أرشيف سنة: 2021

أدب السجون يزدهر في تركيا

كتب الصحافي كريم فهيم في صحيفة “واشنطن بوست”، أنه فيما يقبع معارضون في سجون تركيا على مر تاريخها الحديث المضطرب، فإن القصائد والمذكرات والروايات الخيالية وحتى سيناريوهات الأفلام، كانت دائماً تتسلّل إلى الخارج.

وتتمتع تركيا بتاريخ طويل من أدب السجون، لكن السنوات الأخيرة كانت مثمرة بشكل خاص. فقد أدت حملة القمع التي شنتها الحكومة والتي وضعت الآلاف من الناس وراء القضبان إلى طفرة ملحوظة في النشر، إذ نشرت ثمانية كتب على الأقل من سجناء حاليين أو سابقين، خلال العامين الماضيين وحدهما

أوضح فهيم أن إحدى هذه الروايات كانت عبارة عن مذكرات كتبها الروائي أحمد ألتان بعنوان يوحي بمدة طويلة من السجن:”لن أرى العالم مرة أخرى”. كما أن صلاح الدين دميرطاش، محامي حقوق الإنسان السجين والرئيس المشارك السابق لأكبر حزب معارض، وضع كتاباً حزيناً من القصص القصيرة، التي أصبحت من أكثر الكتب مبيعاً في تركيا، وتنشرها الممثلة ساره جيسيكا باركر، التي باتت بصمة أدبية جديدة في الولايات المتحدة.

لمحة عن الاضطرابات
ومع توسع السجون في تركيا، تقدم أحدث الكتب لمحة عن الإضطرابات السياسية في البلاد خلال العامين اللذين أعقبا المحاولة الإنقلابية الفاشلة في عام 2016 ضد حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان. وسجنت السلطات عشرات الألاف من الأشخاص الذين تم اتهامهم بمساعدة الإنقلابيين أو حزب العمال الكردستاني المحظور.

6 كتب على الأقل

وطاولت أحكام السجن صحافيين وسياسيين معارضين وغيرهم من النقاد، كما تبخر تسامح الحكومة مع أصوات المعارضة. وتم تأليف ستة كتب على الأقل من قبل أعضاء في حزب سياسي مؤيد للأكراد . وكان العشرات من أنصار حزب الشعوب الديمقراطية قد سجنوا أو طردوا من مناصبهم عقب اتهامهم بالعلاقة مع حزب العمال الكردستاني، علماً أن الحزب نفى أي صلة له بالمتشددين. وفي كتاب ألفته غولتان كيساناك، الرئيسة السابقة لحزب الشعوب الديمقراطية التي أمضت 14 عاماً في السجن، عمدت إلى إرسال أسئلة لسجناء آخرين عبر محاميهم. وأبرزت شعبية بعض الأعمال الإقبال المرن على أدب السجون. ويبدو أن جميع القراء لديهم تقريباً كاتب مفضل على الأقل أمضى فترة في السجن.

تقليد القراءة
وأشار فهيم إلى أن مورين فريلي التي ترجمت كتاب دميرطاش “الفجر” إلى الإنكليزية كتبت في مقدمتها أنه “إلى جانب التقليد العظيم في تركيا لكتابة المقاومة، هناك تقليد عظيم من قراءة هذه الكتب”. واستناداً إلى ناشر الكتاب، فإن 200 ألف نسخة منه قد بيعت منه في تركيا. وقالت آيمي ماري سبانغلر، التي تمثل دميرطاش وغيره من المؤلفين في تركيا، إن الحجم الفعلي لقراء “الفجر” من المرجح أن يكون أكبر. وأضافت أنه من الصعب في بعض الأحيان العثور على المكتبات، لكن بسبب شعبية المؤلف، فقد تم تناقل نسخ من الكتاب في ما بين الأشخاص الذين لا يشترون الكتب عادة. وفي ديسمبر (كانون الأول) نشرت صورة في مجلة “فوغ” لأوف باركر وهي تحمل كتاب “الفجر” أمام منزلها في ويست فيلدج بنيويورك على وسائل التواصل الإجتماعي مما تسبب بضجة كبيرة في تركيا واتهمتها حكومة أردوغان بنشر الدعاية الإرهابية في الخارج.

الدعم الخارجي
ولفت الكاتب إلى أن الحديث عن الدعم الخارجي في تركيا ليس جديداً، إذ قام بابلو نيرودا وغيره من الفنانين العالميين بحملة لإطلاق سراح الشاعر التركي ناظم حكمت. وفي عام 1982 منحت لجنة تحكيم في مهرجان كان السينمائي التركي يلماز غوني جائزة عن فيلمه الذي أخرجه من السجن.

المصدر

24.ae

معتقلات السيسي تُعيد إحياء “أدب السجون” عبر رسائل من خلف القضبان

أعاد معتقلون مصريون إلى الصدارة نوعا من الأدب اختفي  منذ سنوات مضت، لا تكاد تقترب منه أضواء النقد، إلا في حالات نادرة، وهو أدب السجون.

في 25 أكتوبر الماضي، أثارت رسالة مهربة من سجين مصري شاب، يدعى أيمن علي موسي، حالة من التعاطف الشديد على مواقع التواصل الاجتماعي.

موسى جرى فصله من كلية الهندسة في الجامعة البريطانية بالقاهرة، وحكم عليه بالسجن 15 عاما؛ بتهمة التظاهر في أكتوبر2013.

ولم يستطع هذ الشاب أن يودع والده، الذي توفي بعد عام من حبسه ولم يحضر أيضا جنازته؛ ما دعاه إلى استعادة ثلاثة أعوام قضاها سجينا، فكتب رسالة تهنئة لنفسه بعيد ميلاده.

يقول موسى: “عيد ميلاد سعيد؟! ..٢٥ أكتوبر ٢٠١٣ أتممت سن المراهقة في السجن، كان عيدُ ميلادي الواحد والعشرون هو الأول في السجن.. ٢٠١٤، كان الثاني…، ٢٠١٥، الثالث…، اليوم… ٢٠١٦… هو عيد ميلادي الثالث والعشرون… الرابع في السجن.. أُول عيدِ ميلاد بدون أبي… بدون مستقبلٍ واضح أمامي، بعدما تم إيقاف قيدي بكلية الهندسة، بعدما تم الحكم عليّ بالسجن خمسة عشر عامًا بدون سبب! أجلس في زنزانتي على الأرض، حيث أنام، أشعر بأني فأر محاصر في مصيدة بمعمل، ينتظر أن تتم عليه التجربة، ولا أعلم بأي النتائج ستنتهي، إلى أي شيء ستحوّلني!!”.

 يضيف موسى: “أنا متعب من خسارة هدية في كل عيد ميلاد.. هذا العام، بدلاً من أن أرتدي قبعة التخرج والعباءة مع أصدقائي، حاصلاً على شهادة تخرجي، ارتديت بدلة سجين وأصفاد يد، منتظرًا أن يتم نقلي إلى سجن آخر هذا العام.. تغيبت عن جنازة أبي.. أنا أفتقد أبي”.

بعد حكم الرئيس المصري، جمال عبد الناصر (1956: 1970) لاقى أدب السجون اعترافا نقديا، حيث ظهرت مذكرات وكتابات روائية مختلفة،لكن في المرحلة الراهنة بمصر، ظهر أدب السجون في صورة جديدة، وهي رسائل مهربة تحمل تنقل آلاما وآهات من خلف قضبان السجون.

وتعكس هذه الرسائل أوضاعا غير إنسانية، بحسب سجناء، وهي تُكتب أحيانا على أوراق علب السجائر، وتبقى المتنفس الوحيد لآلاف الشباب المحبوسين (دون حكم قضائي)، والمسجونين على خلفية احتجاجات سياسية مختلفة.

ويعرف الشاعر والكاتب السوري، ممدوح عدوان، في كتابه “حيونة الإنسان”، أدب السجون بأنه “نوع من الأدب استطاع أن يكتبه أولئك الذين عانوا السجن والتعذيب خلال فترة سجنهم وتعذيبهم أو بعدها، أو كتبه الذين رصدوا تجارب سجناء عرفوهم أو سمعوا عنهم”.

وقبل أيام، بعث الباحث والصحفي المصري، هشام جعفر، المحبوس في سجن “العقرب” جنوبي القاهرة، برسالة إلي ابنه قال فيها: “”ابني العزيز عدنان.. اشتقت إليك وإلى أحفادي كثيرا، اشتقت إلى روجيدة وتمنيت رؤية آدم، اشتقت إلى بذور هذا الوطن”.

ورغم حبسه منذ منذ أكثر من عام دون حكم قضائي يدينه، يوصي جعفر ابنه بقوله: “إياك يا بني أن تزرع فيهم (الأحفاد) كره هذا الوطن، إياك يا بني أن تدعهم يفقدون الانتماء إليه أو يفقدون الرغبة في ذلك، إياك إياك”.

ويعاني جعفر (52 عاما) في السجن من حالة صحية متردية، تشمل ضعف البصر والتهاب البروستاتا والضغط والسكري.

وهو رغم ذلك يوصي ابنه عدنان قائلا: “ازرع بداخلهم (الأحفاد) هذا الوطن، لا تدعه يخرج من قلوبهم، إجعلهم دائما يشتاقون إليه ويشعرون بالحنين، وإن كفرت أو كفروا، فحينها سأتيقّن أن ضريبة سجني ذهبت سدى.. أنا لم ولن أكفر بالوطن فلا تدعهم يكفرون به. ودمنا إلى لقاء أتمناه قريبا”.

وفي أكتوبر 2015، اقتحمت عناصر من قوات الأمن المصرية مقر عمل جعفر في “مؤسسة مدى الإعلامية” (غير حكومية)، وألقي القبض عليه، ثم نقل إلى سجن العقرب، ولم تتم إحالته إلى القضاء حتى الآن.

ومن بين السجناء في مصر، الناشط السياسي الشاب أحمد دومة، وهو يقضي عقوبة السجن المؤبد (25 عاما) في القضية المعروفة إعلاميا بـ”حرق المجمع العلمي” وسط القاهرة في ديسمبر/ كانون الثاني 2011، إضافة حكم بالحبس ثلاث سنوات بتهمة خرق قانون تنظيم التظاهر.

ومن خلف القضبان، قال دومة (28 عاما) في رسالة مهربة: “أصبح اشتياقي للأشياء التافهة موجعا للغاية. أن تدخن سيجارة في شرفة منزلك، تتمشى ليلاً في شوارع وسط البلد (يقصد القاهرة)، تجلس مع رفاقك على القهوة، تأكل الآيس كريم المفضل وأنت تقرأ، تقف بجوار صديق يحتاجك، تتلقى العزاء حتى في صديق مات.. لا تعرف قيمة الأشياء في حياتك وإن بدت تافهة إلا بعد فقدانها”.

واشتهرت العديد من الأعمال الأدبية العربية والغربية باعتبارها تنتمي إلى أدب السجون، لكن تبقي الأعمال التي كتبها مبدعون فلسطينيون وسوريون ومصريون ومغاربة هي الأبرز في هذه المساحة من المعاناة الإنسانية.

وتعد رواية “فرج” للكاتبة والأديبة المصرية الراحلة، رضوى عاشور، والصادرة عام 2008، واحدة من أبرز هذه الأعمال، إذ تنقل تجربة أجيال متتالية مع السجن، بداية من تجربة والدها، ثم تجربتها هي، وأخيرا تجربة شقيقها الصغير.

وعبر هذه الأجزاء الثلاثة، يعرض ذلك العمل الأدبي تفاصيل الملاحقة والقمع السياسي في فترات مختلفة، وكأنها أرادت القول إن التجربة واحدة ومشتركة.

وعن السجون المصرية خلال حكم عبد الناصر، قدم الكاتب المصري الراحل أحمد رائف عام 1977 كتاب “البوابة السوداء”، الذي رصد فيه تجربته وتجربة رفاق له من جماعة الإخوان المسلمين، إضافة إلى سجناء آخرين شيوعيين وغيرهم، حيث نقل تجارب شخصية جدا له ولرفاقه في أقبية التحقيق والتعذيب.

وفي كتابها “مذكراتي في سجن النساء”، الصادرة عام 2000، تقدم الكاتبة المصرية، نوال السعداوي، عرضا للاعتقال السياسي خلال حكم الرئيس المصري الراحل، أنور السادات (1970: 1981)، الذي شنت أجهزته الأمنية حملات اعتقال كبيرة بحق مثقفين وكتاب مصريين. وتتميز رواية السعداوي لمذكراتها بجمعها بين نوعين من القمع، هما القمع السياسي وما تطلق عليه “القمع الذكوري للمرأة في المجتمع المصري”.

المصدر رصد

أدب شباب السجون.. صُنع في مصر

“هل تعرف ما مصير الحكايات التي لا نكتبها؟، إنها تصبح ملكًا لأعدائنا”.

منذ أن عرف العالم سلطة من بني البشر عرف سجنًا، ومنذ ذلك الحين تحولت تلك “العتمة المبهرة” إلى مساحة تربطنا بها الحكايات، حكايات من عاشوا فيها، من ظُلموا فيها، من ماتوا فيها، ومن عادوا منها إلى الحياة، روحًا قبل أن يكون جسدًا. عُرفت هذه الحكايات حديثًا حينما تم تدوينها وسردها في صورة أدبية باسم «أدب السجون»، واليوم نلقي الضوء على تطور جديد يشهده العالم في هذا اللون من الأدب. ففي العصر الذي سُجن في مصر عشرات الآلاف من الشباب على خلفية احتجاجات سياسية، خُلق ودون ترتيب مسبق نوع جديد من أدب السجون، سنسميه اصطلاحًا «أدب شباب السجون». هذا النوع الجديد تميز بخصال متفردة نتأمل فيها اليوم ونعيد قراءتها لنذكر أنفسنا بهم من جانب، ولنحمي ذكرانا جميعًا من النسيان أو السرقة على الجانب الآخر.

الكتابة طوق نجاة وحيد

 تمثل الكتابة حاليًا في مصر موطن القوة الوحيد للشباب. فبعد هزائم متتالية في كافة الاستحقاقات الأخرى وفقدان الأمل في القدرة على التأثير، بقيت الكتابة كآخر ملجأ لهم، نكتب ونكتب في كافة الفراغات المتاحة للكتابة، نكتب لنسخر ممن يقهرونا، كما نكتب لنخلد من لم نستطع إنقاذهم.

لذا فالكتابة في سجون مصر لها وضع خاص، ففوق كل هذا هي ليست فقط سبيلًا للهروب من إحباط السجون أو طريقة لقتل الوقت حيث لا وقت يمر، كما تخرج معظم كتابات أدب السجون الكلاسيكي، الكتابة هنا تخطّت ذلك لتصبح طوق النجاة الوحيد. الشاب في سجون مصر لا يكتب لتدوين مذكراته كما أنه لا يأمل في جمع كتاباته لاحقًا لنشرها في صورة منتج أدبي، الشاب في مصر يكتب لأنه ما زال يصدق أن هناك من سيقرأ هذه الكلمات وسيتدخل لإنقاذه، أو على أقل تقدير سيتدخل لتحسين ظروف “الحبسة”، الشاب في سجون مصر يكتب تمسكًا بالحياة.

يقول عمر حاذق في رسالته من سجن برج العرب في فبراير 2014 والمعنونة “أن تكتب بجوار برميل زبالة”: “مَنْ كان يتخيل أنني قادر على الكتابة في جوار هذه الصراصير كلها؟”.

ثم يذكر في رسالة أخرى في نهاية ديسمبر 2014 تحسن ظروف كتابته؛ إذ أصبح قادرًا على صنع مكتب صغير من قفص طماطم قديم وزادت الإضاءة المتسربة عبر الزنازين بعض الشيء وتم شفاؤه من “الجرب” الذي أصابه نتيجة انتشار العدوى في سجون مصر رديئة التهوية مزدحمة النزل التي يتكدس فيها أكثر من خمسين شابًا في ثلاثة أمتار، فيقول:

“الحياة تدافع عن نفسها يا إخوتي في محبة هذا الوطن، لذلك لم أقدر على النجاة من هذا الشهر الفادح إلا حين أقنعت نفسي أنني إنسان نظيف لأن قلبي نظيف وهذا يكفي؛ لأنني أحب الحياة والحرية وفقراء شعبي وهذا يكفي، لا تنسوني من محبتكم ودعواتكم وأمنياتكم الجميلة”.

(عمر حاذق، رسالة بعنوان “شجرة الكريسماس في زنزانتي”).

 خرج «حاذق» من سجن برج العرب يوم الأربعاء ٢٣ سبتمبر ٢٠١٥ بالعفو الرئاسي الصادر لمائة ناشط (من بين أكثر من ٤٠ ألف سجين سياسي)، ليكتب بعد ذلك سلسلة من المقالات تحت عنوان “لماذا يموت السجناء في سجون مصر؟”. هي الكتابة مرة أخرى، طوق نجاة يتشبث به من في الداخل والخارج على حد سواء.

مقاومة النسيان وسط زحام الزنازين

“أتعرفين يا آمنة متى يستسلم الإنسان؟، يستسلم الإنسان حين ينسى من يحب، ولا يتذكر سوى نفسه”.

وسط عشرات الآلاف من الشباب في السجون، أصبحت الكتابة وسيلة لمقاومة النسيان، أصبح من يكتبون هم القادرين على لمس أرواح البشر وشغل مساحة في بالهم، هم القادرين على منع أحبابهم من اعتياد غيابهم، في حين يبقى الصامتون منسيين.

ولذلك اتصف “أدب شباب السجون” بحرية في استخدام اللغة، فمن يكتب ليس كاتبًا محترفًا ولا أديبًا يشغله حسن الصياغة وتراكيب الفصحى، من يكتب يهتم بأن ينقل ثقل الظلام الساكن في روحه إلى أحبابه و رفاق جيله، ينقله لهم من وسط عتمة الحقيقة ولكنه يظل مستمسكًا برحابة الخيال.

الشاب في سجون مصر يكتب وهو يبكي في أغلب الأحيان، لذا تخرج الكتابة محملة بالعواطف حتى تكاد تتحول لمشاهد حية وأنت تقرؤها. “يا ناس نصيبها من الوطن أوجاع، الوجع هنا مهما اتوصف مش هيتحس”، هكذا يبدأ طلاب طنطا (أحمد أبو ليلة، إبراهيم سمير، عبد الرحمن سمير) والمحبوسون على خلفية الاحتجاجات الطلابية على بيع حزيرتي تيران وصنافير في رسالتهم الأخيرة، قبل أن ينهوها كالتالي:

“الحرية للحضن اللي نفسه يعدي سلك الزيارة، الحرية للصبح اللي بيتحايل

 على القضبان يدخل علشان نشوفه، الحرية لأصحاب القضية اللي اتنسوا”. 

يقضي طلاب طنطا الآن مدة التجديد الثالثة على ذمة تحقيقات تتهمهم بالتعبير سلميًّا عن رفضهم لبيع الأرض، وما زال زملاؤهم وأحبتهم متمسكين بألا يسقطوا في بئر النسيان.

مراجعات وسط حطام الهزيمة

“نحن لسنا أبطالاً، ولكننا مضطرون أن نكون كذلك”.

هُزم جيل الشباب وهو الآن يتلقى عقابه على مطالبته بالتغيير والحرية والعدالة الاجتماعية في يناير، ووسط ظلام السجون يتلقى هؤلاء الشباب صدمة جديدة تدفعهم لمراجعة كل ما آمنوا به، تتطور كتابات المحبوسين منهم تبعًا للمدة، وتبعًا للأمل في الخروج، في حين تصبح أكثرها اتساقًا مع الحقيقة مع من حصلوا على أحكام بالسجن وليسوا فقط محتجزين كمحبوسين احتياطيًا. تشهد كتابات هؤلاء على وجه الخصوص مراجعات شديدة الأهمية في نهج أفكار جيل مكتمل، تعيد تقييم مساره الاحتجاجي والتنظيمي، كما لا تخلو من ندم على أخطاء اقترفوها وفرص تم إضاعتها من بين أيديهم.

“ليس لدي شيء لأقوله: لا آمال، لا أحلام، لا مخاوف، لا محاذير، لا رؤى، لا شيء، لا شيء مطلقًا. لقد حاولت أن أتذكر ما كتبته للجارديان منذ خمس سنوات مضت حينما عشت آخر أيام حياتي الطبيعية. إني أحاول أن أتخيل من قرأوا ذلك المقال، وأي تأثير كان له عليهم. أحاول أن أتذكر كيف كانت الحياة حينما كان الغد يبدو مفتوحًا على المُمْكِنات، وحينما بدا أن كلماتي لها فعالية التأثير (ولو قليلًا فقط) على الصورة التي يمكن أن يبدو عليها ذلك الغد”.

(علاء عبد الفتاح في رسالة نشرت في الذكرى الخامسة للثورة).

هذا الشعور العميق بالحزن الممتزج بالملل القاتل من ظلام السجن لم يمنع هذه الكتابات من أن تحمل بين طياتها شعورًا بالفخر على الأوقات التي استطاع فيها هذا الجيل أن يملك زمام حياته وأن يغير من المعادلة ولو لم يمتد هذا إلى القليل من الزمن. يقول «أحمد سعيد» الطبيب المصري الذى يقضى حكمًا بالسجن لعامين على خلفية قانون التظاهر: «لكنني فعلت ما فعلت حتى أشعر بأنني حر، وكي أسترد حريتي قبل أن تتحول إلى ذكرى فحسب، وحتى أحافظ على بصيص الضوء الأخير الذي انبثق من الثورة، وعن حلم الزمن الذي شعرت فيه بأنه لا بد لأحدهم من أن يفعل هذا».

“رغم ذلك، هناك أمر واحد أذكره فعلًا؛ شيء واحد أعيه: الشعور بالاستطاعة كان حقيقيًا. ربما كان من السذاجة أن نصدق بأن أحلامنا قد تتحقق؛ لكنه ليس من الغباء أن نعتقد بأن عالًما آخر هو شيء ممكن. لقد كان كذلك بالفعل، أو على الأقل تلك هي الصورة التي أذكر بها الأمر”.

(علاء عبد الفتاح في رسالة نشرت في الذكرى الخامسة للثورة).

نربي الأمل ونحب الحياة

“وإن عشنا سأذكرك أننا سنبكي كثيرًا بعد أن نتحرر”.

قد تكون هذه هي الصفة الجامعة الوحيدة في كافة كتابات هذا الجيل، لتصبح هي الصفة المميزة لأدب شباب السجون كما سميناه في بداية هذا المقال، حب الحياة هو المحرك لكل هذا، لا فارق بين كتاباتهم الحزينة وتلك الفرحة، المتفائلة وتلك التي أصابها الإحباط، الكتابات التي تدّعي القوة وتلك التي تعترف بأنها وأصحابها قد أصابهم الوهن، الجميع وخلف كل هذه الرتوش يتمسك بحبه للحياة.

“هذا الجيل الذي شعر في لحظة ما أنه أمام ميلاد جديد لوطن يعشقه، تخلى عن كل ما يشغله لبناء مستقبله الشخصي والتفت بكل كيانه لهذا البناء الجديد”.

(من رسالة جعفر الزعفراني إلى ابنته).

هذا الجيل قد فتح عينيه على أحلام وآمال في عالم أفضل، اتصل بباقي البشر في مختلف أنحاء العالم وتمنى أن يلحق بركب التطور البشري حتى أصبحت غايته الأسمى هي السعادة، فلما ارتطم ببشاعة الماضي وضيق أفقه عاد ليلجأ لدافعه الوحيد للبقاء على قيد الحياة، وهذا الدافع هو ما يدفعه كل يوم للكتابة، الأمل في أنه يومًا ما سيحيا حياة سعيدة، تلك الحياة التي أحبها قبل أن يراها.

يقول الباحث والحقوقي محمد ناجي في رسالته الأخيرة التي كتبها من محبسه إثر إلقاء القبض عليه بتهمة التعبير سلميًّا عن رفضه لبيع جزيرتي تيران وصنافير:

“لعلك تتساءل الآن وأنت تقرأ هذه السطور عن كيفية دخول شخص يدعى حب الحياة بهذا الشكل في إضراب مفتوح وكلي عن الطعام منذ الأربعاء 18 مايو 2016. أليس هذا تناقضًا؟!، لا. لا أراه كذلك على الإطلاق بل هو قمة الاتساق؛ فأنا الآن أدافع بحياتي عن حياتي، أقامر بكل شيء من أجل كل شيء. ومن ناحية أخرى لم يأت هذا القرار من إحباط أو يأس وإنما الأمل، ذلك الأمل الذي يدفعنا إلى استخدام كل أسلحتنا لتحقيق ما نحلم به”.

قبل أن يختتم رسالته بجملة نجيب محفوظ الخالدة في الحرافيش: “لا تجزع، قد ينفتح الباب يومًا لأولئك الذين يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة”.

مجلة المجتمع

لأنّهم قالوا .. لا مذكرات سجنية الحلقةالثالثة

وسرقوا بيتي

            هل فهمتم من العنوان أنهم سرقوا بعض محتويات بيتي، أو أنهم سرقوا بيتي كله واغتصبوه! كلا الفهمين صحيح. فمرّة فعلوا هذا، ومرة فعلوا هذا. ولا يخفى عليكم من هؤلاء الذين سرقوا؟ إنهم هم، وليس غيرهم!.

        في شهر آذار من عام 1973 كان عملي قد استقرّ مهندساً في مؤسسة المشاريع الكبرى –مديرية صوامع الحبوب- موقع حلب، فجاء قرار بنقلي إلى الرقة لأكون مسؤولاً عن موقع الصوامع هناك،  الذي هو في طور التأسيس.

        وفي الأيام الأخيرة من الشهر المذكور التحقت بعملي هناك، ونقلت معي زوجتي وطفلتي ذات الأشهر الثلاثة. وحتى لا يبقى بيتي فارغاً، أعطيت مفتاحه لأحد فتية الحي، من روّاد المسجد، حتى يتردّد على البيت، أو يستخدمه في تحضير دروسه المدرسية…

        وما هي إلا أيام، حتى بدأت الاعتقالات بمناسبة الاحتجاجات الشعبية على دستور حافظ أسد. ولم يكن أمام الجماهير المحتجّة إلا وسائل بسيطة، وطرق ضيّقة، للتعبير عن احتجاجها. فقام بعض الشباب بكتابة شعارات على جدران الشوارع تندّد بذلك الدستور، مثل: “لا، للدستور الظالم”. وألقي القبض على أحدهم، وتحت التعذيب اعترف على بعض من له به علاقة، وبعض هؤلاء اعترفوا على علاقة بي، ليس في شأن تلك الكتابات، ولكن بشأن التنظيم في جماعة الإخوان المسلمين!.

        جاءت دورية مخابرات لاعتقالي، لكني كنت –كما ذكرت آنفاً- قد انتقلت إلى الرقة، وكان في البيت الفتى الذي سلَّمته مفتاح البيت، وبعض أصدقائه، وأستاذ لهم يعطيهم درساً خاصاً في مادة اللغة العربية.

        وحتى لا تعود الدورية خائبة، فقد اعتقلت كلَّ من في البيت، وسكنت البيت نفسه، وجعلته مصيدة، تعتقل كلَّ من يطرق بابه!. واستمرَّت على ذلك أسبوعين أو يزيد.

        وعلى إثر مجيء الدورية إلى بيتي شُكِّلت دورية أخرى فسافرت إلى الرقة، واعتقلتني هناك.

        بعد مضيِّ نحو ثلاثة أشهر، سمحت إدارة فرع مخابرات حلب، حيث كنت معتقلاً، بأن تزورني والدتي. وفي الزيارة أخبرتني، أنَّ عناصر المخابرات الذين احتلوا البيت مدة أسبوعين سرقوا منه ما خفَّ حمله، وغلا ثمنه، ومن جملة ذلك بعض القطع الذهبية، وبدلة جديدة لي، لم أكن لبستها إلا مرة واحدة، وأشياء أخرى.

        شكوتُ إلى المحقق ما فعلته الدورية، فنفى أن يكون عناصرها قد سرقوا شيئاً، وقدّم دفاعاً قوياً عنهم. قال: وماذا يفعلون بالذهب؟! وما يفعلون بالبدلة؟! وماذا يستفيدون من تلك المسروقات؟!! وانتهى التحقيق.

*   *   *

        وفي صيف عام 1980 جاءت دورية لاعتقالي من بيتي. ولم أكن فيه! فتواريت عن الأنظار، ثمَّ تمكنت من الخروج من سورية. وبقي البيت مغلقاً، إلى أن وَضَعَ مساعد في المخابرات العسكرية يده على البيت فاحتلّه، وسكنه “مفروشاً” هو وأسرته الكريمة!.

        لم يكن هناك أمرٌ بمصادرة البيت. ولكن متى كانت العصابات تنتظر الأوامر؟! إنها شريعة المافيا. فقد استباحه ذلك “العنصر” واتخذه مسكناً لأسرته.

        وعَلِمَ أخي “مطيع” –رحمه الله- بالأمر، فاحتال على طريقة للسؤال عن البيت. وذهب إلى المخابرات ليقول لهم: إنَّ أخي مسافر خارج القطر، وبيته فارغ، ولكننا وجدنا حَرَكَةً في البيت، وإشعالاً للأضواء فيه، فلعلَّ بعض “الحرامية” قد فتحوا بابه واغتصبوه!.

        فقالوا له: “لا. إنه في أيدٍ أمينة. إنَّ بيت أخيك هو بيتنا، ونحن نحافظ عليه. ولا حاجة لأن تسأل عنه مرة أخرى. أفهمت؟!”.

        وتذكَّرتُ الأيدي الأمينة التي كانت تحتفظ بثمن النفط السوري كله مدة ثلاثين سنة كاملة، فهذه الأيدي من تلك. قطع الله هذه الأيدي وتلك!.


أبو غياث

إنه نفسه، المحقق عبد القادر حيزة، الذي كان رئيس الدورية التي جاءت لاعتقالي.

متوسط الطول، ذو كرش كبيرة، أسمر اللون، شعره أسود خفيف، يتأنق بملابسه ليبدو منظره مقبولاً.

وهو يحوز درجة متقدمة في الغباء وضعف الثقافة!!

قد يتصنّع اللطف أحياناًً، لكن طبعه سرعان ما يخونه، فتبدو فظاظته المنكرة.

وولاؤه للسلطة التي يخدمها كولاء كثيرين: متسلّق، متكسّب، مرتزق، يروقه ممارسة التعذيب على الآخرين ليستكمل التحقيق، ويرضي مشاعره الساديّة. وهو يلوّن في الأساليب، بين استعمال الخيزرانة، والصعق الكهربائي، واللكمات والشتائم…

لكنه إذا شعر أنه استكمل التحقيق وختمه، ثم ظهرت له معلومة جديدة تقتضي منه إعادة النظر في النتائج، فإنه يتقاعس، ويكتفي بأن يأخذ المعلومة لنفسه!.

في أثناء التحقيق معي في اليوم الأول، حين كان النقيب دياب يتولى رئاسة فريق التحقيق، تدخّل أبو غياث ليوجه إليّ تهمة غريبة تنمّ عن ثقافته الأمنية والدينية والأدبية! قال لي: أنت المسؤول عن توزيع الكتب في جماعة الإخوان المسلمين!. قلت له: كيف ذاك؟ ليس عندنا مثل هذه الوظيفة. نحن نشتري الكتب من السوق، أو من “السوق السوداء” وندفع ثمنها من جيوبنا… قال: إذاً لماذا عندك عشر نسخ من كتاب سيد قطب، هذا الذي يبحث في القرآن (وبدأ يتلعثم ليتذكر اسم الكتاب) فقلت له: تقصد: “في ظلال القرآن”؟ قال: نعم، هذا الكتاب عندك منه في البيت عشر نسخ، وقد فتشنا بيتك وأخذنا إحدى النسخ!. قلت له: إنها ثمانٍ وليست عشراً!. قال: لتكن ثمانياً؟ لماذا هذا العدد كله؟! قلت له: إنه كتاب واحد في ثمانية مجلدات! ألا تعلم أن هناك كتباً كبيرة تضمّ عدداً من المجلدات؟!

وفي اليوم الثالث، بعد حفلة التعذيب الثانية، قام أبو غياث هذا بجولة من التحقيق، فلم يقصّر في التعذيب والإيذاء. فعلى الرغم من أن الحفلتين قد استنفدتا معظم ما يمكن أن يأخذوه، فإن بعض الصعقات الكهربائية، وبعض الخيزرانات، وما يرافق هذه وتلك من لكمات وشتائم… هي من لوازم التحقيق!.

ولقد كنت بالفعل ناشطاً في التنظيم قبل دخولي السجن، ومعظم الإخوة المعتقلين يعرفونني، وقد كنتُ سبباً في تنظيم عددٍ منهم… وحين شاع في غرف السجن وزنزاناته أنني معتقل معهم، صار كل أخ منهم إذا سئل: من الذي نظّمك؟ أشار إليّ، سواء أكنتُ أنا الذي نظّمه أم لا، وذلك حتى لا يوقعوا إخوة آخرين ويتسببوا في اعتقالهم. وقد سرّني هذا السلوك الذكي منهم، ولكن المحقق أخذ عني فكرة -بسبب ذلك- هي أنني نظّمت عدداً هائلاً من الشباب.

كان إذا أراد أن يتثبت من إحدى المعلومات، أو يحل إحدى معضلات التحقيق يأتي إلى زنزانتي ليسألني، فأحاول أن تكون إجابتي “محسوبة”!. جاءني مرة ليسألني أتعرف فلاناً (سأسمّيه عبد الله المهندس)؟. كان السؤال صاعقاً لي. فهذا الأخ ليس من حلب. وإذاً كيف وصل الاعتقال إليه، وكيف توقّع المحقق أن يكون عندي علمٌ به. وكان لا بدّ من الإجابة سريعاً. وبما أنه سأل عن اسم حقيقي فهم يعرفونه. ولكن هل يعرفون أنه منظّم؟!..

دارت مثل هذه الأسئلة في ذهني، ربما في ثانية واحدة. قلت للمحقق: نعم أعرفه!. قال لي: هل هو من الإخوان؟! قلت: وما يدريني؟!.

اكتفى بهذا الجواب وذهب. أما أنا فقد بدأت أفكّر إلى أيّ مدى امتدّت الاعتقالات؟ وكيف تمّ الربط بين المعلومات في محافظات متعددة؟!.

بعد حوالي ساعتين، جاءني المحقق إلى زنزانتي (أمام المرحاض) هو ومحمد سعيد بخيتان، وكانا، على غير العادة منشرحين يبتسمان لأمر ما. قال: قلتَ لي إنك لا تعرف هل عبد الله المهندس منظَّمٌ أم لا؟! لقد اعترفَ أنك أنت الذي نظمتَه!. والله إن الطير الذي يطير فوقك في السماء تنظّمه! ولو أنني ترددتُ على بيتك مرتين لنظَّمتني! قلت له: لا، والله! فابتسم هو وصاحبه وذهبا، وذهبتْ مثلاً. فقد كان بعض الإخوان في الزنازين المجاورة يسمعون الحوار، فكانوا بعدئذ يصفونني بأنني أنظم الطير الذي يمرّ فوقي في السماء!.

والمحقق لم يسألني كيف نظّمته ومتى؟! ولو سألني لأحرجني. لقد نظّمته بالفعل، ولكن كيف سأذكر له مناسبة ذلك، وتكون متطابقة مع ما ذكر أخي عبد الله المهندس؟!..

بعد أيام حدث لقاء بيني وبين الأخ عبد الله وسألته عن سبب اعتقاله، وعن اعترافه بالتنظيم… فذكر أنه كان يؤدي خدمة العلم، وأن الدورة التدريبية العسكرية كانت في مدرسة المشاة وقد تعرّف إلى بعض إخواني من الحلبيين فدلّوه على بيتي، وجاء ليزورني فكان عناصر المخابرات قد احتلّوا البيت فاعتقلوه، وحين أتوا به إلى السجن وعلم بوجودي اعترف أنني نظّمته، لكنه ذكر لهم مناسبة لتعرفي عليه، وتنظيمي إياه، لا يمكن أن تخطر ببالي فيما لو سألني المحقق أن أتحدث له عن ذلك.

وبعد مضي حوالي ثلاثة أسابيع على الاعتقال، وكان التحقيق قد انتهى (نسبياً) وبدأنا نشعر بشيء من الاستقرار، جاء أمرٌ من رئيس الفرع بحلق اللحى للإخوة الملتحين، وكان معظمنا كذلك.

لم تكن هناك جدوى من المقاومة والامتناع. جاؤوا بحلاق فحلق لنا اللحى، ورحنا ينظر بعضنا في وجوه بعض، ونتذكّر قول السيدة عائشة الصديقة التي كانت تحلِف: “والذي زَيَّنَ الرجال باللحى، والنساء بالشعور”. لقد ذهبوا بهذه الزينة، قاتلهم الله.

ومرّ بنا المحقق ووجَدَنا جميعاً حليقي اللحى، فتبسّم ابتسامةً صفراء وقال: أمرُ حلق اللحى لم يصدر من عندي، لقد صدر من رئيس الفرع. لو كان الأمر إليّ لأمرتُ بحلقها منذ اليوم الأوّل!.

لقد ظننّا أن الغبي يريد أن يعتذر لنا، وإذا هو يعبِّر عن لؤمه وحقده على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم!.

كان المحقق يعود إلينا، أو يطلبنا إلى غرفة التحقيق بين الحين والآخر كلما قرأ الملف الخاص بكل منّا، ووجد فيه بعض الثغرات… لكنه، بعد هذا كله، لم يستطع أن يكمل الصورة. فهو لم يعرف، طوال خمسة أشهر، ما معنى المكتب التنفيذي، وما معنى مجلس الشورى، وإدارة المركز…. وكان إذا سألني، أستجلي من صيغة سؤاله التصور الذي عنده، فأعلم أن الصورة التي عنده -على بساطتها- مضطربة، فأعمل على تثبيت الاضطراب أو زيادته!.

[استدراك: ذُكِر لي، بعد نشر الكتاب، أن المحقق عبد القادر حيزة قد تحسّنت حاله في آخر أيامه، ومال إلى التدين، ثم توفي!]

أبو سعيد بخيتان

شاب في الثلاثينيات من عمره، طويل القامة، حنطي اللون، رتبته ملازم أول، ووظيفته: نائب رئيس فرع المخابرات العامة بحلب.

هكذا كان يوم دخلتُ المعتقل في نيسان 1973، أما حين أطلق سراحي بعد أربع سنوات فقد كانت رتبته نقيباً أو رائداً، وكانت وظيفته رئيساً للفرع المذكور. وهو الآن عضو في القيادة القطرية، ورئيس لمكتب الأمن القومي!. إنه اللواء محمد سعيد بخيتان.

من مهماته – يوم كان نائباً لرئيس الفرع- صناعة العملاء، وشراء الذمم والضمائر، يستخدم في ذلك التهديد والإغراء، وبعض الفكاهة، ويساعده في ذلك ذكاؤه. ويمارس التحقيق مع المعتقلين أحياناً.

وليس بالضرورة أن يكون حادّ الذكاء، إنما إذا قورن بمعظم من نعرف من ضباط المخابرات السورية… كان من أذكاهم.

والحقيقة إنه يصعب على الذكي أن يعمل في مثل ذلك السلك، فالمهمات المطلوبة منه تحتاج إلى ذكاء، نعم، لكنها كذلك تتناقض مع الذكاء، بل مع العقل، إذ كيف يطيق الذكي أن يَسْجِن ويُعذِّب إنساناً بتهمة أنه يفكر تفكيراً منطقياً، ويعتقد اعتقاداً سويّاً، ويعارض السلطة الغاشمة بلسانه أو بقلمه، ويرفض أن يهتف أو يصفِّق للطاغية، أَقْصِدُ: للقائد الملهم بطل الجولان!.

وصاحبنا أبو سعيد يدرك منذ الأيام الأولى، تلك البنية الطائفية للنظام وفشوّ المحسوبيات والرشاوي…

ومن خلال التحقيق الذي يمارسه أحياناً، ومن خلال الجلسات التي يحاول بها شراء الذمم.. يسرِّب كلمةً هنا، وكلمة هناك.. لتفهم أنه مخلص لمهنته، لكنه عارف بمفاسد الأوضاع القائمة في السلطة، عالمٌ بأنَّ السلطة تتربَّص بالإسلاميين لتُوجِّه إليهم ضربةً تعيدهم إلى الصفر.

لقد كانت المناسبة التي اعتُقِلتُ بسببها هي أنَّ حافظ أسد، الذي قام بانقلابه على رفاقه في 16 من تشرين الثاني عام 1970م، وبدأ يسيطر على مفاصل السلطة، ويرسي قواعد حكمه… أصدر دستوراً للبلاد عام 1973م، وأراد أن يحمل الناس على قبوله.

وحدث، نتيجة ذلك، غليان شعبي، لا سيما في أوساط المتدينين، لإظهار الاستنكار لهذا البلاء. ولكن ماذا يفعل الناس؟! ليس عندهم صحافة أو إذاعة أو منتديات… يعبِّرون فيها عن غضبهم. فكل هذا، وغيره كذلك، قد استحوذت عليه السلطة التي يقول رأسها: “سنحارب أعداء الديمقراطية بمزيد من الديمقراطية”! وعلينا أن نصدِّق!.

كان من الوسائل القليلة التي عبَّر بها بعض الشباب عن سخطهم على هذا الدستور أنهم راحوا يكتبون على جدران الشوارع عبارات السخط والتنديد، مثل: “لا، للدستور الظالم”.

وضبط بعض الشباب بـ “الجرم المشهود” واعتُقلوا وعُذِّبوا فاعترفوا على غيرهم… وكان بعضهم من الإخوان المسلمين، وتتابعت الاعتقالات بأن تُستخلص اعترافات من المعتقل تحت التعذيب، فتتّسع الدائرة ويؤتى بمعتقل جديد.

في أثناء التحقيق الثانوي معي (بعد تحقيق الليلتين الأُوليين) قلت لبخيتان: أنتم تقولون: إنكم اعتقلتمونا بسبب الشعارات التي كُتبت على الجدران استنكاراً للدستور. لكنكم لم توجِّهوا إليَّ أيَّ تهمة بهذا الخصوص، فهل يمكن أن تذكر لي: ما دوري في مسألة كتابة الشعارات؟!.

قال: لا دور لك فعلاً، ولكننا كنا نريد “ضربكم” منذ زمن بعيد، وكنا ننتظر مناسبة، فهذه كانت “المناسبة”.

إذاً فالنيّة كانت مبيَّتة، وضربُ التنظيم مقصود، إنما هو انتظار المناسبة.

ومرّةً قدّم إليّ سيجارة للتدخين، فقلت له: أنا لا أدخّن، والحمد لله. ولحظت أن باكيت السجائر، عليه اللصاقة الخاصة بالصناعة السعودية، يعني أن التبغ مهرَّب, فقلت له: كيف تدخِّن تبغاً مهرَّباً؟! (تجرَّأت عليه بهذا السؤال وبما بعده لأن الجوَّ كان مريحاً، يسمح بالحوار).

قال لي: أنزاود على بعضنا؟! إنه أرخص ثمناً من الدخان الوطني.

قلت: أنت رجل “أمن” ويجب أن تنظر إلى مصلحة الاقتصاد الوطني.

قال: كل الناس يدخنون منه فلماذا أمتنع أنا عنه؟!.

قلت: بإمكانك أن تضبط من يبيعه وتعاقبه وتمنع التهريب؟.

قال: أهذا الولد الذي يبيع في الشوارع من الصباح حتى المساء ليحصّل قوت أهله أو عياله.. نعاقبه ونحرمه من رزقه؟.

قلت: هذا الولد يدلُّكَ بسهولة على من فوقه ثم من فوقه، حتى تصل إلى المهرِّب الكبير.

قال: المهرِّب الكبير يكون مدعوماً ولا أستطيع عقوبته!

*   *   *

ومرة استدعاني إلى غرفته، وراح يساومني: “إذا لم تتعاون معنا فقد تبقى في السجن سنة كاملة”.

كنا نتوقع أن لا يستمر اعتقالنا سوى أيام أو أسابيع. فالتهديد بالسَّنة له معناه. وفي الواقع بقيت أربع سنين ويوماً!.

وقال: “سوف نسرِّحك من وظيفتك”.

قلت: هذا لا يهمني، فأنا مهندس، قد أحتاج إلى الوظيفة سنة أو اثنتين بعد التخرج، أما الآن وقد مضى على تخرجي ست سنوات، فالتسريح من مصلحتي.

قال: وماذا تفعل إذا سرّحناك.

قلت: يمكن أن أعمل بالتعهدات مثلاً.

قال: وهل معك رأس مال لهذا العمل؟.

قلت: لا، ولكن…

قاطعني وقال: نحن مستعدون لأن نعطيك رأس المال الذي تحتاجه، ونستطيع أن نجعل المشروع الذي ترغب بتنفيذه من نصيبك، أي نجعل المناقصة ترسو عليك.

قلت: لا حاجة لي بذلك. فهناك من يثق بأمانتي، ويستثمر أمواله عندي.

سَكَتَ قليلاً ثم قال: الوزارة الحالية توشك أن تتغيّر. وفي الوزارة الجديدة نعطيك موقع وزير الصناعة!.

قلت: وهل تتوقع أن أقبل المشاركة في وزارةٍ عندكم؟!.

وبينما هو يحدثني جاءته مكالمة هاتفية، فتكلم فيها نحو دقيقتين. وفي أثناء ذلك رحتُ أقلِّب بصري في محتويات الغرفة الأنيقة. ولفت نظري جهاز راديو ذو تصميم جميل.

قال لي: هل أعجبك هذا الجهاز.

قلت: نعم، إنه جميل.

قال: نريد أن نهديك إياه، مقابل أن تعمل معنا!.

ابتسمت وقلت: لا حاجة لي به.

قال لي: هل تعشَّيت؟.

قلت: لا.

قال: سأصحبك معي إلى العشاء في (البلو أب).

قلت: وما هذا البلو أب؟.

قال: مطعم ظريف. يقدِّم “المشروبات”. أنا أعلم أنك لا تشرب. ولكن سنقعد على الطاولة ونضع عليها بعض المشروبات، ونلتقط لك بعض الصور، ثم نعرضها على إخوانك المعتقلين ونقول لهم: انظروا، هذا معلمكم وشيخكم الذي تثقون به. إنه يقعد على مائدة الخمر.

والحقيقة إنه لم ينفذ وعده، أو تهديده هذا. إنما أراد فقط أن يعرِّفني بالأساليب الساقطة التي يستخدمونها.

ومرة كان يحقق مع أحد الإخوة المعتقلين، وكان هذا الأخ قد تلقى تعذيباً شديداً فقال: أليس دستوركم الذي تعتقلوننا بحجة اعتراضنا عليه ينصُّ على حفظ كرامة المواطن، وحُرْمة البيوت و…؟ وها أنتم هؤلاء تنتهكون ذلك كله؟! قال أبو سعيد: وهل تصدِّق شيئاً مما ينصُّ عليه الدستور؟! لقد وضعنا هذه المواد في الدستور كي نضحك عليكم فقط!.

*   *   *

بعد مضيِّ أربع سنوات على اعتقالي، وفي اليوم الذي ابتدأت به سنة خامسة جاءت سيارة (باص كوستر) إلى سجن حلب المركزي، حيث كنت أقضي فيه الفترة الأخيرة من سجني منذ ثمانية عشر شهراً، ونقلت مع عدد من المعتقلين إلى فرع مخابرات حلب، الفرع الذي قضيت فيه الأشهر الخمسة الأولى من الاعتقال.

دخلنا إلى بهو كبير في الطابق الأول، حيث غرفة رئيس الفرع وبعض المحققين…

اصطففنا بشكل عفوي على محيط البهو، ونحن ننتظر أن يأتي أحد المسؤولين ليلقي فينا “كلمة”! أو نستدعى واحداً واحداً إلى غرفته. ولم يطُلْ الانتظار فقد كنتُ أولَ من نودي عليه، وخرج الرائد بخيتان إلى باب الغرفة ليستقبلني!. مددت يدي لمصافحته، فمدَّ ذراعيه ليعانقني ويقبِّلني وقد بدا السرور على وجهه. قلت: إذاً ما زلت تذكرني! قال: وهل تشكُّ في ذلك؟!.

أدخلني إلى الغرفة، وأجلسني قبالته وقال: لقد رفعت بشأنك عدداً من الكتب من أجل الإفراج عنك. وضَغَطَ زرَّ الجرس، فجاء النقيب سحلول وانحنى أمامه باحترام. قال له: أحضِرْ لي ملفَّ الأستاذ لنطلعه على الكتُب التي أرسلناها بشأنه. خبط سحلول قدمه على الأرض وانحنى من جديد وانصرف ولم يعد!!.

إنها طريقة لتمرير الغشّ والكذب، فلا ملفات ولا هم يحزنون. وبالمناسبة فإن النقيب الذي ينحني ويقف باستعداد “كالقملة المفروكة” هو ذاته كان رئيس الدورية التي أحضرتنا من سجن حلب المركزي إلى فرع المخابرات، وقد رأيته عندما جاء إلى سجن حلب، كيف كان يتصرف بعجرفة واستعلاء، ولا يعبأ بضباط الشرطة ولا بغيرهم، لأنه من خِلْقَةٍ أخرى، أو لأنَّ الدم الأزرق يجري في عروقه، دم المخابرات النبلاء!.

*   *   *

بقيت مسألتان مما أريد الحديث عنه بشأن “أبي سعيد”:

الأولى: أنه لا يحب أن يعذِّب المعتقلين، وإذا احتاج إلى تعذيب أحدهم يأمر الجلادين بذلك ويذهب هو إلى غرفته كي لا يتمّ التعذيب أمام عينيه. ولكن هذه القاعدة ليست مطّردة، فقد يمارس التعذيب بيديه، أو يمارسه الجلادون أمامه. وقد حدثني أحد الإخوة الفضلاء أنَّ أبا سعيد قد حقق معه فصفعه على وجهه صفعات، وقام بنتف لحيته بيده.

هكذا طبيعة هذا السلك. لا يمكن لمن يعمل معه أن يحافظ على قدرٍ مناسب من الطهارة. هذا إن افترضنا أن العنصر المذكور طاهر!.

الثانية: في أواخر عام 1977، أو أوائل 1978، حَدَثَ أنَّ مدرِّبة الفتوّة في إحدى المدارس الثانوية للبنات في حي الأنصاري بحلب، أرادت إلزام الفتيات بنزع الحجاب. ويقال: إنَّ رسالة وصلت إليها بالبريد تهدِّدها (بالضرب أو القتل، لا أدري) إذا هي عادت لإلزام الفتيات بذلك.

عُرضت الرسالة على المخابرات، وكان من الصعب، أو من المستحيل، معرفة من الذي كتب الرسالة، وكان رئيس الفرع آنذاك أبا سعيد، فقام باستدعاء بعض رجالات الحي ليحقق معهم. وكان من هؤلاء أحد الأساتذة الفضلاء.

أبو سعيد: من الذي كتب الرسالة؟.

الأستاذ: وما يدريني بذلك؟!.

أبو سعيد: سأنتقل إلى موضوع آخر. أنت تعلم أنه يحدث بين الحين والآخر عملية اغتيال لبعض رموز السلطة. فمن يقوم بذلك؟.

الأستاذ: أتسألني أنا عن هذا؟! أنت رئيس فرع المخابرات، وعليك أنت أن تعلم.

أبو سعيد: الذي ينفّذ تلك العمليات أحد اثنين: إما واحد تابع لأحد مراكز القوة في السلطة، فلا أنا، ولا غيري، يستطيع أن يكشفه! وإما واحد: الله معه، ويرسل له ملائكة تحميه!.

ولا تعليق!.

التقميطة المغربية بقلم زكرياء بوغرارة

قمَطَ الأَسِيرَ : جَمَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ بِحَبْلٍ

قمط يقمط ويقمط ، قمطا ، فهو قامط ، والمفعول مقموط• قمط المولود : ضم أعضاءه إلى جسده ، ولفه بالقماط . • قمط الثوب : ضيق وسطه أو أسفله حتى يلتصق بالجسم .

قمط يقمط ، تقميطا ، فهو مقمط ، والمفعول مقمط• قمطت الأم المولود : قمطته ، ضمت أعضاءه إلى جسده ولفته بالقماط .

°°°°°°

انصت يا صديقي لقصتي.. أنها   موجعة..

من تلك اللحظة الفارقة   بالنسبة لي أصبح أسمي …

تقمّط قهرا …

لاتعجب.. إنه اختصار لحالة قهر   لاتزال متواصلة كالسلسلة

   في تلك اللحظة.. فقدت القدرة على الحركة والتركيز ..

كان ذهني مشتّتا .. كأنما هو فخار يكسر بعضه ..

لا أدري من أين خرجوا ؟؟

هل كانوا يتخفّون سرا في مكان ما ..

أم أنّ الأرض انشقت عنهم ليبرزوا فجأة ..

كأنما هم أشباح لا ترى منهم إلا لون السواد وتلك العيون المقتدة شررا المتحفزة لشيء ما …

كنت لحظتها أجهل سبب خروجهم… شككت للحظة انني حضرت العفاريت وعجزت عن صرفهم

كان كبيرهم يضع على رأسه قبعة الكايبوي..   ويخفي عينيه وراء نظارة سوداء مظلمة… في يديه سيجارته…

لم يمهلوني سوى لحظات قصيرة جدا لاتكاد تبين ..

كأنما هي لمح البصر..

إندفعوا نحوي بقوة ثم إختفيت…

بعد أن بتلعتني تلك السيارة البيضاء من نوع لوندروفر كبيرة الحجم ….

كان في حلقي   شيء مثل المرارة وأنا أحاول أن استوعب ما يجري من حولي .. وأنني صرت مشروع انسان   محذوف …

لحظتها شعرت بالأسى وبعجزي كإنسان… قليل الحيلة وبمرارة الزمن المرّ في حلقي..

أمام قوى هائلة   هائلة جدا

كنت افكر .. في تلك الخمسة دقائق التي سبقت لحظة ارتطامهم بي أو إرتطامي بهم…

قبل خمسة دقائق فقط كنت حرا ..

أخال نفسي وكأنني أطير   في الفضاء البعيد كاليعاسيب..

هكذا تخيلت حريتي   وقتذاك وهي تسحب مني وانا انسحب بدوري من الحياة ومن هذا الكون لأختفي في المكان القصي المجهول….

حاولت عبثا أن اشم كمية من الهواء .. لأملئ بها رئتي ..

لكن شيئا ما كان يرشح في أعماقي   غير الهواء الذي لم يصبح   له أي معنى

أنها الخيبة .. الخيبة الكبرى

حاولت وأنا في قبضتهم كالعصفور الذي قص جناحاه..   أحاول أن أتبين أي طريق سيسلكونه…

كانت مرارة الإحساس بأني صرت أسيرا… قاتلة

لا ادري متى تنتهي تلك الحالة التي اعترتني…

كما لا ادري الى متى ستظل   تنتابني مع كل الأحاسيس المتبانية .. هي مزيج من الخوف   والقلق والترقب والضجر والانقباض والحيرة ….

قبل   أن يزجوا بي في السيارة اللوندروفر البيضاء

دنا مني الحاج قال بصوت فيه بحة خشنة..   إنها مميزة   خلته   كقرصان   عينه اليسرى منطفئة يضع حولها عصابة سوداء كابن غوريون … ثم وهو يحتسى الخمر بشراهة

فهو يتأرحج بين الصحو والثمالة…

هكذا كان   في مخيالي في تلك الهنيهات من الزمن التي وقفت امامه جسدا بلا حراك

كان صوتا كريها… أو ربما هو إحساسي بالكره إتجاههم هو من جعلني أشعر بالكراهية له

إنه لايزال عاللقا   في ذاكرتي…

{ أنتم إعتديتم علينا ….

نحن لا نعتدي على أحد}

بعدها….

سقطت قهرا داخل السيارة

لحظتها فقط تبيّن لي أنني قد سقطت مقمّطا

تبين لي أنهم   قمّطوني بعناية فائقة

خلت نفسي   كطفل رضيع يستسلم بين يدي أمه وهي تقمّطه

انها ايدي ناعمة صديقة ..

أما هؤلاء فأيدي معتدية …

مسافة هائلة تدير الرؤوس بين التقميطتين

ثم بعد التقميطة العصية وضعوني في شيء كالكيس…

كنت أشم بصعوبة   بالغة تلك الرائحة وذلك العفن الهائل

سحبتني اللحظة إلى الوراء .. أوغلت في الغوص في عمق الذاكرة لتصل بي إلى   البدايات.. عندما قال لي العياشي

ذات نقاش مرّ كان بيننا

كانت مرارته في صدر   كل واحد منّا..

{إنهم يراقبون التراب }

قلت بمرارة { وما فوق التراب}

   كنّا لحظتها على طرف نقيض.. وفي مفترق طرق…

قبل أن يختفي أحدنا قال

{ سيختطفونك.. ذات يوم أراه وشيكا.. ثم سيضعونك في كيس خشن ثم تختفي في لمح البصر }

لكنه أختفى بعدها .. كان كمن يرى مصيره من   خلف سجف الغيب… أو ربما   خلته هكذا… ظل مقمطا.. تقميطة مغربية طويلة الأمد.. بعيدة الصدى.. ممتدة المدى ..

لكن ها قد تحققت نبوءته وجاء دوري لأصير مقمّطا..

كأن من قدرنا أن نقمط مرتين

داخل السيارة   ألقوا بي كما يلقى بكيس ممتلئة بالأشياء التافهة .. سقطت مقمّطا على بطني ووجهي المكدود مرتطم بأرضية السيارة القذر… ويداي مقيدتان الى الوراء…

يرسفان تحت نير المينوط الأمريكي… العتيد.

كلما تحركت قليلا إلا ونهشت الأصفاد يدي ّوكادت أن تخترق العظم…

بعد زمن… قطعت السيارة شوطا كبيرا.. كانت تأكل الطريق   كأكل أشعب الطماع لقصعة   من طعام…..

كانوا يقدون السيارة في لذة   عجيبة   كأنما كانوا في عزوة وعادوا بالغنيمة….

   لا ادري متى انتبه الحاج   إلى وضعيتي تلك

قال بصلف{ قلبوه على ظهره…}

بعدها صرت ممدّدا كالميت في نعشه….

لكن الحاج إرتأى لحظتها أن يزيدني رهقا

وضع حذاءه الغليظ فوق صدري بقوة

   كنا قد غاذرنا مدينة وجدة شرقا

كان معتقل تمارة السري في انتظارنا……

عندما نطقت   كلمة

معتقل تمارة السري

تقيء صاحبي لا إراديا.. ظل هكذا يستخرج كل ما في بطنه

وفي مخياله صورة الضحية مقمّطا

البطاقة الزرقاء زكرياء بوغرارة

كَدَمة زرقاء أخالها تتمدد على ذاكرتي ، لا أذكر متى ؟؟ رأيت لونا آخر غير اللون الأسود .. ترى هل اللون الأسود لون ؟؟
أحسست أنني اصطدمت بشيء! ، هو سبب هذه الكدمة .. هل هو السُعال! الذي يرافقني منذ متى؟، لست أدري .. سأعصر رأسي كليمونة لأتذكر…
 كل الذي أذكره الآن انني بالكاد نسيت جدار الصمت والزنزانة حاولت أن اقتلع السجن من أعماقي من ذاكرتي و وجداني كما تقتلع عين عدو في ساحة حرب ضارية في القرون الوسطى ..
لعل كل شي ء قد إنتهى أصبح كل ما حولي بالكاد شبه شيء ..
 الأشياء.. أصبحت باهتة
 كل شيء فقد قيمته إنه بلا رصيد تماما مثل بطارية هاتفي الفارغة.. ربما هي آيلة للسقوط أوالموت فقد انتهت صلاحيتها ..
 ترى هل صرنا في زمن تنتهي فيه بطاية الحرية ؟؟
 فإما أن يعاد شحنها وتعبئتها لمدة إضافية أو تموت ..
 لا شيء يظاهي تلك الكدمة الزرقاء… أذكر أنني توصلت من البارحة بالورقة الزرقاء .. ربما لها صلة بالكدمة الزرقاء وبالبطارية المنتهية الصلاحية..
 ربما حريتي تحتاج لأن أصل بطاريتها بالشاحن، عيناي متعبة،يبدو أنني بكيت قبل النوم.. لا البكاء لم يعد يجدي .. حتى في لحظة تكون فيها حاجتي للبكاء كبيرة لكن العين الزرقاء أصبحت كالأرض الجدباء قاحلة بلا ماء
لا أعلم ما الذي حصل طيلة الليلة التي إنضافت لليالي السهاد لعلها هي السبب في تلك الكدمة الزرقاء التي أصبحت كالحبر الأزرق المراق فوف مكتبي .. وعلى اوراقي، ما اذكره أنني استيقظت متأخرا الحقيقة انني لم أنم , أنا والنوم لسنا توأمان .. لكنني من زمن أكذب على نفسي أكذب عليك يا أنا وأقول لك انني كنت نائما .. الكذب بلا أرجل وبلا لون ولا رائحة، النوافذ مغلقة على غير العادة انا اكره كل باب مغلق وكل نافذة مغلقة لا اطيق شيئا مغلقا اشعر بالاختناق .. لم أكن هكذا لكني صرت هكذا ..
الصورة ارشيفية
 العتمة علمتني أن لا أطيق اللون الأسود ..
 وأن لا أعترف به لونا ضمن باقة الألوان.. وعلّمتني أن لا أطيق شيئا مغلقا أبدا،
ها هي ذي أكواب القهوة الكثيرة، انها من بقايا ليالي السهاد التي مرت بي منذ أن استلمت من ذلك الرجل ذي الوجه الرمادي والملامح الغامضة ذلك الاستدعاء الورقة الزرقاء .. ربما تصير كفنا لحريتي..
كفن العتمة بدايتها زرقاء
السؤال الذي يطرق دماغي الآن: ترى هل إنتهت صلاحية حريتي؟؟
 منذ أن خرجت من العتمة من عام مضى
 نفضت كل ذكرى لذلك الزمن من مخيالي لكنه يعود ويصبح بلون الكدمة الزرقاء في ذاكرتي… انه ينتفض حيا أمامي كمكنسة الساحرة الأسطورية وهي تطير في الفضاء… لتعانق السماء الزرقاء
 الصياح المزعج والقرع بالمفتاح على البوابة الرمادية الصامتة في وقت مبكر
 إنه {{ النداء اليومي }} ثم بعده تأتي مرحلة توزيع الفطور شاي كبول البعير وخبز…
 أحيانا كانوا يقولون لنا إنها قهوة بالحليب كنا نعرف انهم يكذبون علينا
 في عالم العتمة لايوجد الا القهوة السوداء
.. ذكرى الرعب ثم نطت إلى مخيالي وهو يقاوم الكدمة الزرقاء المتسعة
{{التفتيش}} {{ لافاي }}
 إنها ساعات ثقيلة جدا كضمة القبر
 فيها حسوة الذل المركزة
 حاولت أن اطرد عني كل شيء بداية من اللون الأسود .. لكن الورقة الزرقاء أيقضت في حسي شجوناوسجونا
وقف أمامي كالتمثال
 دفع بالورقة وهو يمتص سيجارته بعمق كن يغلق عينا ثم يفتح أخرى وهو يرسل الدخان الكثيف من فمه
 {{ ينبغي ان تسافر غدا مع العاشرة صباحا الى ….}}
 سادت لحظة صمت كثيفة
 {{ العاشرة
 في ظهر الورقة ارقام الهاتف إن ضللت الطريق اتصل بهم …}}
 كان كل ما يهمني لحظتها أن أسأله
{{ أنا لا امتلك المال الكافي للسفر والرحلة طويلة جدا ومتعبة }}}
 لاذ للصمت
 كان لايزال يغازل سيجارته ويرتشفها كعاشق..
إبتسم بخبث
 ثم انصرف
 ظل عقلي مسرحا لمعركة تفكير رهيبة كنت أضرب الأخماس في الأسداس وأحقق معي أسألني كل الأسئلة التي سيسألونها والتي ربما لن يسألونها
 ما الذي جرى؟؟؟
؟؟واتهمني بكل الاتهامات افتش في تلابيبي
 بعدها كان أهم ما كن يشغلني .. كيف سأسافر وأنا صفر اليدين
.. عطلت من أي درهم
ثم…..
بعد ان وضعت الحرب التي دارت رحاها في عقلي أوزارها إهتديت لأن اتصل بهم الرقم في ظهر الورقة الزرقاء
 {{ اللي ليها ليها}}1 سأقول لهم كل شيء
 بهم بعد تردد اتصلت
 بعد أن استجمعت قواي … خرجت الكلمات من فمي
أخبرتهم أني لا أستطيع الذهاب بحكم اني عاطل عن العمل قالوا لي
{{استلف}}
ظللت صامتا
 جائني الصوت كأنما امتدت من الهاتف يد لتخنقني كانت كالكدمة الزرقاء
 {{ شغبك هذاك
 سوقك هداك }}
 ثم انقطع الاتصال
 مكثت للحظات أحاول ان استنشق الهواء……..
 وأنا أردد بذهول
{{ شغلك هذاك سوقك هذاك}}

°°°°°°

{{ فكرة القصة حقيقية جرت لأحد الأخوة حدثت له كتبتها كما رويت لي معه شيء من التصرف…}}

وجدة المغرب

26 أغسطس 2019

°°° العنوان كلمة عامية تعني { ذلك شأنك}}

1اللي ليها ليها كلمة عامية تعني {سيان عندي}

المسرح السياسي في أمريكا

المسرح السياسى فى أمريكا
((التعريف..الوظيفة..الأصول..وصولا إلي نظرية العرض المسرحي السياسي)
المسرح السياسى، مصطلح عسير ووعر، مما تحمل عبر السنوات من جدل وشوائب وتسطيح، منه ما كان يعمد للإنتصار له، ومنه ما هو دعائى ومنه ما يسخر من هذا المصطلح ويمكننا أن نعرف المسرح السياسى.
” بأنه مسرح ذو مضمون سياسى يستهدف تعليم جمهور شعبى عريض له صبغة سياسية معينة”.
ولكن هذا التعريف يركز على مضمون المسرح فقط ولا يتطرق إلى الوسائل التى من شأنها أن تعمل على توصيل هذا المضمون السياسى، ويرى المخرج سعد أردش فى كتابة المخرج فى المسرح المعاصر أن ” المسرح السياسى الواعى الواضح، المباشر، هو الذى يسعى إلى تأثير إيجابى محدد فى الجماهير، بهدف إكتسابها فى صفوف معركة طويل نحو حياة أفضل تسودها العدالة الإجتماعية، ويرفرف عليها السلام وتمنحها الحرية، طعم العزة والكرامة الإنسانية”.
وما يدهشنا هنا فضلاً عن الطبيعة الإنشائية لهذا التعريف هو قصر دور المسرح السياسى على طبقة العمال فقط وكأن القضايا الأساسية والإقتصادية والإجتماعية وقضايا الحرب والسلم ومفهوم الحرية لا تعنى فقط إلا طبقة العمال ويرى الدكتور سمير سرحان أن المسرح السياسى يميل إلى المباشرة والخطابية نافياً عنه صفة الفن ومشاركة الجمهور وهو يقول
“أنه مسرح أفكار تلقى من فوق خشبة المسرح كما تلقى الخطابة. والمسرح السياسى هو توضيح للرؤيا الإجتماعية والسياسية فى بلد ما …. وهو بلوره العواطف الثائرة بشكل منظم”.
إلا أن المسرح السياسى لا يوضح رؤيا إجتماعية وسياسية فحسب فدوره يتمثل أولاً فى مناقشة الواقع الفعلى بتناقضاته سواء أكان واقعياً سياسياً أم اجتماعياً أم إقتصادياً بشكل حاد ومباشر لأن هذا الواقع الفعلى هو ما يهم جمهور المسرح.
وثمة من يرى أن المسرح السياسى، يتمثل دوره فى خدمة أيدلوجية معينة كأن يكون فى متناول يد النشاط السياسى لليسار مثلاً كما يرى “ماسيمو كاسترى” “أن المسرح السياسى هو ذلك المسرح الذى يرغب فى المشاركة بجميع وسائله النوعية فى الجهد العام وقضية تحول الواقع الإجتماعى، أو بشكل مطلق قضية تحول الإنسان من منظور إعادة بناء الشمول والكلية للإنسان اللتين تحطمتا فى مجتمع مقسم إلى طبقات وما تم على الإستغلال”.
ومن هنا قصر كاسترى تعريفه على المجتمع الطبقى وما يدور حوله من صراعات طبقية، وترى الدكتورة نهاد صليحة “أن المسرح السياسى ينبغى أن يقتصر على ذلك النوع من المسرح الذى لا يكتفى بأن يتخذ من فلسفة الحكم خلفية مسلماً بها للصراع بل يتخطى ذلك إلى إتخاذ فلسفة الحكم نفسها مادة للصراع أى يصبح موضوعه السلطة والفلسفة التى تساندها والقوانين التى تفرزها ومظاهر تطبيقها” ولكن هذا المصطلح وحسب رأى الدكتورة نهاد صليحة نفسها يمكن أن ينصرف إلى أعمال “شكسبير” و “بايرون” و”شيللى” و”بوشنر” و”تشيكوف” و”بيسكاتور” و”بريخت” و”سارتر” و”توللر” وهذا ما يجعل التعريف يشير فى مضمونه إلى الجوانب الإقتصادية والإجتماعية التى ترتبط وبشكل مباشر بالموضوع السياسى وتعتبر إنعكاساً له. ولكن هذا التعريف يزيد من إتساع دائرة الدراسة بما لا يجعله قادراً على التمييز بين البدايات الحديثة للمسرح السياسى وبين أصول وجذور هذا المسرح.
ويرى الدكتور عبد العزيز حموده أن “المسرحية السياسية بمفهومها الحقيقى هى إستخدام خشبة المسرح لتصدير جوانب محددة. غالباً ما تكون سياسية أو اقتصادية مع تقديم وجهة نظر محددة بغية التأثير على الجمهور وتعليمه بطريقة فنية تعتمد على كل أدوات التعبير التى تميز المسرح من كل ضروب الفنون الأخرى ومن مزايا هذا التعريف أن دكتور عبد العزيز حمودة لم يقتصر فى تعريفه على الجانب السياسى فقط بل طرح الجانب الإقتصادى أيضاً فالمسرح السياسى فى رأيه يهدف إلى إيقاظ الناس وتعليمهم فهو يعتمد إلى حد كبير على الحقائق، أو القيمة الإخبارية للواقع أى أن عملية الكتابة للمسرح السياسى هنا تسبقها مرحلة طويلة من البحث والتقصى.
وملاحظتى الوحيدة على هذا التعريف هو تركيز الدكتور عبد العزيز حمودة على إستخدام خشبة المسرح فى حين أننا سنرى أن “مسرع الشارع” و “المسرح الحى” و”المسرح العمالى” فى أمريكا أو أى من دول أوروبا لا تستخدم خشبة المسرح بالمفهوم التقليدى. ولكن هذا التعريف أنسب وأكثر اتساعاً من التعاريف السابقة وذلك فى إطار الحركات الفنية للمسرح السياسى الحديث.
ولكنى فى النهاية أتفق مع رأى الدكتور أمين العيوطى فهو يقول “عندما تتكلم عن المسرح السياسى فإن أذهاننا غالباً ما تتجه إلى ذلك النوع من المسرح الذى إزدهر فى ألمانيا فى أعقاب الحرب العالمية الأولى أو فى أمريكا إبان أزمة 1929 الإقتصادية وجاء محملاً بوعى سياسى متوسلاً بأساليب فنية جديدة سواء فى أسلوب صياغة هذه الرسالة أدبياً، أو فى أسلوب عرضها على المسرح” غير أن هذا المسرح لا يعنى أن المسرح لم يكن، منذ بدايته يحمل رسالة سياسية فى طيات رسالته الفكرية بل إننا نخطىء إذا توهمنا أن الأدب فى كل صورة وعلى إختلاف مذاهبه الفنية لم يكن يعبر فى المقام الأول عن رؤيا سياسية.
فوفق تعريف معين لمعنى كلمة سياسة يمكننا القول بأن المسرح بل والأدب كله، كان وما زال فى أحد مظاهره سياسياً. أى إننا إذا إتفقنا على تعريف السياسة بأنها مجموعة الأفكار أو الفلسفة التى تشكل نظرية الحكم التى يتم فى ضوئها تنظيم علاقات الأفراد والمجموعات فى المجتمع وفق قوانين وقيم معينة تحكم توزيع السلطة والمال وتحديد الأدوار ومناطق التحرك للأفراد والجماعات. وإذا إتفقنا على هذا التعريف لكلمة سياسة يمكننا أن نصف المسرح بأنه كان دائماً سياسياً بمعنى أن كل مسرحية نعرفها تتضمن بصورة مباشرة أو غير مباشرة أيدلوجية ونظاماً يشكلان الخلفية الفكرية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية للصراع القائم فى الدراما ويحددان مساره ونهايته حتى وإن كان هذا الصراع صراعاً نفسياً بالدرجة الأولى وعلى هذا الأساس نستطيع أن تقول أن المسرح منذ نشأته المبكرة كان دائماً مسرحاً سياسياً ولهذا فليس من الغريب أن نجد أن الدراما الأغريقية تخضع بسهولة للتحليلات التاريخية والسياسية فنجد ناقداً مثل “جورج لوكاتش” يتحدث عن ضرورة ربط ظهور التراجيديا الأغريقية بالتحول التاريخى العالمى فى تاريخ الجنس البشرى ويقول “من المؤكد أنه ليس من باب الصدفة أن تتفق فترات التراجيديا العظيمة مع المتغيرات التاريخية العظيمة والعالمية فى المجتمع الإنسانى. وقد رأى هبجل بالعقل فى الصراع الذى ينشب فى (أنتيجون) “سوفوكليس” رغم غموض ذلك الصدام الذى ينشأ بين تلك القوى الإجتماعية التى أدت إلى تحطيم الأشغال البدائية للمجتمع وإلى ظهور المدنية الأغريقية.
كما أن النظرة المتأنية لجوهر التراجيديا منذ نشأتها وحتى الآن ومفهوم البطل المأسوى بمعناه الأرسطى أو غير الأرسطى تؤكد إقتراب المسرح الدائم من دائرة السياسة فالبطل التراجيدى الذى يعانى من نقطة الضعف القاتلة وهى الكبرياء والذى يرتكب خطأ مأسوياً لا رجعة فيه… قد يكون خطأ فى حق الآلهة أو البشر يسقط معاقباً على هذا الخطأ وذلك لتطاوله على سلطة أعلى أو أقوى منه ربما تكون سلطة تدعى لنفسها شرعية أكبر من شرعيته، هكذا يسقط “إجاممنون” الذى يكون خطأه الأساسى أنه تطاول وإدعى لنفسه إحدى صفات الألهة وهى الكبرياء وهو يسقط ولكنه فى سقوطه يشير فينا الإعجاب لان إعجابنا الأبدى بالإنسان وهو يقاوم فى عناء سلطة أعلى منه سياسة كما أن بروميثيوس مغلولاً تعرض على إستحياء لإمكانية التورة الإنسانية على القدرية الدينية والتى تتمثل فى شخص الإله “زيوس” الطاغية الذى يعاقب “بروميثيوس” عقاباً مروعاً لكشفه سر النار للبشر مما يجعلهم قادرين على التحكم فى مصائرهم وهذه مسرحية يمكن إعتبارها نوع من المسرحيات السياسية التى تتعرض للنظرية السياسية السائدة فى المجتمع وأخطائها دون المساس بالنظرية نفسها وما يقال هنا فى المسرح الأغريقى ينطبق أيضاً على المسرح الإليزابيثى فى أبرز كتابه “ويليام شكسبير” فلم يكن فى أعماله إثراء للمسرح العالمى على إمتداد تاريخه فحسب بل إثراء لما يحمله من فكر سياسى وتاريخى وهو تلك العبقرية التى عاشت فى فترة تميزت بالصراع التاريخى الحاد بين المجتمع الإقطاعى وبين مجتمع الرأسمالى الذى كان يسعى إلى تأكيد ذاته وفى رأى دكتور عبد العزيز حمود أن شكسبير فى كل تراجيدياته تقريباً حينما ينطلق من بعض بقايا المجتمع الفكر الإقطاعى، وإن كانت أخطره على الإطلاق، ليؤكد أن البطل يخرج على ناموس الطبيعة حينما يهز النظام الاجتماعى والاقتصادى للجماعة محاولاً تغييره بمفرده وبيديه وهى جرأة يعاقب عليها شاعر البلاط الإنجليزى بالسقوط المعنوى والبدنى وهذه فى رأيه سياسة.
ويقول “جورج لوكاتش” أن شكسبير يبدع فى الملك لير أعظم ما عرفه الأدب العالمى من التراجيديات وأشدها أثراً فى انهيار الأسرة بصفتها مجتمعاً إنسانياً … إن شكسبير يصور فى علاقة الملك لير وبناته، وجلوستر وأبنية الحركات والإتجاهات الخلقية النمطية التى تبرز بشكل قوى إشكالية العائلة الإقطاعية وانهيارها وهذا الحس التاريخى عند شكسبير هو الذى جعله هدفاً للتحليلات السياسية المتبانية وهكذا نجد برنارد شو يصور شكسبير فى مسرحيته الكوميدية الخفيفة (السمراء فى أغانى سكسبير) على أنه فنان ينمق الكلمات ولا يقدم فكراً ويهتم بإرضاء أولى الأمر ويتملق السلطة ويقف إلى جانب الديكتاتورية فى “يوليوس قيصر” غير أن شاعراً وناقداً أخر، وهو “الجرنون سويتبرن” يرى فى شكسبير رأياً مختلفاً فهو يراه مفكراً حديثاً فى نظرته السياسية والإجتماعية ويستشهد على ذلك بمسرحية يوليوس قيصر أيضاً، فيقول أن شكسبير كان فى أعماقه جمهوريا وأنه فى “الملك لير” ديمقراطى وإشتراكى روحاً إلا أنه يمكن أن يقال أن مسرحية يوليوس قيصر تمثل نموذجاً للمسرح الفكرى السياسى الحق. فهى تثير التفكير النقدى دون أن تلزم المتفرج برأى بعينه ولقد عبر فيها شكسبير بصدق وحساسية شديدة عن الصراع الخفى فى عصره بين نظرية الحكم الموروثة من العصور الوسطى وبين رياح الثورة والتغيير التى أتى بها عصر النهضة ولكن مما يعزز وجهه نظر سويتبرن فى شكسبير أختيار “أروين بسكاتور” رائد المسرح السياسى لمسرحية الملك لير لعرضها بأسلوب مسرحه السياسى وأختيار “برتولت بريشت” لمسرحيتى (ماكبث) و(هاملت) لإعدادهما للإذاعة، ومسرحيتى (يوليوس قيصر) و (كوريولنيوس) لإعدادهما للمسرح هذا فضلاً عن إستخدامه لأسلوب مسرحيات شكسبير التاريخية فى الأم شجاعة وجاليلو بل وتأثر المسرح الملحمى عموماً بفن شكسبير المسرحى.
ويبدو أن ظاهرة إلقاء المؤلفين المسرحيين فى السجون كانت شائعة فى ذلك العصر إذ نجد “جون مارستون” و “جورج تشابمان” يلقون نفس المصير مع بن “جونسون” مرة أخرى بعد إشتراكهم جميعاً فى تأليف مسرحية (إتجهوا شرقاً) التى تسخر من نظام الهبات والألقاب الإجتماعية والرتب والعطايا الملكية ثم نجد مارستون يتعرض مرة أخرى لخطر السجن عندما كتبت مسرحية (المتذمر) وإنتقد النفاق والخداع الذى ساد البلاطات الملكية إبان عصر النهضة ولكن هؤلاء الكتاب أنفسهم كانوا من المؤمنين بفلسفة الحكم السائد ولم يحدث أن دعا أحدهم مثلاً إلى إحلال نظرية الحكم الديمقراطى محل نظرية الحكم الملكى.
وخلاصة القول أن ثمة نوعاً من المسرح الذى ينحو إلى الإصلاح لا الثورة وجد سواء فى ظل النظام الديمقراطى اليونانى الذى كان يسمح بالسخرية من الحكام الأفراد ويحرم المساس بالشعب أو فى ظل النظام الملكى الإنجليزى الذى يحرم إنتقاد البلاط ويسمح إلى حد ما بالنقد للشعب أو لمن يقومون بتطبيق النظام.
وتستطيع أن نضيف إلى هذا الإدراك المبكر لوظيفة المسرح الإجتماعية والسياسية وموقف النقد الكلاسيكى المتزمت فى إنجلترا فى القرن السادس عشر فوسط كل التأكيد على النقد الشكلى عند “فيليب سيدنى” و “بن جونسون” وغيرهم على الإلتزام بالوحدات الثلاث والمحافظة على نقاء القوالب والتقاليد الفنية بحيث لا تمتزج الكوميديا بالتراجيديا أو النثر بالشعر، نستطيع أن نتبين هدفاً سياسياً واضحاً وموقفاً سياسياً محافظاً. كان مزج الكوميديا بالتراجيديا يعنى فى التحليل النهائى. مزج أنماط سامية من الشخصيات والموضوعات التى لا يصح لها إلا القوالب الكوميدية الشعبية أو بعبارة أخرى كان مزج القالبين التراجيدى والكوميدى يعنى مزج الأشراف والعامة فى إطار واحد كذلك كانت الدعوة إلى فصل اللغة الشعرية عن الحوار النثرى واللغة الدارجة تهدف إلى فضل الأسلوبين إذ أراد الكاتب المسرحى أن يحتفظ للأبطال الذين ينتمون إلى طبقات المجتمع العليا بتميزهم وسموهم فيما ينطقون به ويعبرون عنه من عواطف نبيلة، أن يترك للعامة وعواطفهم اللغة الأكثر تدنياً. كان الإصرار على الإحتفاظ بالقوالب المسرحية والتقاليد الشعرية “نقية” يعنى فى المحصلة النهائية، المحافظة على القوالب الاجتماعية وعلى الإطار العام للمجتمع الطبقى. بحيث لا يتهدده أية مزاوجات بين الطبقات العليا والطبقات الدنيا من المجتمع بل إن أى إخلال بهذه القوالب الاجتماعية تعتبر تهديراً للنظام القائم ويرى هيوم أن الرومانسية فى رأيه دعوة إلى إعادة تنظيم المجتمع من خلال الإطاحة “بنظام غاشم” أى بالنظام الإقطاعى بطبيعة الحال وهو يرى الرومانسية ترتبط بثورة الطبقة الوسطى فى فرنسا، ووصولها إلى الحكم فى إنجلترا مما يعنى الفوضى فى نظره أما الكلاسيكية فترتبط بالكنيسة والإقطاع ولذلك تعنى النظام. وهكذا يقول “لو أنك سألت رجلاً عن مجموعة معينة ما إذا كان يفضل الكلاسيكية أو الرومانسية لاستطعت أن تستدل من ذلك على اتجاهاته السياسية”.
وبالنسبة لمسرح الثورة فهو مسرح دعوة إلى إبدال فلسفة ونظرية حكم بأخرى ولعل أول من كتب هذا النوع من المسرحيات واعياً ومن منطق عقيدة سياسية واضحة كان “شيلى” وخاصة فى مسرحية بروميثيوس طليقاً لقد كان “شيلى” مؤمنا بالحرية والعلم والعقلانية وبملكات الخير لدى الإنسان، ويعتقد أن البشرية لا ينقصها إلا الحرية لتنطلق ملكاتها الإبداعية الخيرة لتحقيق المدنية الفاضلة ويصف الكثيرون “شيلى” بأنه أول أديب إشتراكى قبل ظهور كارل ماركس وربما كان الفرق الوحيد بينهما هو إيمان “شيلى” الرومانسى بالقدرة على التغيير الإجتماعى الجذرى عن طريق الحرية والحب والتنوير، على عكس ماركس الذى رأى حتمية صراع الطبقات.
أما فى العصر الحديث فلقد إرتبط المسرح فى العصر الحديث بالجماهير وأخذ أكثر من شكل وتحولت الحياة كلها إلى المسرح بتجسيد جديد تحولت معها كثير من القضايا السياسية ذات العلاقة الوطيدة بمستقبل إنساننا فى أكثر من مكان، إلى خشبة المسرح وأصبحت الأحداث اليومية الهامة والأحداث الراهنة الأخرى، والتحولات السياسية، والإنتقاضات الوطنية وأساليب الإستعمار بكل أشكاله، وقضايا الحرب والسلم والصراع الطبقى، وقضايا الحرية أصبحت كلها سمات تميز مسرح هذا العصر وتغنيه بالجديد المتحرك الذى لا يركن إلى السكون أو الجمهور أو مجرد العرض العابر، أو النقد الساخر الخالى من كل إثارة للذهن أو تحريك الفكر، أو المشاركة الجدلية على أقل تقدير “وبهذا الإطار والمحتوى كان المسرح السياسى علامة من علامات الحياة الجديدة التى تنشدها الشعوب فى كل مكان ولقد أصبح المسرح وسيلة وقلق دائم، موثقاً صله المشاهد بكل ما يدور من حوله إن هذا التحول فى العصر الحديث يرجع أساساً إلى فلسفة ماركس فقد بلور أفكاره فى علم الفلسفة حين قال قولته المشهورة ” إنحصر جهد الفلاسفة دائماً فى تفسير العالم وذهبوا فى ذلك مذاهب شتى. ولكن القضية الأساسية ليست تفسير العالم بل تغييره ولقد حمل ماركس التيار الفلسفى الذى ينطلق بداية من فعل الإنسان اللا إرادى إلى ذروته. وتحولت الفلسفة على أيدى أتباعه من نشاط فكرى بتأمل الفعل الإنسانى إلى برنامج عمل ثورى ولقد كانت فلسفة ماركس، فلسفة فعل تهدف إلى تغيير العالم وتغيير وعى الإنسان به.
كانت الفلسفة قبل ماركس محاولة للتنظير والتقنين المطلق بعيداً عن متغيرات ونسبية الآن وهنا أى بعيداً عن الواقع الإنسانى المتغير أما عن طريق توحيد بصرها إلى ما فوق الطبيعة إلى عوالم الروح والعقل المجرد كما فعل المثاليين أو عن طريق فصل عالم التجربة والفعل الإنسانى عن عالم الروحيات والأخلاقيات مفترضة لهذا العالم المعنوى قوانين أزليه خارج نطاق التجربة الإنسانية ولا تتأثر بها وهذا ما يعنى فى الحقيقة عدم إمكانية تغيير العالم.
بدايات المسرح السياسى فى القرن العشرين أو أصول المسرح السياسى الأمريكى:
إذا إعتبرنا المسرح السياسى شكلاً حديثاً من الأشكال الأساسية فإن بدايته فى الواقع تبدأ فى العقد الثانى من هذا القرن، أو بعبارة أدق مع الثورة فى الإتحاد السوفيتى، حيث بدأت المحاولات الحقيقية الأولى لإستخدام المسرح كسلاح، كما إتفق على مدى الخمسين عاماً الأخيرة وتحديد الهدف بهذا الشكل يسهل عمليه تحديد الشكل المسرحى الذى تم اختياره، وهنا أيضاً يجب أن نسلم بأن القرار منذ عام 1919 كان فى حقيقة الأمر إستخدام المسرح كسلاح لا فى معركة تثقيف الجمهور فى الفكر السياسى الجديد فقط بل تثقيفه أو تعليمه فى مجالات الاقتصاد والنظريات الاجتماعية الجديدة وهذا ما يعيدنا مرة أخرى إلى التذكرة بأن المسرح السياسى لا يعنى فقط بفكر سياسى محدد فقط بل أيضاً الفكر الإجتماعى والإقتصادى، لقد وجد أعوان الثورة فى بداية الأمر أنفسهم فى موقف لا يحسد عليه ولا أقصد بهذا هزائم الجيوش الروسية المتتالية على الجهة الألمانية، بل فى الداخل حيث كان الحزب أقلية واضحة فى قلب مجتمع يحتاج إلى الاقتناع بالتغيرات الجذرية الجديدة فى طريقة الحياة، ولكن بمجرد إستتباب الأمر بدأت تنتشر فى الإتحاد السوفيتى عشرات الفرق المسرحية الصفوة بإسم “العاصفة” مرة و “القمصان الزرقاء” مرة أخرى وكلها فرق من العمال المتحمسين الذين أخذوا على عاتقهم مسئولية توعية السواد الأعظم من العمال وتعليمهم الفكر الجديد سواء كان فكراً سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً كانت المجموعة من هؤلاء تتسلح عن بقية العمال قبل موعد إنصرافهم بدقائق لتتلقفهم أمام المصنع وقت إنصرافهم أو فى أى مراكز أخرى للمجتمع العمالى لتقدم لهم فيما يشبه الإرتجال الكامل نصاً وإخراجاً مشاهد قصيرة تبين مزايا النظام الجديد وتهاجم النظام الرأسمالى وتجسد نقاط الضعف فيه وكانت تلك المقطوعات تندرج تحت ما أتفق على تسميته باسم مقطوعات الإثارة والدعاية. وهنا يجب أن تتوقف قليلاً عن خصائص هذا الشكل وأهدافه لأنه يمثل المرحلة المبكرة وغير الناضجة بما يمكن أن نسميه المسرح السياسى فى القرن العشرين.
لم تكن هناك أية محاولات على الإطلاق لإيهام المتلقى أو المتفرج بأن ما يراه واقعاً بل كان التركيز على تغيير فكر هذا المتلقى وعلى هذا الأساس يكفى أن يظل العمال بملابس المصنع فقد يرتدى واحد منهم قبعة مرتفعة أو يحشو نفسه قليلاً ليمثل دور الرأسمالى المنتفخ، ويكفى كرسى خشبى أو أثنين ليمثلا خشبة المسرح وتلك حقيقة يجب أن نتذكرها فى حديثنا عن المسرح فى مرحلة متطورة تالية وهى مرحلة المسرح الملحمى عند بريخت.
لم يكن الهدف من هذه العروض تقديم شكل مسرحى ناضج بل إستخدام أدوات المسرحية التقليدية والإستفادة من قدرته على التأثير لتغيير مفاهيم المتفرجين وتعليمهم أفكاراً جديدة، لهذا لم ينشأ المعنيون بهذا الشكل التوقف عند الجماليات التقليدية أو قواعد الكتابة الدرامية المألوفة، ويكفى أن نذكر شعار الفرق التى ظهرت فى ألمانيا فى نفس الفترة بإسم القمصان الحمراء والتى كانت تهدف لإستخدام المسرح كسلاح.
إن عشرات النماذج التى وصلتنا عن هذه الفترة تؤكد المقولة الأساسية التى أود تأكيدها طوال الوقت وهى أن المسرح السياسى لا يقتصر على السياسة بمعناها الأكاديمى الدقيق بل إنه يركز على كل من شأنه تغيير طريق تفكير الفرد أو طريقة حياته، وهذا ما أتبعته فرق الصحف الحية المسماه بجماعة القمصان الزرقاء.
ورغم جدية الوظيفة الجديدة للمسرح إلا أن سذاجة الشكل لا يمكن إنكارها، وهى سذاجة تتمشى مع طبيعة المتلقى البسيطة وما يهمنا هنا أن المقولة الأساسية التى تستخدم “سلاح المسرح” لتقديمها إلى الجمهور ليست مقولة أساسية بالمعنى المتعارف عليه للسياسة. ومن نفس الوقت كانت هناك عشرات الصحف الحية أو مقطوعات الإثارة والدعاية التى تتناول موضوعات شتى كمحاربة بعض العادات الإجتماعية البالية، والتشجيع على رفع معدلات الإنتاج الصناعى والزراعى وتشجيع الإقبال على الميكنة الزراعية ونبذ الوسائل البدائية إلخ. وكلها موضوعات غير سياسية يقودها ما يمكن أن نسميه بالمسرح السياسى الصرف.
وأخطر أعداء هذا المسرح السياسى هو طبيعته ذاتها، وخاصة فى تلك المرحلة المبكرة منذ فرضت طبيعة المتلقى البسيط لجوء مقدمى هذا الشكل إلى التبسيط الشديد الذى يصل إلى حد السذاجة أحياناً وإلى التضحية بالشخصية الدرامية المتكاملة الأبعاد من أجل الفكرة المباشرة والشخصية النمطية وكلما ازدادت مباشرة هذا الشكل عادة كلما زاد رفض الجمهور له.
إن كانت الثورة الروسية هى الحدث الأول الذى ساهم فى خلق المسرح السياسى بمعناه الحديث فى روسيا فإن لهزيمة ألمانيا فى 1919 أثارها المدمرة على المجتمع الألمانى، التى أدت إلى إهتزاز مؤسساته الإقتصادية والاجتماعية والثقافية جاءت ثورة 1919 الإشتراكية، التى فشلت وأغتيل كل زعمائها، تعبيراً عن السخط عما أنزلته الرأسمالية والحرب بالشعب الألمانى، وعن الفوضى الإقتصادية التى أطاحت بكل الآمال المعقودة على نهاية الحرب من إنتشار الأخوة والإنسانية والحب وعن خيبة الأمل التى تولدت عن هذا كله ولم تلبث الأزمة التى ضربت الاقتصاد الأمريكى فى 1929 أن أمتدت لتشمل آثارها العالم الرأسمالى كله بما فى ذلك ألمانيا، ولتنزل بكل فئات الشعب وعلى الأخص الطبقة العمالية التى إنتشرت بينها البطالة، مما أثار معارك فى الشوارع بين العمال والشرطة ودفع بالبرجوازية إلى أن تحكم قبضتها على الأمور فأسلمت زمام السلطة إلى هتلر ولقد تبنى المسرح السياسى فى ألمانيا فى ذلك الوقت رسالة سياسية من الرسالة التى حذوها لنفسه الأساليب الفنية التى تخدم هدفه لتوصيل رسالته.
وكانت هذه الرسالة مباشرة واضحة، ترمى إلى التأثير فى الجماهير من أجل توعيتها، وإجتذابها إلى جانب المعركة ضد المجتمع الرأسمالى الطبقى، للوصول إلى مجتمع العدالة الإجتماعية والسلام، ولم يكن الأمر مجرد طرح أفكار، بقدر ما كان إستفزازاً للجماهير، وتحريضها على الثورة وقد إرتبط بهذا الإسم المسرح إسم “إيروين بيسكاتور” وكان من رأى بيسكاتور أن الإهتمام بالشكل الفنى للعرض من الممكن أن يطمس ملامح الرسالة السياسية، كما أن النص المسرحى لا يحب أن يكتفى بتصوير أحداث شخصية، أو إنعكاسات الواقع الإجتماعى على الذات الإنسانية فلابد أن يكون العرض المسرحى بكل مقوماته تحليلاً للظروف الإجتماعية والاقتصادية والتاريخية. لهذا كان تأكيده على عرض الظروف التاريخية والإجتماعية عرضاً مباشراً لا كمجرد خلفية للأحداث الشخصية وبالنسبة إلى بيسكاتور كان المسرح برلماناً، والجمهور هيئة تشريعية وقد عرضت أمام هذا البرلمان بوضوح المسائل العامة الكثيرة التى هى بحاجة إلى إقرار. وبدلاً من خطبة النائب حول ظروف إجتماعية لا يمكن تفاديها ظهرت نسخة فنية لهذه الظروف، وطمع المسرح بدفع (البرلمان- الجمهور) إستناداً إلى الصور المسرحية والإحصائيات والشعارات إلى إتخاذ قرارات سياسية ولم يستغن مسرح بيسكاتور عن التصفيق ولكنه طمع أكثر من ذلك بالنقاش ولم يسع إلى تهيئة تجربة لمشاهدة، وإنما دفعه إلى إتخاذ قرار عملى بالتدخل فى الحياة بنشاط وفى سبيل ذلك لجأ إلى إستخدامه للأفلام السينمائية كوسيلة لتوسيع مجال الحدث وربطه بالظروف التاريخية، وإبراز دلالته السياسية إستخدامه لوسائل أخرى مثل اللافتات والشرائح الزجاجية، والأفلام التسجيلية، فإننا نتبين فى أعماله الأخرى بداية فكرة المسرح الملحمى التى قام برتولت بريشت بعد ذلك بتطويرها لخدمة نفس الهدف السياسى التعليمى الذى بدأه بيسكاتور. ومن خلال إستفادة بيسكاتور من إمكانيات التقدم التكنولوجى فى العرض المسرحى فإنه، كما يقول بريشت حول خشبة المسرح إلى قاعة آلات، وحول صالة العرض إلى قاعة إجتماعات.
كان بيسكاتور مضطراً إلى إبتكار هذه الأساليب حين فشل أن يجد مسرحيات تنطلق من موقف إشتراكى. غير أنه وجد أن الإمكانيات التكنولوجية لمثل هذه العروض التى تتلاءم مع أهداف مسرحه، كانت تتطلب تمويلاً لا يمكن للمسارح الشعبية أن تتحملها لذلك لم يكن أمامه إلا أن يعمل من خلال المسارح البرجوازية. غير أن هذه الأجهزة بدأت تفرض عليه الدخول فى مساومات أيدلوجية، وتنازلات، مما إضطره أخر الأمر إلى التخلص عن عروض مسرحية تستخدم آلات وتكاليف ضخمة، والإتجاه إلى المنظمات العمالية، وكانت هذه تتألف من فرق عمالية بسيطة وفرق هواه تعمل بإمكانيات متواضعة فى مسارح النوادى. وقد أدى إغلاق المسارح البرجوازية الكبيرة فى وجه مثل هذه العروض إلى أن يحاول فنان المسرح أن يلائم بين تقنيات العمل وبين الوسائل المتواضعة المتاحة للفرق العمالية كان هذا هو الدور الذى كان على بوتولت بريشت أن يستكمله فى مسرحه الملحمى.
إن مسرح بريشت مرتب بمقدره فائقة للحد الذى يحاول فيه أرباب الفن أن يقيموا الدليل على وجود تناقض بينه وبين المسرح السياسى والحق أن مسرح بريشت قد وصل إلى تفوقه الفنى وإستطاع أن يخرج الحقائق السياسية إلى النور، كما إنه يكرس كل ذكائه لإزالة التناقض ولبناء مجتمع رجال سياسة الكوارث.
والحقيقة أن بريخت قد وجد الشكل الدرامى عاجزاً عن توصيل أية رسالة سياسية بشكل يضمن إستفزاز المتفرج، وتحريضه على أن يكون إيجابياً فى العمل لتغير الواقع الإجتماعى. إن المسرح الملحمى يعترض على إثارة الشفقة والرهبة فى نفس المتفرج، بقصد تطهير عواطفه وعلى جذب المتفرج داخل الحدث بحيث يتوحد مع البطل وينسى ذاته نسياناً تاماً، وعلى إثارة الإيهام بواقعية الأحداث فى نفس المتفرج كوسيلة لتحقيق هذين الهدفين فهو يرى أن المتفرج فى مثل هذه الدراما التقليدية، يفقد القدرة على التفكير فيما يجرى أمامه، يسلب القدرة على مواجهة المشاكل السياسية وحلها بشكل مغال يقضى على أصل المشكلة المطروحة.
كان هدف “بريشت” الأول أن يجعل المتفرج يرمى العالم الحقيقى، ويفهمه أن يجعله يفهم كيف تدور الحياة فى المجتمع الرأسمالى المعاصر بحيث يسعى إلى تغييره. كانت هذه هى الرسالة السياسية التى كرس لها مسرحه الملحمى وهاجم “بريشت” فكرة الإيهام فى الدراما التقليدية فالمسرح لابد من أن يحاول تحطيم أى إيهام بالحقيقة. ولذلك لابد من أن يكون واضحاً لدى المتفرج أنه لا يشاهد أحداثاً واقعية تجرى أمام عينيه ذلك لأنه بصدد مسرح سياسى ينقل رسالة على المتفرج أن يستوعبها من خلال الإنفصال من الشخصيات والأحداث، لا التوحد معها، وعلى المخرج أن يحاول بكل الوسائل خلق التأثيرات التى تحافظ على إنفصال الجمهور وتغريبه عن الحدث.
المسرح الملحمى عكس المسرح التقليدى، ينقلنا إلى عالم الحكايات البعيدة، عالم السرد التاريخى الملحمى. فمن الشائع عندنا أن نتكلم عن أساليب التغريب، ونعنى بها المسرح الملحمى، أما التغريب فليس فى حقيقة الأمر سوى وسيلة لسرد ملحمه، ولتصوير الأحداث على أنها حالة تاريخية تنتمى إلى الماضى، وحتى ولو كانت معاصرة. المسرح الملحمى إذن، مسرح سرد تاريخى يحكى لنا قصة والقصة هى تتابع أحداث تكون التجربة الاجتماعية، ونصور التفاعل بين الشخصيات وهذا التفاعل هو الذى يبرز لنا مغزى التجربة الاجتماعية. ومن خلال التركيز على التعبير عن السلوك الإجتماعى لإنسان تجاه أخر. يحول بريشت الإهتمام من حياة الشخصيات الداخلية إلى الطريقة التى تسلك بها تجاه إحداهما الأخرى، أو بمعنى أخر إلى العلاقات الاجتماعية، ومغزاها السياسى.
كان “بريشت” يهدف إلى إستخدام المسرح كوسيلة لخدمة المجتمع، فلقد كان مؤمنا بأن المسرح الملحمى بتركيزه على تصوير الإنسان فى علاقته الاجتماعية، كان قادراً على إيقاظ قدرات المشاهدين لإحداث تغيير فى المجتمع، فهو لا يترك، كما فى المسرح التقليدى للمتفرج أن يستخلص النتائج الممكنة للعرض، بل إنه يزودنا بالخلفية الاجتماعية، ويعلق عليها من خلال الراوى فعن طريق إبقاء المتفرج فى حالة عقلية نقدية تمنعه من رؤية الصراع كلية من وجهه نظر الشخصيات ومن تقبل عواطفها ودوافعها على أنها محكومة بالطبيعة البشرية والمجتمع ولا يمكن تغييرها، يستطيع المسرح أن يجعل المتفرجين يرون التناقضات الموجودة ةداخل المجتمع وأن يجعلهم يسعون لتغييرها.
مع تحيات أ.د أحمد صقر- جامعة الإسكندرية

رواية القوقعة -الحلقة الثانية مصطفى خليفة

16 تشرين الثاني

منذ الصباح يعم ضجيج مكبرات الصوت. أرجاء السجن وما حوله تبث الأناشيد الوطنية والأناشيد التي تمجد رئيس الدولة وتسبغ عليه صفات الحكمة والشجاعة، وتصفه بأوصاف عديدة، فهو المفدى، القائد العظيم، المعلم، المُلهِم… تذكر أفضاله العميمة على جميع أبناء الشعب ، فلولاه لما بزغت الشمس، وهو الذي يمنحنا الهواء لنتنفس ، والماء لنشرب …

نحن السجناء جميعاً نقف في الساحات في صفوف منتظمة، ولأول مرة منذ مجيئي الى هنا سمحوا لنا بالوقوف ضمن الساحة مفتوحي الأعين.

أعطوا واحداً من السجناء ورقة، ومما هو مكتوب عليها يهتف… فنهتف وراءه: بالروح…بالدم سنفدي رئيسنا المحبوب والمعبود!.

لازمني الدكتور زاهي (زاهي عبادي، طبيب من دير الزور، خريج جامعة حلب، معتقل معنا) بعنايته الفائقة، وبلهجة المنطقة الشرقية المحببة كان يشرح لي بما يشبه التقرير الطبي أن وضعي كان خطراً لسببين: الأول أن أذية بالغة قد أصابت إحدى الكليتين وأنني بقيت فترة أتبول دماً. أما الثاني فهو أن مساحة الجلد المتهتك في جسدي قد اقتربت من حد الخطر. وإن تفاوتت النسبة حسب المنطقة. تَهَتَّك جلد الظهر بكامله تقريبا ، قسم من البطن ، الجهة الأمامية من الفخذين، القدمان من الجهتين العلوية والسفلية. أما جلد القدم اليسرى فقد انكشط من الجهة العلوية وبانت العظام.

أخبرني زاهي أنني بقيت ستة أيام غائباً عن الوعي ومعلقاً بين الحياة والموت، كان الملح هو المادة المعقمة الوحيدة المتوفرة، بالملح عالجني الشيخ زاهي، كما كان يحب أن ينادى متنازلا عن لقب دكتور بكل طيبة خاطر وكان يشربني الماء وقليلا من المربى المذاب والمخفف بالماء.

وكما شرح لي وضعي الصحي فإنه أخبرني عن المعلومات التي وصلتهم من المهاجع الأخرى والتي تقول إن عدد أفراد دفعتنا كان / 91 / شخصاً، قتل منهم ثلاثة في الساحة الأولى أثناء الاستقبال وهؤلاء لم يدخلوهم إلى المهاجع، وخلال فترة غيابي عن الوعي مات عشرة آخرون متأثرين بجروحهم وإصاباتهم البليغة، واثنان من الدفعة أصيبا بشلل دائم نتيجة أذى كبير بالعمود الفقري، واحد فقط أصبح أعمى بعد أن تلقى ضربة كرباج فقأت عينيه، وبعد أن انتهى زاهي من سرد هذه المعلومات قال:

-والحمد لله على سلامتك .. احمد الله يا أخوي احمده.. و رغم أن الصلاة ممنوعة بس أنت تقدر تصلي سراً ركعتين لوجه الله !.

الحلاقة

وقف رئيس المهجع في الصباح وقال مخاطباً الناس في المهجع:

-يا إخوان .. اليوم دورنا بالحلاقة، اصبروا وصابروا، سيعيننا الله .. احملوا المرضى ويللي ما بيحسن يمشي على البطانيات، كل بطانية يحملها أربعة فدائيين … وقدر ما فيكم أسرعوا، السرعة أفضل.. والله يقوينا!

صفان من الشرطة على جانبي الباب، بين الشرطي والآخر حوالي المترين، كل شرطي يحمل كرباجاً، ما أن يصل السجين إلى الباب حتى يبدأ الركض، تتلقاه كرابيج الصف اليميني للشرطة من الأمام، الكرابيج اليسارية تطارده من الخلف، من يتعثر أو يقع .. قد يموت فهو يكون قد كسر التناغم وإيقاع الضرب، يقف الصف من خلفه وتجتمع عليه الكرابيج جميعاً، فإذا كان ذا بنية قوية واستطاع النهوض رغم الكرابيج المنهالة عليه فقد نجا. أما الضعيف فستبقيه الكرابيج لصيقاً بالأرض إلى الأبد.

حوالي الثلاثمائة سجين من مهجعنا ركضوا بسرعة، تلقوا الضربات السريعة والكاوية، اصطفوا في الساحة ووجوههم إلى الحائط وأعينهم مغمضة، نحن المرضى وضعونا في منتصف الساحة.

حلاقة الذقن عملية تشريح أو حراثة للوجه مصحوبة بالبصاق والشتائم، وكان بعضهم يتلذذ بافتعال السعال قبل البصق على وجه السجين كي يكون البصاق مصحوبا بالمخاط !!! وتلتصق بصقة البلديات بالوجه ! ويمنع السجين من مسحها

حلاقة الرأس .. مع كل سحبة ماكينة على الرأس، وبعد أن ينفض البلديات الشعر المحلوق، ضربة قوية بالماكينة نفسها على المكان المحلوق وهو يصر على أسنانه ويشتم.

المهجع

خلال استلقائي أكثر من شهر في هذا الركن أتيح لي أن أعاين وأفهم الكثير من الأشياء والأمور في هذا المهجع الكبير. يبلغ طول المهجع خمسة عشر متراً، وعرضه حوالي ستة أمتار. باب حديدي أسود، في أعلى الجدران نوافذ صغيرة ملاصقة للسقف ومسلحة بقضبان حديدية سميكة، لا يتجاوز عرض النافذة خمسين سنتمتراً وطولها حوالي المتر. أهم ما في المهجع هو الفتحة السقفية، وهي فتحة في منتصف السقف طولها أربعة أمتار وعرضها متران، مسلحة أيضا بقضبان حديدية متينة، هذه الفتحة ويسمونها ” الشراقة ” تتيح للحارس المسلح ببندقية والذي يقف على سطح المهجع أن يراقب ويعاين كل ما يجري داخل المهجع وعلى مدار ساعات الليل والنهار، فوق كل مهجع في السجن الصحراوي حارس مسلح من الشرطة العسكرية.

الطعام

ثلاث مرات في اليوم يفتح الباب الحديدي الأسود لإدخال الطعام، وفي كل مرة يكون الفدائيون واقفين خلف الباب، ما أن يفتح حتى يصبحوا جميعاً بلمح البصر عند الطعام، وبسرعة البرق يحملونه، فدائي واحد لكل جاط برغل، جاط المرق يحمله اثنان، الخبز يكومونه على البطانيات وكل بطانية يحملها أربعة أشخاص، طوال الوقت الذي يستغرقه إدخال الطعام تكون كرابيج الشرطة قد فعلت فعلها، يتفنن عناصر الشرطة ويبتدعون أساليب جديدة:

أمام جاط شوربة العدس الغالي، أمسك الرقيب بالفدائي الذي هَمَّ بحمل الجاط. قال:

-اترك الجاط على الأرض … ولا ….!

ترك السجين الجاط ووقف.

-وهلق … غطس إيديك بالشوربة لشوف!

وخرجت اليدان من الشوربة مسلوختين. وأجبره بعدها أن يحمل الجاط بيديه المسلوختين إلى داخل المهجع. كل بضعة أيام يقتل واحد أو أكثر أثناء إدخال الطعام إلى المهاجع.

الفدائيون

يوجد هنا أناس من كل الأعمار، رجال في الثمانين من عمرهم، فتيان لم يتجاوزوا الخامسة عشر، يوجد مرضى، ضعفاء، ذوو عاهات سواء كانت في الأصل أو حدثت جراء التعذيب.

الفدائيون مجموعة من الشباب الأقوياء ذوي الأجساد المتينة، تطوعوا من تلقاء أنفسهم للقيام بالمهام الخطرة التي تحتاج إلى قوة تحمل أو سرعة، مثل إدخال الطعام إلى المهجع، أو إذا تم ” تعليم ” أحد المرضى أو الشيوخ من قبل الحراس، فإن أحد الفدائيين ينوب عن هذا المريض في تلقي الخمسمائة جلدة، لا يعرف أحد أي مهجع في السجن كان السباق إلى ابتداع هذه الفرقة الفدائية.

سمعت أحد الفدائيين يقول إلى زميله:

-نحن مشروع شهادة.

وهم صادقون في سعيهم إلى الاستشهاد، وقد أنقذت الفرق الفدائية حياة الكثير، وعملهم يتسم بالإخلاص والاندفاع الشديدين النابعين عن إيمان عميق.

الحمّام

نحن في المهجع ستة مرضى لا نذهب إلى الحمام، أنا وزميلي في الدفعة الذي بقي غائباً عن الوعي طوال الفترة التي كنت لا أستطيع الحركة فيها، “وكان قد دخل إلى هذا المهجع من دفعتنا ثلاثة، واحد مات بعد يومين، أنا صحوت بعد ستة أيام، أما الثالث فقد بقي شهرين يتأرجح بين الموت والحياة، صحا بعدها وشفي” وأربعة مشلولون، اثنان منهم بالأصل شلل أطفال ، الثالث أثناء الاستقبال، أما الرابع فقد شل نتيجة التعذيب بـ ” المظلة “.

فتح الباب … خرجنا ركضاً، اثنين اثنين، حولنا من الجانبين الشرطة يحملون الكرابيج التي ترتفع عالياً وتهوي على من تصادفه. الكل حفاة ” كانت قدماي لما تُشْفَ جيدا بعد “، من الساحة السادسة عبرنا ثلاث ساحات أخرى حتى وصلنا الحمام، أدخلونا كل اثنين إلى مقصورة بلا باب، وزعوا الصابون العسكري ضرباً على الرأس.. صياح … شتائم …

“سوف يلغى الحمّام بعد فترة نتيجة اكتظاظ السجن وسيتم تحويله إلى مهجع يوضع فيه المعتقلون الشيوعيون .”

تابع الدكتور زاهي العناية بي وبالمرضى الآخرين، جروحي كلها على وشك الشفاء عدا الجرح على وجه القدم اليسرى، ونتيجة لأن عظام مشط القدم قد بانت بعد انكشاط الجلد عنها فقد خشي الدكتور زاهي من مضاعفات أخرى، حضر مرة ومعه شخص آخر وعرّف به على أنه طبيب أخصائي جلدية، وقد أخبرني هذا الطبيب أن بمهجعنا فقط يوجد ثلاثة وعشرون طبيباً من مختلف الاختصاصات.

الصلاة

الصلاة ممنوعة منعاً باتاً بأوامر مدير السجن. عقوبة من يقبض عليه متلبسا بجرم الصلاة هي ” الموت “، رغم ذلك فإنهم لم يكونوا يفوّتون صلاة واحدة. ولكن هنا الإنسان يصلي وهو جالس في مكانه أو في أي وضعية أخرى. إدارة السجن عرفت هذا أيضاً، ويتناقلون حديثاً لمدير السجن قاله أمام السجناء الشيوعيين، ودائماً حديث مدير السجن أشبه ما يكون بالمحاضرات أو الخطب، خاطب الشيوعيين قائلاً:

-هؤلاء الكلاب … الإخوان المسلمون، البارحة فقط أمضيت أكثر من نصف ساعة وأنا أشرح لهم وأفهمهم أن القومية أهم من الدين، ولكن هل تتصورون أنهم اليوم عادوا يصلّون !!! عجيب أمر هؤلاء الناس !!

الاتصال

جميع المهاجع ملتصقة ببعضها، من اليمين واليسار، وأحياناً من الخلف أيضاً، وهذا الأمر سهّل الاتصال بين السجناء، ويكون ذلك بالدق على الحائط حسب طريقة مورس، دقة على الحائط … دقتان … دقة قوية ودقة ضعيفة….

كل ما يجري داخل السجن: الدفعات الجديدة، من مات، عدد الذين أعدموا وأسماؤهم، الأخبار خارج السجن والتي ينقلها السجناء الذين جاؤوا حديثاً، كل هذه الأشياء كانت تنتقل عبر المهاجع وفي كل مهجع مجموعة مخصصة لتلقي وإرسال تلك الرموز، تقف خلفهم مجموعة الحفظة.

بدأ الحفظ منذ بداية “المحنة” كما يسميها الإسلاميون، كان الشيوخ الكبار يجلسون ويتلون آياتِ القرآن على مجموعة من الشباب، وهؤلاء يظلون يكررونها حتى يحفظوها، لم يبق أحد في المهجع إلا وحفظ القرآن من أول حرف إلى آخر حرف، ومع كل دفعة جديدة كانت تبدأ دورة جديدة، ولاحقاً تطور الأمر باتجاه آخر، يتم انتقاء مجموعة من الشباب صغار السن يحفظون إضافة الى القرآن وأحاديث النبي محمد … ما يمكن تسميته بسجل السجن، أسماء كل من دخل هذا السجن من الحركات الإسلامية. “في مهجعنا شاب لم يبلغ العشرين من عمره، يحفظ أكثر من ثلاثة آلاف اسم، اسم السجين، اسم مدينته أو بلدته، قريته، تاريخ دخوله السجن … مصيره!!.” بعضهم متخصص بالإعدامات والقتل، وهم يسمون كل من يقتل أو يعدم في السجن شهيداً، وهذا سجل الشهداء. أيضا يحفظون الاسم، عنوان الأهل، تاريخ الإعدام أو القتل.

شجاعتهم أسطورية في مواجهة التعذيب والموت، وخاصةً لدى فرق الفدائيين، وقد رأيت أناساً منهم كانوا يفرحون فرحاً حقيقياً وهم ذاهبون للإعدام. لاأعتقد أن مثل هذه الشجاعة يمكن أن توجد في مكان أخر أو لدى مجموعة بشرية أخرى.

وسط هذه الصحراء المترامية، لا توجد فصول أربعة، فقط فصلان، صيف وشتاء، ولا ندري أيهما أشد قسوة من الآخر.

-نحن الآن في عز الصيف. الجو لاهب. سمعت بعضهم ممن يعرف المنطقة سابقاً يقول إن درجة الحرارة قد تصل الخمسين أو حتى ستين درجة مئوية في الخارج، وفي الظل داخل المهجع لا تقل عن الخمسة وأربعين درجة مئوية.

بعض كبار السن قَضَوا اختناقا، رئيس المهجع يدق الباب ويخبر الشرطة بموت أحدهم، يفتحون الباب، ويبدو صوت الشرطي سائلاً من شدة الحرارة:

-وين هادا الفطسان ؟… يالله … زتُّوه لبرّه.

أما اليوم الشتائي فهو يوم منكمش، ثياب الجميع قد تهرأت ولا يمكن أن تقي من البرد الصحراوي الحاد الذي ينخر العظام ويجمد المفاصل. أحد القادمين الجدد إلى المهجع كان أهله أغنياء جدا، وقد استطاعوا زيارته أثناء وجوده في فرع المخابرات بعد أن دفعوا ما يوازي ثروة صغيرة كرشوة إلى الضابط المسؤول، وهناك من نصحهم بأن يأخذوا لابنهم الكثير من الثياب. “جلب معه أكثر من مائة غيار داخلي، كان نصيبي منها سروالاً داخلياً، أعطاني إياه رئيس المهجع:

-خود هذا …. مشان يكون عندك بدل!

أما مشكلة القمل فتكون أصعب في اليوم الشتائي، فلا حل للقمل المنتشر بكثافة في جميع المهاجع إلا أن تجلس وتخلع كل ثيابك وتبدأ بالتفتيش عنه في ثنايا الثياب. الجميع هنا يفعل ذلك.

جافاني النوم. مددت البطانية كالعادة وتمددت. الواحدة بعد منتصف الليل مللت الاضطجاع بعد أن آلمتني أجنابي، جلست ولففت نفسي بالبطانيات، خمس دقائق وصوت الحارس من خلال الشراقة:

-يا رئيس المهجع .. يا حمار.

-نعم سيدي.

-علّملي هالتيس القاعد جنبك.

-حاضر سيدي.

لقد علمني. تمددت فورا، غداً صباحاً سيكون فطوري خمسمائة جلدة بقشاط مروحة الدبابة على قدمي! إن قدمي التي أصيبت شفيت تماما مع ندب طويل ولكنها كانت تؤلمني دائماً في أيام البرد فألفّها أكثر من غيرها، كنت أحلم بزوج من الجوارب الصوفية! أحد أحلامي الصغيرة. ماذا سيكون مصير هذه القدم المسكينة عندما تتلقى خمسمائة جلدة؟ وعندما فتح الباب وصاح الشرطي برئيس المهجع ليخرج الأشخاص الذين تم تعليمهم، قفزت واقفاً، ولكن رئيس المهجع وبسرعة قال:

– مكانك، لا تتحرك، واحد من الشباب طلع بدلا منك.

ذهلت، واحد من الفدائيين، واحد من المتشددين الإسلاميين يفديني الآن بنفسه ويتلقى عني خمسمائة جلدة!!

التنفس

في السجون الأخرى التنفس هو حيز زمني يخرج فيه السجين من مهجعه إلى ساحة هواؤها نقي، يأخذ حاجته من الهواء والشمس والحركة.

هنا … قبل التنفس يكون السجناء في المهجع قد انتظموا في طابور، تفتح الشرطة الباب، يخرج الطابور بخطوات بطيئة، الرؤوس منكسة إلى الأسفل، العيون مغمضة، كل سجين يمسك بثياب الذي أمامه، عناصر الشرطة والبلديات يحيطون بالساحة وينتشرون بها بكثافة.

الاثنين والخميس يومان مختلفان عن بقية أيام الأسبوع هنا. في هذين اليومين تتم الإعدامات، لذلك عندما نخرج للتنفس في هذين اليومين تكون كمية التعذيب والضرب أكثر، وفي التنفس يكون الضرب غالباً على الرأس:

-يا كلب… ليش عم ترفع راسك؟!

ويهوي الكرباج على الرأس.

يصرخ الرقيب:

– يا حقير… أنت أنت يا طويل… أطول واحد بالصف، تعال هون…

يركض أحد البلديات ويجر أطول واحد بيننا، الرقيب جالس يضع رِجلاً على رجل، يقول:

– يا حقير .. أنت بني آدم ولا زرافة؟

يضحك المتجمعون حوله بصخب، يتابع الرقيب:

– وهلق … اركض حول الساحة خمس دورات وطالع صوت متل صوت الزرافة … يالله بسرعة. يركض السجين ويصدر أصواتاً، لا أحد يعرف كيف هو صوت الزرافة، أعتقد حتى ولا الرقيب نفسه، يدور السجين خمس مرات، يتوقف، يقول الرقيب:

– ولا حقير … هلق بدك تنهق متل الحمار!

ينهق السجين الطويل. تضحك الشرطة.

– ولا حقير… هلق بدك تعوي متل الكلب!

يعوي السجين الطويل. تضحك الشرطة. يضحك الرقيب وهو يهتز. ثم يلتفت إلى رتل السجناء الذي يسير منكس الرؤوس ومغمض العينين، يصيح:

– ولا حقير… أنت أنت… أقصر واحد بالصف ، تعال هون.

يركض أحد البلديات، يجر أقصر واحد بالرتل. شاب صغير لا يتجاوز الخامسة عشر، يقف أمام الرقيب الذي يضحك ويقول:

– ولا حقير… يا زْمِكّ … وقف قدام هالكلب الطويل.

يقف السجين القصير أمام السجين الطويل، يصرخ الرقيب:

– ولا حقير … يا طويل … هلق بدك تعوي وتعض هالكلب يللي قدامك وبدك تشيل قطعة من كتفه، وإذا ما شلت هـ القطعة … ألف كرباج.

– وهلق … انتوا الاثنين اشلحوا تيابكم.

يخلع الاثنان ثيابهما ويبقيان بالسراويل.

– ولا حقير قصير… نزل سرواله.

ينزل القصير سروال الطويل الى حد الركبتين.

– ونزل سروالك كمان. (ينزل القصير سرواله أيضا).

– وهلق …… اعمل فيه ….(يتلكأ القصير، يشير الرقيب إلى أحد عناصر الشرطة، يقترب هذا ويهوي بالكرباج على ظهر القصير… يجلس الرقيب ، يصيح وهو ينظر إلى الرتل الذي يسير برؤوس منكسة وعيون مغمضة):

– جيبوا لي هـ البغل … السمين.

يأتون برجل أربعيني بدين، يعرف الرقيب منه اسمه واسم مدينته، كم أمضى في السجن … وتفاصيل أخرى، ثم يسأله:

– أنت متزوج ولاّ أعزب؟

– متزوج سيدي.

– أنت بتعرف شو عم تساوي زوجتك هلق … ولا … أنا بقول لك، أنت صار لك ثلاث سنين في السجن …. وهي كل يوم مع واحد جديد.

– السجين ساكت، منكس الرأس مغمض العينين…

تمضي الأيام، يتبدل الرقباء، لكن الأساليب تبقى نفسها …

” كنت أتساءل : هل هي تسلية فقط أم أنها نهج مدروس الغاية منه تحطيم الإنسان وإذلاله من خلال المرأة باعتبارها أعلى قيم الشرف لدى المسلمين؟!…”