كان من بين الظواهر الأدبية اللافتة عند نهاية عام 2008، أن الكتاب الذي احتل المكانة الأولى بين أفضل 20 كتاباً صدرت خلال العام المنصرم في فرنسا، كان رواية جديدة يومها للكاتب الجزائري محمد مسالالهوم الذي كان يوقع، بعد صدور رواياته الأولى باسمه الصريح من دون أن تلفت نظر أحد، طوال ما يقارب العقد من الزمن، باسم زوجته ياسمينا خضرا، “لأن منصبه العسكري الرسمي في الجزائر، لم يكن ليسمح له بالتوقيع باسمه الحقيقي”. الرواية عنوانها “ما يدين به النهار لليل”. وصدرت أواسط عام 2008 عن منشورات غوليار. والاستفتاء أجرته مجلة “لير” التي كانت تعتبر أكثر المجلات الأدبية شعبية، والمرجع الأساسي حول نشاط الكتب والكتاب في فرنسا.
اهتمام مشرقي الهوى
“ياسمينا خضرا”، كاتب جزائري، وضع طوال أكثر من 30 عاماً، روايات عدة حققت نجاحات شعبية كبيرة، في اللغة الفرنسية، من دون أن نعرف ما إذا كان كثير من رواياته ترجم إلى العربية حتى الآن، باستثناء رواية له تدور أحداثها في كابول، وأخرى تدور أحداثها في بغداد… وربما ثالثة تدور في بيروت، ما يجعله – بالطبع – الأكثر اهتماماً بالمشرق من بين الكتاب المغاربة كافة. غير أن شعبية أدب “ياسمينا” لا يقابلها اهتمام نقدي جدي… أو أن هذه الحال كانت حتى أتى اختيار تلك الرواية الجديدة، الكتاب الأفضل للعام المذكور لينطلق انطلاقة صاخبة متوجاً، نقدياً هذه المرة، مساره الأدبي الحثيث، المسار الذي يجعل كل كتاب من كتبه يباع بعشرات آلاف النسخ، وأحياناً بمئات الآلاف.
من الجزائر إلى أنطيغونا
يومها علقت مجلة “لير” على تتويج “خضرا” هذا بالقول: “إنه ليس حداثياً بما يكفي في كتابته… هذا هو الاتهام الذي يوجه في بعض الأحيان إلى ياسمينا خضرا… اتهام يورده متسائلون حول قيمة مفترضة اليوم، مثلاً، لمسرحية أنطيغونا لسوفوكلس، إذ يرونها تنحصر في حكاية أخوين عدوين، تريد أختهما أن تبني ضريحاً لأخيها لكن هذا البناء ينكر عليها؟ ما الذي قد يكون عليه هذا الصراع إن لم يرتفع في خلفيته شظايا الصوت وإغلاق الأبواب، ضجيج احتجاج أنطيغونا التي، بعدما رميت في وجه أيسمين، تابعت كونها صوت الإنسانية جمعاء: “أنا لم أوجد لأعيش في الحقد، بل كي أتقاسم الحب؟”.
ولنعد، انطلاقاً من هنا إلى كتاب ياسمينا خضرا، ولكن قبل أن نتوقف عند موضوع هذا الكتاب وعند ذلك الوعد الرائع الذي نجده في عنوانه، لينفلش بعد ذلك على مدى 400 صفحة، لا بد من الإشارة إلى أنه كما أن لكل ميدالية وجهها الآخرـ وكما أن لكل نجاح ثمنه الذي يكاد يكون باهظاً، أدى نجاح “ما يدين به النهار إلى الليل” إلى انفجار “فضيحة” في وجه “ياسمينا خضرا”، كان من الصعب انفجارها بتلك القوة مرة أولى في عام 1992 حين اتهم بسرقة اسم إحدى الشخصيات وهي “اللاز” من رواية للجزائري الطاهر وطار. السخرية من طريق المقارنة المتواضعة.
يومها رد الكاتب باسمه الحقيقي على التهمة بسخرية، غلفها حديثه عن “تواضع روايته” مقارنة بـ”عظمة إنتاج وطار”، وانتهى الأمر بحذف الاسم “الملطوش” من رواية “امتياز الفينيق” المعنية بالقضية. بيد أن الاتهام تبدى أكثر خطورة في المرة الثانية حين ذُكر أن رواية “ما يدين به النهار لليل” الموقعة هذه المرة باسم “ياسمينا خضرا”، مأخوذة من قصة لكاتب جزائري غير معروف يدعى يوسف إدريس (أو لعله الكاتب المصري الكبير نفسه!). ولكن في هذه المرة لم يرد “خضرا” على متهميه، بل تولى الرد عدد من كتاب جزائريين لفتوا إلى سخف وعبثية التهمة التي تتحدث عن 400 صفحة مأخوذة عن موقف تحمله قصة في بضع صفحات. والحقيقة أن تلك المرة الثانية مضت كالأولى مثيرة السخرية من دون أن تؤثر في “ياسمينا خضرا”.
فصل فردي من تاريخ الجزائر
وذلك لأن هذه الرواية التي باتت تعتبر من أفضل أعمال الكاتب، وتتفوق حقاً على عدد من روايات له، كتبها كما يبدو تحت وقع أحداث المنطقة العربية والشرقية، مثل “سنونوات كابول” التي وصف فيها حياة زوجين يعيشان بؤس الحكم الطالباني، و”الاعتداء” التي تحكي عن معضلة طبيب فلسطيني ناجح ومندمج في المجتمع الإسرائيلي، يكتشف أن زوجته هي التي فجرت نفسها انتحارياً في مطعم موقعة بين الضحايا أطفالاً كانوا يحتفلون بعيد مولد أحدهم، فيبدأ البحث عن دوافعها، و”حوريات بغداد” التي تحاول رسم صورة عنيفة لما اقترفه الأميركيون في العراق. ولئن تبدت هذه الروايات الثلاث خطيّة، رسمت شخصياتها ضمن إطار يواكب أحداثاً سياسية كبرى، فإن “ما يدين النهار به إلى الليل” أتت مغايرة. بل يمكن القول إنها أتت لتسد نقصاً في الأدب الجزائري يطاول جزءاً من تاريخ الجزائر أواسط القرن العشرين بشكل لا مثيل له بين نتاجات الكتاب الجزائريين، من حيث شموله وقوة تعبيره وقدرة الكاتب على رسم الشخصيات في علاقتها بالأحداث، التي من الواضح أن الكاتب لم يحد بها عن جادة التاريخ، ناهيك بالتزامه نوعاً من موضوعية تفترق حقاً عن حيادية اتهمه البعض بها
يوم نسوا أن ثمة جزائر محتلة!
فهنا، في هذا الكتاب، نجدنا في الجزائر نعيش عشية الحرب العالمية الثانية. قريباً ستخوض أوروبا في بحار الدم والنار، منسية العالم كله وجود بلد محتل مستعمر اسمه الجزائر. حينها كان يونس الشخصية المحورية في الرواية، فتى عربياً بائساً. وها هو الآن يتذكر شجاعة أبيه الذي كان وعده – عبثاً – بأفق جديد لحياته يختلف عن المكان البائس الذي أتى بعائلته لتعيش فيه. كان الأب على آخر رمق، وقد انتهى به الأمر، هو المذل المهان، إلى وضع ابنه لدى العم حيدلي، وهو مسلم متزوج من كاثوليكية… وهذا العم هو الوحيد في العائلة الذي تمكن من تدبير شؤون حياته. كان الأب يتطلع إلى أن يعطي ابنه الحظ الذي لم ينله هو: كان يرغب في أن يؤمن له مستقبل رجل حقيقي في الجزائر، التي كانت قد بدأت تسأم الصراعات بين الإخوة.
الغرام الذي وقع فيه يونس
وبعد ذلك بسنوات، ها هو يونس، الذي كان قد عرف كيف يجعل لنفسه أصدقاء في كل مكان وسط أفراح عمره وأتراحه، ها هو يقع في غرام رائع، وفي الوقت نفسه يستمع إلى عمه، الذي يقرأ ألبير كامو ويتحدث عن الزعيم الوطني الجزائري مصالي الحاج، يقول له، بحزم يشبه حزم الصغيرة التي أحبها: “أَحبَّ بكل ما لديك من قوة… أَحبَّ كما لو أنك لا تحسن فعل أي شيء آخر في حياتك…”. رواية عن الحب، إذاً، هذا الكتاب الذي اختار له “ياسمينا خضرا” عنواناً غير متوقع؟ أجل، لكن “ما يدين به النهار لليل” أيضاً كتاب عن الجزائر… وربما كان أصح أن نقول: عن الجزائر كما كان ينبغي لها أن تكون.
“ياسمينا” بين آركادي ودويري
هذه الرواية حوّلها المخرج الفرنسي الجزائري الأصل ألكسندر آركادي إلى فيلم حقق بعض النجاح، على الرغم من أن النقاد اعتبروه أضعف من الرواية التي كانت تستأهل ما هو أفضل. ولنذكر هنا أن حظ “خضرا” مع السينما كان أفضل حين حقق اللبناني زياد دويري فيلماً عن روايته “الاعتداء”، أثار ضجة كبيرة لا تتعلق بالفيلم نفسه بقدر ما تتعلق بكون المخرج اللبناني الشاب قد صور الفيلم بين تل أبيب والضفة الغربية وبعض المناطق الفلسطينية الأخرى، ما جعل أقلاماً كثيرة تأخذ عليه ذلك. لكن الفيلم الذي اعتبره كثر، من أفضل الأفلام التي حققها مخرج لبناني، نال العديد من الجوائز ولا سيما في مهرجان مراكش في المغرب، ما لفت الأنظار حقاً إلى الإمكانيات البصرية السينمائية التي تمتلئ بها كتابة “ياسمينا خضرا”، ناهيك عن سخونة الأحداث التي تتناولها. ومن هنا لم يدهش أحد حين راح يتزايد اقتباس روايات الكاتب، ليس فقط في السينما بل كذلك في المسرح والتلفزيون وصولاً إلى الكوميديا الموسيقية!
اندنبدنت عربية