أرشيف سنة: 2021

لأنهم قالوا: لا مذكرات سجنية الحلقة الثانية

السلام عليكم

-1-

        الاضطهاد وما يتبعه، وما قد يتبعه، جزء من نظام “حزب البعث العربي الاشتراكي” الذي ابتلي به قطرنا السوري، وانخدع به بعض الناس فترة من الزمن، ولا يزال بعضهم مخدوعاً به.

        من توابع الاضطهاد في قطرنا: الاعتقال لأهل الرأي، والتعذيب الوحشي بدنياً ونفسياً، بل الاعتقال كذلك لزائري القطر من سيّاح وغيرهم!… وانتشار الرشوة على المستويات كافّة، ونشر الرذيلة، وتكميم الأفواه، واحتكار الإعلام، ومنع تشكيل الأحزاب السياسية والجمعيات الثقافية والنوادي… إلا ما ينام على يد السلطة ويأتمر بأمرها ويسبّح بحمدها!. والتمييز والتسلط الفئويّان والطائفيان، وممارسة ألوانٍ من الظلم. منها ما يشمل الشعب كله أو معظمه، ومنها ما يخصّ فئات معينة كالإسلاميين والأكراد والتنظيمات التي لا تسير في فلك السلطة، كبعض أجنحة البعث الخارجة عن الطاعة! وكثير من التنظيمات الفلسطينية….

-2-

        الفترة التي أتحدث عنها في هذا الكتاب هي الفترة الممتدة من 6/4/1973 إلى 7/4/1977، وهذه الفترة هي جزء من الحقبة الكئيبة التي أقعى فيها حافظ أسد على صدر الشعب، بأجهزته “الأمنية” وبالأشقياء من أبناء طائفته وغيرهم، وأبعد المعارضين له والمناوئين والشرفاء، سواء أكانوا من أبناء الطائفة أم من غيرها… أي أنه مكّن جزءاً يسيراً، من الحثالات، وأقصى جماهير الشعب، وفرض وصاية التُّحوت على الوعول!.

        قضيت الفترة المذكورة في عددٍ من السجون:

1- من 6/4/1973 وحتى 6/9/1973 (تقريباً) في فرع مخابرات حلب، المعروف باسم سجن أمن الدولة، وكان رئيس الفرع آنذاك محمد خير دياب، ونائبه محمد سعيد بخيتان، والمحقق عبد القادر حيزة، وأبرز الجلادين والسجانين: جاسم وشيخو وأبو حميد…

2- ومن 6/9/1973 وحتى 6/10/1975 في فرع الحلبوني.

3- ومن 6/10/1975 وحتى 7/4/1977 في سجن حلب المركزي.

        وكان وصولي إلى سجن حلب المركزي في ليلة عيد الفطر. وفي صباح العيد تم الإفراج عن الإخوة الثلاثة الذين نقلوا معي، وكانت الإشاعات قد تحدثت عن تلك الإفراجات مسبقاً، ولا شكَّ أنَّ أهلي -كأهالي المعتقلين الآخرين- تعلقوا بهذه الإشاعات، وبنوا عليها الآمال. لكن السلطة الحاقدة خيبت أمل أهلي، فبقيت بعد هذا التاريخ ثمانية عشر شهراً أخرى!. لقد امتدت فترة السجن إلى أربع سنوات، قضيت أكثر من نصفها في فرع الحلبوني.

-3-

        كان السجن لي مدرسةً عرفت فيها نفسي، وعرفت شرائح مختلفة من البشر: من الإخوان، ومن الإسلاميين الآخرين (وبخاصة أعضاء حزب التحرير)، ومن الفلسطينيين (من فتح والجبهة الشعبية وغيرهما)، ومن البعثيين الذين انشقّ عنهم حافظ، أقصد اليمينيين جماعة أمين الحافظ، واليساريين جماعة صلاح جديد… فضلاً عن أفراد من هنا وهناك، من التنظيمات الكردية، ومن أصحاب انتماءاتٍ مختلفة، ومن أناس غير سوريين: عراقيين وأردنيين وبريطانيين وكنديين وإسبانيين…

        وعرفت فيها أزلام السلطة وأجراءها، من ضباط مخابرات، ومحققين وجلادين… وضباط شرطة وأفراد شرطة (في سجن حلب المركزي)…

-4-

        الصفة العامة لمعظم ضباط المخابرات والمحققين الذين عرفتهم، أنهم قليلو الذكاء، ضعيفو الضمير، محدودو الثقافة، جفاة الطبع، منحدرو الأخلاق… ولا تخلو القاعدة من شذوذات يسيرة، فقد تجد الذكي ولو نسبياً، ومن عنده بقية من أخلاق!.

        أما السجانون والجلادون فيتّسمون عادة بالغباء والمحدودية، وبضعف الثقافة بل الأمّية أحياناً. ويصطرع في نفوسهم أثر التربية البيتية، والانتماء إلى شعبنا الطيب، والجهل، والتوجيهات الحاقدة اللئيمة التي يتلَّقونها من رؤسائهم…

        أما المعتقلون فهم يمثّلون شرائح متباينة جداً. وكثير منهم ينحاز، بعد أن يرى الظلم والسوء، إلى دينه وفطرته، ويتوجّه إلى الله بالعبادة…

        ومعظم الأجانب الغربيين الذين كنا نلتقيهم في السجن، يُعربون عن نيّاتهم بفضح “النظام” الذي سجنهم، وشَرْح الظلم الذي شاهدوه أو طُبِّق عليهم، أمام حكوماتهم وأمام وسائل الإعلام، وأمام منظمات حقوق الإنسان!.

-5-

        وقد حاولت تحرّي الدقة والموضوعية فيما كتبت، ولم أمتنع عن ذكر إيجابية رأيتها من محقق أو سجّان، على قلّة ما رأيت… فالنفس البشرية لا تتمحَّض للشر، لكنَّ شرّها يتكاثر أحياناً ويطغى حتى يكاد يغطّي كل خير!.

        وقد تخونني الذاكرة فأهمل كثيراً من التفصيلات.

        ومع أني تحرّيت الكتابة بالعربية الفصيحة، فقد تساهلت مرّات بذكر كلماتٍ لها وقع في النفوس، عاميةٍ أو أعجمية!.

-6-

        ولا يفوتني أن أذكر أنَّ الظلم الذي لقيته، على فداحته، لا يُعَدُّ شيئاً أمام الحقبة التي كانت بعد عام 1979، لا سيما في سجن تدمر، وفي السجون المؤقتة التي أنشئت في مدرسة المدفعية بحلب، أو في حماة، في شباط 1982…

        كما أنَّ سجن المخابرات العسكرية في حلب، حي السريان، وسجن فرع فلسطين في دمشق، وسجن الآمرية الجوية… تعجّ بألوانٍ من الظلم والقهر والتعذيب البدني والنفسي لا يعرفها إبليس!.

        ومن المناسب أن نشير إلى بعض الكتب التي تتحدث عن حقبة ما بعد 1979، بما فيها حقبة ما بعد 2000م!. فمن هذه الكتب: “تدمر شاهد ومشهود”، “خمس دقائق وحسب” و”تدمر.. المجزرة المستمرّة” ومقالات الرياضي العراقي البريطاني هلال عبد الرزاق علي في جريدة القدس العربي، ومقالات الدكتور هشام الشامي على المواقع الالكترونية وغيرها.

لقطات من البداية

كانت البداية في يوم السادس من نيسان عام 1973م، في يوم جمعة وقت أذان العصر، وكنتُ وقتها في ورشة بناء صوامع الحبوب بجوار مدينة الرقة، حيث كنت المهندس المسؤول عن ذلك الموقع من جهة الدولة.

توقفت بجواري سيارة (لاندروفر) وترجّل منها ثلاثة. أحدهم هو أكبرهم سناً، في مطلع الأربعينيات من عمره، منظره مقبول، أسمر، ذو كرش، لباسه أنيق… قدّم لي نفسه أنه ضابط مخابرات. عرفتُ فيما بعد، أنه عبد القادر حيزة، المحقق. وفهمت أن الاثنين الآخرين مرافقان، وأحدهما هو سائق السيارة.

بادر المرافقان وقالا لسيدهما: سيدي، أنفتِّشُه؟ قال: “لا. لا حاجة. الإخوان المسلمون لا يحملون سلاحاً”.

إذاً جاء يعتقلني بصفتي عضواً في جماعة الإخوان المسلمين، وهو يشهد أن الإخوان المسلمين لا يحملون سلاحاًَ. وبالمناسبة فقد بقيت معتقلاً حتى يوم 7/4/1977 أي مدة أربع سنين كاملة!.

دخل إلى البيت الذي أسكنه في الورشة، ولم يكن تفتيش هذا البيت عملية معقدة، فالبيت شبه فارغ! لكنه وجد على الطاولة دفتر جيب صغيراً. وضعت قلبي على كفّي، كما يقال، حذراً من أن يسألني عن حل ألغاز ما في الدفتر، فقد كان فيه مواعيد لقاءاتي التنظيمية، مكتوبة برموز وأرقام، لا يحلّها غيري.

قلّب أوراق الدفتر ثم رماه، وقال: إنه دفتر حسابات!.

قال لي: إنك مطلوب إلى فرع المخابرات في حلب، للتحقيق معك في بعض الأمور.

قلت: لكنّ معي زوجتي وطفلتي، ولا يمكن أن أتركهما هنا، ألا يمكن أن آخذهما في السيارة إلى حلب؟ قال: لا، ولكن نوصلهما إلى منطلق سيارات “التاكسي” المسافرة إلى حلب!.

في منطلق السيارات وجدنا سيارة تحتاج إلى راكبين، دفعت أجرة راكبين حتى لا يضايق زوجتي أحد، وأوصى المحقق “حيزة” سائق السيارة: “هذه السيدة ستسافر معك إلى حلب، لسبب يهمّ الدولة. عليك أن توصلها إلى بيت أهلها. وإذا أصابها مكروه فلا تلومَنَّ إلا نفسك! أسمعت؟!”.

قال السائق: نعم سيدي. إنها أمانة في عنقي.

وتأكيداً لجدّية الأمر فقد سجّل حيزة رقم السيارة على ورقة عنده.

وقد بقيتُ في قلق وتوجُّس مع هذا كله، فليس من شأن زوجتي أن تذهب في سيارةٍ مع سائقٍ غريب ضمن مدينة حلب نفسها، فكيف بسفرها مسافة 150 كيلومتراً؟!. ولكن لم يكن أمامي خيار آخر، فأنا معتقل بيد من لا يرحمون. سلَّمتُ الأمر إلى الله، وقرأت بعض الآيات الكريمة والأدعية، رجاء أن يحفظ الله الزوجة وطفلتها.

مضت بنا السيارة إلى فرع مخابرات “الطبْقة”. بقينا هناك مدة ساعتين أو أكثر، وُضعت فيها في غرفة وحدي. أما المحقق فقد قعد في مكان آخر، وأظنّه كان يتسامر مع زملائه.

مرّة أخرى مضت بنا السيارة نحو حلب. دخلنا فرع المخابرات العامة هناك، الذي يسمى أحياناً (بناية العدّاس) أو (مدرسة نابلس) إذ يقال: إن المبنى كان يملكه أحد الأثرياء من آل العدّاس، وصادرته الدولة، وجعلته مدرسةً باسم ثانوية نابلس، ثم وجدتْ أن الأنفع للمجتمع أن يصير فرعاً للمخابرات فصار!.

يبدأ الدخول بدرج نازل إلى القبو، بنحو عشرين درجة متوالية، نصفها تقريباً يقع خارج باب القبو ونصفها الثاني بعد الباب.

ينتهي الدرج ببهو صغير فيه طاولة صغيرة، خلفها كرسي، يجلس عليه عادة أحد السجانين، وفيه كذلك سرير ينام عليه السجّان المناوب.

في هذا البهو كان في استقبالي مجموعة من “الأشخاص” بعضهم ممّن (إذا رأيتهم تُعجبك أجسامُهم) وبعضهم ليس كذلك.

كان أجملُهم هيئةً: قصيرَ القامة نسبياً، أبيض البشرة، أنيق الملبس، لكنه، كما تبيّن بعدئذ، أكثرهم حقارة وسفاهةً، وأسوؤهم أدباً… إنه رئيس الفرع م خير دياب، وكان برتبة نقيب. ولأن رئيس الفرع موجود، فطاقم الجلاوزة كله موجود، وسوف يتبارى في إثبات الجدارة أمام “المعلم”، وهو اللقب الذي يطلقونه على رئيس الفرع!.

وكان الثاني طويل القامة؛ يلبس بدلة رمادية مخططة، هيئتهُ تشير إلى أنه من أصول بدوية، وحين نظرت في وجهه بادرني بالكلام: ألا تعرفني؟! قلت: لا أدري، ربما تقابلنا مرةً ما! قال: أنا أراقبك منذ ستة أشهر، وأعرف عنك كل شيء: من زارك في هذه المدة، ومن قابلك، ومن زرتَ أنت…

تشكّكتُ في كلامه، وتبيّن لي فعلاً أنه كان يكذب عليّ، كما هو شأن هذا الصنف من الناس، ليوحي إليّ أنه لا فائدة من إنكار شيء!. فكل شيء عنك معروف لدينا.

وعرفت بعدئذ أنه الملازم أول محمد سعيد بخيتان، نائب رئيس الفرع (الذي أصبح في عهد بشار أسد عضو قيادة قطرية).

وكان في البهو “شخصان” آخران، سأتحدث عنهما في فصل آخر، إن شاء الله، وهما السجّانان: شيخو وأبو حميد.

قام أحد السجّانين بتفتيشي، صادر مني “ساعة اليد” والمفاتيح، والمشط والهوية… وسئلت عن معلوماتي الشخصية، ثم قادوني إلى غرفة التحقيق.

في الحقيقة هما غرفتان. غرفة خارجية، يُدخل إليها من ممرّ طوله نحو 6 أمتار وعرضه حوالي 1.40 م، والغرفة نفسها كبيرة نسبياً، أبعادها حوالي 4.5× 5.5م، وهي غرفة جرداء، ليس لها أي نافذة، وليس فيها أي شيء من قطع الأثاث، سوى دولاب، أي إطار سيارة ركّاب، وحزمة من الخيزرانات، وجهاز لاسلكي صغير علمتُ بعدئذ أنه يستعمل في التعذيب بالكهرباء!.

وهذه الغرفة هي غرفة التعذيب.

أما الغرفة الثانية فهي غرفة التحقيق، وهي غرفة أصغر من الأولى، يُدخل إليها من الغرفة الأولى. أبعادها حوالي 2.5×3م، ولها شباك مقابل بابها. فيها طاولة مكتب، وعلى الطاولة جهازان للهاتف.

كان النقيب دياب هو الذي باشر التحقيق، وكان يناوب بين القعود خلف الطاولة، وبين مغادرة الطاولة لأجل “القيام بالواجب”. أما الآخرون فكانوا يكملون الدور، فالجلادان بأيديهما الخيزران، فهما لا يقصّران في الضرب اللاسع، والصفع والشتم والتهديد، وبخيتان يرمي بعض الكلمات بين حين وآخر من أجل المزيد من الاستدراج.

وكان النقيب أفحشهم بذاءةً، وأكثرهم قسوة، لكنه لم يكن أكثرهم ذكاء.

وراحوا ينقّلونني بين غرفة التعذيب وغرفة التحقيق، وقد جرّدوني من ملابسي، إلا ما يستر العورة الغليظة، ويسلّطون عليّ أنواع التعذيب من لسعات الخيزران على أنحاء جسمي كافّة، وهزّات الكهرباء الفظيعة.

أما لسعات الخيزران فقد كانت تؤلمني مثل الكيّ بالنار، وقد تكسَّرت بين أيديهم مجموعة من الخيزرانات، فكانوا يستبدلون بها خيزرانات جديدة، وأشهد أنهم لم يطالبوني بثمن الخيزرانات التي تكسَّرت على جسدي.

لقد سال الدم من أماكن مختلفة، جرّاء الضرب المبرّح، وكانت بعض الضربات قوية فخلّفت خطوطاً أو بقعاً داكنة، بعضها بقي ظاهراً على ساقيّ أو على ظهري أكثر من سنة. وبعضها ما يزال ظاهراً، بعد مضيّ أكثر من ثلث قرن!!.

ولا أدري عدد الضربات التي تعرَّضت لها، لكنني، ومن خلال خبراتي التي كوّنتها فيما بعد، أقدِّر أنها لا تقل عن ثلاثمئة!.

أما الصعقات الكهربائية فهي شيء مختلف. يمسك الطاغية الكبير جهاز اللاسلكي بيده، ويساعده الجلاد بأن يلفّ مقدمة كل من السلكين المتصلين بالجهاز، حول أصابع قدميّ. وللجهاز ذراع صغيرة ومقبض، فإذا أدار الطاغية الذراع انطلق تيار كهربائي، وانطلق معه صوت الضحية بصراخ قوي، من غير شعور أو قصد.

وقد وجدت من نفسي، ومن غيري في أوقات أخرى، أنَّ الضحية قد يملك التحمل وضبط النفس وكتمان الصوت أمام لسعات الخيزران مع ألمها الشديد، أمّا عند التعرّض لهزّات الكهرباء فلا يملك أحد كتمان الصوت، فإن صراخَه قسري، لا إرادة له به.

ومعظم ما يتلقّاه الضحية من تعذيب، بالخيزرانة أو بالكهرباء، يتلقّاه وهو محشور في الدولاب، فخذاه ملتصقتان ببطنه، والدولاب هو الذي يشدّ الفخذين إلى البطن، والضحية ملقى على الأرض، وتتناوشه اللسعات والضربات والهزّات الكهربائية من كل جانب، ويتلقى الشتائم والبذاءات من أشاوس البعث القائد.

وفي حوالي الساعة الثانية ليلاً أو الثالثة غادرني فريق التحقيق، وبقيت في غرفة التحقيق عارياً كما ذكرت (أو شبه عارٍ)، لكنهم قبل أن يغادروا طلبوا مني أن أبقى واقفاً على قدمي ولا أجلس.

وكيف عرفتُ الوقت، ولو بشكل تقريبي؟! لقد سمعت أذان الفجر، الذي جاءني من أحد المساجد القريبة نسبياً، عبر نافذة غرفة التحقيق. وحين سمعته كان قد مضى على ذهاب “الفريق العتيد” نحو ساعتين.

وفي الصباح، ربما في الساعة الثامنة جاءني الجلاد أبو حميد فرآني قائماً، وآثار التعذيب تملأ جسدي، ولعله أشفق على حالي. قال لي: بعد قليل سيأتي المحقق، فإذا سألك عن حالك قل له: “إن السجّان لم يتركني. ما زال يذهب ويأتي ويضربني”. فعلمتُ أنَّ أبا حميد هذا مجرد موظف لا يهمُّه أن يعذبني، بل يريد أن يكسب رضا “أسياده” بأن يظهر أمامهم ظالماً قاسي القلب..

ومرّ النهار ولم يحققوا معي بل نقلوني إلى إحدى الزنازين، وحين طلبتُ ثيابي التي بقيت في غرفة التعذيب فأحضروها إلي.. ولكن بعد أن سرقوا بعض ما فيها من نقود، فقد كان في أحد الجيوب راتبي الذي قبضته قبل أيام قليلة!.

ولكنّ التعذيب لم يتوقف في الزنزانة، بل أخذ شكلاً آخر، إنه التعذيب النفسي: إهانات وتحطيم للكرامة. فقد أوجبوا عليّ أن أبقى واقفاً على قدمٍ واحدة! وأحمل الدولاب ذاته، أضمّه في رأسي وأسنده على كتفي. وحتى  يطمئنّ السجّان إلى حُسْن التنفيذ، ويزيد في العذاب النفسي، كان يمرّ بجانب الزنزانة بشكل غير منتظم: كل دقيقتين، أو كل ربع ساعة، فيفتح “الطاقة” ليراني في الوضع النظامي، أو يكتفي بالضرب على الباب المعدني ضربة قوية لأرتعب من مفاجأتها. يستخدم في الضرب على الباب قبضة يده، أو حذاءه، أو الخيزرانة….

لقد مضى عليّ أكثر من 24 ساعة في الاعتقال، ولم يدخل إلى جسمي لقمة طعام أو نقطة ماء، بل اكتفوا بالغذاء المذكور: الضرب والشتم والصدمات الكهربائية…

أما في المساء، فكما كان يقول أحد السجناء: جاء الليل وجاء الويل، فقد عاد النقيب والجلادان لإقامة “حفلة تعذيب” جديدة، لاستكمال التحقيق، لكن هذه الحفلة.. والحق يقال.. كانت أخفّ وأقصر من الحفلة الأولى، فقد كانت مدتها حوالي ثلثي مدة الحفلة الأولى، وكان عدد لسعات الخيزرانات، وصعقات الكهرباء كذلك حوالي ثلثي ما حوته الحفلة الأولى.

وحتى لا يظنّ أني لم أذق الطعام بعد، أذكر أنه بعد مضيّ الأربع والعشرين ساعة الأولى، كنت في الزنزانة الصغيرة، وكان موقعها استراتيجياً، فهي أمام دورة المياه تماماً! ولا يفصل بينهما سوى ممر بعرض متر واحد، فكان السجناء جميعاً يمرُّون أمامها عند قضاء الحاجة، وكان يسمح لهم بذلك مرتين يومياً، وكان السجن بكامله محجوزاً لحسابنا في تلك الأيام نحن أبناء جماعة الإخوان المسلمين، وقد تمكن أحد الإخوان من استغفال السجّان الذي يراقب الحركة، ففتح عليّ “الطاقة” ورمى إليّ برغيف وقطعة جبن.

وحين جاء دوري لقضاء الحاجة ثم استعمال المغسلة، تمكنت من شرب بعض الماء.

لقد كانت الأسئلة التي يوجهها المحقق إليّ تدور حول التنظيم: متى دخلت التنظيم؟ ما موقعكُ فيه؟ من نظّمك؟ ما بِنْيةُ التنظيم وما هيكليّته؟ ما المناهج التي تدرسونها؟!,,,

فضلاً عن عُروضٍ “للتعاون” مع أجهزة الأمن “لمصلحة الوطن”!.

أدب السجون المغربي (2/2)

إن إحدى محن السجن فضلا عن سلبه الحرية، العزلة( السجن الانفرادي).ومادام السجن فضاء المتناقضات بامتياز فهو تارة منتج لعزلة المعتقل و تارة مصدر للاكتظاظ كذلك. فضاء يجمع بين الفوضى والنظام بين التدمير والتأهيل، بين الضحية والجلاد كما يمكنه الإسعاف على اكتشاف الذات من جديد وفقدانها إلى الأبد. الانهيار واكتساب القدرة على مقاومة ألم التعذيب. إنه عالم الأضداد بامتياز. ولعلها مفارقة وجودية كون أصغر الفضاءات(الزنازين)هي التي أنتجت أرحب التخيلات والذكريات وأطول الاعترافات والأحلام..
ث- عريس الوديع(9) أو سلطة الاعتقال وجها لوجه مع السخرية
اعتمد صلاح الوديع كخلفية جمالية لتسريد جراح الاعتقال الكوميديا السوداء والسخرية المازجة بين الضحك والبكاء. سخرية واضحة منذ عتبة العنوان «العريس» مرورا بالرسائل وقوفا عند صورة صلاح الوديع الضاحك على ظهر الغلاف من محنة الاعتقال. بل يمكن اعتبار تاريخ إصدار «العريس» نفسه تاريخا ساخرا على اعتبار انه تزامن مع الذكرى الخمسين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان. بمعنى بعد مرور نصف قرن والانتهاكات لازالت على قدم وساق…وبالعودة إلى العنوان الملتبس «العريس» نفهم القصد من انتقائه لأنه يوحي بأجواء غبطة و فرح مرتقبين في الوقت الذي تحكي الرسائل عن مأساة التعذيب والتنكيل بالمعتقلين وبهذا فمضمون العنوان ومضمون الرسائل خلقت لنا سخرية سياقية مؤسسة على حدثين دراميين لا جامع بينهما. كما أن الرسائل سخرت من انتهاكات الجلاد بشكل مضاعف: أولا بالتهكم على عنفه غير المبرر. وثانيا بنشرها على الملأ.. فنحن نعلم أن الرسائل عادة تكون شخصية وخاصة وفي غاية الحميمية في حين هي هنا منشورة على الملأ بغاية فضح تجاوزات الجلاد وتعريتها. وتزداد سخرية الرسائل عندما نعلم أنها لا تبتغي جوابا بقدر ما تستدعي تعاطف عموم الناس. رسائل بقدر ما تسخر من الجلاد تمنح المعتقل تعويضا عن حالة العزلة وتحقق له حالة تواصل مأمولة مع الآخر المبعد(الأم)..إن خطاب الرسائل وأسلوبه الخاص جعل المتلقي يعيش الوقائع أول بأول كما لو كان مسلسلا تلفزيونيا…وما ميز خطاب المعتقل وهو يحكي شدة التعذيب وقسوة الجلاد وجرح المهانة على امتداد 150صفحةو27 رسالة هو ارتداؤه لمعطف الساخر. خطاب جعل المعتقل يتشح بوشاح اللاعب الماهر بمقاسات الأشياء. يضخمها ويقزمها حسب مقتضيات الموقف. يقول شيئا ويعني شيئا آخر مضعفا المعنى حيث أن ما يصل الذهن لأول وهلة ليس هو ما يستقر بالوجدان بعد ذلك.. كقوله للمستبد ما أعدلك؟ ولهذا فخطاب السخرية في هذا العمل جمع بين الهذيان والرزانة، بين اليقين والشك، بين الجنون والعقل من فرط حدة التعذيب والإهانة الأمر الذي جعل السخرية عنده تتجاوز كونها مجرد وسيط بلاغي لموقف فلسفي من الوجود منتجة كتابة حدادية في العمق لأنها ترثي موت الأشياء الأصيلة فينا. يقول المرسل والشك يعتصر خافقه حول احتمال وصول الرسائل لأمه ص13:»أبعث إليك بهذه الأوراق و أطلب الله أن تكوني على قيد الحياة لكي تتسلمينا بنفسك «وهذه النزعة الشكية مصدرها أن كل شيء محتمل في واقع مماثل.. الحياة فيه كالموت دون أن يتجرأ أحد عن مساءلة الجلاد عن جرائمه.. وتجدر الإشارة هنا أن الخلفية الإبداعية للمعتقل وهو شاعر في الأصل لونت خطابه بنفحة شعرية مائزة، تماما كما مر معنا في تجربة عبد اللطيف اللعبي.. غير أن النغمة المهيمنة على العمل هي السخرية ربما لأنها تمنح المعتقل/الساخر طمأنينة معنوية وتفوقا رمزيا من خلال فعل المقاومة وعدم الاستسلام.. فهي فضلا عن كل هذا تقترح نفسها كبديل عن الهزيمة الواقعية وشرفة للتنفيس عن الاحتقان النفسي مع تعرية بشاعة الجلاد وتجاوزاته.. يقول المرسل في ص21:»ها هو الكهرباء يحل ببدني قبل وصوله إلى البوادي والقرى، رغم أنني لم أطلب ذلك من أحد. فكيف تشتكي الحكومة من قلة ذات اليد، وهي توزع الكهرباء بهذا السخاء وبدون مقابل…»إن السخرية هنا تأزم المعنى وتنسب الحقيقة وتضعها محل استفهام…مترجمة التوتر النفسي العاصف للمعتقل.. مسعفة على استغوار جراح الأعماق مستقطرة هشاشة الذات في بعدها العائلي والجماعي لاسيما إذا علمنا أن آلة الاعتقال شملت مجمل عائلة المرسل بما في ذلك الأب والأخ والأخت…
وبهذا فالسخرية مثلت تعويضا وملاذا للمقصي والمبعد وطريقا لمراوغة الجرح ومهادنة الفقد. يقول المرسل في الرسالة الخامسة ص27:»وقد جاءني إبان ذلك منهم من صاح بي أن أخي وأختي وزوجها كلهم موجودون معي هنا في نفس المكان الكريه، فسألته هل جئتم بالعائلة وأنتم تنوون الاعتذار لها على ما بدر منكم تجاهها من هفوات. إنني أسامحكم مهمات يكن وباسم عائلتي كلها.»
إن سخرية بهذا العمق تصير ممتلكة لعنف صدمة كهربائية من خلال إشعال نار السؤال…تضرب بعنف إعصار محيط منتجة قارئها الخاص لأنها لا تقول سوى جزء من الحقيقة وتحتفظ بالجزء الثاني قصد دفعه لمواصلة القراءة وكأني بها رشوة رمزية.. وعلى حد تعبير الفيلسوف كيكجرد:»إن المتهكم يحصل على لذة عندما لا يتم فهمه، أكبر من تلك التي يحصل عليها عندما يتم فهمه، وكأنه فهم يقيد حريته في التهكم أو يقلل منها.»


2- نماذج من أدب السجون العسكري
أ-جرح الاعتقال ومنطق الشهادة.
في شهادته «تزممارت الزنزانة رقم10»(10)استغرق أحمد المرزوقي حوالي أربعين صفحة ليصل إلى لحظة الاعتقال حيث تطرق بإسهاب في المفتتح عن ظروف التمدرس بمدرسة أهرموم العسكرية وشخصية امحمد اعبابو وأخويه (محمد وعبد العزيز)وأصولهم الريفية وتميز امحمد بصدامية مؤذية حيث قدمه كبرميل بارود يمكنه الانفجار عند أدنى احتكاك. مع حديثه عن ظروف التهيئ لانقلاب «الصخيرات» وهي أمور باتت معلومة للجميع .لكن لا شعور المرزوقي هنا بتبطئ زمن الوقائع والكتابة عن يوم القبض عليه كان يستبعد لحظة الاعتقال عمليا ولو على مستوى التذكر.. فالإنسان عموما يهرب من كل ما هو مؤلم.. وتجدر الإشارة هنا، أن تصور المرزوقي للكتابة لا يخرج عن إطار الشهادة التي تروم مطابقة ما وقع مع الحقيقة العامة.. حيث قال في ص29:»أؤكد كل ما سأرويه هنا، هو خليط مما رايته رأي العين ومما سمعته محققا من أفواه أصدقائي قبل وأثناء وبعد محاكمة القنيطرة» وهذا يعني في مستوى أول تواري الذات بهواجسها وأحلامها لصالح تسريد الوقائع المشتركة بين كافة المعتقلين أمر تحققنا منه في الجزء الثاني الذي تلا الاستهلال حيث انتقل بدءا من (ص57 )في الحديث عن انقلاب القوات المسلحة الجوية مارا بتوصيف مدير سجن تازممارت وحراسه مقدما إياهم بصفات تدخل في إطار ردات فعل السجناء والقتل الرمزي المضاد.. حيث صادفنا اسم الحارس «الوزة» كناية على حدة الصوت(ص81)ولجودن الفرنتشي(ص63)لاقترافه أعمال قاتلة ومحرقة ضدا على المعتقلين. والسارجان شاف «حفار القبور»(ص86).لكن بالمقابل لهذه الصفات السالبة حضرت نعوت ايجابية كوصف «لجدان شاف» العربي ب»اللويز» لصفاء معدنه وطينته الخالصة. ف»اللويز» معدن يجمع بين القيمة الغالية و الندرة ..وما شابه ذلك من التوصيفات…صحيح جدا أن شهادة أحمد المرزوقي حملت بالإضافة لمفردة تازممارت عبارة الزنزانة10.لكنه في أحيان كثيرة كان يستغرق في الحديث ليس فقط عن الزنازين المجاورة بل عن العنبر المجاور وما شابه.. وهذه الشرفة التي اطل منها احمد المرزوقي على عالم السجن هي التي تبرر حضور ضمير الجمع(نحن) بوفرة في هذه الشهادة.. وهو ضمير مخادع في الغالب لأنه يوهم بالموضوعية وتطابق المروي مع ما حدث والحال أن فعل الكتابة عن التجربة يشتغل على التذكر كما النسيان .بل إن التذكر نفسه يجعل الذات حاضرة بشكل مختلف عما كانته لحظة الحدث. إن استراتيجية تأجيل لحظة الاعتقال كانت نفسيا تحاول تقليص زمن الحرمان وجرح العزلة لأن زمن الحرية يعد شرفة لترميم أعطاب الذات وشرفة مفتوحة على الخارج والعالم بأسره.. وعموما هذا الهروب اللاواعي من لحظة بغيضة له ما يبرره نفسيا ووجوديا.. كما يمكن اعتبار حديثه عن زمن ما قبل وما بعد السجن محاول للتنفيس عن ضيقه وحدة اختناق القارئ كذلك.. علما بأن الكتابة نفسها عن الاعتقال تعد هروبا رمزيا من السجن لكن دون متابعة ولا عقاب. لكن ما بدا مستغربا حقا على مدى عقدين تقريبا من الاعتقال هو استبعاد كلي لجروح الجنس وغياب المرأة الفادح ولواحقها. ترى هل هي مبالغة في العفة أم استراتيجية لتقديم المعتقل بمظهر الصامد والطهراني والواقع غير ذلك؟ غياب لابد أن تكون له تبعات كحمق البعض وانتحار البعض الآخر وإلا ارتفعت صفة البشر عن المعتقلين. ولعله من الصدف الساخرة أن الأنثى إن لم تكن قد زارت متخيل وهواجس معتقلي تازممارت فإنها دخلت السجن في الواقع وهو ما أوهمتنا به هذه القرينة السردية الساخرة والتي تتحدث عن زيارة انثى لسجن تازممارت بالصفحة 148/149:»كانت رشيقة شابة من فصيلة عريقة(…)وكانت تنعم بما لا تنعم به إلا القليلات المحظوظات من مثيلاتها الساكنات في الفيلات الفخمة والقصور المشيدة. فقد كان سيدها فرنسيا ميسورا مولعا ولعا شديدا بالصيد. فرباها و أحسن تربيتها، وروضها وأجاد ترويضها حتى أصبحت له مفخرة بين زملائه الصيادين. واكتملت نعمتها حين رزقت بجروين جميلين. «فللحظة توهم تاء التأنيث العائدة على ضمير الغائب (هي) بالإحالة على امرأة لكن بعد حين يتكشف انه يتحدث عن كلبة مدير السجن.. إن اغلب المحكيات السجنية المغربية حكيت وفق شبكة أخلاقية ضيقة الأعين إذ قلما تسقط بوحا كاملا.. ولهذا جاء السقف البوحي واطئا جدا.. ربما كان خلف هذا، التنشئة الاجتماعية والرأي العام الأخلاقي الذي يفرض السترة والتخفي. فالرقابة بشتى تلويناتها تجعل الذات تعاني خوفا عميقا من تعرية الذات دون أن ننسى أن ثقافتنا الإسلامية لا تمتلك طقسا بوحيا كما هو شأن الديانة المسيحية وقساوسها الذين يتلقون الاعترافات صباح مساء، الأمر الذي جعل الغرب يتميز في باب السير الذاتية. استحضر هنا اعترافات جان جاك روسو في (ق18)كنموذج .صحيح جدا أن لدينا «طوق الحمامة» مثلا لابن حزم لكن ينبغي أن لا ننسى انه مرجع كتب على أرض الأندلس وبعيدا عن المغرب. وعموما الثقافة الإسلامية تسير في اتجاه «إذا ابتليتم فاستنيروا-و أعود بالله من قولة أنا وما شابه ذلك.. وبالعودة إلى التجربة المصرية بحكم سبقها التاريخي في باب أدب السجون نصادف ظاهرة غريبة تمثلت في منزع إخفاء الجسد في الواقع كما في الكتابة.. ولنأخذ أحد الرموز العسكرية (تمثال جمال عبد الناصر) الذي ألبس في إحدى ساحات القاهرة لباسا عسكريا ثقيلا ربما زيادة في الوقار والهبة (سيرة طاهر عبد الحكيم في»الأقدام الحافية نموذجا)..ومنزع إخفاء الجسد على مستوى المجسمات يوازيه إخفاء المشاعر على مستوى الحكي بطرق ملتوية في مجمل المحكيات السجنية العربية ومنها ستار ضمير الجمع في شهادة أحمد المرزوقي. لنتأمل القرينة النصية التالية ص60:»كان لارتطام الباب الحديدي الثقيل ورائنا دوي قنبلة انفجرت في أعماقنا فنسفت فيها كل خلية نسفا، فجأة، وجدنا أنفسنا معزولين في بحر من الظلمات، فأحسسنا بالاختناق والضياع. كانت حقا لحظة عنيفة صادمة شلت فيها عقولنا وانسحب الهواء من رئتنا وجعلت قلوبنا تخبط خبطا قويا وكأنها تهدد بسكتة مفاجئة. «إن هيمنت ضمير الجمع (نحن) يمكن رده للحياة العسكرية التي تقتضي الإجماع والالتزام بالتعليمات بخلاف الكتابة كفعل فردي حر يشترط تلبية نداء الذات وهواجسها. ربما كان سبب ذلك عدم تهيئ المعتقل للكتابة البوحية والمرتبطة بالذات أساسا ..وربما كانت الكتابة عن السجن من خارجه غيرها من داخله.. فكتابة التجربة من الخارج تكون تحت سطوة معاودة فقدان الحرية والمعتقل بحكم تجربة الاعتقال خبر أكثر من غيره معنى فقدانها…لكن رغم كل هذا فمحكيات السجناء العسكريين تحديدا غيرت كثيرا من صورة الجندي المغربي بصرف النظر عن رتبه حيث كان يقدم دائما كفرد واطئ الأفق وقصير النظر وأبعد ما يكون عن الكتابة. وعموما ضمير الجمع هذا ارتبط في الذاكرة الجمعية العربية بالشعب بينما ارتبطت صيغة المفرد بالسلطان وكأني بلاشعور الكتابة عندما يستعمل ضمير المتكلم يستشعر اعتداء رمزيا على صيغة المفرد الموكولة للسلطان.. وربما كان هذا سببا إضافيا في اختفاء أدب الرسائل الخاصة في حياتنا العربية والمغربية القديمة والحديثة لاشتمالها على ضمير المتكلم والقضايا الخاصة واقتصارها على الرسائل الأدبية العامة كرسائل الجاحظ والمعري وما شابه ذلك. وبالعودة إلى شهادة المرزوقي الضخمة(325صفحة)تبين لنا أنها خلافا للسير الذاتية قلما عملت على تسريد الذات بحيث من ص171 إلى ص 201 كان المرزوقي معنيا بتقديم المعتقلين الآخرين الذين لقوا حذفهم بالسجن متطرقا للوضع المزري الذي جردهم من الكرامة الآدمية والعودة بهم إلى مستوى البهيمية حيث كان كلما توفي رفيقا كلما ترك جرحا غائرا في ذاكرة الباقين.. وعلى الرغم من هذا الوضع المأساوي كان البعض يغالبه بالتندر كما كانت عادة الملازم المراكشي المحجوب الياكدي حيث كان يردد غير ما مرة «الموت بين الرجال نزاهة». كما أن الشهادة انصرفت من الصفحة 217 إلى 325 لرصد لحظة الخروج والانتقال بسرعة إلى تعاطف المنظمات الدولية والجمعيات الحقوقية المغربية وهذا يعني أن الحديث عن ما قبل لحظة الاعتقال وما بعده أخذ ثلتي الشهادة والثلث فقط هو الذي تحدث فيه المرزوقي عن لحظة الاعتقال إلى لحظة الإفراج وهذا يعود للطبيعة السيكولوجية للإنسان والتي تبتعد عن كل ما هو مؤلم.. إن طبيعة الزمن الرتيب للاعتقال و فضائه المعتم تماما جعلا الذاكرة فارغة من الجزئيات الدقيقة. يقول المرزوقي نفسه ص256:»كان العقدان اللذان بترا بترا من عمري أشبه شيء بشريط «فيديو» فارغ إن شغلته فلن ترى منه على الشاشة سوى حبات مبهمة بلا كنه ولا معنى. ماذا كان سيخسر سجانونا لو تركونا نملأ ذاك الشريط بما هو نافع.» والجدير بالذكر في هذا السياق أن المقاطع السردية التي احتفت بالبعد الإيحائي لا الإخباري للغة – على قلتها- اقترنت باللحظات التي رصدت المعيش داخل المعتقل ومنها النموذج التالي بالصفحة 164:»مر خريف تلك السنة باردا حزينا كعادته، وتلاه فصل الشتاء حاملا إلينا هدايا من الألم الأبيض. مناشير البرد الحلبية التي تنخر فينا العظام وتفعل الأفاعيل. ووجد منجل الموت ضالته في العنبر الثاني فواصل عمله بانتظام وإتقان حاصدا أرواح تلو أرواح.» إن مفارقة هذه الشهادة تكمن في كون فترة الاعتقال وان كانت طويلة جدا في الواقع فان حيزها من الأوراق والكتابة كان قليلا موازاة فترة الإفراج بخلاف محكيات أغلب معتقلي أقصى اليسار كما مر معنا.. وفي ذات الأفق تحركت تجربة محمد الرايس»من الصخيرات الى تزمامارت»(11) وبشكل أكثر مباشرة وخطية التجربة السجنية للمفضل المغوتي(12)
ب-محمد الرايس والرغبة في قول «الحقيقة المطلقة» (13)
تجدر الإشارة بداية إلى أن هذا العمل مرة أخرى مترجم عن اللغة الفرنسية الأمر الذي يعني أنه فقد الكثير من خصوصيته اللغوية التي درس بها المعتقل وتعلم بها طيلة حياته.. واللغة الفرنسية بالنسبة لهذا الجيل تحديدا مثلت الجسر اللساني الشائع و المكتوب الذي وصلهم بالذات والآخر والعلاقة بينهما.. ونحن نعلم أن لكل لغة خصوصيتها بل وخطورتها جراء هوية الذات المخاطبة(الرأي الدولي والرأي المحلي) يكفي ذكر وقع كتابات كرستين السرفاتي حول معتقل تزمامارت(1992)التي كادت تتسبب في أزمة سياسية بين المغرب وفرنسا ..وبالعودة إلى مذكرات محمد الرايس وجدناها تنطلق من نفس وجهة نظر احمد المرزوقي وهي تقدم الحدث/الانقلاب باعتباره كان نتيجة الطاعة العمياء للرؤساء وبالتالي تحميله للنظام العسكري مسؤولية الوصول لذاك المآل.. بل إن محمد الرايس يشدد على الهوية البيضاء «للجيش آنذاك حيث يقول في ص 26:»لم يكونوا مناصرين لا للروس ولا للأمريكان وللصينيين كما لم يكونوا ناصريين أو كاسترويين أو قذافيين. والأنكى من هذا هو أن هؤلاء المتمردين لم يكونوا لا من أنصار الجمهورية ولا ضد الملكية، وكان عملهم قضية عنف محضة لا غير. وباستثناء الرؤوس الثلاثة المدبرة والمتآمرين الرئيسيين الذين كانوا على علم بالهدف والمبتغى كان الكل يساير الموجة على أمل أن تجد في اللحظة المناسبة منفذا للهروب. لقد كانت الصخيرات يومها مثل قطار يسير بسرعة جنونية، يقف كل راكب فيه قرب مصعد الباب في انتظار أول منعطف للقفز، وحدها نقط القفز كانت تختلف من واحد إلى آخر. «فإذا كان محمد الرايس يتفق مع احمد المرزوقي في الموقف من الانقلاب فإنهما يختلفان في تقديم الكثير من الجزئيات والتفاصيل بحكم قرب الرايس الشديد لحظة الانقلاب من الرأس المدبر(امحمد اعبابو/مدير المدرسة العسكرية) فضلا عن كون محمد الرايس خلافا لزملائه حكم عليه بالإعدام ثم بالمؤبد.. حدثين ولا شك شكلا صدمة تراجيدية جعله يصافح الموت أكثر من مرة أمر انعكس على مرايا محكياته السجنية…غير أن موقف الرايس والمرزوقي يختلفان عن موقف صلاح حشاد مثلا الذي رفض فكرة «المفعول بهم» و رأي أن الجيش كان يطمح إلى تغيير الأوضاع المعطوبة لمغرب السبعينات(14)إن اختلاف طرق تقديم وقائع المرحلة والموقف منها يمكن إرجاعه كذلك لقدرة الذاكرة الفردية على تخزين ما وقع جراء القرب أو البعد من الحدث إضافة لما سمحت به الكتابة نفسها من هامش الحرية في قول «كل شيء»..دون نسيان الطبيعة النفسية لكل معتقل حيث كان فيهم المحترز والواثق وهو ما ينطبق تماما على المرزوقي و الرايس مثلا في محكياتهما..إضافة إلى أن هناك من أحجم عن كتابة التجربة لاعتبارات بدت لنا وجيهة ..وهي حالة المعتقل عزيز بينبين حيث قال «الإنسان جبل على أن يرى عيوب الآخرين ولا يرى عيوبه. ولذلك، فما يصدر من أحكام على هؤلاء الآخرين ينبغي أخده بالحيطة»(15)
وبالعودة للشهادة الضخمة لمحمد الرايس والتي فاقت310 صفحة من الحجم الكبير لاحظنا احتكامه لمنطق الشهادة المهووسة بسرد(كل) الجزئيات حيث أنه أغرق في تسجيل التواريخ والأسماء والعلاقة بينهم والأمكنة والمواقف أمر حد من فسحة الكتابة التخيلية مادام الهدف عند المعتقل هو قول «الحقيقة كاملة» ولا شيء غيرها. ونحن نعلم أن ممكنات التخييل لا سقف لها بخلاف تسريد الوقائع التي وقعت فعلا. .إن استدعاء الحقيقة كما وقعت فعلا يجعل المتلقي يحكم على المقروء بالخطأ والصواب بينما اعتماد المعتقل على المتخيل يجعلنا نقيم ما حكاه وفق الممتع أو المضجر والفرق كبير بين الاثنين وهنا يمكننا مثلا مقارنة متخيل عبد الرحمان منيف في «شرق المتوسط» وما قيل في السير السجنية الموازية لمعتقلين حكوا جرح الاعتقال بخلفية قول الحقيقة.. علما بأن السيرة السجنية تجد نفسها تحت سطوة ما وقع بالفعل.. وقائع توجه دفة الحكي خلافا لفسحة التخييل الذي يقترح أكثر مما يستعيد ويختلق أكثر مما يتذكر.. هذا يعني بالنتيجة أن الشهادة العفوية غير الكتابة الإبداعية وأن الشاهد/المؤرخ غير المبدع…إن ما يؤثر سلبا على السير السجنية حقا هو تصور صاحبها للكتابة أنها ملزمة بمهام جسيمة كصيانة المستقبل من معاودة نفس الأخطاء وخلق مجتمع ديمقراطي خال من الشطط في استعمال السلطة والحال أن المجتمع الديمقراطي يؤسسه الاشتغال اليومي في الميدان سواء في المجتمع المدني أو المجتمع السياسي…لا الكتابة السجنية بمفردها .
إن هاجس حكي «الحقيقة لمطلقة» عند محمد الرايس شكل حاجزا حاجبا لرؤية الذات وهي تحاول إيصال صوتها الخاص للقارئ بحيث أنه كلما ابتعد عن حكي «الحقيقة المطلقة» كلما بدا أكثر إقناعا وشعرية.. فحضور ذاته كان يضخ الخطاب بطاقة فنية تتأسس على بلاغة النسبي وشعرية الجزئي والعابر.. كما أن تقديم المعتقل للنقد الذاتي بين الفينة والأخرى كان يضفي الكثير من المصداقية والمشروعية على محكياتها السجنية حيث استشعر لحظة استنطاقه من لدن الجنرال أفقير مثلا فقدان الشجاعة كي يقول له أن التربية العسكرية التي ربتنا على الخنوع والطاعة العمياء هي التي أوصلتنا لهذا المآل وأنت بالذات واحد من أهم حماة هذه التربية المعطوبة. يقول محمد الرايس بكثير من التجرد والعفوية ص71:»لم تسعفني شجاعتي وظل الجبن لصيقا بي، فبدأت أنظر إليه دون كلام، لأنني فقدت شخصيتي «تقلص كياني» وتحولت إلى بيدق، يومها التزمت الصمت ملتفا في خوفي ونفاقي وانعدام شخصيتي شاخصا النظرات خنوعا، كما يقول المثل المغربي «شكون يقول للسبع فمك خانز» إن العودة إلى الذات كانت تمنح خطاب المعتقل شفافية نادرة و لحظة صفاء ذهني استثنائية حيث أنه كان يتصالح معها بتجديد رؤيته للنفس وللسجن وللخصم وللحليف وللوجود برمته.. يقول بكثير من العري والتجرد عن علاقة الذات بالسجن ص97:»في السجن المركزي بدأنا نفهم الحقائق التي طالما خباؤها عنا، ولو لا هذا الاعتقال لبقيت «حمارا» بأذنين طويلتين. في السجن المركزي وأنا أقضي الحكم المؤبد كنت أحس أنني أكثر حرية من السابق، لأنه إذا كان جسدي معتقلا فان روحي لم تكن كذلك. لم أعد ذلك القن الذي ينفد بدون تفكير، بل أمسيت ذلك المتمرد الحرون الثائر على خسة القادة، وهناك بدأت أحتقر ذاك «الآخر» الذي كنته. «السجن هنا تحول إلى رحم ولود ومصدر لتجديد الذات ولو بنار الاعتقال والحرمان من الحرية وكي العزلة والوحدة..
غير أن ما قفز عليه أحمد المرزوقي في «الزنزانة رقم10» ونقصد بذلك استدعاء المرأة المخبوءة في الذاكرة والوجدان أعطاه محمد الرايس فسحة واسعة وان لم تكن تليق به كما هي العادة في الحياة. ولعل حواره مع رفقاء المحنة عن الحرمان والاستمناء والاستحلام ومناقشة الرغبة المتجددة خير دليل على ما نروم. بل يمكن القول إن الكاتب توفق في اختيار الحوار كوسيط بلاغي لتقديم وجهات نظر رفقائه حيث هناك من حكمته الرؤية الدينية(المفضل المغوتي) وهناك من قارب ظاهرة الاستمناء من شرفة الظرف الخاص الذي كان فيه المعتقلين وهي رؤية اغلب السجناء.. وبالتالي تعارضت رؤية التحريم مع رؤية الإباحة.. علما بأن الحوار عمل على دمقرطة السرد وأعطى الفرصة لكل واحد منهم كي يقدم رؤيته الخاصة للموضوع. لنتأمل القرينة النصية الدالة بعمق ص176:»
أذكر بوضوح أن منصت كان أول من تطرق للموضوع يومها(…)
«أنصتوا جميعا، هناك موضوع تتفادون الخوض فيه هو موضوع النساء، منذ اعتقالنا وانتم لا تفكرون سوى في الطعام والمرض والموت وتوافه الحياة. أنسيتم أن الذكر يحتاج إلى الأنثى، سواء كان إنسانا أو حيوانا، حتى النبات نفسه يخضع لهذا القانون. إننا نتعمد جميعا التغاضي عن هذه الغريزة الإنسانية الأساسية. الجنس إحساس لا يضاهى ولذة لا حد لها. فما هو رأيكم.
انفجر الجميع ضاحكين ثم رد سعودي بمكر :سول لمزوجين(…)
عقب العديد(…)
لا فرق في مثل هذه الأمور بين المتزوجين والعزاب و أن اللذة لا جنس لها ولا عمر. وعندما تتحرك الغريزة لا بد من شريك.
أخد الزموري الكلمة وقال(…):»اقضي النهار في استحضار مغامراتي السابقة وفي الليل أستحلم وأشبع بذلك رغبتي» تدخل منصت قائلا:
-أعرف هذا، شخصيا كنت أقيم مع صديقتي في نفس المنزل مثل زوجين، لكنني الآن، محروم من هذه اللذة والحال أنها ضرورية للتوازن النفسي.(…)أضاف الصفريوي «يجب التفكير في القانون الذي يحرم السجناء من النساء. لأن هذا المنع لا إنساني وظالم، وصراحة كنت في السابق زير نساء. وكيف لا يكون المرء كذلك في فاس حيث الفتيات مثل الملائكة».


إن هذا الحوار بالقدر الذي أنسن الاعتقال ونزع تلك الصلابة الشائعة والمقاومة الأسطورية عن المعتقلين ذكرنا بالأصول الحيوانية للإنسان. وأن تحفظ بعض المعتقلين الخوض في نقاشات الجنس هو استبعاد لا شعوري لبقايا الحيوان في الإنسان مستعيضين عن الفعل الجنسي المباشر بتذكر بعض القبل والعناق والرقص كأفعال «متحضرة». صحيح أن وجود الشريك بالجوار يقوي من وتيرة الطلب لكن غيابه لا يلغي الطلب بقدر ما يؤجله فقط ..وهنا يفعل الاستحلام فعله.. علما بأن هذا السياق يذكرنا بالسجال النفسي بين الفرويدية التقليدية واليسار الفرويدي حيث توزعت الآراء بين اعتبار الرغبة الجنسية شيئا نفسيا وحاجة بدنية.. والجدير بالذكر هنا أن لاوعينا الجمعي لازال يعتبر «ممارسة الجنس من الممارسات القذرة التي تستوجب النظافة بعدها، بل تستوجب أكثر النظافة قبلها، والأعضاء الجنسية شديدة الارتباط بأعضاء الإفراغ وهذا وحده كاف لاعتبارها قذرة، ناهيك عن الروائح والمفرزات وما إلى ذلك، لكن هذه القذارة الموضوعية المادية تختلف عن مفهوم القذارة الاجتماعي الذي يجعل من الجنس دنسا وانحطاطا، ومن التسامي عليه غاية في النبل والارتقاء.. أو عن النظرة التي تعتبره إهانة وتستخدمه للدلالة على الحط من القدر، والشتيمة»(16)
تبقى الإشارة إلى أن الكتابة عن السجن تعد سلطة مضادة للسجان. فإذا كان الجلاد يحاول طمس معالم جريمته فبالكتابة يحاول المعتقل التذكير بها والتنصيص على حجم تجاوزات السلطة. غير أنها كتابة لا يمكن عزل فضحها للأخر عن فضح الذات في حدود معينة وذلك من خلال وقوفها عند ملامح التعايش مع المرض والجوع والكبت والجنون أحيانا، والضعف الإنساني عموما. إنها بقدر ما تنفس عن المكبوت وتبحث عن توازن نفسي تجعل الذات تعاود عيش جرح الاعتقال. كتابة يمكن اعتبارها وجع مضاعف وصرخة مدوية لضمير ملتاع. هي بالنتيجة ممارسة استشفائية قصد استرجاع الثقة في النفس وفي المجتمع. إنها نضال مواز للنضال داخل المعتقل.. صحيح أن الذات بالبوح والاعتراف تجد نفسها في وضع ملتبس إذ أنها تتأذى وتتطهر في ذات الآن الأمر الذي يطرح علينا سؤالا عميقا من قبيل: هل الجحيم هو أن نتذكر جرح الاعتقال أم ننساه؟ علما بأن ثمة بالجوار تأملات فلسفية تعتبر «أننا لا يمكن أن نتحرر إلا من خلال التذكر»، على حد تعبير فريدريك نتشه.
نخلص إلى النتيجة التالية :إذا كان السجن فضاء سالبا للحرية وحادا من الحركة الجسدية، فانه عاجز عن سلب المعتقل حرية التفكير والتذكر والحلم والكتابة.. فبالكتابة يضفى بعض المعنى على تجربة الاعتقال والسجن الذي تجتهد الدولة في إخفائه عن أنظار المواطنين بتشييده خارج المدن قصد إبعاده عن وعيهم، غير أن الكتابة تتوفق في جعله شاخصا للعيان في كثير من الحالات…

الاتحاد الاشتراكي

محمد رمصيص
(*) أستاذ باحث وناقد أدبي.
إحالات:
1-حديث العتمة.فاطنة البيه.نشر الفنك.2001.
2-سيرة الرماد.خديجة مروازي.إفريقيا الشرق.2000
3-تلك العتمة المبهرة.الطاهر بن جلون.ترجمة بسام حجار.دار الساقي.2003.
4- مجنون الأمل.عبد اللطيف اللعبي.ترجمة علي تزلكاد والمؤلف.مؤسسة الأبحاث العربية.1983.
5-ويعلو صوت الآذان من جحيم تزممارت.مذكرات المعتقل المفضل المغوتي.بلال التليدي.منشورات التجديد.2009.
6-مجنون الأمل.عبد اللطيف اللعبي.م/م.1983.
7-كان وأخواتها.عبد القادر الشاوي.منشورات الغد.الطبعة الثانية.1999.
8-حديث العتمة فاطنة لبيه.م/م.2001.
9-العريس.صلاح الوديع.مطبعة النجاح 1998
10- تزممارت الزنزانة 10 رقم.أحمد المرزوقي.طارق للنشر.2009.
11-مذكرات محمد الرايس.من السخيرات إلى تازمامارت ترجمة عبد الحميد جماهري.إفريقيا الشرق.2001
12-مذكرات المفضل المغوتي.م/م.2009.
13-مذكرات محمد الراس.م/م.2001.
14-Serhane Abdelhak.Kabasal.les Emûtes de Tazmamart .Mémoires de Sala
15-حزل عبد الرحيم.سنوات الجمر والرصاص:نصوص وحوارات في الكتابة السجنية.الجزء الأول.الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي.الجمعة 11 يونيو.2004.ص11.
16-الحب والجنس عند السلفية والامبريالية.محمد كمال اللبواني رياض الرايس للكتب والنشر.1994.ص74..

رواية القوقعة الحلقة الأولى مصطفى خليفة

يوميات متلصص

إنها قصة الفتية الأبرار في سجون الطغيان، يكتبها سجين عاش معهم المأساة. ولعل أول ما جنى عليه أن اسمه “مصطفى” هذا الاسم الذي يوحي بأنه مسلم، وبالتالي يمكن أن يكون من الإخوان المسلمين. ولم يشفع له أنْ علم الجلاوزة أن هذه التهمة لا أصل لها.

[يقدم الكاتب نفسه على أنه “مصطفى خليفة، مسيحي كاثوليكي، ملحد، عاش في باريس ودرس فيها وتخرج باختصاص مخرج سينمائي، وأحبّ أن يعود إلى بلده سورية ليخدم هذا الوطن” وما كان يدري أن عودته تعني دخوله سجناً من أعتى سجون الدنيا.

[والكاتب فنان بارع يحسن الوصف بالكلمة والصورة، وتتدفق أحاسيسه عبر كلماته. يكتب بالعربية الفصيحة تارة، وبالعامية تارة أخرى. وقد لخصنا هذا الكتاب وتجنبنا بذلك كلمات الإلحاد، وبعض الكلمات النابية التي يتفوه بها السجانون والجلادون والمحققون… وأدخلنا بعض التصحيحات اللغوية. [وإذا كنا لا نوافق الكاتب بالضرورة على كل كلمة كتبها، فإننا نؤكد أنه أحسن في تصوير الجرائم التي يمارسها النظام الطائفي الحاقد على أبناء شعبنا المؤمن. ولعل الله تعالى يكافئه على كتابته، فيهديه للدين الحق]

هذه اليوميات كتبتُها في السجن الصحراوي. وكلمة “كتبتُ” هنا ليست دقيقة ففي السجن الصحراوي لا يوجد أقلام ولا أوراق للكتابة.في هذا السجن الضخم الذي يحتوي على سبع ساحات، إضافة إلى الساحة صفر، وعلى سبعة وثلاثين مهجعاً، وعلى العديد من المهاجع الجديدة، والغرف والزنازين الفرنسية (السيلول) في الساحة الخامسة، والذي ضم بين جدرانه في لحظة من اللحظات أكثر من عشرة آلاف سجين، في هذا السجن الذي كان يحتوي على أعلى نسبة لحملة الشهادات الجامعية في هذا البلد، لم ير السجناء – وبعضهم قضى أكثر من عشرين عاماً – أية ورقة أو قلم.

الكتابة الذهنية أسلوب طوّره الإسلاميون. ” أحدهم كان يحفظ في ذهنه أكثر من عشرة آلاف اسم، هم السجناء الذين دخلوا السجن الصحراوي، مع أسماء عائلاتهم، مدنهم أو قراهم، تاريخ اعتقالهم، أحكامهم، مصيرهم …..”.

اثنان من رجال الأمن استلما جواز السفر، وبلطف مبالغ فيه، طلبا مني مرافقتهما.

أنا وحقيبتي – التي لم أرها بعد ذلك – ورحلة في سيارة الأمن على طريق المطار الطويل، أرقب الأضواء على جانبي الطريق، أرقب أضواء مدينتي تقترب، ألتفِتُ إلى رجل الأمن الجالس إلى جواري، أساله:

– خير إن شاء الله ؟ .. لماذا هذه الإجراءات ؟!

يصالب سبابته على شفتيه، لا ينطق بأي حرف، يطلب مني السكوت، فأسكت!

أصل مع مرافقي إلى مبنى. ومن ممر إلى ممر، ثم إلى غرفة فاخرة. انسلت إلى أنفي رائحة مميزة، لا يوجد مثيلها إلا في مكاتب ضباط الأمن، هي خليط روائح، العطور المختلفة، السجائر الفاخرة، رائحة العرق الإنساني، رائحة الأرجل.

كل ذلك ممزوج برائحة التعذيب. العذاب الإنساني. رائحة القسوة.

بينما كنت مذهولاً من رؤية الكابل الأسود يرتفع ثم يهوي على قدمي الشاب المحشور في دولاب السيارة الأسود، ثم يرتفع ناثراً معه نقاط الدم ونتف اللحم الآدمي، جمّدني صوت زاعق. التفتُّ مرغماً إلى مصدره، في زاوية الغرفة رجل محتقن الوجه، محمرّه، والزبد يرغي على زاويتي فمه: طمّشْ عيونه يا حمار. وُضعت الطماشة على عيوني ثم دفعة على ظهري، صفعة على رقبتي، يداي إلى الخلف، أسيرُ مرغما، يرتطم رأسي بالجدار، أقف.

– إرفع يديك لفوق ..ولك كلب … أرفعُهما.

– إرفع رجلك اليمين ووقف على رجلك اليسار.

– أرفع رجلي، أقف.

في الخلف يستمر ما كان يجري، أسمع صوت الكابل، صوت ارتطامه بالقدمين، صوت الشاب المتألم، صوت لهاث الجلاد، أكاد اسمع صوت نتف اللحم التي رأيتها تتطاير قبل قليل.. أصوات.. أصوات.

تتخدر اليسرى، لم أعد أستطيع الاحتمال، أغامر ..أبدل !!.. لم يحصل شيء، لم ينتبه أحد، أشعر بالانتصار!.. “بعد سنين طويلة من السجن مستقبلاً، سأكتشف أنه في الصراع الأبدي بين السجين والسجان، كل انتصارات السجين ستكون من هذا العيار!!”.

سيخ من النار لسع باطن قدمي، صرخت. قبل انتهاء الصرخة كانت الخيزرانة قد لسعت مرة أخرى .. الضرب متواصل، الصراخ متواصل.

وبدأت أعد الضربات وأنا أصرخ ألما. “بعد ذلك بزمن طويل، أخبرني المتمرسون: إن عدَّ الضربات أول علامات الضعف، وإن هذا يدل على أن المجاهد أو المناضل سينهار أمام المحقق!!..وقتها قلت في نفسي: ولكنني لست مناضلاً ولا مجاهداً. وأخْبَروني أن من الأفضل في هذه الحالات أن تكون لديك قدرة كبيرة على التركيز النفسي بحيث تركز على مسألة محببة لك، وتحاول أن تنسى قدميك !!”.

منذ تلك اللحظات علموني أن أقول: ” ياسيدي”.

هذه الكلمة لاتستخدم هنا كما بين رجلين مهذبين، هذه الكلمة تُنطق هنا وهي تحمل كل معاني الذلّ والعبودية.

طوال ثلاثة عشر عاما ، لم أسمع مرة قرقعة المفتاح في الباب الحديدي إلا وأحسست أن قلبي يكاد ينخلع!! لم أستطع الاعتياد عليها.

-اليدان مقيدتان بالقيد الحديدي إلى الخلف، كاحل القدم مربوط بجنزير حديدي إلى كاحل سجين آخر، نسير بصعوبة، نتعثر، ممرات … أدراج …. وصفعة مدوية.

تنبثق آلاف النجوم البراقة أمام عيني، الفجر ربيعي، أترنح…. أسكت.

يسحبوننا إلى خارج البناء، أرى أربع سيارات شحن ذات أقفاص معدنية، السجناء يسمون هذه السيارات بـ ” سيارات اللحمة”

أمام سجن تدمر الصحراوي

عشرات من عناصر الشرطة العسكرية.. الباب صغير.. تصدم العين لوحة حجرية فوق الباب مخططة بالأسود النافر:

“ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب”.

فتح لنا رجال الأمن أبواب السيارات، هم أنفسهم الذين كانوا يعاملوننا بفظاظة وقسوة (عندما كنا عندهم في فرع المخابرات في العاصمة)، أنزلونا من السيارات برفق مشوب بالشفقة، حتى إن أحدهم قال: ” الله يفرج عنكم ! “. وفيما بينهم كانوا يتحدثون همساً، يتحاشون النظر إلى عناصر الشرطة العسكرية الذين اصطفوا حولنا بما يشبه الدائرة، لاحظت أن لهم جميعاً نفس الوقفة، الساقان منفرجتان قليلاً، الصدر مشدود إلى الوراء، اليد اليسرى تتكىء على الخصر، اليد اليمنى تحمل إما عصاً غليظة أو كبلاً مجدولاً من أشرطة الكهرباء أو شيئاً مطاطيا أسودَ يشبه الحزام. ” عرفت فيما بعد أنه قشاط مروحة محرك الدبابة “.

ينظرون إلينا وإلى عناصر الأمن نظرة فوقية تحمل استخفافاً بعناصر الأمن ووعيداً مبطنا لنا. حركاتهم تدل على نفاد الصبر من بطء إجراءات التسليم والاستلام، يهزون يدهم اليمنى بما تحمل، هزات تبرُّم وغيظ، لباسهم جميعا عسكري أنيق، أعلى رتبة بينهم مساعد أول.

أكثر من مائة عنصر من عناصر الشرطة العسكرية يحومون حولنا، جميع السجناء يتحاشون النظر مباشرة إلى أي عنصر. رأسنا منخفض قليلا، أكتافنا متهدلة. وقفة تصاغُرٍ وذل، كيف اتفق جميع السجناء على هذه الوضعية وكأننا تدربنا عليها سابقا؟! لست أدري.

حكني رأسي من القفا، وكما يفعل كل إنسان يحكه رأسه، مددت يدي عفوياً وحككت !! وسمعت صوتاً راعداً: -ولك يا جماعة … شوفوا الكلب شوفوا !! عم يحك راسه كمان …!!

وسحبتني الأيدي خارج الرتل، تقاذفتني صفعاً ولكماً، لكمة تقذفني، صفعة توقفني، النار في الرقبة والوجه …. تمنيت لو أبكي قليلاً… طلبني المساعد لتسجيلي فلم يبق غيري، سجلني وأصبحت نزيلاً رسمياً في هذا السجن.

خلفي مهجع كبير. تخرج من جانب الباب بالوعة “صرف صحي” على وجه الأرض، تسيل في هذه البالوعة مياه سوداء قذرة.

انتهى التفتيش. جرى بدقة محترفين، حتى ثنايا الثياب، جميع النقود والأوراق، أي شيء معدني، الأحزمة وأربطة الأحذية … جميعها صودرت، “أنا كنت حافيا”. ورغم كل هذه الدقة بالتفتيش فإن ساعة يدي مرت، لم أتعمد إخفاءها، فقط لم ينتبه لها أحد، وعندما صاح المساعد:

– يا كلاب … كل واحد يحمل تيابه.

حملت ثيابي ووضعتها على يدي اليسرى، وفورا فككت الساعة ودسستها في الجيب الداخلي لسترتي، وشعور آخر بالانتصار.!

البلديــــــــات

هي كلمة خاصة بالسجون هنا، هم جنود سجناء … الفارون من الخدمة العسكرية، الجنود الذين يرتكبون جرائم القتل، الاغتصاب، السرقة، مدمنو المخدرات… كل الجنود المجرمين، حثالة الجيش، يقضون فترة عقوبتهم، في مثل هذا السجن، مهمتهم التنظيف وتوزيع الطعام وغيره من الأعمال… من هنا جاء اسم البلديات، هؤلاء في السجن الصحراوي لهم مهمات أخرى.

جمعونا في أحد أطراف الساحة، تكوَّمْنا ونحن نحمل ثيابنا، صوت المساعد ارتفع كثيراً، البلديات يقفون في الطرف الآخر من الساحة. البعض منهم يحمل عصاً غليظةً مربوط بها حبل متدل يصل بين طرفيها، حبل سميك يتدلى من العصا “الفلقة”. صاح المساعد بصوت مشحون موجهاً حديثه للسجناء : -مين فيكم ضابط ؟.

خرج اثنان من بين السجناء، أحدهما في منتصف العمر، الآخر شاب.

-شو رتبتك ؟

-عميد.

-وأنت شو رتبتك؟

-ملازم أول.

التفت المساعد إلى السجناء، وبصوت أقوى:

– مين فيكم طبيب .. أو مهندس أو محامي.. يطلع لبره.

خرج من بيننا أكثر من عشرة أشخاص.

-وقفوا هون.. ثم متوجهاً للسجناء:

-كل واحد معه شهادة جامعة … يطلع لبرّات الصف.

خرج أكثر من ثلاثين شخصاً، كنت أنا بينهم.

مشى المساعد مبتعداً، وقف بجوار البالوعة، صاح بالشرطة:

– جيبولي سيادة العميد!!

انقض أكثر من عشرة عناصر على العميد، وبلحظات كان أمام المساعد!!

-كيفك سيادة العميد؟

-الحمد لله … الذي لا يحمد على مكروه سواه.

-شو سيادة العميد … مانك عطشان؟

-لا .. شكراً.

-بس لازم نشربك.. يعني نحن عرب، والعرب مشهورون بالكرم، يعني لازم نقدم لك ضيافة… منشان واجبك!!

بعد لهجة الاستهزاء والسخرية صمت الاثنان قليلاً، ثم انتفض المساعد، وقال بصوت زاعق:

-شايف البالوعة ؟ .. انبطح واشرب منها حتى ترتوي … يالله يا كلب!!

-لا … ما راح اشرب.

وكأن مساً كهربائياً أصاب المساعد، وباستغراب صادق صرخ:

– شـو ..شـو …شـو ؟؟!!! ما بتشرب!!!

عندها التفت إلى عناصر الشرطة العسكرية ولا زال وجهه ينطق بالدهشة:

– شربوه …. شربوه على طريقتكن و لا كلاب…. تحركوا لشوف.

العميد عارٍ إلا من السروال الداخلي، حافٍ، وبلحظات قليلة اصطبغ جسده بالخطوط الحمراء والزرقاء، أكثر من عشرة عناصر انقضوا عليه، تناوشوه، عصي غليظة، كوابل مجدولة، أقشطة مراوح الدبابات …. كلها تنهال عليه من جميع الجهات، من أول لحظة بدأ العميد يقاوم، يضرب بيديه العنصر الذي يراه أمامه، أصاب بعضهم بضربات يديه …. كان يلكم … يصفع … يحاول جاهداً أن يمسك بواحد منهم، ولكنهم كانوا يضربونه وبشدة على يديه اللتين يمدهما للإمساك بهم… تزداد ضراوتهم، خيوط الدم تسيل من مختلف أنحاء جسده …. تمزق السروال وانقطع المطاط، أضحى العميد عارياً تماماً، إليتاه أكثر بياضاً من سائر أنحاء جسده، خيوط الدم أكثر وضوحاً عليهما، خصيتاه تتأرجحان مع كل ضربة أو حركة، بعد قليل تدلت يداه الى جانبيه وأخذتا تتأرجحان أيضاً، سمعت صوتاً هامساً خلفي:

– تكسروا إيديه !! يا لطيف … هالعميد إما رجّال كتير .. أو مجنون!!

لم ألتفت إلى مصدر الكلام. كنت مأخوذاً بما يجري أمامي، مع الضرب بدأ العناصر يحاولون أن يبطحوه أرضاً، العميد يقاوم، يملص من بين أيديهم… تساعده دماؤه التي جعلت جسده لزجاً. تكاثروا عليه، كلما نجحوا في إحنائه قليلا … ينتفض ويتملص من قبضاتهم وبعد كل حركة تزداد ضراوة الضرب …

رأيت هراوة غليظة ترتفع من خلف العميد وتهوي بسرعة البرق !!.. سمعت صوت ارتطامها برأس العميد….! صوتأ لا يشبه أي صوت آخر….! حتى عناصر الشرطة العسكرية توقفوا عن الضرب، شُلوا لدى سماعهم الصوت لثوان….صاحب الهراوة تراجع خطوتين إلى الوراء .. جامدَ العينين …!! العميد دار بجذعه ربع دورة وكأنه يريد أن يلتفت الى الخلف لرؤية ضاربه !! خطا خطوةً واحدة، وعندما هم برفع رجله الثانية …. انهار متكوّماً على الإسفلت الخشن !!

الصمت صفحة بيضاء صقيلة تمتد في فضاءات الساحة الأولى … شقها صوت المساعد القوي: – يا لله ولا حمير … اسحبوه وخلوه يشرب!!

سحب عناصر الشرطة العميد، واحد منهم التفت الى المساعد وقال:

-يا سيدي .. هذا غايب عن الوعي، شلون بدو يشرب؟!

-حطوا رأسه بالبالوعة .. بيصحى .. بعدين شربوه.

وضعوا رأس العميد بمياه البالوعة، ولكنه لم يصح.

-يا سيدي .. يمكن أعطاك عمره!

-الله لا يرحمه … اسحبوه لنص الساحة وزتوه هونيك.

من يديه جَرُّوه على ظهره، رأسه يتأرجح، اختلطت الدماء بأشياء بيضاء وسوداء لزجة على وجهه!! مسار من خطوط حمراء قاتمة تمتد على الإسفلت الخشن من البالوعة الى منتصف الساحة حيث تمددت جثة العميد. صاح المساعد وقد توترت وبرزت حبال رقبته:

-جيبولي .. هالكرّ الحقير … الملازم.

وبعد أن أصبح الملازم أمامه:

-شو يا حقير ؟ .. بدك تشرب ولا لأ؟

-حاضر سيدي .. حاضر .. بشرب.

انبطح الملازم على الإسفلت أمام البالوعة، غطس فكيه في مياه البالوعة، وضع المساعد حذاءه العسكري على رأس الملازم المنبطح وضغطه إلى الأسفل قائلاً:

-ما بيكفي هيك. لازم تشرب وتبلع!!

ثم تابع المساعد موجهاً حديثه للشرطة:

-وهلق .. خدوا هالكلب عا التشريفة … بدي يكون الاستقبال تمام .!

الملازم الذي شرب وبلع المياه القذرة بما فيها من بصاق ومخاط وبول وقاذورات أخرى، ألقي على ظهره بسرعة مذهلة، ووضع اثنان من البلديات قدميه في حبل الفلقة، لفوا الحبل على كاحليه ورفعوا القدمين إلى أعلى.

القدمان مشرعتان في الهواء، ثلاثة عناصر من الشرطة توزعوا أمام القدمين وحولهما، بحيث كانت كرابيجهم تهوي على القدمين دون أن تعيق إحدى الكرابيج الأخرى، ارتفع صراخ الملازم عالياً، تلوى جسده يحاول خلاصاً، ولكن دون جدوى.

استفز صراخُ الملازم واستغاثاتًه العالية المساعد، مشى باتجاهه مسرعاً، وكلاعب كرة قدم وجّهَ مقدمة بوطه إلى رأس الملازم وقذف الكرة.

صرخ الملازم صرخة حيوانية، صرخةً كالعواء… استُفز المساعد أكثر فأكثر، سحق فم الملازم بأسفل البوط، عناصر الشرطة يواصلون عملهم على قدمي الملازم، المساعد يواصل عمله سحقاً، الرأس، الصدر، البطن… رفسات على الخاصرة … حركات هستيرية للمساعد وهو يصرخ:

-ولاك عرصات … ولاك حقيرين …. عم تشتغلوا ضد الرئيس !!… ولاك سوّاك زلمة … سواك ملازم بالجيش … وبتشتغل ضده ؟!!… ولاك يا عملاء… يا جواسيس !.. ولاك الرئيس خلانا نشبع خبز… وهلق جايين أنتو يا كلاب تشتغلوا ضده ؟!… يا عملاء أمريكا…. يا عملاء اسرائيل… هلق عم تترَجُّوا ؟!!… بره كنتوا عاملين حالكن رجال … يا جبناء … هلق عم تصرخ ولاك حقير !!…

على إيقاع صرخات المساعد و”دبيكه” فوق الملازم، كانت ضربات الشرطة تزداد عنفاً وشراسةً، وصرخات واستغاثات الملازم تخفت شيئاً فشيئاً.

بعد قليل تمدد الملازم أول إلى جانب العميد!!… هل كان لدى إدارة السجن أوامر بقتل الضباط أثناء الاستقبال أو التشريفة ؟”.

والآن جاء دورنا. ” إجاك الموت يا تارك الصلاة !” عبارة سمعتها فيما بعد من الإسلاميين حتى مللتها، ولكن فعلا جاء دورنا، حملة الشهادات الجامعية، ليسانس ، بكالوريوس ، دبلوم ، ماجستير .. دكتوراه .. الأطباء شربوا وبلعوا البالوعة، المهندسون شربوا وبلعوا البالوعة، المحامون .. أساتذة الجامعات .. وحتى المخرج السينمائي .. شربت وبلعت البالوعة .. الطعم .. لا يمكن وصفه !! والغريب انه ولا واحد من بين كل الشاربين تقيأ !!.

وأصبح بين هؤلاء جميعاً شيئان مشتركان، الشهادة الجامعية، وشرب البالوعة !! .

ثم أكثر من ثلاثين فلقة، كل فلقة يحملها اثنان من البلديات، أمامها ثلاثة عناصر وثلاث كرابيج…. والكثير.. الكثير.. من القسوة، الألم، الصراخ.

الألم.. الضعف.. القهر.. القسوة.. الموت.. !!

قدماي متورمتان من آثار خيزرانة أيوب (في فرع المخابرات بدمشق)، بالكاد أستطيع المشي. عندما مشيت في الساحة الأولى فوق الإسفلت الخشن ، كنت كمن يمشي على المسامير ، رفع البلديات قدمي الى الأعلى بالفلقة ، ثلاثة كرابيج تلسع قدمي المتورمتين .. موجة داخلية عارمة من الألم تتكوم وتتصاعد لتنفجر في الصدر… تنحبس الأنفاس عندما تهوي الكرابيج … الرئتان تتشنجان … تنغلقان على الهواء المحبوس وتتوقفان عن العمل … ومع الموجة الثانية للألم وانفجاره في الصدر … ينفجر الهواء المحبوس في الرئتين عن صرخة مؤلمة، أحسها تخرج من قحف الرأس … من العينين … أصرخ … وأصرخ والقدمان مسمرتان في الهواء … كل محاولاتي لتحريكهما … لإزاحتهما … فاشلة !! تنفصلان عني … مصدر للألم فقط… سلك يصل بينهما وبين أسفل البطن والصدر… موجات متلاطمة من الألم، تبدأ الموجة عندهما، تمتد وتتصاعد ثم تتكسر عند الرأس، وصرخة ألم ورعب ومهانة ناثرةً الذهولَ وعدم الفهم والتصديق، أكثر من ثلاثين صرخة متوازية… متشابكة، لأكثر من ثلاثين رجلاً، تنتشر في فضاء الساحة الأولى.

في البداية استنجدت بالله، وأنا الذي كنت طوال عمري أتباهى بإلحادي.

أكثر من ثلاثين صرخة ألم … قهر … تخرج من أفواه أكثر من ثلاثين رجلاً مثقفاً .. متعلماً !! أكثر من ثلاثين رأساً، كل منها يحوي الكثير من الطموح والأمل والأحلام، الكل كان يصرخ … عواء ثلاثين ذئباً … زئير أكثر من ثلاثين أسداً … لن يكون أعلى من صراخ هؤلاء الرجال المتحضرين … ولن يكون أكثر وحشية … وحيوانية!!

يضيع صراخي وسط هذه الغابة من الصراخ وأصوات ارتطام الكرابيج بالأقدام … وترتفع الأمواج. أستنجد برئيس الدولة .. يشتد الضرب .. وأفهم منهم أن علي ألا أدنس اسم فخامته بفمي القذر. استنجد بنبيهم:

-من شان محمد!!!

لطمة على الرأس وصوت المساعد الراعد:

-إي .. […….]!!! ليش في حدا خرب بيتنا غير محمد ؟!

تقلصات الألم تزداد، لحم الفخذين رقيق ويختلف عن لحم باطن القدمين، أختنق بصرخاتي أسكت لحظات لأتنفس وأعب الهواء الذي سأصرخه، غمامة حمراء تتأرجح أمام عيني، حد الألم لا يطاق.

-يا رب خلصني… نجني من بين أيديهم.

قلت هذا الكلام دون أن انطقه، طاف بذهني، ومنه خرج مسرعاً باتجاه السماء.

قواي تخور، قدرتي على الصراخ تخفُتْ، يصبح الألم حاداً كنصل الشفرة، أرى الكرابيج ترتفع عالياً، أتوقعها، إذا نزلت هذه الكرابيج على جسدي فأنا حتماً سأموت !! لم يبق أي طاقة لتحمل المزيد من الألم !!.. الموت… أعود إلى الله:

-يا رب دعني أموت … دعني أموت … خلصني من هذا العذاب.

يصبح الموت أمنية!! أتمنى الموت صادقا … حتى الموت لا أستطيع الحصول عليه!!.

أدب السجون وغيابة الجب

من الرصيد الماثل بين يديه، أي ينتقي مما يقرأ- في مجال الاستشهاد- ما هو أقوى دلالة على الرأي، وما هو أقدر من غيره على تمثيل نظر الشاعر وطوابعه النفسية واتجاهه الفني ومناحيه الفكرية.

ولكني لا أخفي على القارئ أن الحيرة قد أخذتني، وأنا أحاول أن آخذ نفسي بمبدأ الانتقاء أثناء قراءة ديوان “في غيابة الجب” للشاعر المصري “علي الفقي” فكل ما فيه- أو أغلبه على الأقل- قوي الدلالة متوهج الشعور مستجيب لما ينشده الناقد من إبراز الفكر والنفس والحياة.

وفي هذا الديوان ينقلنا الشاعر إلى عالمٍ عجيبٍ نعايش فيه ثلاث شخصيات متلاحمة: شخصية الطاغية المستبد، وشخصية الوطن المطحون، وشخصية الشاعر الذي وقف- بل عاش شاهدًا على العصر- يعيش في أحشاء وطنه بقلبٍ ممزقٍ محزون يتدفق بالألم العبقري في كلماته الشاعرة.

وغيابة الجب هي “السجن” والسجن- في مفهوم علي الفقي- ليس قطعةً من الأرض، أو ذلك البناء المحصور بين أربعة جدران، إنه أكبر من ذلك بكثير.. إنه أرض واسعة جدًّا.. رقعة واسعة شاسعة تحوي مدنًا وقرى وحقولاً وسهولاً وبيوتًا وشوارع ونهرًا.. فكل أولئك يصنع “سجنًا” أو “جُبًا” يسمى في الخريطة الجغرافية مصر“.

هذه هي “المساحة المكانية” أو “المسرح المكاني” للجب الذي صورته قصائد هذا الديوان، أما “المساحة الزمانية” فيحددها الشاعر في مقدمة الديوان بقوله:

بدأتُ في نظمها في أعقاب هزيمة يونيه 1967م، ولا أقول نكسة يونيه كما كان يدعي ولاةُ الأمور في هذه المرحلة المظلمة من حياة مصر؛ ذلك لأن معنى كلمة النكسة في لغتنا الجميلة هي عودة المرض إلى المريض بعد شفائه منه، ولكنها كانت هزيمة كبرى سبقتها هزائم وهزائم في الداخل والخارج.

إن الفترة التي كنت أنظم فيها قصائد الديوان كانت من أحلك الفترات التي مر بها شعب مصر. كان كل إنسان يشك فيمن حوله حتى في أسرته الصغيرة، مراكز القوى التي كانت عيونًا وآذانًا منتشرة في كل شبر من أرض مصر، ريفها وحضرها، كانت تتسلل إلى المصالح الحكومية والمصانع، والمرفق والمساكن حتى غُرف النوم.. تتعقب الخطى، وتعد الأنفاس وتنفذ إلى الضمائر” (1).

وانطلاقًا من هذا المفهوم الدقيق الصادق لطبيعة هذه “المحنة” وانطلاقًا من معاناةٍ حقيقية- لا أقول شاهدها الشاعر- بل أقول عاشها بروحه وأنفاسه وعينيه وأذنيه وقلمه.. انطلاقًا من كل أولئك جاء ديوان “علي الفقي” تعبيرًا صادقًا ينبض بألمٍ عبقري يمثل “نبض الإنسان المصري الحر”.. الإنسان المطحون “في غيابة الجب” في عهدٍ منكودٍ مهزومٍ موكوس.

والديوان بهذا الطابع الموضوعي النفسي يُعدُّ من الدواوين القليلة “المتخصصة”- إن صح هذا الوصف- وأعني بها الدواوين التي تدور حول “غرضٍ واحد” أو تكون ذات طابع أو منحى موضوعي واحد، على اختلافٍ في الأغراض والملامح الفنية من شاعرٍ إلى شاعر، ومن عصرٍ إلى عصر، كديوان عمر بن أبي ربيعة فكله في الغزل، وديوان “إناث حائرة” لعزيز أباظة، وديوان “من وحي المرأة” لعبد الرحمن صدقي، فكلها في “المرأة” على اختلافٍ في المفاهيم والنظرة وأسلوب المعالجة (2).

وديوان الفقي- من ناحية أخرى- يُعتبر ضميمةً حيةً صادقة للونٍ من الأدب لم يأخذ حظه الجاد من الدراسة على الرغم من أن “جذوره ضاربةً في أعماق تاريخنا، وأعني به “أدب السجون والمنافي” وهو الأدب الذي يصور- بصفة أساسية- ما يعانيه المظلومون تحت وطأةِ الظلم والاعتقال، والأسر، والنفي، والتشريد. ونستطيع أن نرى هذا اللون في أرقى صوره في القرآن الكريم، وهو يصور محنة يوسف- عليه السلام- في سجنه: ابتداءً من مكيدة امرأة العزيز إلى أن صار وزيرًا على “خزائن” الأرض” (3).

ومن هذا اللون أبيات “الحطيئة” المشهورة التي يستعطف فيها “عمر بن الخطاب“- رضي الله عنه- من سجنه، بعد أن أمر عمر بحبسه؛ لأنه هجا “الزبرقان بن بدرأو “سلح عليه” على حد قول حسان بن ثابت. يقول الحطيئة:

ماذا أقول لأفراخٍ بذي مرخ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر

ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة فاغفرْ عليك سلام الله يا عُمرُ

أنت الإمام الذي من بعد صاحبه ألقى إليك مقاليد النهي البشر

لم يؤثروك بهذا إذ قدموك لها (4) لكن لأنفسهم كانت بك الأثر(5)

ومن هذا اللون أيضًا “روميات “أبي فراس الحمداني، و”سرنديبيات” محمود سامي البارودي، وكثير من “أندلسيات” شوقي، وديوان “وراء حسك الحديد” للشاعر العراقي “محمد بهجة الأثري” الذي نظَّمه خلال السنوات الثلاث التي قضاها معتقلاً في معتقلات الفاو والعمارة وغيرهما من 28/10/1941م إلى 27/8/1944م (6).

وفي مجال النثر نرى المكتبة العربية حافلةً بعشرات- إن لم يكن مئات- من كتب أدب السجون” منها- على سبيل المثال-: “عالم السدود والقيود” للمرحوم “عباس العقاد“(7).
وكتاب “مذكرات واعظ أسير” للمرحوم أحمد الشرباصي، وكتب مصطفى أمين “سنة أولى سجن” و”سنة ثانية سجن” “وسنة ثالثة سجن”، وكتاب المناضل العراقي محمود الدرة “حياة عراقي من وراء البوابة السوداء“(8)، و”في الزنزانة” للدكتور علي جريشة، و”أيام من حياتي” لزينب الغزالي الجبيلي.

هذا اللون النثري من أدب السجون في شكل مذكراتٍ أو يومياتٍ أو ذكريات، وكثير منه لا يخلو من طوابع قصصية، ولكنه- بصفة عامة وخصوصًا من الناحية الموضوعية- يدور حول المحاور الآتية:

(1) تصوير المعاناة القاسية التي يعيشها السجين، والآلام الحسية والمعنوية الهائلة التي تستبد به، وتحديد أبعاد العلائق بين المسجونين وحكام السجن والمهيمنين عليه.

(2) تصوير بعض النماذج والأنماط البشرية التي يرصدها السجين ويصورها بقلمه وخصوصًا الشخصيات السيكوباتية الغريبة الأطوار(9).

(3) الربط بين حياة السجن والأوضاع السياسية القائمة وما فيها من اختلالات ومفاسد ومظالم قادت صاحب القلم إلى هذا المصير المظلم.

(4) ومن ناحية الاستشراف النفسي المستقبلي تتراوح نظرة الكاتب بين أملٍ مشرقٍ يتدفق بالحرية الشاملة، وبين يأسٍ مطبق يصبغ كلماته بلونٍ قاتم حاد، بيد أن كثيرًا من هذه الكتابات تنزع نزعةً أيديولوجية روحية في تبرير محنة السجن وعذاباته، والنظر إلى كل أولئك على أنه ابتلاء وتربية نفسية وروحية بعيدة المدى.

ويأتي ديوان “علي الفقي” ليضيف جديدًا إلى أدب السجون من ناحيتين:

الناحية الأولى: أن مفهوم السجن عنده ذو أبعاد نفسية معنوية لا ترتبط “بالمكانبقدر ارتباطها بمجموعة من التمزقات والاهتراءات الخلقية الشاذة بالنظر إلى شخصية الحاكم، وبالنظر إلى شخصية المحكوم.

الناحية الثانية: شمولية التصوير وعمق المعايشة لمشكلة “الضياع والتبدد”.. فقد انتهى الشاعر بشاعريته الناضجة وحاسته الفنية القادرة على تصوير أن الضياع والتبدد السياسي والعسكري، والاجتماعي كان نتيجةً لعوامل متعددة ومتشابكة تضافرت وتلاحمت كلها، وتمخَّضت وأنجبت “النكبة العاتية” التي يرفض الشاعروله الحق في ذلك- أن يُسميها “نكسة“.

وبصوتٍ جهوري قهار ينم عن عاطفة متوهجة وثورة جياشة، يقف الشاعر موقف “القاضي الحاسم” ليعلن مسئولية “أطراف جريمة التبديد والضياع”، وهو لا يصدر الأحكام جزافًا، بل إن كل حكم “متلبس بحيثياته” وكل اتهام يحمل في ثناياه خطوط تبريره: فالمسئول الأول هو “الحاكم الطاغية” الذي يجابهه الشاعر بهذا الحكم الصاعق:

فاقد الحس ما رحمت عزيزًا ذَلَّ من بعد عزة وإبائه

لهفَ قلبي سلبته جهد كفي– – ه وما نالتاه من آبائه

ثم سخرته لتفسد في الشر ق وتؤذي الكرام من نبلائه

بلسان أعمى أحد من السي– – ف يسب الملاك في عليائه

فغرست العداء في كل قلب كان بالأمس مُشْرفًا في وفائه

وقسمْت الشعوب في أمة الشر ق وكانت يدًا على أعدائه

وفي عشرات من الأبيات، وبفيض عاطفي لا يجور على الوقار العقلي للشاعر نعيش ملامح الطاغية الذي جر على الوطن والشرق الخراب، فهو “عدو الوجود” وهو “عدو البرايا” وهو “إبليس في الأذى لا يجارى” وهو “لعنة الله في الأرض يحيل السلم حروبًا ونارًا”، وهو “الأرعن الوغد على قومه يسوق الدمارا“:

قائمٌ قاعدٌ على الشر سفا حٌ يرى في الدماء خير الغنائم

وهو لم يبدأ سفاحًا ظاهرًا للعيان، بل بدأ صفحته بسياسة الشعب بالمكر والخداع، حتى إذا ما استفحلت قوته ساس الشعب بالحديد والنار وقتل الأحرار في وضح الشمس.. حتى أخلاؤه وأصدقاؤه منا نجوا من شره وأذاه “وما يوم عامر ببعيد“.

وهذه الدموية الطاغية، وهذه “السادية” التي تسعد بالدم وتعذيب الغير.. هذا الشذوذ الوحشي” الذي اتسم به “طاغية مصر” جعل الشاعر يهون من شأن مظالم الحجاج ونيرون والهكسوس إذا قيست بمظالم “فرعون مصر“:

أين ظلمُ بل ظلم نيرو ن إذا ما الرواةُ رووا مظالم

أين حكمُ الهكسوس حلوا على مص– – ر وساقوُا أبناءها كالسوائم

من غشومٍ في حكمه مستبدٍ عاثَ في مصرَ واستباح المحارم

واستحل الذي نهى الدين عنه من مآسٍ مثل الحصى وجرائم

قائمُ قاعد على الشر سفا ح يرى في الدماء خير الغنائم

لا ترى بقعةً من النيل جفت من دماء أو أقفرت من مآثم

ترى هل ظلم الشاعر التاريخ، وجار خياله الشعري على واقعه الثابت؟ الحقيقة أن الواقع التاريخي في صف الشاعر إلى حدٍّ بعيد.. فليس هناك مَن ينكر أن مَن ذكرهم الشاعر كانوا أمثلةً مشهورةً لطواغيت التاريخ ولكن حياة هؤلاء لم تخل من قيمٍ شريفةٍ وأعمال جليلة نسيها أو تناساها كثيرٌ من المؤرخين.

ولكن الحاكم الظالم ما كان ليستمرئ الظلم والتسلط والقهر والجبرية، ما لم يكن الشعب ذا “قابلية” لتشرب هذا الظلم، أو على الأقل مستسلمًا لما يفرض عليه من جلاديه.. وهنا تبرز مسئولية الشعب الذي شبهه الشاعر بأهل الرقيم؛ لأنه يألف الظلم “ويرضى في أرضه أن يضاما” وأنه “غافل لا يجيد إلا الكلاما“:

والشباب في كل أمة هم عمادها، وركيزة حاضرها، وأمل مستقبلها في شتى المجالات.. الشباب في كل أمة هم الرصيد الحقيقي الذي يمثل قوة الأمة.

هذا الشباب عاش سنوات الظلم والقهر، والدكتاتورية وقد

ضلَّ اليقين والشك مُرتَا بًا وتاهتْ خطاه بين الضباب

ومضى لا يرَيم للمثل العليا بعيدًا عن الهدى والصواب

سائرًا كالظليم يضربُ في الليل يحث الخطى وراء السراب

مستخفًا بالدين والمنهج الأسمى مُشيحًا عن سنة وكتاب

فإذا ما تساءلنا على من تقع مسئولية هذا “الإهدار” إهدار رصيد الأمة من شبابها؟ على من تقع مسئولية تمزق الشباب نفسيًّا وعقليًّا وعقديًّا؟ كانت الإجابة: إنهم أيضًا “الحكام الطواغيت” أما بُعْد الجريمة أو سببها فهو ما قاموا به من عملية “المسخ العلمي” إذ حرفوا حقائق التاريخ، وحجبوا عن الشباب واقع أمتهم المجيد في أيامها الخاليات، وجعلوا تاريخ مصر لا يبدأ إلا من اليوم الذي استولت فيه مجموعة من الضباط على السلطة، أما الفترة السابقة، بما فيها من أمجاد علمية وعسكرية وثقافية، وأدبية فهي، “فترة ساقطة” والشاعر يواجه الشباب ويصارحه بهذه الحقيقة المرة:

حجبوا عنكم كفاح جدودٍ جعلوا النيل برزخًا لغُزاتِه

قبروه فكان وقفًا عليهم واستباحُوا ما عزَّ من معجزاته

ما عرفتم تاريخ أمكمو مصر وقد أخرسوا لسان رُواته

قتلوه عمدًا على مشهد الدنيا شهيدًا ومثلوُا برُفاتِه

ثم تغيرت الحال.. بل تبدلت.. وانحدر أمر الأزهر بعد “قرارات التطوير الثوريةالمشهورة.. وأصبح مؤسسة ممسوخة بلا كيانٍ أو اعتبار، وتولت في أسى أيامه النضرات الزاهيات:

وذوى زهرهُ وصَوَّح مرعا ه وجَالتْ بروضه الآفاتُ

وهَوَى صرحه وفرق أهلي– – ه من الدهر غربة وشتاتُ

وانطوى عهدُه وشاهت مجالي– – هِ وحلَّتْ بصحنهِ الكارثاتُ

وفي أمة الجب” عاش القضاء محنة رهيبة بلغت ذروتها في 31 من أغسطس سنة 1969م ومن مظاهر هذه المحنة إبعاد مئات من القضاة عن ساحة القضاء، وذنبهم أنهم من أصحاب الرأي الشرف والنزاهة، وفي صوت تمتزج فيه نبرات الأسى برنات الغضب يصرخ الشاعر:

يا لها محنة تردَّى بها الحقَّ وضاقتْ بها العدالةُ حَمْلا

يا وسامَ القضاء يرحمك الله لقد شوهوك لونًا وشكلاً

أم تعدْ قادرًا على نصرةِ مظلو مٍ على ظالم قصاصًا وعدلاً

كان لمحنة القضاء.. أو كما يسميها البعض “مذبحة القضاء” ضحيتان: الضحية الأولى: قضاة عدول فصلوا من عملهم وسجن بعضهم “والضحية الثانية هي العدالة نفسها، بعد أن تربع على منصة القضاء في عهد الظلم والظلام رجال في أثواب القضاة وما هم بقضاة، وأصدروا من الأحكام- رهبة أو رغبة- ما سيظل عارًا إلى الأبد في تاريخ مصر، بل تاريخ الإنسانية. لقد صور الشاعر “محنة العدالةهذه في أبيات من الشعر تعد من أرقى الشعر العربي كله عاطفة وتصويرًا وتعبيرًا، وذلك في قصيدته، “هذى يد الجاني” وهي تروي في إيجاز مكثف بارع، وفي لقطات فنية أخاذة قصة أحد الطواغيت الصغار من أذناب الطاغوت الأكبر، وقد روى يديه من دماء ضحاياه، فانبرى أحد الضحايا ودماؤه تقطر من جرحه:

صارخًا يا رقيبُ هذى يدُ الجا ني وهذا جرحي بكفيه دامي

قال سيف القضاء لا يعرف الزل– – فى ولم يخُشّ غضبة الحكام

وإذا القضاء يجزيه بالعفو ويسدي إليه أعلى وسام

ومن عادة الطغاة أن يتشدقوا بالشعارات المتوهجة والعبارات البراقة المنفوشة مثل “سيادة القانون” و”استقلال القضاء”، و”الديمقراطية” و”حرية الشعب“… إلخ، وكل ذلك زيف وضلال وباطل إذا نظرنا إلى الواقع المر الأليم.

وتستبد هذه النبرة اليائسة بالشاعر فتكاد تخنق صوته، وتلح عليه في أبيات عديدة في صدر الديوان كقوله:

هانت الأقدارُ يا نفس فلا تطمَعِي في العيش خُلْوًا رغدًا

اطرحي الأوهامَ لا تنخدعي لا تقولي- عبثًا- إنَّ غَدَا

لا تَروُمي الخير في مجتمع مولعٍ بالشر قلبًا ويدًا

ولا يشفع للشاعر- في نظرنا- منطقه الذي استند إليه في تبرير هذه السلبية وتلك الانعزالية اليائسة، وهو منطق يعتمد على ركيزتين: الأولى: اليأس من المستقبل؛ لأن مقدماته وإرهاصاته توحي بأنه غاثم.. بل مظلم، والثانية: اليأس من “الجهد الذاتي” أو “المحاولة الفردية”؛ لأن “اليد الواحدة لا تصفق” على حدِّ قول المثل الشعبي:

أنا منهُ وما أبرئ نفسي غير أني أرى الطريق ظلامًا

لستُ أقوى وهل تصفِّق كفٌ وحدها أو ترد موتًا زؤامًا؟

كيف أرقى وذي الملايين حولي لا أرى منهُمُ فتىً مقِداما

ومن حقنا أن نتصور خطورة هذا المنطق “الانسحابي السلبي” لو اعتنقه كل مواطن في أي مكان وأية أمة، إذن ما استقامت حركة كفاح، وما قام لنضال قائمة.. على أن التاريخ يقرر أن حركات النضال: صغراها وكبراها- تبدأ دائمًا بفردٍ واحد.. بضربة واحدة.. بكف واحدة.. سرعان ما تتحول إلى ملايين من الأكف والأيدي.

وتعميم الحكم في البيت الأخير ينقضه الشاعر نفسه في قصائد أخرى، فهو يقرر أن الساحة المصرية لم يكن فيها مجرد “صوت فردي” أو “كف واحدة”، بل كان في الميدان “قوة حقيقية مقاومة” وقفت في وجه الظلم، وهي التي صورها الشاعر تصويرًا بارعًا في قصيدته “جنود الرحمن“.

يركبون الصعابَ في نصرة الدي– – ن ومن عزمهم تهونُ الصعابُ

لا يهابون في الوغى شبح الموت ت، وللموت جيئة وذهابُ

هم جنودُ الرحمة درعهمو في نضرة الحق سنة وكتابُ

وعلى الرغم من هذا المأخذ يبقى الديوان- للحق ودون إسراف في الحكم- ضميمة ناضجة جدًّا “لأدب السجن والمنافي”؛ ذلك اللون من الأدب الذي يتطلب دراسة بل دراسات أكاديمية طويلة وواعية، والمكتبة العربية ما زالت صفرًا من مثل هذه الدراسة.

هذا، وقد ألمحت في مطلع مقالي إلى المفهوم الجديد للسجن أو “للجب” عند “علي الفقي” في ديوانه العظيم، ولا أزعم أنني قمت بتقييمٍ شاملٍ لهذا الديوان، إنما هي “جولة موضوعية” في أحشائه وثناياه، وهي لا تغني عن نظرات ووقفات أخرى لتقييم العناصر الفنية في الديوان من تصوير وخيال وأداء تعبيري وقيم شعورية.. وكل أولئك يحتاج إلى بحثٍ آخر.

الدكتور جابر قميحة رحمه الله

————–

المراجع والتعليقات:

(1) علي الفقي في غيابة الجب

( 2) ومن هذا القبيل أيضًا ديوان شعر للدكتور محمد صلاح الدين الذي عمل وزيرًا للخارجية في وزارة الوفد قبل الثورة ولم يقدر لي قراءة الديوان ولكنني سمعته منه يلقيه في جمع حافل في القاعة الكبرى بجامعة الكويت في أحد أيام شهر مارس سنة 1972م، وكل قصائد الديوان تدور حول محنته أيام اعتقاله في عهد عبد الناصر، ومن هذا القبيل أيضًا ديوان شعر- أعلن عنه حديثًالمحمد الحسناوي بعنوان “في غيابة الجب” وهو نفس العنوان الذي يحمله ديوان على الفقي.

(3) راجع سورة يوسف وخصوصًا الآيات من 23 إلى 55.

(4) الأثر: بضم الهمزة وفتح التاء: المكرمات والأعمال الطيبة “انظر ديوان الحطيئة وانظر كذلك الأغاني 2/604، تحقيق وشرح إبراهيم الإبياري- طبعة دار الشعب بالقاهرة“.

(5) محمد بن سلام الجمحي: طبقات فحول الشعراء 1 / 268 (تحقيق وشرح محمود شاكر مطبعة المدني القاهرة: 1974

(6) راجع: الأسس النفسية للإبداع الفني مصطفى سويف 218- 221 (الطبعة الثالثة- دار المعارف بالقاهرة).

(7) وقف النائب الوفدي عباس العقاد وصرخ صرخته المشهورة: ألا فليعلم الجميع أن هذا المجلس مستعد أن يسحق أكبر رأس في البلاد في سبيل صيانة الدستور وحمايته.. ولم يستطع الملك فؤاد أن يحاسبه على قولته لتمتعه بالحصانة البرلمانية ولكن الفرصة سنحت بعد أشهر قليلة فقدمت النيابة العقاد للمحاكمة في 12 من أكتوبر 1930م؛ لأنه كتب عدة مقالات في جريدة المؤيد يهاجم فيها الحكومة ونظام الحكم وحكم عليه بالسجن تسعة أشهر قضاها العقاد في سجن مصر من يوم 13 من أكتوبر 1930م إلى 8 من يوليو 1931م.

وكان كتاب (عالم السدود والقيود) هو حصيلة معاناة العقاد وتجربته في السجن طيلة هذه المادة (انظر: رجاء النقاش: العقاد بين اليمين واليسار 59- 95، ومحمد طاهر الجبلاوي: في صحبة العقاد 98، والدكتور جابر قميحة: منهج العقاد في التراجم الأدبية 151- 152).

(8) طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1976م، والكتاب ترجمة ذاتية للكاتب إلى الفترة التي سبقت أيام الثورة العراقية، وقد حكم عليه بالسجن لمدة أربع سنوات لاتهامه باشتراك في ثورة رشيد عالي الكيلاني ومحاولة الاعتداء على الأمير عبد الإله الوصي على عرش العراق، وقد وصف محاكمته ومشاعره وتجاربه في السجن في الصفحات 175- 275.

(9) وعلى سبيل التمثيل- انظر العقاد في تحليله الرائع لأربع شخصيات التقطها من أربعة آلاف إنسان تحويهم جدران السجن: أحد هؤلاء مجنون يتنازعه السجن والبيمارستان والثاني مجنون أيضًا ولكن على طراز آخر من الجنون، والثالث على مقعد مبتور الرجلين إلى الفخذين، والرابع خليط من الجنون والعربدة والمكر والدماثة المصطنعة والجموح الصحيح (عالم السدود والقيود 1978م- طبعة مكتبة النهضة المصرية، القاهرة 1937م)، وانظر كذلك تلك الصورة النفسية التي رسمها محمود الدرة لشخصية مجرم سجين يدعى “علي زين” (حياة عراقي في من وراء البوابة السوداء 230- 234).

أدب السجون المغربي 1-2

إن إحدى محن السجن فضلا عن سلبه الحرية، العزلة( السجن الانفرادي).ومادام السجن فضاء المتناقضات بامتياز فهو تارة منتج لعزلة المعتقل و تارة مصدر الاكتظاظ كذلك فضاء يجمع بين الفوضى والنظام، بين التدمير والتأهيل، بين الضحية والجلاد كما يمكنه الإسعاف على اكتشاف الذات من جديد وفقدانها إلى الأبد. الانهيار واكتساب القدرة على مقاومة ألم التعذيب،انه عالم الأضداد بامتياز. ولعلها مفارقة وجودية كون أصغر الفضاءات(الزنازين)هي التي أنتجت أرحب التخيلات والذكريات وأطول الاعترافات والأحلام…
مر أدب السجون المغربي الحديث بعدة مراحل. مراحل تحكم فيها الشرطين التاريخين: الدولي والوطني في آن معا. إذ أن مرحلة ?سبعة أبواب” لعبد الكريم غلاب(1965) مثلا ليست هي مرحلة “مجنون الأمل” لعبد اللطيف اللعبي(1983).وهذان اللحظتان ليستا هما لحظة ?المغرب من الأسود إلى الرمادي” لأبراهام السرفاتي في نهاية التسعينات وقس على ذلك كتابات العشرية الأولى من الألفية الثالثة.. فإن تميزت المرحلة الأولى بالبعد الحماسي الشاسع بسعة أحلام الاستقلال و التخلص من جرح الاستعمار الفرنسي، فإن المرحلة الثانية اتصفت بنفحة مأسوية جارحة ..علما أن عقد الثمانينات من القرن العشرين وما بعده تميز بظهور وفرة من العناوين في “أدب السجون(كان وأخواتها، مجنون الأمل…)”.ظاهرة يمكن إرجاعها لعدة اعتبارات منها: بداية الانفراج الدولي وضغط الرأي العام العالمي على المغرب بهدف تسوية قضية الاعتقال السياسي ..فضلا عن انتعاش جمعيات المجتمع المدني والحركة الحقوقية خاصة التي ضغطت بدورها في ذات الاتجاه ..إضافة إلى الرأي العام المغربي الذي كان متعطشا لمعرفة جزء من تاريخه الجريح والأسود والاطلاع على حجم تجاوزات السلطة.. دون نسيان تراكم تجربة الاعتقال نفسها على خلفية طول المدة والمعاناة التي منحت المعتقل أرضية خصبة ليحكي عن التجربة في شموليتها. في هذا السياق العام ستظهر نصوص اشتبك فيها السجن بالكتابة تأطرت تحت تسميات مختلفة منها:”أدب السجون”، المتخيل السجني، المحكي السجني، الكتابة السجنية، أدب الاعتقال السياسي…وما شابه ذلك. كتابات يصعب وضعها مجتمعة بجرة قلم تحت خانة” أدب السجون” مادامت أدبية الأدب تتحقق باشتراطاته عدة لم تتوفر في الكثير من الكتابات السجنية موضوع المقاربة.. كتابات تلتقي في حدها الأدنى عند جعل السجن محفزا للكتابة ..والسجن هنا بطل مضاد يصطف إلى جانب السجان. فالسجن له منطق خاص وخصوصيته نابعة من كونه يروم محو بشرية الإنسان من خلال توحيد اللباس وتجريد المعتقل من لباسه المدني فضلا عن استبدال الاسم برقم يعصف بالفرد في قاع من الغربة، إضافة إلى تعطيل كافة الحواس والرغبات كتحريم الكلام في أوقات معينة والخروج وخلوة الحب مع الزوجة بل والتجويع.. ترسانة من الأدوات اشتغلت في أفق تحطيم معنويات المعتقل السياسي. علما بأن الحرمان من الحرية يجب أن يشكل عقوبة لوحده وليس ظروف السجن المزرية.. فباستثناء هذا الحرمان يجب ضمان باقي حقوق الإنسان للسجناء قصد إعطاء المؤسسة السجنية صفة التأهيل لا مدرسة الإجرام. والجدير بالذكر هنا أن بعض الدول الديمقراطية اهتدت منذ مدة للعقوبات البديلة.. غير أن السجن في هذه الكتابة لا يقدم بكونه مجرد فضاء محايد، فهو مكون فاعل في تطور الوقائع والأحداث وكينونة المعتقل بل ومخيال المتلقي نفسه. إنه فضاء يحيل على جانب كبير من التعقيد الدرامي. يمكن هنا استحضار سلطة فضاء السجن الذي وصلت إلى حد تذكير المؤنث وهو ما اعتبرناه قتلا رمزيا للمعتقلة حيث أطلق اسم “رشيد” مثلا على فاطنة البيه في عملها “حديث العتمة”(1).وعلى خلاف فاطنة البيه هناك تجارب نساء كتبن عن التجربة من خارج السجن وان كن بشكل من الأشكال معتقلات خارج أسوار السجن باعتبارهن زوجات المعتقلين. أستحضر هنا: كتابات كرستين دور زوجة أبراهام السرفاتي وحليمة زين العابدين، وزهرة رميج وأخريات. إضافة إلى مبدعات تأثرن بفعل التعذيب والعنف وإذلال المعتقلين فوقعن روايات تمت بصلة للكتابة السجنية ..استحضر هنا رواية خديجة مروازي(2).وبالمناسبة نود هنا التوقف للتشديد على أن الكتابة السجنية ليست حكرا على المعتقل أو ذويه بقدر ما هي رأسمال رمزي لكل المغاربة حيث يمكنهم الإطلالة من شرفتها على تقرحات الوطن وأوجاعه.. قد نختلف عن زمن الكتابة السجنية و طرق عرضها والغاية من تسويقها، لكن الكتابة عن تجربة الاعتقال السياسي بالمغرب من حيث المبدأ هي ملك للجميع.. وتوقيت بعض كتابات الطاهر بنجلون(3) تدخل في هذا السياق السجالي حيث هناك من اعتبره ركب الموجة وكتب عن التجربة من خارجها. بل هناك من آخده على عدم استثمار لنفوذه ككاتب ذائع الصيت بفرنسا في الحديث عن التجربة قبل لحظة الانفراج.. لكن يلزمنا-مع ذلك- التذكير أنه توفق في استلهام روح التجربة وكتب عنها بحس الكاتب لا بوعي المؤرخ أو الشاهد على العصر. صدق فني تضافر مع تجربة اعتقال مريرة لعزيز ينبين فأنتجتا لنا عمل “تلك العتمة المبهرة” الذي منح الطاهر بن جلون جائزة “إمباك الأدبية” بدبلن سنة2001..
إن إحدى محن السجن فضلا عن سلبه الحرية، العزلة( السجن الانفرادي).ومادام السجن فضاء المتناقضات بامتياز فهو تارة منتج لعزلة المعتقل و تارة مصدر الاكتظاظ كذلك فضاء يجمع بين الفوضى والنظام، بين التدمير والتأهيل بين الضحية والجلاد كما يمكنه الإسعاف على اكتشاف الذات من جديد وفقدانها إلى الأبد. الانهيار واكتساب القدرة على مقاومة ألم التعذيب، انه عالم الأضداد بامتياز. ولعلها مفارقة وجودية كون أصغر الفضاءات(الزنازين)هي التي أنتجت أرحب التخيلات و والذكريات وأطول الاعترافات والأحلام..
إن الكتابة السجنية بالنتيجة تشمل الكتابة في السجين وعن السجن وفي الحالتين معا لا تخرج كتابة هذا الفضاء البغيض عن أفقين سرديين لا ثالث لهما: فحضوره وانكتابه إما يؤدي لخلاصة ملحمية حيث المقاومة والصمود. أو مآل مأساوي كالانتهاء إلى الجنون والموت أو الانتحار، علما بأن الكتابة في السجن اتصفت بعدم تهيئ بعض المعتقلين السياسيين للكتابة عن التجربة.. هنا لا نتحدث عن الخبرة السردية للمعتقل ولكن عن الوعي العام بوظيفة الكتابة وشروط تحققها .فالمسافة الفاصلة بين الكلمات والأحداث تقتضي معاشرة طويلة للغة كي تصير مطواعة في نقل ما يعتمل بالأحشاء. وعموما المعتقل السياسي تعود على ممارسة السياسة التي تقتضي إجماعا عاما بخلاف الكتابة كفعل فردي تحتفي في الغالب بالذات وان اختلف حجم تمجيدها من كاتب لآخر.. فإذا كانت الكتابة فاشلة في نقل التجربة فالفشل مرده للذات الكاتبة لا للغة، إذ ليس هناك لغة رديئة بقدر ما هناك مستعمل رديء للغة. في هذا الأفق يمكن تسجيل معطى مفاده أن وفرة من نصوص ” أدب السجون” انتصرت للبعد التحريضي للكتابة وطرحت بعدها الجمالي جانيا إلا فيما ندر.. وفشل الكتابة عموما يعود لرهانها على البعد الواحد. إذ كلما نوعت الكتابة من أهدافها كلما توفقت في الإقناع وبالتالي الخلود في ذاكرة الأدب والتاريخ. فالكاتب الوثائقي غير الكاتب المبدع ..صحيح جدا أن الكتابة في أحد أبعادها تتغيى التعبئة وهو حق مشروع.. لكن أدبية الأدب تتحقق بطرق عرض المادة ولغة التقديم وأسلوب التشخيص والتصوير ودقة الرصد وما شابه ذلك. إن “أدب السجون” بسبب انبناء جزء كبير منه على وقائع تاريخية صرفة يطرح علينا أسئلة محرقة من قبيل: هل توفق كتابه في صياغة ذاكرة مضادة لما هو رسمي؟ بمعنى هل نجحت محكيات السجن في تعميم الوعي بجراح المرحلة وإسقاط صفة “الطابو” عن أدب السجون؟ وكيف لكتابة تمجد الألم أن تكون ممتعة؟ وما حجم تطابق ما كتب مع الحقيقة؟ وكيف حضر الجنس والدين وكيف غابا؟ وكيف تمثلت المرأة هذه التجربة من داخل وخارج السجن؟ وما هي السجون المعنوية التي بقيت تلاحق المعتقل بعد خروجه من السجن؟ وهل حققت الكتابة عن التجربة أهدافها ونقصد بذلك الانتصار الرمزي للمعتقل إذ يكفي أنه توفق في هزم الموت داخل المعتقل(تزمامارت خصوصا) وكتب عن التجربة بقصد توضيح بشاعة السجان فهذا يمنحه صفة المنتصر ..إن تعدد هذه الأسئلة بقدر ما يحيل على ثراء المتخيل السجني يؤشر على تلك النزعة الشكية المتبقية في أعماق المعتقل وهو يكتب جرح الأسر. ترى هل حقا توفق في نقل التجربة أم لا؟.. يقول عبد اللطيف اللعبي في “مجنون الأمل” ص149:”عندما أعدت قراءة ما كتبت، دفعة واحدة شعرت بالحرج. فقد أصبح هذا السرد نفسه لغزا في عينيك. كيف كانت بداية كل هذا؟ كيف تم اختيار هذه الحالات وهذه الظروف، ورقيت، اعتباطا إلى دور عناصر بارزة كفيلة بأن تؤدي معاني أكثر من غيرها؟ أي المقاييس اعتبرت لحسم مسألة الأساسي والثانوي والموضوعي والذاتي؟(…)هل حقا استطعت أن أتجاوز مفارقة الأعمى-الرسام ،والعازف-الأصم ،والراقصة المشلولة؟ عماذا دافعت وماذا حاربت؟ أي صمت نجحت في قهره بتفجير فيضك الكلامي في جميع الاتجاهات؟ أي صورة قدمت عن نفسك؟ سذاجة ،صحو؟ عصبية، واقعية؟”(4)
في هذا الإطار سنحاول مقارب نماذج مختارة من أدب السجون المغربي بصنفين: محكي سجني مدني و محكي سجني عسكري.
1- نماذج من أدب السجون لأقصى اليسار المغربي.
كان اليسار الراديكالي المغربي سباقا لنشر محكياته السجنية من خارج وداخل المعتقل لاعتبارات موضوعية وذاتية. أما الأسباب الموضوعية فتمثلت في أن تاريخ سراح بعض رموزه اليسار كان في بحر عقد ثمانينات القرن الماضي(عبد اللطيف اللعب، عبد القادر الشاوي..نموذجين) بخلاف المعتقلين السياسيين العسكريين الذين مكثوا بمعتقل تزممارت إلى مطلع التسعينات(1991)..إضافة إلى كون ظروف اعتقال أفراد أقصى اليسار المغربي كانت “تسمح” بالكتابة بخلاف معتقلي تزممارت التي كانت ظروف العيش الآدمي منعدمة بالمطلق لديهم وبالأحرى التفكير في الكتابة إذ يكفي معرفة أن أكثر من نصف عددهم(32 على 58) لقي حتفه بالمعتقل بسبب الجوع والبرد والمرض وما شابه ذلك. أما الاعتبار الذاتي فتمثل في أن أغلب رموز اليسار الجذري كانوا متمرسين بالكتابة بمعناها الواسع.. فمنهم الشاعر والباحث والأستاذ وما إلى ذلك، بخلاف المعتقلين السياسيين العسكريين الذين استعان البعض منهم بمحترفي الكتابة أو الصحافيين على كتابة جروحهم السجنية وتجربة المفضل المغوتي(5) نموذجا على ما نروم
.
أ-“مجنون الأمل”(6) وشعرنة الاعتقال:
بداية لابد من تسجيل معطى مفاده أن “مجنون الأمل” عمل مترجم من الفرنسية إلى العربية. ونحن نعلم أن جزءا كبيرا من جيل الستينات بالمغرب لم يجد أمامهم سوى اللغة الفرنسية للتعبير عن ذاته بها وهذه إحدى نتائج الاستعمار الفرنسي الذي قضى بالمغرب حوالي نصف قرن إلى حدود سنة 1956 .والترجمة هنا تعني أن العمل فقد الكثير من توهجه لاسيما إذا علمنا دخول طرف ثان على خط الترجمة وهو الأستاذ علي تزلكاد رفقة المؤلف نفسه. ومع ذلك فالصفة الأدبية للمؤلف(شاعر) لعبت دورا حاسما في تنويع خطابات العمل حيث جعل منه حوضا تخييليا ولسانيا استضاف سجلات لغوية متنوعة وأجناسا أدبية مختلفة كالسيرة الذاتية والقصيدة والشهادة وما شابه ذلك ..أمر جعل العمل أشبه بجامع النص بتوصيف جيرار جنيت. فالشاعر عبد اللطيف اللعبي وهو يكتب محكياته كان مدركا تماما أن التخييل مستوى لعبي في الكتابة بخلاف الشهادة ككتابة مرجعية ولذلك وهو يكتب كان يحاول الإجابة عمليا على السؤال الإشكالي التالي: “ما هو الشيء الروائي في تجربة الاعتقال؟ والإجابة عن هذا الإشكال تمر بالضرورة من خلال الاطلاع على التجارب العالمية للاهتداء إلى أن روائية العمل تتأسس على الأحداث والوقائع المركبة التي تنمو وتكبر وتتعقد بموازاة صوت الجماعة خلافا للقصيدة التي تقتصر في الغالب على صوت الذات.. ولهذه الغاية كان الكاتب يمسرح ذاته ويجعلها ذاتا مضاعفة وذلك بإسنادها ضمير المخاطب.. مع استدعائه المتواتر للمرأة إما من خلال الرسائل أو عبر فعل التذكر إذ أن حضورها كفيل بشحن الخطاب السردي بطاقة شعرية ..والمرأة عند عبد اللطيف اللعبي متعددة الأوجه إن لم نقل أنها الحياة بشتى تجلياتها وذات أخرى تسعف على إعادة اكتشاف الذات. علما بأتها حضرت في أحيان أخرى كوسيط لتقديم نقد ذاتي للرؤية الذكورية المعطوبة كما في النموذج التالي ص55:”محكوم عليكن من قبل محكمة الذكور-ممتصي الدماء، وتجارة الجنس الضاربة في أقدم العصور. ها أنتن تطلعن من غمرة المجهول والسياط ومؤامرات ليلات القدر. سلطة القوة الوحشية. الإبادة الانتقامية. الإرهاب المنصب شريعة بشرية.” ..غير أن اللافت للانتباه في هذه التجربة هو اشتغال الكاتب المطرد على شعرية المفارقة حيث جمع في الكثير من ممراته الحكائية بين المتنائي وقرب المتباعد كجمعه بين الضعف الإنساني والقوة ،بين الألفة والوحدة، بين الماضي والحاضر وان كان ينتصر للمستقبل والأمل وهو أمر واضح منذ عنوان العمل “مجنون الأمل” يقول في ص44:”هنا والآن، تشغلني أمور أخرى أكثر من مجرد الشهادة، أفكر في كل شهداء التاريخ، الماضي منه والآتي. أقصد البطولة والفجيعة المجهولتين، أينما كان الرهان هو الدفاع عن الأمل، كيفما كانت درجة واقعيته أو طوباويته هذا الدفاع.”.. وتتضح شعرية المفارقة أكثر لحظة انخراط المعتقلين في نوبات ومسلسلات ضحك مثيرة للاستغراب. صحيح أن الضحك شيء بدائي وجد منذ كان الإنسان.. لكنه في هذا السياق عد آلية دفاعية به يتم تقليل الضغط وحدة الألم كما يزيل التوتر ويمنح القدرة على الاسترخاء وان كانت مجتمعنا المغربي يخاف من الضحك لأنه تربى على أن الحزن هو القاعدة والفرح استثناء. وعلى حد المقولة المغربية الشائعة”الله “يدوز/يمرر” هذا الضحك على خير”.. غير انه هناك من اعتبر الضحك مضادا حيويا ضد الشيخوخة وفعلا يديم الشباب.. لنتأمل هذه القرينة النصية ص61:”لماذا يضحك السجناء أكثر من غيرهم ؟ضحك صادق، عميق،تام. قهقهة ملء الأشداق. وكل أنواع الضحك. الضحك أسلوب من أساليب تلك الوقاية المفرطة التي تجعل البعض يغتسلون مرتين أو ثلاثا في اليوم. كما لو أن الماء أو الضحك مطهرات صالحة لتضميد الجراح التي تغطي جسد السجين. كما لو أن هذا الخير يعبر بذلك عن شعوره الحاد بالتفاهة التي تسير العالم، والبهلوانية التي يتخذ منها النظام قناعا له.”
وبالعودة إلى مفتتح هذا المحكي السجني صادفنا قصيدة شعرية وهي تعطي فكرة جزئية عن هوية العمل ككل، حيث قال في مستهل عمله هذا:
“هل ينتفي المنفى
وعلى الأيدي حروف الانتظار
الفرحة أوردة مفتوحة
والطواف الذي لا يكف امتداده
إلى أقصى ردهات الحلم”
قصيدة متبوعة برصد دقيق للحظة الخروج وهو سراح منقوص على كل حال بسبب جراح الأعماق التي خلفتها سنوات الاعتقال دون ذكر ملابسات لحظة الخروج نفسها حيث وهو يجمع أغراضه ولباسه المدني قصد معانقة الحياة والحرية كان عليه أن يمر في طريقه إلى باب السجن الكبير بحي المحكومين بالإعدام وحي العزلة. .حيثيات كثيرة جعلت لحظة السراح معجونة بطعم البقاء داخل السجن. يقول في ص21″هذه الحياة التي أترك خلفي والتي سيكون مستحيلا علي الانفصال عنها. بعد كل هذه السنوات ،أن يصبح المرء حرا من جديد ،هذه الحرية المبتذلة، التي نعرف كم هي مهددة وجزئية، و…ولكنها حرية عادية رغم كل شيء، تلك التي نقتسمها ببساطة وسط التعسف، والبؤس اليومي، والخطابات المشوهة، ومنظر العجز وقمع كل قوة حية كلما شكلت أدنى تهديد”.
إن عبد اللطيف اللعبي بجمعه التخييلي بالتاريخي والسيرذاتي بالروائي إلى جانب النفحة الشعرية يكون قد خلص محكياته السجنية من عري الشهادة ..إذ أن مجمل الفصول استثمرت حوارات داخلية منوعة من مرئيات الذات المتلفظة التي زاوجت بين مشاهد من خارج السجن وداخله وكأني بعبد اللطيف اللعبي وعى مبكرا أن المحكي السجني تلزمه رئة إضافية ليضمن مواصلة المتلقي قراءة منجزه إضافية لقدرته هو على إتمام سرد تقرحاته.. علما بأن المتوقع هو حكي اللعبي تجربته السجنية على خلفية نظرية الانعكاس وهو المنتسب لأقصى اليسار الذي تبنى مبكرا القراءة الماركسية للأدب، لكن العكس هو ما وقع إذ أن الكاتب ظل وفيا لهويته الإبداعية كشاعر فتوفق في تكسير خطية الأحداث ونوع من سجلات الخطاب واعتمد على وفرة من الأجناس الأدبية المجاورة كالرسائل والقصائد واليوميات كما سيمر معنا في هذه القرائن النصية حيث توسل أحلام اليقظة للفرار من جحيم العزلة ونار الصمت والاعتقال..ممنيا النفس بالطيران بحرية مطلقة.. ولتطعيم جفاء محكياته السجنية استدعى أحد رموز الأسطورة الإغريقية “ايكار” في الممر السردي التالي.ص30:”كم من مرة حلمت بهذا السفر، أحلام حقيقية. بدون سيارة و لا طائرة. ذلك في فترة لم يكن للبشر إلا قوة خيالهم، حيث حاجتهم لاكتشاف أسرار العالم كانت تودي بحياتهم.. كنت في جسد “ايكار” وقد تحقق حلمه. أجنحتك غير المعدنية تسعفك في مغادرة قلعة المنفى. تهرب هكذا من النافدة لزنزانتك.”
نخلص من قراءة هذه التجربة إلى أنها حشدت وفرة من السجلات اللغوية و الجنيسات الأدبية مضفية نكهة روائية على “شهادة” المعتقل حيث حضرت النوادر(ص82)والأناشيد الثورية(ص94)ورسائل الحب(ص69/71) وقصص الأطفال، حكاية الفتاة التي تحولت إلى شمس وان كانت بطلة الحكاية تتماهى تماما مع شخصية سعيدة المنبهي التي توفت بالمعتقل على خلفية إضرابها عن الطعام احتجاجا على التعنيف وسوء المعاملة(ص100/ص106)فضلا عن تشخيصه للمحاكمات بنفس ساخر(ص116)مع عودته للطفولة في الفصل ما قبل الأخيرة(ص128 وما بعدها) .وعموما عملت هذه الوسائط التبالغية على تكسير خطية “الشهادة” وتجنبتها نغمة التباكي على ما حدث وتجاوز مرثيات أدب السجون المستهلكة.إذ بالعودة إلى (ص67)نجد تصور الكاتب للكتابة السجنية حيث قال: “رفضت دائما أن تكون موظف الكتابة، أن تعزم على هلوساتك وحدها، لأنك لم تفكر أبدا في أن تسجن نفسك في مخدع الاعتراف لتعيد تركيب مشاهد خيالات ظل جحيمك. أن تكتب، حتى عندما كنت تحس أن صوتك يرتفع فوق كل الأصوات الأخرى، كان بمثابة سلخ أمام الملأ، امتحان بالنار. كنت تعيشه، تمارسه مع الآخرين. كان دم وعرق اشتياق المجهولين هو البخور الذي ينبعث دخانه من دماغك المتمرد ويتيح ل”شيطان الشعر” أن يستنطق صوتك.”
ب-»كان وأخواتها»(7)الذاكرة الموجوعة ورهان تنويع سجلات اللغة .
افتتحت محكيات «كان وأخواتها» بزمن الطفولة والصبا الذي اقترن في ذاكرة الكاتب بالاستعمار الاسباني.. ولهذا جاءت مروياته ملتاعة ومرة تماما خلافا لأزمنة الطفولة المنعشة للذاكرة والوجدان في باقي المحكيات السجنية الأخرى.. ومع ذلك عمل الكاتب على اعتصار ذاكرته بنية بعثرة قبضة السجن واستعادة حريته ولو رمزيا.. ربما لوعيه أن كل فرد بدون ذاكرة يعتبر من الوجهة النفسية إنسانا مخصيا رمزيا، غير أن التذكر الملتاع سرعان ما انسحب ليفسح المجال أمام فاجعة الاعتقال والظروف المصاحبة لها، بدءا بالاختطاف مرورا بالتعذيب فالاستنطاق وما شابه ذلك بدرب مولاي الشريف لمدة فاقت سبعة أشهر.. وكان حدث الاعتقال فرصة مواتية للكاتب كي يستدعي وفرة من السجلات اللغوية ومنها لغة الإعلام الرسمي الموسومة بنبرتها الإنشائية والمعجم الجاهز.. وذلك باستحضاره لتعليقات الإذاعة على هوية وأهداف التنظيم السري موضوع المتابعة.. وعلى خلاف هذا السجل اللغوي جاء الفصل الثاني مشبعا بالبوح والتصريح والاعتراف بحالة عشق جارفة تلبست وجدان المعتقل، حيث يمكننا اعتبار الفصل الثاني دون مبالغة قصيدة غزلية في حق رفيقته الحميمة والتي أضحت وطنا بديلا عن الوطن. ولتبين هذه الأجواء نقترح النموذجين التاليين. يقول الكاتب ص 70:»كيف لي أن أنسى بعد اليوم أني وشمت صدري بنبضك، وأشهد أني زرعت فيك ولادتي كما زرعت في ميلادي، وكيف أنسى أن لي بعد اليوم موطنا عريقا فيك يأوي الممنوع والمرغوب والمشتهى «، ثم يضيف قائلا بالصفحة 82:»..ولو كان لي أن أقول بعض الكلام الصامت لقلت بدون تردد: أريدك. إلا أن الكلام تتزاحم فيه الاعتراضات. وبهذا أعترف لك بعجزي وشهوتي وتناقضاتي ومكبوتاتي وحدودي وفواجعي…»
في الفصل الثالث غير الكاتب من لغته السردية بشكل كلي جراء اعتماده تقارير المحكمة ومحاضر الضابطة القضائية معتمدا لغة القانون الدقيقة. وكانت الفرصة مواتية لرصد تجاذبات القضاة وهيأة الدفاع على خلفية المحاكمات المراطونية دون أن ننسى توظيفه للغة البيانات والنداءات المتداولة داخل السجن ومنها بيان الجمعية المغربية لحقوق الإنسان حول الخروقات الممارسة في حق المعتقلين(سوء التغذية، ندرة الدواء وما شابه ذلك).
وتجدر الإشارة في هذا السياق الى أن الكاتب أسقط عنوة الفصل الرابع، حيث مر مباشر للفصل الخامس وكأني به استعجل إخبار القراء بصدور الحكم بإدانة جميع المتهمين بدون استثناء ..فكانت الفرصة مواتية مرة ثانية لعودته إلى بلدة الصبا وقرية مسقط الرأس عله يقلل من صدمة الحكم مستدعيا بعض النتف الشعرية والرسائل التي ذيل بها محكياته، حيث صادفنا بعضا من رسائل رفقاء محنة الاعتقال ورسائل زوجته آنذاك (ليلى الشافعي)الموقعة بتاريخ1984.رسائل ناقشت القيمة الفنية لمحكيات المعتقل فضلا عن قيمتها العملية. تقول ليلى الشافعي في إحدى الرسائل ص178:»ما عساي أقول فيك وفي «كان وأخواتها» يا شين؟ هي صرخة أم طلقة أو زغرودة عاشق في ليل طويل؟ أهي رواية أم سيرة ذاتية أم قصيدة؟ شيء واحد أعرفه جيدا، هو أنها مقطرة من جراحك الغائرة،ولأنها كذلك، فقد احتوت كل الأجناس وأعتق المشاعر»(…)»ف “كان وأخواتها” شهادة من جيل سقط بين دفتي الرحى، وكان عليه أن يطحن وحده، ويخوض في المعاناة بمفرده ويصارع الجبروت أعزل إلا من إيمانه.»
إن محكيات «كان وأخواتها» وهي تمسرح سيرة صاحبها كانت ضمنيا تشخص أعطاب مرحلة بكاملها من تاريخ المغرب الحديث وتكشف مكبوتها الجمعي.. والمكبوت هنا ليس بالضرورة جنسي بقدر ما هو سياسي واجتماعي وثقافي. أي كل تلك المبعدات التي بقيت عالقة باللاوعي الجمعي رغم تغييبها ومنها المؤسسة السجنية وما تختزله من رمزية مؤسسة… وان كانت تبنى بعيدا عن الأنظار وتزرع في ضواحي المدن لإبعادها عن وعي ولا وعي المواطن، فإن الكتابة تتوفق أحيانا في قول المسكوت عنها وجعلها شاخصة للعيان ..
ت- جرح الاعتقال بصيغة المؤنث
افتتحت فاطنة البيه محكيها السجني «حديث العتمة»(8)بفعل الاختطاف الذي أرجعها لسبي النساء في «ألف ليلة وليلة» و كأني بالتاريخ العربي ظل جامدا ومغمسا تماما في الوحشية و إهانة كرامة الإنسان.. ولعل ما زاد من تعميق شعورها بالمنفى هو محو هويتها الجنسية داخل المعتقل .تقول في ص15:»أنت من الآن اسمك»رشيد»…ما تحركي ما تتكلمي إلا إذا سمعت «رشيد» كانت هذه هي بداية محو الهوية. الاختطاف والاعتقال التعسفي، ثم محو الأنوثة بالتعامل معي كرجل.» وضع جعل المعتقلة تتحين الفرصة للإفصاح عن هويتها الجنسية الحقيقية وتستعيدها بفرحة طفل فقد أمه ولقيها بعد طول غياب. تقول في ص26:»فوجئ قاضي التحقيق حين سألني عن اسمي فأجبته بالقسم مؤكدة أنني انأ فاطنة لبيه. لا أعتقد انه يستطيع فهم فرحتي العارمة باستعادة اسمي وأنثاي الضائعة».
غير أن اللافت للانتباه في هذا المحكي السجني هو تأنيث صاحبته لعالم الكتابة بشكل متطرف.. ويتضح ذلك من داخل وخارج العمل ،فيكفي ملاحظة أن صاحبة لوحة الغلاف امرأة. الشخصيات المهدى لهن العمل نساء(مليكة، ربيعة، حياة، وداد…)صاحبة تقديم العمل امرأة(فاطمة الزهراء ازرويل)الأستاذة المشرفة على البحث امرأة(فاطمة المرنيسي/ص62)بل حتى عندما تشغل المعتقلة جهاز التذكر لا تجد سوى النساء:(سعيدة المنبهي نموذجا)..ويكاد الرجل لا يحضر إلا من شرفة الأب الذي يزور ابنته بين الفينة والأخرى.. وغياب الرجل من حياة المعتقلة عاينها بشكل معكوس في بعض محكيات المعتقلين العسكريين خصوصا (تجربة أحمد المرزوقي نموذجا)..ترى هل هي ردة فعل لاواعية من طرف المعتقلة تجاه قتلها الرمزي من جهة الرجال (المختطف ،المعذب ،الجلاد …) ومحاولة رد الاعتبار لأنوثتها على اعتبار أن الإنسان بطبعه يعمل دوما على إحاطة هويته بهالة من العظمة والتقديس ؟أم أن الكاتبة كانت تعمل جاهدة بوعي على تحويل موضوع الرغبة من الرجل إلى قضية العيش بكرامة وحرية بنية إظهار صلابة المعتقلة.. ترى هل أمر إقصاء الرجل من عالم الكتابة والتذكر في المحكيات النسائية السجنية ردة فعل أم هو محاولة لإثبات بطولة من نوع خاص؟ إن هذه الأسئلة تجد مبررها في ردات فعل المعتقلات وهن متوجهات للمحاكمة حيث كان الجلادون يمعنون في تحويلهن لرجال بوضع الأصفاد في أيدهن فكانت النساء لا تفكرن إلا في ما بعد الحكم …وبالمقابل يمكن فهم محو الرجل لأنوثة المرأة بخوفه الأسطوري غير المبرر من الأنثى والتي ترسخت في لاوعيه من خلال عدة رموز تاريخية وأسطورية أقربها عائشة «قنديشة»التي تختطف الرجال تحت جنح الظلام وتفتك بهم في خلوة قاتلة حسب الخرافة الشعبية. وعموما الموقف الذكوري من المرأة اتسم على الدوام بالتناقض، والتأرجح بين الانجذاب والنفور، بين الافتتان والعداء.. وإن طغى عليه تأنيث الشر كما في المرويات الشعبية(حديدان الحرامي والغولة)..أوفي الأساطير الكونية « علبة البندورا» نموذجا دون ذكر خطيئة حواء في قصة الخلق…لنتأمل القرينة النصية التالية ص57:» أحكم أحدهم إغلاق القيد على معصميها النحيفين، نظرت إليه باستغراب وعلقت: إنك تخرق القانون بما تفعل، لم يسبق لي أن رأيت نساء بالأصفاد في المحاكم، أولا تكفي بقية القيود؟ أجاب بتهكم: أنت الآن في عرفنا رجل، ولذلك يصدق عليك ما يصدق عليه، صحيح أننا لا نضع أصفادا على معاصم السجينات، ولكن أنت لا مكان لك بينهن، لا مكان لك بينهن، لا مكان لك في عالم النساء.. كانت تغني مع رفاقها في السيارة بنشوة غريبة، وكانت تضحك من تسابق السيارة مع الريح…»
إن المعتقلة بسبب تعرضها لمحو أنوثتها وجدت نفسها مضطرة لتوظيف السخرية بشقيها «سخرية الموقف والسخرية اللفظية وذلك للتصعيد من مفارقة الخوف منها بدل الخوف عليها. ففي سياق مرافعة المحامي قصد انتزاع البراءة.. تلبس خطابة سخرية الموقف التي ضحكت من الواقع المبكي واستهزأت من سياق المحاكمة برمتها.. فالسخرية عموما تبقى كأداة مقاومة تحمي الساخر والمتواطئ معه من السقوط في هاوية الاستسلام والضعف. لنعد إلى القرينة التالية.ص58:»سيدي أرجوكم سيدي الرئيس أن تتأملوا هذه الذراع النحيفة، هل يخشى عليها أو منها؟ هل تستطيع أن تسقط نظاما؟ ما أصغرها وما أكبر التهمة، لا يوجد بحوزتها، أو على الأصح محجوزاتها، والدلائل ضدها كلها كتب تباع في السوق، وأفكار وأحلام راودتها.»
تبقى الإشارة هنا إلى أن هذا المحكي السجني تكتم على الوجه العاطفي للمرأة وتبرم عن استحضار الرجل في حياتها الخاصة ولو من شرفة التذكر، ربما مبالغة في العفة، ربما خوفا من تعرية الذات والاعتراف بنقط الضعف البشري التي تضفي سحرا آسرا وتشكل حافزا إضافيا لمعرفة ذاك الكائن المجهول المسمى «إنسانا».. ومسألة التكتم وانتقائية الأحداث المروية في السير المغربية تشترك فيها المرأة كما الرجل ..غير أن مفارقة الرجل في هذا المحكي بالذات هي أنه وإن كان قد أخذ صفة السيد على المرأة، فهو ظل عبدا لرجل آخر(المعلم والحاج/الجلاد)..واشترك الجلادون في صفة عبيد الرغبة لحظة تحرشهم بالمعتقلات..

الاتحاد الاشتراكي

محمد رمصيص

لأنهم قالوا: لا مذكرات سجنية الحلقة الأولى

مذكرات سجنية

إهداء

إلى الذين (صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر. وما بدلوا تبديلاً).

شكر وعرفان

“من لم يشكر الناس لم يشكر الله”

أقدم شكري لكل من كان له دور في إخراج هذا السجل إلى الوجود، مَنْ حرّضني على الكتابة، ومن شجّعني، ومن تحمّل جهود الطباعة والإخراج… وأخص بالذكر الأخوين الأستاذين الأديبين الناقدين: محمد الحسناوي وعبد الله الطنطاوي، فقد كان لتشجيعهما، وتوجيههما، ومراجعتهما اللغوية أطيب الأثر.

محمد عادل فارس

تقديم

 الأديب الناقد الأستاذ محمد الحسناوي

الأولــى في أدب السجون .. سورية

بقلم : محمد الحسناوي

                                 ( أدب لم يزل تحت الأرض ، ولم يخرج بعد إلى النور ،وهــــو         

                                  أدب السجون . هذا الأدب لم يزل أبطاله في الغياهب المختلفة

                                  ويتوقع أن يكون له شأن لو قيّض له من يجاهدون في سبيل

                                  جمعه وتدوينه . .. ولو كنتم تعلمون مقدار الخسارة ، التـــي

                                  سيمنى بها الأدب الإسلامي خاصة ، والفكر الإسلامي عامة ،

                                 لضياع أدب السجون ، لقاتلتم بأظفاركم وأسنانكم للحصـــــول

                                 عليه أو على بعضه. فليحرص كلّ كاتب على البحث عنــــــــه

                                  والوصول إلى مظانه ، والحصول عليه ، وتوثيقه . فهــــــــذا

                                  الأدب هو الوثيقة الحقيقية الوحيدة الباقية للتاريخ ، من حياة

                                  هذا التاريخ .  

                                           محب الدين داوود – موقع رابطة أدباء الشـــــــــام –

                                                                    كلمة الافتتاحيــــــــــــــــــــــــة )

                                ( سيرشحنا المستقبل كأصحاب أكبر تراث عالمــــــي في أدب

                                 السجون .

                                         فرج بيرقدار – مقابلة مع عادل محمود – موقع الرأي )

لعل القطر السوري يحوز قصب السبق في ميدان (أدب السجون )(1) فلا تكاد تنجو من هذا الشرف / العار أسرة سورية ـ بفضل أربعين عاماً من حكم الطواريء ومحكمة أمن الدولة الاستثنائية وزوار الليل الأشاوس والغيلان المتناسلة على رأس أربعة عشر جهازاً قمعياً سوفياتياً نازياً وحكومات تأكل المواطنين ، ثم يأكل بعضها بعضاً ، كما تأكل الهرة أولادها .

يشرفني ويسعدني في الوقت نفسه أن أخط كلمات في التقديم لأول إنتاج مهندس سوري حلبي من حيّ المشارقة ، تربى في (سجون الرأي) السورية ، بعد أن نذر نفسه في سبيل الله لخدمة الناس وحب الناس ونظافة اليد والقلب واللسان .

كان يميل إلى التدين منذ نعومة أظفاره ، ويتمنى أن يتخرج في كلية الشريعة ، لكن أستاذ العربية العليم بمقتضيات العرض والطلب في سوق الحياة أقنع أهله بتوجيه الفتى إلى الدراسة العلمية ، فصار إلى (كلية الهندسة ) ، ثم إلى سجون الرأي .

ما علاقة ( الهندسة) بسجون الرأي ؟

بل ما ذنب ثلاثة أرباع الشعب السوري ليستضافوا في سجون الرأي جماعات جماعات ، وربما راح بعضهم ضحايا المجازر الجماعية .

إن اختصاصي الأدبي يخولني أن أتلمس في حروف المؤلف (الرهيبة ) دقة المهندس وصدق العالم وإيجاز الخبير . أسلوب لا يمكن إلا أن تحترمه وتعجب به ، بصدق نبرته وتعبيره عن صاحبه وعن التجربة/المأساة التي يتحدث عنها . هناك من ابتكر تسمية (الأدب التسجيلي ) ، وأزعم أن صاحب هذا السفر الملتهب صنع لنفسه أسلوباً ( فوق التسجيلي ) : من حرص على الدقة والتواضع ونثر الانطباعات والتحريضات والانتقادات نجوماً فشموساً فصواريخ عابرة للأضلاع والوجدانات والمحيطات على حدّ سواء .

من غير ما اتفاق مسبق ولا تخطيط .. يذكرني أسلوب محمد عادل فارس الموجز المكثف تكثيف العطر والحكم والأمثال .. بأسلوب الدكتور مصطفى السباعي ـ في كتابه (هكذا علمتني  الحياة) . لغة برقيات نارية .. قصراً ودفئاً واستهدافاً . أقل الفروق بين الرجلين اللذين يسطران مذكراتهما أن الفارس اختص بزبانية السجون الذين هم أذرعة السلاطين ، على حين غلب على اهتمامات السباعي التنديد بعلماء السلاطين . إنهما  سجلا تجربتهما أدباً نابضاً ، سيذكره التاريخ الوجداني للإنسان وللأمم .

محمد عادل فارس مواطن شريف (نظيف ) ، لم يحمل سكيناً ولا عصا ، يُخطف من عمله مرة ومن فراشه مرة ، ويمدد على (مشرحة ) التحقيق أياماً وشهوراً وسنين ـ وتُغرز فيه سفافيد من خيزران أو حديد أو كهرباء وشتائم ، أشدّ لذعاً من النار والحديد والصرعات الكهربائية عالية التوتر حتى يملّ الزبانية الكبار والصغار من موجات التعذيب ، فإذا ملوا منه قذفوا به إلى كهوف الظلام والعفن والحيوانية . وإذا قال لهم : هذا مخالف للدستور الذي (خيّطتموه) على قياسكم ..ضحكوا وقالوا : وهل تصدقون ما نقوله لكم في الدستور ؟ وإذا قال لهم : إن أصدقائي الطلاب الذين أعلنوا عن رأيهم المكبوت على صفحات الجدران لا يستحقون كل هذا العذاب .. قالوا له : لا دور لك فعلاً ، ولكننا كنا نريد <ضربكم> منذ زمن بعيد ، وكنا ننتظر مناسبة ، فهذه كانت المناسبة.

إذن ليست هناك علاقة تعاقدية بين الحاكم والمحكوم ، كما في الشريعة السمحاء وفي المجتمعات المتحضرة ، بل بين اللص والمواطن ، بين قاتل ومقتول طوال أربعين عاماً ونيّف .

انظر إلى  بقايا (الفطرة)أو الخير التي ما زالت في نفوس بعض الجلادين ، التي أشار إليها الفارس أكثر من مرة . هل نتوقع من الضحية التي لاقت الأمرين من هذه الشرائح المفترسة أن تعترف لبعضها بمواقف خيرة ؟ قد تقول : هذه أمانة علمية ، حصلت للكاتب من الدرس ( الهندسي) الموضوعي . وقد تقول : بل هي جزء من تصور محمد عادل فارس للإنسان والكون والحياة وخالق الإنسان والكون والحياة ، ذلك التصور الإسلامي الذي يعتقد أن الإنسان مفطور على الخير ، لكن شياطين الإنس والجن تجتاله فتحرفه ( ولا يجرمنّكم شنآنُ قومٍ على أن تعدلوا . اعدلوا هو أقرب للتقوى) ، فالإنسان بين النفس اللوامة والنفس الأمارة بالسوء ، فليختر . وصاحب الاختيار صاحب قرار ، وصاحب القرار خطير بخطورة القرار الذي يتخذه ، فإما جنة وإما نار ، إما سعادة وإما شقاء في الدنيا والآخرة . تلك أمانة عُرضت على السماوات والأرض فأبينَ أن يحملنها ، وحملها الإنسانُ إنه كانَ ظلوماً جهولاً .

يقول الفارس : ( كان السجن لي مدرسة عرفت فيها نفسي وعرفت شرائح مختلفة من البشر: من الإخوان ، ومن الإسلاميين الآخرين – وبخاصة أعضاء حزب التحرير – ومن الفلسطينيين – من فتح والجبهة الشعبية وغيرهما – ، ومن البعثيين الذين انشق عنهم حافظ ، أقصد اليمينيين جماعة أمين الحافظ ، واليساريين جماعة صلاح جديد …. فضلاً عن أفراد من هنا وهناك ، من التنظيمات الكردية ، ومن أصحاب انتماءات مختلفة ، ومن أناس غير سوريين : عراقيين وأردنيين وبريطانيين وكنديين وإسبانيين …) .

ما هذه المدرسة التي لم توفر مواطناً سورياً ولا عربياً ولا أجنبياً ؟؟

يقول الفارس أيضاً : ( الصفة العامة لمعظم ضباط المخابرات والمحققين الذين عرفتهم ، أنهم قليلو الذكاء ، ضعيفو الضمير ، محدودو الثقافة ، جفاة الطبع ،منحدرو الأخلاق … )

فلنتصور كيف يغدو هؤلاء الأغبياء الفاسدون حكاماً لسلالة أبي سفيان وعمر بن عبد العزيز وصلاح الدين الأيوبي وأبي فراس الحمداني .

يقول الفارس : ( دخلنا فرع المخابرات العامة هناك ، الذي يسمى <بناية العداس>أو<مدرسة نابلس>، إذ يقال : إن المبنى كان يملكه أحد الأثرياء من آل العدّاس ، وصادرته الدولة ، وجعلته مدرسة باسم ثانوية نابلس ـ ثم وجدت أن الأنفع للمجتمع أن يصير فرعاً للمخابرات ، فصار!!) .

أولاً : هل ترى معي أن تحولات هذا المبنى تعكس بشكل رمزي بسيط .. تحولات الوطن السوري بأسره من مجتمع مدني مسالم إلى سجن قمعي كبير ؟؟

ثانياً لننبش معاً بعض ما في هذه العبارات من منجزات تعبيرية تفصيلية :

يقول الفارس : ( دخلنا فرع المخابرات العامة.. ) ، والحقيقة أدخلونا مجبرين قهراً لدرجة الاستسلام والقول: نحن دخلنا…

يقول : ( يسمى …) ، والحقيقة كان يسمى …

يقول : ( وصادرته الدولة ..) ، لم يذكر سبب المصادرة ، كأن من الطبيعي أن الدولة تصادر الممتلكات الشخصية للمواطنين متى تشاء وكيف تشاء وبلا سبب قانوني….

ويقول : ( وجعلته مدرسة ) ، هذه مرحلة من مراحل (الجعل) …

ويقول : ( ثم وجدت أن من الأنفع للمجتمع أن يصير فرعاً للمخابرات ) هكذا بلا سندقانوني  .

ويقول : ( فصار!!) ، كأن الدولة (إله) أو حلت محل الإله ( تقول للشيء : كن فيكون ) ، وهذا هو جوهر الفساد في الأرض .. أن تحل الآلهة البشرية محل الإله الحقيقي العادل الرحمان الرحيم ، جبار السماوات والأرضين  . ودعك من سخرية ( الأنفع للمجتمع ) التي تعكس زيف الأقوال والشعارات الممضوغة صباح مساء . هكذا ببساطة أراحوك وأراحوا المجتمع والرقابة الشفافة والصحافة من التفكير والنقد ثم الحساب .

_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _

  • – انظر على سبيل التمثيل لا الحصر : دواوين (وما أنت وحدك – رقصة جديدة – في ساحة القلب – حمامة مطلقة الجناحين – تقاسيم آسيوية – خيانات اللغة والصمت) لفرج بيرقدار، وديوان مروان حديد – ومجوعة أشعار(من ذكريات الماضي) لعلي صدر الدين البيانوني، وديوان (ترانيم على أسوار تدمر) ليحيى الحاج يحيى، وديوان (القادمون الخضر) وروايتَي (نقطة انتهى التحقيق- ما لا ترونه) لسليم عبد القادر، وديوان ( الظل والحرور) لعبد الله عيسى السلامة، وديوان(في غيابة الجب) وقصص (بين القصر والقلعة) ورواية (خطوات في  الليل) لمحمد الحسناوي، وقصص (الخطو الثقيل) (الوعر الأزرق) (النحنحات) لإبراهيم  صمؤيل، وقصص جميل حتمل، وقصص (آه .. يا وطني) (تقول الحكاية) ورواية (بدر الزمان) لفاضل السباعي، ورواية (الشرنقة) (سقط سهواً) لحسيبة عبد الرحمن، ورواية (الصلصال) (طفلة من السماء) لسمر يزبك، ورواية (الفقد) للؤي حسين، ورواية (غبار الطلع) لعماد شيحة، وكتاب (التحقيق) لمحمود ترجمان، و(كتاب الخوف) لحكم البابا، ورواية (عينك على السفينة) لميّ الحافظ، وكتاب (شاهد ومشهود) لمحمد سليم حماد، وكتاب (خمس دقائق) لهبة الدباغ، وكتاب(في القاع) لخالد فاضل، و رواية نشرت في جريدة النهار لهالا الحاج ، وكتاب (النداء الأخير للحرية) لحبيب عيسى، وشريط (ابن العم) لمحمد علي الأتاسي، وشريط (قطعة الحلوى) لهالة محمد.

                                                                * كاتب سوري عضو رابطة أدباء الشام

     الذين قالوا لا

سيرة ذاتية

ما كنت أقصد أن تكون هذه المذكرات “السجنيّة” سجلاً لحياتي الشخصية، لكنّ أخاً فاضلاً اطلع عليها قبل نشرها، ورأى أن عرض السيرة الذاتية في مقدمتها، ولو باختصار، من شأنه أن يُحدث في نفس القارئ تعاطفاً وجدانياً، أو تقمصاً وجدانياً.

************

اسمي الكامل محمد عادل بن عبد القادر فارس.

ولدت في مدينة حلب الشهباء في 5/1/1944، في حي شعبي عريق، هو حي المشارقة، في الجزء الغربي منه، المعروف بحي المزرعة، المجاور لـ”قبر هنانو”.

يُعرف أهل الحي بالمروءة والشجاعة والشهامة.

وهم جميعاً مسلمون. لكن إسلامهم – في أيام صباي- يقترن بكثير من الجهل، فهو عاطفة وتقاليد، أكثر منه تديناً واعياً. فالشباب بعيدون عن التدين، وكثير منهم من يرتكب المحرمات…. وهم، مع ذلك، يتعصبون للإسلام، ويغارون على العِرض غيرة شديدة. والعِرض عندهم مقصور على ستر المرأة وعفّتها وسمعتها…

ويغلب على الحي آنذاك الأميّة والفقر، إلى جانب قليل من المتعلمين، وقليل من الموسرين.

ولقد كان أبي – رحمه الله- من متوسطي الحال في ذلك الحي! وكان على جانب من التديّن، ويحظى باحترام أهل الحي، واحترام التجار الذين يتعامل معهم… بسبب استقامته وسماحته وحرصه الشديد على أداء الأمانة والوفاء بالوعد والعهد. وقد كانت له دكان صغيرة، اقتطعها من البيت الذي نملكه، يعمل فيها سمّاناً، أي بقّالاً.

أما الوالدة – رحمها الله- فقد كانت أكثر تديّناً، وأكثر ثقافة!! فعلى الرغم من أمّيتها، فقد تأثرت بوالدها وإخوتها (جدي وأخوالي)، وقد كان جدي – رحمه الله- يحضر دروس العلماء، وكثيراً ما يقرأ تفسير الجلالين وغيره، وكان أخوالي على مستويات مختلفة من التعلم!.

ومنذ نعومة أظفاري بدأت التعلم في الكتاتيب، عند المشايخ و “الخوجات” وقد أنجزت تعلم القرآن الكريم كاملاً وأنا ابن ست سنين. وأكثر من أفادني في ذلك ” الخوجة بديعة أبو صالح” – رحمها الله- فقد كانت ذات هيبة ووقار، وحزم وعلم.

بدأت الدراسة الابتدائية عام 1950-1951م، في مدرسة “الاتحاد الوطني” في حي الكَتّاب، الذي يمثل الجزء الشرقي من حي المشارقة. وقد كنت في مستوى دراسي يتراوح بين الجيد والجيد جداً، ونلت شهادة الدراسة الابتدائية صيف 1955، وكانت المرحلة الابتدائية آنذاك خمس سنوات.

ومع أن مجموع علاماتي في الشهادة الابتدائية كان عالياً، فإن قبولي في ثانوية المأمون، التي تبعد عن بيتنا مسيرة بضع دقائق، كان متعذّراً أو متعسراً!

كانت الثانويات تضم الصفوف من السادس حتى الثاني عشر! وكانت ثانوية المأمون، أو التجهيز الأولى (كما كان يُقال لها)، مخصصة لأبناء الأحياء الراقية، فلم أتمكن من تحصيل قبول فيها إلا بوساطة بعض الأقرباء والجيران، لاسيما أستاذ اللغة العربية الشهير علي رضا!.

وفي الحقيقة، كنت أرغب بالدراسة في الثانوية الشرعية، انسجاماً مع توجهي الديني العفوي، لكن الأستاذ علي رضا نفسه، أقنع أهلي بالعدول عن تلك الفكرة، وقال لهم: تلك الدراسة لا تؤهله إلا لأن يكون مؤذناً أو إمام مسجد!.

لم أندم على دخولي الدراسة العامة، بل تجاوبت معها، ونلت الشهادة الثانوية في صيف 1962، بمعدل عال! وكنت طوال دراستي أحب مواد اللغة العربية والتربية الإسلامية والرياضيات والعلوم.

وهنا أيضاً كانت رغبتي الحقيقية أن أدرس الشريعة، أو الأدب العربي، لكن اعتباراً آخر صرفني عن ذلك. فالدراسة في أي من الاختصاصين المذكورين ستتم في جامعة دمشق، وهذا يرتّب علي نفقات السفر والسكن، فضلاً عن الأقساط الجامعية والكتب… مما يعجز والدي عن دفعه. وكان بالإمكان أن أدرس من غير دوام في الجامعة، وأكتفي بالسفر لأجل التسجيل والامتحانات فحسب… لكنني، في هذه الحال، لن أتمكن من التلقي على الأساتذة الكبار، ولن أتمثل المعارف المطلوبة بعمق، إنما سأحصل على شهادة لا تسمن ولا تغني من جوع. وكنت أرى – ولا أزال- أن من اختار الدراسة في فرع من فروع العلم فعليه أن يتقنه.

هكذا كانت قناعتي. وكان علي أن أختار بين كليات جامعة حلب: كلية الهندسة (بفروعها: المدني والمعماري والميكانيك والكهرباء) وكلية الزراعة وكلية الحقوق. فاخترت دراسة الهندسة المدنية.

وقد تجاوبت كذلك مع الدراسة وأحببتها، وأفدت منها تنمية التفكير العلمي، لاسيما الجانب الرياضي منه.

وتخرجت في صيف 1967، بدرجة “جيد”.

ولا زلت أذكر أنني خرجت من امتحان إحدى المواد، يوم الإثنين، الخامس من حزيران، فرأيت الطلاب متجمعين في ساحات الكلية يتحدثون عن حرب اعتدت فيها إسرائيل على مصر…

وتوقف الامتحان نحو شهر أو يزيد، ليستأنف من جديد.

***************

وبعد تخرجي في كلية الهندسة انتسبت إلي كلية الشريعة، ودرست فيها سنة واحدة، وتركت الدراسة على إثر قبولي موظفاً في مؤسسة المشاريع الكبرى.

وفي الحقيقة فإن السنة التي أعقبت تخرجي في كلية الهندسة، كانت سنة غنية في حياتي. ففضلاً عن نشاطي الدعوي في صفوف جماعة الإخوان المسلمين، وفي المساجد، فقد عملت متدرباً في مكتب المهندس عبد العزيز رجب باشا، وفق النظام المعمول به في نقابة المهندسين، وفي الوقت نفسه درستُ ودرّست. درستُ في كلية الشريعة، ودرّست مادة الرياضيات في إعدادية الحسن بن الهيثم وأنهيت العام الدراسي والامتحانات وقدّمت نتائجها إلى إدارة المدرسة، ثم ذهبت إلى دمشق لامتحانات كلية الشريعة، وكانت قد انقضت امتحانات ثلاث مواد، فتقدمت إلى امتحان المواد السبع الباقية ونجحت فيها جميعاً بفضل الله.

****************

كان توجهي الإسلامي – في طفولتي ومراهقتي- يتراوح بين العاطفة والالتزام السلوكي، صعوداً وهبوطاً، لكنني لم أتوجه مطلقاً وجهة بعيدة عن الدين، ولم أنخرط فيما ينخرط فيه بعض أبناء جيلي من انحرافات سلوكية.

وبدءاً من عام 1960 بدأ التزامي يتبلور أكثر، ويتعمق أكثر، وقراءتي تتوجه نحو الكتب الدينية، إلى جانب الكتب الأدبية. ورحت أحضر دروس المشايخ: عبد الفتاح أبي غدة، وعبد القادر عيسى، وعبد الله سراج الدين، ومحمد السلقيني، وعبد الوهاب سكر، ثم محمد الحامد، رحمهم الله جميعاً، فضلاً عن علماء أفاضل حضرت لهم مجالس علم أو خطباً، قليلة العدد، لكنها غزيرة الفائدة، كالشيوخ الفضلاء إبراهيم السلقيني، ومحمد علي الصابوني ومحمد عوّامة وعبد الحميد طهماز ومحمود الحامد ومحمد بشير الشقفة وغيرهم وغيرهم…

وقد أدرجت أسماء شيوخ حمويين، لأنني سكنت حماة في أثناء وظيفتي مهندساً في المشاريع الكبرى.

لكن الشيخين اللذين كان لهما أكبر الأثر في ثقافتي وتوجهي هما:  

 الشيخ عبد الفتاح أبو غدة – رحمه الله- الذي أفدت منه الكثير الكثير في الفقه والأخلاق والوعظ الراقي والذوق والأدب… وفي الولاء للإسلام وقضاياه، وفي حب العلم والقراءة…

والشيخ محمد السلقيني – رحمه الله- الذي أفدت منه شيئين عظيمين، إلى جانب أشياء مفيدة كثيرة، الشيء العظيم الأول هو فهم العبارة الفقهية، أي القدرة على حل عبارات كتب الفقه القديمة، والشيء العظيم الثاني هو الإخلاص والتجرد والتربية بالحال، فقد تعلمت من تواضعه الحقيقي العفوي ومن تضحيته بالمال والجهد والجاه… مالا يمكن أن أتعلمه لو قرأت كل مجلّدات المكتبات!.

وفي مطلع 1964 تقريباً انتسبت فعلياً إلى جماعة الإخوان المسلمين، وكانت السنوات الأولى من هذا الانتساب تمثل ذروة نشاطي الدعوي.

وفي نيسان 1973 دخلت المعتقل لمدة أربع سنوات.

وفي نيسان 1979 دخلت المعتقل مرة ثانية لمدة عشرة شهور!

وفي كانون الأول 1980 غادرت سورية فراراً بديني!

************

من أهم الشخصيات التي تأثرت بها الشهيد سيد قطب، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة.

وبطبيعة الحال فقد تأثرت بعشرات الشخصيات الأخرى، بل بمئاتها، من علماء وأدباء وخطباء ومدرّسين وزملاء….. من إسلاميين وعلمانيين.

************

قراءاتي متنوعة، في علوم الشريعة (التفسير والفقه وأصول الفقه وعلوم الحديث…)، واللغة العربية وآدابها، وفي علوم النفس والتربية، وفي الثقافة العلمية، لاسيما الطبية.

************

تزوجت في أواخر عام 1971، من امرأة تقية، صبرتْ معي على البأساء والضراء، على السجن الطويل، وعلى الغربة، وعلى الانهماك في أعمال الدعوة… وما يرافق ذلك من متاعب وحرمان…فكانت زوجاً صالحة…أسأل الله تعالى أن يثيبها على صبرها وبذلها، ويجزيها عني خير جزاء.

وقد رزقت منها ثمانية أولاد: اثنان من الذكور، وست من الإناث… أسأل الله لي ولهم الثبات على الإيمان، والوفاة على الإسلام، وأن يلحقنا بالصالحين.

الولد البكر عندي بنتٌ ذاقت اليُتم وأنا حيّ، حيث تم اعتقالي وعمرها نحو ثلاثة أشهر، وخرجتُ وعمرها أربع سنوات وثلاثة أشهر… وكان لأمها وبيت جدها فضل كبير في رعايتها وتخفيف آلام اليتم عنها! جزاهم الله خيراً.

أربعة من أولادي تخرجوا في الجامعات، والأربعة الآخرون على مقاعد الدراسة في مراحل مختلفة منها.

ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.

أبو عبيدة محمد عادل فارس

رواية ليالي كرداسة الحلقة العاشرة {الاخيرة } المهندس انور رياض

(20)

    لم تكن حسابات الداخلية التي اعتمدت علي خبرة أمنية طويلة … ومتابعات ميدانية … في استبعاد وجود تنظيم للإخوان … بعيدة – كثيرًا – عن الواقع … قد يكون هناك تحركات مريبة … هنا … أو هناك … ولكن في ظل الملاحقات … وبرنامج الضربات الإجهاضية … ونظام التفتيش المفاجئ … واحتجاز من يشتبهون فيه لفترات تطول … أو تقصر … ونشر العيون … والجواسيس … والاختراقات … كل هذه الإجراءات – كان في تقديرهم – أنها تشكل عوائق مهنية … ومدروسة … فعالة … تمنع وجود تنظيم كبير قوي … ينتشر … ويشكل خطورة علي النظام … ويرون أنه من الطبيعي في مثل هذه الإجراءات … أن تحدث ثغرات يمكن النفاذ من خلالها … إلا أنها لا تسمح إلا لوجود جماعات صغيرة … ومحدودة … بضعة مئات علي الأكثر … ومن خبرتهم … فإن نشاطها … لن يزيد علي الدراسات الدينية … ولا يمكن أن تتطور إلي تنظيم مسلح … يقوم بأي عمل عسكري … لأسباب كثيرة … بعضها حركي … وبعضها عقائدي … ومن أهمها هو وجود رهائن من قادة الجماعة … لازالوا في السجون .

    العقيد شمس … له حسابات أخري .

    العقيد الذي تمكن في أن يصبح الرقم الصعب … في أمن النظام … عن طريق القفزات السريعة … فوق الجثث والأشلاء التي استنطقها … وصورها علي شكل مؤامرات لقلب نظام الحكم … أمكنه – أيضًا – أن يحقق قفزة كبري … وانتصار ساحق علي أمن الداخلية … وأن يدفن ما بنته الشرطة من جهد ونشاط طوال السنين الماضية في محاربة الإخوان – العدو الأول … لأنه يعرفهم جيدًا … يعرف مدي إصرارهم … ومدي صبرهم … وقدرتهم علي تلقي الصدمات … وتجاوز المحن … عبد الناصر … عاصرهم عن قرب … فقد كان – وللأسف – واحدًا منهم .

    العقيد … كشف الداخلية … وأظهر فشلهم … والمسألة أصبحت لا أكثر من أيام … ويطاح بالوزير … وكبار معاونيه … وتسقط الداخلية برجالها … في قبضته … ويُسقط فكرة الريس وحرصه علي تعدد أجهزة الأمن … وتنوع قيادتها … حتى يظل كل شيء تحت سيطرته … عشرات العصافير بضربة واحدة … أيها العقيد … المحظوظ . شمس … لا يضيع وقته … استبق الأحداث … وفتح سكة اتصال مع الصف الثاني من رجال المباحث … وبدأ في تشغيلهم لخدمة أهدافه … دفعهم للبحث في الدفاتر القديمة عن وقائع سقطت أثناء الهرولة في تحقيقات الجهاز السري سنة 1954 … وخاصة عن الأسلحة … الذي قد تكون لازالت مخبأة منذ ذلك الحين … فلربما أسفر هذا الاتجاه عن التنظيم المسلح الذي يبحث عنه … وبذلك تكتمل الحلقة الناقصة … وهي الخطة التي أشار إليها في حواره مع العميد سعد … في جلسة الإنس عند الراقصة نجوى .

    القبض علي زكريا سالم … فتح طريقًا آخر … ربما يكون أكثر فائدة وأقرب إلي اكتشاف تنظيم مسلح … خاصة وأن أطرافه هو الشيخ عبد الفتاح إسماعيل … المتهم الرئيسي في التنظيم المكتشف حديثًا … فهل يستمر الحظ في ركابك يا شمس باشا ببركة دعاء الوالدين عليك … وهل تنال الحظوة … والذي في بالي … وبالك … يا رشدي بك … قبل أن تصل السيارة إلي السجن الجديد في أبي زعبل … وضعوا القيود الحديدية … في يديه إلي الخلف من ظهره … ثم وضعوا عصابة علي عينيه . نزل من السيارة يقوده أحد المخبرين … وبمجرد أن تعدي البوابة … شعر بشومة تهوي بين كتفيه … صرخ من الألم … والمفاجأة … عالجه أحدهم بكف – سطحه من الحديد – علي قفاه … وآخر علي وجهه … ثم توالت الصفعات علي أذنيه … وقبضات الأيدي تطحن عظام صدره … استقبال فيه تجديد … استقبال الحربي بالكرابيج … يبدو أن اعتمادات الداخلية المالية فقيرة لا تسمح باستيراد الكرابيج … ولكن لا بأس … بالشوم المحلي … نعتمد علي الوطني … وكله يؤدي الغرض … طعم الشاي … أيضًا – محلي … مر المذاق … كرم الضيافة يختلف في أبو زعبل … عن الحربي … حتى الإجرام … متعدد المذاق … درجات … بين المرارة … والعلقم .

    العنبر الجديد في ليمان أبي زعبل … عبارة عن عدة طوابق … ومثله … مثل كل السجون … عبارة عن زنازين كبيرة نوعًُا … متجاورة تشكل أضلاعًا للمبني المستطيل الشكل … وفي وسطها فناء … يحيط به أسياخ الحديد … علي شكل قفص كبير … حتى السقف … فيما يشبه أقفاص الحيوانات … وعليه باب محكم … القفص معرض للشمس … الحارقة صيفًا … والبرودة الشديدة شتاء … وكان من الطبيعي أن يصبح مكانًا مثاليًا … للقهر … والتعذيب … أطلقوا عليه … اسم المحمصة … تستخدم قضبانه الحديدية في ربط القيود الحديدية باليدين عليها … فيظل الجسم معلقًا … ممدودًا بثقله … لا يحمله إلا الرسغين … في وضع مثالي للضرب في كل أنحاء الجسم … مع الألم الهائل لليدين لتحملهما كل وزن الجسم … وما يصبهما من تمزق … قد يفصل اللحم عن العظام … التعليق قد يستمر ساعات … أو أيام … لا ماء … ولا طعام … معصوب العينين … لا يري … وإنما … يسمع الأنين حوله … وصوت اصطدام الشوم بالأجساد … ينشر الكدمات … ويكسر العظام … وصرخات … ودعاء يتصاعد من خلال السقف المفتوح إلي بارئها … تشكو الظلم … الطغيان . علقوا زكريا … وتركوه … لا … لم يتركوه … أين أنت يا زكريا … وما الذي يجري … أشعر بأن المكان حولي … كأنه شماعة هائلة … معلق عليها عشرات الجثث … صرخة … صوت شومة مكتوم … اصطدام باللحم … والعظم … آه … يا رب … حرام عليكم … صفر الهواء لعصا … تشق الهواء … هذه المرة … كانت قدميه هما الهدف … كتم شهقة .. لم انتظاره … الأقدام تتكاثر له … قبظة غليظة … تدق جنبه … انسحبت أنفاسه … تغوص … وتنقطع … كاد قلبه أن يتوقف … آه … جاوبته آه أخري … بجواره … الأقدام تبتعد … ليس بعيدًا … صوت شومة يهوي … وصرخة ثانية … وثالثة … رائحة جلد تحترق … عادت الأرجل تحيط به … هذه المرة كان الضرب بالعصاه … علي اللحم … علي القدمين … صرخ …  

  • ماذا تريدون ؟

الإجابة كانت لطمة علي فمه … شعر بأن فمه يتداعى … حاول الصراخ إلا أن فمه لم ينفتح … توالت اللطمات … ثم شومة تحش وسطه … انقطع نفسه … ثم … غاب عن الوعي . أفاق علي النهار الذي بدأ نوره يتسلل إلي المحمصة … السكون يحيط به … صمت المقابر … اختفي وقع الأقدام … لعلهم ذهبوا … أو ربما هم كامنون في مكان ما يراقبون

صوت استغاثة : ماء … رشفة واحدة … أنا مريض بالسكر

رد عليه صوت هامس : اصبر يا أخي … لن يجيبك أحد … ولو حضروا سيضربوننا جميعًا .

زكريا يعرف هذه الأصوات … ولكنه ليس متأكدًا … لا … أنه متأكد … إنهم إخوانه … كانوا معه في السجن … ولكن … بماذا تفيد المعرفة … كل مشغول بحاله … ولكن … لماذا … وما الذي يحدث … لا فائدة من التفكير … وليس لها من دون الله كاشفة … ولا ملجأ من الله … إلا إليه … هو المعين … وليس أمامنا إلا الصبر . تحركت شفتاه بالتلاوة … شفتان متيبستان … وفك معطوب … ولسان متخشب … وحلق جاف … الشمس تزحف … ويشتد لهيبها … قطرات العرق التي تنزفها الأجسام … سرعان ما تجف … أنه يغفو … سرعان ما يفيق علي ألأم القيد يحز في يديه … الكدمات وصلت إلي العظام …الألم صار نشرًا … يغفو … ثم يفيق … الإفاقة علي انتفاضة … وتشنج … الصمت حوله عذاب آخر … الهمس دعاء وذكر … يشعره بالإنس … ويخفف ألمه … صوت ترتيل خفيض … ما أحلاه … وتري المجرمين يومئذ الضرب لا يتوقف … بالشوم … والعصي … وأسلاك الكهرباء … ضرب عشوائي … بلا هدف مفهوم … من حين لآخر يسحبون جثة من الجثث المعلقة … ثم أصوات جرها … أو سحبها … صوت الباب يفتح … ثم يغلق … أين يذهبون ؟؟

    في الجانب الآخر … من القاهرة … التي انقهرت بالظلم … والظلام … كان سجن القلعة

    نزل سيد رجب … لا قبل أن ينزل  عصبوا عينيه … ووضعوا القيود في يديه خلف ظهره …ثم دفعه أحدهم ليهوى علي وجهه ( مدلوقًا ) من السيارة … عندما وقف انهالت عليه الصفعات … هل يمكن أن تكون هذه كفوف … أو مطارق … تدق وجهه … وأذنيه … البرق يضرب بصره … والصفير يشق أذنيه … و … انتهي به المطاف … ملقي داخل الزنزانة … وأغلقوا عليه الباب … أصبح مكتومًا علي الأسفلت … الأوجاع تهز لحمه … والمناشير تحز عظمه …

    سمع صوتًا يناديه … عبر الباب … لا … لا … إنه من داخل الزنزانة … فيما يبدو … أنها سماعة … الصوت خافت .

  • يا سيد … يا سيد … هل تعرف … أين أنت ؟ .. أنت في بحر الظلمات … لن تخرج حيًا … سندفنك هنا يا سيد .

الصوت يرتفع تدريجيًا … حتى صار هديرًا … يزلزل الأذن … ثم صوت ماكينة تدور … منشار يشق الخشب … ثم يعود الصوت إلي انخفاضه .

  • يا سيد … هذا جزاء من يقف ضد الثورة .

انطلقت غنوة … الصوت ارتفع بها فجأة … صوت يصم الأذن … يتخبط صدى علي جدران الزنزانة … ثم … غنوة أخري … ثم ينخفض الصوت .

  • يا سيد … لن تموت … سندفنك حيًا … قبل ذلك سنقطعك … قطعة … قطعة . هل هذا حلم … أم علم … كابوس يا سيد … أم عالم ما بين الموت والحياة ماذا فعلت ؟ .. ماذا فعلت … صاح وقد أوشك علي الجنون :
  • ماذا فعلت … والله العظيم … أنا لم أفعل شيئًا … أنا برئ … أنا برئ .

فتح الباب فجأة … شعر بالأيدي الغليظة تسحبه علي الأرض جرًا … جروه من قدميه … وأسه يرتطم بالأرض الغير مستوية … حتى انتهوا به إلي مكان … يبدو أنها غرفة مكتب … سمع صوتًا يصيح في تمثيل ردئ :

  • اتركوه … ما هذا … ماذا فعلتم يا أولاد الكلب … من الذي أمركم بهذا .

لان صوته … وقال في حشرجة رقيقة : تقدم يا سيد … تعالي يا سيد … اجلس .

لازالت العصابة علي عينيه … والقيد في يديه … أجلسه أحدهم …

  • هات ليمون لسيد .

ثم استطرد : ما الحكاية يا سيد … ما الذي أتي بك إلي هنا ؟

لم يفكر كثيرًا في السؤال ( الاستعباطي ) … كل همه انصرف إلي حبل للنجاة ممدود له … حتى ولو كان وهمًا .

  • سعادة البك … والله ما أعرف .
  • وبعد يا سيد … أنا أحاول مساعدتك … من أيدي الوحوش … تكلم يا سيد .
  • عن ماذا يا سعادة البك .

لم يكمل كلمته … فقد شعر بالأكف تتلاحق علي كل أنحاء وجهه … صرخ … قال الصوت : هل رأيت يا سيد … ساعدني كي أساعدك .

  • كيف أساعدك … والله العظيم …

أنحبس صوته عندما أطلق أحدهم قبضته في صدره .

قال الصوت بنفاذ صبر : علاقتك بزكريا .   

  • ابن خالي يا بك .
  • فقط ؟
  • أنا أساعده في تجارة الحبوب .
  • عظيم … اقتربنا من الموضوع … كيف ؟

أحس بطرف حبل النجاة … أمسك به بشدة … وهو يكمل :

  • كان يرسلني لإحضار البضاعة من التاجر الذي يتعامل معه … وأسلمه النقود
  • اسم التاجر ؟؟
  • الشيخ عبد الفتاح إسماعيل .
  • وما هي البضاعة التي كنت تتسلمها منه ؟
  • أجولة من الأرز … والحبوب الأخرى … فول … ذرة … وأحيانًا علف الحيوان
  • عظيم يا سيد … أنت ماشي مضبوط … وآخر مرة ؟

قال سيد :

  • كان جوالاً واحدًا من الأرز … قال الشيخ عبد الفتاح … خذ هذا الخطاب وسيعرف زكريا المطلوب منه .
  • ألم تلاحظ في الجوال شيء غير عادي ؟
  • لم ألاحظ إلا أنه لم يكن معه أي بضاعة أخري خلاف كل مرة .

قطع التسلسل … فاجأه بالسؤال : متى انضممت إلي الإخوان … ؟

عاد الضرب … عنيفًا … متلاحقًا … والشومة … تقصف عظام رجليه صرخ :

  • أنا لا أعرف من الإخوان إلا ابن خالي زكريا … وصديقه شعلان .
  • يعني ليس لك أي نشاط ديني .

قلة الخبرة … والضرب أفقداه حذره … المهم أنه ليس من الإخوان … قال

  • يا بك … أنا تبع جماعة التبليغ … نخرج إلي المساجد … ونكلم الناس في دينهم … والحكومة والناس كلهم يعرفوننا … لكن إخوان … لأ

عادت الأسئلة يصاحبها الضرب … منقطع … من حين … لآخر .

  • هـ … يم … م … يعني لم تكن تعرف ماذا بداخل جوال الأرز ؟
  • يا بك … الشيخ عبد الفتاح قال أنه جوال أرز … وكان مغلقًا … قل لي ماذا تريد … وأنا أبصم بالعشرة .

الآن الزبون استوى … أوشك علي الانهيار … باقي علي الحلو دقة … أشار … هوت الشومة علي فخذه … وهو يسأل :

  • يعني … ألم تري المدفع المدفون … داخل الأرز في الجوال ؟

أقنعته الشومة الأخيرة … ألا ينكر … هم حوله … يتربصون به … لا يمكن أن يفلت الحبل الممدود له بالنجاة … صاح في هستريا

  • لا … أنا … صح … صح يا بك .. لقد كان داخل الجوال شيء أشبه بجسم طويل صلب … لا ينثني … وأنا أرفع الجوال … لكن وحياة البك الصغير أنا لم أفتح الجوال …

لعبة قديمة يا سيد … لن تهرب من الخية .

  • يعني مدفع ؟ .. أليس كذلك .

سد عليك … كل الطرق … إما نعم … وإما …

  • نعم … نعم … مدفع … هو مدفع … كان في الجوال مدفع .

لا يستطيع الصبر … بالهاتف … اتصل بالعقيد : أنا يا فندم …

  • أهلاً رشدي … نعم .
  • أمسكنا بطرف خيط … يبدو أنه تنظيم مسلح … ولدينا اعترافات .
  • عظيم يا رشدي … ابعثهم بسرعة .
  • يا فندم … نريدك أن تثق فينا … ونمحو الصورة القديمة … سنثبت لك أن إدارتنا لازالت بخير .
  • طيب يا رشدي … شد حيلك … وبلغني بالتطورات … أولاً … بأول .
  • هناك أمر آخر … جماعة التبليغ لها نشاط ديني مشبوه .

قال بسرعة : تبليغ … أنصار سنة … جمعية شرعية … أكنس … نحن نصفي هذه الأوضاع كلها … ولا تترك المجال لأي نشاط

  • تمام … مضبوط … لكن يسعدنا تشريف سيادتك عندنا … لتري الشغل بنفسك .
  • طبعًا … طبعًا … سأحضر .

في منتصف الليل … أنزلوه … جسدًا متفسخ … يداه فقدتا الحس … متورمان … لون الأصابع أزرق … أنحبس الدم فيهما … ما كاد يلمس الأرض … حتى خر واقعًا … اصطدامه بالأرض أهاج الألم في لحمه الذي امتلأ بالكدمات من ضرب العصي . لا يدري … كيف وصل إلي القلعة … علي نفس الهيئة … العصابة علي العيون … والأيدي خلف ظهره في قيدها الحديدي .

قال له الضابط : مرحب … يا أبو الزيك … عدت لنا ثانية .

هل هذا كف فلاح … أم حداد … كف خشن كأنه من الخرسانة … نزل علي قفاه الملتهب .

  • هيه … يابو الزيك … كيف حال السجن … هل كنت من مجموعة المكفراتية لا يمكن أن يكون هذا سبب ما أنا … فيه … رد في إعياء : أنا لم أكفر أحدًا .
  • بل … كفرتم الدولة … والريس … وكنت مندوب سيد قطب في سجن القناطر .
  • أنا فعلاً … قابلت الأستاذ سيد عندما ذهبت إلي سجن طره للعلاج … الناس فهموا سيد قطب بطريقة غلط .

ركلة الحذاء الميري اقتحمت عظمة ساقه .

  • وما هو الصحيح … يا فكيك .

النقاش في الدين مع الحمار أفضل … الأفضل هي الإجابة العايمة .

  • الصحيح … هو فهم العقيدة … كما أنزلت … ونحن لا نكفر أحدًا … كل واحد عارف نفسه .

قال … ساخرًا : يا … ولد … يا فيلسوف … كل واحد عارف نفسه … هه … ماذا تقصد … حيوا … أبو الزيك

التحية هذه لمرة كانت من الواقفين خلفه … كانوا ثلاثة … أحدهم يمسك بالشومة … والثاني بالعصا … والثالث … بالكف … والحذاء الميري …

  • آه …

صرخة واحدة … وانقطع نفسه … الشومة كسرت أحد أضلاعه .

وقع علي الأرض يتلوى …

استمر الاستجواب … رشدي بك مستعجل … دخل في الموضوع :

  • نترك الفلسفة لوقتها … نتسلى بها بعدين … ما هي علاقتك بعبد الفتاح إسماعيل ؟

استحضر نفسه … قال وهو يأن :

  • تجارة .

غير لهجته … قال في حزم : زكريا .. اشتري نفسك … أنت تعلم أننا لن نتركك … حتى نعصرك … هات من الآخر .

الألم – بالفعل – يعصر صدري … لابد من الإجابة يا زكريا .

  • تجارة … أكل عيش … والله العظيم … ما في غير هذا .

أشار إليهم … الضرب الآن علي عظام الساق .

  • هه … يا زكريا … خلص يا بو الزيك … عبد الفتاح إسماعيل اعترف عليك .
  • أنا … مستعد للمواجهة …

لازال راقدًا علي جنبه … الحذاء الميري أصاب سلسلة الظهر .

  • أنا أريد الحقيقة … منك … أنت … من فمك … سمعني .
  • والله العظيم … تجارة … أنا خارج السجن من شهور … أمي مريضة … وأخوتي لا عائل لهم إلا أنا .
  • نحن نعرف ظروفك … ولكن لعبت بذيلك … ألم ترسل سيد رجب لعبد الفتاح إسماعيل ؟
  • سيد يساعدني … يسلم الفلوس … ويستلم البضاعة .
  • والخطاب … وجوال الأرز إياه … ماذا كان بداخله ؟
  • الجوال الأخير … كان نوعية جديدة من الأرز … طلب الشيخ عبد الفتاح مني معرفة إمكانية تسويقها … لأن ربحها جيد .
  • يا … ولد … ما هذا الجمال … وهل هذا يحتاج إلي خطاب … وكلام مغطي … ماذا يقصد … بعبارة جرَّبه ؟

أشار الضابط … استمر الضرب علي الساق … والقدمين … إلا أن الحذاء الميري أخطأ الهدف … الركلة أصابت الضلع المكسور

  • آه

خرجت الصرخة مكتومة … وانقطع النفس .

  • خلص يا زكريا … أليست هذه شفرة بينكم … ألم يرسل لك مدفع رشاش داخل الأرز …تكلم أحسن لك … سيد رجب اعترف عليك  .

ثم يرد … أخذته الإغماءة … أحضروا سطلاً من الماء … ألقوه عليه استرد نفسه … كرر عليه الضابط السؤال :

قال … وهو يلهث :

  • يا بك …لم يحصل … مدفع ؟؟.. أنا لم أحمل سلاحًا في حياتي …حتى الجيش لم أخدم فيه .الضابط …وجد أن حالته تزداد سوء” … الوقت يداهمه … أراد أن يحسم الاستجواب …أ شار إليهم …أحضروا سيد رجب …

قال متوعدًا :

  • قل يا سيد … واجه زكريا .

تردد لحظة … إلا أن الشومة هوت علي ظهره … و … صوت زكريا وهو يتلوى علي الأرض … لم يترك له أي اختيار … فات وقت التراجع … لابد من الاستمرار … مشوار الكذب … نهايته معروفة … و … أضمن .

  • نعم … يا زكريا … جوال الأرز كان بداخله مدفع رشاش .

ضلعه مكسور … يصرخ … الألم يسحب روحه … قال مستسلمًا :

  • مادام الأمر كذلك … اكتب يا بك ما تريد … وسأوقع عليه .

قال الضابط :

  • لا … يا حلو … ليس الأمر بهذه البساطة … أريد كل شيء بالتفصيل … أسماء التنظيم … أهدافه … السلاح … المفرقعات … مكان التدريب … دخول الحمام … ليس كالخروج منه … يا بو الزيك … أنت سيد العارفين .

هه يا زكريا … الضابط يدفعك في طريق واحد … في اتجاه واحد … طريق بلا عودة … الكذب يا زكريا … يريد تنظيمًا … أسماء … أعضاء … إذا أردت النجاة … اخترع تنظيم … رص أسماء … أي أسماء … وسيحضرونهم … وسيفعلون بهم مثلما فعلوا بك … وكما فعلوا مع سيد رجب … وسيتعرفون … سلسلة من الكذب … هل ترضي بذلك … ترمي أبرياء في هذا الأتون … كذبًا … وزورًا … وماذا تقول لربك … أنت مسلم … والمسلم – دائمًا – يحسب بمنطق التجار … وأنت شاطر في التجارة … ما هو الثمن !؟ .. ما هو المقابل ؟؟ .. النجاة … هه … هل هي مضمونة ؟؟ .. الدنيا ؟ .. وأين هي ؟ .. آه … آه … الصدر يتمزق … النزيف يملأ جوفه … آه … تذكرت … النجاة ؟ .. من أي شيء ؟؟ .. الفرار … مم تفر ؟؟ .. السحابة تزحف علي وعيه … آه … الضابط يطلب أسماء مقابل النجاة … القضية واضحة … شديدة الوضوح … الكذب … مقابل الفرار … من هو الصحابي الذي يصيح – وسط المعركة – أمن الجنة تفرون ؟؟ .. لا … لا أذكر … ليس مهمًا … المهم … هو الحسبة أن تكون صحيحة … من هؤلاء ؟؟ .. إنهم يجلسون علي بعد خطوات … ملابسهم بيضاء … لا … إنها من نور … إنهم يشيرون إلي … إنهم ينادون … ما أحلي صوتهم … نداء … أم نغم علوي … النجاة … النجاة الحقيقية … يا زكريا …

ربحت تجارتك … يا زكريا

ربحت تجارتك … يا زكريا

قال أحدهم : مات يا فندم .

صرخ الضابط في ذهول : مات … مات … يا أولاد الكلب .

أفلت الخيط منه … رشدي في انتظار الاعتراف ليبشر العقيد … ماذا سيقول له … ؟

رشدي بك … كان أكثر انزعاجًا … صاح في قلق :

  • هات الولد الثاني .
  • شعلان … يا فندم ؟
  • هو … فيه غيره … يا كلاب .

أحضروه … لم يكن حاله أحسن … صلبوه أيامًا في محمصة أبو زعبل … الوجه باهت … والكدمات … بقع زرقاء … الأطراف أصابها الكساح … خاف الضابط أن ينقطع الخيط ثانية … ربما يكون العلاج في الصفعات … ولا بأس من قبضة تدفع المعدة لتلتصق بالظهر .

قال الضابط …:

  • دعوه يري زميله .

سحبوه … رفعوا العصابة عن عينيه … زكريا رفيق العمر … مسجي … الجسد كله متورم … الدم متجمد … أسود … تحت سطح الجلد … بقعًا … بقعًا غير منتظمة … الجلد كالح … الأطراف مشوهة … بشعة .

لم يهتز … كأنه ينظر في مرآه … الذي بجسده لا يقل بشاعة … انصرف نظره إلي وجه … توأم روحه … القسمات مسترخية … تشع اطمئنانًا … أين ذهب الورم ؟ .. أين ذهب الورم ؟ .. أين أثر الصفعات ؟ .. كأنما الوجه لا يمت إلي الجسد … انفصل عنه … ولا ينقصه سوي بسمة لتزيده نورًا … انسابت عبرته … مع الرفيق الأعلى … يا أخي … إنا لله … وإنا إليه راجعون … طبت حيًا يا أخي … وطبت ميتًا … اللهم اجمعني به في جنة الخلد .

قال له الضابط في غلظة :

  • هذا مصيرك … يا شعلان … تكلم .

المصير ؟ .. لو كنت تدري إلي أين ؟ .. ولو كنت تدري إلي أين مصيرك … يا حضرة الضابط ؟؟

  • ماذا تريدون ؟

القبضة سحقت كبده .

  • التنظيم … السلاح ؟
  • يا بك … أنا خارج السجن منذ شهور … كل همي كان اللحاق بامتحان الثانوية العامة … لقد بلغت ثلاثين عامًا … لم أحصل علي الشهادة بعد … انصرف جهدي كله إلا الاستذكار .
  • اشتري نفسك أحسن … زكريا اعترف عليك قبل أن يموت … هل تعرف سيد رجب .
  • ابن خال زكريا .
  • فقط ؟؟
  • كان يساعده في التجارة .
  • فقط ؟؟

أشار لهم الضابط … نشطوا له ذاكرته … الضرب علي الأطراف … الشومة … كسرت ساعده … رفع يده في طريقها … انفجر علي أثرها العظم … شظايا .

  • آه … آه .
  • تكلم يا شعلان .
  • آه … آه .

الوقت يمر … والطريق مسدود … رشدي بك علي التليفون … والمعتقل استوى … أصبح بقايا إنسان … وصل إليه محطمًا … ولكن … لابد مما ليس منه بد … أشار إلي المخبرين … الضرب … وبحذر … ولكن … هل نحن في سوبر ماركت يعرضون بضاعة علي الرفوف … بحذر … وبغير حذر … الصنف هنا … واحد … لا غير … العذاب … الألم … العصا أداة قتل … والقبضة مميتة … حتى الصفعة سكتها إلي القبر …

و … هوى … شعلان

  • مات … شعلان .

كان واقفًا … في حالة هياج … سقط علي كرسيه ساكتًا .

نظر إليه رشدي بك … طويلاً … ثم قال :   

  • الموت … لا يهم … ولو كانوا عشرين يوميًا … ولكنك أهدرت الأدلة وانقطعت منك الخيوط … أنت فاشل .

لم يعد أمام رشدي بك … إلا آخر أمل :

  • هاتوا الشرقاوي … سأتول أمره بنفسي .

الشرقاوي بالفعل ينطبق عليه … حكاية الدفاتر القديمة … كعنوان للفلس … فليس له علاقة بالتنظيم المكتشف … أو حتى يمكن تلفيق صلة معه … كما كان الحال مع زكريا … الشرقاوي – أيضًا – ليس في شباب شعلان ولا زكريا … رجل دخل مرحلة الشيخوخة … هدت صحته عشر سنوات كاملة قضاها في السجن … ولم تترك مرضًا إلا ورحبت به ضيفًا مستوطنًا … ابتداء من الروماتيزم الذي سبب خشونة في مفاصله … إلي التهاب مزمن في اللوز … والحبوب الأنفية صداع نصفي يشق رأسه … وكأن قطارًا يسير علي فلنكات بداخلها … لا نتكلم عن الشرايين وتصلبها … ولا أزمة قلبية كادت تودي بحياته … وأنقذته حبة دواء كانت مع واحد من الإخوان … وبالصدقة … الرجل لم يحن أجله وقتها .

قال له رشدي بك :

  • السلاح يا شرقاوي … سلاح 1954 … أين أخفيته ؟

قال :

  • هذا تاريخ قديم … والسلاح كان لحرب الإنجليز المستعمرين … وقد حوكمت عن هذا الجهاد ظلمًا .
  • يا شرقاوي … نحن لا نتكلم عن المحاكمة … السلاح سلمه لك مسئول الجهاز السري … وأنت أخفيته … ولم تسلمه للحكومة .
  • هذا موضوع … قديم … وانتهي أمره .
  • هناك اعترافات … واضحة … وفيها قائمة بالسلاح وأنواعه .
  • أنت تعرف يا بك … كيف تحصلون علي الاعترافات .
  • هـ .. م .. م لو ضربناك قلم واحد … ستموت … وربما مت قبل أن يصل الكف إلي وجهك …
  • كل نفس ذائقة الموت .

لم يأخذ منه حق … ولا باطل … يده مغلولة … لولا الظروف لفتك به … صاح في غيظ .

  • ضعوه في الثلاجة … لا نوم … ولا شرب … وستتكلم يا شرقاوي … وستتكلم .

وفي لحظات كان علي رأس قوة تتجه إلي منزل الأسرة … قبضوا علي أخيه وزوجته … وكل الأقارب … وفي القلعة نصبوا لهم سيرك العذاب … كل ما في خبرتهم استخدموه … ولكن بلا نتيجة … ليس صبرًا … ولا ثباتًا … ولكن … لأنهم – بكل بساطة – لا يعرفون … ولو كان لديهم أي معلومات … لاعترفوا بها … ولأن رشدي بك … لا يصدقهم … أو لا يريد أن يصدقهم … فقد استخدم معهم أبشع ألوان العذاب … دائمًا يكون أكثر الناس تعذيبًا … من لا يكون لديه إجابات عن أسئلتهم … لم ييأس بعد … قال لأخيه :

  • سنتكلم … وشرف أمك ستتكلم .

دفعوه … حتى وقف أمام باب الثلاجة … رفعوا العصابة عن عينيه … نظر … الشيخ يقف وسط الماء … يداه مقيدتان ومرفوعة إلي أعلي مشنوقة بحبل إلي السقف … أطراف أصابعه لا تكاد تلامس الأرض … الماء يصل إلي وسطه … رأسه مدلي … لا هو في يقظة … ولا هو ميت … بين الحين والآخر ينتفض جسده تشنجًا …

قال لهما الضابط :

  • هذا أخوك يا شرقاوي … إذا لم تتكلم … سيفعل المخبر الفاحشة في زوجته … وأمامكما .

سمعًا صرخة المرأة … علي باب الزنزانة … وفحل أسود يطرحها أرضًا … فلاحة … صلبة … تقاوم بشراسة … وصراخها لا ينقطع . فتح عينيه في إعياء … انزاحت عن فتحات انطفأت لمعتها … حرك شدقيه بلسان ثقيل انتزع الكلمات بكل ما بقي فيه من قوة :

  • احفروا … في الزريبة

مع آخر الكلمات … أسلم روحه . لم يستطع الانتظار حتى الصباح … الكنز هناك … تحت أرضة الزريبة … أخيرًا يا رشدي … سينفتح لك باب المستقبل … فمن السهل بعد ذلك البحث عن التنظيم … حتى ولو أسندناه للتنظيم الحالي … ومن اليسير تدبير الاعترافات .

علي أضواء الكلوبات بدأ الحفر … لم ينسي أن يصحب معه كاميرات التصوير :

  • احفروا … لا تتركوا شبرًا واحدًا …

حرثوا الأرض طولاً وعرضًا … وفي النهاية وجدوه .

صندوقًا حديدياً … علاه الصدأ … خلصوه من الطين … بضربة فأس كسروا القفل … انفتح الغطاء عن السلاح … عدة مدافع رشاشة من أنواع منقرضة … وبعض القنابل … الشكل بالفعل … شكل سلاح … ولكن … أكلته البارومة … قطع من الحديد الخردة .

رفع سماعة التليفون … صوته كان حزينًا … يائسًا :

  • انقطع الخيط … يا باشا … ثلاثة قتلى … وصندوق مدفون تحت الأرض منذ عشر سنوات … السلاح أكلته الباروما .

رد الفعل كان مفاجئًا … لا يمكن أن يكون هو العقيد … لقد فهمه خطأ …

  • أشكر لك جهودك يا رشدي بك … استمر بنفس الهمة … الطريق لازال أمامنا طويل … نريد تصفيتهم تمامًا … ولو أدي إلي قتلهم جميعًا … التعاون بينا لابد أن يستمر .

استخفه الفرح :

  • يا فندم … هؤلاء خونة .
  • أنا في حاجة إلي معلومات … هل تقترح … البحث في مجال آخر ؟

لابد من المجاملة … الرجل مد يده يطلب التعاون … في وقت ظن أن نهايته قد حانت … فكر بسرعة … ثم قال :

  • عادل كمال … واحد من قادة الجهاز السري القديم الرئيسيين … أفلت من المحاكمة سنة 54 … ولا شك أن لديه معلومات قديمة لم يكشف عنها .
  • هل لديكم تقارير عنه ؟
  • نحن تابعناه … بعد الإفراج عنه … لم يتوقف عن اتصالاته بالإخوان … اختفي عنا فترة طويلة … ظننا أنه في الإسكندرية … ثم أتضح أنه رجع موظفًا بالبنك الأهلي فرع السويس .
  • اقبضوا عليه … وعلي كل من له صلة به … وأرسلهم إلي … سأتولى أمرهم بنفسي .

    عادل كمال … واحد من قادة النظام الخاص … منذ بداية تأسيسه … زبون دائم علي السجون المصرية … طاف بمعظمها … سجن طره وأبو زعبل … وأشهرها جميعًا هو السجن الحربي … اعتقل عام 1954 … علي ذمة الإخوان … مع أنه كان مفصولاً بقرار من مكتب الإرشاد … شرحوا جسده النحيل … طولاً … وعرضًا بالكرابيج … علقوه مقلوبًا … ومعدولاً … وخصصوا له صحبة دائمة من شاويش واثنين من أتعسهم إجرامًا … والهدف كان وضعه بين فكي المعصرة وإخراج كل ما يعرفه عن مخازن السلاح … والذي كان أصلاً في حوزة التنظيم الخاص حينئذ … وانتهي كل ذلك إلي لا شيء … فالرجل فصل … ولم يعد مسئولاً عن شيء … وكان فيما يبدو أنه كانت هناك – أوامر – بإلصاق أي تهمة له … ليحاكم ويدخل السجن … المهم … الرجل قضي عامين في السجن الحربي … ثم خرج إلي الحياة .

    عادل كمال … ظل ملفه مفتوحًا لدي المباحث … والشك يملأ صفحاته … رشدي بك رجل المباحث الصاعد … يطمع في كرسي في الصف الأول … لم يجد رشوة أفضل منه يقدمها للعقيد بعد أن فشل في فبركة تنظيم زكريا – شعلان ، ومن بعده الشرقاوي .

    العقيد … أكثر جموحًا في إقفال دائرة التحقيقات … بتنظيم مسلح له شكل ومنظر … يقلق به الريس … سلاح … مفرقعات … وبكميات قابلة للتصوير والنشر في وسائل الإعلام … اعترافات بالتدريب … وتجهيز فوق لتفجير القناطر الخيرية … ومحطات الكهرباء … وبث الرعب في محطات السكك الحديد … مخططات لقتل المطربين … والمطربات … وخرائط رصد لتحركات كبار رجال الدولة … ثم وجه لقائد التنظيم حليق الرأس … ولحية كثة تزحف علي صدره … مع بعض المكياج ليصبح … كأنه وجه فرنكشتين … يعترف في التلفزيون بأنه يسعى لتدمير المجتمع … والتخطيط لتفجير مجلس الشعب أثناء خطاب الرئيس …

    تنظيم يخض … ما حصلش … استطاع أن يتسلل إلي القوات المسلحة … ويجند بعض عناصرها .

    وبدأ الشغل .

    ما فعلوه عام 1954 … كرروه مع عادل كمال 1965 … نفس السيناريو … باستثناء تغير الوجوه … إلا وجهًا واحدًا … وهو وجه حمزة البسيوني الذي فيما يبدو … أنه لن يفك ارتباطه بالسجن الحربي … إلا بالموت أو الهدم … لأي منهما … أو الاثنين معًا . فارق الخبر واضح … والتطور في أساليب التعذيب أمر طبيعي .

    ولأنه رجل كل العصور فإنه قد عاش تاريخ الإخوان مع عذاب السجون … ابتداء من أول صفعة تلقاها من عسكري يلبس الطربوش في سجن الأجانب عندما كان يحقق معه البوليس السياسي سنة 1948 … يومها ( شخط ) في العسكري وهدد الضابط بأنه سيشكوهم للنيابة … وتملكه الحماس وهو يحملهم كافة المسئوليات القانونية … يومها لم يتوقف الضرب … ولكنه استطاع بتهديده … أن يهزمهم .. فأصبح الضرب أكثر حية .. كان البوليس أيامها يخشى القضاء … والنيابة … والسجون كانت تعامل المعتقل السياسي بحذر … كان للقسوة يومها تعريف عجيب … منع الاتصال مع الأهل … غلظة مفرطة … حجز الكتب … وأفلام والورق … وعدم الإطلاع علي الصحف … يعتبر تأديبًا … الحرمان من طابور الشمس والعلاج … اعتداء علي حقوق الإنسان لا يغتفر .

    التطور ربط اسم الثورة … بالسجن الحربي … والقانون بالكرباج … وأصبحت اللافتة السياسية المعتمدة لدي النظام مكتوب علي أحد وجهيها … الحرية للشعب … وعلي الوجه الآخر لا حرية لأعداد الشعب … يعلقونها علي صدر أي إنسان … وعلي أي وجه … تصلح … وتمشي … !  ! .

    عادل كمال … رجل علمي … العسكري أبو طربوش صفعه … فاحتج بشدة … والعسكري – بدون طربوش – صرف له مائتي كرباج … تقبلها … بلا حول ولا قوة … إلا بالله . علقوه مقلوبًا … ليفرغ ما في جوفه من معلومات … وكأن رقبته وفمه نهاية عنق زجاجة – يمكن أن يندلق منها ما يخفيه – مع التخبيط علي جدران جسمه بالكرابيج … وبالأكف … وبالحذاء الميري للمساعدة في عملية التفريغ … واجهوه بالعشرات من معارفه … الذين كان يقابلهم في مناسبات عديدة … واعترفوا عليه بأنه قائد التنظيم … وهو معلمهم …وهو نقيب أسرتهم … وهو الكل في الكل …

    قبضوا علي أحد الضباط … كانت له مشكله في البنك ساعده علي حلها … وكان قد حضر إليه بواسطة … شاهده ،وأحد الجنود ينزع عنه رتبته من علي كتفه … وعند ما احتج بالأصول العسكرية … سب العقيد أمه … وقال له … العسكري أفضل منك …ويومها وضعه العساكر داخل دائرة … وأمروه بالجري … والسياط تنهش زيه العسكري حتى مزقوه … العساكر كانت تضرب بتشفي … ومزاح … فهي تضرب سلطة لها مهابتها في نظام الضبط والربط … فرصة … ويوم مفترج … من أيام السعد والهنا عند جنود دربوهم علي الإجرام … وخلصوهم من صفات البشر … فصاروا كالكلاب … لا تحترم … ولا تأنس إلا إلي اليد التي تطعمها … ولا تخشى إلا العصا في يد من دربها …

    يومًا بعد يوم … كان العذاب يزداد لهيبًا واشتعالاً … ولكن الاعترافات المنزوعة مهزوزة … غير مترابطة … لو فيها شيء من الصدق … فإن الكذب يمكن تلبيسه عليها … ويكملها … والذي نسف التلفيق كله … عدم العثور علي أي نوع من السلاح … حتى ولو كان مطواة … أو سنجة … أو مجموعة سكاكين لتقشير البصل و …

    فشلت خطط البحث في الدفاتر القديمة .

                           (21)

    كانت لحظة فاصلة في حياة الشيخ عبد الفتاح إسماعيل … ما قبل الحربي … خلاص … فيما يبدو أنها انتهت … دفاترها أغلقت … مثل طالب علم … ظل يقرأ … ويدرس … ويبحث … يكد … ويجتهد … ويجهز نفسه ليوم الاختبار النهائي … يوم يكرم فيه المرأ … أو … يهان … إما الحصول علي الشهادة … أو – لا قدر الله – الفشل … هذا ما كان – بالفعل – يسعي إليه … ويتمناه … وهو الفوز بالشهادة النهائية … ليس بمعناها الدراسي … ولكن بمعناها الشرعي …

    فقد سعي طوال السنوات الماضية … اجتهد … أخلص النية لله … وجاهد … قدر الطاقة … وأحيانًا ما فوق الطاقة … فهل يقبل الله منه عمله … ويمن عليه … ويتوج سعيه بالفوز المبين … منذ وطأت قدمه السجن الحربي … بدأ الأمر غريبًا … جو مريب … الاستقبال هذه المرة … بلا حماس … بضعة كرابيج … وكأنهم يؤدون واجبًا ثقيلاً … أو كأنهم يستقبلون ضيوفًا غير مرغوب فيهم … أين الشاي … والقهوة … والركل بالميري … ومفرقعات الصفع … والكلاب …

    بعد أن احتجزوا علي عشماوي … ساقوه إلي زنزانته … أدخله العسكري … وأغلق الباب … دون التحية الواجبة معززة بالكرابيج … ولا تعليمات الوقوف منتصبًا عند فتح الباب … والتعظيم لجناب العسكري .. ولا سرد القائمة المحفوظة … الكلام ممنوع … النظر من ثقب الباب ممنوع … الصلاة ممنوع … أي شيء علي مزاج العسكري ممنوع … فالسجن الحربي … سجن الظلام … والظلمات … شيء غريب … هه …

    توقف فجأة عن التفكير … انتزع نفسه … أيا ما يكون … إنها أقدار مكتوبة … سيواجهها … وما تسفر عنه فهي أيضًا … أقدار مكتوبة … لم يعد له في الأمر … من شيء . هذا وقت التسليم … والاستعانة بالصبر … والصلاة … والتلاوة .

    العقيد … اكتشف التنظيم … ودور عبد الفتاح المركزي فيه … وكانت خطته التي رسمها مع أعوانه … هي الأولوية في سرعة القبض علي كل العناصر … علي عشماوي كان في اعترافاته أكثر سخاء وكرمًا … عندما وضع يده علي الحلقات الأضعف التي يسهل كسرها … وهو ما يعفيه من مواجهة العناصر التي تتميز بالصلابة – في أول الأمر – … وهي عناصر … لها قدرة هائلة علي الصمود … لا يسهل اقتحامها … أو هدمها … فضلاً عن أنه – لا ينقصها – الذكاء … والفهم والدراسة بأساليب الاستنطاق … واستخراج المعلومات . علي عشماوي رسم خريطة كاملة … وواضحة لعناصر التنظيم … وبمن يبدأ … فلم يلبث أن انهارت العناصر الهشة … وفتحت الطريق أمامه حتى وصلت الاعترافات إلي القيادات التي لم تجد أمامها مفرًا من الإقرار … واقتنعت بأن المقاومة أصبحت بلا جدوى أمام وقائع … واعترافات بأدق التفاصيل … وعلي هذا فضل العقيد أن يترك الرءوس إلي آخر الأمر … ليستكمل ما قد يكون لازال خافيًا … ولتظبيط المحاضر … وتنسيق الأقوال … وتلفيق وفبركة العشرة في المائة الباقية – والتي ذكرها في جلسة الإنس إياها – العميد سعد وهي تهمة قلب نظام الحكم واغتيال عبد الناصر … وهي التي فشلت محاولاته فيها … عندما اتجه إلي البحث في الدفاتر القديمة .

    مر يوم … والثاني … والثالث

    أيام كلها ذكر … وتعبد … خلوة حقيقية مع الله يا عبد الفتاح … أجازة إجبارية من حركة الدنيا … لتسبح في عالم الربانية … سكينة … اطمئنان … ثلج يبرد القلب … صفاء … ما أحلي الذكر … وما أروع كتاب الله .

    في اليوم الرابع … فتحوا الباب

    صفوت الروبي .. مع حملة الكرابيج … ولكن بنفس الهدوء المريب – هيا يا عبد الفتاح .

    لا ضرب … ولا سب … ولا نداء بالجري يا ولد … لا مسخرة … ولا استهزاء … هه … أيا كان الوضع … فهي لن تكون فسحة … ولا يلبث جو الشك أن ينقشع … وأيًا كان الحال … فالأمور ليست في حاجة إلي وضوح … هم في جانب الطاغوت … وأرجو من الله أن يثبتني علي الجانب الآخر … جانب من يكفر بالطاغوت … ويؤمن بالله .

    علي باب الغرفة وقف العقيد شمس .. لم يتمكن الشيطان أبدًا أن يتنكر في هيئة ملاك .

  • تعالي … يا عبد الفتاح .

أدخله الغرفة … وأجلسه علي كرسي أمامه .

  • سؤال يشغل بالي دائمًا … لم أجد له جوابًا …

نظر في عينيه … ثم استأنف :

  • هناك عدد كبير من الإخوان … تركوا الجماعة بعد تجربتهم الأولي في السجن الحربي … منذ عشر سنوات … ولكن هناك – أيضًا – من لم يتعلم الدرس ويتعظ … وعاد إلي النشاط رغم علمه بما في ذلك من خطر أكبر عليه … وعلي أهله وأسرته .

بداية لا تبشر بالخير … ولكن لابد من الإجابة .

قال في ثبات … واختصار :

  • الذين خرجوا … لم يكونوا في يوم من الأيام من الإخوان … الذي يدخل الإخوان … لا يمكن أن يخرج منها .

ركز نظره في عينيه :

  • وأنت ؟؟

استمر في ثباته :

  • أنا … من الإخوان .
  • عظيم … بدأنا نتفاهم … أنا أعرف أنك دينامو التنظيم … فإذا كنت أنت من الإخوان … مستغني عن نفسك … ومستبيع … لا مستقبل لك … مجرد قباني … أو تاجر حبوب … رحت … أو جئت … فأنت فلاح … ما ذنب طلاب الجامعة … والمهندسين … والضباط … والدكاترة … أولاد الناس … تضيع مستقبلهم … وتغرر بهم .

انكشف الشيطان … سريعًا … و … بدأنا مرحلة تحطيم الإرادة .

استمر في هدوئه … وثباته :

  • نحن ندعو إلي الله … أما التغرير فيكون من الشيطان لأوليائه .

بدأ الاصفرار يزحف علي وجهه … حاول أن يكظم غيظه .

قال :

  • من هم أولياء الشيطان … يا عبد الفتاح ؟
  • الذين يقفون في وجه الدعوة … ويحاربون الإسلام .

انتفض واقفًا … دفعه … بالقدم في وجهه … انقلب علي ظهره والكرسي فوقه … نادي صارخًا :

  • لا ينفع الذوق … مع أولاد الـ … صفوت … شوف شغلك .

سحبوه إلي خارج المكتب … تلقفته الكرابيج … الآن – يا عبد الفتاح – زال الشك – وانكسرت الريبة … وأصبحت في السجن الحربي … أنت الآن تحيا قدر الله … بكل ما فيه من مشاعر وأحاسيس … أنت الآن … في مركز الابتلاء … فماذا أنت فاعل أيها العابد … هل ستصبر كما صبر أولو العزم … أما ستأخذ برخصة لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها … ومن يقع في خية إلا من كره وقلبه مطمئن بالإيمان … وهي في كل الأحوال … مشروعة … يا معين … يا الله … لنبدأ بالصبر … والجلد …

الضرب متوالي … جسده ينتفض … يحاول تلقي الكرابيج بذراعيه … يدور ويتلوى … ولكن الفم مغلق … صرخاته للداخل … أنينه مكتوم لا صوت له … ولكن موصول … صاعد إلي السماء … فدعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب … وسبحانه يري ويسمع … ولكنه الامتحان النهائي … الختامي … يا رب أنت المعين … والمنجي … من الفتن … ولا حول ولا قوة إلا بك … اللهم رطب لساني بذكرك … ولا تشغلني عنك … بما يفعلون .

ازداد سعار صفوت الروبي – وهو يضرب في صخرة لا تلين … جبل تتمزق الكرابيج عليه … بلا أي أمل … أو … علامة وهن … أو … ضعف .

العَظْمة ناشفة … مستعصية علي الكسر .

أوقف الضرب … الاختيارات أمامه كثيرة … ومفتوحة … جاءوا الكلاب أطلقوها عليه … أحاطت به من كل جانب … تنهش لحمه … أمسك الشيخ عبد الفتاح بأشرسها … أطبق ذراعيه علي عنقه … ولم يتركه إلا جثة هامدة .

وقف الصول صفوت في ذهول … غير مصدق … نادي في هستريا علي حمزة البسيوني … أطل من باب الغرفة ليري الفجيعة … ( ابنه ) الكلب … فلذة كبده … مقتولاً … صريعًا … تولي تدريبه بنفسه في مزرعة كلاب السجن التي يرعاها … ويتولاها منذ عزف عن الزواج … واستبدل خلفة الأولاد واذلرية … يتبني الكلاب … وكان هذا طبيعيًا … إذ المعروف أن الدم … يحن لبعضه … جن جنونه … نادي :

  • أمسكوه … قيدوا رجليه .

دفعوه داخل المكتب … غابة من العساكر أحاطت به … أشار حمزة إلي صفوت … أمسكوا بذراع الشيخ عبد الفتاح … ربطوه علي الطاولة … وبكل ما فيه من غل وعزم … أمسك بأحد مضارب لعبة الهوكي … وهوي بها علي ذراعه … مع صوت انكسار عظمة الساعد … أفلتت أهة … من بين شفتيه … لا بأس يا عبد الفتاح من صرخة ألم مكتومة … هذه مجرد يد يكسرونها … وقد عاهدت الله علي الثبات حتى لو وضعوا المنشار في مفرق رأسك … هل تذكر ؟؟ .. القرآن … يا قارئ القرآن … الذكر … يا قوام الليل … الرضا بقضاء الله … يا من زهدت الدنيا … الذين قال لهم الناس … إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم … فزادهم إيمانًا … وقالوا حسبنا الله … ونعم الوكيل …

حسبنا الله ونعم الوكيل .

قال العقيد :

  • هه يا عبد الفتاح … تكلم .

سكت … ولم يرد عليه … حتى النظر إليه … تجاهله .

قال العقيد في غيظ :

  • هاتوا … علي عشماوي .

أطل علي عشماوي … يلبس بيجامًا من الحرير … يهفهف … الشعر ممشط … وجه مورد … كأنه قام لتوه من فندق خمس نجوم … بعد حمام سونا .

قال شمس :

  • أنصحه يا علي .

قال دون أن ينظر في وجهه :

  • يا شيخ عبد الفتاح … لا داعي للإنكار … أنا قلت كل شيء .

آه … ما أصفي نفسك … وأرجح عقلك يا أختاه … لقد كنت يا حاجة زينب … أكثر فراسة مني .

الكسر في ذراعه يهز كل جهازه العصبي … والجروح من أثر الكرابيج تئن ألمًا … ورغم ذلك تسللت إلي أوصاله راحة … سكن لها جسده ووجدانه … قال :

  • الحمد لله … الحمد لله .

قال العقيد في استغراب :

  • علي ماذا الحمد يا عبد الفتاح … علي ما أنت فيه ؟

قال في ثقة :

  • كل ما يأتي به الله خير … أنا أحمد الله علي أن نجاني منها … وباء بها غيري .

تكدر وجه العقيد :

  • هل أنت واقف علي منبر تخطب … يا بن الـ …

نظر حوله :

  • ماذا يقول ابن الـ … ماذا تعني ( باء ) هذه … هه ؟

مال علي أذنه الضابط كفافي ثم همس … قال في ارتياح :

  • آه … فهمت … يقصد علي عشماوي … رجل جدع … عاقل .

أوشك أن يسأله إن كان هناك معرفة قديمة بينهما … عندما شاهد العقيد يميل علي حمزة البسيوني … الذي لازال يمسك بعصا لعبة الهوكي المصنوعة من خشب شديد الصلابة … همس في أذنه … فتقدم منه … ثم قصف ساقه بها …

الصوت هذه المرة كان مزدوجًا … صوت انكسار العصا … وصوت انفلاق عظمة الساق …

  • آه .

نفس الصرخة المكتومة … خر جالسًا علي الأرض … لم يحاول النهوض … مال بجنبه علي الناحية السليمة .

قال حمزة … وهو ينظر إلي بقايا العصا في يده :

  • يا بن الـ … هل أنت مركب ساق من حديد ؟

قال العقيد :

  • الآن نستطيع … أن نتفاهم .

ماذا بقي لديهم يا عبد الفتاح … بعد أن كسروا لك يدًا ورجلاً … وحكموا عليك بعذاب لا ينقطع … وآلام بلغت ذروتها … والمزيد من العذاب … لن يضيف مزيدًا من الألم … فالحمد لله … صاحب الفضل والمنة … فقد سدوا عليك – من حيث لا يشعرون – جميع أبواب الرخص … ووضعوك علي غير إرادة منهم في … محراب الصبر … وحشروك … في زاوية الصمود .

أنت دائمًا يا عبد الفتاح … تفر من قدر الله … إلي قدر الله .

قال العقيد :

  • التنظيم أنكشف كله .

حاول أن يخلص صوته من الألم :

  • إذا كان الأمر كذلك … فماذا تريد مني ؟
  • شيئًا … واحدًا .

انتظره … فقال :

  • إسماعيل الفيومي ؟؟

آه … انغرس السكين في قلبك يا عبد الفتاح … ظننت أنه لن يكون هناك المزيد من الألم .

صاح في توجع :

  • قتلتوه ؟؟

أصفر وجهه … ولكنه تمالك .

  • نريد معرفة أعوانه .

لو كان حيًُا … لما سأل هذا السؤال … لقد عاهدني علي الاستشهاد … كنت دائمًا صادقًا يا إسماعيل … مع الصديقين والشهداء في جنة الخلد … يا أخي .

  • قتلتوه ؟؟
  • نعم قتلناه … وسنقتلك أيضًا … إذا لم تذكر لنا أسماء الإخوان في الحرس .

قتلوك يا إسماعيل … لقد توقعت يا أخي أن يقطعوك أوصالاً … ولن تتكلم … ولكن كان ذلك بعد أن تقتله … تقتل الطاغية … كان ذلك سهلاً … ميسورًا … ولكن منعتك … فهل أخطأت يا أخي … كان رأيك أن تخلصنا من جبروته … وتثأر لشهدائنا … وها نحن جميعًا وقعنا في قبضتهم … فهل ضاعت منا فرصة … لا … لا … يا أخي … فنحن نفر من قدر الله … إلي قدر الله .

  • إسماعيل الفيومي لم يكن معه إخوان غيره .
  • لا داعي للإخوان … من كان يصادق … ويأتمنه علي سره من زملائه في الحرس

سؤالك ليس خبيثًا مثلك … يا فاجر .

  • أنتم أدري … اسأل مخابراتكم .

سكت … ثم قال معترفًا :

  • مخابراتنا فشلت في اكتشاف انضمامه للإخوان … هل هذا يريحك نريد معلوماتك أنت …
  • ليس لدي معلومات .

أشار إلي صفوت … انهمرت الكرابيج علي رأسه … والجانب السليم من جسمه … ولكنه ظل … صامدًا … ليته يلحق به … ليته يموت ميتته .

أشار لهم … توقف الضرب .

  • لا نريد قتلك يا عبد الفتاح … ولكن ستعيش العذاب … ولن نعالجك .

وضع قدمه علي ساقه المكسورة … وضغط عليها بكل ثقل جسم .

  • تكلم يا عبد الفتاح … عبد الحميد عفيفي قال أن فيه مجموعة من الإخوان في الحرس … وأنك أفتيت بقتل الريس … وكان إسماعيل الفيومي في انتظار تحديد ساعة الصفر .

استطاع أن يلتقط أنفاسه … الكذب واضح … قال :

  • لم يكن في نيتنا قتل أحد … ولو أراد إسماعيل قتله … لتم ذلك منذ زمن طويل .
  • ولماذا لم ينفذ ؟
  • قلت لك لم يكن القتل هدف من أهدافنا … وقتل طاغية لا يحل المشكلة … فسيأتي طاغية آخر … مكانه .

تذكر ما قاله له العميد سعد … هرب لونه :

  • ماذا تقصد ؟
  • أقصد … أن إقامة الدولة الإسلامية لا يتحقق بالاغتيال أو حتى الانقلاب العسكري تدخل الضابط كفافي :
  • طيب … كيف تقوم دولتكم الإسلامية ؟
  • بتربية الناس أولاً … وتصحيح مفهومهم عن عقيدة لا إله إلا الله فهي شعائر للعبادات … وإيمان بالشريعة ولا حاكمية إلا لله .
  • كلام تهجيص … وتخلف ورجعية … كلما سألناكم … تقولوا ربنا … ربنا … خللي ربنا ينزل من السماء ويخلصكم من أيدينا .

قال ذلك … ثم نظر إلي العقيد … وهو يضحك ساخرًا … قال العقيد …

  • ومتى سيتم تربية هذا الشعب ؟؟ .. موت يا حمار … إذا كان هذا هدفكم … فلماذا كان التنظيم … والتآمر … والتخطيط لاغتيال الريس ؟؟

الهدف من المناقشة واضح يا عبد الفتاح هو استنزافك وتشتيت فكرك لتحطيم إرادتك قال وهو يلهث من الألم :

  • نحن لم نهدف إلي الاغتيال … أو قلب نظام الحكم .

صاح العقيد :

  • هاتوا عبد الحميد عفيفي .

كان واقفًا في الساحة … تحت الطلب … وجهه للحائط … يتناوب العساكر عليه ضربًا بالأحذية الميري … والصفع … والكرابيج … قال العقيد مزمجرًا :

  • قل له يا عبد الحميد عن فتوى قتل الريس .

لم تتغير يا شيخ عبد الفتاح رغم العذاب … وما فعله بك البغاة … المهابة … النور … في وجه لم يعرف غير السجود لله … كلنا يا أخي في نفس البلاء … التقت العيون … وتكلمت … قال :

  • هذا غير صحيح … لم يحدث .

هاج العقيد :

  • يا بن الـ … غيرت أقوالك ؟ .. خذهم يا صفوت .

مثل الكلب المسعور … لا يحتاج إلي تحريض .

ظل الضرب مستمرًا … حتى خمدت أنفاسهما … فقدا الوعي .

حملوهما – كالعادة – في البطاطين إلي الزنازين .

ومرة أخري يفشل في الحصول علي اعتراف صريح … وقاطع … عن تهمة اغتيال الريس ومؤامرة قلب نظام الحكم .

    لم يحصل من سيد قطب علي أي شيء جديد … فالتنظيم كان عملاً جهاديًا يتقرب به إلي الله … كل من انضم إليه … غايته تربوية … وإعادة الجماعة التي حلوها ظلمًا … وعدوانًا … فإذا كان هذا اعترافًا … فليكن .

    الأستاذ سيد … مريض بالقلب … ومفكر مهاب … فرض نفسه … حتى علي زبانية السجن الحربي … فلم يجدوا له من سبيل إلا أن يعذبوا أمامه ابن أخته رفعت بكر … وأحبهم إلي قلبه … ظلوا يعذبونه … حتى مات … وهو ينظر إلي خاله . لم يتزحزح الأستاذ عن كلامه … لسبب بسيط … هو أن ما يريدونه … يهدم فكرة أساسية قام عليها التنظيم … وهي التركيز علي العقيدة في المرحلة الأولي … حتى ولو استمرت عشرات السنين … وترك التفكير في كل ما عداها … أما الاغتيال … والانقلاب … فهو عمل مرفوض … ومنبوذ … لأن الدولة الإسلامية لا تتم إلا … عن طريق الإقناع … وإيمان الغالبية بها … والأستاذ لا يكذب … ولن يكذب …

    لم يبق أمامه … إلا زينب الغزالي .

                           (22)

    الله لطيف بعباده .

    عندما ينقطع الإنسان عن الدنيا وأسبابها … ويتجرد من زخرفها وزينتها … ويصبح بلا حول … ولا قوة … تتجلي الفطرة في نقائها … والإيمان في صفائه … تبلغ الشفافية ذروتها … وتحلق الروح في ملكوت الله … بلا نهاية … وبلا حدود … تنطلق من سجن الجسد … وقيود الأرض … تكسر القضبان … وتحطم الأقفال … وتتسامي علي غرور الدنيا … وتتعالي علي المستكبرين … عبيد المادة … وصغائر ما يفعلون .

    عندما يعيش المؤمن حالة نادرة من المتعة … والنعيم … حتى لو أقعدوه علي نار موقدة … وشرحوا جسده … وشوهوا أعضاءه … وأذاقوه كل ما اخترعته الشياطين من عذاب .

  • أنت يا زينب غزالي … علي قدم محمد عبد الله ورسوله .
  • أنا … يا سيدي يا رسول الله … علي قدم محمد عبد الله ورسوله .
  • أنت يا زينب علي الحق … أنتم يا زينب علي الحق .

اسمها في شهادة الميلاد زينب الغزالي … واسمها الحقيقي زينب غزالي … رسول الله يناديها باسمها الحقيقي

يا … الله … يا الله .

    كانت لتوها قد صلت العشاء … فرشت معطفها … وضعت حذائها تحت رأسها … نامت … واستيقظت علي الرؤيا المباركة … و … كأنها لا نامت … ولا استيقظت … بل حلقت روحها هناك … هناك … لتتلقي جرعة هائلة من طاقة التثبت … سرت في كل كيانها … مساندة … ودعم … أنتم علي الحق … نعم نحن علي الحق … وعلي العهد يا سيدي يا رسول الله … وهم علي الباطل … مهما تجبروا … فهم أقزام … وبكل ما يملكون فهم ضعفاء … فليفعلوا بالجسد ما عن لهم … وليطغوا … ما شاء لهم شيطانهم … فوالله لن ينالوا مني … إلا … ما يكرهون .

    زينب الغزالي … هي آخر أمل ليحصل منها العقيد علي اعتراف صريح بأن الهضيبي طلب منها التخطيط لقلب نظام الحكم … واغتيال الرئيس . نقلوها إلي زنزانة أخري … دفعها العسكري … ثم أغلق الباب … الظلام دامس … ولكن … أحسست بحركة حولها … لم تكن بمفردها … كان معها صحبة … أضاءوا النور … فجأة … نور مبهر يغشي البصر … لم تعرف عددهم … كانت مجموعة من الكلاب … ما أن أضيء النور حتى كشرت عن أنيابها … تزوم … وتزمجر … انزوت في ركن الزنزانة … وضعت يديها علي صدرها وأغمضت عينيها … ليس أمامك إلا الدعاء يا زينب … الذكر … والتلاوة … وبركة رؤية رسول الله … أسماء الله الحسنى … اللطيف … اللطيف … اللطيف … تركت جسدها … انفصلت عنه .. الكلاب تعوي … وتقفز عليها … وهي … هناك … هناك .

    بعد ساعة … فتح العسكري الباب … وقف مذهولاً … حتى ملابسها التي مزقتها الكرابيج … والدماء المتجلطة عليها … لم تتأثر … وفي ركن من الزنزانة تجمعت الكلاب … في هدوء … ودعة . ترجم … مشاعره … واندهاشه .

  • يا بنت الـ … ماذا فعلت للكلاب ؟

صفوت الروبي يتولي ( عملية التسخين ) … أو تجهيزها لمقابلة ( الباشا ) … ولديه برنامج لا ينقذ …

سحبها إلي ساحة المكاتب … لتري وتسمع … أوقفها رافعة يديها … وجهها إلي الحائط …

واحد من الشباب مصلوب علي العمود … وحاملوا الكرابيج يتناوبون عليه … ويقول له :

  • هذه زينب الغزالي … اشتمها … يا بن الـ … اشتم .

الضرب يزداد عنفًا … ولا مجيب .

  • يا رب … يا رب .

هذا صوت فاروق … هو … هو … صوته … الإيمان … والصدق والرجولة … ليتني كنت مكانك … يا بني لم تحتمل … استدارت وهي تصيح :

  • اشتم يا بني … اشتم … يا فاروق .

صاح في امرار :

  • لا … لا … يا أمي … والله … إنهم كلاب .

ما أروع … المثل … وما أشجعك …

ردت مواسية :

صبرًا … يا أولادي … صبرًا آل ياسر … فإن موعدكم الجنة .

…. خفت الصوت …

  • سبوا زينب الغزالي … اشتم يا بن الـ … أنت وهو .

هذه المرة كانت مجموعة من الشباب … وحولهم الكرابيج والكلاب … لعبة العساكر المفضلة …

قبل أن يسحبها إلي أحد المكاتب … صفعها علي أذنيها وقال :

  • كل هذه بسببك … في استطاعتك فداء هؤلاء الشباب … ادخلي …

أشار إلي الجالس علي المكاتب … جدار آدمي … داكن السحنة .

  • الباشا … وكيل النيابة .

قال في هدوء :

  • اتركها يا صفوت .

أجلسها … وقال :

  • يا حاجة … أنا لا أستطيع أن أخلصك … هؤلاء لا يحترمون القانون … وأنت ست محترمة … لا يجب أن تعرضي نفسك للبهدلة … كلهم خلصوا أنفسهم واعترفوا … الهضيبي وسيد قطب وعبد الفتاح إسماعيل … تركوك تواجهين تهمة الإعدام .
  • نحن لم نفعل شيئًا … سوي أننا كنا نعمل للإسلام … هل هذه جريمة ؟؟
  • ولماذا يقولون عنك أنك المحرضة الأولي علي قتل جمال عبد الناصر وتخريب البلد … ونحن نعلم أنهم الزعماء … وهم أساس المصيبة كلها .
  • أنا لا أصدق هذا الكلام … فلم يكن من أهدافنا … لا تخريب … ولا اغتيال … هدفنا كان قضية التوحيد في الأرض … عبادة الله … إقامة القرآن والسنة … قضية … إن الحكم إلا لله … وعندما تتحقق هذه الغاية ستنهار هذه الهياكل كلها … هدفنا الإصلاح … كما تري … وليس الهدم .
  • يعني الهياكل … ستنهار بدون فعل فاعل ؟؟ .. هذا الكلام يثبت التآمر .

قالت في ثبات :

  • المتآمرون … هم هؤلاء المرضي … الذين يسلكون طريق الشيطان إرضاء لسادتهم .

هي تعلم منذ البداية أنه واحد منهم … ولم يكن سوي العميد سعد … لم تكن في حاجة إلي بينة … رفع يده … وهوى بها علي وجهها … قال :

  • أردت أن أخدمك يا بنت الـ … ولكن أنت لا تستحقين …

نادي :

  • الفلقة … يا صفوت … خمسمائة كرباج .

في لحظات … كانت معلقة … ويتناوب عليها ثلاثة من الثيران … وقف صفوت ليضبط العدد .

  • واحد … اثنين … ثلاثة … عشرة … هات من الأول … واحد … اثنين … عشرة … ثاني … من الأول …

فقدت القدرة علي التحمل … دارت الدنيا حولها … ثم … فقدت الوعي … في الصباح … وجدت نفسها ملقاة علي أرض الزنزانة .

بدأت المرحلة الثانية .

اقتحموا باب الزنزانة وسحبوها إلي الثلاجة .

زنزانة حولوها إلي حوض … حملها العساكر … ثم ألقوها فيه … استطاعت – بعد الصدمة الأولي – أن تقف علي قدميها … الماء وصل إلي وسطها … أصدر صفوت التعليمات .

الجلوس … في وسط الغرفة … علي ركبتيها … بحيث يصل الماء إلي ذقنها .

  • لو نمت يا حلوة … فسوف نوقظك بالكرباج … التسعيرة … عشرة كرابيج لو أسندت رأسك للحائط … محاولة الوقوف خمسة … مد الرجل أو الذراع خمسة عشر … و … يبقي الهضيبي … وسيد قطب ينفعوك … لو قلت يا رب … فلن ينقذك … ولو قلت يا عبد الناصر … تنفتح لك الجنة … ولو تعقلي … وتخلصينا … وتخلصي نفسك … أخذك لمعالي الباشا … وتقولي له كيف اتفق الهضيبي وسيد قطب علي قتل جمال عبد الناصر .

الجراح في الماء تكوي … وضعوك في حوض من الأحماض … والجوع يفرم أمعاءها … ولكن أسماء الله الحسنى … اللطيف … اللطيف … اللطيف لمن يشاء … يبتلي … ويعين الصابرين … يختبر … ويمد بالتثبيت … طعم الرؤية كلما غفلت عنها … تستحضره ليؤنس وحشتها … ما أجمل وجهك يا سيدي يا رسول الله … وما أحلي صوتك يا حبيبي يا نبي الله … أنتم … علي الحق … و … عندما تنزل السكينة … يحدث النوم …

إغفاءة … أم يقظة القلب والروح .

من هؤلاء ؟

الصبايا … الحور … فيض من نور يسري … يحملون صحائف من ذهب … فاكهة … لم تر مثيلاً … مجرد النظر إليها … يؤدي إلي الشبع … ويروي الظمأ … رغم رائحة الماء العفنة … رائحة من عطر الجنة تملأ رأيتها … ومرة أخري … فضلك عظيم … يا الله … ونعمك لا تعد ولا تحصي … الروح … هناك … هناك … هناك .

في الصباح … أخرجوها … من الماء … إلي زنزانتها … أسندت ظهرها … ورأسها إلي الحائط … وسادة من حرير … و … نامت … الجسد يئن … يصرخ … ولكن الإعياء أقوى … نوم … غيبوبة … لم يعد هناك أي فرق بينهما .

باقي علي الحلو دقة … يا روبي … ويحدث الانهيار العظيم . أيقظها صوت الروبي … كان المتكلم هذه المرة الشيطان نفسه .

دفع أحد العساكر إلي داخل الزنزانة … وهو يحرضه في هياج :

  • قطعها … مزقها … أفعل فيها الفاحشة .

أغلق الباب … تكومت في ركنها … وقد تملكها الرعب الأول مرة منذ دخولها الحربي … كل خلية من جسمها … كل خلجة … كل عصب … كان يدعو … إلحاح … وتوسل .. وتضرع .

يا رب كنت دائمًا علي عهدك أمة … قانتة … ساعية إليك … مجاهدة في سبيل دعوتك … اللهم إني أدعوك بضعفي … وقلة حيلتي … وهواني علي الناس … وانكساري إليك … أن تدفع عني شرورهم .. وأن تحمي عفتي … وتصون عرضي .

أخرجها من جو التبتل … وملائكية الدعاء … صوت العسكري :

  • يا خالة … لا تخافي … لو قطعوني إربًا … لن أوذيك .

يا الله … يا الله … يا الله … ما أكرمك … وما أعظم فضلك … في هذا الظلام … وهذه الظلمات … نورك يملأ صدري .

قالت في حنو … وأمومة :

  • بارك الله فيك … يا بني .

سأل مستنكرًا :

  • لماذا يعذبونك … كل هذا العذاب … و … أنت واحدة ست … واضح إنك من عائلة محترمة … وأحسن من أمهات هذه الزبالة 

قالت :

  • لأننا ندعو إلي الله .

قال :

  • لا تظني أننا كلنا وحوش … فينا من ينفذ الأوامر … غصبًا عنه … وإلا فتكوا بنا .

قالت :

  • هل تصلي ؟؟

قال :

  • كنت قبل التجنيد … ولكن الصلاة هنا ممنوعة … وعقوبتها السجن … أنا يا ست أحب الدين … أجلس في ورديتي – بالليل – استمع إلي الشيخ عبد الفتاح … تلاوته في القرآن … و … صوته جميل … اسمعه يبكي … ويبتهل .

قالت تشجعه :

  • لا تخضع لهم … صلي … ولا تخاف إلا من الله .

فتح الروبي الباب … وهو يمني نفسه … بمنظر يزيده زهوًا … وانتصارًا أمام الباشا … إلا أن الوكسة صدمته … انقض علي العسكري يفتك به ثم اقتاده إلي … حيث يلقي مصيره .

وحانت لحظة المواجهة .

صحبها الضابط رياض إلي المكاتب … قال :

  • لن نسمح بموتك … تريدين أن تموتي قديسة … يا بنت الـ … يعني بعد ثلاثين سنة … يقيمون لك ضريحًا … ويقولون زينب الغزالي أظهرت كرامات في السجن الحربي … الجحيم هنا جحيم عبد الناصر … والجنة الحقيقية هي جنة عبد الناصر وليس الوهم الذي عندكم …؟؟

ردت في تحد … وقد نسيت آلامها :

  • نحن نصبر علي أذاكم بقدرة الله … وسينصرنا عليكم .

قال لها :

  • أي نصر … يا بنت الـ … تاريخكم كله هزائم … انضربتم في سنة 1948 … وضربناكم سنة 1954 … ونضربكم الآن ضربة لن تقوموا بعدها … لو أن ربكم قادر علي نصركم … فلينصركم الآن .

استفزها … قالت :

  • هذا كلام جاهلي … الله … لن يتركم … ونهايتكم سوداء … وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون … إنما أمره بقدر … ويذركم في طغياكم تعمهون .

نادي رياض :

  • الحق … يا صفوت … بنت الـ … لازالت تخطب .

لسعها بالكرباج … مال عليه وهمس :

  • اترك الباقي منها … للباشا … صحتها علي وشك الانهيار .

نظر إليها العقيد طويلاً … ثم نادي :

  • كفافي …

تقدم منها … وأخرج ورقة وقال :

  • انظري … هذا أمر من الريس بإعدامك … ورقة رسمية عليها الشعار … والتصديق … والختم .

صرفت نظرها بعيدًا … وقالت :

  • أنتم لستم في حاجة إلي ورقة … وهي … شهادة أتمناها .

نظر كفافي للعقيد … وقال ساخرًا :

  • بنت الـ … ماكينة خطابة .

غير من لهجته … فقال :

  • انظري إلي نفسك … لقد ضاعت أنوثتك … وأصبحت أكثر خنشرة من الرجل … أنقذي ما تبقي منك … وإلا طلقك زوجك .

قالت في ثبات :

  • ولنصبرن علي ما آذيتمونا …

صرخ :

  • هات الدكتور يا صفوت … وعلقها علي الفلقة … مصروف لها خمسمائة كرباج الضرب متوالي علي ما تبقي منها … رجليها صارا كتلة من اللحم الدامية بعد أن انسلخ الجلد عنهما .
  • يا الله … يا الله … يا لطيف … يا حي يا قيوم … ربي إني مَّسِنَي الضُّر … وأنت أرحم الراحمين .

قال في استنكار :

  • أين هو الله … لو نزل هنا لوضعناه في زنزانة … استغيثي بعبد الناصر … فيغيثك فورًا .
  • الله موجود … يا جاهلي … ورئيسك الجاهلي … أليس اسمه عبد الناصر … فلمن عبوديته .

بهت … لم يرد … تشاغل بالنظر إلي الكرابيج … تهوي بشفراتها فيتناثر اللحم المدمدم …

لم تتحمل … راحت في غيبوبة .

فزع لها الطبيب … كان جاهزًا … حقنها … ثم قال محذرًا :

  • لن تتحمل المزيد .

أفاقت … لتجد نفسها … ممدة علي أرض الغرفة … والممرض يمسح جروحها بالمطهر … ساعدها في الجلوس … وإسناد ظهرها علي الحائط … أعطاها كوب من العصير … إلا أنها رفضت تناوله .

قال الضابط كفافي :

  • دعني يا باشا أقرأ عليها اعترافات الهضيبي وسيد قطب وعبد الفتاح إسماعيل الملفات موضوعة أمامه … أخذ يقلب … ويقرأ …
  • هذا هو اعتراف علي عشماوي .

قالت :

  • هذا كذب … لقد اشتريتموه .

قال :

  • والهضيبي وسيد قطب وعبد الفتاح إسماعيل … اشتريناهم أيضًا .

قالت :

  • لا … هذا الكلام مزور عليهم …

صاح :

  • هاتوا عبد الفتاح إسماعيل .

أحضروه … الذراع المكسور يحمله بيده الأخرى … ويحجل برجله السليمة … مستندًا علي كتف أحد العساكر … يلبس عفريتة المساجين الزرقاء … ممزقة تكشف عن لحم مشوه … لم يندمل … ولكن الوجه … وجه الشيخ المريح … لا تخطيء العين وقاره … نور الموحدين يشع منه .

  • السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

ألقي التحية … وكأنه يقابلها في بيتها .

ردت التحية بصدر منشرح .

قال العقيد :

  • تكلم يا عبد الفتاح … ماذا كنت تعمل عندها … ولماذا كنت تقابلها .

قال :

  • أختي في الله … كنا نتعاون علي أن نبني شبابًا مسلمًا علي مبادئ القرآن والسنة … وبطبيعة الحال كان ذلك سيفضي إلي تغيير الدولة … من دولة جاهلية … إلي دولة مسلمة .

قال في غلظة :

  • هل نحن في جامع … أنت لست علي المنبر … يا بن الـ … أخرج … أخرج .

سحبوه .

علي عكس ما أرادوا … حضوره كان زادًا لها .

قال العقيد :

  • هل سمعت … هذا اعتراف بالتآمر لتغيير نظام الحكم .

قالت :

  • ولكننا لا نسعى إلي ذلك بالاغتيال … واستخدام القوة … ولم نحدد وقتًا لحدوث التغيير … حتى ولو استمرت عشرات السنين .

نفذ صبره :

  • لا تدفعينا إلي قتلك … نحن قتلنا عواد … ورفعت بكر … وإسماعيل الفيومي … كل يوم ندفن عشرة كلاب منكم … هذا جحيم عبد الناصر … ولدينا أوامر منه بقتلكم جميعًا .

قالت :

  • شهداء … في الجنة .

قال في سخرية :

  • جنة إيه يا بنت الـ … أنتم تعيشون في وهم … الجنة الحقيقية عندنا … والدنيا الحقيقية عندنا … أنتم تعيشون خارج العالم … هل تريدون أن نترك روسيا التي تحكم نصف العالم … ونمشي وراء كلام الهضيبي … وسيد قطب .

قالت في ثبات :

  • سيد قطب … والهضيبي … يدعون إلي الإسلام … الدين الحنيف … ومنهجهم هو التربية … وليس الاغتيال … والانقلابات العسكرية … وغيرهم هو الذي يلجأ إلي هذه الأساليب .

الآن … حان أجلها … وجهه … تحول إلي وجه شيطان .

أدرك العميد سعد ما يدور في رأسه جذبه من ذراعه إلي حجرة جانبية همس في أذنه :

  • تعالي … اهدأ .

العميد سعد … له مكانته عنده … مع القهوة … والسجاير … قال :

  • قتلها … لن يغير موقفنا … اختفاء متهمة أساسية لن يكون في صالح القضية … نحن لدينا اعترافات من عبد الفتاح … ومنها بأن هدفهم هو تغير نظام المجتمع … والحكم هذا الكلام يحتاج إلي التلميع .

تابعه بانتباه :

  • كيف ؟؟

قال … بعد أن أشعل سيجارة أخري :

  • عن طريق التلفزيون … نستطيع أن نجهز مجموعة من الأولاد الصغار في التنظيم … مع المذيع قنديل … ونضع علي لسانهم … أن هدفهم كان نسف القناطر الخيرية … ووضع متفجرات في محطات السكك الحديدية … واغتيال كبار المسئولين … ننشر مع الأحاديث … خرائط … وكروكي لبيوتهم … ونجهز بعض الأسلحة والمتفجرات … ونصورها … هذا بالإضافة إلي حملة في الصحف … وأحاديث مفبركة … كالعادة … نستطيع أن نغطي تهمة قلب نظام الحكم … وحبايبنا الصحفيين ينتظرون الإشارة …

بدأ يتجاوب … قال :

  • عظيم … و … عملية الاغتيال ؟

قال :

  • عندنا ورقة هامة … نلعب بها … هي اعتراف عبد الفتاح إسماعيل … وعبد الحميد عفيفي … بأن إسماعيل الفيومي من الإخوان … طبعًا الجهة التي نعمل لها حساب … هي مخابرات الرياسة التي يمسها الاتهام … ستقول أن هذه الاعترافات مفبركة … والحجة التي يمكن إثارتها للتشكيك في معلوماتنا … هي السؤال … لماذا لم ينفذ إسماعيل عملية الاغتيال … وردنا علي ذلك … هو أن التنظيم كان يستعد للحظة المناسبة … ونحن حرقناهم في الوقت المناسب … وهذا سيترك الريس في حالة شك … لا يستطيع ترجيح أي من الموقفين … إلا أننا نفوز … لأن أثارة شك الريس في مصلحتنا … فهو لا يستريح إذا لعب الفأر في عبه … وسيلجأ إلي حركة تطهير … وقد بدأها بالفعل بتغيير كل أفراد الحراسة الخاصة … والخطوة التالية … مذبحة في الجماعة إياهم .

نظر إلي العميد سعد … طويلاً … ثم قال :

  • أنت … شيطان يا سعد .

ضرب العميد كفه مصافحًا … وهو يضحك :

  • يا بو الشموس … أنا تلميذك .

ظلت تحت رعاية الطبيب والممرض … فيما يسمي بالمستشفي … الطبيب … ضابط عسكري … والممرض مجند … يمارس عمله بمهنيه … ولكنه – بطريق غير مباشر – يخدم أعمال التعذيب … لأن مطلوب منه – ليس شفاء – المعتقل … وإنما إعداده بدنيًا لتحمل المزيد من العذاب … تمامًا مثلما يتم رعاية البغل لكي يستطيع جر العربة …

ظلت الحاجة زينب في المستشفي عدة أيام … حتى استردت البعض من عافيتها … والجروح التي تعفنت وامتلأت صديدًا … بدأت تندمل مكونة من اللحم عارية من طبقة الجلد … أصبحت تسبب ألمًا شنيعًا .. عند مجرد اللمس … وأحيانًا عند حركة الملابس فوقها

فوجئت باستدعاء إلي المكاتب .

قال لها العقيد :

  • لا تخافي … أريد مناقشة صريحة معك .

نظرت في ريبة … ثم التفتت حولها … وأشارت إلي صفوت وحملة الكرابيج من حرس ( القرف ) .

قال بلا اهتمام :

  • هؤلاء تعودوا الوقوف هنا … ولا يتحركون إلا بالأمر … وأنت جريئة ولذلك أريد منك بعض المعلومات العامة .

انتظرت … هات ما عندك … أيها الكريه .

قال :

  • لماذا لا تتوقفون عن النشاط … كلما أمسكنا تنظيمًا .. قام آخر ولماذا العمل السري .

قالت :

  • أنتم السبب …

نظر مندهشًا … استمرت :

  • نحن دعاة … عملنا الأساسي وسط الناس … ندعوهم إلي فكرنا … ولا نملك إلا إقناعهم … ولا نجبر أحدًا علي ذلك … وأنتم تدعون أن الشعب معكم ويؤيدكم … فلماذا تخافون منا … بيننا وبينكم الناس … إما أن يقتنعوا بكم أو بنا عندئذ لن يكون هناك أي عمل سري .

قال :

  • ديمقراطية يعني ؟
  • سمها كيفما تشاء … ولكنها في النهاية حرية الحركة والتعبير .
  • نتركها فوضي … تضحكوا علي الناس باسم الدين .
  • وأنا أقول أن الذي يضحك علي الناس … هو نظامكم … الذي لا يريد أن يثق في قدرة الناس علي التمييز بين الحق والباطل … ويفرض وصايته ليستمر في الحكم .
  • تنظيماتكم تلجأ للتآمر … والعمل العسكري .
  • الدولة القوية … المستقرة … تستطيع أن تعاقب كل من يخرج علي شرعيتها … بالقضاء … والعدل …
  • أنت تتحدثين عن نظام لا يطبق إلا في المريخ … نظام خيالي … نحن ثورة … والثورة تفرم كل من يقف في طريقها … أعداء الشعب … كلام الكتب لا يصلح إلا في المدارس .

سكت … ثم سأل فجأة :

  • هل أنا كافر ؟؟

قالت :

  • أنت أدري بنفسك .

قال :

  • أريد إجابة واضحة … لقد سألت سيد قطب … وعبد الفتاح إسماعيل … أجابوني نفس الإجابة … الوحيد الذي كان صريحًا … هو هواش .
  • ماذا قال ؟ 
  • قال … نعم … أنت كافر .
  • وماذا فعلت معه ؟
  • سأخبرك … في الآخر .

سألت :

  • ولماذا أنت مهتم بذلك ؟
  • مجرد نقاش … معلومات .
  • وإذا سألتك بطريقة عكسية … هل أنت مؤمن ؟؟

فكر قليلاً :

  • أنا لا أهتم بالدين … ولا أضعه في دماغي … ويمكن اعتبره معوق للطموح … وقد لا يفهمني من سمعني وأنا أقول أننا نستطيع أن نضع الله في الزنزانة … هذا كلام لزوم الشغل … والدي كان أزهريًا … وأنا لا أنكر وجود الله … ولكن ربنا رب قلوب .

قالت :

  • المشركون في مكة لم ينكروا وجود الله … وعبدوا الأصنام لتقربهم إليه .
  • وهل أنا أعبد الأصنام ؟؟
  • أنت تفعل ما هو أسوأ … لماذا تعذبون الذين يأمرون بالقسط … وتمتهنون كرامة الإنسان … ويصل الأمر إلي درجة القتل ؟
  • دخلنا في المحظور .
  • أنت التي طلب الصراحة .

قال :

  • سأصبر عليك … لأن المناقشة بدأت تحلو .

سكت … ثم قال :

  • سأجيبك … نحن في ثورة … حرب … والحرب تجيز استخدام كافة الأسلحة لهزيمة العدو .
  • وهل اعتدينا عليكم ؟
  • نحن تغذينا بكم … قبل أن تتعشوا بنا .
  • من قال أنه كان في نيتنا أن نتعشى بكم … أنتم تحكمون علي النوايا .
  • ولماذا التنظيم …؟؟ .. هل كان الغرض منه بيع البطاطا في الشوارع ؟؟
  • الجميع أكدوا لك … أنه كان لدراسة الدين … ثانيًا كم عدد أفراده … بضعة مئات … هل يشكل خطر … وأنتم تملكون الجيوش والمخابرات .
  • كان من الممكن أن يتطور … ويتحول إلي تنظيم مسلح .
  • عدنا للحكم علي النيات … وما في القلوب .
  • لقد أخرجنا ما في قلوبكم ونياتكم .
  • باستخدام التعذيب ؟
  • بالتعذيب … وقتلكم جميعًا .
  • وهل هذا من الإيمان … أو يتفق مع قواعد الشرع … التي تحرم الظلم … وتلفيق التهم … وعدم ترويع المؤمنين … قذفهم بالشتائم الفاجرة … وأخذ الجميع بذنب المخطئ … إن وجد مخطئ .
  • أنا صبرت عليك … هذا كلام هلوسة .

لم تهتم بنبرة التهديد … استمرت لتفرغ ما في جعبتها :

  • تقول أنها حرب … حرب بين الدولة وأبنائها … أليس من واجب الطرف الأقوى … وهي الدولة أن تبحث عن أسباب الخلاف بينها وبين طائفة من مواطنيها … وتناقشهم … وتتحاور معهم … في جو من الحرية … بدلاً من إشاعة الرعب … والخوف الذي يلجئ الناس إلي ممارسة معتقداتهم في السر .

انهزم … صرخ … ينادي صفوت :

  • مصروف لها مائتين كرباج .

قبل أن يسحبها للخارج … قال متشفيًا … في سخرية :

  • لم تجيبي علي سؤالي … هل أنا كافر ؟؟

قالت في ثبات :

  • وأنت لم تجب علي سؤالي … ماذا فعلت مع الأخ هواش ؟

قال في لا مبالاة :

  • صرفت له مائتي كرباج .

                           (23)

    شوكت التوني

    محامي … من أيام الزمن الجميل … زمن الطرابيش … الذي وإن كان يرمز إلي شعب حكمته ملكية داعرة … ورزح تحت عبء احتلال انجليزي كرس تخلفه وساند نظام الحكم منفصل تمامًا عن أماني وتطلعات الجماهير … إلا أنه زمن كانت تحيا فيه قيم الأخلاق … والشهامة … والكرم … ونجدة المبتلي والمصاب … بين أفراد المجتمع … فضلاً عن قيم الوطنية … ومقاومة الاحتلال … زمن كانت فطرة الناس فيه لازالت غضة … حِيَّيه … إلي أن فضَّت بكارتها ثورة فاجرة .

    شوكت التوني الصعيدي النشأة … المحافظ المتمسك بالتقاليد … ورث عن أسرته التدين … وحب القراءة والأدب … ظروف النشأة والهواية … جمعته مع سيد قطب الصعيدي … الأديب … مع صلة من القرابة … عززت الصداقة بينهما … ورغم أنه كان من حزب السعديين بزعامة النقراشي … والعداوة بينه وبين الإخوان معروفة إلا أن التوني ظل علي علاقة طيبة بالشيخ البنا . شوكت التوني يجلس معتقلاً منذ عام … قبضوا عليه في سبتمبر 1966 انتهي به المطاف إلي غرفة في سجن مزرعة طره … يجلس حوله زملاءه المحامين … أطلقوا عليهم اسم المحامون العرب … تندرًا … الجلسة ضمت مجموعة من معتقلي الإخوان ولأنه كان واحدًا من المحامين الذين واجهوا الدجوى رئيس المحكمة التي حاكمت الإخوان … فقد كان الحديث يدور عن الأحداث الجارية .

    قال في تأثر :

  • وددت لو أن الشيخ عبد الفتاح إسماعيل معنا الآن … ليري قدر الله وقد أطبق علي نظام الطاغية … كنت أرقبه طوال فترة المحاكمة … كلما جاء ذكر إسماعيل الفيومي … بكي … ولعله كان يشعر بشيء من المسئولية عن قرار منع إسماعيل من قتل عبد الناصر … بعد هزيمة الساعات الستة أصبح عبد الناصر رهينة في قبضة جيش اليهود المتمركز علي ضفة القناة … هو الآن يموت كل ساعة … يعيش عذاب الخزي والعار … بما جلبه علي شعب مسكين ضاعت أرضه … ودمروا جيشًا كان ضحية غباء أهوج … واستهتار قادة رتعوا في الفساد وأهدروا أمانة علقها الشعب في رقابهم … أليست هذه النهاية أكثر عبرة وعظة مما لو كان الفيومي قتله ليجعل منه قديسًا وبطلاً تاريخيًا … ويظل دمه الفاسد معلقًا في رقبة الإخوان علي اعتبار أنهم قتلة … وجناة .

علق واحد من الإخوان :

  • أتمني أن أرجع إلي السجن الحربي … لأري شمس بدران داخل الزنزانة … وأسأله إن كان قد رأي كيف يغير الله من حال إلي حال … وهو الذي كان يدعي أن باستطاعته وضعه في زنزانة … سبحانه وتعالي … كبرت كلمة تخرج من أفواههم … وكان يسخر من استشهاد زينب الغزالي بقوله سبحانه … وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون …

قال آخر من الإخوان … كان في السجن الحربي …:

  • سمعت من الشهيد هواش أنه رأي في منامه كأن الزنازين فتحت … وخرج منها الإخوان ليدخل فيها كل من شارك في تعذيب الإخوان من زبانية السجن الحربي .

قال المحامي التوني :

  • هذه مؤشرات تدخل القدرة الإلهية … وهي مبشرات للمؤمنين … لن تتوقف حتى تنتهي دولة الظلم .

    شوكت التوني … اعتقل علي ذمة كلمة قالها … وسجلها عليه ( صديق عزيز ) في نادي الجزيرة … عندما جاء ذكر إسماعيل الفيومي في جلسة سمر … قال التوني … ليته عملها … وخلصنا منه … ليس التسجيل فقط هو الذي أثارهم … وإنما سلسلة من المواقف أمام محاكمهم … وجرأته … وخوضه في المحظور .

    دفع الثمن من حريته … اعتقلوه … صادروا أملاك الأسرة … فصلوا أخيه المستشار … وشتتوا زبائن مكتبه … واغتالوا أخاه الأصغر … قتلته سيارة مسرعة … في الشارع … وهو يمشي علي الرصيف … صدمته وحده من بين عشرات من المارة … وفي النهاية اعتقلوه … وطافوا به في – نزهة بائسة – بين سجن أبو زعبل … وسجن المخابرات … لينتهي به المقام مع مجموعة المحامين العرب المغضوب عليهم لنفس الأسباب … نكتة هنا … وتعليق هناك وتلسين ينقله نمام … أو خباص … في تقرير عن عبارة عداء تمس ذات القائد الملهم .

    ماذا فعلت مع الدجوى … أيها المحامي … ذو اللسان الطويل … أو الفارس الذي لا يزال يحارب بالسيف … في زمن تغير فيه النزال إلي تكتيك المقالب … ونظام الدس … وتشكيلات الخداع .

    يذكر أول أيام المحاكمة 

    الدجوى يجلس علي المنصة … مزهوًا – كالطاووس – بنياشينه … منفوخًا … مع أن الجميع يعلم أنه لا يعدو أن يكون آلة تسجيل … بداخله شريط يدور فيصدر صوته بالأسئلة … والاستجواب … حتى عبارات السخرية لقنوها له … ونظرًا لاحتمال تعرضه لمأزق … فقد وضعوا له – كما يحدث في المسارح – ملقنًا يجلس في غرفة مجاورة … وبينهما دائرة اتصال كهربائية … أخفوها بعناية – شغل مخابرات – تمثل نجدة – تدركه عند الغرق … حتى لا يتعرض لمواجهة من يفوقه ذكاءً وعلمًا … سواء من المعتقلين … أو من المحامين – وهم قلة من أمثال طويل اللسان – شوكت التوني … أما بقية المحامين فقد تم انتدابهم ممن هم مشهود لهم بالقدرة علي إدانة موكليهم … وتلبيسهم التهم بخبرة تفوق خبرة الإدعاء … وحماس يتضاءل أمامه حماس النيابة … ولا يعرفون من المرافعة إلا طلب المغفرة من الثورة الرحيمة بأبنائها العصاة …

    التوني عندما سمع الحاجب يصيح محكمة … حبكته النكتة … مال علي أذن المحامي جاره … وقال الأجدر أن يصيح … ( مش محكمة ) … رآهما الدجوى يبتسمان … أشاح بوجهه غيظًا … فلا يوجد أحد في المحكمة يمكن أن يكون موضع تعليق ساخر … سواه … هكذا صور له ذكاؤه .

    التوني صدمه بطلباته … القانونية .

  • الكشف عن المعتقلين بواسطة لجنة طبية لإثبات ما بهم من إصابات .
  • انتقال المحكمة لمعاينة مكان اعتقال المتهمين … وهو السجن الحربي .
  • بطلان إجراءات القبض عليهم واحتجازهم بمعرفة الشرطة العسكرية … وأيضًا النيابة لقيامها بالتحقيق داخل خيمة نصبوها لها في داخل السجن الحربي .

طلبات كلها استفزازية يا توني … أنت نفسك قلت أنها ( موش محكمة )

اللعب مع الوحوش … يخربش

الملقن وسوس له في أذنه قال في عصبية

  • طلباتك مرفوضة يا أستاذ … اقعد يا أستاذ … خلاص يا أستاذ … لا تضيع وقت المحكمة يا أستاذ .
  • الهضيبي … يجلس في قفص الاتهام … وقور هادئ … كأنه هو القاضي … يحاكم الدجوى … عند أول دخوله إلي القاعة … توجه إلي القفص … وسلم عليه … امتلأت عيناه بالدموع … نظر إليه وقال :
  • وبعدين يا أستاذ توني … لقد عشنا طوال عمرنا رجالاً … أنبكي الآن ؟

    نعم نبكي يا فضيلة المرشد … نبكي بلدًا عزيزًا ضاع فيه الحق … وغاب عنه العدل … نبكي الظلم الذي طال واستطال شره … واستفحل داؤه … وعز علي المريض أن يجد دواءه … الظلم قبيح … وأقبح منه … العجز عن حسمه ومقاومته . لقد عرفتك يا شيخنا … تقيًا … ورعًا … شهد بذلك حماي زميلك المستشار عندما كان يطلب منك دائمًا – بحق الزمالة – أن تدعو له … لالتزامك بالطاعات … مبتعدًا عن كل ما نهي الله عنه … عرفتك صلبًا في الحق … وعندما زارك المحامي صبري باشا أبو علم في المحكمة … وكان له قضية يدافع فيها أمامك … طلبت منه القهوة إلا أنك سرعان ما رددتها وأنهيت الجلسة عندما عرض – مجاملة – خدماته عليك … الاعتزاز برسالة القاضي … ونزاهة متأصلة في خلقك .

    أنت الآن جالس … في القفص … حولك كوكبة من الرجال … ولا كل الرجال يشع من وجوههم نور الصلاح … والطاعة .. تملؤهم ثقة من لا يسجد إلا لله … لا يعبد إلا إياه … يؤمن بقدره … الذي كله خير … في السراء … والضراء وثبات لم يهتز لتجربة بشعة … خاضوها … ولازالوا يعيشون وطأتها .

    سيد قطب يبتسم في وداعة … روح محلقة وثابة … تسكن جسدًا استسلم لأمراضه … عالم … فقيه … مفسر لكتاب الله … تفيأ تحت ظلاله … مبدع في كتبه … رشيق العبارة … نظر إلي الدجوى … في استعلاء … وكأنه فأر تحت قدمه وهو يوجه إليه الاتهام … دبر … وتآمر … وخطط … وحرض … وآخر الاتهامات أنه حمل حميدة قطب رسائل نقلها إلي الإخوان … ! !

    ماذا قال لك يا توني … عندما شاهدك في القاعة ؟

    لم تجد عبارة تقولها سوي :

  • شد حيلك .

أجابك في ثقة :

  • كما عهدتني … لم أتغير … قد ينال مني الموت … قبل أن ينالوا مني … رفض الصفقة … التي قدموها له مقابل تخفيف حكم الإعدام .

قال لأخته :

  • لو كان ما يطلبونه صحيحًا لقلته … وما استطاعت قوة علي وجه الأرض أن تمنعني من قوله … ولكنه لم يحدث … وأنا لا أقول كذبًا … أبدًا .

وكانوا يعرضون عليه أن يقول أن التنظيم علي صلة بجهات أجنبية .

قالت حميدة :

  • حمزة البسيوني استدعاني … شاهدت معه أمر بتنفيذ حكم الإعدام … وطلب مني عرض الصفقة عليك .

سأل :

  • وأنت ترضين ذلك ؟ ..

قالت :

  • لا .

قال :

  • إنهم لا يستطيعون ضرًا … ولا نفعًا … إن الأعمار بيد الله … وهو لا يستطيعون التحكم في حياتي … ولا يستطيعون إطالة الأعمار ، ولا تقصيرها … كل ذلك بيد الله … والله من ورائهم محيط .

عند صعوده درج المشنقة … أراد الواعظ أن يلقنه الشهادة … رد عليه :

  • حتى أنت جاءوا بك لتكمل المسرحية … نحن يا أخي نعدم بسبب لا إله إلا الله .

سأله أحد ضابط الحراسة عن معني كلمة شهيد قال :

  • شهيد يعني أنه شهد شريعة الله أغلي من حياته .

صدقت … أيها الصدوق .

    محمد يوسف الهواش

    الصوفي المتجرد … زميل سيد قطب … صنوه … وأمين سره … ما من جملة … ولا عبارة … ولا فكرة … وإلا يعرف متى … وأين كتبها الأستاذ … روحه رافقت روحه في علوها وسموها … ونفس الجسد … الذي هدّه المرض … ورغم ذلك لم يرحموه من العذاب … كل تهمته … أنه يمكن أن يكون خليفة سيد قطب … يومًا ما … في قيادة التنظيم …

    ما هو حكم هذه التهمة الشنيعة في القانون … يا توني ؟ ..

    …. أي محامي مبتدئ … يحصل علي حكم براءة … حتى بدون أن يترافع … وهل القانون الوضعي … – بلاش الإسلام – يحكم الناس علي نيتهم … و … يمكن … ! ! الرجل الصابر … المريض … لم يرحموه من العذاب … كانوا يأخذونه للتحقيق زاحفًا علي مرفقيه … وركبتيه … ولم يستطع أن يوقع علي محضر النيابة لإصابة أعصاب يده . من التعذيب .

    ماذا قال يا توني عندما سأله الدجوى : :

  • هل لك أي اعتراض علي المحكمة ؟

قال في نبرته الهادئة :

  • أنني كمسلم … ومن وحي عقيدتي أرفض أن أتحاكم أو أحاكم إلي محكمة لا تحكم بما أنزل الله .

توج ثباته بشري من رسول الله صلي الله عليه وسلم … عندما رآه في المنام مع جمع من الصحابة يبايعونه … قال رسول الله :

  • هل غيرنا من بعدك ؟
  • هل بدلنا من بعدك ؟

فأجابه صلي الله عليه وسلم :

  • لا … بل أمناء … أمناء … أمناء .

ليلة الحكم عليه بالشنق قال للإخوان :

  • إن هؤلاء لا يحكمون … الحكم لله … والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء …

نحن وهم في قبضة الله كالذر ، وإن كان الله يرانا أهلاً للشهادة سوف يختارنا ، وإن كان غير ذلك فسوف يجري فينا وفيهم قدر الله … وقد صدق …

    هل تذكر الأسد بن الأسد … مأمون الهضيبي المستشار رئيس محكمة جنايات غزة … كان الدجوى يحكم غزة بصفته العسكرية … والمأمون يعرف … قصته عندما وقع أسيرًا في يد اليهود عام 1965 ذليلاً مهنيًا .

    عرضوا له فيلمًا يثني فيه علي الجيش الإسرائيلي وشجاعته عندما عالجوا زوجته ونقلوها لإجراء عملية جراحية في أحد مستشفيات تل أبيب … يومها توعده عبد الناصر بالمحاكمة العسكرية … عند عودته من الأسر . وقد تحقق وعيد عبد الناصر له … بترقيته حتى رتبة الفريق الأول وبذلك أصبح القاضي الذي يس\ال قبل أن يحكم … ويبحث عن اتجاه الريح … ويطمئن علي المسجل أمامه لكي يطلع عليه الريس ليري مدي غلطته … وجبروته وشدته علي أعداء الثورة .

    رفع المأمون المستشار صوته في الإجابة علي أحد الأسئلة … فما كان من الدجوى القاضي إلا أن قال في عنهجية :

  • انتهي الاستجواب .

رد صائحًا :

  • لا … لابد أن أتكلم إلي النهاية .
  • محاميك يكمل الكلام .

صاح المأمون في حسم :

  • لابد أن تسمعني .

    و … رضخ الدجوى … للمستشار النزيه … ابن المستشار النزيه … الذي ينقل عشرات الآلاف من تبرعات أهل غزة وفلسطين … ولم تمتد يده بالإحصاء أو العد ليسلمها أمانة من حق أسر المعتقلين … لينتهي به الأمر معتقلاً … ثم سجينًا … فليس من آل الهضيبي من هو عزيز علي الابتلاء .

    ماذا لديك يا توني من ذكريات عن رجال يشمخون بينما أجسادهم مخددة أخاديد من أثر السياط … وأجسادهم الشابة الغضة قد طمعت منها أنياب الكلاب الجائعة … نومهم أرق … من العذاب … ونهارهم ضنى من الإيذاء … فلا نوم … ولا راحة … ولا أمل ولا رجاء في عدالة الكلاب …

    هؤلاء أحفاد الذين كانوا يدفنون في رمضاء مكة … وتثقل صدورهم بالأحجار المحماة بجمرات النار … وحرقة الوقدة اللاذعة من شمس البطحاء وهم صابرون … صامدون .

    هل تذكر حكاية المهندس مرسي مصطفي مرسي … الذي وصف عبد الناصر بأنه امتداد لحكم أتاتورك … كلاهما أخلص العمل وفق تخطيط الصليبية والصهيونية فما كان منن القاضي العادل إلا أن أبلغ السجن الحربي … فكانت ليلة من العذاب امتدت بلا توقف حتى حضوره في اليوم التالي للمحكمة … ليسأله الدجوى عن سبب ما به من إصابات … فيرد المهندس مرسي متهكمًا :

  • وقعت من السلم .

عندئذ تبدو علامات الانتصار عليه … وهو يقول للصحافة :

  • اشهدوا … حتى لا يكتب عنا أحد أننا نعذب المعتقلين .

    أما حكاية الشيخ محمد الأودن … فهي تمثل بشاعة الغدر … وقلة الأصل … والندالة متجسدة في رجال جلسوا علي القمة … وآخرين باعوا الإنسان في سبيل الزحف إلي أقدامها .

    الشيخ البالغ ثمانين عامًا يجلس في القفص ينتظر الحكم عليه بتهمة أنه رفض أن يجند نفسه مخبرًا في جهاز المباحث … أو بصاصًا مأجورًا في نظام شمس بدران … التهمة هي علم … ولم يبلغ … الرجل الذي كان ضباط الثورة يسعون إليه يومًا ما … ولابد أنهم – الآن – يخجلون من ذكره … كانوا يسعون طالبين نصحه … ووعظه وانقلبوا عليه يطلبون رأسه … والانتقام منه … وتلفيق تهمة لوضعه في السجن .

    ما هي الحكاية ؟

    المحامي شمس الشناوي … زميل شوكت التوني … في يوم من الأيام صحب الأخ عبد الفتاح شريف لزيارته … وهو أحد قادة التنظيم … انتهت الواقعة .

    …. وكيل النيابة لم يجد تهمة يوجهها للشناوي … طلب الإفراج عنه .

    ومع أن الإفراج كان وقتها معناه … قضاء بقية مدة الاعتقال المقدرة بما لا نهاية في سجن طره … إلا أن الخروج من السجن الحربي نفسه كان بمثابة إفراج حقيقي أثناء وقوفه أمام المكاتب شاهده شمس باشا :

  • رايح فين يا ولد .  
  • إفراج .
  • نعم … يا روح أمك ؟؟ .. لن تخرج من هنا إلا في حالة واحدة أن تعترف علي الأودن .

المحامي الشناوي رفض … لأنه لم يحدث شيء … والافتراء حرام .

   نادي شمس عبد الفتاح شريف … وطلب منه أن يشهد ضد الرجل فقال له أن لا يستطيع أن يشهد علي شيء لم يحدث … فقال له أنني لا أسألك إن كان حدث أم لا … أنا أطلب منك أن تشهد بما أقوله لك … يعني شهادة زور … فرفض . المهم … العقيد اتصل بجمال عبد الناصر … ووعده بأن يخلص علي الشيخ الأودن … وسكته إلي ذلك … هو المحامي شمس … العقيد وعد الريس … يعني طريق بلا عودة … ولا تراجع … الاعتراف … أو الموت … والمحامي … لن يشهد زورً … حتى ولو مات … العذاب صار ألوانًا … كرابيج … وتعليق … وفلقة … وحرق بالسجاير والأسياخ وكلاب تنهش … ظلوا يضربوه … حتى قطع النفس .

   جاء الطبيب مسرعًا … وهم يضربونه … قال لهم أنتم تضربون جسدًا ميتًا … لا نبض … ولا حياة … وأخذ جثته إلي العيادة ولأن الأجل لم يحن بعد … أراد الله له أن يسترد حياته بعد علاج يائس …

   شمس الشناوي يجلس في القفص أمامك … يا توني … أسدًا … ثابتًا يكتب مرافعته بنفسه بعد أن سمح له الدجوى بذلك … وولده الطفل الصغير يقول له يا بابا … لن يقرأ لك أحد هذه الأوراق

ويميل عليه فضيلة المرشد ويقول مداعبًا :

  • اسمع كلام ابنك … ابنك أنصح منك .

    ولكن

    ماذا قلت أنت يا شوكت في مرافعتك ؟

    هل تذكر ؟

    قال الشاعر من أكثر من ألف عام :

         ولا يـقـيـم عـلـي ذل أُريـد بـه                                  إلا الأذلاَّن عِـيـرُ الـحـي والـوتـد

  • ما مصلحة الحاكمين أن يجولوا هذا الشعب الذي عاش أكثر من سبعة آلاف عام لا عمل له إلا الكفاح الدموي من أجل أن تبقي مصر . وبقيت مصر بعد فنيت كل الإمبراطوريات التي غزتها …

إمبراطورية روما

إمبراطورية فارس

وإمبراطورية فرنسا

وإمبراطورية بريطانيا 

    ما مصلحة الحاكمين في أن يخلقوا من هذا الشعب المكافح المقاتل أغنامًا تساق وحميرًا تقيم هي – وأوتادها – علي الذل … وكلابًا جائعة تتبع سيدها إلي حيث اللقمة تسد الرمق … وتجفف الريق السائل . ولكن عندما ينادي منادي الحرب وينفخ في نفير القتال أين يجد هؤلاء الحاكمون رجالاً يقاتلون ؟؟ .. إنهم يستطيعون أن يجلبوهم من المدن والقرى ويلبسونهم ثياب الجند ويسوقونهم إلي ميدان القتال . ولكنهم سيجدونهم عند النزال أغنامًا تثغو ، وحميرًا تنهق … وكلابًا تعوي ذيولها بين أفخاذها … وتنبح نباح الخوف والفزع والهزيمة .

    إن هذه السياسة … سياسة محاربة الأحرار … وإذلال الأعزاء وتجريح أهل القمة … زرع لأشجار الزقوم … سيجني الحاكمون حصادها في يوم من الأيام … بعد شهر … بعد عام … بعد سنين … ولكنهم سيجنونه مرًا وعلقمًا … وشوكًا … وحسكًا وماء من جحيم . وكأنك يا شوكت كنت تقرأ الغيب … فهذا ما حدث في هزيمة 1967 … وبالضبط … ثم استكملت المرافعة … فقلت :

  • إننا جميعًا أهل هذا البلد … لا يملك أحد منا شبرًا من الأرض أكثر من أخيه … فلماذا يعمل الحاكمون كأنهم الأوصياء … أو المالكون … وباق الشعب هم الأجراء .

قد يكونون مخدوعين من التصفيق … والتهليل … والهتاف … والحشود .

لا … هذا إما خداع من الشعب لحاكميه .

وإما ذَّلة خشية الموت والفقر … والأذى .

ولكنهم … والله … منافقون .

ثم قلت :

   أنني أخاطب هذا الشعب … ولا أخاطب المحكمة … فأنا واثق أن مصير هؤلاء المتهمين قد تقرر قبل تقديمهم للمحاكمة … ولكن بقي آخرون … هم من أدافع عنهم الآن .

إن مصر ستبقي بحدودها الجغرافية … بأرضها … وهي غير قابلة للفناء

ولكن الذي سيختفي هي إنسانيتها ، لن تبقي فيه ناس لأن الناس حرية وكرامة وعدل .

أما عن وقائع القضية … فلا توجد قضية .

   هذا التجمع … هو لفتية آمنوا بربهم … إذ قاموا … فقالوا ربنا رب السموات والأرض … لن ندعو من دونه إله … لقد قلنا إذ شططًا … كان اجتماعهم لدراسة الدين … فأين هي الجريمة ؟؟

   أما قتل رئيس الجمهورية … مع أنه لم يحدث … ولم يفكر فيه أحد … فإن الرئيس هو فرد عادي … يكون اليوم رئيسًا … وغدًا شخصًا عاديًا … والقانون في يدي وليس فيه أي نص يغلظ العقوبة جزاء لقتل رئيس الجمهورية … فلماذا هذا الاعتقال الجماعي ؟؟

لدغته العقرب يا توني … التسجيل مفتوح أمامه …

  • أنت اتجننت يا أستاذ … كلمة تهدم بها جبل … ثم تقول قانون … هذا تحريض .   

قال في ثقة :

  • لندع القانون … ونتكلم بالقرآن … الذي يقول لنبيه … أكرم الخلق

أنك ميت … وهم ميتون .

وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل …

مصر لن تموت … بموت فرد .

  • هذا تهريج … كيف لا يكون قلبًا لنظام الحكم أن يتفق جماعة علي قتل رئيس الجمهورية .
  • لم يحدث هذا الاتفاق .
  • والإقرارات … وتوقيعاتهم عليها .
  • هذه الإقرارات أكفان للمتهمين … أرسلتها معهم المخابرات والشرطة العسكرية … وقد أثبتتها النيابة بنصها في محاضرها … ولذلك فإن تحقيقات النيابة باطلة … وقد أسْتُلبت هذه الأقوال من أصحابها بعذاب لا يحتمله البشر .

وكان الختام :

  • بأن أودع هؤلاء الأعزاء الذين يحول بيني وبينهم قضبان لا تزيد عن مسافة الأنملة … وقد يفرقنا عن بعض غدًا زمان قد يطول سنين مديدة … وقد يعودون بعد قليل راجعين إلي أحضان مصر الحبيبة .

هذه الطاقة من الزهور هي التي تحتاجه مصر في كفاحها المرير …

عطورهم الأخلاق التي يتمسكون بها ويستمدونها من القرآن أسوة برسول الله علي صلوات الله وسلامه … وبهاؤهم العلم الذي نجد ونلهث في سبيل امتلاكه لخير مصر أمنا العزيزة .

دوت القاعة … كلها … بالتصفيق

تصفيق … حقيقي

في زمن لا يعبر فيه شدة التصفيق … إلا عن عمق النفاق .

         مقدمة :

    الحاجة زينب الغزالي … تجلس في شرفة بيتها … تنظر إلي الأفق أمامها … الشمس تنحدر نحو الغروب … يوم آخر يغرب من عمرها … ويمر الزمن … وتدبر الدنيا … وكل شيء هالك إلا وجهه سبحانه . مشوار طويل … طويل … يا حاجة … إذا كان فيه من غصة في الحلق … ليس إلا لأن الله لم يكتب لك صحبة الشهداء … الأستاذ الإمام سيد … الزاهد العابد … هواش … ورفيق الدرب … الصوام القوام … الشيخ عبد الفتاح …

    هذه حكمتك يا ربي … تجري بها مقاديرك .

    استشهدوا … وحكموا عليك بالسجن المؤبد … وإرادة الله الغالبة … أطاحت بحكم الطاغية … وقوضت نظامه … بعد أن ذاق ذل الهزيمة … ومات في حسرة … ومن عذاب سلطه الله عليه في آخر عمره … من مرض السكر الذي اغتال جهازه العصبي … لم تستطيع أسوار الجند وكتائب الحراس أن يحموه منه … ثم خر في النهاية … ميتًا .

    أنت الآن يا حاجة خارج أسوار السجن … وكل من مد يده إليك بعذاب داخله … في نفس السجن … وربما في نفس الزنزانة .

    سبحانك يا ربي … كانوا يسألونني أين نصرك للمؤمنين ؟؟

    أفاقت من تأملها علي صوت أم عبده :

  • ضيف … يريد مقابلتك .

التفتت إليها … قالت .

  • شاب … اسمه … عبد الفتاح إسماعيل .

أطالت النظر إلي وجهه … ثم قالت :

  • الخالق … الناطق … أنت تشبهه .

قال في حياء :

  • عمي … وكان يحبني … ويفضلني علي أبنائه … ويصحبني صغيرًا في بعض مقابلاته … ترك وصية … أن أقابلك … ولم تسنح لي الفرصة إلا الآن .

سكتت … أكمل بعد تردد :

  • جئت أبايعك علي الجهاد في سبيل الله .

نظرت إليه طويلاً … ثم قالت :

– صحبت الشهيد حسن البنا … وكان عهده … بناء الدعوة … والحرص علي تقوية أساستها … ثم جاءت محنة 1948 … لم تستمر طويلاً … ثم خلفه الإمام الصابر حسن الهضيبي . أول عهده كان إحياء للجماعة … وانتشار … ونشاط … حتى صارت الجماعة قوة … مرهوبة … هذه المرة أرادوا … الإجهاز عليها واشتدت المحنة … وعم الظلام … وكانت موجة الطغيان عاتية .

ولأن الله يكافئ عباده المجاهدين … فقد قبض لهذه الدعوة من يحافظ علي جذوتها أن تنطفئ … كانوا داخل السجن … الشيخ المجاهد عمر التلمساني … والرعيل الأول مصطفي مشهور … والعدوى … وإخوانهم . وكنا خارج السجن … معلمنا الأستاذ سيد قطب … والشيخ عبد الفتاح إسماعيل … جميعًا ندين ببيعتنا – داخل السجن … وخارجه … لإمامنا ومرشدنا الهضيبي كان الغرض من تنظيمنا … هو التحصن … والتجمع … والترابط … دفاعًا عن وجود … خوفًا من الضياع … والتحلل .

وكان غرضهم داخل السجون … هو … هو … نفسه .

والحمد لله … فقد فشلوا في إطفاء نور الله .

ولن ينجحوا .

لقد بدأ عهد جديد … تفتح فيه أبواب ظنوا أنهم أحكموا إغلاقها بالمتاريس .

عهد الإحياء الثاني للجماعة .

النصر قادم وأنتم صانعوه .

شبابكم … هو المستقبل … يا بني .

  • تعالي يا بني معي .
  • إلي أين … يا أماه ؟
  • نذهب لنبايع معًا … فضيلة المرشد … الإمام الجديد للجماعة .

                

                              

رواية ليالي كرداسة الحلقة التاسعة المهندس أنور رياض

                           (15)

    وأخيرًَا … انتهي حفل الاستقبال

    ساقوهم إلي السجن الكبير … دفعوهم داخل الزنازين … وأغلقوا الأبواب .

    لا … لا لم ينتهي الحفل . العرض مستمر .

    بدأ العساكر في لعبة جديدة … يهجم العسكري علي باب الزنزانة … أي باب … ويفتحه … ثم يهجم مقتحمًا خطوط العدو … المتحصن في الزنزانة … يطيح فيهم ضربًا … وهو يلقي بالتعليمات .

  • عندما يفتح الباب … يقف الجميع انتباه … ثم يعظم … ارفع يدك بالتعظيم … يا ولد … يا ابن الكلب .

وأحيانًا يختار واحدًا منهم … ويدفعه خارج الزنزانة … إلي الحوش … وهو يلاحقه بالكرباج .

  • اجري … يا ولد … اجري .

فتتلقفه الكلاب نهشًا … وتمزيقًا …

    صفوت الروبي .

    كائن … ذو هيكل بشري … يشبه الإنسان … بأطرافه … وجسمه … ورأسه … الخالق الناطق … كأنه آدمي … إلا أنه بلا قلب … هكذا يقول دائمًا … افتحوا صدري لتجدوه … بلا قلب … أيضًا … بلا ضمير … ولو عددنا … بلا … لاستمرينا إلي ما لا نهاية … لعبوا في مشاعره … عكسوا وضعها … الحب تحول إلي ضغن … والسماحة … إلي فجر وغل … والشفقة إلي غلظة وغباء … الشهامة … والصداقة … والإخوة … ومكارم الأخلاق … أزالوها … من الجينات … من الجذور .

    الشيء الوحيد … الذي يملأ هذا الكيان … هو الشيطان ذلك هو حكمدار السجن … صفوت الروبي … الذي لم يترك أحدًا دخله دون أن يوقع – علي جسده – بالكرباج … وأحيانًا يكون التوقيع … علي القبر نفسه … ضنايعي في ضربة السوط … لا تخرج إلا بالدم … ونادرًا ما يخطيء الهدف .

    ما الذي يدفع الإنسان إلي هذا الدرك ؟

    ما هي القيمة التي تحركه … بعد أن فقد القيم ؟

  • الإخلاص ؟؟ .. لمن ؟
  • حب رؤساؤه ؟؟ .. أي لون من الحب بعد أن تنكر لكل أطيافه ؟
  • الانضباط العسكري والأوامر ؟؟ .. العسكرية … نبل … وشجاعة … ومثل عليا الطموح … والرغبة في الترقي ؟؟

في نظام فاسد … نعم .

    ولكن ماذا يتوقع الصول … وليس أمامه إلا سلم نقّالي … محدود الدرجات … أو حسبها صح … ولو لم يطمس الله علي آلته الحاسبة اللوامة … لوجد أنها ليست خسارة وحسب … وإنما … ندامة … وحسرة … و … في الدنيا … قبل الآخرة .

    أما العساكر … علي الأسود … زغلول الشيطان … سامبو … الديزل … خروشوف … فتحي النملة … حسب استعدادهم الموروث من بيئتهم … فهم مجندون للشر … والقسوة … وأيضًا بلادة الحس … وكسل العقل … لا طموح … ولا أمل … والمطلوب … هو العمياني … الأوامر … ويفضل دائمًا العسكري الخام … سهل التشكيل … والبرمجة .

    العسكري جودة … لم يخرج من قريته … طوال حياته … ولم يركب قطارًا إلي يوم تجنيده … أخذوه من قريته … إلي المركز … ثم إلي وحدته … أول مرة يحصل فيها علي إجازة … كانت مدتها ثلاثة أيام … بعد خروجه من الوحدة … تاه … وهو يبحث عن محطة القطار الذاهب إلي بلده … وأخيرًا … اهتدي إليها … ولكن بعد ثلاثة أيام … الإجازة ضاعت في البحث عن المحطة … أمسكته الشرطة العسكرية داخل المحطة … واقتادوه إلي مقر القيادة … فرصة عظيمة … عسكري أبيض … لقطة … نقلوه إلي السجن الحربي … هناك علموه … كلمتين اثنين … الإخوان يريدون قتل الريس … ونحن نأخذ ثأرنا منهم .. الثأر … وما أدراك ما الثأر ؟ .. كانت ضربته في الكرباج مشهورة … انتقام … وما كان يسمعه في التحقيق من أسأله عن قلب نظام الحكم … واغتيال الريس … يزيده اقتناعًا … الضرب مشروع … والفتك غاية مبررة … أولاد الكلب … يريدون قتل الريس … وأين نحن ؟؟ .. كل شيء مباح … ويستحقون أكثر من ذلك …

    بدأت أفكار الانتقام والثأر … تهتز في نفس جودة … عندما شاهد أهل كرداسة … فهم فلاحون … تمامًا … مثل أهل قريته … حتى الأسماء تتشابه … رجالة … ونساءً … إلا أن الإهانات المتلاحقة علي العمدة … كانت الأكثر تأثيرًا … حلقوا له جانبًا من شاربه … وأزالوا حاجبًا … ممزق الثياب … أوشك جسمه أن ينحني … وهو يحاول السير جاهدًا … الجروح … بعد مرور يوم عليها … يتكون فوقها قشرة بنية اللون … وعند الحركة … أو الضرب عليها تتمزق القشرة … يتبعها ألام رهيب … العمدة يحاول أن يصمد … وأن يتحمل … أمام أهله … وأمام النساء … وأكثر ما يراه ألمًا … وعذابًا له … هو النيل من عزة نفسه … تركب زوجته ظهره … كالحمار … يضعونه … في مقدمة طابور الجري اليومي … يجري … أو … يحاول الجري … والكرابيج تطاردهم … النساء تولول والأطفال في رعب وهلع .

    هل نساء كرداسة … يريدون قتل الريس ؟؟

    هل المرأة الحامل … التي تسير – جريًا – برجلين متباعدتين … وهي تسند بطنها بيديها … هل هذه هي صورة التآمر لقلب نظام الحكم . والعروس … زوجة سيد نزيلي … رموها مقبورة في زنزانة حالكة الظلام … صائمة … تعاف الطعام … متكومة في أحد الأركان … تكاد أن يتلاشى جسدها … جف لونها … وبهت … وهي الوردة … في ريعان الشباب … وعِزُّه … ألا تشبه هذه البنت … خطيبته … بنت خالته ؟

    جيش الانقلاب … الفلاحي … وزعيمته المرأة الحامل ! !

    والأطفال … هم … الفدائيون لقتل الريس ! !

    الدبور بدأ يزن في مخه … والأسئلة تنبش في دماغه … مهماز ينخس في فطرته … لتستيقظ … وتصحو … وتزيح غلافًا سميكًا … احكموه عليها … بالتلقين … والتلفيق … وتنفيذ الأوامر … والسجود … والركوع لها … وإشاعة الرعب … والخوف … من مخالفتها أو حتى التقصير في تنفيذها … إلا أنه مع هدير الموج في رأسه … وتصاعد الفوران في داخله … كانت قبضة علي الكرباج تتراخي … وهمته تفتر … وتتكاسل … وأصبح يبحث عن الهروب لأي مهمة أخري … نظافة … أو إحضار الطعام … تجهيز المهمات … وحتى إذا ضرب … هيَّفت ضرباته … وطاش تصويبه المشهور عنه … وأصبح كرباجه … يبحث عن … مكان حول الأجساد … في الفاضي …

    مكتوب علي أهل كرداسة أن يجتمعوا يوميًا في طابور العذاب … والإهانة … يخرجون من الزنازين … حفاة الأقدام … جريًا في انطلاق القطيع من البقر … إذا انفك عقاله … وجبة الكرابيج … مستمرة … بسخاء … صياح العسكر … وسبابهم … يوميًا … كل صياح … عذاب متكرر … لا يبدو له آخر … إهانات يستمتع بها الروبي … ويتفنن في تجديدها … تبلغ ذروتها في وجود حمزة البسيوني … الجنرال راكب الحصان الأحمر … الأمل يقتله اليأس … والرجاء يجلد … ويداس بالنعال … إلا أن جرعة اليأس … كانت عند الشيخ صابر … أكبر … نفذت طاقته … واختنق … صبره … وانشرخت نفسه … ثم حدث الكسر .

    الرجل الوقور … خلع سرواله … وهو ما بقي عليه من ملابس … فقد جرجروه … من منزله … بالفانلة والسروال … الفانلة تمزقت من الكربجة … الشيخ … أصبح عريانًا تمامًا … بلبوصًا … كما ولدته أمه … وانفلت يجري خارج الطابور … لم تفلح الكرابيج في إيقافه … وهو يصبح في هستريا …

    تحيا الثورة … تحيا الثورة … يسقط جمال عبد الناصر … تسقط الثورة … يعيش صابر بن كرداسة … يا ولاد الكااااالب . قفز جودة خلف الرجل … وبمجرد أن حضنه من الخلف انهارت قوته … خر علي الأرض مستسلمًا .

    الجنرال صفوت … لا يعرف إلا الأمر :

  • مصروف له مائة كرباج .

لم يتحرك جودة .

شخط وقد نفرت عروق رقبته .

  • يا عسكري جودة … نفذ الأمر .

الآن … الآن يا جودة … وإلا … فلا توهجت فطرته … وانزاح العطاء … وانكشفت عن أصلها .

  • يا حضرة الصول … الرجل جن … والضرب في الميت حرام .

صرخ … وهو يقفز نحوه … ويهوي عليه بالكرباج :

  • ماذا تقول … يا روح أمك

رفض الأوامر يا روبي … تمرد … ضاع الانضباط … ومن المتحدي … عسكري … أداة … مجرد أداة …

صاح في العساكر : أمسكوه .

صرف الطابور

ثم بدأ الاحتفال … هذه المرة … ضيف الشرف فيها … الدفعة جودة … زملاء الأمس … يجلدون رفيق الكرباج … الأوامر … أوامر يا جودة … أن تعرف أن دستورنا … هو قلة الأصل … أول مادة فيه … الذي يتزوج أمي … أقول له يا عمي … الموت لك يا صاحبي … هنا في السجن الحربي … لك أن تختار … إما خارج الزنزانة … وإما … داخلها …

ألقوه داخل أحد الزنازين … ثم أغلقوها .

    قرية كرداسة الحزينة … تنام تحت وطأة الغزو … والاحتلال …

    أخذوا العمدة … وأعيان البلد إلي السجن الحربي … شحنوا النساء مع الأطفال … مع الرجال عمال التراحيل … في سيارات مكشوفة … طافوا بها شوارع البلد … النساء الحرائر … سيدات القرية … والرجال … زينة الرجال … وأعيانها … وأهل الخير والنجدة … هل عادت أيام المماليك … أن تغير اسم كرداسة إلي دنشواى .

    الجنود اقتحموا البيوت … وحطموا أثاثها … ومزقوا فرشها … وخلطوا الدقيق بروث البهائم … والسمن والزيت والسكر بالتراب … ومزقوا أجولة القمح … والأرز والفول … بعثروه … مخزون عام من القوت الرئيسي للفلاح … رغيف الخبز … وطبق الأرز … بددوه انتقامًا … لا رحمة … ولا عدل … ولا بشرية … حتى الزرايب … دخلوها … ومنعوا العلف … والماء عن البهائم … التي هزل لحمها … وجف ضرعها .

    هؤلاء الجنود … يحملون وجوهًا مثلنا … ويتكلمون مثلنا … لم يستبدلوا اسم … محمد … ومصطفي … وسمير … بجون … ووليم … وجاكسون … ما الذي جري في الدنيا … أين الوطنية … أين المواطنة ؟؟

    أيها المواطنون … تصفيق …

    عبد الناصر بقامته … يجعر بصوته … هدير الآلاف … تصفق .

    أيها المواطنون … أيها المواطنون …

    أهل كرداسة … خونة … رجعيون … لقد أعطيت البطل شمس كارت بلانش لمحو كرداسة من الوجود … تصفيق … تصفيق … بالروح … بالدم … نفديك … يا جمال … أيها المواطنون … أيها المواطنون … الثورة مستمرة … وسندمر أي كرداسة أخري … من أجل عزة الشعب … ومن أجل عزة العرب … لا مكان للرجعية … الحرية … كل الحرية للشعب … ولا حرية … لأعداء الشعب … تصفيق … تصفيق … بالروح بالدم … نفديك … يا جمال .

    الشيخ مصطفي … مؤذن المسجد الكبير … يسكن بجواره … رجل ضرير … من نتوءات … ومطبات … حتى موضع المخلفات … لم يعد بحاجة إلي دليل … سوي عصاه … التي تسبق خطوة رجله … تحسبًا للمفاجآت … يخرج من بيته يسير وفق البوصلة المزروعة في مخيلته … يدخل المسجد … يرقي إلي المئذة القصيرة … ثم يؤذن … ينزل … نفس الدرجات بعددها … يجلس بجوار المنبر حتى يتجمع الناس … ثم … يقيم الصلاة … و … يصلي إمامًا بهم … المسجد لم يعد مثل أيام مضت … كان يمتليء بالمصليين … خاصة عند صلاة الفجر … كان أكثرهم من شباب الإخوان … يمتلئون حيوية … يسعون إلي الصلاة في همة … بعدها يتحلقون في ركن يذكرون … ويدعون بالمأثور … ثم يخرجون قبل الشروق في طابور رياضة إلي الصحراء القريبة … نموذج … اختفي منذ سنوات … أصبحت صلاة الفجر صفًا واحدًا خلفه … يشعر بهم … ويعرفهم واحدًا … واحدًا … ولله الأمر من قبل … ومن بعد … هذا حال الدنيا … المهم هو الدوام … ويظل باب المسجد مفتوحًا … والأذان مرفوعًا بأعلام الهداية … والفلاح … ونعوذ بالله … من يوم ينقطع فيه .

    يوم الشيخ مصطفي يوم نمطي … مطبوع بالكربون … لا يتغير … إلا في هذا اليوم المشئوم … الذي اقتحم أذنيه … الأمر يمنع التجول … الميكرفون نذير السوء … في هذه الليلة السوداء … يحذر كل من يخرج من باب بيته … كان لتوه عائدًا من صلاة العشاء عندما سمع صراخه . وضع جنبه كالمعتاد … وسرعان ما انفصل عن العالم كله … نام … مثلما ينام كل ليلة … ومع النجمة … في الوقت المعتاد أيقظته ساعة مضبوطة بين جنبيه … لا تؤخر … ولا تقدم … الآلة الداخلية … حركته إلي الوضوء … ثم لبس جلباب الخروج … ثم … قبل أن يصل إلي الباب … توقف مترددًا … إلا أنه هز رأسه متخطيًا العتبة … فليس من المعقول أن يمنعوا الصلاة … حظر التجول لا يسري علي الصلاة … سيصلي بالناس … ثم يعودون إلي بيوتهم … يقفلونها عليهم … كأمر الحكومة .

    في خطوته المتحسسة سار حتى وصل إلي المسجد … صعد المئذنة … كالعادة … الله أكبر … الله أكبر … الأرجل التي يسمعها … واضحة – رغم صوت الأذان … أرجل ثقيلة … تدب قفزًا فوق درج المئذنة … تزداد وضوحًا … إنها تقترب منه … شعر بالكرباج يلفحه علي أذنه … وبدلاً من نداء التوحيد … خرج صوت الاستغاثة … يد غليظة جذبته من قفاه … ثم دفعته علي الدرج متدحرجًا … إلي داخل المسجد … انكسرت يده … ورجله … وانفلق دماغه … وأيضًا عموده الفقري .

    غاب الرجل … عن بيته … لم يعد من صلاة الفجر … ظن أهله أنهم اعتقلوه … أخذوه مع من أخذوه من أهل البلد … بعد ثلاثة أيام رحل الغزاة .

    دخلوا المسجد … كان الرجل الضرير … الشيخ مصطفي … ميتًا

    وإنا لله … وإنا إليه راجعون .

    أيها المواطنون … أيها المواطنون … لقد مات عدو الثورة .

    تصفيق … تصفيق

    بالروح بالدم … نفديك … يا أبا خالد .

                           (16)

    كانت جالسة … تتناول طعام الغذاء … دخلت أم عبده منزعجة … تعلن وجود زوار … لم يكونوا في حاجة إلي استئذان … هذه هي المرة الثالثة … التي يحضرون فيها … مرتين ليلاً … وقبل الفجر … فتشوا الفيلا … ثم … لا مؤاخذة … خرجوا … هذه المرة يبدو أنه ليس فيها … لا مؤاخذة … شكلهم مختلف … وجوههم مستفزة … علامات الهياج المكتوم تشيع فيها … لم ينتظروا استئذانا … وجدتهم يحيطون بمائدة الطعام … كانت علي وشك دعوتهم إلي الطعام … عندما قال أحدهم … في حزم … ويبدو أنه الضابط .

  • الحاجة زينب الغزالي .

قالت في هدوء :

  • أهلاً … وسهلاً .

وأيضًا لم يكونوا … في حاجة … إلي أهلاً … وإلي سهلاً … ويبدو أنها قد أصبحت … لا أهلاً … و … صعبًا … وكدرًا .

انتشروا داخل الفيلا … لحقتهم أم عبده إلي غرفة النوم … وهي مع الآخرين إلي المكتبة … قبضوا علي الكتب كلها … واعتقلوا كافة الأوراق … والمجلدات الخاصة بما فيها من صور عائلية … حتى المجلات … حملوها كلها في سيارة نقل .

لم تعترض … نظر الضابط إلي الخزينة … وقال لها :

  • المفتاح ؟

قالت : الخزينة خاصة بزوجي … هو رجل أعمال … وفيها مستندات خاصة … والمفتاح معه .

نادي : شخرم

تقدم منه … الوجه وجه إجرام … آثار ضربة سنجة أو مطواة في خده …

  • نعم … يا باشا .

قال بلا مبالاة : شخرمها … 

تقدم نحو الخزينة … نظر في ثقب المفتاح … ثم قال في ثقة :

  • خزينة حريمي … ثواني يا باشا .

أخرج مجموعة مفاتيح … اختار واحدًا في عناية … وضعه في الثقب … ثم وضع أذنه بجواره … وبدأ يدير القرص … يمينًا وشمالاً … وفعلاً … ما هي إلا ثواني … حتى انفتحت … نظر إلي الضابط مزهواً … وقال :

  • فرقعتها … يا باشا .

قال الضابط باسمًا .

  • هذا أشهر لص خزائن في مصر … الحاجة ستقدم بلاغ ضدك بأنك فتحت خزينتها … وبأمر مني … أنا وأنت … سنذهب إلي النيابة .

رد في جدعنة : يا باشا أنا فداك … أروح تأبيدة من أجلك .

انتهي التفتيش

قالت الحاجة زينب : المجوهرات … والذهب … والنقود … والمستندات … أرجو تسجيلها … وإعطائي إيصال بها .

رد … متجاهلاً : حضري نفسك .

قالت : إلي أين ؟

قال لها : إتمام الإجراءات … خمس دقائق معنا .

الحاجة زينب … حتى هذه اللحظة … كانت تظن أنها لازالت … بنت الأصول … الهانم … وأن مركزها الاجتماعي يشكل سورًا … وعائقًا … أي نعم … يمكن القفز عليه في حالات محدودة … مثلما فعلوا في قرار حل جماعة السيدات المسلمات … وتعطيل المجلة … ولا مانع عندهم … من مصادرة ممتلكات المركز العامة وتشريد اليتامى … ولو زادوها فغاية ما يصل إليه الأمر … هو تحديد إقامتها … مثلما فعلوا مع النحاس باشا .

أما أن يصل الأمر إلي إجراءات … وخمس دقائق … فهي تعرف معناها الحقيقي … ولا تفسير غيره … أنه الاعتقال … وهي تعرف أيضًا … أن كل من أخذوه … يبدأ بالخمس دقائق … أو دقيقتين … أو عشر دقائق … التسعيرة معروفة … الدقيقة بسنة … قد تزيد – ولا تنقص . وقفًا لاعتبارات التضخم … أما تسعيرة ” مشوار بسيط معنا ” … فإنها تعني … اتجاهًا … بلا عودة .

    الاعتقال ؟ .. يا حاجة .. لم يحدث في أي عهد أن اعتقلوا واحدة ست … لقد كان الحاج محمد زوجها أبعد نظرًا … عندما حذرها من هؤلاء الجبابرة … ليس عندهم كبير … لا اعتبار … ولا حرمة … ولا خط أحمر … ولا أزرق … ولا فرامل … الرب … والإله … والخوف منه … اصطلاحات لا يصلح لها إلا الدراويش … والعجائز … وأصحاب الطواقي … واللبد . القوة … الضابط والحراسة … شقوا طريقهم … السيارة تضرب صفير الطواريء … فتتفتح الإشارات … وتتنحي السيارات جانبًا … لم تتوقف إلا داخل السجن الحربي رغم أن كل الأخبار … كانت تشير إلي وقوع حدث ما … إلا أنها لازالت في حالة من التوهان … منفصلة عن الواقع … تكذب عينيها … العيون مفتوحة … ولكن الكابوس مستمر .

    قال لها شمس : أهلاً …

    الإفاقة حدثت فجأة … ولكن إحساس سيدة المجتمع لازال يسيطر عليها .

    قالت في حدة … وهي تشير إلي الضابط :

  • لقد أخذوا مجوهراتي والذهب والنقود … ومستندات زوجي … أريد إيصالاً بها من خلال ضحكة فاجرة :
  • تعالي  يا حمزة … شوف طلبات بنت الـ … الـ … الـ … فاكرة نفسها ستخرج من هنا علي رجليها … سندفنك هنا يا بنت الـ ..

ثم صاح :

  • صفوت … ما هو قانون السجن الحربي .

رفع الكرباج … وهوي علي ظهرها … غاص طرفه في الجسد اللين … نبع الدم :

  • هذا هو القانون … يا باشا .

قال … وهو يصفعها علي أذنها بكفه :

  • حاضر … يا باشا .

أدار ظهره ليدخل إلي المكتب .

  • الشاي … والقهوة … ولا تنسي العصير … للهانم … بنت الـ … الـ …

هل زال التوهان ؟؟ .. هل انتهي الكابوس … أم بدأ … هذا هو السجن الحربي … كل ما سمعت عنه … سترينه … لا … ستعيشينه … وجودًا … وألمًا … عذابًا … ومشاعر … ليس من سمع … كمن رأي … وليس من رأي … كمن قعد علي نارها .

قتل أصحاب الأخدود … النار ذات الوقود … إذ هم عليها قعود .

الجسم لامرأة … واللحم لسيدة … لم تعرف إلا لعز … وطيب المقام … الكرباج يشق جلدًا ناعمًا … ولحمًا لينًا بلا عضل … ولا ألياف … لحمًا رخوًا … يجرحه النسيم … والكرباج عاصفة يشعل فيه النار … تهتك اللحم … وانكشف العظم … وتمزقت الأعصاب .

سقطت مغشيًا عليها … قبل أن ينتهي حفل الاستقبال …

وقبل أن يقدموا كل ما لديهم حسب البرنامج … لم تحتمل .

أفاقت لتجد نفسها … ممزقة الثياب … كل جسدها ينزف … كل خلية تئن … الوجع في كل وجهها … عين متورمة … والأذن كأنما وضعوا داخلها محرك نفاث .

أين النوم ؟

شعاع من مصباح علي بعد … يتسلل من نافذة ضيقة … قريبة من السقف … يحاول فاشلاً أن يخترق طبقات الظلام … الصمت متراكم … كئيب كئيب … شقة فجأة صراخ … يعبر النافذة :

  • الرحمة … يا رب .

صوت الكرابيج كأسياخ النار .

  • حرام عليكم … ليس عندي ما أقوله .

الصراخ تحول إلي عويل :

  • يا كفرة … يا فجار .
  • يا رب … يا رب .

سكت فجأة … اختفي الصوت … زحف الصمت من جديد .

                           (17)

    هل كان عبد الفتاح إسماعيل … يعلم أن نهاية نشاطه وسعيه في تجميع الجماعة … هو الاعتقال ؟

    الاحتمال … كان قائمًا … وكانت قناعته … أنه يفر من قدر الله … إلي قدر الله .

    وما الذي كان يفكر فيه عندما اعتقلوه ؟؟

    مصير الشباب الغض … الذي يواجه الابتلاء لأول مرة … أكثرهم كان إلحاحًا علي خاطره … هو إسماعيل الفيومي … حارس جمال عبد الناصر … الشخصي

    الآن أصبح أكثر إدراكًا … بما يحدث … فقد تم اعتقال العديد من الإخوان … وتعرضوا للتعذيب … وبالتأكيد بعضهم تحمل فوق طاقة البشر … فاعترف … وتسلسلت الاعترافات … إلي أي مدي ؟ .. قد يكشفون هيكل التنظيم بالكامل … وقد يفلت البعض إذا استطاع الإخوان الصمود … فينقطع التسلسل … أو تكون الاعترافات ناقصة … وعلي القدر اللازم للنجاة من التعذيب .

    وعلي هذا فالتنظيم سيتم اكتشافه … كليًا أو جزئيًا … لأن غالبية أفراده معروفون لبعضهم البعض … أما إسماعيل الفيومي … فلا يعرفه إلا عدد قليل … منهم علي عشماوي … والقبض علي إسماعيل … معناه … قتله لا محالة … وسيعطي فرصة لإطلاق الدعايات عن الإخوان الإرهابيين … القتلة … وهو تزوير فاضح …

    قلبي معك يا إسماعيل … وحفظك الله … يا أخي … ذكري آخر لقاء معه … لازال حيًا في خياله … كان في بيت عبد الحميد عفيفي … بلدياته … منذ شهر تقريبًا .

    عندما فتح الباب … اعتنق الشيخ عبد الفتاح … قال عبد الحميد مرحبًا :

  • مر زمن طويل … علي آخر لقاء .

انحط علي الكنبة بثقله … استمر عبد الحميد : أنت مرهق .

تراجع بظهره إلي مسند الحائط … قال عبد الفتاح :

  • نحن جند الله … لا نعترف بالإرهاق والتعب … ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ … ولا نصب … ولا مخمصة … في سبيل الله … ولا يطأون موطئًا يغيظ الكفار … ولا ينالون من عدو نيلاً … إلا كتب لهم عمل صالح .

سكت قليلاً استأنف حديثه : ما هي أخبار إسماعيل الفيومي ؟

  • آخر مرة … كان عند من يومين … طلب مني أن أحضر له حاجات من البلد … وقد أحضرتها … وأتوقع حضوره لأخذها … أنت تعرف أن مواعيده غير منتظمة … بسبب سفرياته مع عبد الناصر .

قال الشيخ عبد الفتاح بارتياح :

  • كنت علي وشك أن أطلب ترتيب لقاء … معه … إذا علي الانتظار .

قال عبد الحميد :

  • فرصة نحضر لقمة نأكلها سويًا … ما رأيك – أنت ابن حلال – لقد أحضرت معي من البلد للتو ذكر من البط … لن يستغرق طهيه أكثر من ساعة .

بادره بسرعة : يا أخ عبد الحميد … الوقت أثمن من أن نضيعه في مثل هذه المتع . يكفيني لقيمات يقمن صلبي … وتعينني علي أداء الطاعات .

قال عبد الحميد : يا شيخ … لا تقسو علي نفسك … قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده … والطيبات من الرزق .

قال منهيًا هذا الجدل :

  • أنا أخذ نفسي بالعزيمة … ولا ألزم غيري … المهم … هات الجبن القديم … وأعواد الفجل .

ما أن انتهوا من طعامهم … وإلا وإسماعيل يدخل عليهم .

اعتنقه الشيخ طويلاً … في حنان وشوق … قال عبد الحميد وهو يهم بالمغادرة :

  • البيت بيتكم … خذوا راحتكم .

استوقفه الشيخ عبد الفتاح :

  • بل ابقي … فليس هناك أسرار عليك .

التفت إلي إسماعيل … وقال له : اعلم أنك … غير مستريح … واشتد قلقك أكثر هذه الأيام .

لم يستطع حبس دموعه … قال :

  • لم أكن أعلم أن الوضع بهذا السوء … كنت جنديًا … في أقسام الشرطة فلم أتحمل الفساد والرشاوى … وسعيت إلي مكان أفضل … فكان حظي أن أنتقل إلي الحرس الجمهوري … اختاروني عندما تخطيت اختبار الرماية ، وكنت أول المتسابقين … وأستطيع أن أصيب ذبابة وأنا معصوب العينين … وكنت أتصور أن عملي – كما أخبروني حينئذ – سيقتصر علي التدريب … ولكنني وجدت نفسي في النهاية … حارسًا خاصًا … أحمل الطبنجة … وأقف علي بعد خطوات منه … وعندي أوامر بإطلاق النار علي أي شخص … مهما علا شأنه … عند أي بادرة … هل تتصور أنني أستطيع تنفيذ هذا الأمر … أقتل إنسانًا … يحاول قتله … أنا الأخ المسلم … أحمي هذا الطاغية من القتل .

اشتد بكاؤه … فقام الشيخ واحتضنه … حتى هدأ …

استمر في الكلام : هل تتصور مقدار ألمي … وأنا أرفع يدي بالتحية العسكرية عند الحضور وعند الانصراف .

قال الشيخ عبد الفتاح مهدئًا :

  • نحن نعيش وسط أوضاع جاهلية … نتعامل معها … إلا أن قلوبنا معلقة بديننا … شعورنا … ووجداننا منفصل … يعيش الطاعات … في ارتباط دائم مع الله .

قال في حماس :

  • طلقة واحدة … وأثأر لدم الشهداء … أريد إذنًا بقتله وأخلصكم منه … تأكد أنني لن أعترف … ولو مزقوني أوصالاً … يا شيخ عبد الفتاح أنتم تحرمونني من شهادة في سبيل الله … أتمناها .

رد الشيخ في هدوء : لست وحدك الذي يتمني الشهادة … ونحن أيضًا لا نخاف من عواقب أمر كهذا … ولكنه موقف … وسأقول لك ما سمعته من الأستاذ سيد قطب … أن عملية الانتقام … عملية تافهة بالنسبة لمستقبل الإسلام … إن إقامة النظام الإسلامي … تستدعي جهودًا طويلة في التربية والإعداد … إنها لا تجيئ عن طريق إحداث انقلاب من القمة … إن قلب نظام الحكم القائم لا يأتي بالإسلام … ولا يقيم نظامًا إسلاميًا … العقبات في وجه النظام الإسلامي أكبر بكثير من نظام الحكم المحلي … نحن في حاجة إلي زمن طويل … وتمهيد أطول … وتربية أجيال …

  • إذا دعوني … أنهي هذا الوضع … فأترك الخدمة … بأي عذر كراهيتي لهذا الوجه تزداد يومًا بعد يوم … أشعر بأنني في سجن … لا أستطيع الانضمام إلي أسرة … ولا اجتماع إخواني محروم من حضور دروسكم … مقابلاتي مقيدة … ولولا أن عبد الحميد بلدياتي ما استطعت زيارته … وحتى عبد الحميد حركته محدودة خوفًا علي … أنا … أشاهد كل يوم … ما لا يراه الناس … عدوانيته … جبروته … سخريته من نوابه … وكبار أعوانه … دائم الحط من شأنهم … كل ذلك يستفز وجداني حيث أن الإعلام يصوره … وكأنه مارد عملاق … فوق … فوق … هل يعلم الشعب أن رئيسه الذي يكاد البعض أن يعبده من دون الله … قام بضرب الرائد قائدة وحدة الحرس … بالشلوت … وسب أمه … وسب أبيه … من أجل الخطأ … غاية في التفاهة .

سكت الشيخ … ثم قال مبتسمًا في ود : من أجل ذلك … نحن نرفض أن نترك الخدمة .

قال إسماعيل : ماذا تقصد ؟؟

  • أقصد أنك مصدر مهم للأخبار عن تحركاته … وأفعاله … وإذا احتسبت ما تلاقيه في سبيل هذه الغاية فستشعر بالراحة .

لازالت البسمة تضئ وجهه … سأل : وبالمناسبة ما هي آخر أخباره ؟

قال إسماعيل : سمعت الدكتور يحذره – كان في غاية الانزعاج – من وحشية مرض السكري … الذي بدأ يتسلل إلي جهازه العصبي … فأصبح لا يحتمل الوقوف علي رجله … ويعيش علي المسكنات … التي أحيانًا تفقد مفعولها … لدرجة أنني سمعته في مرة – كنت خارج غرفته – وهو يصرخ من الألم … كما انتشرت البثور في أنحاء جسمه …

الدكتور – يعرفه … ويخشى غدره … كان ينصحه – وهو يحاول التحكم في انزعاجه – بعدم التوتر … لأنه لا يستطيع … فهو لا يأمن لأحد … ولا يستطيع أن يتنازل عن أي جزء من سلطانه …

استمر الشيخ عبد الفتاح : يعني … قربت … خلاص .

قال إسماعيل … وهو يبادله الابتسام : لو حدث … ومات فجأة … سأكون أول من يحزن … لأنني أتمني أن يكون ذلك بيدي .

قال الشيخ عبد الفتاح : لن نعود لهذا الموضوع ثانية … واطمئن … فلكل أجل كتاب … وسيأخذه الله أخذ عزيز مقتدر … وسيعلم الذين ظلموا … أي منقلب … ينقلبون .

    الآن يا عبد الفتاح … أنت ترقد في زنزانة … السجن الحربي ليس جديدًا عليك … أنت تعرف ما سيحدث لك … لم يبدأوا بعد … حتى الاستقبال المعتاد … كان فاترًا … بعض الكرابيج … وسريعًا مارش … إلي الزنزانة … احتجزوا علي عبد الفتاح … يبدأون به … هل هي فراسة من شمس ؟؟ .. حين اختاره أولاً … وتركوك أنت … ومبارك عبد العظيم مؤقتًا … أم أن لديهم أسباب أخري … لا يهم … فسيأتي دورك … ليس آجلاً … وإنما … عاجلاً … أسأل الله الثبات … وأن ينجيني … من فتنة الابتلاء .

    ولكن – يا عبد الفتاح – هل انتهي التنظيم ؟؟ .. هل انكسر عموده الفقري … وهل انتهي الأمل في أن تقوم الإخوان مرة أخري … سبق أن سألت نفسك هذا السؤال … منذ عشر سنوات … وفي نفس هذا المكان … في السجن الحربي … يومها كنت ممتلئًا عزمًا … وإصرارًا … أخذت علي نفسك كل العهود … والمواثيق علي العمل … ولم شمل الإخوان مرة أخري … فهل وفيت بالعهد … والميثاق … يعلم الله أنك وهبت نفسك للدعوة … وسعيت في طول البلاد وعرضها … ولم تغرك دنيا … وكنت وفيًا لدعوتك … أعطيتها كل ما تملك … من وقت – ونصب … وظمأ … ومخمصة … وأخذت نفسك بالعزيمة … ولم تترخص في كبيرة ولا صغيرة … فهل تهدم كل ما بنيت … وهل كتب علي الجماعة أ ، تدخل نفقًا مظلمًا … قد يكون قبرها الأخير … لا … لا أظن .

    فالله أرحم بعباده … والله رءوف بدعاته … والله حنان ومنان يفرح بالساعين إليه … ولا يرضي بالظلم … ولا يمكن لظالم … فستعود الجماعة … يومًا ما … وقطعًا … ستعود … عظمة هذا الدين … أنه لا يأمر أتباعه إلا … بالعمل … والسعي … والجهاد … وليس عليهم إدراك النتائج … عليهم فقط أن ينصروا الله … أما النصر نفسه … فهو من عند الله … إن شاء عجل به … وإن شاء أخره … ولكنه آت لا ريب فيه … لذا … فإن الدين في حالة من التجديد دائمة … إذا سقط فرد … قام مكانه آخر … وإذا تداعي حائط في البناء … تصدي له عشرات البنائين … أمة خالدة … أما الطغاة … فمكانهم – مهما علا شأنهم – مزبلة التاريخ .

    فهل نصرت الله … يا عبد الفتاح ؟؟

    النهاية هي التي ستجيب … فإن كانت التي طلبتها … وإن كانت التي تمنيتها … وهي الشهادة … فإن الفوز هو النهاية … فوز يضعك في طابور طويل … من الشهداء القائد هو سيدهم – حمزة بن عبد المطلب … الشهادة هي سر النور … وهي مشعل الهداية … الذي أضاء هذه الدنيا … وينتشر بشهداء الفتوحات … ويتحول إلي جذوة عندما يعم الظلام … فيجد من يحملها في قلبه … حملها عبد القادر عودة وفرغلي والطيب ويوسف طلعت … وآخرين دفنوهم في الصحاري … خلف السجون …

    هل يكتبها لك الله … ويكتب لك النجاة من البلاء … هل ستصمد … كما صمد ابن أم عمارة … عندما أرسله النبي صلي الله عليه وسلم … إلي مسيلمة الكذاب يدعوه إلي الرجوع عن كفره … وادعاء النبوة … فقبض عليه الكذاب … وعرض عليه أن يفتدى نفسه لو آمن بأنه نبي … فرفض … فجعل يقطع أعضاءه عضوًا … عضوًا … وهو يردد … لا أسمع …لا أسمع … لا أسمع … لا أسمع .

    ادعو … يا عبد الفتاح … ادعو بإلحاح … تضرع … توسل … ابتهل … فلا حول … ولا قوة … إلا به …

    فأنت الآن … في مقام … ابن عمارة .

    وليس أمام كذاب واحد …

    وإنما أمام العشرات من الفساق الفاجرين . 

                           (18)

    دارت ماكينات الفرم

    امتلأت ساحة التحقيق أو الاستنطاق … أمام مكاتب الإدارة في السجن الحربي .

    الساحة تنتشر فيها الجثث الآدمية … وبقايا الحياة – فيها – تصرخ … مستنجدة باللطيف … في قدره – ليعينها علي تحمل كافة آلات العذاب … تطلب من ربها المدد … بعد أن انقطع عنها نصرة الناس … ومدد البشر … تدعو دعاء المظلوم … والمضطر … الواثق من الإجابة … أن يكشف البلاء … وأن يكون صبرها هو الثمن المطلوب لجنة عرضها السماوات والأرض … ضريبة مستحقة وواجبة … يدفعها كل صاحب دعوة … ابتلاء … ابتلاء … تعرض له كل أنبياء الله … مع كل من آمن وصدق .

    العقيد شمس … يجلس متربعًا مكتب حمزة البسيوني المقر الرئيسي للمسالخ الوطنية … مستكبرًا … متألهًا … ممتلئًا بالشر … منتفخًا بالسلطان غرورًا … وتجبرًا … ساعده الأيمن العميد سعد … وساعده الأيسر كفافي … و … رجله اليمني رياض … واليسرى الديب … أما الباقي فيمثلون الأحذية … فردة يمين … وفردة شمال … يبدلها في قدميه حسب الأحوال .

    مال العقيد … علي العميد وهمس :

  • ما رأيك يا أبو السعود … نخلع الليلة .

نظر إليه مندهشًا … فالمجزرة … في عزها … شغالة … الكرابيج … والكلاب … ورائحة الدم … والجروح التي تعفنت تنزف صديدًا … أو يسرح فيها الدود … والمعلقون من أقدامهم بين السماء والأرض … والمشدودون في الفلقة … والجالسون علي الخازوق … ودخان يتصاعد من جلد محترق بفعل السجائر … وكلابات تنزع الأظافر … أو تنتف اللحى … والكلاب تعوي … وتنهش … كلاب … كل الكلاب … حيوانية في شكل ذئاب … وأخرّي … علي هيئة بشر .

رد العقيد مطمئنًا :

  • لا … لن يتوقف الشغل … الضباط الصغار موجودين … يكملوا … نخلع أنا وأنت … وهات الطقم معك .

غمز بعينه :

  • شقة الزمالك ؟
  • لا … عند نجوى … في المحل … فريد قام بترتيب كل شيء .

حبكت القفشة … قال سعد ضاحكًا :

  • فريد … أبو قرنين .

دخلوا الصالة الملحقة بالكباريه … والمخصصة للشخصيات المهمة … وأيضًا للضيوف ( الأجانب ) … خاصة ( المناضلون ) العرب … الأمر الذي يستدعي تجهيزات إضافية … ميكروفونات سرية … كاميرات مدفونة … لزوم التسجيل … والتنصت … ومن بعد … الابتزاز … والتهديد … و … كله بثمنه … والذي يريد الدح … لا يقول ( …. ) … نحن الثوار … والرواد … لا نلعب … وإذا لعبنا … فلا لوم … ولا عتاب – لعبنا هبش … وطحن … وسحق … والويل … لمن يقع …

الصالة مجهزة بكل لوازم الانبساط … وأقص درجاته من الانشكاح … البار … الجوزة … أرقي أنواع الصنف … من الهبو … وألف ليلة … في الأركان قعدات … أو منامات … أرضي … عربي … أو ( قومي ) لا فرق … ولمن يريد نصبت الستائر تحدد خلوات الفجور … تفضح … أكثر مما تستر …

في الاستقبال … كانت الراقصة نجوى … وبالتحية التقليدية … اليد مرفوعة … والكعب يدق :

  • أهلاً … يا قمر .

ضحك … وقال :

  • أخطأت … أنا شمس .

نظرت إلي العميد سعد بلونه الداكن … وطوله وعرضه .

يبقي هذا هو المريخ .

رد بسرعة :

  • المريخ … نجم معتم … ولكنه في السما … في العلالى .

انفجروا في الضحك … استطردت :

  • البنات جاهزين … وكله … كله … تمام … و … ممنوع الكلام في السياسة . نظر إليها العقيد … نظرة لها … ألف معني … وقال :
  • نحن هنا … مشتاقون … نريد أن نشعشع … نفرفش … نضربها ألف صرمة … ليلة من ليالي الأنس … أريد أن أنسي نفسي … اليوم احتفال … بالنصر .

الراقصة لها تجربة مع العقيد … تجربة مرة … تذكرها دائمًا … فهي في موقع … ينفرط فيه اللسان … وتنحل عقدة العقول … تحت تأثير السطل … والخمور … موقع تسمع فيه ما خفي … وما خفي دائمًا … يكون أعظم … وأدهى … وأمر … ونقل الكلام … وترديده … يؤدي إلي جب ليس له قرار … درس تعلمته … وكادت أن تدفع ثمنه … فقد حاولت – مره – أن تسوق الظرف … أو الهبالة علي الشيطنة … مرة حاولت أن تشاركهم بنكتة تناولت المشير … فلم تشعر إلا به … يلطمها … لطمة كسرت أحد أسنانها … ورغم أنه استرضاها بعد ذلك … وركب لها بدلاً منها سنة من البلاتين … إلا أنها وعت الدرس … وأصبحت تستخدم سدادات الأذن … واحد بالطين … والأخرى بالعجين … وعل الفم … حارس … وقفل مسوجر … لا يفتح إلا لكلام المسخرة !! .

  هي تدرك – تمامًا – حدود عملها … وتتفنن في أداء المطلوب … وهو … إرضاء الحيوان المتوحش … داخل السترات المستوردة … ليست مكلفة بالترويض … والاستئناس … و … كله بالثمن … ذهبًا … وهدايا … والأهم هو النفوذ … والحماية التي توفر لها اختراق السدود … وعبور الحواجز والمتاريس … عقد الصفقات … والإرهاب … إرهاب كل من يدوس لها علي طرف . مع دوران الكئوس … وتصاعد الأنفاس … استفزت الراقصة نجوى جلال بيه … وكالعادة … ربط حول وسطه منديلها … وأمسك بيدها … وبدأ يتمايل معها علي دق الطبلة … و … أنغام الموسيقي … أو ( المسيئة ) .

قال كفافي معلقًا …

  • ليتك … يا باشا … رأيته عندما شتمه المعتقل .

نظر إليه العقيد مستفسرًا :

  • أثناء تعليقه في الفلقة … كان المعتقل يستغيث … فلما اشتد عليه الكرباج … قال ربنا ينتقم منكم … قال له جلال … ممن يا ولد … رد المعتقل … منك … يا كلب

رد الديب … وهو يلهث مع الهز .

  • لكنه يا باشا … دفع الثمن … مزقناه بالكرباج … لكن يا فندم … الصراحة … أنا أعجبت بهذا المعتقل … رفض توقيع الإقرار … رغم أن زميله اعترف عليه … ولكن لنا عودة … لن يفلت يا باشا … أنت تعرف أبو الديابة .

قال العقيد … مازحًا :

  • لعل إعجابك كان أشد … عندما وصفك بالكلب .

قال العميد سعد … مشاركًا بضحكته :

  • المثل يقول … الجالس علي الخازوق … يشتم السلطان … كلب … كلب … المهم يعيش و … يترقى .

تردد قليلاً … وهو يخشى رد فعل ما سيقوله … إلا أن الخمر أطلقت لسانه :

  • واحد منهم … أثناء ضربه … بصق علي … وقال لي … يا كافر .

توقفت نجوى عن الرقص عندما جذب يدها جلال بطريقة لا إرادية … سحابة ما تزحف علي الجو … الحديث أخذ مجرى … لا يركب عليه صوت الموسيقي … والرقص .

نظر العقيد إلي العميد سعد … الذي عبرت وجهه – سريعًا – مسحة وجوم … لقد تعرض هو نفسه لهذا الموقف … إلا أنه لا يريد أن تهتز هيبته أمامهم … قال مظهرًا عدم الاهتمام .

  • هذا فكرهم … جماعة رجعية … تريد العودة بنا إلي الوراء … هؤلاء لو تمكنوا من البلد … لكان أول ما يفعلوه … هو ذبحنا مثل الخرفان .

رد العميد سعد … مؤيدًا حتى يعبر المطب الذي صنعه :

  • طبعًا … طبعًا … ولكننا سنقضي عليهم … أما هم … وأما … نحن .

عبرت السحابة … عاد الجو إلي الروقان … رجعت نجوى إلي الرقص مع جلال … قال … في تهريج …

  • وأنت يا نجوى … كافرة .

كادت أن تتوقف … إلا أنه استدرك قائلاً :

  • حسب رأي هؤلاء الرجعيين .

تقصعت في حركة لولبية … ورفعت إصبعًا فوق حاجبها وقالت :

  • فشر … يا عمر … أنا مؤمنة … وموحدة بالله … يا جلال بيه … أنا … قبل أن أرقص … لابد من قراءة قل أعوذ برب الفلق … خوفًا من الحسد .

قال يسترضيها … مستمرًا في التهريج :

  • طبعًا … طبعًا … يا حلو … ربنا رب قلوب … وساعة لقلبك وساعة لربك .

ردت بسرعة … بنفس التهريج :

  • بل ساعة لقلبك … وساعة لحل شعرك .

جاء إلي هنا … ليقضي ساعات من المتعة … سكر … وسطل … وشيء لزوم الشيء … إلا أن موضوع الساعة إلا أن يفرض نفسه عليهم … هه .. لا بأس … وليكن .

قال العقيد :

  • ما رأيك … يا أبو السعود … هل نستطيع أن نقول أننا قبضنا علي التنظيم … ولم نترك وراءنا أي ذيول .
  • نقول تسعين في المائة .
  • ولكن علي عشماوي … اعترف علي كل صغيرة … وكبيرة … وأدق التفاصيل … والقبض جاري علي كل من ورد اسمه … من أعضاء الجماعة … وكل الذين كانوا يتعاملون معهم … ويقابلونهم … من غير الإخوان … حتى ولو صدفة … ولا يتبقى إلا الاعترافات … والإقرارات … ونضبط المحاضر … لتقديمهم إلي النيابة … ثم المحاكمة …
  • هذا كله معروف … وبفضل ذكاء سيادتك … ولكن بقية نقطتين … لم يتم تغطيتهما … تهمة اغتيال الريس … والثانية قلب نظام الحكم … فالجميع اعترفوا بوجود التنظيم … وبأن الغرض منه … هو التربية … والدراسات الدينية … لابد من وجود تنظيم مسلح .
  • عندك حق … تهمة قلب نظام الحكم … تحتاج إلي شغل …

ولازال الأمل عندي في تغطيتها … ولدي خطة لذلك … أما عملية الاغتيال … فقد ضاعت منا فرصة إثباتها … بموت إسماعيل الفيومي أثناء تعذيبه … وقد حذرت كفافي … وطلبت منه أن يكون الضرب بحساب .

قال كفافي مدافعًا عن نفسه :

  • يا فندم … ولد دماغه ناشفة … جربنا معه كل الأساليب … الفلقة … علي الرجلين … حرق السجاير … خلع الأظافر بالكلابة … وعلي مدار يومين … بلا نتيجة … رفض الكلام …

قال العقيد في حسرة :

  • هذا الولد … أنا خطفته من الشارع … قبل أن تنتبه له مخابرات الرياسة … وكنت سألعب به … لعبة كبيرة … لأنهم كانوا نائمين وحياة الرئيس كانت في خطر داهم … مصيبة تطير لها رءوس كثيرة .

استطرد في غيظ :

  • تعرف يا سعد … عندما أخبرت الريس … ماذا قالوا … ماذا كان دفاعهم ؟؟ .. قالوا أن شمس لفق هذه التهمة … ليصفي حسابات قديمة معنا .
  • وهل صدقهم الريس .
  • نحن لم نقدم أي دليل … لا اعتراف … ولا إقرار … ولكن الريس – من ناحية الأمن – اهتز … وطلب تغيير الحراسة كلها … ثلاثمائة واحد … لقد ضاعت منى الفرصة .

قال كفافي … مدافعًا … ليطرد عن نفسه الاتهام :

  • العميد سعد كان معي مشرفًا علي التحقيق … وكان الهدف هو الاعتراف بنيته اغتيال الريس … وعن أعوانه في طقم الحراسة … إلا أنه امتنع عن الكلام تمامًا و … و … نظر إلي العميد سعد وقال :
  • هل أكمل ؟؟

هز رأسه موافقًا :

  • ولكن آخر كلام قاله … كان غريبًا :

انتبه العقيد … واعتدل في جلسته … استمر كفافي :

  • قال أنه لو كان في نيته قتل الريس … لقتل معه سيادتك … وعندما سأله العميد سعد عن قصده … أفاد بأن قتل الريس سيفتح أمام المشير لتولي الحكم … وبالتالي فإن السلطة الفعلية ستكون بيدك … وأن سيادتك أسوأ من عبد الناصر .

قال العميد سعد مؤيدًا :

  • وهذا كلام … لا يمكن ذكره في التحقيق … فاتفقت مع كفافي علي نسيانه .

سكت العقيد … متفكرًا … أكمل كفافي :

  • الولد … يرفض الاعتراف … ويتحدانا أيضًا … وبكلام يمس سيادتك … فأمرت صفوت أن يجرب معه عملية الفسق … ربطوا رجليه بالحبال … وبدأ الشد من الناحيتين … إلا أنه استمر في عناده … ويبدو أن الفسخ كان شديدًا … انكسر الحوض … وكانت نهايته …

سكت العقيد … وطال صمته … إلا أنه لم يبد أي نوع من الانزعاج … صب له العميد كأسًا … ثم قدم له الجوزة … ومال علي أذنه هامسًا :

  • لو كان الأمر بيدي … لتركت الفيومي … حرًا … طليقًا .

المراد … واضح … هل كانت فرصة … وضاعت ؟؟

أم أن الأفضل … هو قطع الطريق … خطوة … خطوة … و … سيصل .

نظر إلي العميد سعد طويلاً … ثم استمر في ضرب الأنفاس .

                           (19)

    زكريا سالم

    من شباب الإخوان الذين اعتقلوا عام 1955 … في آخر تنظيم … كان الغرض منه هو جمع التبرعات لإعانة أسر آلاف المعتقلين … وهو من المحرمات الغليظة … فالثورة التي اعتقلت الرجال والشباب … باعتبارهم رجعية … معوقة لتقدمها … انتصرت عليهم … وخلاص … أما الأطفال والزوجات ومن يعولون … فهم خارج منهجها … وتفكيرها …

    زكريا … طالب في السنة الأولي من عامه الجامعي … لم يتم العشرين … عندما اقتحموا غرفة نومه ليستيقظ علي مدفع رشاش يحمله أحد الجنود … مصوب إلي رأسه … بعدها اقتادوه إلي السجن الحربي … لم يضربوه كثيرًا … سوي علقة التحية … والشاي ، المعتادة عند الاستقبال … و … عشرات الكرابيج عند التحقيق معه … لأنه وجد كل شيء قد تم كشفه … فكان – بلا فائدة – أن يستمر في إنكار دوره المتواضع في نشاط التنظيم … قدم للمحاكمة … حكم عليه بالسجن عشر سنوات … كان من الممكن أ ، يحكم عليه بخمس … أو حتى بالسجن مع إيقاف التنفيذ … حسب تسعيرة الأحكام حينئذ … لولا أنه استفز رئيس المحكمة – اللواء حتاتة – فلم يعترف بأنه مذنب … بل ارتكب أكبر الجرائم … عندما قال بأنه يحاكم ظلمًا … ثم كانت أم الجرائم عندما قال بأن كل هذا البطش لن يقضي علي الإخوان … المحكمة لم يكن بها إلا هيئة المحكمة من العسكريين … والحراسة … والمعتقلين الماثلين أمامها … يعني كلام في الهواء … لا صحافة … ولا تلفزيون … ولا حضور … القاعة … جدران … وكراسي فاضية … طيب لمن الكلام … يا زكريا … قال أنه سجل موقفًا … لن يضيع … ولكن الثمن الذي دفعه يومها … كاد أن يودي بحياته … ما فعله زكريا كان تجديفًا في زبانية السجن الحربي الذين لقنوه ما يجب قوله في المحكمة … كلمتين و … تقطع … أنا مذنب يا فندم … ولو أراد الزيادة … فليقل … يا فندم أنا طالب … الإخوان ضيعوا مستقبلي … غرروا بي … يا فندم … هذا هو المسموح به … وغير ذلك … ثمنه ما حدث له في تلك الليلة … حيث سقاه العساكر هو ومن كان يحاكم معه – طوال الليل … جميع صنوف العذاب المعروفة … إلي أن فقد الرؤيا … وأصبح جسده قطعة واحدة من اللحم المدمم … كان الضرب … غلاً … وحقدًا … وانتقامًا … وعبرة لكل من تسول له نفسه … بالخروج عن النص … وبعد عشر سنوات … لازالت آثار الجراح التي اندملت ظاهرة في ظهره وعلي بطنه … وفي أطرافه … وكأنها آثار لعشرات العمليات الجراحية … !!

    صدر الحكم … وتم ترحيله إلي السجون المدنية … للتنفيذ .

    في أول زيارة له في السجن … حضرت أمه … ومن خلال شهقاتها ودموعها … قالت :

  • بنت خالتك …

قاطعها :

  • لا تكملي حديثك … لقد قرر أن أعطها حريتها .

عز عليها … فالأم … أم … وهي خالة البنت ..ز أحلامها كانت بلا حدود … كانت تقول … دائمًا … فولة وانقسمت نصفين … زكريا … وهالة … خطبتها له خوفًا من أن يخطفها – غراب البين – … واحد غريب … مع أن مشوار زكريا في التعليم كان قد بدأ للتو ولكن … آه … وآه من تصاريف القدر … أختها … بنت أمها … شقيقتها … التي اقتسمت معها اللقمة … والهدمة … غدرت بها … حسبتها بسرعة … حتى ولو تم الإفراج عنه … فلا أمان مع من سلك الطريق ضد الحكومة … هل نحن قدها ؟ .. لا يا أختي كل واحد عقله في رأسه … يعرف خلاصه … نحن من سكة … وأنتم من سكة … لا زعل من الحق … أنت لا ترضين … ولا يخلصك يضيع مستقبل البنت …

الكلام كان جارحًا … و … يعني أن مستقبل زكريا … في الضياع … لماذا يا أختي تخلعين بهذه السرعة … حكم بالبتر … والقطع … رحمة الله واسعة يا أختي … أمره بين الكاف والنون … منذ أن مات زوجي … وأنا أرعي الأولاد … نشأ زكريا … قرة عين أمه … بارًا بها … معترفًا بكفاحها … تنظر إليه كأمل يكبر ويترعرع … وعندما دخل الجامعة بدأت في العد التنازلي … منتظرة يوم تجني الثمرة … يوم الحصول علي الشهادة الكبيرة … ليحمل عنها العبء … آه … ما أقسي الابتلاء يا ربي .

    أما هو فقد كانت صدمة … كان عقله يقول له أنه من الظلم أن تربط البنت مصيرها به … بعد أن أصبح مستقبله … وطريقه كله مخاطر … وكان في نيته أن يبدأ الخطوة الأولي … كان الأمل المتلاعب بقلبه … يرتفع … ثم يخبو … لعل … وعسي … و … لربما … وأخيرًا … هذا هو القرار … رده إلي الواقع بلا رحمة … ما أقسي أن يكون السجن قيدًا علي البدن … وثقلاً يجثم فوق القلب … والوجدان .

    السنين مرت … يا زكريا … أحلي أيام العمر … بين العشرين والثلاثين … سني النضج … والتفتح والفوران … تمضي بك … قاعدًا … نائمًا … وخطوات محدودة بين الزنزانة … ودورة المياه … و … طابور للمشي دقائق معدودة … ساعة العمر تدور … بطيئة … ثقيلة … رتيبة … ورغم ما في السجن من قيد وأحزان … إلا أنهم – وهم الظلمة المتحكمون – كانوا يقطعون انتظام عتمتها … بعتمة أشد … عقابًا … وتكديرًا … وحرمانًا من وسائل التخفيف – وهي قليلة ونادرة – هدفهم إطفاء مصدر النور في قلوبكم … و … إقلاق صبركم … كانت تقتلهم غيظًا ابتسامة رضا … رغم وجع القلوب … ومرح مبعثه استسلام لقضاء … وتفريغ مؤقت يعين علي محنة الابتلاء … وإحياء للأمل في فرج … مقدر … برحمة منه .

    الإخوان … معك … غالبيتهم في نفس سنك يا زكريا … تتشابه النشأة وإن اختلفت التفاصيل … كلهم ود … وتراحم … يجمعهم … مركب واحد … وعقيدة واحدة … وإن تباينت الأمزجة … والميول … شريط طويل … من الذكريات … أغلبها مر … وإن صبر عليه … ومعظمها بلاء … وإن تخفف بأنه قدر … وفي سبيل الله … وكلها توتر … وانقباض … يبسطه ذكر رب لا ينام … ولجوء إلي رحاب تتسع بالرحمة … ونور الأمل . ولأن لكل أجل كتاب … فقد جاءت النهاية … تم الإفراج عنه … بعد عشر سنوات كاملة … وربما زادت بضع ساعات .

    مع أول خطواته في الدنيا … أدرك أنه لم يفرج عنه … فقد خرج من السجن الصغير … إلي السجن الكبير … فقد كان عليه أن يواجه حالة أسرة متردية … وأن يرفع ما بقي من أمه … بعد ما مر بها من أزمات … ومجاهدة في تربية أولادها … فأصبحت هيكلاً ينخر في داخله مرض القلب … والسكري … لم يكن من سبيل أمامه إلا أن يقتل الأمل في استكمال تعليمه الجامعي … وأن يبدأ – علي الفور – في البحث عن باب الرزق … كان في سباق مع الزمن الذي اغتال عشر سنين من عمره …

    وأثناء سعيه … التقي الشيخ عبد الفتاح إسماعيل .

    رفيق زنزانة السجن الحربي … الذي افترق عنه بعد ترحيله … ظل الشيخ في الحربي معتقلاً بعد أن أفلت بأعجوبة من التحقيق معه … والمحاكمة … وبحيلة قد تكون ذكية … ولكنها في النهاية كانت قدرًا مكتوبًا … فقد كانت اعتقالات 1954 … عملية هوجاء … كان التركيز فيها علي سرعة اعتقال القيادات البارزة … وبالذات أعضاء النظام الخاص … أو ما كانوا يسمونه بالتنظيم السري … كانوا في سباق مع الزمن … يريدون ضرب الهيكل … وتمزيقه حتى يضمنوا عدم وجود رد فعل عنيف … قبضوا علي الخطرين في الأيام الأولي ووضعوهم في السجون الصغيرة بنظام يضمن استدعاؤهم عند التحقيق … أما الآلاف … من بقية الإخوان فكانوا يدفعون بهم إلي زنازين السجن الكبير … في أحيان كثيرة … بدون أتباع النظام المعتاد في تسجيل الأسماء مع أرقام الزنازين … هوجة … فرضتها ظروف الاعتقال الشعوائي … وقفًا لنظام الاشتباه … أحياناً بتقارير وتحريات … وأحيانًا أكثر ببلاغ من موتور … وجد الفرصة … أو شيخ الحارة … أراد التزلف إلي السلطة … كانت المهمة الأولي … عند زبانية السجن الحربي … هي الاستقبال للجميع … لأنها العين الحمراء أول ما يقابله المعتقل … ليكون كل ما بعدها علي بينة … ثم … يصبح التعذيب بعد ذلك عملاً روتينيًا … أو كما كانوا يقولون … ربكم عمل جهنم فوق … ونحن عملناها تحت … ولكن العذاب الشنيع … متعدد المراحل … كان يتم في الساحة الرئيسية أمام المكاتب … لكل من يرد ذكره في التحقيقات …

    وكان الاستدعاء يتم بالنداء علي الاسم – ليلاً … يكرره العساكر عدة مرات :

  • اخبط … علي الباب … يا ولد .

    الأوامر عند النداء … فورًا يقف المعتقل … ويضرب بقبضته علي الباب إلي أن يهتدوا إليه … فيسحبونه حافي القدمين … يسوقونه بالكرابيج أمامهم إلي الساحة … والويل … كل الويل … لمن يسمع النداء … ثم يتأخر في قرع الباب …

    نودي علي اسم الشيخ عبد الفتاح … في أحد الليالي وعندما هم بالوقوف … جذبه أحد الإخوة … فأجلسه … ووضع إصبعه علي فمه … إشارة إلي السكون … خاطر ما ألهمه … أن يستجيب … رباط علي عنقه … كرروا النداء … وهو يدعوا الله … النجاة … والثبات … وفي الليلة التالية أعادوا تكرار النداء … إلا أنه لم يتحرك … ولحكمة لا يعلمها إلا الله … أفلت … من التحقيق … والمحاكمة … بعد عامين من الاعتقال في السجن الحربي … أفرجوا عنه .

    كان لقاؤه بالشيخ عبد الفتاح … مجرد صدفة … هكذا بدا الأمر لزكريا … ولكن الأمر كان مختلفاً بالنسبة للشيخ الذي كان يسعى في طول البلاد وعرضها لتجميع الإخوان … وإعادة ربطهم بحبل العقيدة … خوفًا من ضياع أصل الشجرة وسط عواصف إلحاد الشيوعيون … وعلمانية القوميين … الذين تسللوا إلي وسائل الإعلام وسيطروا عليها … وحولوها إلي خلايا تزن دبابيرها … ليل نهار في الآذان … وتذهب بالأبصار … أملاً في ألا يرون … ويريدون … وتحول التلفزيون إلي كباريه مجاني … يفرض نفسه علي البيوت والشباب … مع خمود كل نوع من الاعتراض … فلا صوت … ولا مقاومة … ولا بم … الظلام حالك … مدلهم … والخوف زرع الجبن … والصمت هو الفضيلة المفضلة … أصبح شعارًا للنجاة … والسلامة … والناس تتناقل النكتة مثل المخدرات … رعبًا من صديق يحمل جهاز تسجيل … أو ابن يتجسس علي أبيه … وأخيه …

    الشيخ عبد الفتاح … الذي تلقي الدعوة من نبعها الصافي … كان يدرك بأن أرض الكنانة حبلي بأشبال ورجال من الإخوان … تتوهج فطرتهم بنور الإيمان … يرفضون الخضوع … والاستسلام لحكم الطاغوت … يملأهم العزم … والرغبة في التحدي … وعلي استعداد للتضحية … إذا وجدت الفرصة … كان يدرك أن عليه السعي … أما التوفيق … فهو من عند الله … وكان عليه – أيضًا – أن يكون سعيه حسيسًُا … وسط حقول الألغام … يعتمد علي بصيرة المؤمن … وروحًا مجندة … ستلتقي وتتآلف معه أرواحًا … تضع يدها في يده بيعة في سبيل الله .

    من شمال البلاد … إلي جنوبها … ومن شرقها … إلي غربها … إذا صلي الصبح في مكان … صلي الظهر في آخر … لا يحمل هم قدوم الليل … ولا أين يبيت … اللهم إلا مكان يضمن فيه قيام ليله … ساجدًا … قائمًا …

    لم يكن لقاؤه مع زكريا … إلا من تدبيره … فقد سعي لتقديم العزاء في قريب له مات … وكان متأكدًا من وجوده … فكان اللقاء …

    مال عليه وقال :

  • كيف حالك … وما فعل الله بك ؟

قال في هم :

  • مواجهة الحياة خارج السجن … أصعب منها داخله .

أطرق الشيخ … ومن أدري منه بذلك ؟ .. فهو يعلم أن المسجون الذي لا حول له ولا قوة … يعيش – خارج دنيا الناس – ميتًا مجردًا … مقيد الإرادة مشلول الحركة … غير مطالب بأي التزام … أما خارج السجن … فالحياة فاتحة فاهًا … طالبة المئونة … والزاد قال له الشيخ … مستدرجًا :

  • وما الذي يدور في رأسك ؟

قال في فتور :

  • سأفتح دكان للبقالة تحت منزلنا .

سكت الشيخ قليلاً :

  • البقالة ربحها قليل … ونموها بطئ … وستربطك بالمكان … والرزق يحب الخفية .

انتظر وقع كلماته … فلما رآه ساكنًا … استمر :

  • ما رأيك في التجارة … إن فيها تسعة أعشار الرزق كما يقول نبينا عليه الصلاة والسلام .
  • ولكن التجارة … في حاجة إلي رأس مال … ولست غريبًا … فالعين بصيرة … واليد قصيرة .

رد الشيخ مطمئنًا :

  • لا تهتم … سندبر لك كل شيء .

    الشيخ كان يعمل في تجارة الحبوب … وكان يدرك بأن الإخوان الخارجون من السجون … يواجهون مشاكل الحياة … تراكمت مع السنين … وأغلبهم بلا معين … ولا سند … فكان يسارع بمد العون لهم … معتبرًا ذلك جزءً من سعيه في إحياء الجماعة … وخطوة – لابد منها – قبل أن يفاتحهم الانضمام إلي التنظيم .

    كان عرضه الذي قدمه لزكريا … هو … أنه سيمده بالبضاعة من الحبوب أرزًا … أو قمحًا … أو فول … أو حتى علف الحيوان … وعندما يتم بيعها … كلها … أو جزء منها … يرد له ما تيسر من النقدية … وبالتالي يمده غيرها … وهكذا دارت الحركة … و … انتظمت … وكانت المعاملة تتم بينهما باللقاء المباشر أول الأمر … ثم بعد – اتساعها – وسرعة تنقل الشيخ عبد الفتاح … أصبح التواصل عن طريق خطابات يحملها ابن عمة زكريا سيد رجب ليس فيها أكثر … من بيان البضاعة … وحساب النقدية … الأحوال بدأت في التحسن يا زكريا … ويبدو أن الدنيا بدأت تبتسم لك … وأبواب الرزق انفرجت … بعد إغلاق … وصدود … إلا أن أخبار الاعتقالات … بدأت هي الأخرى تعكر الصفو … وتسوق غيومها … وتدق بالمطارق علي الأبواب صخيًا … مثيرًا للقلق … ومهيجة شجونًا لزمن ظننا أنه مضي … وانقضي … ولن يعود … ومما زاد الحيرة … والبلبلة … عدم وجود سبب واضح … لهذه الحملة … التي تركزت في المقام الأول علي المجموعة التي قضت مدة سجنها بالكامل … وخرجت منذ شهور … وهو بالطبع … واحد منهم … وظروفهم جميعًا متشابهة … الباحث عن حل مشاكله المادية … والغارق لأذنيه في ترميم بيت الزوجية والأولاد … والطالب الذي تخلف عن كليته عشر سنين … راجع … ليجد زميل الدراسة … قد أصبح أستاذًا عليه … والذي فقد أمه … وأبيه … وأصبح وحيدًا … قد أكل إخوته ميراثه … ونفضوا أيديهم منه …

    الاعتقالات التي بدأت … هادئة … انتقائية … ارتفع إيقاعها … وبدأ التوجس يأخذ بأنفاسه … في كل ساعة ترقب … كل طارق يثير هواجسه … كوابيس في الليل … ومسامير القلق تدق رأسه نهارًا … يا رب … ماذا فعلنا ؟؟ .. يا رب حكمتك … إنك لطيف لما تشاء .

    وجاءوا … كالعادة … قبل الفجر .

    طرقوا الباب … دخلوا … رجال المباحث … لا يحملون المدافع – هذه المرة – يتحركون في هدوء … استيقظت الوالدة فزعة … ما الذي يجري … أخبرها أحدهم … وهو يأخذ بيدها … ويغلق عليها باب حجرتها … لا تقلقي … شيء بسيط … ما هو هذا البسيط ؟ .. ولماذا هذا البسيط دائمًا من نصيبهم … ومادام هو بسيط … فلماذا لا يتركونهم في حالهم … سجن وسجنونا … وخراب … ودمرونا … ومرض … هد … حيلنا … تكومت … في جانب سريرها … فلم تسفها عافية متداعية علي فتح الباب … ومتابعة ما يجري … تجول الضابط في البيت … فليس فيه ما يدعو إلي التفتيش … والتنقيب … أثاث بسيط … ولا شيء مغلق … توقف أمام مكتبة بالية بها بعض الكتب الدينية … استلفت نظره خطاب حديث … فتحه … وما أن قرأ سطوره … حتى تغير لونه … ودبت في أوصاله المتكاسلة … حماسًا ألهبها .

    نادي علي زكريا … في عصبية :

  • أين مخزن الحبوب ؟

رد في هدوء … قلق :

  • تحت .

استمر في عصبيته :

  • افتحه فورًا .

جمع القوة … ثم نزل مسرعًا … اقتحم المخزن … هجموا علي جوالات الحبوب تقطيعًا بالسكاكين … أفرغوها أكوامًا … حتى امتلأ المكان بها … الأرز علي الفول … علي القمح … لم يتركوا جوالاً واحدًا . العصبية لازالت تسيطر علي الضابط … عندما خرج إلي الشارع وهو يتحدث مع قيادته بجهاز الاتصال … زكريا في حالة من عدم الاتزان … مروحة تأز وتدور داخل رأسه … علمته المحن والتجارب السوداء … أن يتماسك … و … المهم … ألا يسأل … لأن الإجابة لن تكون أبدًا شافية … ولا في مصلحته … جذبه الضابط بعنف … وقال :

  • من هو الشيخ عبد الفتاح … هذا ؟

قال زكريا … في هدوئه المصطنع :

  • عبد الفتاح عبد إسماعيل .

رد الضابط بسرعة :

  • الشيخ عبد الفتاح … من كفر البطيخ ؟
  • نعم … هو .

زادت عصبيته … أوشكت أن تصل إلي الهياج :

  • ومن هو سيد … هذا ؟
  • سيد رجب … جارنا … وابن عمتي .

مع إشارته نحو المنزل … اندفعت القوة مسرعة … وما هي إلا دقائق حتى كانت تدفع سيد رجب بملابسه الداخلية … بعد أن انتزعوه من سرير نومه … وتلقي به إلي داخل السيارة … وفي السيارة الأخرى دفعوا زكريا في داخلها … في الشباك كانت أمه قد أسندت ذقنها علي حافته … تشاهد ما يجري في الشارع … التقت عينها … بعينيه وهم يدفعونه للركوب … وكان آخر ما وقعت عليه عيناها … وداعًا … يا زكريا … وداعًا يا بني …

    سقطت فاقدة النطق .

رواية ليالي كرداسة الحلقة الثامنة المهندس أنور رياض

(14)

    توجه الرائد رياض إبراهيم في قوة عسكرية … طرق الباب … فتح له شاب في العشرينات .

  • مرسي مصطفي مرسي ؟؟
  • نعم .

الصفعة علي وجهه … دفعته إلي الخلف .

قال ساخرًا :

  • لا … مؤاخذة … ضيوف .

دخلوا … انتشروا يفتشون الغرف … ثم عزلوا الزوجة والأولاد في غرفة … أغلقوها عليهم … وجلسوا … أمامهم مرسي صامتًا .

قال له الرائد رياض :

  • أليس لديكم شاي للضيوف ؟

قال ذلك … فقام أحد العساكر … وتوجه إلي المطبخ … فتح الثلاجة … بدأ يختار … يضع في الأطباق ما يريد … والباقي يلقيه علي الأرض … حتى أفرغها تمامًا … وفي المطبخ … فعل الشيء نفسه … و … علي المنضدة … في الصالة … وضعوا الطعام … والشاي … وجلسوا يهرسون الطعام المنهوب … بأنياب … لا تعرف الرحمة .

الشيخ عبد الفتاح إسماعيل … يصحبه علي عشماوي … ومبارك عبد العظيم … في سباق … وقلق … يدفعهم إلي السعي لمعرفة آخر الأخبار … فقد كان مرسي مصطفي مرسي … هو الصلة بينهم وبين زينب الغزالي … وهي بدورها كانت حي حلقة اتصال مع المرشد المقيم في الإسكندرية بواسطة السيدة زوجته التي حضرت إلي القاهرة … عندما شعروا بحركة الاعتقالات .

دق الجرس .

انفتح الباب … طالعتهم الأخبار التي كانوا يهربون منها … المدافع مصوبة إلي رءوسهم … وقع الصيد الثمين … بضربة واحدة … ضربة حظ … باللاسلكي زف الخبر للعقيد … الآن يستطيع أن يعلن … النصر المبين .

في نفس الليلة … وعلي عكس محمد عواد تمامًا … اعترف علي عشماوي … بالتفصيل … وتفصيل التفصيل … لا صمود … ولا صبر … ووداعًا للثبات … وبعدًا لكل أدبيات الإخوة … عن الطاقة … والتحمل … والاستشهاد … في لحظة نسي … أو تناسي كل ما علمه عن السجن الحربي … لا فرق .

أين الحماس يا علي ؟ ! … موجود … ولكن المؤشر لف مائة وثمانية درجة … في الاتجاه المعاكس … أين الإخلاص … حاضر … لمواجهة أي إنكار … والإيقاع بالجميع .

لم يبق شيء لم يذكره … والذاكرة حديدية .

هل هو الحظ يا شمس ؟؟ .. يقولون أنه يأتي من دعاء الوالدين … للأبناء … ولكن بعض الأبناء لا يوافقهم الحظ إلا مع دعاء الوالدين … عليهم … ! ! ! الآن اتضحت الصورة … وانكشف هيكل التنظيم … ليبدأ الشغل .

       كرداسة .

    قرية ترقد في حضن هضبة الأهرام … غرب القاهرة … يومًا … ما … كانت تموج نشاطًا بشباب الإخوان … وكان من الطبيعي أن ينالها نصيب وافر من ضربة 1954 … والملاحقات البوليسية التي تبعتها لتمد عليها ظلاً كئيبًا من التوجس والخوف … فانسحب العلن إلي مكنون الصدور … وانطوت القلوب علي ما فيها من غيرة علي الدين … وعلي أمل كانت تمثله دعوة الإخوان في تنشأة الشباب علي الجدية … والخلق … والصدق … في هذا الجو … شب الرجال … الذين كانوا أشبالاً … وبراعم … رضعوا مبادىء الجماعة … فاستوطنت خلاياهم … وظلت – في شوق – تنتظر … يومًا الخلاص … و … عودة …

    الشمس تنحدر نحو الغرب … عندما توقفت – علي أطراف البلدة – ثلاث سيارات … ينزل منها ثمانية رجال … طول بعرض … فريق كاراتيه … يلبسون قمصانهم علي اللحم … فتنشف عضلاتهم … من الطبيعي – إذا ساروا – أن يدبوا علي الأرض في زهو … وغطرسة … قابلوا فلاحًا … سألوه عن منزل السيد نزيلي … في نجده أهل الريف … قادهم إلي الحارة … ثم إلي منزل مكون من طابقين … .

    فتح لهم الباب … أخوه الأصغر عبد الحميد .

  • هل سيد موجود ؟

لابد أنهم أصدقاء … جاءوا يباركون زواجه الذي تم منذ أيام … هم بالتأكيد ليسوا من أهل البلدة … و … نخوة أهل الريف .

  • أهلاً … وسهلاً … أتفضلوا … هو علي وصول .

أدخلهم غرفة المسافرين … بجوار الباب … ظلوا واقفين ينظرون حولهم … تردد عبد الحميد في لحظة شك … إلا أن واجب الضيافة دعاه إلي الذهاب لإحضار الشاي … و … كعك العرس …

قبل أن يتخطى عتبة الباب … شعر بأنه علق في الهواء … عندما خطفه أحدهم … ألقاه علي أحد الكراسي … وكمم فمه بيده … في حين انتشر بقية الرجال إلي داخل المنزل صعد ثلاثة منهم إلي الدور العلوي … حيث يسكن سيد مع عروسه التي لازالت تعيش نشوة الزواج … اقتحموا الباب … فوجئت بهم … صرخت :

  • من أنتم … ماذا تريدون ؟

أخرج أحدهم الطبنجة … وقال في حزم محذرًا :

  • إياك أن تصرخي … أين سيد ؟
  • من أنتم … وماذا تريدون ؟
  • نحن شرطة … ونريد سيد .

حاولت لملمت أعصابها المفككة … كان لديها خبر عن حركة شغالة للاعتقالات … أخبرها بها سيد هذا الصباح … ولكن بطريق مخففة … حتى تكون مستعدة لأي احتمال … حيث أنها نشأت في بيت اعتاد علي ( زيارات ) الشرطة بفظاظتها … فقد كان أخوها أحمد من الإخوان … زبون مرغوب … عليه العين … كانوا يأخذونه ليحل ضيفًا ( لديهم ) … أيامًا … قد تطول … وأحيانًا … لساعات … حسب الحنية … ودرجة حرارة الاشتياق … ولأن مزاج الحكومة … مزاج … متقلب … متعكر … فقد كان لا يصفوا إلا مع الفجر … والناس نيام … لذا كان هو الوقت المفضل لاقتحام شقتهم … ولا يتركونها إلا بعد أن يصبح كل شيء … وكأنها زاوية في سوق الجمعة تناولتها أيدي الزوار رميًا … وتقليبًا … عن أي شيء يبحثون ؟؟ .. الأوراق … الكتب … حتى كتبها المدرسية … ولكن في كل مرة – رغم سابق الخبرة وحرصهم – فإنه كانت تختفي بعض المبالغ المالية … علي قلتها … وأيضًا حسب المقسوم .

ردت علي السؤال … ورعدة لا تزال تسري في جسدها .

  • سيد … ليس موجوداً .

لم ينتظروا إجابتها … انتشروا في الغرف … يقلبون كل شيء … وينثرون علي الأرض … يفتحون الأدراج … وإذا اقتضي الأمر … عنوة وكسرًا …

انتبهت فجأة إلي أن شبكتها الذهبية في أحد الأدراج … همت أن تأخذها … إلا أن أحدهم صادرها .

قال في غلظة :

  • سنثبت ذلك في محضر التفتيش .

أي محضر تفتيش ؟؟ .. ومن أنتم أصلاً … من خبرتها السابقة … آثرت السكوت … فلم تكن مستعدة لتدفع ثمن اعتراضها … جمعوا الكتب … والأوراق … توجهوا إلي الباب … ظنت أن الحفلة قد انتهت … حين شدها أحدهم من ذراعها … وساقها أمامه … وسار الموكب وسط حواري القرية … وشوارعها .

المشهد الذي رآه أهل القرية … عبارة عن ثماني رجال … يدبون علي الأرض … وهم في حالة استنفار وتأهب … ويسوقون صبيًا … وامرأة … الصبي هو … عبد الحميد نزيلي … والمرأة … هي عروس سيد نزيلي … في ملابس البيت … مكشوف شعرها … تتعثر في مشيتها … وهم يدفعونها لتنتظم في خطوتها هلي مشيهم السريع … وقد هرب الدم … فبدا وجهها باهتًا … أما الصبي فقد كان يتململ ويتعثر … محاولاً الإفلات من القبضة التي تملأ كل قفاه …

صاح أحدهم … وهو يقذف الموكب بأول حجر :

  • حرامية … حرامية

وكأنهم … كانوا ينتظرون هذه الإشارة … أهل الريف أهل فزع ونجدة … توالي قذف الطوب … والحجارة … من التجمعات التي بدأت في حصارهم .

أخرج أحدهم طبنجته … وأطلق عدة أعيرة من النار … صوت إطلاق النار … أحدث هرجًا … ومرجًا … بين هروب الخائفين … وقدوم الآخرين لاستطلاع الأمر … و … حدث الالتحام … ودار الضرب … باليد … والطوب … و … العصي .

افلتوا الزوجة إلي بيتها … أما عبد الحميد فطار إلي نقطة الشرطة .

    نقطة كرداسة … علي الجدار الخارجي … كتب خطاط ( أُمَّي ) … الحروف كبيرة … اللون أزرق … فوق طلاء من الجير الأبيض .

( الشرطة في خدمة الشعب )

الشاويش عبد الحكيم … النوبتجي … يجلس خلف منضدة خشبية … تاريخها الأثري يقول … أنها كانت مطلية يومًا ما … حروفها متعضضة … التي غيرت لون الأحوال … وهو يشكو من حاله … ومن عرق الأيدي المتسخة التي غيرت لون صفحاته ,,, وتهرأت من كثرة التقليب فيها .

الشاويش عبد الحكيم حضر للتو من قريته المجاورة … وكعادته من سنين يبدأ – عمله – بأن يفتح منديله … ويخرج منه رصَّة الخبز الفلاحي المرحرح … يضعه علي الطاولة … ومعه طبق المش … وبجواره البصل الأخضر وعيدان الفجل … ثم يبدأ باسم الله ليحشو من فتحة فمه المتسعة عن آخرها … كتل الخبز المغموسة من المش … ثم يلحقها بعيدان الفجل … أما قطع البصل فإنه يدسها بإصبعه داخل هذا الزحام لتنال نصيبها من طحن أسنانه …

اندفع الصبي … إلي داخل النقطة وهو يصيح .

  • حرامية … حرامية يا شاويش عبد الحكيم .

لم يهتز الشاويش … خرجت كلماته بعد أن تسللت من خلال لغده الممتليء .

  • حرامية … أين … يا ولد ؟؟

استمر الصبي في الصياح :

  • خطفوا زوجة أخي سيد … والبلد مقلوبة .

الشاويش يعمل في هذه المنطقة منذ سنين … البلد غاية في الهدوء … حتى العداوة التي كانت بين أكبر عائلتين تتنافسان علي العمودية … زالت بمجرد انضمام الشباب من الطرفين للإخوان … فسرت روح جديدة داخل القرية … ود … تزاور … إيثار … منذ ذلك الحين … أصبح دوار العمدة هو المكان المفضل لحل التنازع والخصام … وأصبحت النقطة – واقعيًا – خارج الخدمة …

صياح الصبي … ومنظر وجهه المحتقن … وآثار الكدمات عليه … واحمرار قفاه … وملابسه الممزقة … تشير كلها إلي حدث ما … مظاهر تضفي الصدق علي هلع الصبي … قام في همة ثقيلة … وهو يجمع ما تبقي من طعامه … ويصرها داخل المنديل .

  • هه … نؤجل الأكل .

سار مع الصبي … حتى انتهي إلي مكان جرن متسع … شاهد الساحة وقد امتلأت بقطع الطوب والحجارة المتناثرة … أزاح تجمع الناس دفعًا … حتى انتهي إلي أحد الرجال … ملقي علي الأرض … فاقد الوعي … وقد انتفخ وجهه … وتقطعت ثيابه … وجرح في رأسه عليه آثار دم متجلط .

  • أين بقية الرجال ؟

صاح أحدهم منفعلً :

  • هربوا … من هنا … يا شاويش .. والست رجعت بيتها .

انحني الشاويش عبد الحكيم … أخرج من جيب الرجل تحقيق الشخصية … عندما فتحه … وشاهد الصورة في ملابس ضابط الشرطة العسكرية … لم يملك إلا أن يصيح مولولً :

  • خربتي … يا كرداسة .

جري نحو النقطة … ليبلغ بالمصيبة … ويطلب سيارة إسعاف … ولكن الرجال السبعة كانوا أسرع في الاتصال بقيادتهم .

تفرق الناس علي صيحة الشاويش … في حيرة من سبب انزعاجه … أقفرت قعدة المصاطب حول الجرن … لم يكملوا واجب العزاء … الشباب الجالسون علي المقهى … في مدخل البلد … تناولوا الحادث بالتعليق . قال أحدهم في تحدي :

  • شرطة عسكرية … أو من الجن الأزرق … النساء عندنا لهم حرمة … يا جدع … اسمها حرمة … لماذا يخطفونها ؟؟ .. ماذا فعلت ؟ .. ماذا جنت ؟ ..

قال الثاني مؤيدًا :

  • هل كانوا يظنون أن البلد خلت من الرجال … وهم يقودونها أمامهم ؟؟

قال آخر … وقد تجرأ … فانفتح منخاره وهو يقول في حماس وفخر :

  • لقد خلصتها من يدهم … عندما ضربت الرجل الطويل مقص … فاندلق علي الأرض لا يحط منطقًا .

قال الأستاذ جلال المدرس :

  • ماذا ينتظرون منا … وقد دخلوا البلد … لا احم … ولا دستور … هل كانوا يظنون أننا نخاف من ضرب النار .

بدأ الليل يزحف في سكون مريب . الحركة تذيل … دبيب الأرجل أوشك أن يتوقف في الطرقات … هكذا الحال في الريف ليلاً … لا تسمع فيه إلا نباح الكلاب … هنا … أو … هناك .

شق السكون … من بعيد … صوت الهدير يقترب … صوت الجنازير وهي تحرث الأرض … وعجلات السيارات بقسوته .

الشرطة العسكرية في طابور … تشكيل قتالي … الجنود في لبس الميدان … يحملون المدافع … العلامات الحمراء الفاقعة تميزهم عن بقية الجنود … المدرعات تفرم كل ما يقع تحتها … وتهز البيوت المبنية من الطين … وتتجه نحو التقاطعات لتتمركز فيها … وتصوب مدافعها في كل اتجاه … أما مداخل القرية … فقد سدتها الدبابات الثقيلة … في حصار محكم .

بعض جنود الشرطة العسكرية … قفزوا من سياراتهم … عندما شاهدوا الشباب في المقهى … لم يدم الأمر طويلاً … حتى صار كل شيء خرابًا … الكراسي … المناضد … أدوات صنع الشاي … والقهوة … الصواني … والزجاجات … والأكواب … اختلطت حطامًا … أما الشباب … فحاصروهم … ومنعهم من الفرار … واستمر الضرب بأرجل الكراسي … والمناضد … حتى قطعوا النفس … ثم ربطوهم جميعًا في حبل واحد … وساقوهم إلي حوش المدرسة … والتي اختاروها مقرًا محكم المداخل لتجميع كل من ألجأته الضرورة لترك بيته في هذه الليلة السوداء … ويقع سيرًا في قبضة القوة الغازية …

لم يكن الأمر في حاجة إلي إعلان … إلا أن الميكروفونات ظلت تنعق بالأمر العسكري … ينادي … بحظر التجوال … كل من يخرج من بيته … كل من يطل من شباك … كل من تسول له نفسه النظر من ثقب … سيطلق عليه النار … بلا تحذير … أو … إنذار . تبع ذلك بتسليط الأنوار الكاشفة تمسح جدران البيوت وتخترق ظلام الطرقات … ويسهم ضوءها الشديد في تكريس جو الذعر … والإرهاب . علي باب دوار العمدة … وقفت سيارات الشرطة العسكرية … قفز الضابط … وخلفه العساكر … صوبوا مدافعهم علي البيت … ونادي علي العمدة … تلقفه عسكري بكعب بندقية في صدره صائحًا :

  • اجري … حافي .

الرجل … المحترم … يوقره جميع أهل القرية … لم يهضم الأمر … رغم قسوة الضربة … تلكأ قليلاً … قبل أن يشعر بأن أحد ضلوعه كاد أن ينكسر عندما عاجلته ضربة أخري .

  • أجري … يا … ولد .

ولد ؟؟ .. العمدة يجري … حافي القدمين … ممثل السلطة … والحكومة يهان … كان أخوه يجري خلفه … في حالة توهان … هل ما يراه ويسمعه … حقيقة ؟؟ .. حلم … ؟؟ كابوس ؟؟ .. علم … فيه … إيه ؟؟

عند مدخل المدرسة … كان العقيد واقفًا … تحيط به الرتب … ووزير الداخلية المغضوب عليه … بجوار السور وقف كل من ألقي القبض عليه … الوجه بالحائط … والتعليمات … لا حركة … حتى الناموسة … يمنع هشها … والعقاب … حاضر … العصي … والكرابيج تؤدي مهمتها بحماس … وفي أحيان كثيرة كان الضرب … بلا سبب … ربما .. كنوع من التسخين … وشغل الوقت … سأل العقيد :

  • أين شاويش النقطة ؟

حضر … مهرولاً … رفع يده بالتحية … قابلها العقيد بشلوت هائل من قدمه … انتزعه من الأرض … وأطاح به واقعًا .

  • كنت فين يا بن الكلب … عند الاعتداء علي رجال الشرطة العسكرية ؟

توجه إلي وزير الداخلية … مؤنبًا .

  • هل هذا الـ ( …. ) من الرجال … الذين يحرسون أمن البلد .

توجه إلي العمدة … يده في جيبه … خاطبه في عنهجية … فأر في مصيدة

  • رجالي … يضربون في بلدكم .

قبل أن يرد العمدة … أنغرس كعب البندقية بين ضلوعه . استدعي أنفاسه الهاربة .

  • يا باشا … لم يخطرني أحد بقدومهم .

قال في غطرسة :

  • وهل نحن في حاجة إلي إخطار أحد ؟

قال أخوه … مشفقًا … محاولاً تخفيف الضغط عليه .

  • يا باشا … نحن دائمًا … في خدمة الحكومة .

صفعته نظرته … انقض عليه الجنود … طرحوه أرضًا … برك علي صدره … شحط في ثياب جندي … أصبح وجهه هدفًا سهلاً … يتأرجح يمينًا … ويسارًا … علي وقع الصفعات … يكيلها له … بكف غليظ .

  • قف … من أنت ؟

سحبه الجندي … من ثيابه … وقف .

  • أنا … أخوه … يا باشا .
  • تقدم … ابصق في وجهه .

هرب اللعاب … من فمه … جف حلقه … عشرات الأصوات تحاصره … ومعها انهال الضرب .

  • أبصق عليه … أبصق … يا بن الـ ( …. ) .

نظر إليه العمدة منكسرًا … قرب وجهه من فمه .

  • أبصق يا يوسف … أبصق يا أخي .

خرج الهواء من فمه مع الرذاذ الذي جمعه بصعوبة .

أنحبس اللعاب … إلا أن الدموع التي هربت من الخوف الأول … فاضت الآن … فانهار يبكي … شجاعته … الخائرة .

استمر العقيد :

  • أنت عمدة البلد … المسئول عن الأمن … تركت الرجعيين يدبرون المؤامرات ضد الثورة .
  • يا باشا .

لطمه العسكري علي فكه … أنحبس صوته … تدحرجت عيناه في محجريها … خطف برق اللطمة بصره .

  • كرداسة … وكر الإخوان … أنا لدي كارت بلانش لحرقها … لا يوجد من يتحدى الثورة .

    امتلأ فناء المدرسة بأسري الحرب من أهل القرية … قبضوا عليهم أفواجًا … أفواجًا … كل فوج قيدوه في حبل واحد … النساء مع الرجال … الشيوخ مع الأطفال … وكل حبل يسحبه عسكري واحد … كأنه قاطرة تجر قطارًا من الحيوانات … أو كأنها صورة من صور الماضي البعيد … عندما كان العبيد يساقون إلي سوق النخاسة … الكرابيج تلسعهم وتكويهم … وتقودهم إلي الحريق الذي أشعلوه في مقر التعليم … وتربية الرجال … علي حب الوطن … ولم يكن هناك أي تعارض … فإن الأدب فضلوه عن العلم !!!

في الفجر كدسوهم في السيارات … إلي … السجن الحربي … إلي محرقة حمزة البسيوني … في دقائق … كانت السيارات تفرغ حمولتها ممن كانوا يومًا ما … من البشر … و … كيفما اتفق … قفزًا … و … دفعًا … وكركبة … ليجد الجميع أنفسهم واقفون داخل كردون من العساكر المدججين … بالكرابيج … خبرة في إحكام الحصار … وخارج الدائرة كتيبة من الكلاب … من فصيلة الذئاب … تتوثب … وتزمجر … في وحشية مرعبة … و … بدأ … الشغل .

    الاستقبال … والتحية … واجب الضيافة … الشاي … والقهوة … و … بيتك ومطرحك … و … نورت … إحنا زارنا النبي … تذوق هذا الكرباج … ما رأيك في هذه اللدغة ؟؟ .. نحن محترفون … فنانون … نشانجيه … هل تفضل هذه الكربجة علي الأذن … أم علي الجبهة … إذا كنت تريد أن يكون الضرب علي الظهر فنحن نقدم معه خدمة التشريح … وأيضًا خدمة التخطيط … الضربات ترسم خطوطها بالتوازي … بالعرض … شق … بجوار شق … ثم تعود لتملأ مساحة الظهر بخطوط رأسية … ثم تختم بالخطوط المائلة ليصبح الظهر في النهاية ( كاروه ) … في شكل هندسي … أو تحوله إلي لوحة سيريالية بألوان الدم … الثلاثة … الأحمر نزيفًا … والأزرق للكدمات … والأسود في اليوم التالي . الضرب في الاستجوابات أو التحقيق … يخضع لتوجيهات الضباط … ومع إشارات متفق عليها … اضرب … اترك … استخدم التعليق … هات الخازوق … الكهرباء … أما ضرب الاستقبال … فهو ضرب تأديب … يقوده صفوت الروبي … يخضع للمزاج … والرغبة بالاستمتاع … وزادت حرارته بوقوف … سيادة اللواء حمزة البسيوني … يرقب … ويهز رأسه راضيًا … بالتنوع في العذاب … والانتقال من مرحلة إلي أخري وفقًا للبرنامج .

    صاح صفوت :

  • كله يرقد .

العساكر مبرمجون … فاهمين … دارسين … هجموا علي الرجال يدفعونهم علي وجوههم .

  • ارقد يا بن الكلب … ارقد يا ولد … ارقد .

صاح الروبي … وهو يفرقع بالكرباج … لقطيع البشر …

  • كل امرأة … تركب زوجها … حماري …

اختلط الصراخ … عم الذعر … الكرابيج تهوي علي أجساد الحريم … الغضة … مع الألم … قفزت النساء علي الظهور الممددة أمامها …

    زوجة شيخ الغفر … وقفت حائرة … كيف تتسلق ظهر زوجها … وهي حامل … وعلي وشك الولادة … دفعها أحد العساكر … وقفت فوق ظهره … تلقاها بيده … ثم … حملها … وهي لا تكاد تستقر … نظرًا لانتفاخ بطنها واصطدامه بالظهر …

    واجه الروبي … مشكلة … عدد النساء أقل من عدد الرجال … كان عليه أن يجد حلاً … بسرعة … وإلا سقط العرض … أمام سيادة اللواء .

    صاح : كل رجل … يركب الثاني … بالترتيب … حماري … يا ولاد الكلب والآن حان وقت الإثارة .

    صاح بالأمر : للأمام … مارش .

    الرجال تجثو علي الأيدي والأرجل … وفوق ظهر كل منهم زوجته … وأيضًا الرجال يحملون رجالاً … المرأة الحامل … وقعت … فقدت اتزانها … فتلقفها الكرابيج . وبدأ الطابور يسير في دوائر … مع لسع الكرابيج … والصول في نشوة … واستمتاع

  • بسرعة … يا … حمير كرداسة .

توقف العرض … عندما صاح الروبي : انتباه … وقوف .

انزلقت الحمولة … من فوق الظهور … انتصبوا واقفين .

صاح : صفين … متقابلين .

ضغط علي زر … في لحظة … تحركت الكرابيج لتنظمهم في صفين … متقابلين … بعد أن خرجت النساء والأطفال … لانتهاء دورهم صاح صفوت :

  • أبصق علي من يقابلك .

انهالت الكرابيج علي الظهور … مساعدة في تحضير اللعاب … وقذفة من الأفواه إلي الوجوه … الأمر التالي كان : اصفع الوجه قصادك . مع التردد … كانت الكرابيج تستحثهم … وصوت العساكر يردد :

  • اصفع … اصفع … بشدة يابن الكلب … لا … لا … بشدة أكثر .

ثم جاءت فترة الاستراحة .

  • كله يقف انتباه … شد جسمك … ولا حركة .

سار بين الصفين … وكأنه يستعرض حرس الشرف … ثم توقف أمام العمدة … سأله :

  • اسمك ؟؟
  • علي .

أوشك طرف الكرباج أن يلحس عينه .

  • اسمك ؟؟

مخه يدور في فراغ … جسمه يأن … الألم هو إدراكه … ماذا يريد هذا الشيطان ؟؟

  • علي … علي .

مع توالي الكرابيج … أوضح مقصده .

  • من يدخل هنا … ينسي أنه كان يومًا رجلاً … يختار لنفسه اسم امرأة ضرب الكرابيج أليم … ولكن جرح الكرامة قاتل وضعوا هامتك في الطين … تهروك … هل تبكي يا عمدة ؟ .. هل تبكي عزًا … يذله هذا الصول … الذي حكموه فيك ؟؟ .. كم يساوي لو عرضوه في سوق الخميس … ربما رضي أحدهم أن يستأجره بكيلة ذرة … وهل ترض أن يعمل عندك في الزريبة … كلافًا للبهائم … وهل كنت تتركه في خدمتك … لو ضرب حمارًا … أو … أهان جاموسة … العمدة التي اهتزت له الشوارب … وسعت له الحكومة … هل هذه هي الحكومة التي خدمتها … أين شعارات الحرية … والكرامة … والعدالة … التي كان يطلقها عبد الناصر … فتلتهب الأكف تصفيقًا …

وترعد الحناجر … هتافًَا … عبد الناصر كان يتباهى بأنه تابع الشعب … فالشعب هو القائد … وهو المعلم … يشعر بمشاكله … ويحس بنبضه … فقد انقطع نبضي … تعالي … يا زعيم … يا تابع … تعالي … تحسس نبضي …

أنا عمدة كرداسة … ممثل الدولة … أعلن أمام الشعب … شعب كرداسة … الذي تنازل … طواعية … واختيارًا عن قيادته لسيادة الصول صفوت الروبي … ويخضع بكل ارتياح … لتعليم معلم الأجيال … سيادة الكرباج … أعلن أنني قد أصبحت امرأة … اسمها سيدة .

أيها المواطنون … أيها المواطنون

  • أنا جمال عبد الناصر … زرعت فيكم العزة … زرعت فيكم الكرامة …

تصفيق … تصفيق

أيها المواطنون … أيها المواطنون

  • كلكم … كلكم … نسوان .

ليالي كرداسة الحلقة السابعة المهندس أنور رياض

(10)

    في بهو الشقة الفاخرة … تقدم شاب … فارع الطول … أسمر الوجه… لين القسمات … رفع يده بالتحية … ومع دقة الكعب … غاص حذاؤه أكثر في نسيج السجادة العجمي .

  • تمام يا أفندم … الراقصة وصلت .

نظر مبتسمًا في ود وقال :

  • بمفردها ؟
  • لا يا فندم … معاها السندريللا .

استمر في ابتسامته … غمز بعينه :

  • فقط ؟
  • الثالثة … بعد إذن سيادتك – حاجة خاصة بي … ملاكي … من أجل الورد يسقون العُلَّيق .

ارتفعت ضحكته وهو يشير إلي الباب :

  • خذ الملاكي إلي الشقة المجاورة …

قبل أن ينصرف … استوقفه مناديًا :

  • فريد … لا تنس المرور علي الحراسة تحت … اطلب لهم عشاء من الكبابجي … مع الحلو والفاكهة … ابسطهم … أما أنت فهديتك عندي … زجاجة ويسكي واردة من باريس اليوم .

التحية – هذه المرة … هزت – في حماس مدفوع الثمن – أرضية الشقة … قال وهو ينسحب بظهره :

  • شكرًا يا فندم … نحن غرقي خيرك .

كان يجلس علي شلتة … موضوعة علي الأرض … يستند بظهره إلي أخري علي الحائط … كان يلبس جلبابًا فضفاضًا عندما اقتربت منه الراقصة وهي تدق الأرض بكعبها … وترفع يدها بالتحية مقلدة تحية فريد :

  • تمام … يا حلو .

رسم ابتسامة علي وجهه … لم تعجبها

  • الحلو … ما له … مهموم ؟؟ .. ولا يهمك … حالاً يبدأ الدلع والشخلعة … عندي الدوا … والشفا … هيا يا سندريللا جهزي القعدة .

بدأت السندريللا تصب كئوس الويسكي … ثم تمد يدها إلي ( الجوزة ) وتمسك قطع الفحم المشتعل بالملقاط … ترصها فوق الدخان المعسل … تدس بينها قطعة الحشيش … حتى إذا استقرت مكانها … بدأت تجذب الأنفاس فيزداد وهج الفحم … ويخرج الدخان الأزرق من فمها وأنفها …

عندما اطمأنت إلي انتظام عملية احتراق الحشيش … ناولت الجوزة إلي الراقصة … التي جذبت عدة أنفاس . تقدمت … في حركة لولبية … وهي تضع مدخل الجوزة في فمها :

  • اتفضل يا باشا … بالشفا … هئ … هئ … هئ .

الشغل بدأ تجردت من ملابسها … ثم أدارت أسطوانة اللحن الراقص … سحبته من يده فقام واقفًا … لفت قميصها حول وسطه وهي تغنج :

  • ارقص … هز … يا باشا .

دق جرس الباب … لم ينزعج … نظر بحدة ليري فريد أمامه وهو يقول :

  • لا مؤاخذة يا فندم … العميد سعد يقول أن الأمر هام . لم يكمل كلامه … فقد أزاحه القادم … ليظهر جدار آدمي داكن الوجه … غائر القسمات …

قال دون أن يهتم بما يراه :

  • يبدو أن هناك تطور خطير في قضية حسين توفيق .

خلع القميص الملتف حول وسطه … سكب كأسه وهو يدفع العميد سعد أمامه إلي غرفة جانبية .

بدأت الراقصة في ارتداء ملابسها .. وتلملم حالها وهي تقول :

  • وكسة … ليلة نكد … هيا يا بنت نبحث عن شقة أخري نكمل فيها الليلة .

جلس مسترخيًا … في مواجهة العميد سعد .

  • خير يا سعد ؟
  • حسين توفيق … اعترف بأنه كان يريد قتل الرئيس بعد أن واجهناه بالجنايني الذي بلغ عنه … والذي اشتري له الطبنجة .
  • الجنايني الذي- كان يعمل لدي فيلا الأسرة في المعادي ؟؟
  • مضبوط …
  • ابن الـ ( ….. ) هذا … ظن أن الزمن يمكن أن يرجع إلي الوراء … قتل أمين عثمان عميل الاستعمار الإنجليزي … قلنا وطني غيور … هرب من السجن … انبهرنا بشجاعته … ذهب إلي سوريا فتآمر علي رئيسها الشيشكلي … فتدخل الريس وأنقذه من حبل المشنقة … ثم ساعده علي الهرب ورجع إلي مصر … وقام بتعيينه موظفًا في شركة بترول مع دخل محترم … وبدلاً من أن يشكر ويمتن ويحفظ الجميل … يسارع بالغدر … وبعض اليد التي أكرمته … ويتآمر علي قتل الرئيس … ويتآمر علي الثورة … يزايد علي وطنية الرئيس … من يكون وطنيًا إذًا ؟؟ .
  • يا فندم … الثورة لن ترحم أعداءها … لقد رأي في السجن الحربي أنيابها .
  • طبعًا … اعترف علي أعوانه .
  • ولكن … حدثت مفاجأة .

أنفاس الحشيش طارت … جفونه نصف المنسدلة علي عينه … انفتحت علي آخرها …

استمر العميد سعد :

  • عندما استجوبنا المهندس سامي عبد القادر زميل حسين توفيق عما إذا كانت له صلة بالإخوان … قال أنه يعرف واحد اسمه يوسف القرش من سنفا … محافظة الدقهلية … وأنه رأي عنده قنابل .

أصبح جسده مشدودًا علي آخره … رجعت إلي وجهه قسماته الحادة قال :

  • هل قبضتم عليه ؟؟
  • الشرطة العسكرية بقيادة الرائد رياض في طريقها إلي هناك … وأنا هناك في انتظار اتصال منهم … خلال نصف ساعة .

نصف ساعة … وقت معقول يناسب استئناف القعدة في الصالة … لازالت النار مشتعلة في الجوزة … وزجاجة الويسكي مع الكئوس … وضع العميد سعد جهاز اللاسلكي أمامه … وشرعًا في ضرب الأنفاس … مع رشفات من الويسكي .

عند أول إشارة من الجهاز … فتح العميد صمام الصوت ويصيح في حماس :

  • نعم … يا رياض .
  • تمام يا فندم … وجدنا قنبلتين من النوع المستخدم في الجيش .
  • وهل قبضتم علي القرش ؟
  • لم نجده … قبضنا علي أخوه … وثلاثين شخصًا اشتبهنا فيهم … وأخذنا مراة القرش رهينة .
  • والمعلومات الأولية ؟
  • القنابل سرقها من وحدته صول اسمه عبد اللطيف شاهين … باعها أخوه … فلاح اسمه سالم ليوسف القرش نظير علية سجاير … أما يوسف القرش … فقد أخبرنا أخوه بأنه موجود عندكم في القاهرة لدي شخص اسمه حبيب عثمان … وقد اتصلت بالسرية كي يرسلوا قوة للقبض عليهم …

علق في غيظ :

  • ابن الـ … كااا لب … يبيع قنبلتين بعلبة سجاير ؟؟ .. اذهب يا سعد … جهز السهرة … في السجن الحربي .

نهض العميد سعد واقفًا … وانصرف .

حسب الأقدمية … العميد يرأس العقيد … ولكن …

في الواقع … والسيطرة … وحسب قاعدة … السلطان لمن غلب … ولمن سبق … وجلس علي الكرسي فالعقيدة شمس هو الرئيس … بحكم منصبه كمدير لمكتب المشير .

    قعدة الجوزة … ومؤانسة الكاس شيء … وأصول المهنة شيء آخر … الخلط بينهم غير مأمون العواقب … يا ولدي … فهو يعلم من هو العقيد شمس … وما أدراك ما العقيد شمس … شيطان … تسلل … وتسلق … ومارس جميع أنواع الاكروبات … وألعاب الهواء … والليل … ولَبدَ في الذرة … حتى أصبح المسئول الأول عن الأمن … حظ ؟؟ .. أحيانًا … فهم الفولة ؟؟ .. نعم … إخلاص ؟؟ .. لمن ؟ .. خدام .. وتابع ؟؟ .. كمرحلة … نعم … ودرجة صعود علي السلم ؟؟ .. نعم … ذكاء ؟؟ .. إذ كان الشر ذكاءً … ألف نعم …

    تعلم أن ينام مثل الذئب … وإحدى عينيه مفتوحة … صاعق في غدره … استطاع أن يتسلل إلي قلب وعقل المشير الذي يدير عمله بعقلية العمدة الجالس علي المصطبة ، ولديه كتيبة من الخدم والحشم … يغدق عليهم ويفك عليهم أزماتهم فيتفانون في خدمته … والولاء له … استطاع العقيد بدهاء الفلاح المنوفى أن يصبح هو الباب … وهو المفتاح … تخلص من جميع منافسيه في المكتب .

    وآخر مجموعة … لازالت رهن الاعتقال في السجن الحربي … والتهمة – المعتادة – هي … قلب نظام الحكم … السكة مفتوحة … والطريق سالك … هو … وهو وحده علي الحجر … يرجع إليه في شغل المناصب القيادية … ولا يتم الحصول علي منحة أو هبة إلا من خلال أصابعه … كان يدرك هوس عبد الناصر … بتأمين نفسه … فكان عليه أن يقدم كل فترة مؤامرة لقلب نظام الحكم … أو محاولة تمرد فردية … أو خبصية … أو فضيحة جنسية … بالصوت والصورة لواحد من الذي عليهم العين تصلح لابتزازه وتركيعه … والأدوات ؟ .. معروفة … نشر الجواسيس … وأجهزت التنصت … والتصوير … وتجنيد كتائب الراقصات … وخبيرات أهل الفن … ويدعم لك كله السجن الحربي المجهز بكل المعدات وأدوات إخراج مكنون الصدور … وكشف المستور … والعمدة هو الكرباج … السوداني … المنقوع في الزيت المغلي … الذي علي الجسد يهوي … وعلي الرأس … يدور

شيطان الجن .

    شيطان الجن … رجيم … إبليس … الملعون … شغلته … مهمته … تزويق الخطيئة … و … تزيين المعصية … فنان في تسويق معدات خراب النفوس … وتدمير الوجدان … وسبيله إلي ذلك هو التحريض … الإثارة … اللعب في الدماغ … نظام وسوسة … ورغم ذلك فليس له سلطان … ولا أيدي يمسك بهما الزبون ويدفعه … أو يقوده إلي كبيرة أو ذنب … وكل ما يملكه هو منظومة الغواية التي تخل بعملية الاختيار بين الهداية والضلال … لذا كان كيده ضعيف … يصرفه عن الإنسان … استعاذه بالله منه … وذكر … وتقرب من الله .

    شياطين الإنس … أي نعم … هم التلاميذ الذين هضموا منهج إبليس الأب … ومارسوه باحتراف … إلا أنهم يملكون معه القدرة علي اللعب في الأجساد … وتكسير الرءوس والأطراف … وشرب الدم … وإزهاق الأرواح … ومصادرة الكرامة … والتضييق علي  الأرزاق … وتشتيت الأعوان … وتمزيق الروابط … وسفح آدمية البشر … ومنع كل حق منحه الله له … وبلغ جبروت مستوي الاحتراف في الاستعانة بكل من تشوهت فطرته … وشاع نفاقه … واستأصلوا ضميره … وتضخمت غرائزه لتقوده إلي أسفل سافلين . هي ثورة … ليس علي حجرها كبير … شعار عبد الناصر المثل الأسفل … أكل أصحابه … ورفاقه واحدًا … واحدًا … وثورًا أبيض بعد ثور أسود … جمع حوله كل الصغار … أصحاب الطموح … وكل من يضع كل شيء تحت قدمه ليرتفع عليها درجة في السلم … رباهم علي الغدر … وضع القاعدة … أما أن تكون غادرًا … أو … مغدورًا به … قاتل … أو مقتول دهسًا تحت الأقدام … والصرم … أطلقهم في سباق وتنافس … وصراع … هو الفائز في كل الأحوال … أو … هكذا يتصور …

    النموذج المقالي … لواحد من شياطين الإنس … هو هذا العقيد .

    والنموذج الخاسر في هذه الحلبة … هو عبد الرحمن مخيون .

    الذي كان زميل سلاح لعبد الناصر في حرب فلسطين … انضم إلي ضباط الانقلاب … كانوا يعقدون الاجتماعات في بيته في مرحلة التجهيزات الأولي … يعني … صداقة … وثقة … ظل مديرًا لمكتبه إلي عام 1961 … تسع سنوات يحفظ أسراره … وينفذ رغباته … بلغت الثقة أن أرسله إلي أمريكا بجواز سفر سري باسم مستعار … في بعثة ليدرس أساليب المخابرات … الذي جهز له جواز السفر … زكريا محيي الدين … تسعة أشهر … لا يخرج من مبني المخابرات الأمريكية … إخلاص … تفاني … عندما عاد … يري … ويسمع … ثم تكلم … خانه ذكاؤه … فارتكب المحظورات الثلاثة … نسي قواعد اللعب … صار بيدي ملاحظاته الشخصية علي تصرفات عبد الناصر … اختل إدراكه عندما ظن أن السنين لم تفعل فعلها … وأن زميل السلاح صار رئيسًا للدولة … ومضيف جماعة الانقلاب ظل مكانه ضابطا .. موظفا عنده … مسافة لم يحسن قياسها .. وكان لابد من تصفيته … بدأ بإطلاق شلوت قذفه إلي مخازن الكهنة … وهي عقوبة لو قدرها حق قدرها … لاعتبرها هبة … ونعمة … قياسًا علي ما حدث لغيره … لم يتركوه … تابعوه … لاحقوه … فاكتشفوا أنه يضمر الانتقام … ثم … أصدر منشورات يفضح فيها تصرفات زميل الأمس … وطاغية اليوم … ولعبوا معه … لعبتهم المكررة … دسوا عليه ضابط مخابرات … و … اصطادوه … وفي السجن الحربي … لا تشفع صرخة … يا أمي ارحميني

    وكانت واحدة من التهم الموجهة إليه هي :

    الاتصال بمخابرات أجنبية والسفر بجواز سفر مزور .

                           (11)

    بعد انصراف العميد سعد … جلس العقيد … أشعل سيجارة … انتظر لحظات … غارقًا في التفكير . توجه إلي التليفون … طلب رقمًا .

  • أنا … أفندم … نظرية سيادتك عن الإخوان لا تنزل الأرض … معلومات المخابرات وردت من الخارج … يبدو أنها صحيحة …
  • ما هو الجديد ؟
  • السنارة غمزت يا فندم … لدينا طرف خيط … سنبلغ سيادتك أولاً … بأول … عندما تتضح الصورة .
  • هذا ما توقعته … وأخبرت به الرئيس … الداخلية ليست علي المستوي … والمباحث نايمة في العسل … رجالنا … هما حماة البلد .
  • يا فندم … الشرطة جهاز مدني … لا يعرف الضبط والربط … علاج البوظان … هو عزل الوزير الشورطجي … ويحل محله من رجال سيادتك … وزير من المخابرات .
  • شد حيلك … وخلص … عندئذ لن يصبح أمام الرئيس إلا التسليم .
  • أنا عندي تفاؤل جامد … وستسمع أخبارًا طيبة … قريبًا جدًا .

مكتب وزير الداخلية عبد العظيم فهمي

يدخل اللواء زهدي … يقول مندهشًا

  • خير يا باشا … حضرت فجأة من الإسكندرية .

أشار بيده في كدر :

  • أوامر المشير … يا سيدي .

زاد فضوله :

  • كان من المفروض حضور معاليك … غدًا بعد مغادرة الرئيس إلي جده … والاطمئنان علي إجراءات الأمن .

استمر وكأنه يحدث نفسه :

  • أنا متأكد أن شمس اتصل الآن بالرئيس … وقال له أن وزير الداخلية ترك الإسكندرية … وقال له أن وزير الداخلية ترك الإسكندرية … وهي زاخرة بخلايا الإخوان المسلمين المتربصين لاغتيالك … والقضاء علي النظام … وحضر إلي القاهرة لغرض غامض .
  • التشكيك في كفاءة الشرطة … وولاءك .
  • هذا هو هدفهم .
  • ولكن لماذا طلب منك المشير العودة ؟
  • قال أن القاهرة كادت تقع في يد انقلاب ينظمه الإخوان المسلمون … والمخابرات أنقذت أعناقنا بأعجوبة من الشنق … وأنت ووزارة داخليتك نائمون في العسل .
  • وهل تقبل هذا الكلام ؟؟

قال في ثقة مهزوزة :

  • قلت له سيادتك تشير إلي تقارير ثبت أنها غير صحيحة … ولا توجد مؤامرة إخوانية … ولا حاجة … وأنا مسئول .

رد في غيظ :

  • وكمان بتكذب تقارير المخابرات … علي كل حال … تأخذ الطائرة إلي القاهرة الآن … ولنا بعد ذلك كلام .

قال زهدي :

  • هل كان يقصد التقارير التي جاءتهم من أمريكا وروسيا عن كتابات سيد قطب … وأخوه محمد … في مواضيع الجاهلية … والحاكمية … والكلام الفاضي المعروف لدينا ؟
  • نعم … ولكن كالعادة … الموساد هو الذي وراء مخابرات أمريكا … وروسيا يعملون من الحبة قبة … ويبدو أنهم صوروا البلد وكأنها في حالة ضياع … خاصة مع مشاكل حرب اليمن … وموقفنا الضعيف … مما دفع الرئيس للتنازل بالذهاب إلي الملك فيصل … الذي وصفه في إحدى خطبه بأنه ( …. ) السعودية … طبعًا الوضع الداخلي … نحن أدري به .
  • ولكن ليست هذه هي المرة الأولي لمثل هذه التقارير المضروبة … كان الريس يسألنا عنها … ويأخذ برأينا ولا يعيرها التفافًا .
  • يبدو لي . أنه قد يجدها فرصة … لأن يلعب بورقة الإخوان … الخروج من مأزقه الخارجي … والداخلي .

مضت فترة صمت طويلة … قطعها زهدي :

  • وما العمل … يا باشا ؟

لا يوجد سوي حل واحد .

  • ما العمل ؟ .. العمل أن نسير مع التيار … افتح القلعة … وأبو زعبل ولنضرب ضربات استكشافية … هه … لعل … وعسي

                           (12)

    حفلات الاستقبال في السجن الحربي … عرض مستمر … بابه مفتوح دائمًا … كلما ألقي فيه فوج … طلب المزيد … الرئيس لا يشعر بالاطمئنان … إذا خلا من زواره … وكأنه فندقًا يدر عليه دخلاً … الرئيس يركبه هاجس الثورة المضادة … ولا يفارقه أنه يومًا تآمر … ودبر … وتخفي … وتسلل … وبات يحلم ويجمع ويطرح … وِسْواس … لا يفارقه خوفًا بمن يتربص به … لم يتوقف لحظة عن تصفية من حوله … وضرب كل من شك فيه … دائمًا … وأبدًا … شعاره … الغداء به … قبل أن يتعشى بك … طابور طويل من الأعداء … والعداء … هل من المعقول ألا يدبر أحدهم مكيدة … أو حتى محاولة لأخذ بثأره .

    كل حين يتصل به شمس … ليبشره … بالعمار … وبعدد النزلاء … حتى أصبح شغله الشاغل … ولعبته التي أجادها … هو … إشباع قلقه … بالمزيد من القلق … حتى أصبح شمس هو المورد الوحيد لزبائن السجن الحربي … والسمسار المعتمد . وهو سعيد بالثقة … من القطبين … يلعب علي الحبلين … في ثبات … رجل المشير … نعم … لا يخفي ذلك … وما المشير إلا التائب … والرئيس … هو الرأس … حقق المعادلة … وجمع بين الصعبين …

    أصبح رجل المهمات … أسندوا له عملية تصفية بقايا الإقطاع … فسارت الركبان … بما فعله مع عائلة الفقى … وإعلانه قرية كمشيش … أرضًا مغلقة مستباحة لجنوده … فأطلقهم تتارًا يكتسحون الأخضر واليابس فاكتسب إلي خبراته … ما جعله أهلاً للتعامل مع الأمن المدني . وكانت قضية حسين توفيق … هي البداية … لفتح جديد .

    أهل سنفا … قذفوا بهم إلي السجن الحربي … في فترة – كان يمر فيها بحالة نادرة من الركود … العساكر في وضع استرخاء … قضية حسين توفيق … لم تأخذ من وقتهم الكثير … كرباج والثاني … صفعتين … وركلتين … و … كان الاعتراف … ودارت العجلة … عندما شاهدوا الجلاليب … تهل … وقطيع الفلاحين … وسمعوا اسم الإخوان … أدرك الزبانية أن أيام الشغل قد هب ريحها … وليالي النوم والكسل … قد ولت … وانتهت … و … أعلنوا حالة الاستنفار .

    بدأت المحرقة

    صوت يوسف القرش – سيء الحظ – أول ما تعرض لعاصفة الكرابيج التي اشتاقت إلي الدم .

  • يا رب … يا … رب .

يجاوبه صوت حبيب …

  • يا الله … يا الله .

وصراخ ثلاثون فلاحًا أخذوهم من الدار … إلي النار … يدورون في هلع … ورعب في دائرة أحكم حلقتها حاملو الكرابيج … يحرثون أجسادهم بشفراتها فيشقونها خطوطًا ينبع منها الدم .

قال العميد سعد :

  • تكلم يا قرش … أنت من الإخوان … ليس لديك فرصة للإنكار … من هم أعضاء أسرتك … وماذا كنت ستفعل بالقنابل ؟
  • إخوان ؟ .. أنا تركت الإخوان من زمان .

الضرب لم يتوقف … والحفل ساهر …

والإنكار صامد .

حضر شمس … قال في حسم :

  • ليس لدينا وقت … أحضروا زوجة القرش .

نادي ثور آدمي أسود الخلق … و … الخلق … وصار محرضًا :

  • أمام زوجها … أفعل فيها الفاحشة .

المتكلم هذه المرة هو حبيب … انهار … خارت قواه …

  • اتركوها … اتركوها … سأتكلم .

اعترف علي نقيب أسرته … مصطفي الخضيرى .

مكتب وزير الداخلية … في المقابل يجلس اللواء زهدي . الوزير يطلب تعليق مكالمات التليفون … يلتفت :

  • الريس اتصل بي من موسكو … يسأل عما لدي عن الإخوان … التقارير وصلته عن وجود تنظيم لهم … وطلب مني مساعدة المباحث والشرطة العسكرية .

ظل ساكنًا … استطرد الوزير في قلق :

  • يبدو أنهم اكتشفوا شيئًا … وأقنعوه بنقل ملف الإخوان إليهم .

قال زهدي … وقد أخذته المفاجأة :

  • يا فندم … أنا لا أصدق هذا الكلام … قد يكونوا قد اكتشفوا محاولة … أو حتى تجمعًا … هنا … أو هناك … يقرأون ( شوية ) قرآن … وكم حديث … ولكن الكلام الكبير عن تنظيم يهدد أمن البلد … فهذا كلام منفوخ فيه … لغرض في نفس أبو قردان … خاصة لوضعناه في إطار الصراع للسيطرة علي أجهزة الأمن … بين الريس … والمشير … سيادتك تذكر أن الريس أراد التخلص من المشير عقب انفصال سوريا … محملاً إياه مسئولية الفشل هناك … ولكن المشير عاد بما يشبه الانقلاب … وبسلطات أكبر … و …

قاطعه :

  • هذا موقف قديم … و … انتهي .
  • لا يا فندم … لم ينتهي … المشير أدري بصديقه … والحاشية حوله لا تأمن للريس أبدًا … بعضهم يلعب علي الحبلين … ولكنهم في الأول والنهاية … مصلحتهم مع المشير … لسبب بسيط … أنهم متأكدون من أنه – ليس من صفاته – الغدر برجاله … سيادتك نسيت … ظروف عودتك آخر مرة من إسكندرية .

قال مؤمنًا :

  • ليس هناك … أفضل من ورقة الإخوان … يلعب بها الجميع … الريس … قبل المشير .

استمر زهدي في تأكيد :

  • يا فندم الجماعة انتهت فعليًا … في ضربة 54 … سيادتك كنت محققًا في السجن الحربي … وكنا معك … المحاولات التي تمت بعد ذلك في مارس 1955 … كان تنظيمًا ماليًا … وتم تصفيته … وآخر مجموعة في يوليو 1955 كانوا مجموعة من العيال الطلبة … ولو كانت الظروف عادية … لكنا اكتفينا بعملية التأديب التي تمت … بدلاً من تقديمهم للمحاكمة … ومنذ ذلك الحين … لا حس … ولا خبر … متابعتنا مستمرة …
  • الوضع اختلف الآن … هناك أعداد كبيرة تم الإفراج عنهم .
  • يا فندم … هم أيضًا تحت نظرنا … وملاحقاتنا .
  • طيب ما هي أخبار القلعة … و … أبي زعبل ؟
  • قبضنا علي مجموعات … خاصة ممن قضوا مدة السجن بالكامل خمس سنوات وعشر سنوات … وكانوا يرفضون التأييد … و … اشتغلنا معهم … ولكن … النتائج سلبية .
  • أخشي أن يكون الضباط يعملون بلا حماس .
  • فعلاً يا فندم … البعض فقط … لأن متابعتهم الميدانية تقول أنه لا يوجد نشاط يهدد … وأن الحكاية كلها مفبركة لوضعهم تحت وصايا رجال المشير … وإهدار جهدهم … وكفاءتهم … خاصة بعد أن رأوا العقيد شمس … يزور القلعة … ويتدخل في التحقيق .
  • أنا لا أحب أن أسمع هذا الكلام … لابد من أن نؤدي واجبنا بصرف النظر عن أي شيء .
  • أنا موافق سيادتك … ولكن وجدت من واجبي أن أذكره لسيادتك … وأيضًا … وأنا لن أترك أي تقصير بدون حساب .
  • أريد تقارير كل ساعة عن الوضع … وأرجو أن يركز الضباط … علي أفكار سيد قطب … لأنها محور التقارير الواردة من الخارج .
  • نحن قبضنا علي محمد قطب … وسنقبض علي سيد أيضًا … حتى يرتاح الجميع منهم … تذكر سيادتك أنني اعترضت علي الإفراج عنه .

دخل مدير المكتب … مستأذنًا :

  • سكرتارية رئاسة الجمهورية علي التليفون … يا فندم .

رفع الوزير السماعة … كان وجهه يتلون مع ما يسمعه … وضع السماعة … في يأس … وقال … :

  • انتهي الأمر يا زهدي … الأوامر … اعتقال جميع الإخوان الليلة … الرئيس سيعلن ذلك من موسكو بعد إتمام العملية … أوامر لكل الفروع … إعلان الطواريء … استدعاء الإجازات … ترتيب القوات … والسيارات … استعينوا بالسيارات الأجرة وجهزوا الأقسام .

أدرك زهدي … أن أيامه هو والوزير أصبحت معدودة … لا … بل أن المصير قد يتحرك خلال ساعات … وربما لا يكمل فنجان قهوته في مكتبه . انفرط لسانه … فلم يكن هناك ما يدعو إلي الحذر .

قال :

  • أكثر من خمسين ألف … في ليلة واحدة … ما هذه الهستريا … ولماذا الإعلان من روسيا ؟

أضاف ساخرًا :

  • لعل السبب … هو أن جيوش الإخوان … ودباباتهم تتقدم … نحو القاهرة .

                           (13)

    أخبار الاعتقالات تتواتر …

    بعد محمد قطب … وتفتيش عشته في رأس البر … ومنزله في حلوان …

  • وحتى يبث الطمأنينة في نفوس أعضاء التنظيم … ويهديء من روعهم … قام الأستاذ سيد قطب إرسال احتجاج إلي إدارة المباحث … حملها ابن أخته إلي الضابط أحمد راسخ … الجو كان مختلفًا ومتوترًا بين رجال الداخلية … فكان من الطبيعة ألا يهتموا بها … بل … واعتقلوا الأستاذ سيد نفسه .

زارها الشيخ عبد الفتاح … وطلب من الحاجة زينب أن تتصل بالمرشد الموجود في الإسكندرية … فأرسل السيدة حرمه إلي القاهرة لتكون حلقة وصل بينهما … كما رتب الأخ مرسي مصطفي مرسي لينقل الأخبار بينه وبينها .

الشيخ عبد الفتاح نفسه اتصلوا به من البلد … وأخبروه بأنهم يبحثون عنه … وقد أخذوا أخاه رهينة … ولكنه لم يعلم بأنهم انتزعوا من علي عنوان الشيخ عبد الفتاح فايد … خطيب بنت الشيخ محمد عبد المقصود … الذي يسكن في المطرية … كواحد من الأماكن الذي يتردد عليها .

عندما اقتربت القوة المهاجمة من المنزل … كانت الألوان تتلألأ … والمعازيم … والإنس … فقد كانت ليلة زفاف العريس … الكرسي في الكلوب … أخذوه … مع نسيبه … إلي السجن الحربي … ليتم الزفاف الكبير … وتصبح الدخلة ليلة من ليالي العمر … التي لا يمكن نسيانها .

الشيخ فايد … العريس … كان هو الوليمة التالية لوحوش السجن الحربي … وبجوار صهره العجوز … لا يسمعان سوي أمر واحد

  • تكلم .
  • ثم سيل من السباب … مفتوح لا ينقطع … ينبع من أفواه المجاري … الشيخ العجوز … سقط من أول حذاء ميري يضرب ظهره … ثم تناولته الأرجل رفسًا … بينهم . أما الشيخ فايد … فبعد ساعة واحدة … كان جسده ورجليه ينزفان دمًا … تشقق الجلد … وتهتك اللحم شظايا علي أطراف الكرابيج أما الوجه … فلا أنف … ولا شفتين … ولا وجنات … ولا خطوط فاصلة … وإنما صار قطعة واحدة … منتفخة حتى العينين … طمسهما الورم و …

انكسر الصمود .

اعترف علي المجموعة التي كانت معه في مصيف رأس البر .

قبضوا علي محمود فخري … وبعد الاستقبال … والشاي … والقهوة … واسم أمك … واختر لنفسك اسم امرأة … والترحيب الحار … أرادوا اختصار الطريق … أحضروا له الشيخ فايد … محمولاً في بطانية … وقد تجلط الدم سوادًا في كل أنحاء جسده … تعرف علي وجهه بصعوبة … في لحظة … اختل فيها اتزانه … لقد قبضوا عليه باعتراف … وكان عليه أن يكون واحدًا من الحلقات … أو …

أسقط في يده … لا داعي لـ … أو … اعترف علي معسكر بلطيم … محمد عواد … وشقة مرسي مصطفي في إمبابة و … و … وبدأ الخيط … يكر .  

سمع محمد عواد طرقًا خفيفًا علي باب شقته … نظر من ثقب الباب ليجد مصطفي الخضيرى أمامه …

في شيء من الاضطراب قال :

  • اعتقلوا حبيب عثمان … مع يوسف القرش … ويبدو أن هناك اعترفات أخري … لأن الاعتقالات شغالة

سحبه عواد إلي داخل الشقة … قال :

  • سأجهز لك كوبًا من العصير … حتى تسترد أنفاسك … الحر شديد .

أمسك بذراعه يستوقفه :

  • أجلس … الوقت ضيق … لابد أن ندبر مكانًا نختفي فيه .
  • لا تشغل بالك بي … فنحن منذ أن دخلنا الدعوة … ونحن نعلم أن السجن هو مصير متوقع … وهو خلوة إلي الله .
  • يا أخ محمد … ولا تلقوا بأيديكم إلي التهلكة .
  • وهل نحن الذين سعينا … إلي التهلكة … إنما نحن في جهد صعب لكي نحافظ علي ديننا أمام هذا الطاغوت … ولا نريد منهم إلا حرية الدعوة إلي الله .

انقطع الحوار فجأة عندما سمعا هدير سيارات تقتحم الشارع وتتوقف فجأة … أطل عواد فرأي الشرطة العسكرية تنتشر … ووقف أحد الضباط أمام البقال … فيما يبدو ليستدل علي العنوان … أدرك أنه المقصود …

قال لحبيب :

  • سأشغلهم عنك … اهرب بسرعة … أنت أهم مني للجماعة .

قال عبارته … وهو يجري نحو الباب … واندفع إلي السلالم يطويها قفزًا … ومنها إلي الشارع .

صاح الضابط إلي الجنود : أمسكوه .

في لحظات كان مقيدًا … دفعوه داخل إحدى السيارات المندفعة إلي … المصير المحتوم .

بجوار العقيد شمس … كان يجلس اللواء حمزة البسيوني … والرائد حسن كفافي … والرائد رياض إبراهيم … وقف علي الباب … صفوت الروبي .

  • تمام يا فندم … محمد عواد .

 قال ذلك … وهو يدفعه من ظهره … وقع … منكفئًا علي وجهه تحت أقدامهم وضع حمزة البسيوني قدمه علي صدغه وأذنيه … وهو يضغط بكل ثقل جسده نظر إليه العقيد وقال : أهلاً .

تحول إلي الصول صفوت … وقال في لوم متفق عليه :

  • يا صفوت … التعليمات هي حضور المعتقل زاحفًا … أنا شايف أنه لا زال يتنفس نظر إلي عواد … وقال فجأة :
  • ما اسم أمك … يا ولد ؟

محمد عواد المدرس … والشاعر … يعرف الكثير من قصص السجن الحربي التي أصبحت جزءً من أدبيات الإخوات … السؤال لم يكن مفاجئًا … بل أن الموقف كله يتكرر … تمامًا … مثلما كان يتخيله .

رد في ثبات …

  • اسم أمي ليس عورة … وهي أم … مثل أمك التي ولدتك .
  • يا … ابن الكاااالب .

خرجت من أفواه الأربعة في نفس الوقت … تعليق جديد … ولا شك … لم يسمعوه من أحد المعتقلين … قبل هذا … إلا أن رد فعل صفوت الروبي … كان سريعًا … سحبه من قفاه … ومن حوله طقم الزبانية وقد استفزهم ثورة قائدهم … الهدف أصبح هو الانتقام

تمزقت ثيابه … أصبح الضرب علي اللحم … بعد أن تشققت طبقة الجلد … كلما شق الكرباج خطا تبعه الآخر بشق آخر أكبر … في نفس الموضع … وعندما تهوي الكرابيج بعد ذلك لا تجد سوي اللحم … فتمزقه قطعًا … تطير حوله ملوثة الدم … أهكذا الألم … كما كنت تتخيله ؟؟ .. وهل كانوا يحتملون هذا العذاب … كما تحتمله الآن … هل صبروا … وثبتوا …؟؟ كم مضي عليك يا عواد ؟ .. دقائق ؟؟ .. ساعات ؟؟ .. ليس للزمن قيمة … مادام العذاب بلا توقف .

  • مع من أنت الآن يا عواد ؟
  • أنا مع الرعيل الأول من الصحابة .
  • أين أنت يا محمد ؟
  • أنا في بطحاء مكة … وهذه الصحاري من حولي .
  • ولكنها تضاء بالكهرباء .
  • وهل هناك فرق … بين الحق والباطل .

هذا هو أبو جهل … وأمية بن خلف … وهؤلاء عبيدهم ولكن في لباس آخر

  • وماذا يستخدمون في تعذيبك يا عواد ؟؟
  • لا يهم … العذاب واحد … الألم هو الألم .
  • وكيف تتحمل هذه الآلام … وقد تجاوزت طاقة البشر ؟؟
  • أي ألم … أنها مثل شك الدبوس … أنا مع الله … أنا في الحضرة الإلهية … قريب … قريب … هل ترون ما أري … أنه العون الرباني … طاقة كلها نور تملأ كياني … هاتف يملأ أذني .

يا نار كوني بردًا … وسلامًا … علي إبراهيم … ( أبينا ) إبراهيم … جدنا … ليس لهم إلا هذا الهيكل … جسدي … فليفعلوا به ما شاءوا .

  • يا كفرة … يا كفار القرن العشرين … لن تنالوا مني .

بلغ الجنون مداه … زاد الضرب سعارًا … زاد تطاير اللحم … جمعه صفوت في كفه … حشا به فمه وهو يصرخ :

  • اخرس … يا ابن الكلب .

أغمي عليه … فقد الوعي .

سحبه صفوت … ألقاه في فسقية الماء … ركب فوق العسكري ( خروشوف ) … وظل يضغط رأسه داخل الماء …

خرج العقيد من مكتبه … سأل :

  • هل قطع النفس ؟

قال صفوت :

  • لا يافندم … مغمي عليه فقط .
  • خلاص … نكمل الليلة القادمة .

وضعه العساكر في بطانية … ساروا به إلي السجن … فتحوا الزنزانة … ثم ألقوه علي أرضها … و … أغلقوا باب الجب .

كم مضي عليه … الوقت هنا … لا قيمة له … الحياة نفسها … مهددة … وهي الوقت … ماذا كان يقول الشاعر يا محمد … إن الحياة دقائق … وثوان … وهي هنا كرابيج … وتحقير … وشتائم .

مع الإفاقة تحركت السكاكين المغروسة في لحمه المشرح … لهيب النار يشتعل عندما حاول الجلوس … مجرد الحركة … مد يده أو رجله … أو حتى إصبعه … ظن أن الضرب كان علي جسده فقط … وإنما طال إحدى عينيه طرف كرباج فتورمت … وانسدت تمامًا …

عجيب … إنه لم يكن يشعر بمثل هذا العذاب … عندما كانت الكرابيج تلهب جسده … أدرك أن ألم الجراح بعد الضرب تكون أشد وأبكي … بل هي العذاب الحقيقي … هيه … يا عواد … هذا هو السجن الحربي الذي حدثوك عنه … ورسمه خيالك … نفس الصورة … وإن اختلفت الوجوه التي تعاقبت عليه … وجه واحد قبيح … ظل كما هو … وجه الطاغية … أصل البلاء … وأساس النكبة … وآخر تابع له … لا … بل هو ديل الكلب … هو حمزة البسيوني … عدو الله … هه يا عواد … أنت تخوض التجربة … جسدًَا … وإحساسًا … وروحًا … الروح تحلق في عنان السماء … رغم أن الجسد منقوع في حمض ماء النار ماذا كنت تتمني يا عواد ؟

هل تذكر الحوار الذي دار يومًا مع الشيخ عبد الفتاح إسماعيل … عندما قال لك

  • لا تبتئس يا بن عواد ؟ .. فقد يمكن الله للمسلمين بنصره … وعندئذ ستصبح واحدًا من قادتهم

وكان ردك :

  • لم أبايع علي هذا الشيخ … وإنما بايعت علي أن أرمي برصاصة هنا … في رقبتي .

بايعت علي الشهادة … وحددت طريقها … طلقة من بندقية … موت سريع … ولكنك الآن … لا ميت … ولا حي … برزخ دنيوي … في … مقبرة السجن الحربي … آه … آه … صرخ صامتًا … عندما تحرك إصبعه … ماذا كنت تقول شعرًا يا عواد … ألم تنظم القصيد يتغنى به إخوانك … وينشر في المجلات … هل تذكر

         هتـف الشـهـيد بـعـزة وبـسـالـة                                   سـأخـوض أوراد الـردى مـتـقـدمـًا

         سـأزود عـن صـرح الكتـاب بـعزة                                   باسـم الإلـه أصـول لا باسـم الـحمـى

         وإذا الشـهـيد مـضـرج بـدمـائـه                                   لـمـح الخـلـود بقـلبـه فتـبـسـمــا

هذا شعر لفارس بن حرب … يواجه جيشًا في معركة حربية … يصول … ويجول … أنت الآن أعزل … لا حول … ولا قوة … بين أنياب شياطين لا تعرف الرحمة … إجرام حيواني يفتك بك … هل تستطيع الآن أن تنظم شعرًا … لا … لا … ليس هذا مقام الشعر … هذا مقام الذكر … فليكن ما يكون … قدر … و … نفذ … ملحمة كتبوها علينا … لا … لست أعزلاً … رغم العذاب … رغم اللهيب … رغم الألم … رغم الجسد الذي تفحم … فإن الروح … صامدة … صابرة … وبحول الله … وقوته … مدد … مدد … مدد يا الله … ما أحلي اسمك … يا كبير … يا كبير … ما أروع ذكرك … كلهم أقزام … ورب الكعبة … كلهم … كلهم … أقزام .

انفتح باب الزنزانة … اكتسح ضوء النهار عتمتها …

صاح العسكري … وهو يهجم عليه بالكرباج .

  • قف يا بن الـ … قف يا ولد … عظم … ارفع يدك بالتحية .

لم يتحرك … انتفض جسده مع لسع الكرباج … تقدم منه عسكري آخر يحمل في يده جردل … ومعه فرشاة …

  • اخلع قميصك .

القميص تمزق … التصقت بقاياه بجراحه … وجفت وتصلبت … حاول الوقوف … يا الله … ما هذا الوجع … يا معين … أعني … يا قوي … أخيرًا وقف يترنح … بدأ العسكري الممرض عمله بلا بنج … خلص شرائط القماش من اللحم … خرجت مع قطع من جلده ولحمه … لتترك وراءها دماء تنزف … الصمود يا عواد … الصبر ليس لك إلا الصبر … علي طريقة النقاشين كان العسكري الممرض يقوم بغمس الفرشة في الجردل … ثم يطلي جسده بالمطهر … و … خرج .

أغلقوا الباب … عاد الظلام … مع الظلم … ووحدته … هل هذا ما كنت تتصوره يا عواد … عن الخلوة مع الله … الواقع … نعم مختلف … أما الخلوة … لا … هي حقيقة … نعم حقيقة … النور الرباني يضئ ظلمتي … رضيت يا ربي بقضائك … و … تقر عيني بمشيئتك … ويقنع عقلي بحكمتك … إن لم يكن بك علي غضب … فلا أبالي … ما أطيب الذكر … أرطب به لساني . في سكون العتمة … كان لسانه يتحرك بما يحفظ من كتاب الله … للآيات طعم آخر … القرآن يتحرك … ينبض بالحياة … حياة تعرض له صبر الأنبياء … وابتلاء المرسلين … وإصرارهم … ثباتهم … وضوح الرؤية … والغاية .

مر الوقت … يتلو … ثم يغفو … يذكر … تأخذه سنة من نوم … يفيق منها علي أسياخ الألم مغروسة في لحمه … ترده إلي الواقع … نوم أشبه بالإغماء … إفاقة هي التوهان أخيرًا … فتحوا الباب … لا … لم يفتحوه … اقتحموه … وبالكرابيج .

  • اجري … يا ولد … اجري يا بن الـ … اجري .

ترنح واقفًا … أين قدميه … بل أين بصره … كل شيء أمامه يتراقص … المصابيح في حالة كسوف جزئي … الضوء في فناء السجن … ضوء حزين … ذهب عنه الوهج … فبهت … أصبح يميل إلي الاحمرار وكأن لون الدم … أو كأنه ينزف أشعة من دم … أشباح العساكر تتحرك في الأنحاء لا يدل عليها إلا فرقعة الكرابيج تهوي علي الظهور … مع أصوات الاستغاثة … هنا … وهناك ، تصدر حوله … صداها موحش .

دفعوه خارجًا فتهاوى علي الأرض … جذبه أحدهم ليقف … أحس بقبضته تعصر عنقه … فشلت المحاولة و … أخيرًا جروه فوق رمال الطريق … زحفًا … والكرابيج لا تتوقف … تنهش فيما تبقي من جسده … حتى وصل إلي ساحة التعذيب الرئيسية … أمام المكاتب … أسندوه واقفًا … قابله الضابط كفافي … صاح في العساكر .

  • اتركوه … أليس عندكم رحمة … هات الليمون المثلج يا عسكري .

وضع يده علي كتفه … انتفض جسده … عندما لمس جراحه .

  • يا عواد … أعقل … ودع نشوفية الدماغ … لا مكان للرحمة هنا … تكلم … لعبة … قديمة … مكشوفة … يا كفافي … خرج الكلام ممزقًا .
  • ليس عندي ما أقوله .
  • الجميع اعترفوا عليك … الإنكار لا يفيد .
  • –          …………..
  • ليس هذا وقت البطولة … تكلم .

ليتك تفهم أيها المغرور … نحن لا نسعى إلي بطولة … أو تسجيل مواقف … أنه الإيمان … ومواجهة الطغيان … أنه الصبر … طاقة وسعها الله علي … فلم لا أصمد … يا رب زدنى احتمالاً … وطاقة … ماذا قالوا لفرعون … وهو يصلبهم في جذوع النخل … ( قَالُواْ لَن نُؤْثِرَكَ عَلَي مَا جَاءَنَا مِنَ الَبيِنَاتِ وَالَذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَاَ أَنتَ قَاضٍ إِنَمَا تَقْضيِ هَذِهِ الَحَيَاةَ الَدُنَيَا ) … لكم الدنيا … أيها الكلاب … اقضوا فيها ما شئتم .

  • …. ……….
  • تكلم يا عواد … التنظيم يا عواد … ماذا كنتم تفعلون في معسكر بلطيم … ومن كان معك …

قال في إصرار … لا … لم يكن قولاً … وإنما كان ترتيلاً :

  • ( إِنّيِ نَذَرْتُ لِلرَّحَمنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلّمِ الَيّوْمَ إِنسِيّاً )  .

أدار له الضابط ظهره … الإشارة واضحة … انقضوا عليه … أصبح الضرب غلاًَّ … وهمجيًا … أثارهم إصراره علي الصمت … جن جنون صفوت الروبي … لم يخلق بعد من يرفض الكلام هنا … جسده أصبح مفتوحًا … مستباحًا … في أي مكان … وعلي أي عضو .

  • أين أنت الآن يا عودة ؟

كنت بالأمس في رمضاء مكة … ولكنك اليوم مع أصحاب الأخدود … يضعون المناشير في رءوسهم … ويشقونها … فلا يصرفهم عن دينهم … تمنين الموت برصاصة من بندقية … ويريد الله لك أن تموت … صبرًا … وتعذيبًا … لا اعتراض يا ربي …والرضا بقضائك … والصبر … صبر ساعة … ساعة واحدة … وتنال ما كنت ترجوه … لا فرق بين الرصاصة … والكرباج … كلاهما … أداة للقتل … وكلاهما يؤدي إلي جنة الخلد … مع محمد … وصحبه – مع البنا … وعبد القادر عودة وفرغلي … والطيب … ويوسف طلعت .

أغمي عليه … دفعه صفوت الروبي … وألقي به في الفسقية … وفوقه الثور الهائج العسكري خروشوف يدفن رأسه في الماء … تجلي الشيطان في ثياب الصول صفوت … ركل العسكري ليبعده … هذا العسكري أحقي من أن ينال هذا المجد … أمسك برأس ( الشهيد ) عواد يدقه في الحائط … إلي أن صعدت النفس المطمئنة إلي بارئها …

  • خلاص … يا فندم .

لم يرد الضابط كفافي … استدار ودخل المكتب … إنهم يعرفون ما يجب عليهم فعله … فقد فعلوه مرارًا .

جلس يشرب الليمون المثلج … رشفة … رشفة .

أيها المواطنون … ارفعوا رءوسكم … فقد مضي عهد الاستعمار ، أيها المواطنون … الأحرار ، أيها المواطنون … القومية العربية … حرية … وحدة … اشتراكية .

أيها المواطنون … ثورتنا … بيضاء .

… بيضاء … بلون الدم .