شهر رمضان هو شهر الرحمة.. رحمة للفقراء.. رحمة للمعتقلين.. رحمة للناس أجمعين.
لقد كان شهر رمضان كله رحمة على المعتقلين.. فحينما يهل الشهر الكريم تتوقف تفتيشات مصلحة السجون.. وما أقسى هذه التفتيشات وأشدها على نفوس المعتقلين.
فهو ليس تفتيشا ً بالمعنى الدقيق إذ لم يكن لدى المعتقلين الإسلاميين أي شيء سوى بطانيتين قديمتين ينام بهما على الأرض فلا يغنيانه شيئا ً من برد الشتاء فلا يدري أينام عليهما ليحول بين جسده ورطوبة البلاط أم يتغطى بهما ليتوقى البرد.
لقد كان التفتيش عبارة عن تكدير وإهانة وإهدار للكرامة الدينية والإنسانية للمعتقلين.. وفي فترة التسعينات كانت التفتيشات في كل أسبوع أو أسبوعين من المصلحة.. وبين الحين والآخر من السجن نفسه.. وكانت التفتيشات تبث الرعب في قلوب المعتقلين من الجنائيين والإسلاميين على السواء.
وكان الإخوة يمكثون كل يوم مستيقظين بعد صلاة الفجر يدعون الله ويلجأون إليه ويستجيرون بحوله وقوته سبحانه أن ينجيهم من هول التفتيشات.. وأن يمر اليوم بسلام.. ولا يغمض لهم جفن حتى تأتي الثامنة صباحا ً ويفتح الشاوشية العنابر دون تفتيش.
وكانت قوات مصلحة السجون تسبق المخبرين وضباط المباحث في التفتيش بنصف ساعة تقريبا ً تصيح خلالها صيحات مدوية داخل السجن: “هو.. هو.. هو.. هو..” في صوت واحد كالرعد يجعل دقات قلب المعتقلين تتسارع في الدق.. يصاحبها نباح فظيع من الكلاب البوليسية الخاصة بمصلحة السجون.. مع كل نبحة كلب تزداد دقات القلوب.. ويدب الرعب في النفوس.
ثم تأتي لحظة دخول القوات للعنابر وفتح الغرف.. واصطفاف المعتقلين بوجوههم إلى الحائط وهم يرفعون أيديهم كالأسرى.. وقد يضربون تنفلا ً من الجنود والمخبرين حتى لو لم يأمروا بذلك.. فهو كالكلأ المستباح.
ثم يتم بعثرة كل شيء: السكر على المنظفات.. والشاي على الرابسو.. والعسل على الدقيق.. وهكذا يتم خلط المتناقضات مع بعضها حتى لا يستفيد المعتقل من أي شيء فيها.
ويتم استلاب ما يمكن استلابه إن كان المعتقل غنيا ً أو ثريا ً.. أو تلطيش المعتقلين في نهاية التفتيش.
أما لو وجد كتاب أو قلم أو كراسة فهي المصيبة التي لا تغتفر.. وأذكر في مرة من المرات أن ضرب عنبر كامل في سجن العقرب لأنهم وجدوا في إحدى غرفه أنبوبة قلم جاف.. ومعظم الذين ضربوا في العنبر كانوا مهندسين وأطباء وعلماء وخريجي جامعات ومن أسر فاضلة.
وكانوا يصادرون كل شيء بحجة أنه ممنوع.. وكان هناك رئيس مباحث غريب الأطوار في ليمان طرة اسمه “هشام”.. وكان مولعا ً بمصادرة الحلل وأطباق الألمونيوم وأكواب الشاي الزجاجية والملاعق من المعتقلين السياسيين الإسلاميين الذين لم يستخدموا هذه الأدوات أبدا ً للإخلال بأمن السجن.
وكنا نمزح دائما ً بعد التفتيش ونقول:
إن لديه عقده من هذه الأشياء.. ولا ندري ماذا تفعل زوجته.. هل تخفي منه حلل المطبخ أم ماذا؟
وتفتيشات التسعينات هذه كانت تنتهي دوما ً بإلقاء قنبلة غاز تفاريح على العنبر بعد نهاية التفتيش.. وكان يفعل ذلك قائد القوات.. وكان اسمه “عمر بيه” وكان جبارا ً عنيدا ً.
والحمد لله ضبط متلبسا ً مع سكرتيرته في وضع مخل.. وضبط وقد استولى على المرتبات التي تعطى للجنود في نهاية خدمتهم بعد أن كان يجبرهم على التوقيع على الكشوف.. فطرد بعد ذلك من الداخلية.
وقد كان الجميع يدعو على هذا الرجل باستمرار دون انقطاع.. لأنه كان حرامي ولص.. وفي الوقت نفسه كان جبارا ً ومجرما ً.. وكنا نقول لأنفسنا:
ما دمت لصا ً وعلى رأسك بطحة.. فكن رحيما ً حتى لا تجمع بين السوأتين.
وهذه التفتيشات المستمرة أدت إلى حالات من الاكتئاب والقلق المرضي واضطراب ضربات القلب بين المعتقلين.. فآه .. ثم آه.. ثم آه من قهر الرجال الذي استعاذ منه الرسول (صلى الله عليه وسلم) في دعائه المعروف.
حتى أن كثيرا ً من المعتقلين الجنائيين كان يعالج عندي من هذه الأمراض.. وبعضهم كان يقول لي:
“عندما اسمع ضربة المفتاح في الباب تزداد ضربات قلبي من الخوف من المجهول”.
وبعضهم أصيب بالرهاب النفسي.
فإذا جاء شهر رمضان تنفس المعتقلون الصعداء.. وقالوا جميعا ً:
جاء شهر الفرج.. لن نسمع الكلاب ونباحها.. ولا الجنود وصيحات: “هو.. هو”.. ولا: “وشك للحيط”.. ولا قنابل عمر بيه.. ولا مصادرة كل شيء حتى الحلة الصغيرة أو السخان البسيط.
ويبدأ الشعور بالأمن والأمان والسكينة وفتح الزنازين لقيام الليل وتوزيع الطعام للفقراء والمسكين وتغمر السكينة الجميع.
إنه شهر رمضان شهر الرحمة.. الرحمة لكل أحد حتى المعتقلين
السبت الموافق
27-9-1432هـ
27-8-2011