أضحى أدب السجون – أو أدب المعتقلات – موضوعاً أثيراً اليوم، بصورة تُلفتُ الإنتباه إليه، وتدعوا إلى الاهتمام به، بصورة جدية، وليس كظاهرة عابرة في الكتابة العربية، يمكن أن تطويها رياح الزمن. لكنها تستدعي التوقف حيالها، والبحث في فضاءاتها وآفاقها، التي تبشر – إذا جاز التعبير – بالمزيد من العطاء الإبداعي، الذي يرفد الحركة الثقافية العربية، بما هو جديد، ويشكل إضافة مهمة، من حيث القيمة، أولاً والكمّ، ثانياً، وفي تأصيل هذا النوع من تيارات الكتابة الجديدة ثالثاً. يتجلى الاهتمام بأدب السجون، في الحياة الثقافية السورية، من خلال اتجاهات رئيسة ثلاث، تتمثل بصدور مؤلفات جديدة، وظهور أسماء جديدة، واهتمام وسائل الإعلام ومراكز البحوث، ومؤسسات العمل الثقافي، بإبراز أهمية وقيمة أدب السجون، خاصة خلال الأشهر الأربعة الأخيرة. ليصبح الحديث عنه أشبه بأمر شائع، يتناول جوانب متعددة، ويغفل بالطبع جوانب أخرى، وهذا طبيعي في ظل تسليط وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي على مسألة كهذه، تحتمل التناول على أكثر من وجهة باعتبارها، أولاً ظاهرة أدبية، وثانية قضية اجتماعية، وسياسية، تتصل بالمجتمع، ومعاناته. وقد حظيت ” الظاهرة ” بعناية لافتة، غلبت فيها وجهات النظر في تناولها العام، بعيداُ عن التعمق في دراستها، كشكل تعبيري يفرض وجوده، ضمن الأجناس الادبية السائدة، في حياتنا المعاصرة. في سوريا، وفي العالم العربي، شهدت العشريتين الأخيرتين، تطوراً ملحوظاً، في أدب السجون، تشير إليه معظم الكتابات التي تناولت ذلك، ناجماً عن الدور الكبير الذي لعبه انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، والنشر الالكتروني، والإنفراج المحدود الذي أتاح حرية تعبير محدودة، قياساً لما شهدته المنطقة من مصادرة للحريات، طوال ما يقرب من اربعين عاماً من القهر والاستبداد، كما أن انفتاح الناشرين على هذا النوع من الأدب، وظهور ناشرين جدد، أيضاً أتاح مجالاً رحبة للكتاب، خاصة اولئك الذين عايشوا تجارب مريرة في المعتقلات والسجون، كي يقدموا تجاربهم، عبر نصوص أدبية، الى القارئ العربي. وكانت الرواية – ولا تزال- هي الملاذ الأكثر انتشاراً وبروزاً، ضمن الأجناس الادبية التي لجأ إليها الكتاب للتعبير عن أفكارهم وانشغالاتهم، ويلاحظ، أن عدداً منهم، لم يكتب الرواية سابقاً، بل إنهم عرفوا كشعراء، أو قصاصين، أو صحافيين. لكنهم وجدوا في الرواية ضالتهم. فيما ظهرت أعمال لمؤلفين للمرة الأولى، لينضموا إلى عالم الكتابة، عبر عمل يتناول أدب السجون.
غير أن معظم تلك الأعمال، اتسمت – مشتركة في الغالب – بأنها أعمال روائية، يدون فيها الكاتب ما يمكن اعتباره شبه سيرة ذاتية، خاصة لمن تناول فيها تجربته السجنية. أما السمة الأخرى فهي أن تلك المؤلفات هي بمثابة شهادة على ماجرى ومايحدث في المعتقلات من قهر وتعذيب، وانتهاك لآدمية الإنسان، وتصفية وقتل تحت التعذيب، ومصادرة لجميع حقوقه، بما فيها الحق في الحياة. أما السمة الثالثة في تتجلى بالبوح بما جرى، أو الاعتراف، بما عاشه المؤلف / شخوص الرواية، في ظلال العتمة البغيضة. ولعل هذه السمات الجامعة، لمعظم ما قُدِّم حتى الآن من أعمال أدبية، يجعل الإقبال على قراءة أدب السجون، والاهتمام به، من باب مشاركة الكاتب، في مشاعره، والتعبير عن الإحساس المجتمعي المتنامي، بقضية المعتقلين، الذين ظلت الكتابة عنهم مرتبطة بالخوف إلى وقت وقت قريب. لكن ذلك في اعتقادي، لم يتخط العتبة الأولى لإعطاء أدب السجون حقه من الإهتمام به كما يتوجب، من حيث قيمته الفنية، بشكل أساسي، خاصة في ظل انكفاء دور الرقابة، الى درجة الصفر، في كثير من الأحيان، وهذا تطور مهم جداً. وتبدو ظاهرة النشر الميسر، والانتشار السريع، للمؤلفات الصادرة خلال السنوات العشر الأخيرة، بلا حدود، عاملاً مشجعاً لدخول عالم الكتابة، وهذا أمرٌ إيجابي جداً – في اعتقادي – على الرغم من أنه يثير قلقاً وحفيظة لدى شريحة غير قليلة من المشتغلين في الآداب والفنون. أهمية ذلك، انها تفتح المجال واسعاً أمام ممارسة حرية التعبير، وأمام ظهور كتابات جديدة، ومؤلفين جدد، ترفد عالم الكتابة الإبداعية، بما هو مختلف، ومغاير – ربما – خاصة في ظل الظروف التي تعيشها بلداننا، من ثورات وحروب، وتدمير وتهجير لم يسبق له مثيل، مترافقاً مع تبدلات وتغيرات اجتماعية على قدر كبير، من الأهمية الإحاطة بها، وأن يكون الكتّاب والكتابة، جزءاً فاعلاً ومؤثراً في سياقاتها.
الكتابة فعل حياة، مثلما هو بوحٌ، شهادة، أو اعتراف. ليكتب كل من يستطع إلى ذلك سبيلا، وليس معنى ذلك أننا ندعوا الى انتشار الأعمال الادبية التي يعوزها المستوى الفني، والقيمة الإبداعية، التي يجب أن تكون شرطاً أساسياً في أي عمل أدبي، أو فني يُقدم. ولسنا ندعوا الى الكثرة في ذلك، وإنما نشجع على الكتابة، وأن تصبح شئناً شائعاً خاصة لدى جيل الشباب، الذي يواجه تحديات ثقافية – اجتماعية فريدة اليوم، وفي مقدمها التحديات المتصلة بالهوية الثقافية، تكوينها، و/ أو إعادة صياغتها، في ظل سياسات إعادة الإندماج، والتهميش، وغير ذلك. من ذلك، نود أن نخلص للقول، أن أشدّ ما أحوجنا إليه، هو الحركة النقدية، التي تدرس أدب السجون والمعتقلات، بوصفها أعمالاً ادبية، كما يخضع أي عمل أدبي للنقد، من حيث التفسير والتحليل والمقارنة والتقييم الأدبي والفني، عبر الجوانب المختلفة، للعمل الأدبي. وهذا ما يقدم لأدب السجون، ولغيره من الفنون والآداب الأخرى، فرصة ضرورية، لا غنى عنها، لتطوير الكتابة، ورفع مستوى الإبداع والرقي بقيمته الفنية، بعيداً عن التناول الإنطباعي الذي ينحو لإبراز موضوع الكتابة، وظروفها، وهو ما يجري اليوم على نطاق واسع. وعلى أهمية تلك القراءات الانطباعية، نحن بحاجة إلى نقد يشير الى مواطن الضعف والخلل، في النص الأدبي، والى مكامن قوته. وعبر النقد الأدبي، يمكن تقديم الأعمال الأدبية الى الجمهور، ليساهم في تعزيز المعرفة، ورفع سوية الذائقة الفنية لديه، وبذلك تتعزز مكانة أدب السجون، وترتقي فيه الكتابة لملامسة حدود العمل الإبداعي الذي يطرح قضيته، بقيمة فنية عالية، يصبح فيها البقاء للأفضل، للنص الإبداعي الأصيل، ويختفي ما هو إنشائي، وطارئ، مع مرور الوقت، ونضوج التجربة الإبداعية، مترافقة مع نهوض المارسة النقدية الغائبة بشكل مؤثر حتى اليوم. ككاتب صدرت لي رواية في أدب السجون، أشعر بأهمية أن يتناول النقد وبقسوة إن صح التعبير، أعمالنا الأدبية، ومنها بالطبع روايتي سراب بري، بعيداً عن الحذر والمجاملة، نتيجة الانحياز لموضوع ” تجربة السجن المريرة “. وقد آن الآوان لأن يستعيد النقد الأدبي دوره الضروري المفتقد.