أرشيف سنة: 2021

أدب السجون

حين طُلب مني أن أتحدث عن أدب السجون تساءلت: ما الذي نعنيه بهذا المصطلح؟ هل نقصد به الأدب الذي كتبه سجناء أم الأدب الذي اتخذ من عالم السجن مادة له؟

هناك أدباء كتبوا نصوصاً عن السجن وعالمه، ولكنْ هناك سجناء لم يكونوا أدباء أصلا، ثم بسبب سجنهم شرعوا بكتابة نصوص أدبية. وعلينا ألا نغفل الأدباء السجناء –أي الذين جمعوا ما بين النوعين الأول والثاني.
ومن حق الدارس أن يتساءل عن الفرق بين الدوال الثلاثة: سجناء كتبوا أدباء، وأدباء كتبوا عن عالم السجن وما يمت له بصلة، وأدباء سجناء.
في النقد الأدبي يميز النقاد، وهم يدرسون النصوص، بين نصوص لها قيمة اجتماعية، وأخرى لها قيمة أدبية. هناك نصوص لها قيمة اجتماعية فقط، وهناك نصوص تكون لها قيمة أدبية فقط، وقد يقرأ المرء نصوصا تجمع ما بين القيمتين.
والسؤال الذي يثيره المرء حول السجناء الذين كتبوا أدبا هو: هل من قيمة أدبية لنصوصهم التي من المؤكد أن لها قيمة اجتماعية وثائقية. وقد لا يثير المرء هذا السؤال وهو يقرأ النصوص الأدبية التي يكتبها أدباء متمرسون، ولكنه في هذه المرة سيثير السؤال معكوسا: هل من قيمة اجتماعية وثائقية لنصوص هؤلاء الأدباء؟ هل تمتاز بطابع الصدق أو بحرارة التجربة التي تحفل بها نصوص السجناء؟
ومن المؤكد أن الأدباء الذين مروا بتجربة السجن سيحققون ما حققه السجناء الذين كتبوا نصوصا عن تجاربهم، وإذا ما كانوا أدباء متمرسين فستكون نصوصهم حققت القيمتين؛ الأدبية والاجتماعية.
وإذا ما أراد أن يدرس أدب السجن في فلسطين، فإنه لا شك سيثير السؤال التالي:
هل يستطيع الدارس أن يفصل بين الأديب الفلسطيني والسجين؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تعتمد على تعريفه لدال السجن؛ فإذا ما قصد بالسجن المفهوم المتداول له، فصل، وإذا فهم دال السجن بمعناه الواسع قال: إن الأدب الفلسطيني كلّه أدب سجون. وربما عمم فدرس الأدب العربي كله على أنه أدب سجون.
في قصيدته “في الحانة القديمة” يرى مظفر النواب أن العالم العربي كله سجون متلاصقة.
“فهذا الوطن الممتد من البحر إلى البحر
سجون متلاصقة
سجانّ يمسك سجان”
وفي إحدى مقطوعات “حالة حصار” لمحمود درويش يرى أن حصار الفلسطينيين في انتفاضة الأقصى ليس مقتصرا عليهم، فالعالم العربي أيضا محاصر:
“لنا إخوةٌ خلف هذا المدى
إخوة طيبون، يحبوننا، ينظرون إلينا
ويبكون، ثم يقولون في سرهم:
“ليت هذا الحصار هنا علني..”
ولا يكملون العبارة: ” لا تتركونا
وحيدين.. لا تتركونا”
أدباء سجناء:
إذا ما نظرنا في أدبنا الفلسطيني فإننا سنجد، لا شك، عشرات الكتاب الذين سجنوا: خليل توما، محمود شقير، أكرم هنية، جمال بنورة، سامي الكيلاني، حسن عبد الله، علي الخليلي، المتوكل طه، عبد الناصر صالح و… و… ومن قبل هؤلاء أدباء الأرض المحتلة في العام 1948: توفيق زياد، ومحمود درويش، وسميح القاسم و… و…
سجناء كتبوا أدباء:
لن يعدم الباحث أيضا تسمية عشرات السجناء الذين لم تكن لهم، قبل دخولهم السجن، أية صلة بالكتابة، ولكنهم بعد مرورهم بالتجربة عبروا عنها شعراً أو قصة قصيرة أو رواية أو خاطرة أو رسالة. وإذا ما عددنا الرسالة جنساً أدبيا، و هي كذلك، فما من سجين إلا كتب نصا أدبيا ما.
من بين الأسماء السجينة التي أصدرت أعمالا أدبية حول تجربتها محمد عبد السلام “خواطر من الزنزانة” (د.ت) وهشام عبد الرازق “الشمس في معتقل النقب” (1991). وهناك مجموعات شعرية صدرت في السبعينيات لمجموعة من السجناء. وقد يكون الكاتب وليد الهودلي هو الأبرز الآن في الكتابة عن عالم السجن.
وإذا ما توسعنا في دال السجن، وذهبنا إلى أن شعبنا منذ العام 1948، حتى اللحظة، يعيش في سجن كبير، فان نصوصنا كلها هي أدب سجون. كتب غريب عسقلاني في بداية الثمانينات رواية قصيرة عنوانها “الطوق” تصور حصار حصاراً فُرِضَ لأسابيع على أحد مخيمات غزة، ومن وحي حصار مخيم جباليا استوحى زكي العيلة بعض قصص مجموعته “الجبل لا يأتي”.
أعود ثانية لإثارة السؤال حول القيمة الأدبية للنصوص التي كتبها أدباء وتمحورت حول عالم السجن. هل هناك قيمة أدبية لكثير من هذه النصوص؟
شخصيا أشك في ذلك، وقد تكون قيمتها اجتماعية وثائقية ليس أكثر. مثلا حين نسائل رواية ما، مثل رواية علي الخليلي “المفاتيح تدور في الأقفال”، فنيا، فماذا نجد؟
أنها رواية عادية لا تشكل أية قيمة فنية في مسيرة الرواية الفلسطينية أو العربية. أن قيمتها تكمن في أنها شهادة أدبية على مرحلة من حياة الشاعر، ومرحلة من حياة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال. ومثلها مجموعة قصائد محمد عبد السلام “خواطر من الزنزانة”. ويمكن قول الشيء نفسه عن نصوص أدبية كثيرة لأدباء سجناء، أو لسجناء غدوا أدباء. ومن حق الدارس أن يتساءل: ما الذي تبقى من عشرات الأسماء الأدبية وغير الأدبية، ممن كتبوا أدباً عن السجن؟ وماذا شكلت تجاربهم الكتابية في مسيرة الأدب الفلسطيني؟
ربما هنا تكمن مأساة أدب السجن الذي كتبه سجناء. حقا أن له قيمة ايجابية هي قيمته الوثائقية والاجتماعية، لكن ماذا تبقى منه؟ انه أدب عابر افتقد إلى القيمة الأدبية الجمالية، وفوق هذا لم يكرس أصحابه أنفسهم كتابا. أنهم لم يواصلوا الكتابة. وأحد شروط أن يغدو المرء أديبا، فيما أرى، ممارسة الكتابة ومواصلة ممارستها.
مثلا: ماذا قدم هشام عبد الرازق بعد روايته المذكورة؟ ربما رواية ثانية ليس أكثر. ماذا كتب محمد عبد السلام بعد مجموعته “خواطر من الزنزانة”؟ ولا أقول انه ليس هناك استثناءات، فقد يكون وليد الهودلي صاحب “ستائر العتمة” واحدا منها. أن السجناء الذين كتبوا أدبا في هذا الجانب يختلفون عن الأدباء الذين كتبوا عن الأدباء الذين كتبوا عن عالم السجن، فالاخيرون واصلوا الكتابة في موضوعات أخرى.
هل يمكن الزعم بأن بعض نماذج أدب السجن في الأدب الفلسطيني ترتقي إلى نماذج منه في الأدب العربي؟
أشير، ابتداء، إلى أن ظاهرة أدب السجون ظاهرةٌ لافتةٌ في الأدب العربي، فقد خَصَّها غير دارس بدراسة، لعل أبرزهم سمر روحي الفيصل في كتابه “السجن السياسي في الرواية العربية” (1981)- وواضح من العنوان أنه درس موضوع السجن، لا أدب السجناء فقط- ومحمد حوّر “القبض على الجمر: تجربة السجن في الشعر المعاصر” (2004) وفايز أبو شمالة “السجن في الشعر الفلسطيني بين 1967-2001” (2003). وكان عبد الرحمن منيف الروائي النجدي المعروف قد توقف أمام موضوع السجن في الأدب العربي، فعدا انه أنجز عنه روايته الأشهر “شرق المتوسط” (1977). وروايته “ألان هنا- أو شرق المتوسط مرة أخرى”، ولم يكتف بذلك فقد كتب في العام 1998 مقدمة لطبعة جديدة من “شرق المتوسط” قال فيها إن الضرورة تقتضي العودة الى هذا العالم الكئيب القاسي، لأن عار السجن السياسي أكبر عار عربي معاصر.
ومن المؤكد أن مقارنة تعتمد الأسس الأدبية الجمالية بين “شرق المتوسط” وبين “المفاتيح تدور في الأقفال” و “الشمس في ليل النقب”، تقول لنا أن نصوصنا الأدبية لفترة، بخاصة ما أنجز في الأرض المحتلة، لم ترق إلى ما كتبه أدباء عرب بارزون. ولا يعني هذا أن نصوصنا الأدبية كلّها تفتقد القيمة الأدبية. هنا يمكن أن يُشار إلى كتابين مهمين حققا قيمة أدبية عالية فيما أرى. الأول كتاب معين بسيسو “دفاتر فلسطينية” (1978) والثاني كتاب عائشة عودة “أحلام بالحرية” (2004) وللمرة الأولى، حين قرأت “أحلام بالحرية”، وجدت نفسي أقول: ها قد غدا في أدبنا نص أدبي عن عالم السجن لا يقل قيمة عن نص “شرق المتوسط”.
هل يقتصر أدب السجن على عالم السجن الداخلي؟
في روايته “شرق المتوسط” يأتي عبد الرحمن منيف على هذا الجانب، على لسان بطله رجب. يفكر رجب في كتابة رواية عن عالم السجن ويقدم اقتراحا هو:
“وحتى لا نضيع في دوامة قد لا نخرج منها، فمن الضروري أن نحدد موضوعا ونكتب فيه. التعذيب مثلا. كيف تتصورين الموضوع؟ كيف يتصوره إنسان من الخارج؟ وليس أي إنسان، إنسان له علاقة بشكل ما، في مستوى ما”.
و” طبيعي أن يكون للموضوع امتدادات كثيرة ومتباينة: الذكرى، الأحاسيس، العلاقات وغير ذلك. وطبيعي أيضا أن ننظر من زوايا مختلفة. هذه الزوايا المختلفة ضرورية لكي نرى الشيء من جميع جوانبه”.
ويقترح رجب أن تكتب أخته أنيسة، وان يكتب ابنها عادل، وان يكتب زوجها حامد، ويتمنى لو كانت أمه على قيد الحياة لتكتب أيضا أحاسيسها ومشاعرها وما تعرضت له يوم كانت تزوره.
ما ورد على لسان رجب يجعلنا نقول إن أدب السجون لا يقتصر على ما يجري داخل جدران السجن.؟ وهنا نتذكر مجموعة قصص المرحوم عزت الغزاوي “سجينة” (1978)، فالجزء الأول منها- أي من واحد إلى سبعة- يأتي على وصف ما يلم بأم السجين التي تزور ابنها السجين مرارا، وما تعاني منه.
أعود ثانية إلى السؤال: هل يختلف أدب السجون في الأدب الفلسطيني عنه في الأدب العربي؟
ينبغي أولا أن نميز بين الأدب العربي الذي كتب عن سجون الاستعمار، يوم استعمرت أوروبا العالم العربي، والأدب العربي الذي كتب بعد الاستعمار- أي زمن الاستقلال، وهذا ما عالجه د. سمر روحي الفيصل في كتابه.
وينبغي ثانيا أن نميز بين الأدب الفلسطيني الذي كتب في فلسطين تحت الحكم الإسرائيلي، والأدب الفلسطيني الذي كتب في العالم العربي. (دفاتر فلسطينية لمعين بسيسو مثلا).
وينبغي ثالثا أن نميز بين الأدب الفلسطيني الذي كتب في فلسطين وكتبه سجناء أو أدباء عاشوا في السجون الإسرائيلية، والأدب الفلسطيني الذي كتبه سجناء أو أدباء عاشوا في سجون حماس أو سجون السلطة، أو أتوا على سجون السلطة وحماس دون أن تكون لهم تجربة في السجن مثلا.
وأعتقد أن الأمر جدير بالدراسة، وقد يتوصل المرء إلى نتائج بالغة الأهمية، وهذا ما لم أتوقف أمامه لضيق الوقت ولعدم إطلاعي على نصوص كافية في هذا الأمر.

الدكتور عادل الأٍسطة

هل يعتبر أدب السجون واقعيا؟

قول هاملت في المسرحية التراجيدية التي تحمل اسمه: “ليس هناك أمرٌ جيد أو سيء، لكن تفكيرنا ما يجعله كذلك. بالنسبة لي الدنمارك سجن”. يلخص شكسبير في هذه الجملة الشعرية البليغة من مسرحيته “هاملت” كيف يمكن للإنسان وهو حر طليق أن يشعر أن الوطن أصبح سجنا. 

الحرية، تلك الكلمة السامية والهدف المنشود للمجتمعات الديمقراطية، أصبحت غائبة في ظل الحكم الديكتاتوري للملك كلوديوس. هذا ما يشعر به الأمير هاملت، قبل أن يسمع من شبح والده الراحل أنه لم يمت موتا طبيعيا، بل قضى اغتيالا على يد أخيه كلوديوس (عم هاملت) الذي صب السم في أذنه وهو نائم في الحديقة، وتزوج من أرملته غرترود (والدة هاملت) ليعتلي عرشه دون حق، ويعيث فسادا في الدنمارك، محاولا قتل هاملت بشتى الطرق. 

“الدنمارك سجن” عبارة كثيرا ما ترددت على خشبات المسارح بمختلف اللغات في شرق الدنيا وغربها كصرخة منذرة بتلاشي حرية التعبير في بلدان عديدة تحت وطأة أنظمة مستبدة تقمع الأصوات المعارضة وتزج بها في السجون، بحيث أصبحت الأوطان زنزانات للأرواح المتمردة.

ساد في الربع الأخير من القرن العشرين في العالم العربي ما أطلق عليه “أدب السجون”. بغض النظر عن تعرض أصحاب القلم الذين أبدعوا روايات وقصصا ومسرحيات تنضوي تحت صنف أدب السجون إلى تجربة السجن، أم كون وصفهم لها عملا من أعمال المخيلة، فإن صور ما يجري في زنزانات المعتقلات وسراديب السجون السياسية من استجوابات يصحبها تعذيب شديد وامتهان للكرامة الإنسانية كانت صورا تستقطب اهتمام عموم القراء، فيصدقونها بغض النظر عن حقيقتها. هكذا هو الأدب البارع: مصداقية في القص، ومهارة في الإقناع. المهم هو تصدي أولئك الكتاب على اختلاف مواقفهم السياسية ومدارسهم الأدبية في إدانة الاعتقال التعسفي وطرائق استنطاق الموقوفين.

فاجأ نجيب محفوظ، حائز جائزة نوبل العربي الوحيد، قراءه الشغوفين برواياته الواقعية والتاريخية وقصصه ومسرحياته القصيرة التجريبية بروايات قصيرة تناولت بصورة مباشرة موضوع الاضطهاد السياسي، من أشهرها “الكرنك”، رغم أنها لم تكن تلك المرة الأولى التي قارب فيها محفوظ موضوع الاضطهاد السياسي، فهناك روايات سابقة ولاحقة عن عهود الماضي أو الحاضر ألمح فيها إلى موضوع السجن الاعتباطي والوشاية والمخبرين، مثل “ثرثرة فوق النيل”، “ميرامار” و”أمام العرش”

كما نذكر بين الأعمال الرائدة رواية قصيرة (أو قصة طويلةnovelette ) بعنوان “تلك الرائحة” من تأليف الأديب المصري صنع الله إبراهيم. ورغم أن القصة تبدأ وبطلها خارج من السجن، إلا أن تجربة السجن تسكنه، تخيفه، تجعله يتوجس خوفا من مراقبة المخبرين، ويشتم رائحة كريهة تنبعث من لا مكان في شوارع القاهرة. 

تلا الكاتب عمله ذاك برواية قصيرة أخرى أشد إحكاما وجرأة بعنوان “اللجنة”. هنا، يخضع البطل لسلسلة من المواقف العبثية اللامعقولة من الاضطهاد تذكرنا بفرانز كافكا وروايته الشهيرة “المحاكمة”. 

بدوره، تصدى الأديب جمال الغيطاني لاضطهاد المخابرات، إنما من خلال الإسقاط التاريخي الذي برع فيه، مقنعا القارئ أنه استحوذ على وثائق صفراء حقيقية في حين أنه يؤلف من بنات الخيال. أشهر روايات الغيطاني الرائدة “الزيني بركات”، التي تتصدى للبصاصين في نظام شمولي مبكر. 

في المسرح المصري بوجه خاص، لمعت أصوات مؤلفين عالجوا ظاهرة القمع البوليسي، مثل محمود دياب، علي سالم، ميخائيل رومان، صلاح عبد الصبور، سعد الدين وهبة، لينين الرملي، بل حتى رائد المسرح العربي توفيق الحكيم قارب ذلك الموضوع بصورة رمزية في مسرحيتيه العبثيتين “يا طالع الشجرة” و”مصير صرصار”. 

بدورها، كتبت الأديبة والمفكرة نوال السعداوي مسرحية واقعية عن سجن النساء أسمتها “اثنى عشرة امرأة في زنزانة” وكتابا غير أدبي non-fiction بعنوان “مذكرات في سجن النساء”.  

على مستوى روائي أكثر غنى في الخيال والتعبير، كتب الروائي عبد الرحمن منيف (الأديب السعودي الذي قضى حياته مهاجرا بين بغداد ودمشق ومدن أخرى) روايته الشهيرة “شرق المتوسط”، التي تعتبر مثالا متكاملا لأدب السجون. 

هناك رواية عراقية شهيرة للأديب فاضل العزاوي بعنوان “القلعة الخامسة”، تعتبر نموذجا لأدب السجون، حيث يتغير متهم بريء في السجن إلى مناضل سياسي، وهي الرواية التي حولها صنع الله إبراهيم إلى سيناريو، كتبت له الحوار، وأخرجه بلال الصابوني في عام 1979. 

في حقبة السبعينيات، كتب السوري نبيل سليمان روايته “السجن”، وكتب خالد خليفة عدة روايات تدور حول الاضطهاد السياسي مثل “مديح الكراهية” التي فازت بجائزة إندبندنت العالمية، بينما تناولت رواية زميله الآخر مصطفى خليفة “القوقعة” بالتفاصيل الدقيقة حياة السجن في تدمر، ونالت شهرة عريضة، وجرى تداولها سرا بعد أن منعتها الرقابة من التداول في المكتبات العامة. 

كما كتب السوري خيري الذهبي رواية تعرضت للمنع بعنوان “هشام” أو “الدوران في المكان”، وهي ثالث أجزاء ثلاثيته بعد “حسيبة” و”فياض”. بدوره، لم يوفر الروائي السوري المتميز فواز حداد جهدا في التطرق عبر أكثر من رواية تاريخية أو معاصرة إلى الموضوعات الساخنة، خاصة في روايتيه “السوريون الأعداء” و”الشاعر وجامع الهوامش”. 

بدورها، كتبت الروائية المعروفة سمر يزبك رواية مثيرة تتضمن لمحات فريدة من أدب السجون بعنوان “لها مرايا”، إذ تناولت في عملها علاقة ممثلة سبق أن تعرضت لتجربة السجن مع ضابط أمن. ترجمت أعمال عدد من الأدباء المصريين والسوريين إلى اللغات الإنكليزية والفرنسية والألمانية، وحظيت باهتمام من متابعي آداب الشرق الأوسط.

هناك عدة أفلام مصرية تناولت موضوع الاعتقال والسجن والاستجواب تحت وطأة التعذيب، نذكر منها “العصفور” (1972)، سيناريو لطفي الخولي بالمشاركة مع مخرجه يوسف شاهين، وبطولة محسنة توفيق. نذكر أيضا “الكرنك” (1975) عن رواية نجيب محفوظ، التي حولت إلى فيلم سينمائي كتب السيناريو له ممدوح الليثي وأخرجه علي بدرخان ولعبت بطولته النجمة سعاد حسني، والنجم كمال الشناوي شخصية مشابهة لشخصية صلاح نصر، الرجل المرعب الذي تولى رئاسة جهاز المخابرات في عهد جمال عبد الناصر. كما نذكر “زوجة رجل مهم” (1988)، سيناريو رؤوف توفيق، إخراج محمد خان وبطولة أحمد زكي وميرفت أمين، “زائر الفجر (1973)، سيناريو رفيق الصبان مع مخرجه ممدوح شكري، وبطولة ماجدة الخطيب.

في الختام، أذكر أنني سألت ذات مرة شخصا قضى بين سجني تدمر وصيدنايا قرابة عشرين سنة عن رأيه في مدى مصداقية وصف حياة المعتقل في رواية مصطفى خليفة “القوقعة”، فضحك وقال لي: “تسألني عن واقعيتها؟ هي قطرة من بحر. لو كنت كاتبا روائيا، لألفت عما مررت به مئة قوقعة”.

رياض عصمت

المصدر الحرة – رياض عصمت

قضايا التعذيب والعنف التي تمارسها الأجهزة الأمنية ضد ناشطي الحراك الشعبي تعود إلى الواجهة

شبكة وا إسلاماه

مع عودة الحراك   في الجزائر   تفاقمت  حالات الإعتداءات من  طرف  الأمن وقوات التدخل  دفعت بالجزائريين  الى إطلاق  هاشتاق   تحت  #اوقفوا_التعذيب_في_الجزائر

   هذا وقد عادت قضايا التعذيب والعنف التي تمارسها لأجهزة الأمنية ضد ناشطي الحراك الشعبي إلى الواجهة في الجزائر، بعد تفجير قضية تعذيب جديدة لناشط في الحراك الشعبي على يد عناصر من جهاز الأمن الداخلي التابع للمخابرات، بعد أسبوعين من قضية صدمت الجزائريين بخصوص تعذيب الناشط وليد نقيش، ما يُير نقاشاً جدياً حول ضرورات إصلاح الأجهزة الأمنية.  

أضاف المحامي علي فلاح، في تصريح صحافي، إن الناشط سامي درنوني أدلى أثناء الاستجواب من طرف القاضي خلال المحاكمة بتصريح خطير جداً على مسمع القاضي والنيابة العامة، وأكد أنه تعرض لنزع الملابس والضرب والشتم والصعق الكهربائي والحرمان من تلقي العلاج واستخدام القوة لمحاولة انتزاع اعترافات منه. 

وأوضح أن الناشط درنوني حُرم، بعد ذلك، من حقه من العرض على الطبيب، لمنعه من استخراج شهادة طبية تثبت تعرضه للتعذيب، مستغرباً رفض هيئة المحكمة إجراء المحاكمة بشكل علني، على الأرجح خوفا من تفاصيل المحاكمة.

وقال عضو هيئة الدفاع عن الناشط درنوني،  المحامي تبول عبد الله، إن جملة من الخروقات غير قانونية شابت توقيف والتحقيق مع سامي لمدة 100 ساعة لدى مركز أمني تابع لجهاز المخابرات في منطقة البليدة قرب العاصمة الجزائرية، إذ تعرض لسوء المعاملة والتعنيف بشكل غير مقبول، وحُرم من حقوقه التي يمنحها له القانون، لا سيما حق العرض على الطبيب. 

سياق قضايا التعذيب وممارسات الأجهزة الأمنية، أعلن الإعلامي عبد الوكيل بلا، وهو أحد أبرز نشطاء الحراك الشعبي، ويدير الموقع الأخباري “أوراس” رفع دعوى قضائية ضد مسؤول مركز الأمن التاسع في العاصمة الجزائرية، على خلفية اعتقاله التعسفي وتعنيفه والاعتداء الجسدي واللفظي عليه وتهديده بالاغتصاب من قبل المسؤول الأمني.

  اليوم الجمعة   استئنفت المسيرات  الداعمة لإستمرار الحراك

#الحراك_الشعبي #الجمعة_107 #اوقفوا_التعذيب_في_الجزائر

وتداول ناشطون اعترافات معتقلين سابقين وشهاداتهم عن ما تعرضوا له داخل المعتقلات والسجون بالجزائر، وكيف تخفي السلطات تعذيبها، معربين عن نقمتهم وغضبهم على المؤسسات الرسيمة في البلاد، وطالبوا بمحاكمتها وإسقاطها.

وتصاعد الغضب الجزائري، بعدما أعلنت الحكومة الجزائرية في 3 مارس/آذار عن خطتها، لسحب الجنسية من كل مواطن يرتكب عمدا أفعالا خارج التراب الوطني، تلحق ضررا جسيما بمصالح الدولة أو تمس الوحدة الوطنية، واعتبره ناشطون استهدافا لأنصار الحراك الجزائري بالخارج.

وأجمع ناشطون على أن النظام الجزائري يحاصر الناشطين في الحراك بالداخل بالاعتقال والتعذيب، ومؤيدوه بالخارج بسحب الجنسية، متهمين الحكومة بالتطاول على حقوق الشعب وانتهاك حقه في التعبير عن رأيه وتقييد حريته واستهداف الفاعلين في الحراك.

  واصل الحراكيون   العمل على فضح  كافة الانتهاكات وتوثيقها للحد  من حالات الاعتداء والتعذيب  والاعتقال….

  وفي ورقلة استمرت المسيرات الداعمة للمعتقل عمار قراش الذي اعتقل لاوحوكم بسبعة سنوات سجنا  بعيد  ظهوره في   مقطع فيديو  احرق     في نهايته  علم فرنسا مما عده  الحرك  انتهاكا لحرية التعبير وتبعية عمياء لفرنسا

  اضفة لمطلب  الحرية لكل معتقلي الرأي

تحرير

أدب السجون في فلسطين

التجربة الأدبية الفلسطينية في المعتقلات “الإسرائيلية”

على الرغم من المعاناة التي يواجهها الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن المعايشة اليومية للقهر والقسوة في ظل احتلال لا يعرف الرحمة ويمارس شتى أنواع العذاب بحق الأسرى تخلق نسيجًا من  العلاقات الإنسانية المتميزة التي تجمع المعتقلين وتؤلف بين قلوبهم؛ ما يسهم في إيجاد جو خصب متميز تنمو فيه إبداعاتهم وتتطور، لتبني طرازًا ذا نكهة فريدة تسجلها اللحظات التأملية التي يحياها السجين بعيدًا عن أهله وأحبته.

إن مجموع هذه الإبداعات التي ولدت في عتمة الأقبية وظلام الزنازين وخلف القضبان الحديدية، التي خرجت من رحم الوجع اليومي الذي يحياه الأسرى الفلسطينيون، والمعاناة النفسية التي كانت نتاجًا لفنون السجان المحتل في التعذيب والتنكيل – اصطلح على تسميتها بـ”أدب السجون”.

ويمثل الأدب الذي كتبه المعتقلون الفلسطينيون في المعتقلات “الإسرائيلية” صورة حية وواقعية للمعاناة التي مروا بها وعايشوها، ولم يأت هذا الأدب تنفيسًا عن لحظة اختناق أو تصويرًا للحظات بطولة؛ إنما عبر عن حالة إنسانية وأبعاد فكرية ونضالية. 

أدب السجون

وتمتد جذور النتاجات الإبداعية التي تخلقت خلف القضبان، في تاريخنا الفلسطيني، وفي التاريخ العربي والعالمي؛ فثمة أسماء عديدة كتبت الشعر والنثر وأصحابها يقبعون خلف الزنازين.  ومن الأدباء العرب الذين جادت قرائحهم بالشعر والنثر، وسجلوا تجربتهم وهم في السجون العربية: الشاعر أحمد فؤاد نجم (في ديوان الفاجومي)، والروائي صنع الله إبراهيم (رواية/ تلك الرائحة)، والكاتب شريف حتاتة (سيرة/ العين الزجاجية)، وعبد الرحمن منيف (رواية/ شرق المتوسط)، وعبد اللطيف اللعبي (رواية/ مجنون الأمل)، وفاضل الغزاوي (رواية/ القلعة الخامسة)، والطاهر بن جلون (رواية/ تلك العتمة الباهرة)، وغيرهم؛ أما على المستوى العالمي فنجد أدباء وشعراء مناضلين أمثال: لوركا، ونيرودا، وناظم حكمت، ويوليوس فوتشيكو.

وأما في الحالة الفلسطينية، فنجد أن النتاجات الاعتقالية تمتاز عن سواها من النتاجات العربية والعالمية، بأنها الأغنى والأكثر شمولية وزخمًا من حيث الكم والكيف بين تجارب الشعوب وحركات التحرر؛ ويعود ذلك إلى ارتباطها بالقضية الفلسطينية وتحرير فلسطين، وطبيعة الاحتلال “الإسرائيلي” الذي نتعرض له؛ فهو الأطول في التاريخ؛ إذ لم يبق شعب من شعوب العالم تحت الاحتلال غير الشعب الفلسطيني.  ونذكر أن 

أول كتاب فلسطيني وُضع في أدب المعتقلات هو للكاتب “خليل بيدس” الذي كتب كتابا بعنوان “أدب السجون” أثناء فترة اعتقاله في سجون سلطات الانتداب البريطانية في فلسطين؛ وقد ضاع هذا الكتاب في زحمة أحداث حرب عام 1948.
ومن الشعراء الذين نظموا الشعر في معتقلات الحكم التركي الشاعر الشيخ “سعيد الكرمي“، الذي صدر بحقه حكمًا بالإعدام، واستبدل بالسجن المؤبد بعد الحرب العالمية الأولى؛ وذلك لمناهضته الحكم التركي ومفاسده. وفي عام 1937 كتب الشاعر الشعبي (عوض) على جدران زنزانته أبياتا شعرية تعبّر عن مدى القهر والألم الذي يعانيه جراء تخاذل العرب عن نصرة فلسطين؛ وذلك قبل أن تنفّذ فيه القوات البريطانية حكم الإعدام. كما خلّد الشاعر إبراهيم طوقان الشهداء الثلاثة “عطا الزير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي” الذين أعدمتهم سلطات الاستعمار الانجليزي عام 1930 عقب ثورة البراق.

ومن الشعراء الفلسطينيين الذين كتبوا في التجربة الأدبية الاعتقالية أيضًا: محمود درويش، ومعين بسيسو، وتوفيق زياد، وسميح القاسم.

مراحل تشكيل أدب السجون:

قد يكون المرء غير مبالغ إذا قال أن نحو 85% من أبناء الشعب الفلسطيني على امتداد مساحة الوطن المحتل دخل المعتقل “الإسرائيلي”، وذاق صنوف العذاب وتشرّب آلام القهر والحرمان، وواجه جلاّده بالصبر والصمود والتحدي؛ منهم من تحرر، وأكثرهم مازال ينتظر، وبعضهم لقي ربه هو يشدّ على القضبان.

ولم يتصر الاعتقال على الرجال؛ بل طال نساء فلسطين المناضلات اللاتي دخلن المعتقل، وتعرضن للتعذيب والقهر والإذلال، إلا أنهن اثبتن شجاعتهن وصمودهن أمام جلاديهن. ومن أسماء النساء اللاتي كتبن خلف القضبان: ناهدة نزال، وزكية شموط، وختام خطاب، وسعاد غنيم، وجميلة بدران، وحليمة فريتخ، وعائشة عودة. إن المعتقل الفلسطيني بفكره ومحتواه الثوري والنضالي، يشكل هدفًا أساسيًا للاحتلال” الإسرائيلي “الذي كرّس كل طاقاته وجهوده في كل المجالات وعلى كافة الأصعدة لتشويش فكره ووعيه، وتشويه سلوكه وأفعاله النضالية؛ من أجل جعله في حالة شك ذاتي؛ لإحباط توجهاته وتفكيك قدراته الكفاحية والثورية؛ بهدف ترويض إبائه وتحطيم إرادته وصموده.

ومن الأساليب التي سعى الاحتلال “الإسرائيلي” لممارستها على المعتقلين الفلسطينيين لتنفيذ مخططاته، سياسة الإفراغ الفكري والثقافي، التي تهدف إلى زرع ثقافة مشوّهة بديلة، تعمل على صياغة نفسية المعتقل من جديد وتطويعه وفق إرادتها؛ لهذا قامت سلطات الاحتلال بإعلان الحظر التام على الثقافة الوطنية والإنسانية؛ بل على كل وسيلة ثقافية؛ حتى الورقة والقلم والكتاب؛ فقد كانت سلطات الاحتلال تعتبر أن امتلاك ورقة وقلمًا من الأمور المرتبطة بالحضارة والرقي؛ لهذا لم يسمح الاحتلال بأن يتوجه معتقليه نحو رفاهية الحضارة والرقي؛ بل عليهم أن يبقوا تحت القهر والإذلال وكتم الأنفاس؛ فكان لابد للمعتقلين من إيجاد وسيلة للتغلب على مشكلة الورقة والقلم؛ فعملوا على تهريب أدوات الكتابة من خلال زيارات الأهل؛ أو عن طريق المحامين؛ كما استفادوا من مواسير الأقلام التي كانت توزع عليهم لكي يكتبوا رسائل لذويهم مرة في الشهر؛ وكان لا بد من إخفاء إحدى المواسير وتحمّل تبعات ذلك من عقاب جماعي، ومن ثم استخدموا هذه الماسورة في كتابة ما يريدون؛ وبنفس الطريقة تمكنوا من توفير الورق. كما استخدم المعتقلون مغلفات اللبنة والزبدة بعد غسلها وتجفيفها للكتابة عليها. واستمرت سياسة الحصار الثقافي والفكري من عام 1967 وحتى عام 1970؛ حيث أدرك المعتقلون خطورة الوضع الذي يعيشون فيه، وأحسوا بالفراغ الفكري والثقافي، تحت ضغط عدم تواصلهم مع العالم الخارجي، فهم في عزلة مقصودة ومبرمجة. ما حدا بهم إلى المطالبة بإلحاح ومثابرة بإدخال مواد ثقافية من كتب وصحف ودفاتر وأقلام.  وكانت إدارة السجون الإسرائيلية تماطل في تنفيذ مطالب المعتقلين؛ متذرعة بأسباب عديدة؛ لكن هذه المماطلة لم تثبط عزائم المعتقلين. فخاض السجناء غمار عدة ميادين كالاحتجاج المباشر، والإضراب عن الطعام، والاتصال بالصليب الأحمر الدولي؛ الأمر الذي جعل إدارة السجون ترضخ في النهاية لمطالبهم، خصوصًا بعد الإضراب الكبير الذي عمّ المعتقلات في عام 1970؛ فقد اضطرت سلطات السجون إلى السماح بإدخال الكتب والصحف والدفاتر والأقلام من خلال الصليب الأحمر؛ إلا أنها وضعت قيودًا على ذلك تمثلت في: إخضاع المواد المكتوبة للرقابة والتدقيق والفحص الأمني، وتحديد نوعية الكتب المسموح بإدخالها، وتحديد كمية الأقلام والورق؛ وأخيرا فرضت على كل معتقل أن لا يقتني أكثر من كتاب واحد؛ وفي حالات كثيرة كانت تقوم سلطات السجون باقتحام غرف المعتقلين ومصادرة الكتب والدفاتر والأقلام كعقاب لهم.  ورغم كل هذه الإجراءات والممارسات القمعية التي تمارس ضدهم، إلا أنهم تمكنوا بقوة الإرادة والصمود من إنتاج أدب متميز حمل بصمات التجربة التي عايشوها.

ولم تأت التجربة الإبداعية للمعتقلين دفعة واحدة؛ بل مرت بعدة مراحل صقلتها فغدت جوهرة فريدة أثبتت حضورها ومكانتها في المشهد الأدبي الفلسطيني، وهذه المراحل هي:

المرحلة الأولى ـ

البدايات:
وهي مرحلة السبعينيات التي نجح فيها المعتقلون في فرض مطالبهم على إدارة السجون الإسرائيلية. وقد استخدم المعتقلون المواد التي حصلوا عليها في برامج تعليمية، حيث يقوم المتعلم من المعتقلين بتعليم عدد من المعتقلين الذين لا يعرفون القراءة والكتابة؛ ما دفع هذا المعلم القائم بدور المدرس، إلى تحسين مستواه الثقافي والعلمي؛ لكي يكون قادرًا على العطاء بالمستوى اللائق؛ فأخذ في الاطلاع والقراءة في الكتب المتوفرة بين يديه؛ ما مهد الطريق للانتقال من الدور التعليمي إلى الدور التثقيفي.  وهذا التثقيف ارتبط بالمسألة الحزبية والتنظيمية؛ حيث يقدم المثقف ثقافة حزبية عبر محاضرات يلقيها حول حزبه وأدبيات التنظيم؛ في محاولة لاستقطاب أفراد جدد إلى تنظيمه الذي ينتمي إليه؛ أو زيادة الوعي والمعرفة الحزبية والسياسية لدى أفراد تنظيمه.

وفي هذه الفترة شكّلت الرسائل التي يبعثها المعتقل إلى ذويه الكتابة الأدبية الأولى من خلف القضبان، حيث حاول المعتقلون في رسائلهم استعمال ديباجات إيحائية معينة لجأوا إليها لتمويه الرقيب الإسرائيلي؛ فكانوا يختارون أبياتًا من الشعر أو عبارات من النثر، يسطرون بها رسائلهم. وما بين التعليمي والتثقيفي والأسلوب الرسائلي نتج الإبداع الأدبي؛ حيث لم يكن الأدب معزولًا عن التفاعلات النشطة في الحياة الجديدة التي أخذت بالتبلور بين المعتقلين.  وقد كان الأدب أكثر التصاقًا بواقع المعتقلين؛ فقد كان وسيلة للتعبير عما يعتمل في النفس البشرية.  وكان التعبير بالشعر البدايات الأولى في إبداع المعتقلين، فهو أسرع الأنواع الأدبية استجابة للتعبير عن المعاناة؛ لهذا لجأ عشرات المعتقلين إلى المحاولات الشعرية التي تترجم مشاعرهم وتعبّر عن مكنونهم النفسي.

ومن الكتابات التي صدرت وتعبر عن هذه الفترة ديوان شعري مشترك بعنوان (كلمات سجينة)؛ وقد صدر بخط اليد في معتقل بئر السبع عام 1975.  ومن المعتقلين الشعراء الذين نشروا قصائدهم في هذا الديوان: محمود الغرباوي، مؤيد البحش، محمود عبد السلام، عبد الله الزق، وليد مزهر، وليد قصراوي، نافذ علان، وليد حطيني، عمر خليل عمر، مشهور سعادة.
المرحلة الثانية ـ

تطور الإبداع وتعدده: كان تطور الإبداع لدى المعتقلين وتعدد أنواعه سمة فترة الثمانينيات؛ ففي هذه المرحلة اتسعت معارف المعتقلين وتشعّبت ثقافاتهم؛ بعد السّماح بإدخال الكتب الثقافية المتنوعة، وخاصة الكتب الأدبية التي كان نصيبها من الرقابة المشددة أقل نسبيًا من الكتب السياسية؛ ما أتاح للمعتقلين فرصة الاطلاع على نماذج محلية وعربية وعالمية دعمت بشكل إيجابي تطور التجربة الإبداعية لدى المعتقلين. كما لعب المثقفون والأكاديميون الذين اعتقلوا في هذه الفترة دورًا أساسيا في التجربة الأدبية داخل المعتقل؛ حيث ساهموا في توجيه المعتقلين من الكتاب والأدباء نحو آليات وقواعد الشعر والنثر.

وقد تمكّن المعتقلون في فترة الثمانينيات من تهريب نتاجاتهم الإبداعية إلى خارج المعتقل؛ واهتمت الصحف والمجلات المحلية بنشر إنتاجهم؛ ما شجعهم على مواصلة الكتابة وتطوير إبداعاتهم.  ومن الصحف والمجلات التي نشرت أعمالهم الإبداعية: البيادر الأدبي، والشراع، والكاتب، والفجر الأدبي، وعبير.  كما عملت دور النشر والمؤسسات الثقافية والحزبية على نشر إبداعات المعتقلين في كتب مثل: اتحاد الكتاب، ودار القسطل للنشر، ودار الآباء والبنون للنشر، ودار الزهراء، ومركز التراث في الطيبة، وغيرها. كل هذا ساهم في تطور التجربة الإبداعية لدى المعتقلين؛ بالإضافة إلى نضوج الحالة الثقافية الناتجة عن المسيرة التثقيفية الطويلة والشاقة التي خاضها المعتقلون مع أنفسهم؛ في سبيل إبراز ذواتهم للخروج من حالة العزلة التي يسعى الاحتلال إلى تكريس فرضها عليهم؛  لهذا ارتقى وتطوّر إبداع المعتقلين، من الشعر إلى الخاطرة إلى القصة القصيرة، إلى النص المسرحي الذي كان يمثل في المناسبات الوطنية داخل المعتقلات، وقد صدرت النصوص المسرحية لاحقا في كتب.

كما تتوجت إبداعات المناضلين الأسرى أيضًا بإصدار روايات من داخل المعتقلات، كانت في أغلبها روايات تسجيلية تحكي واقع المعتقل وظروفه المعيشية، وممارسات السجان السادية تجاه المعتقلين.

كما حاول المبدعون المعتقلون توصيل نتاجاتهم إلى أكبر عدد من المعتقلين؛ وذلك بالتغلب على مسألة النشر غير المتوفرة داخل جدران المعتقل؛ بالعمل على إصدار مجلات أدبية تضم نصوصا أدبية مختلفة لعدد كبير من المبدعين؛ وكان يكتب منها بخط اليد أكثر من نسخة وتوزع على المعتقلين، ومن هذه المجلات: “الملحق الأدبي” لمجلة “نفحة الثورة”، ومجلة “الصمود الأدبي” في معتقل عسقلان، ومجلة “الهدف الأدبي” في معتقل عسقلان التي صدرت عام 1981، وأشرف على تحريرها كل من: منصور ثابت، وعبد الحميد الشطلي، ومحمود عفانة؛ ومجلة “إبداع نفحة” التي صدرت عن اللجنة الثقافية الوطنية في معتقل نفحة، وأشرف على تحريرها كل من: فايز أبو شمالة، وسلمان جاد الله، ومعاذ الحنفي، ومحمود الغرباوي؛ ومجلة “صدى نفحة” التي أسسها عام 1989 كل من المبدعين المعتقلين: معاذ الحنفي، وسلمان جاد الله، وفايز أبو شمالة؛ وكتب على صفحاتها: عبد الحق شحادة، ومحمود الغرباوي، وهشام أبو ضاحي، وهشام عبد الرازق، وزكي أبو العيش، ومنصور ثابت، وماجد أبو شمالة، وسمير المشهراوي، وغيرهم. وقد نشرت دار القسطل للدراسات والنشر بالقدس نسخة من مجلة “إبداع نفحة” كما هي بخط اليد عام 1990، وضمت قصائد شعرية وقصصًا قصيرة، وخواطر، وزجلًا شعبيًا.  ومن المبدعين المعتقلين الذين نشروا على صفحاتها: سليم الزريعي، محمود الغرباوي، هشام عبد الرازق، معاذ الحنفي، وحسام نزال، وكمال عبد النبي، ومؤيد عبد الصمد، وهشام أبو ضاحي، وبسام عزام، وليد خريوش، وعبد الناصر الصيرفي، وماجد الجراح، وفايز أبو شمالة، وسمير طيبة، وسمير قنطار، وزكي أبو العيش، وسعيد عفانة، ومحمود الكبسة، وأشرف حسين، وعبد الحق شحادة، وجبر وشاح.

ومن الأعمال الأدبية الإبداعية التي نشرت في هذه الفترة: ديوان “درب الخبز والحديد” لعدنان الصباح (1981)، وديوان “أيام منسية خلف القضبان” لمحمد أبو لبن (1983)؛ والمجموعة القصصية “الطريق إلى رأس الناقورة” لحبيب هنا (1984)، والمجموعة القصصية “ساعات ما قبل الفجر” لمحمد عليان (1985)؛ ورواية “زنزانة رقم 7” لفاضل يونس (1983).

المرحلة الثالثةـ

الانتفاضة: شهدت هذه المرحلة تنوعًا في إبداعات المعتقلين وتطورًا كميًا في النتاجات الإبداعية؛ وقد تحول الأدب من ممارسة هواية وثقافة جمالية، إلى مشاركة نضالية في أحداث الانتفاضة وزخمها الثوري.

وشهدت هذه الفترة زيادة ملموسة في عدد الكتب التي صدرت للمبدعين المعتقلين؛ وأولت دور النشر والمؤسسات الثقافية والمجلات والصحف عناية خاصة بأدب المعتقلات.

ومن الكتابات التي نشرت في هذه الفترة: ديوان “فضاء الأغنيات” للمتوكل طه (1989)، وديوان “المجد ينحني لكم” لعبد الناصر صالح (1989)، وديوان “الجراح” لهشام عبد الرازق (1989)، وديوان “أوراق محررة” لمعاذ الحنفي (1990)، وديوان “حوافر الليل” لفايز أبو شمالة (1990)، وديوان “ترانيم خلف القضبان” لعبد الفتاح حمايل (1992)، وديوان “رغوة السؤال” للمتوكل طه (1992)، وديوان “لن أركع” لعمر خليل عمر (1993)، وديوان “اشتعالات على حافة الأرض” لخضر محجز (1995)؛ وقصص “سجينة” لعزت الغزاوي (1987)، وقصص “ستطلع الشمس يا ولدي” لمنصور ثابت (1992)، وقصص “صحفي في الصحراء” لحسن عبد الله (1993)؛ ورواية “تحت السياط” لفاضل يونس (1988)، ورواية “شمس الأرض” لعلي جرادات (1989)، ورواية “رحلة في شعاب الجمجمة” لعادل عمر (1990)، ورواية “شمس في ليل النقب” لهشام عبد الرازق (1991)، ورواية “قهر المستحيل” لعبد الحق شحادة (1992).

المرحلة الرابعةـ

ما بعد قيام السلطة: أثر الوضع السياسي الذي أفرزه اتفاق أوسلو وما نتج عنه من تغيرات لمفهوم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، تأثيرًا كبيرًا على الإنتاج الأدبي والإبداعي لدى المعتقلين الفلسطينيين في المعتقلات الإسرائيلية؛ إذ حدث تراجع في الكتابة الأدبية والإبداعية، وغاب الزخم الذي شهدته السبعينيات والثمانينيات.

وشهدت هذه الفترة كتابات متعددة في أدب المعتقلات كتبها معتقلون سابقون تحرروا بموجب اتفاق أوسلو، بعضها كُتب داخل المعتقل مثل: رواية “قمر سجين وجدران أربعة” لمعاذ الحنفي، كتبها في معتقل نفحة بين عامي 1989 و1990، ونشرها في غزة عام 2005؛ وروايتي “عاشق من جنين” لرأفت حمدونة، التي كتبها في معتقل نفحة، ونشرها في غزة عام 2003، و”الشتات” كتبها في معتقل بئر السبع، ونشرها في غزة عام 2004، ورواية “ستائر العتمة” لوليد الهودلي، التي كتبها في المعتقل، ونشرها بعد تحرره عام 2003.

وثمة كتابات كتبت داخل المعتقل وهربت إلى الخارج ونشرت مثل: روايتي ظل الغيمة السوداء، وعلى جناح الدم (2006) لشعبان حسونة، التين كتبهما في المعتقل الذي يقضي فيه حكما مدى الحياة.

وثمة كتابات كتبت خارج المعتقل، كتبها معتقلون بعد تحررهم تسرد تجاربهم ومعاناتهم داخل المعتقل، منها: ديوان “رفيق السالمي يسقي غابة البرتقال” لمحمود الغرباوي (2000)، وديوان “من وراء الشبك” لمؤيد عبد الصمد (2000)، ونصوص (رمل الأفعى ـ سيرة كتسيعوت أو أنصار 3) للمتوكل طه (2001)؛ وقصص “ويستمر المشهد” لمنصور ثابت (2003)؛ ورواية “البطاط / تمرد شطة58” لسلمان جاد الله (2004)؛ وسيرة “أحلام بالحرية” لعائشة عودة (2004)؛ ورواية “شمس الحرية” لهشام عبد الرازق (2008).

القضايا التي تناولها أدب السجون:

إن واقعية ما تطرحه التجربة الإبداعية في المعتقلات، تعكس حقيقة الواقع الذي عاش فيه المعتقل الفلسطيني، وتكشف بشكل فعّال عن المُثل العليا الوطنية السياسية والاجتماعية، وعن المضمون النضالي والإنساني.

وقد حاول الأدباء المعتقلون جاهدين من خلال نتاجاتهم الإبداعية، أن يكونوا صادقين مع تجربتهم، أوفياء لها، يسجلونها بصدق وأمانة؛ لأنها تعكس ما في دواخلهم من مشاعر وطموحات وتحديات وروح عالية، وتمسك بالهدف السامي الذي اعتقلوا في سبيله.

لقد شكلت قسوة الاعتقال، بما فيها من كبت نفسي وتعذيب جسدي، تربة خصبة لتفجر الطاقات الإبداعية، كردّ فعل طبيعي ومنطقي على ممارسات القمع.  وهذه التجربة الإبداعية كان لها تأثيرها على المعتقلين من حيث تعزيز صمودهم وتحديهم لممارسات السجان؛ كما ساهمت في خلق الظروف المناسبة وتهيئتها لتربية الإنسان الفلسطيني وتجذير انتمائه وتصليب إرادته؛ وتمكينه من بناء الذات الوطنية التي تؤهله لكسب معركة الصراع التي يخوضها ضد الاحتلال.

وقد تناول المبدعون المعتقلون في كتاباتهم الأدبية، قضايا مرتبطة بظروف اعتقالهم، وبتفاعلهم مع الأحداث الخارجية خصوصًا في مرحلة الانتفاضة، ومن القضايا التي عبروا عنها:

ـ تسجيل واقع المعتقل ورسم صورة للسجان وممارساته ضد المعتقلين، من تعذيب وضرب على أماكن حساسة، وخنق بالكيس في الرأس، وكتم الأنفاس، وتعصيب العينين، والشبح، والهز العنيف بعد تقييد اليدين للخلف، وخلع الأظافر، وتحطيم الأسنان. في سيرة الكاتبة “عائشة عودة” الذاتية (أحلام بالحرية) التي قدمتها حول تجربتها في الاعتقال، وصفت حالات التعذيب التي مورست ضدها، حيث تناوب عليها المحققون الإسرائيليون بعدة أساليب من التعذيب في التحقيق.

ـ تناول قضايا متعلقة بالحياة العامة خلف القضبان مثل: المواجهة والتحدي والحرمان والصمود والانتماء والحنين للأهل والأبناء والأصحاب. كذلك الحديث عن النضالات والإضرابات داخل المعتقل. ورفض القيود والتمرد عليها، وكسر طوق العزلة التي يسعى الاحتلال لفرضها على المعتقلين.

ـ لم يقتصر انشداد المعتقلين على مصيرهم الشخصي، وعلى الوجع والقهر الذي يعانون منه؛ بل تفاعلوا مع أبناء شعبهم في نضالاتهم ضد الاحتلال بالكتابة والإبداع؛ كما تفاعلوا مع الأحداث الوطنية الكبرى: كاجتياح لبنان، ومذبحة صبرا وشاتيلا، والاعتداء على المخيمات في لبنان، والانتفاضة، وغيرها؛ وأكدوا أيضا على مسألة انتمائهم لعروبتهم ووطنهم العربي الكبير.

ـ وعبّر المعتقلون عن أحلامهم بالليل التي تمتزج فيها المشاهد بين القيد والانطلاق؛ حيث يظل المعتقل القابع خلف القضبان مشدودًا إلى العالم الخارجي (مدينته وقريته ومخيمه وأهله، وجميع من ارتبط معهم بذكريات) وتبقى الحرية هاجسه وأمنيته التي تعشّش في أعماقه.

ـ يُعد السجن القابع فيه المعتقل من أكثر الموضوعات التي تناولها الأدباء المعتقلون، ومجالًا خصبًا لإبداعاتهم؛ وذلك لما انطوى عليه من تعذيب وقهر وحرمان وذل ومهانة؛ وكذلك لما انطوى عليه من بطولة وتحدٍ وإرادة وإصرار وثبات ورباطة جأش وتضحية وعطاء؛ لهذا كتبوا عن: مساحة السجن الضيقة، والزنازين الانفرادية، وغرف السجن وما تحتويه من رطوبة وعفن وسكون ووحدة وقلق وظلام وقتامة.  كما وصفوا أسوار السجن والشبك والقضبان والسقف؛ بالإضافة إلى تناول أقبية التحقيق وما يدور فيها من ممارسات سادية وعنصرية ضد المعتقلين؛ ووصفوا أدوات التحقيق والتعذيب. نسلط الضوء على أبرز خمس روايات كُتبت بمداد الوجع في السجون، وخرجت منه تهريبًا عبر الكبسولات، لترى النور قبل تحرير كُتابها.

 روايات فلسطينية كُتبت في سجون الاحتلال الإسرائيلي

حكاية صابر

حكاية صابر

حكاية صابر، حكاية شخص تُجسّد حالة شعب، وحكاية شعب تتجسد في شخص، فيها مزج بين الواقع والخيال، خيال من أصل الواقع، وواقع أقرب إلى الخيال، يُمثل فصولاً من تاريخ شعب لا يُقهر، شعب تكالب عليه الأعداء من كل حدب وصوب، وتخلى عنه القريب والبعيد، ثم عاد البعيد ليشارك في القهر، وعاود القريب الغدر والطعن في الظهر.

هي حكاية «محمود عيسى» ذلك الأسير الفلسطيني وراء القضبان منذ عام 1993 والمحكوم بالسجن المؤبد ثلاث مرات بالإضافة إلى ستة وأربعين سنة أُخرى.

صدرت طبعتها الأولى عن مؤسسة «فلسطين للثقافة» عام 2012، حيث يعرض الأسير عيسى حكايته في شخصية «صابر» الذي يُعبر عن شعب بأكمله مرت مراحل نموه بانكسارٍ كبير من الميلاد في النكسة، وما تلاها من فساد ونهب للثروات والتاريخ والأصالة، وصولًا إلى ثورة الحجر التي أُعلن فيها الرفض التام للظلم والظُلّام، وليس انتهاءً بسلوك من ضعفت هممهم طريق المهادنة والاستسلام، والذي انعكس أخيرًا على فشل دعواهم، وثبت أن ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة.

ترك الراوي حكايته بلا خاتمة، ليصنعها القارئ من استلهامه للأحداث التي تدور في رحى الأيام بين شدٍ وجذب كما جيئت بالنص القرآني: لينصر الله المؤمنين ويُحق حقوق المُعذبين.

قضى الراوي معظم محكوميته في الزنزانة الانفرادية بحجة الخطورة الكبرى على أمن إسرائيل، فهو آسر الجنود ومُؤسس الخلايا، ورغم ذلك استطاع أن يُسرب أوراق حكايته لترى النور الذي لا يراه بينما هو لا زال ينتظر أن يُفتح باب زنزانته. 

أمير الظل: مهندس على الطريق

أمير الظل: مهندس على الطريق

هي حكاية الألم التي تجرعها الأسير «عبد الله البرغوثي» في ظُلمة الزنازين، حيث نظم حروف مشاهدها في 165 صفحة، يبدأ الأسير – المحكوم عليه بالمؤبد 67 مرة – روايته بالرد على رسالة ابنته الكبرى «تالا» التي شهدت لحظة اعتقاله عام 2003، تلك الرسالة التي خلت من أي حروف وعلامات إلا الاستفهام: «من أنت؟، ولماذا أنت؟»، تسأل عن ذلك الأب الذي تركها في السيارة لحظة اعتقاله، وسافر خلف القضبان دون أن يُحدد موعدًا للرجوع.

ويبدو أن صعوبة السؤال ووجع الإجابة جعلته يخط روايته «أمير الظل: مهندس على الطريق» في ترنيمة أشبه إلى السيرة الذاتية، كتبها في ظلمة العزل الانفرادي، تلك الزنزانة الشبيهة بالحد الفاصل بين الحياة والموت، ليُعرِّف بذاته ويمنح ابنته تالا إجابة، علّها تُعينها على لجم خوفها وتمنحها فرصة لترى والدها؛ الممنوع عليها زيارته ورؤيته إلا في بعض صورٍ التقطها في رحلاته وأسفاره الطويلة والبعيدة قبل أن يُأسر.

يعرض الكاتب في روايته التي صدرت طبعتها الأولى عام 2012، سيرته من الميلاد ثم الخروج مع عائلته إلى الكويت والعودة مُجددًا إلى الأردن بعد الغزو العراقي للكويت 1990، لتواجه صنوف معاناة وألم وفقر كبير بكل تحدٍ وكبرياء، ورغم أنه لم يكن يحمل شهادة الثانوية العامة إلا أنه افتتح محلًا لميكانيكا السيارات، هوايته المفضلة التي لم تُسعفه كثيرًا في توفير المال، فانتقل إلى كوريا لمدة ست سنوات كانت التجربة الأغنى، درس خلالها الهندسة الكهربائية وعمل في التجارة، هناك أتقن الكمبيوتر والاتصالات وفطن إلى تفاصيل عملها الدقيقة.

وفي توليفة غنية بالإنسانية؛ يعرض تجربته وكيف عاد إلى فلسطين بعد زيارة في نهاية التسعينيات، والصدفة التي جمعته بالمقاومة، وكيف بات خليفة للشهيد يحيى عيّاش، ويُبرز للقارئ كيف أن عبقريته في فهم الإلكترونيات قادته إلى الاستزادة بالمعرفة لصنع المتفجرات والتحكم بها عن بعد، بالإضافة إلى تفخيخ السيارات لتنفيذ عمليات عسكرية ضد الأهداف الإسرائيلية.

تمتاز كتابات البرغوثي بأسلوبها البسيط الأقرب إلى المُحاكاة الصريحة لكل ما شاهد وعاش بعيدًا عن زخرفة الألفاظ والتعابير، كما أنها تمنح القارئ فرصة للتعرف على سير المقاومين الأفذاذ الذين ربطتهم علاقة مباشرة معه. 

ستائر العتمة

ستائر العتمة

أخرج تفاصيلها إلى النور الأسير «وليد الهودلي» من سجنه في عسقلان عام 2001، فيما صدرت طبعتها الأولى بعد عامين؛ الأول كانت فيه مخفية لم يعرف بها أحد سوى الكاتب، والثاني بقيت خلاله تحت النشر.

يحكي الهودلي في روايته عن تجربة التحقيق والاعتقال وظروف السجن، ويستعرض أساليب التعذيب التي يواجهها الأسرى الفلسطينيون على يد المُحققين الإسرائيليين، أملًا في سحب اعترافاتهم؛ بدءًا من غُرف العصافير التي يتم فيها خداع الأسير، وصولًا إلى عمليات الشبح المتواصلة، والتي تتم عبر تقييد الأسير على كرسي لساعات طويلة يكون فيها مربوط اليدين والقدمين إلى الخلف.

كما تطرق إلى أساليب اعتقال الأهل وتعذيبهم كوسيلة للضغط للاعتراف بما يُمليه على المُحقق الإسرائيلي، بالإضافة إلى أساليب الحرمان من النوم والضرب الشديد من قبل المُحققين، ناهيك عن الكيل بسيل من الشتائم البذيئة والتجرؤ على الدين من قبل المُحققين الإسرائيليين؛ كسبّ الذات الإلهية وإيذاء الأسرى نفسيًا وجسديًا.

طبُع الجزء الأول من الرواية ثمان طبعات، أي نحو 40 ألف نسخة، تحدث الكثير عن دقة تصوير الرواية لتفاصيل المشاهد التي تمتزج فيها واقعية الحدث مع فيض المشاعر الإنسانية، وهو ما دفع المُخرج «محمد فرحان الكرمي» إلى تحويل رواية الهودلي إلى فيلم درامي. 

الرباعية الوطنية

وصفها البعض بـ «رباعية العشق»؛ لأنها تُذكِر بأدب الأدباء الثوار ممن خاضوا تجارب الثورة والنضال وذاقوا وبال المعاناة وآلام التعذيب والحرمان، سُميت بالرباعية كونها تضم أربع روايات: «عاشق من جنين»، و«الشتات»، و«قلبي والمُخيم»، و«لن يموت الحُلم». كتب تفاصيل مشاهدها الأسير المُحرر عام 2005، رأفت حمدونة، داخل أقبية سجن نفحة، وعمد إلى تسريبها سرًا لتُنشر بعد ذلك وترى النور في طبعتين.

في ثنايا الرواية يتحدث «حمدونة» عن المقاومة والحب والحرية بلغة واضحة سليمة نحوًا وصرفًا، ودلالة عميقة غير سطحية، تُعبر عن رسالة وطنية أصيلة وتتغنى بالثوابت في أربع روايات تحكي قصة الشعب الفلسطيني بتسلسل من «عاشق من جنين» التي تروي معركة المدينة خلال انتفاضة الأقصى وصمودها في وجه الاحتلال، وصولًا إلى «الشتات» التي عبّرت بشكلٍ جليّ عن التشرد وتدور أحداثها في فلسطين والأردن، ومن ثمَّ جاءت «قلبي والمُخيم» التي تحكي وقائع الثورة والصمود في مخيم معسكر جباليا الذي شهد جانبًا من نضال الكاتب وطفولته، ليُتوجها بـ «لن يموت الحلم» التي ختمت الرباعية بحكاية كفاح سكان حدود الوطن في رفح وترسم لوحة نضاله في التمسك بحقوقه وثوابته الوطنية.

عبّر الكاتب في رواياته الأربع عن هموم الشعب الفلسطيني بتنوعها بأسلوب شيّق يتناسب مع مضامينها التي جالت في محطات نضاله المتسلسلة.  

على جناح الدم

أيتها النفس التواقة للرحيل على ذلك الجناح الميمون، اسكني، فالدروب دونك مسدودة، والجسد تثقله الأغلال، وإذا كنت لا تستطيعين، فتحرري منه، وعيشي الخيال وتسلي مع الأطياف؛ أطياف من عشقوا فصدقوا فصدقهم الله.

تلك أولى الأسطر والكلمات في الرواية التي اختار فيها الأسير المُحرر في صفقة (وفاء الأحرار 2011)، شعبان حسونة، أن يُحاكي حياة الاستشهادي بمشاهد مكتوبة غنية في تفاصيلها بالتشويق والإثارة والعاطفة والتأصيل لفكرة المقاومة لاسترداد الحق المسلوب.

هذه الرواية بالإضافة إلى رواية «ظل الغيمة السوداء» كانتا السبب في منح كاتبهما الأسير شعبان حسونة عضوية اتحاد الكتاب الفلسطينيين عام 2005، فرغم أن الأسر اختلس من عمره 22 عامًا داخل الغرف الرمادية إلا أنه استطاع أن يُلونها بكتاباته التصويرية القائمة على الشفافية والخيال الواسع.

وعلى مد سنوات الأسر كان يُسرب كتاباته خلسةً بعيدًا عن أعين السجانين في كبسولات ورقية كل واحدة منها لا تكبر عن حجم نصف كف اليد، وكان قد سرب روايته «ظل الغيمة السوداء» في عشر كبسولات بخط دقيق جدًا، عالجت قضية السقوط في وحل العمالة مع الاحتلال، وكانت تُناقش بعض المفاهيم الخاطئة التي تُقحم أسرة العميل في ذنبه.

المصدر قليقيلية تايمز

قراءة في كتاب

(تلك العتمة الباهرة)

المعلومات العامة:

  • اسم الكتاب: تلك العتمة الباهرة.
  • اسم المؤلف: الطاهر بن جلّون.
  • دار النشر: دار الساقي.
  • عدد الصفحات: 288.

التعليق والمناقشة:

فرغت من كتاب (تلك العتمة الباهرة) وهي شهادة تاريخية صاغها الروائي الفرنكفوني “الطاهر بن جلّون” على لسان المعتقل السابق في سجن تزمامارت عزيز بنبين.

وقد فاز هذا المؤلف بجائزة (امباك دبلن الأدبية) في سنة 2004 على هذا الكتاب.

وهذا الكتاب يصنف من أدب السجون. وقد كُتِبَ بالفرنسية وهذا يُنبئك بقوة ودقة مترجمه “بسام حجار” الذي قد يجعلك تظن أن الكتاب أُلف بالعربية أصلاً.

وتقريبًا جميع كتب سجن تزمامارت قد كُتبت بالفرنسية، ومن ثمَّ تُرجمت الى العربية، ككتاب محمد الرايس (من الصخيرات الى تزمامارت: تذكرة ذهاب وإياب الى الجحيم) وقد ترجمه عبد الحميد جماهيري، وكتاب (تزمامارت: الزنزانة رقم 10) لأحمد المرزوقي وقام المؤلف نفسه بترجمته الى العربية في وقت لاحق ونُشر ضمن مطبوعات (المركز الثقافي العربي).

وقد كُتب على غلاف الكتاب (رواية)؛ وقد جرت العادةً هذه الأيام، بتسمية بعض الكتب الأدبية في السير الذاتية داخل السجون بـ(رواية) رغم أن الرواية فيما أصطلح البعض على تعريفها “هي القصة القائمة على الأحداث الخيالية لا الواقعية الحقيقة”. فربما أستخدام مصطلح الرواية قد يكون لأسباب تجارية لا واقعية.

والكتاب لا يصلح لأن يكون مدخلًا لقضية تزمامارات، بل يصلح لأن يكون مُلحقًا؛ لان المؤلف لم يكن معنياً بشرح أحداث انقلاب الصخيرات في 10 يوليو 1971م، بل تكلم عن الأحداث وكأن القارئ لديه خلفية عن هذا الحدث. وكذلك المؤلف هنا لم يكن كتابه توثيقي مَعني في المقام الأول بذكر كل شاردة وواردة مثل كتاب أحمد المرزوقي، بل كان كتاب أدبي يتكلم عن أحداث تأريخية فيمزج هذا مع ذاك، فلم يذكر كل الأحداث ولا كل التفاصيل. فالتأملات الأدبية البلاغية أخذت حيزاً قد تزعج القارئ الذي يقرأ بنفس المؤرخ.

وتكمن أهمية هذا الكتاب -فيما أرى- أنه الكتاب العربي الوحيد الذي يتكلم عن احداث العنبر «ب» الأشد بؤساً واما كتاب المرزوقي والرايس فهي عن أحداث العنبر «أ» فكاد تكون الشهادة الحية الوحيدة لما حصل في هذا العنبر.

باختصار الكتاب يتحدث عن معتقل تزمامارت الذي أُنشئ على خلفية انقلاب فاشل ضد ملك المغرب في منتصف السبعينيات من قبل أفراد وضباط مدرسة أهرمومو العسكرية، الذين دخلوا على القصر الملكي والملك يحتفل بعيد ميلاده الثاني والأربعين وكان لديه ضيوف من أعيان البلاد ودبلوماسيين وكبار رجال الأعمال وبعض المشاهير! فبدأ اطلاق النار من أجل اغتيال الملك وعلى إثر ذلك قتل الكثير من هؤلاء المدعوين، وأستطاع الملك في نهاية المطاف في أن ينجو بنفسه وأن يقلب الطاولة على الانقلابيين وأن يُفشل انقلابهم، فأدى هذا في نهاية المطاف الى محاكمات عسكرية ادت الى اعدام رؤوس الإنقلاب وسجن الضباط والجنود، الذي كان أكثرهم لا يعلم بشأن الانقلاب وإنما أُخبر بأن هنالك مناورة عسكرية، وهذا ما جعل البعض يرمي سلاحه عندما راى المجزرة تحصل، بل أدعى بعضهم –مثل المرزوقي- أنه أنقذ ولي العهد آنذاك والذي أصبح ملكاً فيما بعد “محمد السادس”، ولكن إثر ذلك الفوضى تعذر فضل المشاركين في اطلاق النار عن الذين امتنعوا عن ذلك، فأخذ الكل بجريرة البعض.

فأراد الملك أن يجعل منهم عبرة، فأنشئ لهم سجناً صحراوياً في شرق المغرب، ثم وضعهم فيه وكانت الأوامر من الملك هي قتلهم ببطئ شديد وجعلهم يعانون أشد المعاناة، فأختفى ذكرهم عن الناس، وأصبح من المحرمات الكلام عنهم في أول الأمر، وبدأوا يتساقطون الواحد تلو الآخر، إلى أن انتهت محنتهم في مطلع التسعينيات.

***

امتاز هذا المعتقل بالظلمة وعدم دخول النور إليه، لذلك عنون المؤلف اسم الكتاب بـ(العتمة)، فكانوا لا يرون النور إلا بعد وفاة أحد السجناء، فيضطر الحراس لأخراجهم من العنبر من أجل الدفان، ولكن توقف الحراس فيما بعد عن إخراجهم للدفن، فانقطع النور تماماً عنهم.

كان الطعام خبزٌ يابس وماء وشاي أو قهوة التي كان يقول المؤلف عنها أنها من الممكن أن تكون بولًا!

هذا الطعام مع امتداد الوقت أصبح أداة قتل بطيئة. فأدت هذه الظروف بالاضافة الى نشوء الأمراض نشوئاً طبيعياً بسبب الوضع اللا صحي بالاضافة الى الحالة النفسية نظراً للظروف التي وضعوا فيها الى جنون بعضهم ووفاته أو وفاته مباشرةً. لذلك تساقطوا تدريجياً من 22 معتقل في العنبر «ب» الى 4 ناجين فقط!

***

الكتاب موضوعي الى حدٍ كبير، بمعنى أنه ذكر الكثير من الأمور التي قد لا يبنغي ذكرها، والتي فيها إدانة حقيقيةً لنفسه مثلًا، كتسببه في وفاة أحد المعتقلين مثلاً، وكذلك طرق موت السجناء والتي كان الكثير منها مخزٍ الى حدٍ كبير، وكذلك الكلام عن والده. فكان سقف المؤلف عالياً وبدى وكأنه لا شيء يمكن التحفظ عليه.

أما مواضيع الكتاب الرئيسية فقد تمثلت بعرض نمط الحياة في السجن قرابة الـ 20 سنة.

كيف يمكن يقضون وقتهم؟ أثر الطعام والشراب عليهم؟ من ماتوا كيف ماتوا؟ شخصيات المعتقلين، كيف كانوا قبل المعتقل ودورهم في المعتقل وكيف استطاع الراوي استغلال وقته وما هي الأمور التي فعلها والتي مدت من عمره ولم يهلك مع الهالكين.

مثلًا تكلم عن شخصية سجين معهم اسمه “عشّار” ومثل هذه الشخصيات هي التي تجعل السجن سجنين والهم همين، هي الشخصية الحقودة التي لا تراعي ظروف المعتقل ولا ظروف المعتقلين، فتبدأ باثارة الفتن وتسعير الخلافات والحنق على أي شخص لأي شيء ايجابي يحصل له! ولو كان هذا الشيء تافهاً.

هذه الشخصية وإن كانت لئيمة الا انها اضفت نوع من الفكاهة على السرد.

وتكلم عن نمط حياة جنود مدرسة أهرمومو العسكرية والتي يظهر من خلالها نوع التنشئة الفاسدة التي ينشؤون العسكر عليها؛ والتي تخلو من أي مظهر من مظاهر الدين إلا ما كان ذاتياً، فلم يكن هؤلاء الجنود من مرتادي المساجد بل كانوا من مرتادي بيوت الدعارة، وكانوا لا يعرفون شيء عن الدين بل كان بعضهم يشتم الدين، وبعض هؤلاء الجنود لم يحفظ الفاتحة إلا في المعتقل، وياليته حفظها بسرعة بل يقول المؤلف أنه حفظها بعد أشهر من المحاولات!

وتكلم المؤلف عن الجنون الذي بدأ يُصيب المعتقلين –وهم ليسوا قلة بالمناسبة-، وبدأ يضع فلسفة تُعنى بمقاومة الجنون في المعتقل، وهي عدم الاتكاء على غريزة البقاء من أجل النجاة بل بالتخلي عن أي تعلق بالخارج يؤدي الى تقطع المعتقل تدريجياً لهفتة وشوقاً تؤديان في النهاية الى اصابته بالاحباط وخيبة العمل والتي هي القنطرة الى الجنون ثم الموت بعدها. فهو يقول: “أنا قد نسيت نفسي واستطعت أن اتجاوز ذكرياتي فلم تبقى تلك الذكريات تعذبني في كل حين الى أن تقضي علي من الداخل” .

وفي بسط لهذه الفلسفة تذكرت رجلين من رجالات الإسلام، أولهما الشيخ عمر عبد الرحمن –تقبله الله- وهو يذكر أسباب مقاومته للجنون أو الأمراض العقلية كما في وصيته: (ولولا تلاوة القرآن؛ لمسني كثير من الأمراض النفسية والعقلية)، فلحفظ القرآن منافع متعددة، وهذه من أحدها.

وقد حدثت أن أحد المشايخ المحدثين المعروفين قد سُحر في السجن، ورمي في الانفرادي حتى لا يساعده أحد، ولأنه كان يحفظ القرآن عن ظهر قلب لم يحتج الى أحد واستطاع أن يعالج نفسه بنفسه. ولو لم يكن حافظاً لتردت أحواله من سيء الى أسوء.

والشخص الثاني وهو الشيخ المحدث المعروف سليمان العلوان وهو يقول في شريط [الثبات على الحق]: (بعض الناس إذا سُجن قال: ربي أخرجني! غلط بل قل: ربي ثبتني، فكم شخص سُجن وخرج صار منحلًا عن عقيدته منحرفًا ضالًا زنديقًا أو فاسقًا أو عارًا على أهل الحق, سل الله الثبات ولا حرج أن تسأل بعد ذلك المخرج).

أحياناً الرغبة في الخروج من المعتقل تكون طغاية الى درجة الوقوع في الميكافيلية التي تقوم على أن الغاية تبرر الوسيلة، فتكون فاتورة خروجه من المعتقل هو التخلي عن الحق هذا إن لم يكن ضده.

وفي هذه الحالة كما نرى أن الرغبة الجامحة في الخروج وعدم التكيف هذا الواقع الجديد، أدت الى نفاذ صبر الكثيرين مما ادى الى اضطراب عقولهم وجنونهم ووفاتهم في النهاية.

كذلك أظهر المؤلف أن الإنسان حتى لو جرد من الأدوات التي يحتاجها للمعرفة، فإن بطول التأمل والتجربة في ظروف بدائية قد تجعله يصل الى بعض هذه المعارف التي يحتاجها.

وبما أن الحاجة أم الاختراع أو كما قال المؤلف: (فقد أعتبرت نفسي كمن أُعيد الى عصر الكهوف فينبغي عليه أن يعاود اختراع كل شيء بأدواتٍ أقل من قليلة).

فأبسط الأشياء يُصنع منها أمور مهمة، فكانت القطعة الحديدة الموجودة في طرف عصا المكنسة هي أداة الحلاقة لهم، فقد انتزعوها من المكنسة وجعلوها مسطحة وسنوها بواسطة حجر خشن ثم حلقوا ذقونهم بها!

وأما التأمل الذي جعلهم يعرفون أحوال الخارج، فهو استقرار عصفور بقرب عنبرهم، ثم لاحظوا تغريداته إن كانت على نسق معين فهي تعني أن هذا الشيء قد حصل، فأصبحوا يعرفون موعد تبديل المناوبة وأحوال الطقس كل هذا بعد تأملات شهور في نسق تغريدة العصفور.

وكذا يعرفون علامات الموت من خلال صوت توعك أحدهم أو صوت أحد الطيور الذي اسموه بالخَبَل.

وهذا ذكرني بقصة ابن طفيل (حي بن يقظان) والتي عاش فيها الأنسان البدائي في جزيرة نائية من خلال التجارب والتأمل أستطاع أن يطوع الكثير من الأشياء البدائية لصالحه.

وثم تكلم صاحب القصة عن أمر أنا أتفق معه فيه، وهو قوله: (أختلط علي الأمر. قتل الملك! ولكن لصالح من؟ لكي يستبدل بطغمة عسكرية؟ جنرالات كولونيلات، يتقاسمون السلطة وثروة البلاد؟ وبمرور الوقت، فكرت ملياً: لحسن الحظ أننا أخفقنا. أو بالأحرى: لحسن الحظ أنهم أخفقوا! فمن يدري قدر المرارات التي كنا سنتجرعها على يدِ دكتاتورية عسكرية أركانها القمندان أو المعاون عطا! إني أعرفهم جيداً، وأعرف جيداً ما أقول!).

وهذا لا يعني بحال أن النظم الملكية الدكتاتورية نظم مثالية بل فيها من الطغيان والإستبداد والعمالة ما فيها، إلا أنها أهون من النظم العسكرية، بل البعض أصبح يترحم على النظم الملكية عندما جرب جمهوريات العسكر!

كما قال أحمد رائف في كتابه (البوابة السوداء – ص252): (وفي الحقيقة بدأت مأساة الإخوان بضرب يوسف القرش في قصر عابدين حيث كان يقيم الخديوي إسماعيل رحمه الله وطيب ثراه هو وأباؤه وأبناؤه الكرام البررة، إذا قارنا طغيانهم بطغيان من جاءوا بعدهم).

كما أن الإشكاليات الموجودة في النظم الملكية ترى العسكر يتكئون عليها لتبربر انقلاباتهم، من ذلك صور البذخ وسوء التدبير الموجود لدى الأسر الحاكمة، ولكن بمجرد ما يتم الإنقلاب إلا وتراهم يمارسون ذات الفعل، ويصدق المثل القائل: كأنك يابو زيد ما غزيت!

يتكلم حبيب سويدية صاحب كتاب (الحرب القذرة – ص44) مثلًا عن نظام الجنرالات في الجزائر فيقول: (وفي تلك الفترة –فترة الشاذلي بن جديد- كانت تُقلع طائرات عسكرية بصورة منتظمة من بوفارق، لحمل زوجات كبار المسؤولين ومستخدميهم الى باريس وبالما ومدريد وروما من أجل التسوق .. ممارسات مستمرة حتى اليوم!).

فهذا الأسلوب لا يختلف عن نمط العوائل البرجوازية في النظم الملكية.

دراسة جميع هذه الظواهر، كما دراسة تاريخ عالمنا العربي؛ تجعلنا نتبصر بطريقة لا شك فيها، فمشكلة النظم الملكية المستبدة لا تُعالج بالجمهورية العسكرية، وهذا كمن يحاول أن يزيل النجاسة فيزيدها نجسًا. ويزيد الطين بله.

ختاماً: مثلت أقصوصة (تلك العتمة الباهرة) انموذجاً لصراع الجبابرة على الحكم، ومدى أثره على الخاسر في هذا الصراع، أظهر نموذجاً حسياً للإنسان المقاوم بأبسط الأدوات بدائية الموت ومقدماته، أظهر كيف أن الإنسان ذلك الظاهرة المعجزة التي لا تقولب في إطر محددة سلفًا كما قال الدكتور عبد الوهاب المسيري في كتابه (الفلسفية المادية وتفكيك الإنسان)، وأظهرت جزءًا ظل مخفياً من تاريخ المغرب السياسي، ظل طي الكتمان لفترة طويلة، وكان هذا الكتاب من الشهادات القلة القليلة حول ذلك الحدث.

يستفيد المسلم من هذا الحدث الكثير من الأمور:

– “المُلك عقيم”، فالرجل يقتل أباه أو أخاه على الكرسي، فكيف بالغريب الأجنبي، الذي من أطراف البلاد ولا قيمة معنوية له ولن يثأر له أحد! فأي صراع على السلطة إن دخله الشخص فليتوقع أن يحصل له مثل ما حصل للمعتقلين في سجن تازمامارت. أي صراع وجودي يستنفذ كل طرف طاقته في إفناء الطرف الآخر وإن تمكن منه لن يرحمه.

– أن النظم الجمهورية العسكرية، ليست أحسن حال من النظم الملكية، بل هي أسوء، وأن أغلب التجارب -إن لم تكن كلها- رفع العسكر فيها شعارات في مواجهة الملكية لم يطبقوها عندما وصلوا الحكم بل صار الحال أسوء من قبل، وقد قيل: ” المجرب لا يجرب”.

– أن الصمود في المعتقل وفي ظل الظروف الصعبة يحتاج الى أساليب وأدوات جزء كبير منها يحصلها الشخص قبل البلاء؛ وتحتاج قبل ذلك كله تعويد النفس على الصبر وطول النفس، وقبل ذلك كله التقرب الى الله وتحويل المعتقل الى فرصة مثالية لتصليح النفس ومكان للعبادة، فكانت هذه العبادات كما أظهر صاحب القصة سببًا في ثبات عدد غير قليل حتى ممن ماتوا، على الأقل ماتوا بسبب أمراضهم ولم يموتوا بسبب فقدانهم لعقولهم.

–  (إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) ولكن أحياناً يؤيد هذا الدين بالرجل الكافر! وهذا واضح في القرآن والسنة، ومن ذلك قوله تعالى: (وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ) فالرهط هنا من حموا شعيب من الرجم، وهؤلاء الرهط هم من أهل الإشراك كما قال الشنقيطي في تفسير أضواء البيان: (بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أن نبيه شعيبا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام منعه الله من الكفار، وأعز جانبه بسبب العواطف العصبية، والأواصر النسبية من قومه الذين هم كفار). وكذلك حماية أبو طالب للنبي صلى الله عليه وسلم وهو مشرك ومات على الشرك. ولو رأيت قصة (تلك العتمة الباهرة) ترى أن من كان سببًا في التخفيف من كربتهم كان حارساً تعاطف معهم حميةً؛ لأن أحد المعتقلين من نفس قبيلته، فأصبح يهرب الرسائل التي يستخدمها المعتقلين ويوضحون فيها أحوالهم وظروف سجنهم؛ فيوصلها أهلهم الى المنظمات الدولية التي تشحن حملات ممنهجة ضد حكومة المغرب، وأدى هذا في النهاية الى تخفيف الضغط وتحسن الأحوال. فلا تستغرب أيها المسلم في سجنك إن وجدت من يريد نصرتك من الطرف المعادي لقاسم مشترك بينكما كالقبيلة أو العشيرة، ولا يستنكف الشخص عن استغلال هذه الفرص بحجّة أن الطرف الآخر عدو، بل يستغلها ويستخدمها لصالحه كما استخدمها الأنبياء لصالحهم من قبلهم.

– إن أصحاب القضية الإسلامية في المغرب وغيرها من أقطار العالم العربي، لهم تجارب تقارب بشاعتها ما حصل في (تلك العتمة الباهرة) وعليهم أن يبقوا قضاياهم ويخترقوا سياج (الروايات) للوصول الى أكبر عدد من القراء، فالكتب التأريخية لا يقرأها إلا المهتمين بالتأريخ، ولكن الروايات التأريخية يقرأها قراء الروايات ومحبي التأريخ، فأنت تستهدف هنا شريحتين، خصوصاً أن جيل الشباب اليوم يَغلب عليه قراءة الرواية.

هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

1 يناير 2020 م – 6 جمادى الأولى 1441 هـ

المصدر مدونة احمد حمدان

أدب السجون.. إضاءات داخل العتمة

الصورة:

إبداعات فريدة الملمح، تغرف من مخزون قلم هو مزيج نفثات وخطرات وآهات، مجبولة بترنيمات عوالم الروح الغارقة في التأمل وبمفردات التجربة المريرة..

هكذا يوصف بعض النقاد والمحللين ماهية الأعمال الروائية التي كتبها مثقفون كثر، يوما ما، بينما كانوا يقبعون خلف قضبان السجن، إذ سجلوا فيها ومعها، أروع نماذج تجاربهم، ومن بينهم صنع الله إبراهيم،الذي قال في أحد حواراته، إنه غير نادم على الفترة التي قضاها في السجن، بل يرى أنه مدين إليها كونها أتاحت له القدرة على التفكير بصفاء، ومراقبة البشر والتعرف إلى سلوكهم.. فهل حقا، يُمكن القول إن تجربة السجن لدى الكاتب، نبع خصب، كونه يستفيد من زخمها، وينجح في ترويضها وتشكيلها؟

لا يتردد روائيون كثر، عايشوا واختبروا تجربة السجن، في التأكيد ضمن أحاديثهم، على انهم يحنون إلى ذكرى فترة السنوات التي قضوها في السجن، ونجدهم يروون سيرا وحكايا لا تنتهي، عن دورها في صقل مستوى خبراتهم، ومدهم بأدوات ومهارات الرواية المتقنة، المحاكية روح الواقع، وكذا النضح من عمق الوجدان الانساني.

هزيمة السجان

تعرضت نخبة من الكتاب والمفكرين والأدباء، إلى ألوان القهر والظلم، من خلال السجن، سعياً إلى كسر حدة أقلامها وتأطير رؤاها، ومنعها من التعبير عن الوجدان المجتمعي بجرأة وشفافية، ومن بين أبرز الأسماء في هذا الصدد: صنع الله إبراهيم، جمال الغيطاني، مصطفى أمين، عبد الرحمن الأبنودي. إذ ذاق هؤلاء مرارات الاعتقال والحبس.

لكنهم انتصروا، في النهاية، على سجانهم عبر تحويلهم تلك المواقع خلف القضبان، إلى مرتع فكر وتأمل، بل وزوادة ثرية المكونات، تحصن تجربتهم الإبداعية، فتهزم توليفة القهر والكبت، لتحول الظلام فضاءات نور توقد جذوتها بقوة، فتشع كاشفة غوامض وخبايا الحياة خارج السجن، معززين إيمانهم، خلالها، بقدرة الكلمة الحرة على مواجهة الظلم، والتصدي لطغيان الحاكم المستبد.

«عريان بين الذئاب»

تحكي الأديبة سلوى بكر، عن رأيها في شأن سمات وتاريخ « أدب السجون»، مبينة أنه ظاهرة أدبية قديمة، إذ إن وجود القهر الإنساني والاستعباد، دائما ما كانا السبب في وجود هذا النوع من الأدب. وتشير سلوى إلى أن أول من كتب عن أدب السجون في مصر، هو محمد شكري الخرباوي، وقدم كتابا بعنوان: «55 يوما في مخبأ».

وتضيف: «إن من أبرز الكتاب الذين مروا بهذه التجربة، أيضا، الروائي صنع الله إبراهيم الذي عبّر عن تجربة سجنه، من خلال رواية «تلك الرائحة».. كما أن الاديب الراحل عباس محمود العقاد، تعرض للسجن، بتهمة سب الذات الإلهية. ونجد أن بعض المناضلين، وليس الكتّاب فقط، خلقت فيهم تجربة السجن، الرغبة في الإمساك بالقلم؛ لتسجيل التجربة التي مرّوا بها، ومن بين هؤلاء فخري لبيب، الذي عبّر عن سجنه، من خلال كتاب (عريان بين الذئاب).

وتستعرض سلوى بكر، قيمة أدب السجون، لافتة إلى انه يسجل معاناة الإنسان في زمن ما، وداخل السياق التاريخي الخاص بهذا الزمن، حتى لا ننسى، وموضحة أنه أدب يمثل ظاهرة في مجتمعاتنا العربية، تتعلق بالقمع السياسي، وواصفة هذا الأدب بأنه أدب مؤلم ويضغط على الروح. كما تتحدث عن تجربة اعتقالها: «تعرّضت للاعتقال مع مجموعة من المثقفين والصحافيين، بتهمة محاولة قلب نظام الحكم، وتحريض العمال على الإضراب، خلال حكم الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك..

وعلى الرغم من أن تجربة اعتقالي لم تستمر سوى 15 يوما، قضيتها في سجن القناطر، فإنها كانت غنية، إذ التقيت بالسجينات ووجدتهن في صورة وهيئة سببت لي صدمة بالغة, إذ رأيت جانبا لم أشاهده من قبل، في المجتمع المصري،باعتباره بعيدا عن الأضواء، ولا يُرى في الحياة اليومية العادية، وهو ما دفعني إلى الكتابة عن المسجونات كضحايا، وعن أشكال التمييز الموجودة في المجتمع، فكانت كتابة أدبية بعيدة عن السجن السياسي، كما كتبت أيضا رواية لتبيّان حقيقة أن القمع السياسي لا يستجيب من الوهلة الأولى».

حكاية ثلاثة مقالات

يؤكد صلاح عيسى أن أدب السجون، نموذج لأصدق الكتابات التي يكتبها صاحبها، فهو ناتج عن معاناة حقيقية، يحياها مؤلفها ولا يستطيع أن يعبّر عنها، إلا من خلال الورقة والقلم، ليصوّر معاناته داخل السجن.

ويروي عيسى حكايته مع أدب السجون فيقول: «في عام 1966، نشرت ثلاث مقالات في إحدى المجلات اللبنانية، تحت عنون «ثورة 23 يوليو بين المسير والمصير»، وبعدها أمر الرئيس جمال عبد الناصر، باعتقالي، بتهمة الإساءة إلى الثورة ولشخصه، ووضع العيب في النظام الاشتراكي.

وذلك رغم أن قصدي لم يكن أبدا الإساءة إلى الثورة أو إلى شخص الرئيس الراحل، بل كان لتوضيح الوضع السياسي غير الديمقراطي، الذي كانت تعانيه مصر.. وأود أن أشير هنا، إلى أنني، وفي الفترة نفسها، كنت منضويا في إطار تنظيم تنظيم سياسي سري».

ويتابع عيسى، ساردا ملامح وجوانب ما مر به، أثناء تلك الفترة: «نقلت إلى سجن الاستجواب الموجود في سجن القلعة، والذي تنفصل فيه كل علاقة للإنسان بالعالم الخارجي، فلا صحف ولا مذياع ولا أهل أو أصدقاء، وبقيت على تلك الحال، حتى نقلت إلى سجن طرة، فبدأ يحدث الاختلاط بيني وبين المساجين اليساريين والإسلاميين..

وكان الحصول على الكتب، من ضمن الصعوبات التي تواجهنا؛ ذلك بفعل تشديد إدارة السجن على عدم دخول أي أوراق أو كتب إلى المساجين، وكان الحل الوحيد أمامنا، التحايل على إدارة السجن، بزعم أننا نريد إعادة التقدم إلى امتحانات الشهادة الثانوية العامة، بغرض تحسين المجموع الكلي، وبهذا الإجراء كنا نستطيع إدخال الكتب إلى السجن».

صالونات ثقافية «سجنية»

وعن طبيعة قراءاته، وكيفية إثرائها مخزونه الإبداعي، يقول عيسى: “بدأت أكتب في السجن بعد أن تزودت بقراءات مهمة لكتب تاريخية وسياسية متنوعة، وكنا اعتدنا، نحن السجناء، إقامة فعاليات صالونات ثقافية في السجن، واستمرت هذه النشاطات، إلى أن خرجت منه.. ولكن سرعان ما عدت إليه، مرة أخرى، بتهمة توزيع المنشورات في التظاهرة الطلابية التي خرجت، احتجاجا.

وتعبيرا عن الغضب الشعبي لنكسة 1967، فعندها غضب عبد الناصر، وأقسم أنني لن أخرج من السجن طوال الفترة التي يكون فيها على قيد الحياة، فاتخذت من القلم والورقة خنجرا لأقتل به الهزيمة، ونشرت 15 مقالاً .. تحت اسم مستعار في جريدة (المساء)، وألفت 72 رواية ومجموعة قصص قصيرة، جمعتها في كتاب :

(بيان مشترك ضد الزمن)، إلى أن توفي ناصر، وخرجت من السجن متمنيا أن نحيا عصرا ديمقراطيا مختلفا عن ذي قبل، ولكني وجدت أن الوضع لم يتغير كثيرا في عهد السادات، واعتقلت شهورا عديدة، إلى أن أتى عهد الرئيس مبارك، فقرّرت التفرغ التام للصحافة والبحث التاريخي».

«أصعب المراحل»

تصف الكاتبة فريدة النقاش، رئيسة تحرير صحيفة الأهالي، فترة اعتقالها، بأنها من أصعب المراحل التي مرّت بها في حياتها، ففي الوقت نفسه، كان زوجها رهن الاعتقال، وتوفي أخوها أثناء اعتقالها، مؤكدة أنه لم يهوّن عليها الأمر، إلا إيمانها بالإصلاح الذي كانت تسعى إليه، مشيرة إلى أنه في المرة الاولى التي سُجنت فيها، كان معها 24 امرأة، ومن بينهن الكاتبات: نوال السعداوي ولطيفة الزيات وأمينة رشيد”.

وتلفت فريدة إلى أنه، ولكثرة اعتقالها، كانت حقيبة السجن لديها، جاهزة دائما، إلا أنها، ورغم هذا، لم تنقطع عن القراءة طوال فترات الاعتقال، وخاصة قراءاتها المعميقة في مجال التاريخ المصري والسياسي عموما. وتختار هنا الاشارة الى تجربة محددة في ما تعرضت إليه من اعتقالات، إذ انها سجنت عقب قرارات سبتمبر الأسود، ووضعت في عنبر يطلق عليه اسم:

(عنبر الجرب)، فتعرفت فيه على صوت الفنانة عزة بلبع، والتي كانت تغني مع الشيخ إمام عيسى، ثم اعتادت، حينها، هي وزميلاتها، على تنظيم برنامج ثقافي، يشارك الجميع فيه، فيجري النقاش عبره، حول كتاب أو موقف ما.

وتتابع: “أردت تخليد هذه الذكرى وتلك التجربة، فألفت كتاب (السجن دمعتان.. ووردة)، كتبت فيه ما أضحكني وما أبكاني”.

خيوط الظلام

يتطرق الكاتب التونسي سمير ساسي، الى تجربة سجنه، على أساس ما أفادته به من إنضاج لخبراته، وصقل لإمكاناته، ويوضح أنه بقي مسجونا لأكثر من عشر سنوات، بينا كان في مقتبل العمر، وذلك بتهمة الانتماء إلى جمعية غير مصرح لها.

ويضيف: “كنت في ذلك الوقت، ضمن الفريق الطلابي التابع لجمعية النهضة.. ونجحت، فعليا، في الانتصار على السجن، لأنني لم أدعه يهزمني، فحركت جذوة الإبداع في مكنوناتي، وصقلت معارفي وخبراتي، ومن ثم كتبت وانا في السجن، رواية “خيوط الظلام” التي تفضح السجون التونسية في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، حيث وصفت من خلال هذه الرواية، أصناف التعذيب التي تتم ضد المسجونين”.

ويبين ساسي، إلى أن فترة التسعينيات من القرن الماضي، شهدت تعرّض الكثير من المثقفين والناشطين التونسيين، إلى السجن السياسي، ويسترسل: “كان أمامي خياران؛ إما الرضا بما يعرضه الجلاد أو الصبر، والصبر أيضا كان نوعين، إما السلبي منه أو الإيجابي، فاخترت النوع الثاني.

وهو الصبر الإيجابي الذي قرّرت أن أحوّله إلى صبر جميل وإبداع جمالي، وحاولت أن أعبّر عن تجربة السجن في البداية من خلال الشعر، ولكن لم تستطع القصائد أن تحكي بعمق عن هول ما رأيت، فكان الحل الأمثل عن طريق الرواية، وبذا خرجت “خيوط الظلام”.

ويختم الروائي التونسي مؤكدا على أن هذه التجربة، لا تزال محفورة في وجدانه، ولا يمكن نسيانها، فالإنسان لا يستطيع أن ينسى كرامته التي أهينت، فما كان خلالها، أشياء لا يمكن محوها من الذاكرة، إلا انها، لا يجب ان تكون عائقا أمام استمرار الحياة، بل حافزا على العطاء.

المصدر البيان

ينام الليل وأبقى أنا زكرياء بوغرارة

طال  نوم الليل  بهذي الروابي وهذي الشقوق

ينام الليل وأبقى أنا مستفيق

ينام  طويلا على حافة قهر

وأبقى أنا أرقب دمي المهراق

يسيل يسيل كقارورق عطر

تريق الشذى  وتنثر  العبق في هذا الطريق

ينام الليل  وأبقى أنا…..

قلقا موحشا

لا أستريح

فمتى ؟؟؟؟

تنتفض يا رفيق

متى تستفيق؟؟؟

قبلما يستفيق الليل الأسود

الذي ينام ملئ أجفانه  ..

 وأبقى انا مستفيق

على أمل في هطول المطر

على عجل لإطفاء الحريق

2

جاء الظلام كالموت الزئام

والليل ينام

وأبقى أنا أرقب من ثقوب الدجى

أملا

ربما

حلما

ربما

في السكون السحيق العميق

ينام الليل ملئ أجفانه

يراقص هدبيه على فراش وثير

وأبقى أنا قلقا موحشا صدئا

كشمعة  او ل قطرة تسكبها …

دمعة لاشتعال الحريق

3

لعل الليل الذي ينام قرير العين

بعد مؤامراته في الخفاء

يحوكها بمكر الدهاء

ليظل الظلام يلفنا

في هذا الطريق الطويل السحيق

قد جفاني الكرى عندما نام الليل البهيم

وبقيت أنا موقدا..

كوهج جمرات الحريق

مقرفصا في الظلام

 في ليالي جمرنا

بعمق أقبية الزنازن الموحشة

أرقب طلائع فجر ينبثق

معلنا من أفق قد بدا

انبعاث الشروق….

سجن سلا  المحلي 2 اقبية العزلة حي هاء  المنفردة رقم 3

صيف2015

تحرير

رواية ليالي كرداسة الحلقة الخامسة المهندس أنور رياض

(5) قرأ الشيخ المريض .. الإمام المرشد .. الأوراق في عناية شديدة .. ثم سألها فجأة

هل تثقين في عبد الفتاح إسماعيل ؟

قالت في ثقة :

– لو رأيته فضيلتك … لوثقت به قبل أن تبادله التحية … شاب عليه مهابة الشيوخ .

– هذا واضح في كتابته … اسمعي يا حاجة زينب … طريق المجاهدين لا يفرش بالورد … هذه المحنة لن يجتازها من يأخذ بالرخصة … وإنما هي في حاجة إلي أولي العزم … استمروا في سيركم … ولا تلتفتوا إلي الوراء .

– ولكن هناك من الإخوان القدامى الذين ينصحون بالكمون … وعدم الحركة حتى تهدأ العاصفة .

بادرها بسرعة :

– وهل لديهم موعد محدد لهدوء العاصفة ؟؟ .. لا تغتروا بعناوين الرجال وشهرتهم … أنتم تبنون بناء جديدًا

– وبماذا تنصح فضيلتك عن البرنامج

– برنامج الإخوان ومنهجهم في التربية معروف … القرآن … والحديث والسيرة … ورسائل الإمام الشهيد حسن البنا … ووصاياه … تحدد الحركة في خطوط عريضة … والكتب كثيرة … ولكن ضموا إلي مراجعكم المحلي لابن حزم .

قال لها زوجها :

– زينب … أريد أن نتحدث قليلاً .

– سكتت … أدركت ما يدور في رأسه … استطرد قائلاً :

– يتردد علينا … في الفترة الأخيرة … عدد من الشباب … هل هو نشاط لالإخوان المسلمين . قالت دون تردد :

– نعم .

– أي نوع من النشاط ؟

أجابت في حسم :

– إعادة تنظيم الجماعة .

قال في قلق واضح :

– ولكن يا زينب … لعلك تدركين مدي خطورة هذا الأمر .

قالت في سعة من الصدر :

– هل تذكر يا زوجي العزيز … عندما تم اتفاقنا علي الزواج … ماذا قلت لك

– اشترطت شروطًا ولكني مشفق عليك من الطريق … أنت تتعرضين لجبابرة لا يرقبون في أحد إلاَّ … ولا ذمة .

قالت في ود :

– سأكرر لك ما قلته يومئذ … للتذكرة … قلت لك يومها هناك شيئًا في حياتي يجب أن تعلمه أنت لأنك ستصبح زوجي … وما دمت قد وافقت علي الزواج فيجب أن أطلعك عليه … علي ألا تسألني عنه بهد ذلك … وشروطي بهذا الأمر لا أتنازل عنها … أنا رئيسة المركز العام لجماعة السيدات المسلمات … وهذا حق … ولكن الناس في أغلبهم يظنون أني أدين بمبادئ الوفد السياسية … وهذا غير صحيح …

سكتت لحظة … ثم استأنفت … وقد ازداد حماسها :

– الأمر الذي أؤمن به … واعتقده … هو رسالة الإخوان المسلمين … ما يربطني بمصطفي النحاس هو الصداقة الشخصية … لكني علي بيعة مع حسن البنا علي الموت في سبيل الله … غير أني لم أخط خطوة واحدة توقفني داخل دائرة هذا الشرف الرباني حتى الآن … ولكني أعتقد أنني سأخطو هذه الخطوة يومًا ما … وأحلم بها … وأرجوها … و … لكن إذا تعارضت مصلحتك الشخصية … وعملك الاقتصادي مع عملي الإسلامي … ووجدت أن حياتي الزوجية ستكون عقبة في طريق الدعوة … وقيام الدولة الإسلامية فسوف تكون علي مفترق طريق …

– قاطعها قائلاً : أنا لازلت أذكر ردي علي شروطك … أنا سألتك حينها … ماذا يرضيك من المطالب المادية التي تطلبها كل عروسة … من مهر أو مطالب الزواج … قلت أنه ليس لديك سوى ألا أمنعك عن طريق الله … فقد كنت لا أعلم أن لك صلة بالأستاذ البنا … وإنما كنت علي علم فقط بالخلاف بينكما بشأن انضمام جماعة السيدات المسلمات إلي الإخوان المسلمين .

– قالت : وأنا أذكر موقفك الكريم … عندما أطرقت والدموع محبوسة في عينيك سكت متأثرًا … وهي تضيف : اتفقنا يومها … رغم أنه كان يراودني خاطر إلغاء الزواج … والتفرغ كلية للدعوة أثناء محنة 1948 .

انتظرت لتلتقط أنفاسها من التأثر ، وأردفت : أنا – اليوم – لا أستطيع أن أطلب منك أن تشاركني في الجهاد … ولكن من حقي أن أطلب منك ألا تمنعني منه … المسئولية وضعتني في صفوف المجاهدين … أرجو ألا تسألني ماذا أفعل … ولتكن الثقة بيننا تامة … كما كانت دائمًا بيننا … فأنا لا أستطيع أن أنسي أنني وهبت حياتي – منذ كنت صبية في الثامنة عشر من عمري – للدعوة في سبيل الله … وقيام دولة الإسلام … وعندما يتعارض هذا الهدف مع الزواج … فسينتهي الزواج … وتبقي الدعوة .

قال في تأثر : لقد اخترت يا زينب …

قالت وقد خنقتها العبرات : أنا أعلم أن من حقك الأمر … وعلي واجب الطاعة … ولكن الله أكبر في نفوسنا … من أنفسنا … ودعوته أغلي من ذواتنا … وأدعو الله أن يجعل أجر جهادي قسمة بيننا بلغ تأثره مداه

– سامحيني يا زينب … اعملي علي بركة الله … يا ليتني أعيش وأري غاية الإخوان وقد تحققت … وقامت دولة الإسلام … ليتني في شبابي وأعمل معكم .

رواية ليالي كرداسة الحلقة الرابعة المهندس أنور رياض

(4) قالت لها مديرة منزلها

قالت لها مديرة منزلها :

– الشيخ عبد الفتاح .

ردت الحاجة زينب :

– ادخليه إلي الصالون .

– لقد فعلت .

كانت قد قامت من النوم لتوها … بمجرد أن جهزت نفسها … دخلت عليه … حبست عبارات الترحيب … واستدارت خارجة … لتعود وهي تحمل بطانية وتلقيها عليه … فقد استغرق في النوم بمجرد أن لمس جسده الكرسي اللين …

وقالت للمديرة :

– اتركيه … إلي أن يستيقظ … وجهزي له فطورًا

لم يلبث إلا ساعة … قام بعدها فزعًا .

قالت :

– يبدو علي وجهك الإرهاق

– لم أنم منذ الأمس … لن ألبث إلا قليلاً … لدي موعد بعد ساعة في مسجد الملك في حدائق القبة … مع بعض الأخوة .

قالت :

– لازال الوقت مبكرًا … تناول إفطارك

– سأكتفي بالشاي … أخبريني … ماذا قال لك الإمام المرشد .

– لقد أذن لنا أنا وأنت بالعمل … وأوصانا بالحذر … ولا ينضم إلينا إلا من يرغب … ونري فيه الصلاحية … كما طلب منا موافاته بالتفاصيل .

– هذا خبر طيب … الحمد لله

أخرج من جيبه مظروفًا :

– هذه ثلاثمائة جنيه

لازالت مشفقة عليه … تناولت النقود من يده الممدودة :

– بعض الراحة ستعطيك طاقة للحركة … ويمكنك إدراك الموعد لو ركبت تاكسي … وهذا جنيه تبرعًا مني لك

أمسك بالجنيه … ثم رده إليها :

– ضعيه إلي الثلاثمائة جنيه … هناك من هو أكثر حاجة إليه مني … نحن لا نركب التاكسي … الذين يركبون السيارات استرخوا … ولم يعودوا صالحين للعمل

قالت تراجعه :

– قد لا تدرك موعدك

قال في ثقة :

– الذين ينتظرونني هم من جند الله … ولن ينصرفوا حتى أصل إليهم

قال باسمة وهي نودعه :

– أنا أركب السيارة … ولم أسترخ … ولم يتوقف نشاطي … بل – كما تري – يزداد إصراري … واستمراري في العمل من أجل الدعوة

قال في مودة و … صدق :

– هذا ابتلاء نجحت أنت فيه … وربما لا أنجح أنا فيه

استطرد وهو يناولها مظروفاً متضخمًا بالأوراق :

– لقد نسيت … وما أنسانيه إلا الشيطان … هذه الأوراق فيها حصيلة جولتي … اقرأيها … ثم أعرضيها علي فضيلة المرشد … وبالطبع يتم حرقها … بعد ذلك .