Monthly Archives: أكتوبر 2022

القضاء يتابع المعتقل حسن إشعاع في قضيتين و الأخير مضرب عن الطعام و زوجته تناشد التدخل

بسم الله الرحمن الرحيم

و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين و على آله الطيبين الطاهرين و على صحبه أجمعين

أنا زوجة المعتقل حسن إشعاع المعتقل بالسجن المحلي بسلا 2 تحت رقم اعتقال 3302 ابتداء أتقدم بجزيل الشكر لجميع المسؤولين عن اللجنة المشتركة للدفاع عن المعتقلين الإسلاميين نظير المجهودات التي تبذلونها لمساندة المعتقلين الإسلاميين.

وبعد زوجي اعتقل على خلفية قضية لا علاقة لها بما يطلق عليه ” الإرهاب” و حكم بسنة قضاها و أتمها خلف القضبان إلا أننا فوجئنا بمتابعته وهو رهن الاعتقال على ذمة القضية الأولى بقضية ثانية على خلفية قانون مكافحة الإرهاب بدون أي جريرة أو ذنب! مع أنه ليس له أي تحركات في الإطار الجديد الذي توبع على خلفيته، فزوجي رجل مستقيم أحسبه كذلك و الله حسيبه غالب اهتمامه منصب على تحصيل القوت اليومي لإعالتي و عياله.

يوم 20-10-2022 عند زيارتي لزوجي بالسجن المذكور ذهلت لرؤيته في حالة صحية نفسية وجسمية صعبة و متدهورة نتيجة دخوله في إضراب مفتوح عن الطعام منذ حوالي الشهر بسبب الحكم عليه على خلفية قانون مكافحة الإرهاب ب 3 سنوات ظلما أضيفت للسنة التي حكم عليها في الملف الأول الذي اعتقل أساسا لأجله، و كذا الزج به في زنزانة العقاب الإنفرادية طيلة 24 ساعة منذ مدة طويلة جدا دون تمتيعه بحق الفسحة القانوني، ناهيك عن أن الزيارة مسموح بها فقط مرة كل 15 يوما لدقائق معدودة، هذا مع حرمانه من التوصل بملابس له لا بشكل مباشر و لا عبر الإرساليات البريدية من طرف الأسرة، مما خلف لي أزمة نفسية بسبب ما يحدث لزوجي دفعت بي للمتابعة الصحية لدى دكتورة طب نفسي و كذا تدهورت حالة والده الصحية حتى أصبح طريح الفراش

و يذكر أني خلال آخر زيارة وجدت يدا زوجي عليهما آثار الأصفاد و زرقاء اللون لا أدري لم يكبل بها علما أنه داخل السجن و لم يخرج منه لا إلى المحكمة و لا لغيرها منذ شهر غشت 2022.

و عليه أناشد السلطات المغربية التدخل عاجلا لإنقاذ حياة زوجي من هلاك محقق إذا ما استمر في إضرابه عن الطعام و إعادة النظر في ملفه الثاني الذي حكم على خلفيته ب 3 سنوات و تمتيعه بحقوقه الآدمية و إخضاعه للرعاية الصحية إلى حين إطلاق سراحه، كما أهيب بجميع الجمعيات و المنظمات الحقوقية و المؤسسات الإعلامية النزيهة مؤازرة زوجي لإيصال صوته و مظلمته.

و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

زوجة المعتقل الإسلامي

حسن إشعاع

23-10-2022

المصدر موقع اللجنة المشتركة للدفاع عن المعتقلين الاسلاميين

في الذكرى العاشرة لرحيله: قدور اليوسفي واعتقال والدي الحاج الجيلالي لعماري.

حلقة الثانية

ماركسي يساري بين الإسلاميين!!!

صعدت الشقيقات الصغيرات واللائي كن تلميذات في المستوى الإبتدائي وبداية الإعدادي،صعدن إلى غرفتي وأفرغن المكتبة من كل ماهو عربي كتبا ووثائق، وبحركة سريعة نقلنها إلى أعلى السطح، ولكن لم يعرن اهتماما بالكتب الفرنسية، لاعتقادهن البسيط أنها لن تثير شبهة لدى البوليس.

أنهى أصحابنا الأمنيون تفتيشهم لطابقين بأكملهما، ولما بلغوا الطابق الثالث وولجوا أخيرا إلى غرفتي، وجدوا العجب العجاب الذي صعقهم وكهربهم، بينما كنت في باطني أغرق في الضحك، من هذه المصادفات المضحكة، بين مافعلته أخواتي المسكينات وبين ما اكتشفه الأمنيون في تلك الكتب الفرنسية.

بدؤوا يقلبون الكتب ويقرؤون عناوينها وهم يطلقون الصفير ويضربون كفا بكف، وكأنهم إزاء رجل خطير.

كانت الكتب عن الماركسية وعن الثورة الكوبية و عن شي غيفارا وعن الثورة المصرية وجمال عبدالناصر وكلها بالفرنسية.

ثم كانت الكارثة الكبرى لما وضع رئيسهم يده على كومة كبيرة مصفوفة ومركومة من الجرائد، فصرخ وصاح من صدمة ماوجد: ناري هذا ولد الحرام تيقرا لاغرانما، يقرؤها فقط نخبة الشيوعيين في العالم، هذا ولد…. تيسكن ف البرنوصي وتايقراها، وبدأ يشرح لمرافقيه المشدوهين الذين لم يكونوا ليفهموا شيئا، وهو يصيح لا غرانما لا غرانما، وكان هذا الرئيس العجيب مثقفا، وبدأ يفسر أن لا غرانما هي الجريدة الرسمية اليومية التي يصدرها الحزب الشيوعي في كوبا التي يحكمها فيدل كاسترو بعد انتصار الثورة الكوبية المسلحة، وأن لاغرانما هو إسم اليخت الذي دخل به الثوار عبر البحر إلى كوبا عندما أسقطوا نظام باتيستا، كانوا ينصتون لرئيسهم المصعوق، وينظرون إلي والسعار في أعينهم من هول ماسمعوا، وكأنني من ثوار كوبا، حتى إنهم لقد كادوا ينقضون علي بالصفعات، لولا أن رئيسهم منعهم، لاحترام العائلة، ولكنهم كانوا يرددون: آش اداك لشي كوبا، كنا في العمراني حتي لقيناك في الثورة وفي كوبا، كانوا يخلطون الجد بالسخرية ،وكنت أتفرج على هذا الحال وأنا أكاد أنفجر في داخلي من الضحك، ومما كنت أعد لهم من جواب في جولة حوار الصم البكم التي تنتظرنا معا في لمعاريف.

جمعوا هذه الكتب وجرائد لاغرانما وقفلنا راجعين أمام أعين الصغيرات والوالدة المسكينة وبكاءها، وكان الوالد غائبا، وفي الطريق نحو كوميسارية لمعاريف، كان رئيس الأمنيين يحكي لمساعديه، عن تجربته الطويلة في التحقيق مع اليساريين، وكيف كان يفكك خلايا تنظيمهم، وكان يسمعني ذلك، حتى أستعد لعدم المراوغة.

وفي لمعاريف بدأنا جولات التحقيق، بلغة أخرى، وأسلوب آخر، وتعذيب آخر وكأنهم يقبضون على ماركسي لينيني مندس بين الإسلاميين.

قال رئيسهم المحنك والمجرب مع اليسار: أنت يساري لأنك تقرأ هذه الكتب وجريدة لا غرانما، وأنت انتميت إلى الإسلاميين بعد انتصار الثورة الإيرانية، لأن كثيرا من اليساريين فعلوا ذلك، تحدث، احكي لنا عن تفاصيل ذلك.

فقلت له بلهجة البداوة، لا أعرف لا يسار ولا إسلاميين ولا ثورة ولا إيران ولا كوبا، والجرائد والكتب التي وجدتموها إشتريتها من جوطية درب غلف لأتعلم فيها الفرنسية.

ضحكوا وصاحوا، أنت تستعبط ياولد …، واش مالقيتي غير لا غرانما تتعلم فيها الفرنسية، وهي تيقراها غير واحد في المغرب هو علي يعتة، وكان كيقراها السرفاتي راه مشدود.

وفي كل الجولات كانوا يحاولون فك هذه الشيفرة الغريبة، وكنت أتظاهر بينهم كالأطرش في الزفة، لاأعي شيئا من أقوالهم، إلى أن يئسوا وأعياهم الضغط والضرب والصفع. فانتقلوا إلى أسلوب آخر، ولكني كنت أفهم هذا الأسلوب ومراميه.

الهروب من قبضة البوليس.

انتهت جولات التحقيق حول الكتب الثورية الماركسية وأعداد جريدة لاغرانما الكوبية، وحول ما إذا كنت يساريا سابقا التحق بالإسلاميين، انتهت إلى حصد الأصفار، أمام تشبتي بكوني اقتنيت الكتب الفرنسية من جوطية درب غلف لتقوية مستواي اللغوي الفرنسي.

مثلما انتهت سابقا جولات التحقيق والتعذيب حول علاقتي بالمرحوم علال العمراني، إلى الطريق المسدود، أمام إصراري على إنكاري لأية علاقة خارج العلاقة مع الفقيه خطيب الجمعة، وأمام تمسك العمراني أيضا بإخفاء العلاقة الحقيقية.

وكنت أدعو الله عز وجل بإلحاح أن لايسألوا عني عبدالإله بنكيران، لأنه لن يتوانى في كشف الحقيقة، فقد كان مرجعهم في التعريف بأي شخص، من بقي مع الشبيبة الإسلامية ومن هو مع الجماعة الإسلامية، ولكن رحمة الله بي وبالعمراني شاءت أن البوليس لم يراجعوا إسمي مع بنكيران، إلا بعد أن أفلتت بجلدي من بينهم، وكان بنكيران لا يعرف وجودي في الكوميسارية.

كان دعائي الذي أتخذه وردا في كل الملمات والمحن، لاأفتر عنه ذكرا هو: ياحي يا قيوم يا مغيث برحمتك أستغيث؛ فكانت النجدة الإلاهية تحل ملموسة ومحسوسة، بأن أشعر بالسكينة، ويمتلأ وجداني وجناني بالثبات والقوة واستعلاء الإيمان، ويرتفع الضيق والألم والهوان، وتأتي النجاة من حيث لا أنتظر ولا أحتسب.

وهكذا فكر أصحابي الأمنيون فجأة، في أن يفكوا شيفرة غموضي ويكشفوا حقيقتي بطريقة أخرى، وذلك بأن يتظاهروا بإخلاء سبيلي، على أساس اتفاقي معهم على أن أرجع عندهم في الغد صباحا ليكملوا معي البحث والتحقيق.

كنت واعيا جدا بهذه اللعبة الذكية، لعبة القط والفأر، وإخلاؤهم سبيلي هذا، لم يكن سوى بهدف مراقبتي تلك الليلة عن قرب، ليكتشفوا حركتي واتصالاتي، ومن يأتي عندي لزيارتي، ليضبطوا مالم يتمكنوا من ضبطه من قبل.

دخلت إلى منزلنا من الباب والمراقبة منصبة عليه، خمس دقائق ، سلمت فيها على العائلة، التي تصايح أفرادها الحاضرون دون الوالد الذي كان غائبا، وجحظت عيونهم من هول أو من فرحة المفاجأة، ثم صعدت لأتخلص من بعض الوثائق، ثم ودعت الجميع كالبرق الخاطف، تاركا إياهم حيارى لايدرون ولا يلوون على شيء، ثم ارتقيت إلى سطح الجيران عبر سلم خشبي، فخرجت من باب منزل الجيران، مستغفلا من كان في المراقبة.

والآن أشعر أنني حر طليق، وأنني مثل عصفور يحلق عاليا في الفضاء بعد أن تخلص من قفص الأسر.

كانت خمس دقائق ذهبية، بل كانت فلتة من الزمن، لأنه في الوقت الذي كنت قد وصلت فيه إلى المنزل، إنقلبت الدنيا رأسا على عقب في كوميسارية لمعاريف، فقد إنهار أحد إخواننا بينما كان في حفلة تعذيب، لما سألوه عرضا عن عبدالله لعماري، فاعتقد أنه بسقوط لعماري، فقد سقط كل شيء، وانكشف ماكان مخفيا ومجهولا، فاعترف لهم علي بأنني من المسؤولين القياديين لتنظيم الجماعة الإسلامية، فكان وقع الصدمة كبيرا على أصحابنا الأمنيين.

أما رؤساءهم فقد هاجوا وماجوا غضبا، وأغلظوا لهم في القول ، على أن خادعهم هذا الصبي وأفلت منهم وهم المتمرسون المخضرمون.

أما قدور اليوسفي فقد شدد عليهم أن يأتوه بهذا البرهوش على أسرع وجه ومن تحت الأرض.

ولم تمض سوى نصف ساعة على تحليقي في الفضاء، حتى حل القوم بمنزلنا بصخب مخيف لوقع أحذيتهم، مزمجرين صارخين في وجه الأسرة المسكينة المرتعبة: فين هو؟ فين هو؟

فتشوا وحينما يئسوا من وجودي في البيت، شددوا على الوالد رحمه الله، وأقسموا عليه بأغلظ الأيمان، أن يأتيهم في الصباح مصحوبا بإبنه الهارب الآبق.

المرحوم العمراني وقد رأى أمام عينيه كل هذا الشريط المفاجئ كان في محنة من الحرج الشديد، وهو يواصل إصراره على إنكار المعرفة بي، ورأى الرؤساء وهم في غيظ شديد، ورأى قدور اليوسفي وهو الكبير كيف يتوعد ويتهدد.

والمرحوم والدي بات في هم وغم شديد بعدما أعياه البحث المضني عني في كل دروب وأزقة البرنوصي، والتي جابها طولا وعرضا، يسأل يمينا وشمالا من يعرفني ومن لايعرفني: هل رأيتم عبدالله؟

والوالدة والصغيرات كن في أبأس حال وهن يتفرجن على هذا الفيلم الدرامي الذي لم يفهمن من وصلاته شيئا.

أما أنا فقد أصبحت في مواجهة أوضاع جديدة، الله وحده يعرف تقلباتها ونهاياتها.

في الذكرى العاشرة لرحيله: قدور اليوسفي واعتقال والدي الحاج الجيلالي لعماري بقلم عبد الله لعماري

الحلقة الثالثة

اعتقال والدي الحاج الجيلالي بأمر من قدور اليوسفي.

الطريقة التي دخل بها البوليس إلى منزلنا، والشرر الذي كان متطايرا من عيونهم ومن كلماتهم الغاضبة، وإصرارهم في أمر الوالد، أن يستقدمني عندهم في صباح الغد، كما بلغتني وقائعه عبر العائلة، فهمت معه أن القوم قد اكتشفوا أمري وكل مايتعلق بي.

وفهمت معه أن البحث عني سيشتد، وأن علي أن أختفي، لأنهم لو وقعت في أيديهم فإنهم سينتقمون على ماسبق مني من تضليل لهم، وعلى ماتسببت لهم فيه من إحراج وتأنيب من كبارهم، ثم إن التحقيق سيكون هذه المرة أشرس مما كان من قبل، وأن كلمة لاأعرف التي كنت أصرفها لهم فيما سبق من جولات ، لن تصبح مجدية، وأن ضريبة الصمود والتحمل ستكون غالية.

فكرت أن أتسلل إلى منزلنا بعد أن يكون الليل قد أطبق بسدوله، وتكون الحركة قد انهمدت في الأزقة، لأحمل بعض أغراضي وبطاقتي الوطنية التي كنت قد نسيتها.

وفي الثالثة صباحا، أرسلت من أصدقائي من يمشط لي المحيط كي يعطيني إشارة التحرك والتسلل الحذر، حتى لا أوقظ أحدا، ولكن وياليتني لم أعد، فقد كان الوالد رحمه الله صاحيا، لم يغمض له جفن من هول ماكان يترقبه في صباح الغد مما استشعره من بأس مرتقب من البوليس.

فهم رغبتي في الإختفاء والهروب، فأقسم علي أن لا أغادر وأن أسلم نفسي للبوليس في الصباح، وحاولت أن أشرح له أن الأمر جلل، وضخمت له كذبا بعض الأسباب الخطيرة لكي يتركني،وأنهم يبحثون عن السلاح، لكنني ليتني لم أفعل، فقد ارتاع المسكين لما سمع وأمسك بخناقي وهو يقول: أنت متورط في هذه الأمور الخطيرة وتريدني أن أتورط معك، ولما حاولت الخروج من الباب والتملص من قبضته، ارتفع صراخه حتى يرغمني على البقاء، وفي هدأة الليل كان الأمر محرجا جدا وفاضحا جدا، لما بدأت نوافذ بيوت الجيران تنفتح، والأضواء تشتعل، وتدخل الأصدقاء بصعوبة لافتكاكي من قبضته، بالرجاء والمناشدة.

كان تصرف الوالد نابعا من رؤيته للأمور بعيون سنوات الخمسينيات زمن جبروت الاستعمار البغيض، وكان قد اعتقل وعذب بشدة من طرف جلاوزة الإستعمار لمشاركته في العمل الفدائي الوطني، ولأن كتابه القرآني الذي كان يدرس فيه الأطفال بكاريان سنطرال، كان معبرا للسلاح بين الفدائيين، فانكشف أمره.

ثم إنه كان يرى الأمور بعيون سنوات الستينيات والسبعينيات،في مغرب الاستقلال، وما وقع للاتحاديين وعائلاتهم، خاصة وأننا في حي البرنوصي، كنا مجاورين لعائلة دهكون عمر وبعض رفاقه من الثوار الاتحاديين الذين شاعت الأخبار في البرنوصي بما وقع لهم في دار المقري ومعتقل الكوربيس بماتشيب من أهواله الولدان .

لذلك كان مسكونا برهاب شديد، في الوقت الذي كنت أهون فيه مما قد يقع، ومطمئنا إلى أن الوالد لن يتعرض لشيء بسببي، وأن سنوات الستينيات والسبعينيات ليست هي الثمانينيات، وأن بطش الأمس كان يتعلق بتنظيمات إتحادية مسلحة، أما تنظيماتنا نحن فهي مجرد عمل حركي دعوي وسياسي حتى.

مع الثامنة صباحا حل أصحابنا الأمنيون ببيتنا، فحكى لهم الوالد ماوقع، لكنهم لم يتركوه، وشددوا عليه أن يرشدهم إلى بيوت رفاقي ، ولكنه إمتنع بإباء شديد، متظاهرا بأنه لايعرف رفاقي، وفي الحقيقة فإنه كان يعرفهم جد المعرفة، ولكنه احتاط أن يؤدي ذلك إلى وقوع كوارث غير منتظرة، وعندها أمروه بأن يرافقهم ليرشدهم إلى منازل كل أقاربنا في الدار البيضاء، وهكذا أمضوا معه يوما كاملا يجوبون أحياء المدينة، حتى أرشدهم إلى مايقارب عشرين منزلا من منازل أقاربنا، كلما حلوا بمنزل تركوا هاتفهم لأقاربنا محذرين إياهم ومهددين إذا مازارهم عبدالله ولم يخبروا عنه.

كان الوالد يسألهم عن سر هذا الإهتمام الكبير بإبنه، فيخبرونه بأن إبنه رجل خطير.

حينما إنتهت مهمتم في المساء، وانتظر الوالد أن يعيدوه إلى بيته، زجوا به في كوميسارية لمعاريف، بأمر من قدور اليوسفي، الذي كان يرى أن اعتقال والدي سيعجل بعودتي إليهم وتسليم نفسي لهم.

وهكذا وجد الرجل الوطني الفدائي الذي ذاق الاعتقال أيام الإستعمار ، الفقيه البسيط، الذي يقضي يومه في تعليم الأطفال، وليله بين أبناءه الصغار، وجد نفسه يبيت أول ليلة له من عمره في مغرب الإستقلال في كوميسارية لمعاريف، دون ذنب إقترفه سوى أنه والد ناشط إسلامي مبحوث عنه. بالرغم من أنه ليس متفقا معه ولاراضيا على نشاطه.

الحاج الجيلالي لعماري في جحيم كوميسارية لمعاريف، وكرامة تحول الجحيم إلى نعيم.

بعد يوم مضن من التطواف طولا وعرضا في مدينة الدارالبيضاء رفقة البوليس، والكشف لهم عن كل أقاربنا، جيء بالوالد رحمة الله عليه، ورمي به في واحد من عنابر لمعاريف، لم يرحموا شيبته، ولابساطته، ولا سابقته الفدائية، ولم يشفع له ماظل يحكي لهم طوال النهار وهو برفقتهم في سيارتهم، من أنه غير راض عن ابنه فيما سار فيه، ولا ماعرضه عليهم من آراء وطنية، كان المسكين مبرزا فيها، و معروف أنه كان يخطب بها في التجمعات السياسية لحزب الإستقلال.

ألقوا به في لجة الإعتقال وهم غير راضين على ذلك، ويتأسفون، ولكنهم ينفذون تعليمات الرأس الكبير قدور اليوسفي، الرجل الذي كان يشرف على كل قضايا السياسيين، من مجموعات يسارية وإسلاميه،وكانت له فنونه الرهيبة وأساليبه، ومنها هذا الضغط على الإبن باعتقال والده.

كان الوالد، لما رمي به في عنبر من عنابر لمعاريف المكتظة بعشرات موقوفي الجرائم العادية، كان مرعوبا مكروبا من هول مايتصوره أنه قادم، فقد كان سياسيا من حزب الإستقلال، ووعيه الشقي يوجعه الآن مما سمع به الكثير عن مغرب الإستقلال في بدايته وما كان يقع في كوميسارية الستيام، وماوقع خلال 1963، وماوقع سنة 1973، كان خائفا ممايتوقعه إلى الدرجة التي لم يكثرت معها بالإككتظاظ وتزاحم الأجساد، الذي لو رميت معه بإبرة فلن تنزل إلى الأرض.

كانت لمعاريف جحيما لايطاق، من الخوف، وقد سارت بذكره الركبان في ربوع البلاد، والجوع، فلم يكن مسموحا بإدخال مايؤكل، وليس هناك سوى خبز شبه يابس لو كان أحدهم محظوظا وفاز به، والبرد، فلم يكن هناك سوى الإسفلت العاري.

ثم جاء الفرج الإلهي، فقد كان الوالد رحمه الله رجل القرأن يتلوه سرا وجهرا وعلى كل أحواله، لا تراه على الدوام سوى محركا به شفتيه.

وفيما هو بالكاد يتحسس مكانا يقتعده بين المعتقلين، لاذ بقراءة القرأن كما هي عادته، فهرع إليه هؤلاء المعتقلون يسألونه عن سر وجوده في لمعاريف وهو الفقيه المحترم، فأخبرهم القصة كاملة وأنه والد المعتقل الإسلامي الهارب عبدالله لعماري، والحال أن قصتي كانت قد أصبحت معروفة بين عنابر لمعاريف، لسبق مروري من دهاليزها.

وقيض الفرج الإلهي أن كان في ذلك العنبر، رجل كان بمثابة الأمير المحظوظ في كوميسارية لمعاريف كلها.

إنه الفقيه الصمدي رحمه الله، خطيب الجمعة الشهير ذائع الصيت بمسجد حي لالة مريم، سنوات السبعينيات والثمانينيات، والذي كانت جماهير جمعته هي الأكثر احتشادا على الإطلاق، لكونه كان له اللسان السياسي الأكثر سلاطة و الألذع تهجما على الأوضاع.

جيء بالوالد إليه فعانقه وأفسح له مكانا واسعا بجانبه، وأفرش له من جلابيبه وألبسه سلهامه، وقد كانت قصتي لديه معروفة، وأزال عن والدي مابه من خوف، وما اعتراه من حزن.

وللفقيه الصمدي بكوميسارية لمعاريف قصة عجيبة، فقد زج به في لمعاريف في حملة الإعتقالات التي شملت قياديي الشبيبة الإسلامية وكذا الجماعة الإسلامية، ولم تكن له أي علاقة مع أي من تنظيمات الحركة الإسلامية، ولكن تم إقحامه في الإعتقال لتأديبه حتى يخفف من تهجماته على الأوضاع.

وكان أن جاءت بصدده توصية من جهة عليا للعناية به والسماح لعائلته بإدخال قفة المأكولات والحاجيات إليه، غير أنه ومن عجائب وغرائب مايحدث في الدنيا، ولما كانت التوصية عالية جدا جدا ونافذة جدا جدا، فقد نفذها مسؤولو لمعاريف حرفيا بشكل واسع جدا جدا، فما الذي حصل؟

سمع أغنياء الدار البيضاء من محبي الصمدي بشأن هذا السماح بالقفة، فتنافسوا بينهم على جلب الأطعمة الباذخة والكثيرة، فكانت تدخل للفقيه الصمدي في اليوم عشرات القفف، وحده دون غيره من المعتقلين، فيقتسمها مع الحراس ومع كل المعتقلين، ويبقي له ولوالدي نصيبا وافرا ورفيعا، حتى إن الوالد لقد أخبرني تعجبا أن الأطعمة والحلويات التي رآها في لمعاريف لم ير أرفع منها ولا أبذخ منها من قبل.

وهكذ عاش الوالد في رعاية الصمدي وباقي المعتقلين أياما سعيدة وهانئة، طعاما وافرا وفراشا وثيرا من جلابيب الفقيه الصمدي ومكانا واسعا باحترام وإيثار المعتقلين، وعشرات الختمات القرآنية مع رفيقه، وأجواء غنية بالمناقشات المفيدة في علوم الدين والواقع، وحافلة بالتسرية عن النفس بالمرح والمؤانسة، وقد كان الصمدي رحمه الله صاحب طرافة ودعابة.

ولله في مشيئته شؤون ، فقد تحول الجحيم الذي رمي فيه الوالد إلى نعيم من الساعة الأولى التي حل فيها بمعتقل لمعاريف.

الوالد الحاج الجيلالي في كوميسارية لمعاريف، بين المرحوم العمراني وبين بنكيران.

مكث الوالد رحمه الله فترة في الإعتقال، بسبب أن المرحوم العمراني كان مصرا على الإنكار والإخفاء بشهامة الأبطال، مقابل وفائي بالعهد معه على إنكاري العلاقة التنظيمية معه، وقد كانت في خطورتها بمكان، لأنها كانت في أعلى سدة القيادة لتنظيم سري.

بينما كان بنكيران متماديا في الكشف، ومتعاونا مع الجهات المعنية في تحديد معالم خارطة التنظيم الحركي الإسلامي، والذي كانت تكتنفه السرية بقطبيه، القطب الأكبر: الجماعة الإسلامية، و الأصغر ممثلا في الإخوة الذين بقوا على ولائهم لمطيع واستمرارهم في الشبيبة الإسلامية، على أساس التوجه الجديد وهو خوض تجربة الكفاح المسلح لإسقاط النظام السياسي، وهو وهم كبير كان يزرعه مطيع في عقول الشباب، وكذبة كبيرة مبنية على مسرحية سينيمائية استدراجية للشباب لتوريطهم في محرقة، كانت لها أهداف خبيثة مأجورة دولية ومحلية، ولم يفطن بها الشباب إلا بعد لأي، وحتى وجدوا أنفسهم في السجون في زنازن أحياء الإعدام وعنابر السجن المؤبد، ووجد البعض نفسه في المقابر مغدورا، قد ذهب بمظلمته نحو ربه، ووجدت عائلات هؤلاء الشباب نفسها في نفق مأتم دائم مديد عبر السنين الطويلة، قد باعت معه كل ماتملك، وانغمرت في أوحال الفقر المدقع، بينما اغتنى تجار الحروب الوهمية، وسماسرة الأنظمة وأجهزتها، ووجدت نفسها هاته العائلات تسقط قتلى وهلكى حصائد الأمراض الفتاكة، تسقط ثكلى وحرضا في طريق الحسرات والعذابات، تسقط كمدا على الغدر بأبناءها والنصب عليهم والتغرير بهم، بينما الغادرون النصابون يمرحون ويسرحون قد انتفخت رقابهم وأوداجهم من سمن وشحم العلف المشبوه الحرام الذليل ، وتهدلت بطونهم من أكل السحت الحقير. .

وهذا موضوع طويل عريض.

المهم أن الوالد رحمه الله مكث فترة في المعتقل، وقد تناساه من زج به في هذه الظلمات، والتي حولها له الله الحي المغيث إلى أنوار وضياء وفيوضات، بسبب شهامة المغاربة الذين ولو كانوا من عتاة المجرمين فإنهم يعزون أهل القرآن، وبسبب عناية الفقيه الصمدي رحمه الله.

ولم يفطنوا له ويفرجوا عنه، حتى قرر كبير الأمنيين قدور اليوسفي بأمر من إدريس البصري، قرروا نقل المعتقلين الإسلاميين من لمعاريف إلى المعتقل السري درب مولاي الشريف، ليخضعوهم للطقوس التقليدية التي عاشها من سبقوهم من معارضين سياسيين من مناضلين اتحاديين ومناضلين يساريين وماركسسين لينينين، حتى يعلم ويتعلم من لايعلم من الإسلاميين، أن المعارضة السياسية ليست حبلا على الغارب، وليست سبيلا هملا سائبا عفو الأحلام أو الأوهام والشعارات، وإنما هي مضمار وعر وموحش مشمول بالضريبة القاصمة للظهر، وقد ألف الإسلاميون من قبل، واستمرؤوا ولعشر سنوات خلت، أنهم تركوا دون حسيب ولا رقيب، يتحدثون ملء أفواههم، كما يحلو لهم، كيفما شاؤوا وعما شاؤوا ومتى شاؤوا.

في الوقت الذي كان البوليس قد اصطحب معه الوالد، إعتقدت في البداية أنهم لن يبقوه عندهم، وإذا حصل فإنما هي ليلة أو ليلتين، فالمغرب ليس هو مصر عبدالناصر، وليس هو سوريا حافظ أسد، وليس هو عراق صدام، وليس هو جزائر بومدين، وليس هو ليبيا القذافي، ثم إن هناك مرحلة كنا نعد لها للخروج من عتمة السرية والإندماج في النسيج السياسي العام، كما فعل الحزب الشيوعي المحظور فأصبح حزب التقدم والإشتراكية، وكما أنهى الاتحاديون حالة التوتر مع النظام بتأسيس الإتحاد الإشتراكي، وكما عاد معارضو منظمة 23 مارس من المنفى سنة 1980 وأسسوا منظمة العمل الديموقراطي الشعبي.

كنت مطمئنا، لذلك رحت أتحرك في الميدان لأشغل الفراغ الذي تركه إعتقال العناصر القيادية، ولأجيب عما يطرح من تساؤلات حول خلفية هذه الحملة المفاجئة، لأجيب بما كان له دور في رفع حالة الإضطراب والإرتباك، سيما وأنني قادم من قلب المعركة ومن صلب الحدث.

ثم إنه ليس في ثقافتنا وارد تسليم أنفسنا، فقد كنا نعتقد أن تسليم المناضل نفسه هو من قبيل الإستسلام و الإنهزام، وهو مالاينبغي أن يكون.

لكن ولما طالت المدة أكثر من ليلتين، بدأ روعي يمور بغضب شديد، وفكرت في أن أتدارك الأمر وأواجه المصير بشجاعة وأنقذ الوالد من هذه الورطة، لولا أنه رحمه الله أرسل إشارة مشددة من معتقله، يوصي بصرامة أن لا أسلمهم نفسي، ويطمئن على أحواله التي هي على أحسن مايرام كما جاء في توصيته، كان خائفا على إبنه حتى وهو في قلب الخوف، كبد الآباء على الأبناء حتى ولو كان هذا الكبد مفطورا.

كان الوالد رحمه الله يدرس الأطفال منذ عهد الإستعمار في البادية وفي الدارالبيضاء في كاريان سنطرال وما حواليه، فوجد من تلاميذه من أصبح ضابطا ومن أصبح عميدا ومن أصبح حارس أمن، وكان المعلم في ذلك الزمن لايزال يحظى بحب وتعلق وتقدير تلاميذه، لذلك وجد الوالد من يقدم له الخدمات في هذه الظروف الحالكة دون أن يكشف لأي كان عن وسطاءه.

في الذكرى العاشرة لرحيله: قدور اليوسفي واعتقال والدي الحاج الجيلالي لعماري.الحلقة أولى

بقلم عبد الله لعماري

في الذكرى العاشرة لرحيله: قدور اليوسفي واعتقال والدي الحاج الجيلالي لعماري.حلقة أولى

مرت عشر سنوات على ارتقاء الوالد إلى الرفيق الأعلى، سريعة كسرعة الدهر الذي يجري كما تجري الشمس نحو مستقر لها، إذ افتقدناه رحمه الله سنة 2012 في متم شهر شتنبر.

وإذ أستحضر الذكرى أستحضر معها مايميز المجتمعات الإسلامية عن غيرها، في فضيلة التشبت القوي للأبناء بذكريات وآثار ومناقب الأباء والأمهات، فتبقى تلك الآثار والمناقب معالم هادية في مسار الحياة، ومظلات واقية وحامية للأصول والجذور والموروث الجمعي في الهوية والقيم والأمجاد.

ووالدي الحاج الجيلالي رحمه الله، كان هو المدرسة الأولى لي الحياة ، التي فتحت عيني على المبادئ العليا والقيم السامية والمثل النبيلة، غير أن تشربي لهذه المرجعية الصافية الراقية قادني بعيدا في الإبحار والإيغال في لجج الأمواج العالية العاتية، لما حملت في عقلي وروحي وعلى كاهلي مثل شرفاء البلاد هموم مستقبل وطن في الحرية والعدالة والكرامة.

لكنني وأنا أحلق في هذا الفضاء الحالم أرهقت معي المعلم الأول الحاج الجيلالي إرهاقا عرف فيه بسببي رعب الاعتقال، وعرف فيه أيضا ظلمات سنوات الجمر والقهر والرصاص.

ففي سنة 1981 شهر ديسمبر، شنت الأجهزة الأمنية حملة اعتقال واختطاف في عموم المدن المغربية استهدفت الصفوف القيادية للحركة الإسلامية آنذاك في الخط التنظيمي المرتبط بما عرف بالشبيبة الإسلامية، بعد أن تم تحويله إلى ماسمي بتنظيم الجماعة الإسلامية، وكنت واحدا من المجموعة القيادية السرية لتنظيم الشبيبة الإسلامية، التي باشرت هذا التحويل، وأسست وقادت التنظيم الجديد للجماعة الإسلامية.

كان ظاهر هذه الحملة من الإعتقالات هو أن تتمكن الأجهزة الأمنية من إعادة اكتشاف ورسم الخريطة التنظيمية الجديدة لهذه الحركة الإسلامية، والوصول إلى الفرز بين قياديي الجماعة الإسلامية وبين من تبقى في الشبيبة الإسلامية.

كانت هذه مهمة أمنية بسيطة تباشرها الأجهزة الأمنية السياسية الميدانية، ولكن الهدف الباطني والخفي الذي كانت تتوخاه الاستراتيجية الأمنية العليا للمهندسين الأمنيين الكبار، هي إعادة ترتيب أوضاع الحركة الإسلامية من خلال تشكيل التوجه الجديد الذي استخلف كليا الشبيبة الإسلامية، وهو تنظيم الجماعة الإسلامية، وذلك باتخاذ الاعتقال وسيلة تصفوية وتطهيرية تروم صوغ الجماعة الإسلامية بما يتلاءم مع المرحلة الجديدة وحملها على القطيعة مع الماضي بتفكيك بنيتها الفكرية السابقة وبنيتها التنظيمية السرية.

وهكذا تم تشديد الظغط داخل المعتقل على العناصر القيادية الأصيلة والرئيسيةلإقصاءها من الترتيبات المستقبلية، وكان المستهدف الأكبر من هذه العملية التطهيرية هو المرحوم الحاج علال العمراني، فقد كان العمراني هو القيادة الفعلية والميدانية للشبيبة الإسلامية، طيلة عهودها، ولما نشأت الجماعة الإسلامية سنة 1981 كان هو العقل المدبر والمفكر، وهو القائد التنظيمي المباشر، على عكس مايدعيه لنفسه الآن عبدالإله بنكيران. وكان الضغظ عليه يروم كسر معنوياته وحمله على الإنسحاب بعد الخروج من الإعتقال لإفساح المجال لمن كانت تعده هذه الإستراتيجية الأمنية ليكون مقدم هذه الجماعة وغفيرها.

أما علاقة هذا الحكي بشقاوتي وشقاوة والدي معي بسببي في هذه الحملة من الإعتقالات، هو أنني أعتقلت بالصدفة في منزل المرحوم العمراني، لما كنت قد قدمت إلى منزله لتفقد أبناءه وحاجياتهم بعد إختطافه بأيام، وصادف وجودي على باب المنزل، استقدامه من طرف الأجهزة الأمنية لتفتيش بيته، فكانت فرصة ثمينة للأمنيين لاصطيادي بدون عناء، وكانت صدمة قاسية لأخينا المرحوم علال العمراني،الذي رأى في هذا الاعتقال/ الاصطياد نكبة ستحل به وستحل بالتنظيم السري الذي كنا نقوده جميعا دون أن أكون معروفا.

حينما كان الأمنيون يسوقون المرحوم علال العمراني إلى بيته من أجل التفتيش، كنت أنا واقفا على باب بيته في الطابق الخامس والأخير، وإذ لحقوا بي دون أن أفطن، أسقط في يدي ، فلم يبق لي مجال في أن أصعد إلى أعلى لأتفادى مواجهتهم، ولم يبق لي سوى مجال المناورة، وفي ثانية قاسية من الزمن القاسي، ارتسمت في ذهني خيوط المناورة حينما التقت العيون بالعيون، في لحظة كان فيها العمراني قد اسود وجهه واربد من وقع صدمة المفاجأة.
فرح الأمنيون بضبط صيد ثمين، قد يكون لهم في نظرهم أفضل مما قد يأتي به التفتيش، وفوجئ المسكين علال العمراني وأنا أنقض عليه بعناق حار مصحوب بقبلات حارة، وأنا أناديه بصوت بدوي في المدينة ،كيف حالك آلفقيه، ثم أعرج على باقي الأمنيين بالعناق والقبلات، متظاهرا باعتباري لهم ضيوف الفقيه. وقد كان العمراني إمام الجمعة في مسجد بورنازيل.
لم ينطلي عليهم هذا التظاهر، وتوعدوني أنهم سيعرفون مني بعد حين هذه القصة ، قصة الفقيه.
في لحظة خاطفة، غافل العمراني الأمنيين الغارقين في التفتيش والجرد، ليهمس في أذني رحمه الله كلمة تهد الجبال مما كانت تطفح به من ألم المحنة والخوف، فقال لي: لاتذكرني ولو قطعوك إربا إربا، فأجبته بنفس النبرة والحمولة: لن أذكرك ولو ذوبوني وصيروني بخارا. وكنت بالفعل أهيء نفسي لصلابة العزم في معركة قادمة قاسية.
في كوميسارية لمعاريف سيئة الذكر بالرعب في ذلك الزمن، سأعرف القصة كاملة بكل فصولها الدامية، وكيف كان المرحوم العمراني في محنة شديدة، ذلك أنه كان يدفع عن نفسه كل معرفة وكل مسؤولية عن تنظيم الشباب، ويتنصل من ذلك بكل ماأوتي من قوة ومن إصرار ومن دهاء، بالرغم من أنه كان في واقع الأمر الكل في الكل، وكان الرأس الكبير في العمل كله، كان يؤكد للأمنيين بأن علاقته بالشبيبة الإسلامية كانت من خلال الجمعية، وليس من خلال الحركة، وأن الجمعية أغلقت أبوابها منذ سنة 1975 عند اغتيال عمر بن جلون، وأما الجماعة الإسلامية فلا علم له بها. لكن رفاقه الذين كان يظنهم رجالا كانوا يغدرون به وفي مواجهته بين يدي الأمنيين المحققين به، كان عبدالإله بنكيران يكشفه ويعريه وفي وجهه ويلقي عليه مسؤولية التنظيم كلها في وجهه وأمام المحققين، وكان سعد الدين العثماني يتحدث عنه بشفافية وبسخاء كبير وبكل أريحية، وكان العمراني يتشبت بالإنكار رغم الإحراج الشديد، وبينما هو كان يتخوف من التبعات في المستقبل، ومن محاكمات محتملة، كان هؤلاء في اطمئنان وهناء ضمير على المستقبل، ولكن بعض رفاقه من الدارالبيضاء كانوا رجالا أفذاذا واجهوا آلة التعذيب الرهيبة بالصمود والصمت،بالرغم من أنهم كانوا قياديين في التنظيم، أمثال محمد بيرواين وابراهيم بورجة وعبدالرحيم ريفلا وعبدالله بلكرد.
والآن جاء دوري، وقد ظن الأمنيون أنهم وضعوا أيديهم على الحجة التي ستقصم ظهر العمراني، وستحرر لسانه من عقاله، بعد أن سيتحرر لساني أنا الأول من عقاله، وسيصلون إلى الخريطة التي يبحثون عنها، رغم أن المؤلفة قلوبهم معهم الآنف ذكرهم أوضحوا لهم بعض هذه الخريطة.
لقد كنت في أيديهم غنيمة نفيسة، لذلك كان العمراني في كرب شديد من وجودي.

والدهم في الزيارات المكثفة بالليل والنهار، أنهم لا يبرحون صالة الضيوف، ولكن هؤلاء الوافدين الجدد دخلوا غرفة نوم والدهم،وبحثوا في دولاب الملابس، كنت جالسا أرقب هذا الوضع المحزن، ويجول في خاطري كم هي غالية ضريبة حمل فكرة للإصلاح والتغيير والإنبعاث، ومخالجة حلم وهم للإرتقاء بشعب ووطن وأمة.
في الطريق إلى كوميسارية لمعاريف، في السيارة التي تكدسنا فيها نحن والأمنيين، كنت مسكونا بفكرة واحدة: الهروب متى سنحت الفرصة، لأن الكلمة التي دسها العمراني في أذني لما قال لي لاتذكرني ولو قطعوك إربا إربا، تناسلت في ذهني بما تصورت به أن الأمر جلل، وأننا ماضون إلى مجزرة بما يشبه السجن الحربي وما وقع فيه للإخوان المسلمين في مصر جمال عبدالناصر، وقد كنا متأثرين بما نقرأ في الكتب التي روت فظائع ماوقع.

عبد الله لعماري


رمي بي في عنبر تتكدس فيه أجساد العشرات من موقوفي جرائم الحق العام، الروائح الكريهة للعرق ودخان السجائر والمرحاض الفائض والمغرق لمن يتمدد من حواليه، والإسفلت العاري إلا من بعض أجزاء الكارتون التي كانت من بذخ بعض المحظوظين.
كان الواحد من هؤلاء الموقوفين على ذمة جرائم السرقة أو القتل، يساق إلى مكاتب التحقيق ماشيا على قدميه، وحينما يعود، يعود محمولا في مانطا لايقوى لا على الوقوف ولا على الحراك ولا على الكلام، سوى كلمة واحدة يهمسها لرفاقه، أنه لم يعترف لهم، تلك هي لمعاريف أيام زمان.
كان هذا المنظر يمدني بإكسير الحياة ويبعث في طاقة عظمى على مواجهة ماقد يأتي، إذا كان هؤلاء يصمدون للتعذيب وهم قتلة ولصوص ورجال عصابات، فكيف بنا نحن المناضلون المثقفون النبلاء أصحاب الأفكار والدعوة إلى الله والطامحون إلى مجتمع أصلح وأفضل وأرقى، وكنت أبدأ في شحذ أسلحتي للمعركة القادمة، مع خصم يمتلك أسلحة هي وسائل التعذيب والبطش والإهانة لانتزاع الإعترافات، وأسلحتي التي أملك هي الصمود والتحمل والصمت والتحدي، هي معركة بين الآلة والإرادة، بين الفتك بالجسد وبين إستعلاء الروح وكبرياء الهمة والعزم.
ثم إن هناك هذا العهد الذي بيني وبين العمراني الذي استوثق مني واستحلفني أن لا أذكره، وهو الأعلم بما ينتظره، وقد حكى لي بحسرة، كيف أثقل عليه إخوانه وكشفوه وعاكسوا إنكاره في وجهه، دون ضغط ولا إكراه ولاحتى لطمة خد، و الأمر من ذلك، وقد حكى لي أن بنكيران والعثماني وآخرين كانوا يفعلون ذلك وهم يضاحكون القوم ويتلاطفون معهم وكأنهم في نزهة أصدقاء، وليسوا في معتقل محنة وتنكيل، بينما هو كان غارقا في هواجس الخوف والكمد وأوجاع الضغط والإكره والإحراج.
ثم إنه كان علي أن أخفي إخواني وأجنبهم محنة الاعتقال، وهم كانوا لايمارسون سوى أنبل الوظائف في توجيه الشباب وإرشادهم وتربيتهم على العقيدة الإسلامية والخلق الإسلامي والوعي السليم الذي ينهض بالأمة والبلاد في إطار تاريخها وهويتها وثوابتها الوطنية كما رسمه الكفاح الوطني ضد الإستعمار البغيض، وهم كانوا يمارسون ذلك دون تفكير عدواني أو تهديد لأمن البلاد أو المؤسسات، في إطار تنظيمي، كانت الأوضاع السابقة قد تساهلت مع وجوده حتى أصبح عرفا متعاقدا عليه بين الدولة وأجهزتها ومؤسساتها وبين الحركة الإسلامية، ثم إن هذا التنظيم السري كنا قد أعددنا له خطة في إطار ماسميناه بالجماعة الإسلامية لتحويله إلى العمل الشرعي القانوني حالما تتهيؤ الإرادة السياسية للجهات العليا في البلاد لقبول وجوده القانوني، كل ذلك كان بفعل وتخطيط الفاعلين الحقيقيين في التنظيم، وليس كما يدعي عبدالإله بنكيران الذي لم تكن له أنذاك أي قيمة تنظيمية ولاقاعدة ولانفوذ تنظيمي.
ثم إنه كان علي أن أواجه هذه المحنة، وأن أنجح في هذا الإمتحان وأنا الآن في قيادة تنظيم الجماعة الإسلامية ، بعدما كنت قد نجحت فيه عند اعتقالي سنة 1979، لما كنت حينها من قياديي الشبيبة الإسلامية .

لا زلت أواصل الحكي، حتى يعرف القارئ الملابسات والأسباب الداعية إلى اعتقال والدي رحمه الله، والذي هو موضوع هذه الحلقات، وإنما فصلت في هذه الحلقات لأمهد لهذا الحدث المؤلم، الذي كان من منهجية الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، سنوات الجمر والرصاص، إذ كانوا يسوغون مؤاخذة الأب بجريرة الإبن.
ذات صباح، وبينما أنا متكوم إلى جانب الأكوام البشرية من أبناء الشعب البؤساء، الذين تآلفت معهم في ذلك العنبر، أعد العدة النفسية والفكرية لمواجهة آلة المحقق، إذ جاء النداء المزلزل بصوت أجش من حارس العنابر: عبدالله لعماري، تكعد آلصكع.
نهضت مستجيبا للنداء، فوجدت في انتظاري رجلا لطيف المظهر لطيف الحديث، رافقته إلى مكتب غاص برجال جميلي الهندام، وقد أثارني فيهم ذلك العطر الأخاذ الفواح في أرجاء المكتب، إلى الدرجة التي رافقتني فيها رائحة ذلك العطر عشرات السنين، إذ إنغرس في أعماق ذاكرتي، فكلما شممته تذكرت التحقيق والتعذيب في مكاتب الكوميسارية سنطرال.
بدأ الحديث لطيفا مهذبا بسؤالي عن علاقتي بالمرحوم علال العمراني، فكان جوابي أن الفقيه أصلي عنده الجمعة، وجئت عنده أستفتيه في بعض مسائل الصلاة، حاولوا مرارا استدراجي للحديث غير ذلك، وتمسكت بجوابي، وسئلت هل أنا من الشبيبة أم من الجماعة، كان جوابي أنني لاأعرف هذه الأسماء.
أمام إصراري على تجاهل مايريدون، تبخر الأدب وطارت اللطافة، وفي لحظة تطاير الشرر وزمجرت الشتائم، ودخلنا في مسلسل طويل من أنواع التعلاق والجلد، وكل ما كنا نعرفه في ثقافتنا، أنه التعذيب لانتزاع الاعتراف، كل شيء تغير في أصحابي المعذبين،من الرزانة والهدوء، إلى الخطاب المرغي المزبد البذيء، والنظرات الشزراء، والوجوه المكفهرة، والحركات المتشنجة باللكم والرفس. والمعاطف وربطات العنق المنزوعة والمرمية، إلا شيئا واحدا بقي صامدا في ذلك المكتب الذي تحول إلى حلبة افتراس الإنسان لأخيه الإنسان، شيئا واحدا كان صامدا ويعاندني في صمودي وإصراري على نفس الجواب ، إنه ذلك العطر الساحر العبق الفتاك بذاكرتي، النفاذ إلى أعماق أحشائي، والذي لم تقوى على تغييره سحائب دخان سجائرهم الأمريكية، وحده ذلك العطر بقي يشعرني أنني مع بني الإنسان وليس مع قطيع ذئاب.
بقينا في نفس اللعبة جولات وأياما حتى استقر رأي أصحابي على تغيير خطة اللعب، وانتقلنا إلى حي البرنوصي لتفتيش البيت، طامعين في فك شيفرة هذا الشاب الذي يتحدث ببداوة وسذاجة ودروشة من درجة البلادة.
في الطريق وفي البيت لما ولجناه، كنت اتربص بالفرار فرصة، وكنت أعول على بنيتي القوية لأتدافع، ولكن القيود كانت مانعة.
أمام بيتنا ولمانزلت من السيارة مقيدا ومحاطا بأصحابي الأمنيين، تحلق حولنا بعض الشباب بوجوه غاضبة، أومأت لهم بحركة ارتياح ، وقد كنت متخوفا من أن يبدأ القذف بالحجارة، خاصة وأن الصغار والشباب في حي البرنوصي يكرهون البوليس، ولما تندمل بعد جراحات ماوقع في البرنوصي خلال انتفاضة 20 يونيو، في معارك شوارع مع البوليس، سقط فيها جرحى وقتلى.
كان البيت من ثلاثة طوابق، ولما سألني أصحابي عن أي الغرف أضع فيها أغراضي، أجبتهم بأني أضعها في كل الغرف، وبأسلوب التحدي بدؤوا يفتشون كل الغرف، فيما فهمت شقيقاتي الصغيرات القصد من إلهائي لهم، فصعدن إلى غرفتي في الطابق الثالث، وأفرغن مكتبتي من كل الكتب والوثائق باللغة العربية، ورمين بها في أعلى السطح إخفاء لها، ولكنهن تركن في المكتبة الكتب وبعض الجرائد باللغة الفرنسية، ظنا منهن أن الكتب العربية كانت هي الكتب الإسلامية التي قد يبحث عنها البوليس.
غير أن الطامة الكبرى كانت في تلك الكتب والجرائد الفرنسية، والتي ستحول مجرى التحقيق برمته، وظل ذلك من المصائب والطرائف المضحكة.

محامي بهيئة الدار البيضاء معتقل ّإسلامي سابق

محامي بهئة الدار البيضاء معتقل ّإسلامي سابق