حين طُلب مني أن أتحدث عن أدب السجون تساءلت: ما الذي نعنيه بهذا المصطلح؟ هل نقصد به الأدب الذي كتبه سجناء أم الأدب الذي اتخذ من عالم السجن مادة له؟
هناك أدباء كتبوا نصوصاً عن السجن وعالمه، ولكنْ هناك سجناء لم يكونوا أدباء أصلا، ثم بسبب سجنهم شرعوا بكتابة نصوص أدبية. وعلينا ألا نغفل الأدباء السجناء –أي الذين جمعوا ما بين النوعين الأول والثاني.
ومن حق الدارس أن يتساءل عن الفرق بين الدوال الثلاثة: سجناء كتبوا أدباء، وأدباء كتبوا عن عالم السجن وما يمت له بصلة، وأدباء سجناء.
في النقد الأدبي يميز النقاد، وهم يدرسون النصوص، بين نصوص لها قيمة اجتماعية، وأخرى لها قيمة أدبية. هناك نصوص لها قيمة اجتماعية فقط، وهناك نصوص تكون لها قيمة أدبية فقط، وقد يقرأ المرء نصوصا تجمع ما بين القيمتين.
والسؤال الذي يثيره المرء حول السجناء الذين كتبوا أدبا هو: هل من قيمة أدبية لنصوصهم التي من المؤكد أن لها قيمة اجتماعية وثائقية. وقد لا يثير المرء هذا السؤال وهو يقرأ النصوص الأدبية التي يكتبها أدباء متمرسون، ولكنه في هذه المرة سيثير السؤال معكوسا: هل من قيمة اجتماعية وثائقية لنصوص هؤلاء الأدباء؟ هل تمتاز بطابع الصدق أو بحرارة التجربة التي تحفل بها نصوص السجناء؟
ومن المؤكد أن الأدباء الذين مروا بتجربة السجن سيحققون ما حققه السجناء الذين كتبوا نصوصا عن تجاربهم، وإذا ما كانوا أدباء متمرسين فستكون نصوصهم حققت القيمتين؛ الأدبية والاجتماعية.
وإذا ما أراد أن يدرس أدب السجن في فلسطين، فإنه لا شك سيثير السؤال التالي:
هل يستطيع الدارس أن يفصل بين الأديب الفلسطيني والسجين؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تعتمد على تعريفه لدال السجن؛ فإذا ما قصد بالسجن المفهوم المتداول له، فصل، وإذا فهم دال السجن بمعناه الواسع قال: إن الأدب الفلسطيني كلّه أدب سجون. وربما عمم فدرس الأدب العربي كله على أنه أدب سجون.
في قصيدته “في الحانة القديمة” يرى مظفر النواب أن العالم العربي كله سجون متلاصقة.
“فهذا الوطن الممتد من البحر إلى البحر
سجون متلاصقة
سجانّ يمسك سجان”
وفي إحدى مقطوعات “حالة حصار” لمحمود درويش يرى أن حصار الفلسطينيين في انتفاضة الأقصى ليس مقتصرا عليهم، فالعالم العربي أيضا محاصر:
“لنا إخوةٌ خلف هذا المدى
إخوة طيبون، يحبوننا، ينظرون إلينا
ويبكون، ثم يقولون في سرهم:
“ليت هذا الحصار هنا علني..”
ولا يكملون العبارة: ” لا تتركونا
وحيدين.. لا تتركونا”
أدباء سجناء:
إذا ما نظرنا في أدبنا الفلسطيني فإننا سنجد، لا شك، عشرات الكتاب الذين سجنوا: خليل توما، محمود شقير، أكرم هنية، جمال بنورة، سامي الكيلاني، حسن عبد الله، علي الخليلي، المتوكل طه، عبد الناصر صالح و… و… ومن قبل هؤلاء أدباء الأرض المحتلة في العام 1948: توفيق زياد، ومحمود درويش، وسميح القاسم و… و…
سجناء كتبوا أدباء:
لن يعدم الباحث أيضا تسمية عشرات السجناء الذين لم تكن لهم، قبل دخولهم السجن، أية صلة بالكتابة، ولكنهم بعد مرورهم بالتجربة عبروا عنها شعراً أو قصة قصيرة أو رواية أو خاطرة أو رسالة. وإذا ما عددنا الرسالة جنساً أدبيا، و هي كذلك، فما من سجين إلا كتب نصا أدبيا ما.
من بين الأسماء السجينة التي أصدرت أعمالا أدبية حول تجربتها محمد عبد السلام “خواطر من الزنزانة” (د.ت) وهشام عبد الرازق “الشمس في معتقل النقب” (1991). وهناك مجموعات شعرية صدرت في السبعينيات لمجموعة من السجناء. وقد يكون الكاتب وليد الهودلي هو الأبرز الآن في الكتابة عن عالم السجن.
وإذا ما توسعنا في دال السجن، وذهبنا إلى أن شعبنا منذ العام 1948، حتى اللحظة، يعيش في سجن كبير، فان نصوصنا كلها هي أدب سجون. كتب غريب عسقلاني في بداية الثمانينات رواية قصيرة عنوانها “الطوق” تصور حصار حصاراً فُرِضَ لأسابيع على أحد مخيمات غزة، ومن وحي حصار مخيم جباليا استوحى زكي العيلة بعض قصص مجموعته “الجبل لا يأتي”.
أعود ثانية لإثارة السؤال حول القيمة الأدبية للنصوص التي كتبها أدباء وتمحورت حول عالم السجن. هل هناك قيمة أدبية لكثير من هذه النصوص؟
شخصيا أشك في ذلك، وقد تكون قيمتها اجتماعية وثائقية ليس أكثر. مثلا حين نسائل رواية ما، مثل رواية علي الخليلي “المفاتيح تدور في الأقفال”، فنيا، فماذا نجد؟
أنها رواية عادية لا تشكل أية قيمة فنية في مسيرة الرواية الفلسطينية أو العربية. أن قيمتها تكمن في أنها شهادة أدبية على مرحلة من حياة الشاعر، ومرحلة من حياة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال. ومثلها مجموعة قصائد محمد عبد السلام “خواطر من الزنزانة”. ويمكن قول الشيء نفسه عن نصوص أدبية كثيرة لأدباء سجناء، أو لسجناء غدوا أدباء. ومن حق الدارس أن يتساءل: ما الذي تبقى من عشرات الأسماء الأدبية وغير الأدبية، ممن كتبوا أدباً عن السجن؟ وماذا شكلت تجاربهم الكتابية في مسيرة الأدب الفلسطيني؟
ربما هنا تكمن مأساة أدب السجن الذي كتبه سجناء. حقا أن له قيمة ايجابية هي قيمته الوثائقية والاجتماعية، لكن ماذا تبقى منه؟ انه أدب عابر افتقد إلى القيمة الأدبية الجمالية، وفوق هذا لم يكرس أصحابه أنفسهم كتابا. أنهم لم يواصلوا الكتابة. وأحد شروط أن يغدو المرء أديبا، فيما أرى، ممارسة الكتابة ومواصلة ممارستها.
مثلا: ماذا قدم هشام عبد الرازق بعد روايته المذكورة؟ ربما رواية ثانية ليس أكثر. ماذا كتب محمد عبد السلام بعد مجموعته “خواطر من الزنزانة”؟ ولا أقول انه ليس هناك استثناءات، فقد يكون وليد الهودلي صاحب “ستائر العتمة” واحدا منها. أن السجناء الذين كتبوا أدبا في هذا الجانب يختلفون عن الأدباء الذين كتبوا عن الأدباء الذين كتبوا عن عالم السجن، فالاخيرون واصلوا الكتابة في موضوعات أخرى.
هل يمكن الزعم بأن بعض نماذج أدب السجن في الأدب الفلسطيني ترتقي إلى نماذج منه في الأدب العربي؟
أشير، ابتداء، إلى أن ظاهرة أدب السجون ظاهرةٌ لافتةٌ في الأدب العربي، فقد خَصَّها غير دارس بدراسة، لعل أبرزهم سمر روحي الفيصل في كتابه “السجن السياسي في الرواية العربية” (1981)- وواضح من العنوان أنه درس موضوع السجن، لا أدب السجناء فقط- ومحمد حوّر “القبض على الجمر: تجربة السجن في الشعر المعاصر” (2004) وفايز أبو شمالة “السجن في الشعر الفلسطيني بين 1967-2001” (2003). وكان عبد الرحمن منيف الروائي النجدي المعروف قد توقف أمام موضوع السجن في الأدب العربي، فعدا انه أنجز عنه روايته الأشهر “شرق المتوسط” (1977). وروايته “ألان هنا- أو شرق المتوسط مرة أخرى”، ولم يكتف بذلك فقد كتب في العام 1998 مقدمة لطبعة جديدة من “شرق المتوسط” قال فيها إن الضرورة تقتضي العودة الى هذا العالم الكئيب القاسي، لأن عار السجن السياسي أكبر عار عربي معاصر.
ومن المؤكد أن مقارنة تعتمد الأسس الأدبية الجمالية بين “شرق المتوسط” وبين “المفاتيح تدور في الأقفال” و “الشمس في ليل النقب”، تقول لنا أن نصوصنا الأدبية لفترة، بخاصة ما أنجز في الأرض المحتلة، لم ترق إلى ما كتبه أدباء عرب بارزون. ولا يعني هذا أن نصوصنا الأدبية كلّها تفتقد القيمة الأدبية. هنا يمكن أن يُشار إلى كتابين مهمين حققا قيمة أدبية عالية فيما أرى. الأول كتاب معين بسيسو “دفاتر فلسطينية” (1978) والثاني كتاب عائشة عودة “أحلام بالحرية” (2004) وللمرة الأولى، حين قرأت “أحلام بالحرية”، وجدت نفسي أقول: ها قد غدا في أدبنا نص أدبي عن عالم السجن لا يقل قيمة عن نص “شرق المتوسط”.
هل يقتصر أدب السجن على عالم السجن الداخلي؟
في روايته “شرق المتوسط” يأتي عبد الرحمن منيف على هذا الجانب، على لسان بطله رجب. يفكر رجب في كتابة رواية عن عالم السجن ويقدم اقتراحا هو:
“وحتى لا نضيع في دوامة قد لا نخرج منها، فمن الضروري أن نحدد موضوعا ونكتب فيه. التعذيب مثلا. كيف تتصورين الموضوع؟ كيف يتصوره إنسان من الخارج؟ وليس أي إنسان، إنسان له علاقة بشكل ما، في مستوى ما”.
و” طبيعي أن يكون للموضوع امتدادات كثيرة ومتباينة: الذكرى، الأحاسيس، العلاقات وغير ذلك. وطبيعي أيضا أن ننظر من زوايا مختلفة. هذه الزوايا المختلفة ضرورية لكي نرى الشيء من جميع جوانبه”.
ويقترح رجب أن تكتب أخته أنيسة، وان يكتب ابنها عادل، وان يكتب زوجها حامد، ويتمنى لو كانت أمه على قيد الحياة لتكتب أيضا أحاسيسها ومشاعرها وما تعرضت له يوم كانت تزوره.
ما ورد على لسان رجب يجعلنا نقول إن أدب السجون لا يقتصر على ما يجري داخل جدران السجن.؟ وهنا نتذكر مجموعة قصص المرحوم عزت الغزاوي “سجينة” (1978)، فالجزء الأول منها- أي من واحد إلى سبعة- يأتي على وصف ما يلم بأم السجين التي تزور ابنها السجين مرارا، وما تعاني منه.
أعود ثانية إلى السؤال: هل يختلف أدب السجون في الأدب الفلسطيني عنه في الأدب العربي؟
ينبغي أولا أن نميز بين الأدب العربي الذي كتب عن سجون الاستعمار، يوم استعمرت أوروبا العالم العربي، والأدب العربي الذي كتب بعد الاستعمار- أي زمن الاستقلال، وهذا ما عالجه د. سمر روحي الفيصل في كتابه.
وينبغي ثانيا أن نميز بين الأدب الفلسطيني الذي كتب في فلسطين تحت الحكم الإسرائيلي، والأدب الفلسطيني الذي كتب في العالم العربي. (دفاتر فلسطينية لمعين بسيسو مثلا).
وينبغي ثالثا أن نميز بين الأدب الفلسطيني الذي كتب في فلسطين وكتبه سجناء أو أدباء عاشوا في السجون الإسرائيلية، والأدب الفلسطيني الذي كتبه سجناء أو أدباء عاشوا في سجون حماس أو سجون السلطة، أو أتوا على سجون السلطة وحماس دون أن تكون لهم تجربة في السجن مثلا.
وأعتقد أن الأمر جدير بالدراسة، وقد يتوصل المرء إلى نتائج بالغة الأهمية، وهذا ما لم أتوقف أمامه لضيق الوقت ولعدم إطلاعي على نصوص كافية في هذا الأمر.
الدكتور عادل الأٍسطة