) لذلك كله فإن الواقعية الاشتراكية تناقض التصورات الاسلامية ومنهج الأدب الإسلامي الذي يرى أن الأدب ظاهرة انسانية ضخمة لا يصح ربطها بعامل واحد كالعامل الاقتصادي الذي اعتمدته الواقعية الاشتراكية، وإن المنهج الإسلامي يطلب من الأديب أن يهتم بالمجتمع كله لا بالطبقات الدنيا فحسب، وهو يرفض تفسير الحياة وفق النظرية المادية الجدلية، كما يرفض المجتمع الشيوعي الذي تبشر به الواقعية الاشتراكية، ويبشر بالمجتمع الإسلامي ويريد من الأدب أن يسهم في بنائه، وإن المنهج الإسلامي في الأدب يسعى إلى بناء الجانب الروحي في الإنسان ولا يهمل الجانب المادي كما يسعى إلى تعميق صلة الإنسان بالله عز وجل، وتعزيز إيمانه بعكس ما تسعى إليه الواقعية الاشتراكية التي ترفض الجانب الروحي من الإنسان وتوجه الأدب إلى محاربته، وتنحدر بالأدب إلى المادية والإلحاد ودنيا الغرائز لذلك فإن الواقعية الاشتراكية مرفوضة – بالمنظور الإسلامي – مهما تلونت أو اتخذت اسماء متغيرة. وخلال سنوات تطبيقها الماضية ظهرت مساوئها بوضوح حتى ان بعض النقاد الماركسيين هاجموا سيطرتها على الأدب وسفّهوا إنتاجها كجورج لوكاتش الذي كتب يقول: (إن الأدب الذي أنتجته الواقعية الاشتراكية جدب يتميز بالجمود وضيق الأفق) وكروجيه جارودي الذي تحول عن الاشتراكية كلها واهتدى بهدي الإسلام (60).
نقد المذهب السريالي:
ومن مذاهب الأدب الغربي الهدامة ما عرف بالسريالية أي ما فوق الواقعية أو ما بعد الواقع، وهي مذهب أدبي فني فكري أراد أن يتحلل من واقع الحياة الواعية، وزعم أن فوق هذا الواقع أو بعده واقع آخر أقوى فاعلية وأعظم اتساعاً، وهو واقع اللاوعي أو اللاشعور وهو واقع مكبوت داخل النفس البشرية ويجب تحريره واطلاق مكبوته وتسجيله في الأدب والفن. وتسعى السريالية إلى إدخال علاقات جديدة ومضامين غير مستقاة من الواقع التقليدي في الأعمال الأدبية. وهذه المضامين تستمد من الأحلام سواء في اليقظة أو المنام ومن تداعي الخواطر الذي لا يخضع لمنطق السبب والنتيجة، ومن هواجس عالم الوعي واللاوعي على السواء بحيث تتجسد هذه الأحلام والخواطر والهواجس المجردة في أعمال أدبية(61) ” وبين الأمراض العقلية العديدة فإن احدها (البارانوياparanoia) دال على الهدف الذي تتبعه السريالية، بتقديمه إلينا تركيباً من الواقع والخيال. فالمصاب به البالغ جنون العظمة أو جنون الاضطهاد، لا يسر بالالتجاء إلى حقله الداخلي ولكنه يجمّد كل ظاهرات العالم الخارجي حول فكرته المجنون بها ولا تستعمل انفعالاته الخارجية إلاً في اشهار أوهام روحه”(62) ولهذا تعتبر السريالية اتجاهاً يهدف إلى ابراز التناقض في حياتنا أكثر من اهتمامه بالتأليف (63) ومن هنا فإن مسرح العبث يعتبر الابن الشرعي للسريالية التي ظهرت في فرنسا سنة 1924 حين أعلنها اندريه بريتون في بيانه السريالي الأول متأثراُ بآراء فرويد (64) عالم النفس اليهودي في تحليله للنفس الإنسانية وخاصة تلك التي تتحدث عن اللاشعور والأحلام والكبت ودعوته إلى تحرير الغرائز الإنسانية والرغبات المكبوتة في النفس البشرية واشباع الغرائز والرغبات اشباعاً حراً حتى لا تصاب بالأمراض النفسية كما يدعي. وهذه الآراء تتلاءم مع الدعوة إلى التحلل الأخلاقي في المجتمع البشري.
وتأثرت السريالية كذلك بالفكر الماركسي الشيوعي ودعوته إلى الثورة لتغيير المجتمع واستخدام العنف في سبيل ذلك، كما تأثرت بحركة سبقتها تدعى الدادية التي ولدت في زيورخ بسويسرا سنة 1916م وهي حركة فوضوية تكفر بالقيم السائدة والمعتقدات والتقاليد الاجتماعية وتنادي بالعودة إلى البداية (65) ولذلك اختارلها أصحابها أسم (dadaisme) بمعنى (التأتأة) نسبة إلى أول تأتآت الطفل ((da.da وتطلق أحياناً على حصان الخشب ليسهل النطق به على السنة الأطفال. ومؤدى مذهب هؤلاء الدعاة أن التعبير الصحيح عن النفس الإنسانية إنما يرجع به إلى صورة الطفولة ورموز الأحلام وخفايا الوعي الباطن كما تبدو للحالم في المنام أو كما يرسلها الناطق عفواً بغير تأمل وبغير انتباه (66) ورائد هذه الحركة ترستان تزارا الذي يصفه كاتب أوربي بأنه (المروج للفوضوية الفنية والاجتماعية). ولذا اعتبر النقاد أن السريالية وريثة هذه الحركة الدادية في أفكارها وتوجهاتها وأسلوبها (67).
وأهم ما أُخذ على المذهب السريالي أنه امتاز بالرفض المرضي السلبي لجميع المذاهب الأدبية التي سبقته وعانى أصحابه علة الهوس فصاروا ينكرون كل شيء ولا يقرون بصحة أي مبدأ. والحق أن الرفض ينبغي أن يكون إيجابياً بناءً يستثمر في إطار خاص ويوظف لغايات فنية لائقة. ولا تعترف السريالية بالواقع الحالي معتبرة إياه فاسداً كل الفساد وان الواقع البديل الذي تريده للإنسان هو عالم آخر غريب عن عالمه. وهذا تطرف صارخ لا يقبله المنطق السليم ولا التفكير السديد. ولم يعترف المذهب السريالي بالأسس الفنية والخصائص الجمالية للأشكال والأنواع الادبية المألوفة باعتبار أنها صورة للواقع الفاسد المرفوض. وهذا الموقف ليس إلاّ نتيجة طبيعية ولازمة للموقف العام لهذا المذهب. والحقيقة أن الأدب في تطوره وازدهاره يحتاج دوماً إلى استلهام تراثه كما أنه يُعنى بتوسيع آفاق أنواعه وأشكاله الفنية لا أن يهدمها كما يدعي ذلك السرياليون مخالفة لسنن التطور وقوانينه، ولهذا فقد أصبح جل النتاج الذي يكتبه السرياليون مهزوز الكيان ضعيف البنى بعد تصورهم أن الجمال يكون في بعثرة العناصر الفنية في العمل الأدبي وبترها وحذف بعضها. وهذا التصور لا يدعمه دليل، بل إن العمل الأدبي – في المفهوم النقدي الأصيل – ينبغي أن تتوزع داخله جميع عناصره الفنية بشكل دقيق ومتوازن. والأديب العبقري بإمكانه أن يبتكر علاقات فنية وبنيوية جديدة تثري نتاجه الفني بعيداً عن الفوضى. أما تطرف السريالية في اعتمادها طريقة التداعي في تسجيل خواطر اللاشعور وما يعنّ له من هواجس وأوهام وخيالات بطريقة تلقائية، فهو ضرب من التخبط والفوضى المانعة من تذوق النص الأدبي (68). وقد اقتحمت السريالية بشذوذها الثوري مجال العقيدة الدينية والتقاليد الاجتماعية واللغة وأثارت جدالاً عنيفاً بين أقصى الكاثوليكية في الغرب وأقصى الشيوعية في الشرق. وأخذت السريالية في الانكماش والتقوقع بعد ربع قرن من نشوئها وشعر دعاتها بعجزهم عن تحقيق أي هدف وبعقم ثورتهم ضد القيم والمعتقدات الدينية وإخفاقهم في إيجاد مسيحية جديدة تخلص الإنسان من عذابه وضياعه – حسب زعمهم – فتحول عدد منهم بعد الحرب العالمية الثانية إلى الشيوعية والالحاد، وجنّّّ بعضهم وأدخل المصحّات العقلية والنفسية وتحول البعض الآخر إلى العبثية في الأدب المعبر عن انعدام المعنى وراء السلوك الإنساني في العالم المعاصر. أما أفكارها ومبادئها فقد تبناها مذهب الحداثة الأدبي الفكري حيث صبت جميع جداول السريالية في مستنقعه الكبير. وهكذا انتهت السريالية المعبرة عن فقدان الإنسان الغربي العقيدة الصحيحة واعتماده على ضلالات فرويد النفسية في اللاشعور والأحلام هذه الضلالات التي أدت إلى التحلل الأخلاقي واطلاق الغرائز من عقالها، مما أودى بها بعد ربع قرن من نشوئها (69).
نقد المذهب الوجودي:
ولعل اعتى المذاهب الهدّامة في الأدب الغربي هو المذهب الوجودي وهو أشهر مذهب أستقر في الآداب الغربية في القرن العشرين، “وآية هدمه أنه يدعو الإنسان إلى القضاء على الجهود التي بذلتها البشرية عبر تاريخها الطويل للارتقاء بالشخصية الانسانية من طور الاباحية والحيوانية إلى مرتبة الكائن السويّ الذي تنشده الرسالات السماوية بعامة والاسلام بخاصة”(70).”وقد ولد هذا المذهب كالمولود المشوه أو المولود الذي لم يستكمل سني حمله، فمنذ جاء به أصحابه إلى دنيانا الفكرية زرعوا في أرض الانسان بذور القلق الوجودي وسلسلوا أسباب القلق على الشكل الآتي: الانسان يختار والاختيار يستلزم المخاطرة فالاختيار اذن نوع من المجازفة والمجازفة تؤدي إلى القلق.. قلق من أجل تحمل المسؤولية الناشئة عن الحرية فيما اختار الانسان، وهذا القلق يشبه الدوار الذي يصيب الانسان عندما يحدق في هاوية اذ لامناص للانسان من الاختيار لأنه إذا لم يمارس الاختيار ومضى على ما أختاره الآخرون دو تدخل فكري في اختياره أزال نفسه فيهم وفقد حريته الانسانية، ولذلك لابد له من ان يجازف ويدخل معترك الاختيار “(71) ولا يتم له الوجود الحقيقي بالاختيار إلاّ إذا أطلق العنان لرغباته وأفسح المجال أمام شهواته غير متقيد بدين أو عرف أو سلوك إذ يكمن الوجود اليقيني للإنسان في تفكيره الذاتي ولا يوجد شيء خارج هذا الوجود ولا سابقاً عليه، وبالتالي لا يوجد إله ولا توجد مثل ولا قيم أخلاقية متوارثة لها صفة اليقين، ولكي يحقق الإنسان وجوده التام فإن عليه أن يتخلص من كل الموروثات العقدية والأخلاقية، ويتم ذلك بممارسة الحياة بحرية مطلقة(72).
ومن الواضح أن هذه الأفكار المتطرفة تناقض ما جاءت به الأديان السماوية وعلى رأسها الإسلام من حضّ الإنسان على السيطرة على رغباته وشهواته وأطماعه وتوجيهها وجهة تنفع الفرد وتنهض بالمجتمع، فهي لم تغلق في وجه الإنسان باباً من أبواب المحرمات إلاّ فتحت له باباً من أبواب المباحات فهي حين حرمت عليه الربا أباحت له الكسب الحلال عن طريق التجارة وغيرها، وحين حرمت عليه غصب أموال الناس وأكلها بالباطل أباحت له التملك، وحين حرمت عليه الزنى أباحت له الزواج ودعته اليه وحضته عليه(73). وهكذا فإن حرية الإنسان – في نظر الإسلام – يجب أن تكون محدودة ذات ضوابط وحواجز تقيها شر الفوضى وبؤس الضياع والتيه والضلال الذي وقعت فيه الوجودية بعد دعوتها إلى تحطيم العلاقات الاجتماعية بحجة أنها قيود لا معنى لها ومحاولتها نشر الانحلال في كل وسط اجتماعي بدعوة ملحّة إلى رفض كل المباديء السامية والقيم الفاضلة الموروثة ولذلك حاول الوجوديون إبعاد الموضوعات الاخلاقية عن مجال الادب بادعاء أنها دخيلة عليه أجنبية عن طبيعته مفسدة لجماله الفني، وهذه الدعوة لا تختلف في بطلانها عن دعوى الالتزام والمسؤولية الوجوديين فما هما سوى تلاعب بالألفاظ يراد به خداع النفوس الساذجة والفطر السليمة وإلاّ فكيف تكون المسؤولية أو يكون الالتزام المرتبط بحرية الإباحية والتهتك والتميع في كل شيء من الأخلاق والسلوك والاجتماع والتعامل وغيرها! (74) “ولعل أخطر ما في هذا المذهب هو أن كثيراً من الشباب المنحلّين وجدوا فيه سنداً فلسفياً يسوغ انحلالهم ويفلسفه فانطلقوا في دروب الرذيلة مجاهرين غير هيّابين “(75) ظانين ظن الوجودية بأن وجود الإنسان مقتصر على المرحلة التي تبدأ بساعة الميلاد وتنتهي بضجعة القبر، ولذا فعليه أن يقبل على متع هذه الحياة أشد الاقبال وأن يعبّ منها عبّاً. وفاتتهم الحقيقة الكبرى التي يدل عليها العقل السليم وتهدي إليها الأديان السماوية بأن الدنيا لا تعدو أن تكون سبيلاً إلى الآخرة وأن الحياة الدنيا ما هي إلاّ مقدمة تمهيدية لحياة أبدية اُخروية ينال فيها الإنسان من السعادة على قدر ما قدمه من عمل صالح في هذه الدنيا. ولبعد الوجوديين عن هذه الحقائق السماوية الثابتة فقد عاشوا حالات القلق والهجران واليأس: القلق نتيجة للإلحاد وعدم الإيمان بالقضاء والقدر ونبذ القيم الاخلاقية والسلوكية، والهجران الذي هو أحساس الفرد بأنه وحيد لا عون له إلاّ نفسه. واليأس الذي هو نتيجة طبيعية للقلق والهجران، وقد حاول سارتر معالجة اليأس بالعمل، وجعل العمل غاية في ذاته لا وسيلة لغرض آخر، فحسب الوجودي أن يعيش من أجل العمل وأن يجد جزاءه الكامل في العمل ذاته وفي لذة ذلك العمل (76). وما أقله من جزاء وما أخسره من هدف!
نقد مذهب اللامعقول:
ويلتقي مع الوجودية في ذلك الضلال والضياع، ما عرف بالطليعية وتسمى أيضاً بمذهب اللامعقول أو العبثية وهي مدرسة أدبية فكرية تدعي أن الإنسان ضائع لم يعد لسلوكه معنى في الحياة المعاصرة ولم يعد لأفكاره مضمون وإنما هو يجتر أفكاره لأنه فقد القدرة على رؤية الأشياء بحجمها الطبيعي نتيجة للرغبة في سيطرة الآلة على الحياة لتكون في خدمة الإنسان، حيث انقلب الأمر فأصبح الإنسان في خدمة الآلة وتحول الناس إلى تروس في هذه الآلة الاجتماعية الكبيرة. وجاءت مدرسة العبث كمرآة تعكس وتكبر ما يعاني منه إنسان النصف الثاني من القرن العشرين عن طريق تجسيده في أعمال مسرحية يكون موضوعها الرئيس هو تشخيص مصير الإنسانية على انه انعدام هدف في وجود غير منسجم مع ما حوله وان الوعي بهذا العوز للهدف في جميع ما نعمل يؤدي إلى حالة الكرب الماورا طبيعي ومن أبرز كتاب المسرح اللامعقول صاموئيل بيكت، يوجين يونيسكو، آرثر آداموف (77) وغيرهم وقد حاول المحللون دراسة ظاهرة العبث واللامعقول في الأدب والفكر “فعزوها إلى طبيعة الحياة الآلية الجافة في الغرب واضطرار الإنسان لأن يركع أمام الحاجة ويستسلم لسلطان الآلة وحركتها المنضبطة بلا عواطف أو شعور، بل استطاعت الآلة أن تتبوأ مكانة أسمى وأهم من مكانة الإنسان في عالم الصناعة الرهيب، مما دفع بالإنسان لأن يتساءل عن قيمة وجوده في هذا العالم الآلي المادي الذي لا يحفل إلاّ بالأرقام والإنتاج والوفرة وتحقيق الربح… وكان طبيعياً لهذا الكائن الذي انقطعت روابطه بخالقه وفقد التواصل مع الآخرين أن يرتمي في أحضان العزلة والتغريب ويلوك الأسى والشقاء “(78). وكان للحرب أثرها أيضاً فقد نشأ مذهب العبث في الأدب الأوربي وانتقل إلى الآداب العالمية المعاصرة بصفة عامة والدول التي عانت من الحرب العالمية الأولى والثانية بصفة خاصة وهي الدول التي فقدت ثقتها في مجرد المسلك العقلي المنطقي الذي يمكن أن يدمر في لحظات كل ما يبنيه الإنسان من مدنية عندما تحكمه شهوة السيطرة والتدمير كما فعل هتلر في الحرب العالمية الثانية.
ولذلك فقد آمنت العبثية بانعدام المعنى والمضمون وراء السلوك الإنساني في العالم المعاصر لأن الآلة التي أخترعها الإنسان قد سيطرت عليه وولدت فيه الإحساس بالعبث والضياع وأدت إلى تحلل المجتمع وتفككه ولم يعد هناك روابط أسرية أو اجتماعية وتمادى الخوف والرهبة من الكون بما يقضي على كل تفكير عقلاني متماسك ولذلك لجأ العبثيون إلى آراء فرويد في علم النفس التحليلي وما فيه من ايحاءات وأحلام وخيالات وأوهام واتبعوا أسلوب الألغاز والغموض في التعبير بحيث لا يفهم النقاد ما ينتجون من أدب وشعر، وتمسكوا بالسريالية التي تعد الأساس لمذهب العبث، وذلك لما تحويه من شطحات العقل الباطن وهلوسة عالم الأحلام الزاخر بالهواجس والآلام والآمال، كما تعدّ الرمزية من جذور هذا المذهب لما تحويه من صور مشوشة مضطربة تجمع بين الجمال والقبح والأسطورة والواقع(79).
وهكذا ” أحدث العلم والفلسفة في أوربا فراغاً هائلاً وانعكس ذلك على فكر الإنسان وسلوكه وعلى الآداب التي يفرزها، تلك الآداب التي لا تحمل رسالة واضحة يمكن الاتفاق أو الاختلاف معها ولا تقد م شخصيات تحب أو تكره فضلاً عما يلتصق بأدب اللامعقول من فقر في الأفكار وملل في التكرار، ولهذا نرى أن المنصفين من مفكري الغرب يقولون إن فكرة العبثية لا يمكن الدفاع عنها في عالم تثبت الأرقام أن غالبية سكانه يعتقدون بديانة تجعل الحياة ذات نظام وهدف”(80) ويتميز الإسلام عن جميع الديانات الأخرى بأنه الأكثر شمولاً وعمقاً وجدية في فهم الحياة ونظامها وغائيتها ولذلك فلا يمكن أن يتفق مع مذهب العبث واللامعقول “وهي تسمية تحمل رؤيتها القاتمة القائمة على فوضوية الكون وعبث الحياة ولا جدوى الكدح البشري. ومنذ البدء فإننا نجد أنفسنا بإزاء موقف تصوري نقيض بالكلية لموقف (الإسلامية) القائم على ارتباطية الكون وغائية الحياة وجدوى الكدح البشري وعدالة المصير”(81) ومن هذه الرؤية الإسلامية المتفائلة ينطلق الأدب الإسلامي”فلا يؤرث ضياع اليقين كما تفعل العبثية، بل يجعل اليقين مناط العقيدة والحياة والعمل، والأدب الإسلامي يعلي من شأن الحياة ويمجدها ويجعلها دار عمل وصلاح وتقوى وجهاد وهي قنطرة إلى عالم آخر أبقى وأخلد وأروع، وليست الحياة – في منظور الأدب الإسلامي –وهماً وحلماً مزعجاً وخيبة أمل وتغريباً وعزلة ولكنها مليئة بالحقائق الحية النابضة مشرقة بالأمل والرجاء دافئة بالأخوّة والصلات الاجتماعية السامية، ومهمة المسلم أن ينير جنباتها المظلمة وأن يبعث فيها رسالة العدل و الخير والحرية والسعادة، وعلى المؤمن أن يطرب للقاء الله في نهاية الرحلة واثقاً أنه ذاهب إلى أعظم جناب “(82).
بين الأدب الاسلامي ومذاهب الأدب الغربي:
وشتان ما بين هذا المذهب الأدبي الإسلامي الرفيع، ومذاهب الأدب الغربي الأخرى، وبالأخص مذاهبه التي ظهرت منذ منتصف القرن العشرين بعد أن” أسدل انتهاء الحرب العالمية الثانية الستار على فترة عصيبة هزت العالم هزاً عنيفاً وخلفت الدمار والموت والفوضى والقلق والاضطراب والتمزق لتعلن بزوغ عصر جديد التفت فيه العالم لمداواة جراحه النازفة والشروع في بناء مستقبل يغيب منه شبح الحرب إلى الأبد. فهذي جيوش الحلفاء المنتصرة تغطي الساحة الأوربية والآسيوية وتفرض سلاماً تحرسه فوّهات المدافع، وهذه الأمم المتحدة تدعي تنظيم السلام تحت رايتها ذات الحمامة البيضاء.. ولكن الحرب لم تسفر عن أمم مهزومة وأخرى منتصرة فحسب بل عن كتلتين عالميتين متناقضتين ذرّ بينهما العداء القديم بعد التحالف المؤقت وعاد معهما شبح الحرب والرعب من المارد النووي المتعاظم. معسكران هائلان وحرب باردة سرعان ما ترتفع حرارتها بين الحين والآخر، في هذا المكان من العالم أو ذاك، من خلال التنافس والتأزم السياسي والتفجرات المحلية في أمثال فييتنام وكوريا وفلسطين التي تمتد طويلاً وتأخذ الطابع العالمي، ومن خلال الثورات والانقلابات والأحلاف واللهاث المحموم لامتلاك الأسلحة وبث القواعد العسكرية في أطراف العالم.
وتعود طبول الحرب لتستأنف نذرها من جديد فتهدد ذاك السلام المضعضع الوليد، وتنشر الذعر والاضطراب والقلق، وتقسّم أوربا وتستقل أقطار سلماً أو حرباً وتقوم كيانات وانقلابات وتنشأ مشكلات جديدة، وخلافات وتصفية خلافات وتناقضات وصراعات داخلية ونزاعات اقليمية وقومية تغذّيها قوى أجنبية وتبسط الامبريالية الجديدة هيمنتها على كثير من الدول بينما تناضل أخريات لمقاومتها أو التحرر منها، وهكذا انتهت الحرب ولكن صراعها وشبحها مازالا يؤرقان العالم!” (83) هذا العالم المنقسم العاجز عن حل مشكلات البشر رغم تقدمه في جانب العلم والاختراع والتكنولوجيا باستخدام الأتمتة والسبرناتيكية والالكترون والذرة والليزر والفضاء. هو عالم يسوده الظلم والبيروقراطية والدكتاتورية والرأسمالية وانسحاق الجماهير الكبرى، عالم تزعزعت فيه القيم والمعتقدات والأخلاق، واختلف ادباؤه ومفكروه في منطلقاتهم ورؤاهم ومواقفهم جرّاء التمزّق والتشعب، ولكن هذا الاختلاف والتنوع جرى لدى أدباء الغرب ومقلديهم ضمن إطار السخط والسأم والقلق والشعور بالعبثية وعدم الجدوى وتجلى ذلك في نتاجهم بل تجاوز إلى سلوكهم الذي أصبح عصابياً إذ بدت لديهم مظاهر اليأس ولجأ بعضهم إلى المخدرات والجنس والانحلال والانتحار، لأن الحياة لم تعد تعني لديهم شيئاً ولا مبرر لها وصاروا يردّدون في أدبهم نغمات الحزن والنشيج والسوداوية والانسحاق وصرخات الاحتجاج (84).
وبمقابل هذا الأدب السوداوي اليائس ظهر أدب آخر تطلع فيه الأدباء من خلال سدف البؤس والدروب المظلمة إلى منافذ النور والنجاة وذلك هو الأدب الإسلامي المعاصر الذي نهض من رقدته منذ ستينات القرن العشرين وتقدم بخطىً واثقة وثابتة في مواجهة انحراف الأدب الغربي والسائرين في ركابه في أنحاء العالم، وتوالت نتاجات الأدباء الإسلاميين وإبداعاتهم في ميادين الشعر والقصة والرواية والمسرح، وبذل النقاد والمفكرون جهودهم في إبراز نظرية الأدب الإسلامي وتحديد معالم مذهبه بمقابل مذاهب الأدب الأخرى سواء منها القديمة أو المعاصرة.
الرأي القائل بالافادة من مذاهب الأدب الغربي:
ورأى بعضهم إمكان الإفادة من تلك المذاهب رغم أن:” لكل مذهب ومدرسة ظروفها التي انتهت الى تثبيت أركانها وإقرار ملامح شخصياتها، وهذا لا يمنع من أن نستعير من عطاءاتها الايجابية ما يواكب فهمنا ويؤازر مسارنا، كما أن سلبياتها – في الوقت ذاته – مؤشرات تحذيرية وعلامات مرور تدلنا على المهابط والمطبات لنتجاوزها ونتفاداها، إن التعامل والإفادة من المدارس الأدبية في الأدب العالمي عموماً والغربي خصوصاً مثله كمثل المخترعات الحضارية والمعدات التكنولوجية، فالسينما والتلفزيون والإذاعة وحتى الأسلحة والتصنيع الذري كل ذلك يتوقف على طرائق وغايات توظيفنا لها وأوجه صرفنا لخدماتها، فالعلم سلاح ذو حدين يمكن الانتفاع به ويمكن التضرر بسببه، وذلك مرهون بحسن تعاملنا معه.
وما يقال عن العلم يقال عن الأدب، تُرى هل نرفض المسرح (والمسرح الشعري) لأنه فن طاريء على وسائل الثقافة العربية! هل نرفض الفنون الشعرية والنثرية الأخرى لأنها وافدة! وبذلك نهجر القصة والرواية والمقال والشعر الحديث..الخ إذا كان الأمر متعلقاً بالمضامين فإن فيها بعضاً مما يتجانس وأفكارنا وفيها ما يتكافأ وطموحاتنا، أما الأشكال فلا بأس من أن نفيد منها طالما كانت قوالب لأفكار نحن نصدرها على شعوب، نتعامل بها، نتفهمها، وبذلك نستطيع أن نوصل اليهم عطاءاتنا ونؤثر في شرائحهم المتباينة، نأخذ الشكل ونعطي المضمون وهذا على أضعف صور الأيمان بفوائد الانفتاح. وهنا نحذر من مزالق الانحراف السلبي ولا ننسى أن تفاعلنا لما يزل قيد المشاهدة والاختيار لننتفع بالمشروع من الأخذ والبذل ولنتجاوز ما هو غير مشروع. ونحن إذ نضع الأصالة والمثل نصب أعيننا، ونحن إذ نصدر عن تحرك واع ٍ، فإننا لا نخشى السقوط في المحذور”(85) بل يرى هذا الناقد أن “الانفتاح على العالم والحياة والاستفادة من المذاهب المعاصرة في الأدب العالمي، هو السبيل الوحيد الذي يكفل لاتجاهاتنا الجديدة التعبير عن تجاربنا الحياتية المعاصرة. ولا مانع لأدبنا الإسلامي المعاصر من الاستفادة من الرمزية وحتى السريالية في قوالبها وطريقة طرحها للمضامين، طالما كانت مجرد محاولات وتجارب وطالما كان الأديب ملتزماً الخطوط العامة لمسار الشخصية الإسلامية وأخلاقيتها “(86).
الرأي القائل بعدم الافادة من تلك المذاهب:
و لكن الرأي السابق يواجهه بالاستنكار والرفض بعض آخر من النقاد الإسلاميين متسائلاً:”وهل تصلح هذه المذاهب لكي يأخذ منها الأديب المسلم أو يسير على منوالها؟! بل هل من الخير أن نسلّم بهذه المذاهب ونجعلها نقطة بحث وانطلاق؟! “(87) ثم يبين فساد تلك المذاهب وظروف الصراع والقلق التي نشأت في ظلها وأنها كانت تعبيراً عن حالات مختلفة عاشتها المجتمعات الأوربية فحفلت بالهروب مــن النظام السائد ومن عقيدة المجتمع ومن البيئة وحتى مـن النفـس الشـقية القلقة ” ولذلك جاءت هذه المذاهب وكان وراءها الكثير من الخبثاء الذين يريدون أن يجروا الإنسانية إلى التمزق والهاوية لكي يتحكموا بمصيرها، وكانت تحمل طابع المجتمعات التي انبثقت عنها وهي خلاصة للتصورات التي تحكمت في هذه المجتمعات وصور من الحياة التي عاشها الناس هناك. لجأوا إلى الرموز التي تبعدهم عن الواقع أو تصور مأساتهم الكئيبة وهربوا إلى الخيال والطبيعة والمجهول والجنون ليتخلصوا مما في نفوسهم من تمزق وقلق… فكيف بعد هذا نترك لأدبنا العنان ليأخذ من هذه المذاهب ويقتبس ويسير على نهجها! إنها ولاشك تحمل سمات تلك المجتمعات في أسلوبها ومضمونها لأنها تعبر عن التصور السائد فيها والروح التي تسري في بيئاتها وهي تعبر كذلك عن تلك الفلسفات التي آمنت بها هذه المجتمعات ولا يمكن أن تلائم هذه المذاهب حياة المجتمعات الإسلامية مهما بدت مظاهر هذه ا لحياة قريبة من مظاهر الحياة الأوربية”(88) ويرى الناقد في هذه المذاهب أبواباً للاستعمار يستخدمها وسائل للهيمنة على حياة المسلمين إذ يعمل أعداء الإسلام من الصليبيين واليهود والماركسيين على نقل معتقداتهم وسلوكهم وطبائعهم إلى ديار المسلمين عن طريق الأدب الذي يصفونه بأنه أدب إنساني يعبر عن مشاعر الإنسان وعن بؤسه وتطلعاته كما يستغلونه باسم الابتكار والابداع والفن.
ويتخذ هذا الموقف المتشدد من مذاهب الأدب الغربي أكثر النقاد والمفكرين الإسلاميين، فالأستاذ عباس محمود العقاد يرى أن مذاهب الغرب كلها سخافة ولا يرى أن تهمل أو لا يلتفت إليها، ولكنها خليقة أن تدرس كما تدرس عوارض الأمراض والعلل والنكبات. وأن البون بعيد جداً بين دراستها لهذا الغرض ودراستها للاقتداء بها واعتبارها من مدارس الفن والأدب ونماذج الذوق والجمال” ويذهب العقاد الى أن هذه المذاهب تسمى موضات أو تقليعات كتقليعات الموضة التي تخترع لتزول بعد حين ولا تخترع للبقاء والاستمرار، كما يذهب إلى أن خلاصة الرأي فيها أنها لا مدارس ولا فنون لأن المدارس تعلم شيئاً وهذه لا تعلم شيئاً ولا محل فيها للتعليم، ولأن الفنون قواعد ومقاييس وهذه تبطل كل المقاييس والقواعد، وإنما التطور استمرار للحياة وهذه تلغي كل ما كان للفن من حياة”(89) ولذلك يرى العقاد أن أدب مصر بريء من لوثة المذاهب الدخيلة لأن النقد الذي يستوحي هذه المذاهب لم يصدر قط من وحي بديهتها ولم يعتمد قط على سند صحيح في موازين التقدير على نوعيه من تقدير استحسان واقتداء أو تقدير استهجان وتفنيد، ولن يضير الأدب المصري في لبابه أن يلصق به أناس يستوحون المذاهب الدخيلة ولعاً بالغريب أو مجاراة للإغراء والترغيب (90).
ارتباط المذاهب الغربية بعصورها وبيئاتها:
ويقف الأستاذ أنور الجندي موقفاً مشابهاً حيث يقول:”إن مذاهب الأدب التي يحاول النقاد محاكمة الأدب العربي عليها هي في جملتها مذاهب غربية وضحت مسمياتها ومناهجها بعد قيام ظواهرها في الآداب الأوربية وهي في الحق ليست مذاهب وإنما هي أسماء عصور كالكلاسيكية والرومانتيكية وغيرها وهي تتصل في مجموعها بتاريخ الأمم التي وضعت هذه المذاهب. فلماذا تنقل لتكون قوانين يخضع لها أدبنا الذي يختلف من حيث تكوينه وطابعه وتاريخه وبيئته ومظاهر حياته عن هذه الآداب!” (91) ويدافع الاستاذ أنور الجندي عن منهج الأدب العربي الإسلامي الذي يمتاز بالتكامل والثبات بمقابل نظريات الأدب الغربي ومذاهبه المختلفة المتضاربة فيقول:” ليس في الأدب العربي نظريات متعددة متفرقة ترتبط بالعصور أو البيئات (الرومانسي، الكلاسيكي…الخ) ولكنه منهج متكامل له طابع الثبات في الجذور واتساع الافق في الفروع، أما الأدب الغربي فإن النظريات المتعددة فيه قد ارتبطت ببيئات متعددة وعصور مختلفة فأصبحت تمثل تطوراً تاريخياً وتضارباً واختلافاً وليس من شأن الأدب العربي أن يحاكم إلى مثل هذه المذاهب أو أن تنقل لتمثل عصوراً من عصوره فذلك شيء يختلف تماماً ويستطيع الأدب العربي أن ينظر في هذه المذاهب دون أن يعتنقها أو يضع أدبه في امتحان بقوالبها”(92)
الأصول الوثنية والمادية لمذاهب الأدب الغربي:
ويركز بعض النقاد الإسلاميين اهتمامهم على كشف الأصول الوثنية لمذاهب الأدب الغربي ليتخذ منها فارقاً أساسياً بين طبيعة تلك المذاهب ومسارها الجاهلي، وطبيعة الأدب الإسلامي ومساره الإيماني ومن هؤلاء النقاد الاستاذ محمد قطب الذي يرى أن مظاهر الانحراف والوثنية في الأدب اليوناني قد ألقت بظلها طويلاً على الفنون الغربية منذ عصر النهضة وحتى العصر الحديث. ومن ذلك مفهوم البطولة في الأدب اليوناني القديم حيث يقوم هذا المفهوم على الصراع الكريه بين الإله والإنسان وينتهي بتحطيم الإنسان الصالح على يد الآلهة الجبارة التي لا ترحم إذ تمارس أشد الفتك والعقاب بالبطل حين يحاول تحديها لنيل حريته وتحرير مصيره من سلطتها الطاغية وليكون صانعاً لتاريخه بنفسه، مما يرسخ الإحساس بأن البطل خيّر ومظلوم وأن الآلهة شريرة وظالمة وأن ليس من وسيلة للصلح والتوافق بينهما (93). وبقيت فكرة اضطهاد الإنسان ومظلوميته في الخضوع لجبروت الآلهة مستمرة في الفن الغربي الحديث مع تبدل شكلي في الآلهة القديمة باتخاذ آلهة الحتميات المادية الجديدة، فلم يعد الإنسان في ذاته هو موضوع هذا الفن وإنما صار مجرد إطار للألوهية الجديدة تدرس من خلاله الحتمية الاجتماعية أو الاقتصادية أو التاريخية. فحياة الإنسان شيء ثانوي في هذا الفن والشيء الرئيسي هو الطور الاجتماعي أو الاقتصادي أو التاريخي الذي يصوغ هذه الحياة، والناس مجرد أشباح تحركها هذه الحتميات كرهاً لتضعها في مكانها الحتمي من الصورة لا إرادة ولا اختيار في تصرفاتها.
فهذه الحتميات أصبحت هي القدر الجديد الذي يسير حياة الإنسان. وهو قدر مدرك منظور يقاس بالنوع والكم والأطوال والأبعاد وليس كالقدر اليوناني القديم المغيب عن العين والادراك ومع ذلك فبينه وبين الإنسان ذات الصراع الذي كان يقوم بين الإنسان وقدر الأغريق القدماء مع فارق أن الآلهة الحتمية هنا لا تخبط خبط عشواء كما كانت تفعل آلهة الأغريق (94). إذ ألبس دعاة المادية الحديثة حتمياتهم الجديدة لباس العلم في ميدان النفس والمجتمع والاقتصاد والتاريخ، وأصبحت نظريات دارون وفرويد ودوركايم وماركس ولينين وغيرهم من اليهود هي الاسس الفكرية التي تستند إليها مذاهب الغرب الأدبية الحديثة، ولم يكن أولئك الرجال “يحملون شعار اليهودية وتخفّوا وراء شعارات أخرى من الدين أو الفلسفة أو العلوم وكان تأثيرهم بالغاً. وقد لجأ اليهود إلى وسائل شتى لنشر سمومهم وأفكارهم. فتوجهوا إلى ثلاثة ميادين رئيسية: الاقتصاد، الاعلام، التربية وسائر العلوم الانسانية. واستخدموا هذا كله في نشر الانحلال الخلقي والانحلال الجنسي والخمور وفي طرح النظريات الفاسدة “(95) التي لم تكن سوى انبثاق عن المعتقدات اليونانية القديمة في النظر الى الانسان والحياة.
وبأثر تلك المعتقدات الوثنية والنظريات المادية فقد أصبحت نظرة الأدب الغربي الحديث الى الانسان نظرة مجزّأة بعيدة عن التوازن والشمول، وشاع فيه العداء للدين ورجاله فبرز لديهم أدب الجنس الذي يصور الحياة كلها كأنها لحظة جنس طاغية وكذلك برز أدب اللامعقول الذي يصور هلوسة العقل الباطن على أنها حقيقة الانسان. وهكذا “توالت المذاهب الأدبية في أوربا انطلاقاً من المذهب الكلاسيكي الى مذاهب الحداثة والبنيوية وما بعد الحداثة وكان وراء كل مذهب أدبي او معه فلسفة تمده بالفكر وترسم له الدرب وتحدد له الرسالة والأهداف على تناقض واسع بين المذاهب وعلى حيرة وقلق وشك. وظل تأثير الفلسفة اليونانية ممتداً في جميع هذه المذاهب الأدبية وفي رسالتها وظلت الأساطير والخرافات والتصور الوثني كله متغلغلاً في الفكر والأدب “(96) وبهذا فإن “الانحراف في القواعد المرجعية التي ينطلق منها الأدب الغربي الحديث تلك التي ورثها عن اليونان والرومان وضاعفتها النظريات المادية الحديثة، هذا الانحراف والانحراف في منهج الأدب في تعبيره عن الحياة، قد أسهما معاً في انحرافات متعددة تجلت في بعض مظاهره التي انتقدها الأديب الإسلامي بشدة وعبر عن رفضه لها تعبيراً قوياً.
ومن هذه المظاهر أن التفسير المادي ظل يهبط بالحياة حتى حصرها في نطاق المادة والاقتصاد ومن ثم أصبح الأدب خالياً من الوجود الحقيقي للإنسان، لا عواطف ولا انفعالات ولا تأملات فيما عدا الصراع الطبقي الدائر في حتمية بعيدة عن إرادة الانسان “(97) ولم يستطع الدين المسيحي أن يقتلع الجذور الوثنية من عقول الأوربيين وأرواحهم، وذلك لما أصابه من التحريف والاختلاف والانقسام مما أضعف شوكته في مواجهة الفكر الوثني العاتي فقد “جاءت النصرانية المحرفة الى أوربا لتجد أمامها الوثنية اليونانية وتدخل معها في الصراع فلم تستطع النصرانية أن تبقى على ما كانت عليه، بل تأثرت بالوثنية نفسها. فمع أنها اكتسبت سلطة دنيوية بدعمها الامبراطور قسطنطين إلاً أنها فقدت بعض ما كانت تحمله من خير واختلطت التصورات واضطربت الممارسة في الواقع وأصبحت للكنيسة سلطة مطلقة تستبد بها وتخدع الناس وتضلّلهم… ثم وقفت هذه الوثنية والنصرانية تصدّان دخول الإسلام الى أوربا من الغرب أو الشرق في صراع طويل كان يقوده البابا ويوجه جيوش أوربا من أجل ذلك. فحرمت أوربا من ذلك الخير العظيم والنور الذي كانت هي بحاجة دائماً إليه والذي كان سيؤثر في واقع أوربا كلها ويزيح عنها أمواج الظلام ويؤثر في فلسفتها وأدبها ورسالته “(98).
التقليد الأعمى لمذاهب الأدب الغربي:
وبقي الشرخ واسعاً بين ظلام الفكر الغربي ونور الفكر الإسلامي وتبع ذلك أن بعدت الشقة بين مذاهب الأدب الغربي ومذهب الأدب الإسلامي اذ “ان الأحوال التي دعت لهذه المذاهب ذات خصائص تتسم بالمحدودية الزمانية والمكانية والفكرية، وآية ذلك هذا التجديد الذي يطرأ عليها إذا تقادم عليها الزمن حيث لم تعد تلبي حاجات الناس بعد قرن أو قرنين من أوائل عهد الناس بها. فانظر كم مذهباً أدبياً عرف الأوربيون منذ عصور النهضة وحدثني عن أي من هذه المذاهب هو الذي كتب له البقاء؟ أما الاسلام وأدب الاسلام فأمر مختلف تمام الاختلاف. إنه ترجمة للتجارب الشعورية التي يقع تحت تأثيرها إنسان العقيدة الدائمة. عقيدة الفطرة، عقيدة التوحيد التي هي الأولى والأخيرة وهي المرتبطة بالسماء، بخالق الأرض والسماء الذي له وحده البقاء “(99)
فكيف – بعد هذا – يبيح أدباؤنا المحدثون لأنفسهم الارتماء في أحضان الأدب الغربي دون تريث أو تمييز بين مذاهبه أو معرفة بأصول المثاقفة والتفاعل مع الآخر حتى تغلغلت تلك المذاهب في أدبنا الحديث الى أبعد الحدود وأصبح ذلك من المسلمات لدى أدعياء الثقافة ودعاة التغريب “فإذا كان للأوربيين مذاهب مثل الكلاسيكية والرومانسية والواقعية والسريالية والرمزية والدادائية والمستقبلية والوجودية وأدب اللامعقول، فإنه لا بد أن يكون ذلك كله في أدبنا، وإذا لم يتوفر في أدبنا القديم وجب أن نقسره قسراً ونفسره على ضوء هذه المذاهب. أما الأدب الحديث فلابد من صنع هذه المذاهب فيه صناعة واستجلاب القيم المضمونية والفلسفية لهذه المذاهب بالإضافة الى قيمها الفنية الخالصة. ولسنا نرفض هذا على العموم، ولسنا ممن يريد العيش بعيداً عن تيارات الفكر والأدب في العالم، ولكننا نريد أن ننبه الى أن صورة هذا التأثر بالمذاهب لم تراع فيها الأسس الثابتة في التفاعل بين الحضارات فلم يحدث هذا التأثر بالتريث والتأمل المطلوب ولكنه وقع تحت عصاب وحمى التقليد الأعمى”(100). وقد عرفنا فيما سبق من هذا البحث أن جميع مذاهب الأدب الغربي كانت نتاج نظريات فلسفية وعقائدية خضعت لظروف سياسية واجتماعية واقتصادية مر بها المجتمع الأوربي منذ القرن السادس عشر حتى يومنا هذا.
فكيف يصبح تقليد تلك المذاهب واحتذاؤها في أدبنا ونقدنا أمراً مسلماً به!”وكأن المسألة قانون حتمي أن نمر بمثل ما يمرون به من أزمات ونعبر بمثل ما يعبرون به من وسائل. والأمر جدّ مختلف فلا أزماتنا أزماتهم ولا إيقاع الحياة عندنا إيقاعها عندهم، أو لسنا مجتمعاً متخلفاً من وجهة نظرهم؟ ألسنا فولكلور مجتمع؟ ألسنا مادة من مواد الإنثروبولوجيا الاجتماعية التي برعوا في دراستها؟ فكيف يلزمنا أدباؤنا أن نعبر أحياناً عن مظاهر حياة وتجارب لم نمر بها بل كان هاجسنا أن نفكر مثل ما يفكرون ونشعر بمثل ما يشعرون، وإن كانت هذه الأفكار أو المشاعر ما ألممنا بها وما مرت من أحدنا ببال”(101)
استقلال الأدب الاسلامي عن المذاهب الأخرى:
ولهذا فقد رأى كثير من النقاد الإسلاميين أن الأدب الإسلامي ليس به حاجة الى استعارة شيء من المذاهب الغربية اذ” إن أدب الاسلام يحمل المقومات الأساسية لعناصر الأدب من قبل أن تعرف هذه المذاهب على الأرض ومن بعد ما شهرت على ظهرها. أليس فيه عناصر الفكر والعاطفة والصورة الفنية وجمال الأسلوب والوزن الموسيقي؟ ألم يتوفر على دواعي التأثير الفني والأخلاقي؟ ألم يستطع أن يترجم دعوة الاسلام الى الناس كافة؟ ألم ينبض بكل ما أختلجت به قلوب الناس في أزهى عصور الحضارة الإسلامية الزاهرة؟ أليس فيه كل مقومات هذه المذاهب الغربية جميعاً؟ فما حاجتنا – إذن – أن نستجلب منها بعض عناصرها لنطعم بها أدبنا؟ أليس أدبنا نسيج وحده؟”(102). ومع هذا الاستقلال التام للأدب الإسلامي فلا يخشى أن يتحول الى أي مذهب من مذاهب الادب الغربي أو يحكم بانتمائه إليها حين يلتقي معها في بعض العناصر والمقومات، “فليس بمجرد الاهتمام بعنصر من العناصر التي تهتم بها نظرية من النظريات ليس ذلك بقادر على أن يجعلك تنتمي فعلاً الى واحدة من تلك النظريات في جانبها الفني.
فليس صدورك عن (العقل) في تجربة أدبية من التجارب يجعل منك كلاسيكياً لأن الكلاسيكية مذهب متكامل الأبعاد وله رؤيته الفنية والفكرية. فهو موقف من العقل ومن اللغة و الأسلوب والتراث والإنسان كذلك. فحين تلتقي معه نظرية الأدب الإسلامي في الصدور عن العقل – بحدود – لا يعني ذلك البتة بأن أدبنا الإسلامي كلاسيكي التوجه. فالأدب الكلاسيكي التوجه هو الذي يجاري الكلاسيكية في اللغة والأسلوب والصياغة والخيال والعقل والموقف من الأعراف القديمة وتقليدها وتقديسها… وهلم جرا بينما الأدب الإسلامي لا ينحو هذا المنحى ولا مقدس عنده إلاّ المعتقد وما ارتبط به، وليست الأساليب القديمة أو الأطر الفنية بمقدسة، والأديب الإسلامي حديث ومعاصر بالمعنى الذي يفهمه من الحداثة المرتبطة بالأصالة. وليست الأصالة الارتباط بالقديم فحسب، كما أن صدور الأديب الإسلامي عن توقد عاطفي لا يجعل منه أديباً رومانسياً لأن الرومانسية – شأنها شأن الكلاسيكية – فهم خاص للأدب والحياة، فهم له ظروفه وملابساته التاريخية في المجتمع الأوربي.
لقد آن الأوان أن نزيل هذه التصورات الخاطئة والأحكام الجاهزة عن الأدب، فإن هناك مناطق مشتركة من الاحساس والتخيل والفهم في الكيان الإنساني العام، وصدور الأديب الإسلامي عن بعض المناطق المشتركة يجعله صادقاً مع ذاته وليس انعكاساً لنظرية أو تصور خاص في مجال الفن والحياة. نعم التمذهب والأخذ بنظرية الكلاسيكية أو الرومانسية أو غيرهما هو الذي يجعل منك كلاسيكياً أو رومانسياً أو واقعياً اشتراكياً “(103) ولهذا فلا يصح وصف الأدب الإسلامي بأنه أدب كلاسيكي أو رومانسي أو رمزي…الخ كما وقع في هذا الخطأ بعض النقاد الإسلاميين مثل الدكتور عماد الدين خليل في مقاله الذي كتبه منتصف الستينيات بعنوان (نظرات في الفن الإسلامي) فقد أقرّ الدكتور خليل بأن هذا المقال “وقع في خطأ الخلط بين الإسلامية والمذاهب الأخرى بتأكيده على أن الأدب الإسلامي يمكن أن يكون كلاسيكياً أو رومانسياً أو واقعياً…الى آخره، من خلال صيغ الطرح التي يتضمنها “(104) وأشار الدكتور خليل الى أن الخطأ نفسه وقع خلال نقده لأحدى المجموعات القصصية لمحمود مفلح، وأنه عاد بعد عدة سنوات خلال مقدمة مسرحية (المأسورون) الى مناقشة المسألة بتفصيل أكثر ورؤية أدق(105).
ووقع في هذا الخطأ أيضاً الدكتور إبراهيم عوضين من خلال محاولته التقاط الموافقات الظاهرية بين مذهب الأدب الإسلامي وغيره من تلك المذاهب وإقامة روابط على أساس تلك الموافقات يتم من خلالها تطويع الرؤية الإسلامية لتلك الرؤى المضادة لها. ومن هذا المدخل جوّز الناقد لنفسه أن ينسب، الأديب الإسلامي إلى الكلاسيكية و الرومانسية والرمزية والواقعية وغيرها(106) رغم ادراكه العميق لجوهر التناقض بين المذهب الاسلامي في الأدب ومذاهب الأدب الغربية من حيث المرتكزات والغايات والمنهج وأنه لا يصح تأطير الأدب الاسلامي من خلال تلك المذاهب لأنها حين تلتقي مع الإسلامية يكون اللقاء شكلياً وعارضاً، لذا فإن الأولى هو ملاحظة الفروق بين الإسلامية وهذه المذاهب لأن ملاحظة الموافقات لا تقدم الحكم الصادق دائماً بل يؤكد هذا الناقد خطأ نسبة الأديب المسلم الى الكلاسيكية مثلاً (107). ولكنه مع كل هذا الوعي والحذر يقع منه الخلط والتلبيس في مواضع عديدة وغاب عنه التقييم النقدي لتلك المذاهب في غمرة بحثه عن التوافقات والاختلافات بينها وبين الإسلامية بسبب افتقاده المنهجية الإسلامية في النظر الى تلك المذاهب.
الرأي القائل بالفصل بين القيم الفنية والقيم الفكرية لمذاهب الأدب الغربي:
وسلك بعض النقاد مسلكاً آخر في ايضاح الموقف الإسلامي من مذاهب الأدب الغربي من خلال تمييزه بين ثلاثة مستويات من هذه المذاهب فرأى أن “المذاهب الأدبية بنحو عام موروثها ومعاصرها تتأرجح هيكلياتها بين ما هو جمالي صرف وبين ما هو دلالي أو ايدلوجي وبين ما هو ملفق بين تينك الظاهرتين. فالواقعية الاشتراكية مثلاً أو الوجودية وهما مذهبان لا يزالان يحتفظان بأنصارهما، يظل الأول منهما معنياً بالطابع الالتزامي، ويظل الثاني منهما معنياً بدوره بالتزامية الأدب مع تقديمه جماليات متوازنة بالقياس الى ضمور الجماليات في التيار الأول، ولكن الاتجاه الرمزي – وقد انبثق في القرن الماضي – تظل هيكليته جمالية صرفة. وأما التيارات المتأخرة (أي المنبثقة في العقود الثلاثة الأخيرة) فتتأرجح بدورها بين اتجاهات جمالية خالصة أو ملفقة بينها وبين الايدلوجيا”(108)
وبناء على هذا التقسيم “فإن المذاهب التي تعنى بالبعد الايدلوجي، يظل التصور الإسلامي حيالها متسماً بالرفض لها أساساً ما دامت جميعاً مذاهب منعزلة عن مباديء السماء من حيث الخلفية الفكرية لها. أما جمالياتها فمع أن البعض منها ينبثق من الموقف الايديولوجي فمن الممكن أو الضروري أحياناً أن يفيد الأدب الإسلامي منها مادمنا نكرر بأن الجماليات – في التصور الإسلامي – قد سكتت النصوص الشرعية حيالها تاركة ذلك الى الأجيال الادبية التي سوف تنتقي من الجماليات ما يسهم في صياغة النص وفق لغة عصورها حتى تحقق عملية التوصيل لمباديء السماء للبداهة التي كررناها وهي: لابد من مخاطبة الآخرين بلغتهم وأساليبهم حتى يمكن توصيل المباديء اليهم “(109). وهذا الرأي – في الواقع – يحتاج الى المناقشة بعد فصله بين القيم الفنية والقيم الفكرية لمذاهب الادب الغربي.
مناقشة الرأي السابق وخلاصة القول:
ويعارض الرأي السابق من النقاد الاسلاميين من يرى ” أن أي استجلاب لمذهب أوربي والدعوة الى تقليده أو تطبيق نظرياته في دراسة الادب العربي والاسلامي، لا يمكن أن يتم في إطار القيم الفنية والتقنية الخالصة، بل لا بد أن تنسحب معه تلك القيم الفلسفية والفكرية أيضاً. ومن المعلوم أن بعض هذه المذاهب لم تكن لها قيم فنية أساساً بل كانت لها توجيهات فلسفية فقط ثم كونت قيمها الفنية بعد ذلك… إن أهم ما يمكن التأكيد عليه في هذا المجال أن الادب الأوربي قد خضع للقيم الوثنية في العصور القديمة، ولقيم المسيحية المحرفة في القرون الوسطى، ولقيم الالحاد والمادية في العصور الحديثة.وهو بهذا يتمايز في مذاهبه واتجاهاته عن الادب الاسلامي الذي خضع لقيم روحية وفكرية ومادية مغايرة تماماً “(110). وبناء على ما تقدم فلا يمكن الفصل – في منهج النقد الاسلامي – بين المذهب الادبي في مفاهيمه الادبية وأشكاله وتعبيره الجمالي وبين الأسس الفكرية التي قام عليها والمناخ الحضاري الذي نشأ في إطاره مداً لخيوط التواصل بين هذا وذاك على جهة الانبثاق مع التركيز على أبعاد ذلك كله في التمظهر السلبي للمذهب الادبي في الفكر والفن والمنهج التعبيري والنقدي، استجابة – في هذه الممارسة النقدية عامة – للأسس الاسلامية التي ينطلق منها الناقد الاسلامي والغايات التي يتجه اليها ” وقد تجسدت من خلال هذه العملية النقدية ظواهر سلبية عامة تنتظم جميع المذاهب، فالتناقض ظاهرة جلية في تاريخ تلك المذاهب واعلان الولاء المقدس للوثنية وانتفاء الغاية والمحدودية والعجز عن رؤية الحقيقة كاملة والانحياز تجاه موضوع على حساب الآخر أو تجاه الجزء على حساب الكل.
ومن خلال استعراض الناقد الاسلامي لهذه المذاهب جميعاً نلاحظ فيها ثبات مبدأ التقديس مع القلق والاضطراب وعدم الاستقرار في التحول من هذا الى ذاك فكأنها تعبير عن رحلة البحث الانساني في أوربا عن الدين الذي يمنحه الاستقرار والاطمئنان ويشبع رغبته العميقة في التعبد والتقديس. غير أن هذه التحولات جميعها لم تكن سوى تنقلات وثنية من محيط الى آخر، ومن هنا لم تمنح الانسان غير التيه والضياع والعبث واللاجدوى. وقد امتد نقد المذاهب لا الى الكشف عن جذورها الفكرية والعقدية فحسب وانما الى نقد هذه الجذور وبيان أخطائها وقصورها سواء أكانت وثنية أم نظريات فكرية في دائرة علوم الانسان”(111) ومن الواضح أن اهتمام الناقد الاسلامي بمذاهب الادب الغربي واكتشاف أخطائها، يفيده كثيراً في تحديد معالم منهجه النقدي وترسيخ اصوله الفكرية والفنية على طريق الوصول بنظرية الادب الاسلامي وتطبيقاته الى اسمى حالات النضج والتكامل.