حلقة الثانية
ماركسي يساري بين الإسلاميين!!!
صعدت الشقيقات الصغيرات واللائي كن تلميذات في المستوى الإبتدائي وبداية الإعدادي،صعدن إلى غرفتي وأفرغن المكتبة من كل ماهو عربي كتبا ووثائق، وبحركة سريعة نقلنها إلى أعلى السطح، ولكن لم يعرن اهتماما بالكتب الفرنسية، لاعتقادهن البسيط أنها لن تثير شبهة لدى البوليس.
أنهى أصحابنا الأمنيون تفتيشهم لطابقين بأكملهما، ولما بلغوا الطابق الثالث وولجوا أخيرا إلى غرفتي، وجدوا العجب العجاب الذي صعقهم وكهربهم، بينما كنت في باطني أغرق في الضحك، من هذه المصادفات المضحكة، بين مافعلته أخواتي المسكينات وبين ما اكتشفه الأمنيون في تلك الكتب الفرنسية.
بدؤوا يقلبون الكتب ويقرؤون عناوينها وهم يطلقون الصفير ويضربون كفا بكف، وكأنهم إزاء رجل خطير.
كانت الكتب عن الماركسية وعن الثورة الكوبية و عن شي غيفارا وعن الثورة المصرية وجمال عبدالناصر وكلها بالفرنسية.
ثم كانت الكارثة الكبرى لما وضع رئيسهم يده على كومة كبيرة مصفوفة ومركومة من الجرائد، فصرخ وصاح من صدمة ماوجد: ناري هذا ولد الحرام تيقرا لاغرانما، يقرؤها فقط نخبة الشيوعيين في العالم، هذا ولد…. تيسكن ف البرنوصي وتايقراها، وبدأ يشرح لمرافقيه المشدوهين الذين لم يكونوا ليفهموا شيئا، وهو يصيح لا غرانما لا غرانما، وكان هذا الرئيس العجيب مثقفا، وبدأ يفسر أن لا غرانما هي الجريدة الرسمية اليومية التي يصدرها الحزب الشيوعي في كوبا التي يحكمها فيدل كاسترو بعد انتصار الثورة الكوبية المسلحة، وأن لاغرانما هو إسم اليخت الذي دخل به الثوار عبر البحر إلى كوبا عندما أسقطوا نظام باتيستا، كانوا ينصتون لرئيسهم المصعوق، وينظرون إلي والسعار في أعينهم من هول ماسمعوا، وكأنني من ثوار كوبا، حتى إنهم لقد كادوا ينقضون علي بالصفعات، لولا أن رئيسهم منعهم، لاحترام العائلة، ولكنهم كانوا يرددون: آش اداك لشي كوبا، كنا في العمراني حتي لقيناك في الثورة وفي كوبا، كانوا يخلطون الجد بالسخرية ،وكنت أتفرج على هذا الحال وأنا أكاد أنفجر في داخلي من الضحك، ومما كنت أعد لهم من جواب في جولة حوار الصم البكم التي تنتظرنا معا في لمعاريف.
جمعوا هذه الكتب وجرائد لاغرانما وقفلنا راجعين أمام أعين الصغيرات والوالدة المسكينة وبكاءها، وكان الوالد غائبا، وفي الطريق نحو كوميسارية لمعاريف، كان رئيس الأمنيين يحكي لمساعديه، عن تجربته الطويلة في التحقيق مع اليساريين، وكيف كان يفكك خلايا تنظيمهم، وكان يسمعني ذلك، حتى أستعد لعدم المراوغة.
وفي لمعاريف بدأنا جولات التحقيق، بلغة أخرى، وأسلوب آخر، وتعذيب آخر وكأنهم يقبضون على ماركسي لينيني مندس بين الإسلاميين.
قال رئيسهم المحنك والمجرب مع اليسار: أنت يساري لأنك تقرأ هذه الكتب وجريدة لا غرانما، وأنت انتميت إلى الإسلاميين بعد انتصار الثورة الإيرانية، لأن كثيرا من اليساريين فعلوا ذلك، تحدث، احكي لنا عن تفاصيل ذلك.
فقلت له بلهجة البداوة، لا أعرف لا يسار ولا إسلاميين ولا ثورة ولا إيران ولا كوبا، والجرائد والكتب التي وجدتموها إشتريتها من جوطية درب غلف لأتعلم فيها الفرنسية.
ضحكوا وصاحوا، أنت تستعبط ياولد …، واش مالقيتي غير لا غرانما تتعلم فيها الفرنسية، وهي تيقراها غير واحد في المغرب هو علي يعتة، وكان كيقراها السرفاتي راه مشدود.
وفي كل الجولات كانوا يحاولون فك هذه الشيفرة الغريبة، وكنت أتظاهر بينهم كالأطرش في الزفة، لاأعي شيئا من أقوالهم، إلى أن يئسوا وأعياهم الضغط والضرب والصفع. فانتقلوا إلى أسلوب آخر، ولكني كنت أفهم هذا الأسلوب ومراميه.
الهروب من قبضة البوليس.
انتهت جولات التحقيق حول الكتب الثورية الماركسية وأعداد جريدة لاغرانما الكوبية، وحول ما إذا كنت يساريا سابقا التحق بالإسلاميين، انتهت إلى حصد الأصفار، أمام تشبتي بكوني اقتنيت الكتب الفرنسية من جوطية درب غلف لتقوية مستواي اللغوي الفرنسي.
مثلما انتهت سابقا جولات التحقيق والتعذيب حول علاقتي بالمرحوم علال العمراني، إلى الطريق المسدود، أمام إصراري على إنكاري لأية علاقة خارج العلاقة مع الفقيه خطيب الجمعة، وأمام تمسك العمراني أيضا بإخفاء العلاقة الحقيقية.
وكنت أدعو الله عز وجل بإلحاح أن لايسألوا عني عبدالإله بنكيران، لأنه لن يتوانى في كشف الحقيقة، فقد كان مرجعهم في التعريف بأي شخص، من بقي مع الشبيبة الإسلامية ومن هو مع الجماعة الإسلامية، ولكن رحمة الله بي وبالعمراني شاءت أن البوليس لم يراجعوا إسمي مع بنكيران، إلا بعد أن أفلتت بجلدي من بينهم، وكان بنكيران لا يعرف وجودي في الكوميسارية.
كان دعائي الذي أتخذه وردا في كل الملمات والمحن، لاأفتر عنه ذكرا هو: ياحي يا قيوم يا مغيث برحمتك أستغيث؛ فكانت النجدة الإلاهية تحل ملموسة ومحسوسة، بأن أشعر بالسكينة، ويمتلأ وجداني وجناني بالثبات والقوة واستعلاء الإيمان، ويرتفع الضيق والألم والهوان، وتأتي النجاة من حيث لا أنتظر ولا أحتسب.
وهكذا فكر أصحابي الأمنيون فجأة، في أن يفكوا شيفرة غموضي ويكشفوا حقيقتي بطريقة أخرى، وذلك بأن يتظاهروا بإخلاء سبيلي، على أساس اتفاقي معهم على أن أرجع عندهم في الغد صباحا ليكملوا معي البحث والتحقيق.
كنت واعيا جدا بهذه اللعبة الذكية، لعبة القط والفأر، وإخلاؤهم سبيلي هذا، لم يكن سوى بهدف مراقبتي تلك الليلة عن قرب، ليكتشفوا حركتي واتصالاتي، ومن يأتي عندي لزيارتي، ليضبطوا مالم يتمكنوا من ضبطه من قبل.
دخلت إلى منزلنا من الباب والمراقبة منصبة عليه، خمس دقائق ، سلمت فيها على العائلة، التي تصايح أفرادها الحاضرون دون الوالد الذي كان غائبا، وجحظت عيونهم من هول أو من فرحة المفاجأة، ثم صعدت لأتخلص من بعض الوثائق، ثم ودعت الجميع كالبرق الخاطف، تاركا إياهم حيارى لايدرون ولا يلوون على شيء، ثم ارتقيت إلى سطح الجيران عبر سلم خشبي، فخرجت من باب منزل الجيران، مستغفلا من كان في المراقبة.
والآن أشعر أنني حر طليق، وأنني مثل عصفور يحلق عاليا في الفضاء بعد أن تخلص من قفص الأسر.
كانت خمس دقائق ذهبية، بل كانت فلتة من الزمن، لأنه في الوقت الذي كنت قد وصلت فيه إلى المنزل، إنقلبت الدنيا رأسا على عقب في كوميسارية لمعاريف، فقد إنهار أحد إخواننا بينما كان في حفلة تعذيب، لما سألوه عرضا عن عبدالله لعماري، فاعتقد أنه بسقوط لعماري، فقد سقط كل شيء، وانكشف ماكان مخفيا ومجهولا، فاعترف لهم علي بأنني من المسؤولين القياديين لتنظيم الجماعة الإسلامية، فكان وقع الصدمة كبيرا على أصحابنا الأمنيين.
أما رؤساءهم فقد هاجوا وماجوا غضبا، وأغلظوا لهم في القول ، على أن خادعهم هذا الصبي وأفلت منهم وهم المتمرسون المخضرمون.
أما قدور اليوسفي فقد شدد عليهم أن يأتوه بهذا البرهوش على أسرع وجه ومن تحت الأرض.
ولم تمض سوى نصف ساعة على تحليقي في الفضاء، حتى حل القوم بمنزلنا بصخب مخيف لوقع أحذيتهم، مزمجرين صارخين في وجه الأسرة المسكينة المرتعبة: فين هو؟ فين هو؟
فتشوا وحينما يئسوا من وجودي في البيت، شددوا على الوالد رحمه الله، وأقسموا عليه بأغلظ الأيمان، أن يأتيهم في الصباح مصحوبا بإبنه الهارب الآبق.
المرحوم العمراني وقد رأى أمام عينيه كل هذا الشريط المفاجئ كان في محنة من الحرج الشديد، وهو يواصل إصراره على إنكار المعرفة بي، ورأى الرؤساء وهم في غيظ شديد، ورأى قدور اليوسفي وهو الكبير كيف يتوعد ويتهدد.
والمرحوم والدي بات في هم وغم شديد بعدما أعياه البحث المضني عني في كل دروب وأزقة البرنوصي، والتي جابها طولا وعرضا، يسأل يمينا وشمالا من يعرفني ومن لايعرفني: هل رأيتم عبدالله؟
والوالدة والصغيرات كن في أبأس حال وهن يتفرجن على هذا الفيلم الدرامي الذي لم يفهمن من وصلاته شيئا.
أما أنا فقد أصبحت في مواجهة أوضاع جديدة، الله وحده يعرف تقلباتها ونهاياتها.