أرشيف شهر: يوليو 2023

لا تحزنوا يا أحبائي لمسجونِ الشيخ الدكتور العبيد عبد الوهاب


قصائدالسجون

  لاتحزنوا يا احبائي

قصيدة كتبها الشيخ الدكتور العبيد عبد الوهاب تقبله الله  اثناء اعتقاله في سجن كوبر بالسودان

لا تحزنوا يا أحبائي لمسجونِ *** ولتعلموا أن قلبي غير محزونِ
إن اعتقلتُ فما عقلي بمُعتقل *** كم ذا يرفرف بين الكهف والتين
وإن سجنت فما في السجن منقصة *** قد زج يوسف في قعر الزنازينِ
وإن حُصرت فلي نفس محلقة *** فوق الطغاة وفوق الظلم والهونِ

وإن حُبست فكم من نعمة عظمت *** ونفحة من إله الكون تاتينيِ
وإن أُسرت فقلبي ليس يأسره*** عطر الورود ولا حُسن البساتينِ
وإن حُرمت عيونا في الدنى خُلقت *** وإن حلا حسنها للعين والدينِ
فإن نفسي بها ليست بقانعة *** بل شوقها لعيون الحور والعينِ

وإن أَكُن في هدوء السجن قد أمنت*** نفسي أذى الناس إذ لا كف تؤذينيِ
فقد أمنت الذي يفنى ووا أسفاه *** فما العذاب الذي يبقى لمأمونِ
إن النجاة على الرحمن هينة*** فإنما الأمر بين الكاف والنونِ
أليس أنقذ إبراهيم من لهب*** إذ قال للنار لما أُشعلت كونيِ

أليس نجّى من الماء الذي عظمت أمواجه *** عبده نوحاً وذا النونِ
أليس شقّ طريقاً بينها يبساً *** نجاة موسى به كانت وهارونِ
إني لأعلم أن الله مخرجني *** من حيث كنت ولو من بطن تينينِ
وحين أُخرج لن أُلفى وبي حنق*** ولن يعادي فؤادي من يعادينيِ

من يمسك المال عني أول يمُنّ به*** أنفق له المال مني غير ممنونِ
ومن أتاني بقول منه يجرحني*** أبذل له من حديث الرفق واللينِ
إلا الأُوْلَى أخرجونا من مساكننا*** وحاربوا ديننا حرب الشياطينِ
كل العداوة ترجى مودتها*** إلا عداوة من عاداك في الدين.

أدب السجون بالمغرب.. للحقيقة وجهان

حسن الأشرف

يقول الكثيرون في المغرب إن الأدب يبقى أدبًا رغم تقسيمه إلى أدب عربي وآخر أمازيغي، أو أدب رجالي، وآخر نسائي، لأن الكتابة شأن إبداعي وإنساني يحتفي بالتخييل أكثر من الواقع، ولا يعترف بالجنس ولا بالعرق، إلا أن ما يسميه البعض “أدب السجون”، أو “الأدب السياسي”، يأخذ تصنيفًا مغايرًا، نظرًا إلى كونه تعبيرًا إبداعيًا عن تجارب اعتقال سياسي تدور رحاها في الأقبية والمعتقلات.
وأدب السجون في المغرب لم يخرج عن هذا السياق العام، المتمثل في الكتابات التي توثّق لتجربة الاعتقال، سواء أخطّها صاحبها أم دبّجها كاتب متمرس على لسان من عاش تجربة الاعتقال السياسي، لكنه يحفل بِسمة خاصة تتمثل في “ازدهاره” في فترة رئيسية من تاريخ المغرب المعاصر.

سياق زمني

ظهرت روايات تُنسب إلى أدب السجون في المغرب، خاصة في سياق ما عرفته البلاد من محاولات التصالح مع الماضي، أو ما يسمى بـ “سنوات الرصاص”، وهي سنوات الاعتقال السياسي التي تعرّض لها العديد من السياسيين والنقابيين، في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.
وشهدت المملكة في بدايات الألفية الثالثة، وتحديدًا في عام 2004، ميلاد هيئة تدعى “هيئة الإصلاح والمناصفة”، وهي مؤسسة رسمية وضعتها الدولة لجبر الضرر الذي لحق بمعتقلين سياسيين خلال “سنوات الرصاص”، وردّ الاعتبار لهم معنويًا وماديًا، وذلك بهدف تسوية ملفات ماضي الانتهاكات لحقوق الإنسان.
وفي هذه الفترة الزمنية، وحتى قبلها بقليل وبعدها أيضًا، ظهرت تباعًا في المغرب، أعمال أدبية تمتح من “زمكان” السجن فضاءً أساسيًا لروايات تختلف في شخوصها وأمكنتها، لكنها تكاد تتشابه في مضامينها الإنسانية التي تسِمها، خاصة أن الأمر يتعلق بمعتقلات ينطبق عليها المثل القائل بأن “الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود”.
ولعلّ من أشهر ما كُتب في هذا الصدد رواية “الزنزانة رقم 10” لصاحبها الضابط المغربي السابق، أحمد المرزوقي، وهو أحد المتورطين في محاولة الانقلاب الفاشلة ضدّ الملك الراحل الحسن الثاني سنة 1971، حيث زجّ به في سجن “تازمامارت” الرهيب زهاء 18 عامًا، قبل أن يُفرج عنه سنة 1991، ليتجه إلى تدوين مأساته في روايته الشهيرة سنة 2001.
ولم تكن رواية “الزنزانة رقم 10” الوحيدة التي أسست أدب السجون بالمغرب، فقد تلتها روايات أخرى تنهل من المعين نفسه، منها رواية “من الصخيرات إلى تازمامارت؛ تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم”، لمحمد الرايس و”الساحة الشرفية” للكاتب عبد القادر الشاوي، و”يوميات سجين متوسطي” لحسن الدردابي، و”أفول الليل” للطاهر محفوظي، و”العريس” لصلاح الوديع.

تصفية حساب

ويُعرف الروائي المغربي، مصطفى لغتيري، أدب السجون بأنه “الكتابات التي حاولت ملامسة تجربة الاعتقال السياسي إبداعيًا، أي أنها اتخذت من الكتابة وسيلة لتصفية الحساب مع تجربة إنسانية ووجودية ونفسية مريرة، قد يكون المرء قد عاشها فعليًا أو سمع تفاصيلها من أحد السجناء، أو هي فقط عبارة عن تجربة متخيّلة لها ما يدعمها في الواقع، مما حدث لكثير من السجناء وتناقلته الألسنة أو وسائل الإعلام”.
وأفاد عضو اتحاد كتاب المغرب، في تصريح لـ”ملحق الثقافة”، أن هذا النوع من الكتابات نشط في المملكة، خاصّة بعد الانفراج السياسي ما بين القصر وأحزاب المعارضة التاريخية، الذي أدّى إلى إطلاق سراح المعتقلين السياسيين اليساريين على الخصوص، والعسكريين الذين تورطوا في محاولات انقلاب عسكرية فاشلة”.
وأوضح صاحب رواية “ابن السماء” أنه من خلال اطلاعه على بعض نصوص هذا الأدب، وجده بأنه ليس على وتيرة واحدة، فمنه ما يتمتع بقدر من الإبداعية الأدبية التي تجعل منه نصًا أدبيًا بامتياز، ومنه ما غلبت عليه صيغة الشهادة، فجاء كنوع من الوثيقة التاريخية، التي يمكنها أن تقدّم معلومات مهمّة عن مرحلة سنوات الرصاص في المغرب”.
وأورد لغتيري بأنه رغم عدم عيشه لتجربة الاعتقال، كتب رواية سماها “أحلام النوارس” عبارة عن رسالة طويلة وجهها معتقل سياسي سابق، أورثه السجن عللًا نفسية وجسمانية، واكتشف أن الجميع قد تخلّى عنه، بعد أن فاوضوا باسمه، واستثمروا نضاله للحصول على مكاسب سياسية واجتماعية”.

وثيقة الحقيقة

ويقف القرّاء والنقّاد إزاء تجربة أدب السجون في المغرب، على سبيل المثال، موقفين اثنين، الأوّل يؤكّد على جرعة الحقيقة والواقعية التي تمنحها الشهادات الواردة في بعض الأعمال التي تهتم بهذا الصنف من التوثيق الأدبي، خاصة صنف الرواية، باعتبارها مجالًا أدبيًا يسع لسرد المشاهدات والشهادات، بخلاف القصة القصيرة، أو الشعر، أو حتى الرسم.
وأما الموقف الثاني فذاك الذي يرفع عن أدب السجون طابعه التوثيقي والتأريخي، وينفي عنه سرد الحقيقة كما هي، بالنظر إلى أنها أعمال إبداعية تأتي من خيالات كاتبيها، الذين كانوا يسردون ما حدث لهم من منظورهم الخاص، ومن دون معرفة رأي الطرف الثاني، وأحيانًا بعد سنوات عديدة من خروجهم من تجربة الاعتقال.
ويقول أحمد المرزوقي، صاحب رواية “الزنزانة رقم 10″، التي قضى في ظلمتها حوالى 18 عامًا بتهمة مشاركته رفقة عسكريين آخرين، في محاولة اغتيال الملك الراحل، إن روايته تلك كانت نقلًا عن واقع عاشه طيلة سنوات عديدة في أقبية سجن تازمامارت المرعب، الذي فتح في أغسطس/آب 1973، وأغلق في سبتمبر/أيلول 1991.
وبالنسبة للمرزوقي، فإن ما أورده في روايته تلك لم يكن سوى قليل مما عاينه بأمّ عينه في ذلك المعتقل السياسي الذي طبقت شهرته العالم، كما استعان بشهادات رفاقه في السجن ذاته، شهادات ظلّت ذاكرته تحتفظ بها، إلى أن قرر إشراك القارئ والرأي العام تفاصيل التجربة، فاختار خط روايته باللغة الفرنسية أولً لإتقانه لها، قبل أن تُترجم إلى العربية بعد ذلك.
واعتبر الضابط السابق أن عددًا من الأعمال الأدبية التي تناولت حقبة من تاريخ المغرب، متمثلة في سنوات الرصاص التي طاولت معارضين سياسيين كما جنودًا وضباطًا عسكريين، تعتبر وثيقة تاريخية يمكن الاستئناس بها بالنسبة للأجيال الشابة، كما أنها وثيقة لحفظ الذاكرة الجماعية للبلاد، وفضح لتجاوزات الماضي من أجل تفاديها في الراهن والمستقبل”.
ويرى نقّاد أن كتابات أدب السجون، على الأقل في الحالة المغربية، ضمّت بالفعل معطيات بالأسماء، ومعلومات دقيقة عن جلادين وسجانين غلاظ شداد، وسردت أيضًا حقائق وحالات إنسانية، مثل وقوع بعض المعتقلين صرعى للمرض، أو ضحية للجنون، وأثر التعذيب، كما جاء في “الزنزانة 10” أو في روايات أخرى من الصنف ذاته.
وترتبط الشهادات الموثقة في العديد من روايات الاعتقال السياسي بالمغرب، بوقائع تاريخية لها امتدادات داخل فضاء السجن وخارجه، باعتبار أن السجين معني بتهمة غالبًا ما تكون ذات طابع سياسي، وبالتالي “تدين” نظامًا سياسيًا وقضائيًا معينًا، ما يجعلها أقرب إلى الشهادات التاريخية رغم وجودها في قالب أدبي يعتمد على التخييل الإبداعي.

حقيقة مجروحة

وبالمقابل هناك من يرى في عدد من الروايات التي تُصنّف ضمن أدب السجون أو أدب الاعتقال السياسي، بأنها انتقائية لا تروي الحقيقة بوجهيها معًا، وإنما بوجه واحد فقط يسرده الكاتب/المعتقل السياسي، فيما تغيب الحقيقة التي توجد لدى رفقائه أو لدى السجانين، والسلطة التي حاكمته وأدخلته السجون.
ويعتبر نقاد أن العديد من كتاب الروايات التي تستعرض تجاربهم داخل السجن، تعمّدوا إخفاء حقائق عاشوها في المعتقلات، من قبيل ما تعرضوا له من تصرفات أو انتهاكات لحقوقهم، وذلك من أجل عدم “صدم” أقاربهم وأفراد أسرتهم بخصوص الأحداث المرعبة التي عاشوها وتعرضوا لها داخل أقبية السجن.
ويرى البعض أن اتساع الفرق الزمني بين تجربة السجن والاعتقال السياسي وبين فترة كتابة الرواية وأحداثها، غالبًا ما تأخذ سنوات عديدة، وفي حالة أحمد المرزوقي مثلًا خرج من السجن سنة 1991، وخرجت روايته للنور بعد ذلك بعشر سنوات، وهو ما يفضي حسب البعض إلى “نقص” في دقّة التحرّي، وتذكر الأحداث والوقائع، ونسبتها لأصحابها.
وبالنسبة لأصحاب هذا الرأي، فإن أدباء السجن غالبًا ما تكون روايتهم للأحداث التي عاشوها خلف أسوار السجن، وشهاداتهم التي خطوها بين دفتي رواياتهم وأعمالهم الأدبية، يعتورها بعض النقص في نقل الواقع كما هو، لأن تجربة السجن تظلّ تجربة ذاتية وغير موضوعية مثل كل تجربة إنسانية محضة، تخضع للعاطفة حبًا وكرهًا، وللتقدير إيجابًا وسلبًا.
وبالتالي، ولكل الأسباب السابقة، يعدّ البعض أن أدب السجن لا يمكنه إلا أن يقدّم حقيقة منتقاة وجزئية، خاضعة للعامل الذاتي والانطباعي، وحتى للصنعة الأدبية، ولاعتبارات المحيط والمجتمع، وربما لغواية السوق والمردود المادي، علاوة على أنها تستند إلى ذاكرة مشروخة، أنهكها التعذيب والمكوث سنوات في الظلّ خلف الجدران الباردة.

أدب السجون.. باب آخر للمقاومة من وراء القضبان

لماذا يصادر الاحتلال كتابات الأسرى؟

وليد الهودلي: الكتابة داخل السجون شكل من أشكال المقاومة

داوود فرج: أدب السجون يصنع عند الأجيال حالة رفض للاحتلال والتوق للحرية

الحدث- سوار عبد ربه

يظن المحتل أنه باعتقاله للمقاوم ينهي فعل المقاومة عنده، إلا أن الأسرى يظلون يبتكرون طرقا للمقاومة حتى داخل الحيز الصغير الذي يتواجدون فيه مرغمين، بالرغم من كافة الإجراءات التعسفية التي تمارسها مصلحة السجون الإسرائيلية، في محاولة منها لردع الأسير عن فعل المقاومة، وواحد من أشكال المقاومة التي يمارسها الأسير داخل سجنه هو توثيق التجربة، بالأعمال الأدبية التي تولد في عتمة الأقبية وخلف القضبان، تلك الأعمال التي تخرج من رحم المعاناة اليومية التي يعيشها الأسرى، والتي اصطلح على تسميتها بـ “أدب السجون”.

ومؤخرا، صادر الاحتلال الإسرائيلي، مخطوطة روائية للأسير باسم خندقجي المحكوم بثلاث مؤبدات، والتي كانت في مرحتلها النهائية تحضيرا لطباعتها، عقب مداهمة زنزانته والاعتداء عليه جسديا، الأمر الذي استنكره الاتحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيين في بيان طالبوا فيه باسترجاع مخطوطة الأسير الأديب باسم الخندقجي، وتأمين حرية الكتابة وحق التعبير للأسرى الفلسطينيين في معتقلات الاحتلال، كحق مسلم به، وضمان عدم التعدي على حرية الكتابة والإبداع داخل السجون.

وليس خندقجي حالة فردية، فمعظم من ذهب باتجاه كتابة عمل أدبي داخل سجون الاحتلال، يحكي فيه تجربته ورفاقه الأسرى، وظروف اعتقالهم، والحياة اليومية التي يعايشونها، تعرضوا لجملة من التضييقات أوضحها عراب أدب السجون الإسرائيلية وليد الهودلي في لقاء مع “صحيفة الحدث“، إذ قال الهودلي إن الجو العام داخل السجن، هو جو بطابع قمع وضغط نفسي، وبعيد جدا عن أن يكون مناسبا للكتابة، ناهيك عن الخوف الدائم من احتمالية قطع الطريق على الأسير ومصادرة ما أنهى كتابته، الأمر الذي يشكل كابوسا كبيرا بالنسبة للكاتب.

وبحسب الهودلي تجري مصادرة كتابات الأسرى أحيانا أثناء التفتيش الذي يصل إلى حد الملابس الداخلية للأسير، أو عند محاولة إخراج الأوراق من السجن للطباعة، وأحيانا قد لا يتوفر القلم والأوراق، وإن توفرت تكون بكميات قليلة، بالإضافة إلى التنقلات من سجن إلى آخر أو من غرفة إلى أخرى، ما يسبب للأسير نوعا من عدم الاستقرار والتوتر وهي عوامل تبقي الأسير بعيدا عن جو الكتابة والإبداع.

وبدأ الهودلي مشواره في الكتابة الإبداعية من داخل سجون الاحتلال انطلاقا من النشرات التوعوية حول قضايا السجن، ثم انتقل إلى الحوار الأدبي، فالقصة القصيرة، ثم مجموعة قصصية عن الأسرى المرضى، وصولا إلى رواية ستائر العتمة عام 2003 الصادرة عن المؤسسة الفلسطينية للإرشاد القومي وبيت الشعر، وقد لاقت الرواية قبولا كبيرا حتى أنها طبعت 11 مرة، وتم تحويلها إلى فيلم سينمائي، وروايات أخرى عن حكايا السجن والسجان.

وليد الهودلي

لماذا ظهر أدب السجون؟

يرى الأديب الهودلي أن الأسير يكتب كي يثبت ذاته الثورية، فالكتابة هنا ضرورة وشكل من أشكال المقاومة المستمرة، رغم الظروف القاسية والصعبة، كما أنها ضرورة من ضرورات الكيونية الفلسطينية الحرة، والمميز في أدب السجون أن فيه كل معاني الحرية والتوق لها وصدق المشاعر والمقاومة وكرامة الإنسان.

بينما يرى الأسير داوود فرج الذي انتزع حريته عام 1992 من معتقل الخيام الإسرائيلي في الجنوب اللبناني والذي وثق تجربة هروبه ورفيقه محمد عساف في رواية “على بوابة الوطن.. دهاليز الخيام”، أن هذا الأدب ظهر كوسيلة تعبير بالتجربة الحية المباشرة التي تعبر عن المشاعر الإنسانية التي يخوضها الأسير، بحيث يوثق تجربته بالأسر الناتجة عن القضية التي ينتمي لها.

داوود فرج

ويضيف فرج في لقاء مع “صحيفة الحدث“: يكتب الأسير أيضا ليظهر مدى أهمية القضية كشكل آخر من أشكال المقاومة، سيما وأن الهدف النفسي من الاعتقال هو تحطيم البنية المعنوية للأسير من أجل تغيير معتقداته ما يعرضه لشتى أنواع القهر والتعذيب، وعلى الأسير في هذه الحالة أن يظهر قوة وصلابة لمواجهة ممارسات السجان، وهذه العوامل كلها تدفع الأسير باتجاه التعبير عن قضيته وأفكاره كي تترسخ أكثر، وهنا تصبح الكتابة بابا آخر للمقاومة، في معادلة أوضحها فرج أن السجان يمارس العنف والإذلال والممارسات القمعية، معنويا وجسديا ونفسيا، والأسير يلتقط هذه المشاعر ليواجه آلة القمع، من خلال المعنى الذي يتلقاه من آلات التعذيب ليحوله إلى قضية إنسانية وفلسفية.

ويؤكد فرج أن المؤمنين بالقضايا النضالية يذهبون بتجاه الأدب والفلسفة وخلق نمط لحياة بديلة عن النمط القائم القمعي، وتصبح علاقات الأسير أكثر إنسانية بالتجربة الحية المباشرة.

وبالإضافة إلى ما سبق، قد يكون إلحاح الناس على معرفة خبايا السجن وكواليس التجربة، دافعا مهما للأسير لتوثيق تجربته، ففرج الذي ظل لسنوات طويلة يحكي قصة انتزاع الحرية في سهرات وندوات ولقاءات، ويرد على أسئلة الناس حول تفاصيل التفاصيل، أثار اهتمامه أن يبحث عمن يقوم بتدوين مشاعره وتجربته، لأنه لم يستسغ فكرة الكتابة عن نفسه، إلى أن التقى بالكاتبة أميرة الحسيني، التي كتبت رواية “على بوابة الوطن.. دهاليز الخيام”.

أهمية أدب السجون

وحول أهمية التوثيق يقول فرج مستدلا بتجربته الروائية، عندما كنت ألتقي بالناس، كانوا يسألونني عن تفاصيل تفاجئني، وكأنهم عاشوا التجربة معي، حتى أنني دعيت في إحدى المرات، بعد مرور زمن للحديث عن قصة الهروب، ولزيارة معتقل الخيام بعد التحرير عام 2000، وكان الناس يعرفون المكان وأحداثه من خلال الرواية، نتيجة الصورة الحقيقة التي نقلتها الرواية، والصدى الذي تركته، مبينا أن الرواية الحقيقية التي تعبر عن قصص حقيقية لها دلالات رمزية مهمة في كل الأجيال والمراحل، ومن المهم دائما إحياء التجربة، لأنها توثق الاحتلال وممارساته ومواقف المناضلين منه وما فعلوه ضده.

ويؤكد فرج أن التجربة عندما تحيا من خلال الأدب فهي تصنع عند الأجيال حالة رافضة للاحتلال وعدم القبول بالذل، والبحث الدائم عن الحرية المطلقة، مشددا على أن الحديث عن التجربة أو الكتابة عنها له عواقبه.

لماذا لا يحب المحتل أن يكتب الأسير تجربته؟

عطفا على ما سبق، يرى فرج أن الاحتلال لا يقبل بالفضيحة، وعندما يكتب الأسير ينكشف الاحتلال وتفضح ممارساته وصورته الحقيقية، ولذلك يحاول دائما أن يمارس قمعه على من يحاول الحديث عنه بطريقة لا تتناسب مع أهدافه، مستذكرا أيام اعتقاله، عندما كان يتحرر أحد الأسرى ويدلي بتصريحات إلى الإعلام كان المحتل يفرض عقوبات جماعية على الأسرى بهدف تخويفهم ومنعهم من الكلام مستقبلا، ما جعل من الأوضاع الصعبة في معتقل الخيام مغيبة، إلى حين عملية الهروب التي قام بها فرج ورفيقه عساف.

وفجر 6 أيلول 1992 نفذ المقاومون المعتقلون في معتقل الخيام داوود فرج ورفاقه الثلاثة عملية هروب من المعتقل، إلا أن واحدا منهم انفجر فيه لغم واستشهد، وآخر أصيب بجروح وأعيد اعتقاله،  في عملية صنفت على أنها من أجرأ عمليات المقاومة التي قام بها الأسرى.

يحظى باهتمام القارئ العربي

إن كتابات الأسرى التي خرجت من سجون الاحتلال لاقت تفاعلا كبيرا على الساحة الأدبية الفلسطينية والعربية وذلك لأن القارئ العربي عندما يرى رواية بأسلوب أدبي قوي، تضاف إلى الأدب العربي، وتحقق الإبداع الروائي، يقرأها من هذا الباب، إلى جانب العشق الداخلي لفلسطين التي لا تغيب عن قلوب الشعوب العربية، لذا نجد اهتماما كبيرا جدا في الرواية الفلسطينية خاصة أدب السجون، بحسب الكاتب وليد الهودلي.

ويرى الهودلي أن الكتابة في هذا الحقل، في تطور وتقدم كما ونوعا، إلا أنها ليست غنية بما يكفي ولا تتناسب مع عدد الأسرى في السجون وحجم مأساتهم.

 والعام الماضي (2021) كشفت إحصاءات هيئة شؤون الأسرى والمحررين الفلسطينيين، أن عدد حالات الاعتقال في صفوف الفلسطينيين منذ حرب النكسة بلغ نحو مليون حالة اعتقال.

وفي سؤال حول ما إذا كانت موهبة الكتابة مطلوبة لإنجاز العمل الأدبي، أم أن معاناة الأسرى في الزنازين تكفي لإنجاز العمل، قال الهودلي لـ”صحيفة الحدث“: “وجود الموهبة مهم جدا لكن إن لم تتوفر، يوجد ما هو أهم، كالتحدي والانتماء للقضية التي تشعر الأسير أنه يريد أن ينجز عمله لتحقيق نضاله من أجل قضيته، وهذه العوامل تؤدي لأن يكتب الأسير. 

ولا يعتبر أدب السجون مادة مثيرة للقراءة فقط، بل مادة دسمة للدراسة أيضا، يعنى بها طلبة الجامعات كمشاريع لأبحاثهم ورسائل الماجستير والدكتوراة، ففي لبنان على سبيل المثال لا الحصر، اختارت طالبة الدراسات العليا ساندي درويش، أدب السجون موضوعا لرسالتها، التي خلصت إلى أن هذا النوع الأدبي جاء ليكون وسيلة التعبير الأقوى عن الرفض للقمع وحبس الحريات، وأنه كان أسمى وأعظم الطرق التي استطاع الأدباء من خلالها أن يرووا أحداثا حصلت معهم في السجن، والعوامل النفسية التي فتكت فيهم، كما أن البحث في هذا النوع من الأدب يؤكد لنا أن الأدب يستطيع أن يطرق كل الأبواب حتى تلك المقفولة، وأن هذا النوع الأدبي ليس مجرد عاطفة وأحداث مأساوية إنما مليء بالبلاغة والاختزال والتركيز والتوازن والعمق والبساطة.

وفي حديثها مع “صحيفة الحدث“، قالت درويش إن عينة التجارب الأدبية للأسرى التي قامت بدراستها، تقاطعت في نفس مرارة الألم وصعوبته وشقائه، فجميع الأسرى في أعمالهم كتبوا عن الظلم والاستبداد نفسه، على الصعيدين الجسدي والنفسي، بالإضافة إلى النزعة الثورية الرافضة للخضوع إلى السلطة القمعية، والتوق إلى الحرية.

الأمر الذي أكده الأسير المحرر داوود فرج بقوله إن الأسرى في كافة سجون العالم يتشابهون كثيرا، لأن مضمون الأسر واحد، فهي قضية إنسان في وجه متغطرس، مع اختلاف الوقائع والظروف.

وحول سبب اختيار درويش لأدب السجون موضوعا لرسالتها أوضحت أن هناك عوامل شخصية وموضوعية، وذلك بهدف الغوص في نفوس هؤلاء المعتقلين وكيف تأثرت عقولهم ونفوسهم وكيف تبدلت شخصياتهم داخل السجن، من خلال معرفة القصص والمواقف التي حصلت معهم، وأيضا الاطلاع على الأسباب التي توقعهم في السجن، بالإضافة إلى رغبتها في الإضاءة على هذا العالم، من خلال استطلاع آراء بعض الأدباء الذين ذاقوا مرارة السجن ولمعرفة كيف تناول أدب السجون هذا الأمر وكيف استطاع أن يطرح هذه القضية.

أدب الحركة الأسيرة، باسم خندقجي نموذجًا

تحيّة حيفاويّة لنابلس وأهلها، نابلس التي أنجبت إبراهيم وفدوى طوقان وسحر خليفة وغسّان الشكعة وغيرهم.

بدايةُ اسمحوا لي أن أشكر المنظّمين لهذه الندوة الأدبيّة على دعوتي للمشاركة، وهذا شرف لي أن أكون بينكم اليوم، وإقامة الندوة أقلّ الواجب تجاه أسرانا.

بدأت مشوار التواصل مع أسرى خلف القضبان ويكتبون لاهتمامي بأدب السجون، وهناك من بين القضبان سمعت من إحداهم نكتة بنكهة السخريّة السوداويّة القاتلة: “دخل أسير لمكتبة السجن سائلًا عن كتاب فأجابه السجّان: الكتاب ممنوع وغير متوفّر، لكنّ مؤلّفه في الزنزانة رقم 110”!!

تبيّن لي أنّ الكتابة خلف القضبان متنفّس للأسير، تجعله يحلّق ليعانق شمس الحريّة؛ كتبت الصديقة الكاتبة حنان بكير: “من عتمة الزنازين يرسمون الوطن قوس قزح… هم في زنازينهم أكثر حريّة من الطلقاء ذوي النفوس الذليلة”، وكتب أخي د. يوسف عراقي: “الحريّة هي حريّة الأفكار…بالرغم من أنّهم خلف القضبان فإنّهم أحرار بعكس الكثيرين خارج القضبان فهم أسرى بمواقفهم”. نعم، إنّهم أسرى أحرار رغم القيود اللئيمة!

يُعنى أدب السجون بتصوير الحياة خلف القضبان وخارجها، كما يناقش الظلم الذي يتعرّض له السجناء، والأسباب التي أودت بهم إلى السجن، حيث يقوم السجناء أنفسهم بتدوين يوميّاتهم وتوثيق كل ما مرّوا به من أحداث بشعة داخل السجن، فهو إن صحّ التعبير، “رواية السيرة الذاتيّة”. وأخطر ما في السجن أن تفقد احترامك لذاتك، لأنّك إن فعلت، صارت رقبتك بيد جلادّك، وصرت تتقبّل منه الصفعة في وجه الكرامة على أنّها قُبلة في خدّ الرضى، وقيل: ليسَ على هذه البسيطة، مخلوقٌ أشدُّ قسوةً وهمجيّة من الإنسان!

يبقى السؤال مفتوحًا حول تعريف أدب السجون – هل هو أدب كتبه سجناء؟ أم أبطاله سجناء؟ أم عالم السجن محوره وموضوعه ومادّته؟ فهناك من كتب عن السجن دون أن يُعتقل أو يُسجن يومًا واحدًا، وهناك الكثيرون من السجناء كتبوا الرواية أو الشعر أو القصّة القصيرة وراء القضبان، دون تجربة سابقة ودون دراية بالكتابة وفنّها وأبدعوا.

جاء باسم خندقجي ورفاقه الأسرى كميل أبو حنيش، حسام شاهين، ناصر أبو سرور، وليد دقّة وغيرهم ليصرخوا: لدينا ما نقوله من الأدب الجميل الذي يستحقّ القراءة، بغضّ النظر ورُغم كوننا أسرى خلف القضبان فاقرؤونا واسمعونا ولا تُحابونا فلا نحتاج “رحمتكم” والتساهل مع كتاباتنا بسبب القضبان!

ظهر أدب السجون كنتاج الواقع القمعيّ وفقدان الثقة بالسُلطة، ليفضح النظام ويُعرّيه ويُحرّض القارئ ضدّه فيبحث عن فضاء من الحريّة وكشف المستور الفكريّ والسياسيّ والاجتماعيّ، من خلال وصف وتوثيق التعذيب والمعاناة داخل السجن وكشف بشاعته وممارساته من وحدة ورعب وزنازين انفراديّة موحشة، وتعذيب نفسيّ وجسديّ وغيرها. وجاء باسم ورفاقه ليشرّعوا الباب والتعريف ليصبح أدب السجون الحداثيّ هو الأدب الجميل الذي يُكتَب خلف القضبان بغضّ النظر عن موضوعاته ومضامينه!

يواجه الأديب العربيّ ثالوث المسلّمات المقدّس: السياسة، الدين والجنس، ذلك الثالوث الذي يقيّد حريّته الإبداعيّة، حيث تَعتبر الدولة صوت المثقّف المعارض صوتًا مُحرِّضًا ضدّها، فتلاحقه وتقمعه جسديًّا وفكريا، فتصادر كتبه وفكرِهِ وقد يتعرض للاعتقال والسجن والتعذيب، وإلى المنفى، ناهيك عن فقدان مكان العمل والحرمان الديني والاجتماعي، ولم تُستثن المرأة من تلك الملاحقات.
صدق بسام البغدادي حين قال: “حريّة التعبير حقّك في قول ما يعجبك وحقّ الآخرين في قول ما لا يُعجبك”.

يُعنى أدب السجون بالأساس بالمواطن المقموع، وأبرزهم السجين السياسيّ المثقف الذي يسعى إلى التغيير، كما ورد في كتاب “شرق المتوسط” للروائي السعودي عبد الرحمن منيف ويمكن لها أن تُعتبر أوّل رواية عربيّة تنتمي لأدب السجون، وبفضلها تجرّأ الكتّاب على التطرّق لهذا النوع من الأدب، حيث تلاها سيلٌ من الروايات التي تُصنَّف تحت أدب السجون. تناقش الرواية الاعتقال السياسي، والقمع في الدول العربية دون تحديد أسماء أو مدن، لذلك كل عربيّ يقرأ هذه الرواية أياً كانت جنسيّته، يشعر وكأنها تتحدّث عن بلده، فالقمع هو الشيء الوحيد الذي يجمعُنا، هو علامة عربيّة فارقة مطبوعة على جبين كلّ المدن، معلّقة على أبواب البيوت، موجودة في كلّ مكان، في الشوارع، البيوت، الغرف، وقد تجدها في جيوبنا أيضاً، وتلتها روايات كُثُر في شتى البلدان العربيّة نتيجة المعاناة والكبت الفكري والجسدي ومصادرة الحريّات، فيُقال فيها وبحقّ الداخل مفقود والخارج مولود.

“أن تتعذّب أنت أهون من أن تسمع صوت الصراخ الإنساني ليلًا ونهارًا” مصطفى خليفة.

“نعم، كانت معنويّاتنا قد نزلت إلى الحضيض، وكانت أغلى أمنياتنا هي أن نموت ميتةً فجائيةً تقينا أهوال الاحتضار الطويل البطيء الذي كان فيه السجين ينقلب إلى جيفة مهترئة يتكالب على نهشها البعوض والذباب وأنواع لا حصر لها من الحشرات الطائرة والزاحفة ” هذا ما كتبه أحمد المرزوقي في روايته ” تزممارت، الزنزانة رقم 10 ” والذي يروي معاناة 18 عامًا داخل السجن وهناك تلقّى أشدّ أنواع العذاب. الرواية مؤلمة جدًا، ومن ضمن المواقف المؤلمة التي يتعرّض لها الكاتب، أن يوضع في قبر مظلم، ويُعطى الفُتات والماء المُلوَّث طيلة 18 عامًا، لا يرى أحدًا ولا يعلم بمكانه أحد!!! ما يتنافى مع قوله تعالى عن الأسرى في كتابه العزيز: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا . [الإنسان: 8]

“يا صاحبيّ السجن” للروائي الأردني أيمن العتّوم، والتي يروي فيها الفترة التي قضاها في سجون الأردن في مطلع التسعينات، رائعة إلى حدّ لا يوصف، ولا أبالغ إن قلت إنّ الرواية تجعلك تشتهي السجن ولو ليوم، ليس لرفاهيّته بالتأكيد، وإنما لروعة الخلوة بالنفس التي صوّرها الكاتب بإبداع! وهذا ما قلته له في لقائنا خلال معرض الكتاب قبل الأخير في عمان.

صدر قبل عدّة شهور كتاب جمر المحطّات للكاتب بسام الكعبي وافتتحه بمقدّمة شاملة وقيّمة حول أدب السجون؛ أبرزت جانباً واسعاً من أدب السجون في فلسطين والبلاد العربيّة، أوروبا وأميركا اللاتينيّة. تناول تجربة الشاعر الجزائريّ الرقيق البشير حاج علي التي سردها في كتابه “التّعسف” وتعذيبه في السجون الجزائريّة بأسلوب الخوذة الألمانيّة: حشر الرأس في خوذة حديديّة محكّمة ضيّقة، والطَرق فوقها بقوّة بشكل منتظم ولفترة طويلة؛ حتى يبدأ المُعتقل بفُقدان توازنه، وضياع ذاكرته بالتدريج. كُتب “التّعسف” على ورق الحمّامات، وهرّب النصّ إلى رفاقه عبر زوجته صفيّة، ممّا يذكّرني برواية الكبسولة للأسير كميل أبو حنيش. وتطرّق كذلك، وبشموليّة، لأدب السجون الفلسطيني وروّاده.

تجربة باسم خندقجي تجربة مختلفة ومُلفته للنّظر؛ فهو يقبع في السّجن منذ 02 تشرين أوّل عام 2004 (وطبعًا 2 نوفمبر هو تاريخ الشؤم للفلسطينيين، يصادف يوم تصريح بلفور المشؤوم، أساس نكبتنا) ولا يكتب عن تجربته فيه، وهو بذلك يختلف عن سجناء كُثُر كتبوا عن عالم السّجن وتجربتهم فيه، وتكاد أعمالهم تقتصر على تجربتهم ومحيطها، أمثال علي الخليلي الذي كان من أوائل من كتبوا عن أدب السجون في سبعينيات القرن الماضي وكتابه “المفاتيح تدور في الأقفال”، فيصل حوراني وكتابه “المحاصرون”، أصدقائي عائشة عودة في كتُبها “أحلام الحريّة” و”ثمنًا للشمس”، حسام كناعنة وكتابه “مرايا الأسر”، هيثم جابر، أسعد عبد الرحمن وغيرهم، وتساءلت حين قرأته: “لماذا؟” حين إلتقيته يوم 12 حزيران عرفت بداية الإجابة. إسمحوا لي أن أقرأ لكم ما كتبته حول تلك الزيارة:
كاسك يا “ميلاد”

تعرّفتُ إلى الأسير باسم محمد صالح أديب خندقجي؛ شاعر وروائي فلسطيني يقضي حكمًا مدّته ثلاثة مؤبّدات داخل سجون الاحتلال الاسرائيلي وله العديد من الاصدارات الشعريّة والروائيّة ومنها ديوان “طقوس المرّة الأولى”، ديوان “أنفاس قصيدة ليليّة”، رواية “مسك الكفاية ، سيرة سيّدة الظلال الحُرّة” ، “نرجس العزلة” و”خسوف بدر الدين”، عبر رواياته التي تناولتُ بعضها.
التقيته صباح اليوم في سجن “هداريم” وقابلني بابتسامة طفوليّة بريئة (ابتسامة لم تُفارقه لساعتين ونصف) وقُبًلات عبر “الحاجز الزجاجيّ” البغيض فسألته، بغرض كسر ذلك الحاجز، عن سرّ الابتسامة السرمديّة، فأجابني بعفويّة: “أشعر أنّ اليوم عيد ميلادي لأنني سجين منذ خمسة عشر عامًا وللمرّة الأولى يزورني “غريب” بسبب كتاباتي، أشعر حقًا أنني اليوم أصبحت كاتبًا!!!”.
تحدّثنا كثيرًا عن كتاباته ومشروعه الأدبيّ، الاغتراب الثقافي، التطبيع، متابعته لما أكتب وأسلوبي في الكتابة، الرواية المحليّة وأدب السجون على تعريفاته: التقليديّة النمطيّة والحديثة، عن دور نادي حيفا الثقافي في تنشيط الحركة الثقافيّة في البلاد، إشهار روايته الأخيرة في بيروت وافتقاده لصورة والده، رحمه الله، في حفل الإشهار، حيث فارق الحياة وباسم يقبع خلف القضبان، الحياة داخل السجن وتعرّفه عن كثب على الجناح الآخر للوطن: كريم يونس، وليد دقّة وباسل غطاس وغيرهم، والابتسامة تلازمه كلّ الوقت، ووجهه الذي يشعّ حياةً وأمل، وعن نسيان وضياع قضيّة الأسرى.
عذرًا ايها الباسم، لقد خذلناك.

في طريقي خارجًا من غرفة المحامين لمحت الأسير كريم يونس يتحدّث مع محاميه، الذي كان متدرّبًا في مكتبي، استوقفني وتبادلنا أطراف الحديث وتطرّقنا لمقالة كتبتها عن الأسر ولوحة د. يوسف عراقي التي رافقتها، وكانت مفاجأة سارّة.

وعدت باسم أن نرفع نخب “ميلاد” الموعود قبالة بحر حيفا، وميلاده حتمًا سيكون فأل خير على الحركة الأسيرة، وها أنا أفي بوعدي.

لك عزيزي باسم أحلى التحيّات، الحريّة لك ولجميع أسرى الحريّة، على أمل أن نلتقي في حيفانا الباقية حديقة الرب السريّة المُعدّة مسبقًا للعشق، امرأة الهويّة والدهشة التي تشتهيها، المدينة الصامدة الحزينة التي تنتظر عشّاقها المشرّدين في الأرض رغم الذلّ والعنصريّة والاحتلال وهي التي تسكنك، امرأة من وطن ووطن بلا امرأة.
حيفا 12 يونيو 2019
بدأ باسم بالشعر؛ شاركت في حينه ببرنامجٍ تلفزيونيّ حول أدب السجون برفقة صديقي الدكتور صالح عبود (ابن قرية عيلوط الجليليّة) وتحدّث عن خصوصيّة باسم الشاعر وتجلّيها في مجموعتيه الشعريّتين “طقوس المرة الاولى” و”أنفاس قصيدة ليلية” وأشار إلى أنّ تجربةُ السّجنِ والأسرِ بما تحملهُ من دلالاتِ القمعِ والتّعذيب والتّضييقِ، وهيَ تجربةٌ نضاليّةٌ ترفعُ رايةَ مقاومةِ الأسرِ والاستبدادِ فَتنتصرُ للحرِّيّةِ والإنسانيّةِ بالكلمةِ والسِّحرِ الحلالِ، في أحوالٍ تكتنفُ الأسيرَ وَتغتالُ فيهِ حركتَهُ وَتُسْلِمُهُ إلى صَدى السّكونِ.، يعالجَ حالتَهُ النفسيّةَ في سجنهِ بِداءٍ هوَ غايةُ كلِّ من رامَ انعتاقًا من ذاتهِ الحبيسَةِ في ضَنكِ يومِها، سَجينًا كانَ أم مُحرَّرًا، إذ قَمعَ وجعَهُ الظّاهرَ بِوجعٍ لذيذٍ يَستصرخُ من خلالِهِ غَزَلًا وَشوقًا لامرأةٍ تُعيدُ فيهِ أُنسَهُ التّائِهَ في صقيعِ الليالي المغمضَةِ وغربةِ النفسِ المتأرجحةِ بينَ قريبٍ يَنزعُ الدّمعَ منَ العيونِ نَزعًا، وبعيدٍ يَجمعُ فيهِ الشّجونَ جَمعًا.

“نرجس العزلة”؛

يصف باسم الكتاب بمنثور روائي “محض صدفة أو محض عشق”. انها رواية شاعر أحَب امرأة البدء ، لاجئة من قرية السنديانة قضاء حيفا، حبيبته الأولى وأوّل العشق وأوّل الدهشة وأوّل حيفا ،أحبّها وخذلته لتتزوج غيره وتعيش في الخليج، وعلاقته مع فاديا النابلسية المُغايرة، وحُبّه لامرأة الهويّة والدهشة الحيفاويّة التي يشتهيها ويقرر العزلة الحارقة ومن ثم يقرّر ألّا يزور حيفا لأجلها كما زار قرطبة ليصير شاعرًا بلا مدينة … بلا وطن… بلا شعر …
يتطرّق باسم، بجرأة نادرة على الساحة الأدبيّة الفلسطينيّة، إلى مهزلة أوسلو والرهان الخاسر على طاولة المفاوضات، ترويض القضيّة الفلسطينيّة ونضالها بواسطة منظّمات المجتمع المدني والأهلي، التنازل عن الثوابت وحقّ العودة المقدّس وضياعه، مأساة الاحتراب والاقتتال الفلسطيني الداخلي، ظواهر اجتماعيّة سلبيّة مقيتة ولا ينسى الاحتلال وجرائمه.
يتطرق باسم لانتفاضة الحجارة حين مارس الاحتلال اجراءاته التعسفيّة بحق العمليّة التعليميّة في الاراضي المحتلّة: إغلاق الجامعات والمعاهد والمدارس وحملة الاعتقالات العشوائيّة وحرمان الشباب الفلسطيني من الحياة الطبيعيّة العاديّة، كما يثير قضية معاناة الوطن من شُحّ المياه في القيظ وسرقة الاحتلال المستمرّة لمياهه، فلا يحق للفلسطيني حفر الأرض لاستخراج المياه الجوفيّة وغيرها. كانت فضاء من الطهارة والنقاء وسطوع المغامرة حين أصبح مهر العروس سنة أو سنتين سجن وأكثر!!! ووحشيّة الاحتلال وعنصريّته مقابل صمت العالم!
باسم، نصير المرأة، فهو يتذمّر من وضعها حين يقول: “هكذا هي نون النسوة في بلده وفي كل الوطن العربي، تراها بجانبك طفلة وعندما تكبر فأنت تكبر وحدك إلى أن تتفاجأ بغيابها سائلًا أين هي بحق السماء؟ اختفت…اختطفت … اغتصبت اغتصابًا شرعيًا ؟!” وينتقد “ذكوريّتنا المُفرطة” قائلًا: “مجتمع ذكوري مقيت وقاسي عليها، هي المرأة التي يجب أن ترتدي عباءة وخِمارًا يسترها عنهم ويسدّ رمق التلصّص في عيونهم لكي تعيش مختنِقة في تنافخ أحمق لشرفٍ مُزيّف مُموّه” (ص 47).
يتطرق باسم إلى الحيرة الأوسلويّة ويصرخ ضد المبادرات المغشوشة والتطبيع ويصفها ببناء للوهم ولحظات سُكر ووطن الأناقة السياسيّة والواقعيّة في غرف المفاوضات المغلقة ذات التكييف الهوائي الذي كان نتاجه ” مشروع دولة من اسمنت ومنح وقروض وطحين وتمثيلات ثقافيّة مُختلّة ومُشوّهة” (ص131) فعادت القيادة من الشتات بأضغاث حلم تجسّد على الأرض بأجهزة أمنيّة عديدة، وشبه الوزارات والحكومات والمجالس في وطن من وهم وفُرقة وطنيّة وعبث وفراغ يعاني أهله من أزمة في كل شيء وعلى كل شيء” (ص 61-62).

يتحدّى النظريّة الصهيونيّة السائدة والمهيمِنة عالميًا قائلًا: “ذلك المفهوم الوحشيّ الظالم، قدر شعبي أنا الذي دفع “دية الضحيّة” … لتتحوّل تلك الضحيّة ما بين مجزرة وتطهير عرقي إلى جلّاد مع سبق الاصرار والإجرام، تلك الضحيّة التي أحرقوها بإسم التقدّم والارتقاء الجرمانيّ النقيّ في معتقلات الوحشيّة وأفران الغاز، أحرقوها هناك، وما إن أخمدوها في أرضي حتى إحترقنا نحن. حرقوا قلبَ شعب بأكمله” ولذلك يرفض النهج المهادن صارخًا: “ها أنا وسط المبادرات المغشوشة والمسمومة بالسلام المزيّف، أرفض الاستماع إلى صوت السلام النشاز الذي يطالب بتطبيع العلاقة مع المحتلّ، هذا المحتل الذي يريد إحراق إنسانيّتي فكيف أسالمه؟!” (ص130) .”لست عنصريّا ولا متطرّفا، بل طفلا سرقوا منه لعبَته وقطّعوا ارجوحته واحرقوا طائرته الورقيّة”.

قلبت المفاوضات المعايير على الساحة الفلسطينيّة والاحزاب صارت انتهازيّة في زمن الردّة الفكريّة والتخبّط وغيّرت “من كان رجل حزب حاد وحازم، تغيّر دفعة واحدة بعد أوسلو، إمّا أصابته ضربة سلطة أو خذلان أصاب قلبه الثوريّ تحوّل من أقسى اليسار إلى أقسى اليمين” (ص 81) فيتساءل “هل كنّا أنظف صغارًا أم أنّنا حين كبرنا اتّسخنا لدرجة أننا نستحمّ في كلّ يوم ألف مرّة لكي تعود إلينا نظافة الطفولة” ؟

تحزّ في نفسه حالة الاحتراب الداخلي على وهم وخذلان في التيه وصراعات ونزاعات مريضة فيقول: “كان يؤكد على ضرورة البندقيّة دون عبث وفوضى، ربما رومانسيّة البندقيّة لا توتّرها وجنونها حين أشهرها الإخوة في وجوه بعضهم بعضا، وانتهكوا أسمى ما فيهم من قداسة وشرف ودم وحرام، هكذا تصارعوا على وهم ثم أقسموا على تقسيمه نفوذًا، قطاع محاصر ماديًا وميتافيزيقيًا ووطنيًا، وضفّة مزدحمة بالثغرات الأخلاقيّة والكانتونات والمستوطنات والطرق الالتفافيّة” بما لا يخدم القضيّة وكما صرخ صديقي الروائي عاطف أبو سيف في روايته “الحاجة كريستينا”: ” نتقاتل من يحرس بوّابة السجن لإسرائيل” فيخاطب بطل الرواية رفيقه الذي استشهد في سبيل القضية “ايّها الشهيد الأكرم والأشرف والأجمل منّا جميعا قم فابصق علينا واشتمنا فنحن لم نصن الدم ولا العهد ولا الحجر منذ أن سفكنا دمنا على دمنا” (ص62).
يتناول باسم جمعيات المجتمع المدني والأهلي ذات التمويل الغربيّ وترويضها للمقاومة. الوطن يختنق بكلّ أصناف منظّمات العمل الأهليّ التي تصرف بغير حساب على أمورٍ لا علاقة لها بشأن الوطن كما كتب صديقي الروائيّ سامح خضر في روايته “يعدو بساق واحدة” ، لتلك المنظّمات انعكاسات سلبيّة على المجتمع الفلسطينيّ كما تروي صديقتي ليانة بدر في روايتها “الخيمة البيضاء”. يرفضها باسم ويصفها بدكاكين مختصّة في التنمية المستميتة لتُصبح سلع وطنيّة رابحة راتبها الشهريّ بالدولار أو يورو أو كذبة، “في زمن “البروبوزل” والمشاريع ذات الربحيّة التي تستثمر في المعاناة الفلسطينية… في زمن الذين يفتخرون بشهادات ووصفات البنك الدولي” (ص 132)، فهذه الجمعيّات تعمل وِفق أجندة وشروط الجهات المانِحة والمموِّلة بالتوافق وإطار أوسلو السياسيّ ومكافحة “التمرّد”، أي المقاومة ، وجوهر مكافحة التمّرد يرتبط بالسيطرة على السكّان وقتل المتمرّدين والعمل كبديل لفشل الأساليب التقليديّة في إخماد اعمال المقاومة والثورة وهذه العقيدة مبنيّة على مفاهيم استعماريّة مصاحبة لحالات الحروب التي يفشل فيها التدخّل العسكريّ بالأساليب “الخشنة” فتتحايل باتّباع أساليب جديدة أكثر “نعومة” من أجل حسم المعركة وتنفيذ مشروع تفكيك للمجتمع متجاهلين حقيقة وقوع فلسطين تحت الاحتلال وضرورة العمل والتخطيط لتحريرها من ذاك الاحتلال البغيض وبالتالي تحطيم الانتماء الوطنيّ والقومي فيصرخ صرخته : “أخذلوني أكثر يا اخوتي حتى أعرّيكم واحدًا واحدًا بقصائدي” (ص 21).

يتمسك بقضيّته ووطنه وثوابته رافضًا عرض صديقته “باربرا” الانجليزيّة باللجوء والجنسيّة والجنس معًا لأن حيفاه تبقى حديقة الرب السريّة المُعدّة مسبقًا للعشق، هي الوطن كله، لم تكن كامرأة البدء، كانت امرأة الهوية والدهشة، والبلاد كلّ البلاد، هي المدينة الصامدة الحزينة التي تنتظر عُشّاقها المشرّدين في الأرض رغم الذلّ والعنصريّة والاحتلال وهي التي تسكنك امرأة من وطن ووطن بلا امرأة.

يعاني وطن باسم من خذلان مزمن وتيه ويتخبّط بين الرصاصة وغصن الزيتون (ص 149) ويصل الى النتيجة الحتميّة بأنّه يتوجّب أن تكون زيتونة أولا ولكي تنتصر في الحرب عليك أن تكون رصاصة متفجرّة في وجه عدوّك ويقول: “البندقيّة يجب أن تكون حاضرة أيضًا.. لا بدّ من بندقيّة دومًا” ويصرخ صرخته المجلجلة: “عذرًا ايها الوطن لقد خذلناك”.

تحاشى النوح والبكاء والشكوى، وتحاشى استجداء رحمة القارئ وشفقته. فهذه كلّها من دلائل الهزيمة. والهزيمة عار على من سلّحته الحياة بالفكر والخيال فنراه يتوق إلى السير في ركاب الظافرين ويكره مماشاة المُنهزمين ووُفِّق في ذلك.

يلجأ باسم في روايته “مسك الكفاية- سيرة سيّدة الظلال الحرّة” إلى التّاريخ ولا يكتب عن عالمه، وحين تحدّثنا عن ذلك قال أنّه يضيف شيئًا جديدًا، فهو شخصيّا مُغرم بالتّاريخ وبالرّواية التّاريخيّة، تربّى في أحضان الرّواية التّاريخيّة التي أرضعه إيّاها والده المرحوم صالح خندقجي والمكتبة الشعبيّة النابلسيّة فأراد مواصلة الكتابة في هذا النّوع من الرّواية مع قيمة مُضافة.. ونجح في ذلك. كتب “مسك الكفاية- سيرة سيّدة الظلال الحرّة”؛ رواية تاريخيّة في فترة العبّاسية، حيث يكشف فيها النقاب عن دولة لم يستتِب لها الحكم إلّا بالدم، يصوّر الخيزران، بطلة الرواية، كشجرة شامخة سامقة عصيّة على الانكسار، شجرة ممتدّة بجذورها، وظلالها الحرّة، ورجال مغاوير متسربلين الفروسيّة والأصالة في زمن عَزّ فيه الوفاء وشحّت الشهامة وهوَت المروءات. كتب الرواية لمُحاربة التغيير والقمع فنجح بكشف العيوب ورأى من مهمّته عدم التستّر عليها، أعاد لنا التاريخ في رواية بأبعاد رمزيّة، كتب الحاضر بأحداث الماضي، فحاضرنا امتداد طبيعي لأحداث الأمس. ثار ضد قمع الانسان في كلّ زمان ومكان، وكأنّي به يرمز لحاضرنا بأسلوب حداثيّ بإمتياز.

حين التقيته يوم 31 تموز اقتربت من الإجابة أكثر. إسمحوا لي أن أقرأ لكم ما كتبته حول تلك الزيارة:

يافاوي يا برتقال

التقيته صباح اليوم في سجن “هداريم” وقابلني بتلك الابتسامة البريئة وكأنّي بالزمن قد توقّف منذ لقائنا السابق يوم 12 يونيو؛ عانقتُ باسم عبر ذلك “الحاجز الزجاجيّ” المقيت، أمسك كلٌّ منا سمّاعته وأكملنا ذاك الحديث وكأنّه كان بالأمس.

تحدّثنا عن طقوس كتابته والعلاقة بين الكاتب والمتلقّي، عن رسالته يوم 23 يونيو إلى قُرّاءه وتعميمها، تفاعُل جمهوره معها، فكانت بُعَيد لقائي به، والمرّة الأولى التي يتوجّه بدون نص أو قصيدة. وها هو يشعر لأوّل مرة منذ دخوله في درب الكلمات أنّ ثمة من يكترث لكتاباته، فمتابعيه هم متنفّس كلماته.

تحدّثنا كثيرًا عن مشروعه الأدبيّ المستقبليّ، عن ترشيح دار الآداب روايته الأخيرة “خسوف بدر الدين” لإحدى الجوائز، عن لقاء تلفزيوني في قناة مساواة حول أدبه كنت قد شاركت وصديقي د. صالح عبود تلك الحلقة والقصيدة التي نظمها له.

تناولنا يافا، رام الله وباريس وما بينهم، الرواية التاريخيّة الحديثة، عبق برتقال يافا يحلّق بالأفق، الابتسامة لا تفارقه، ومرّت الساعات بلمح البرق.

حدّثته عن فكرة مشروعي “لكلّ أسير كتاب”، وعن منتدى الكتاب الحيفاوي ففاجأني سائلًا: “ما هو كتاب لقاء اليوم”؟ فأجبته: جحيم دانتي والكوميديا الإلهيّة. هزّ رأسه وعبّر عن خيبته من عدم تمكّنه مشاركتنا اللقاء، فهو يقرأه كلّ كانون أوّل من كلّ عام منذ أسره… كلٌّ وجحيمُه.

لك عزيزي الباسم أحلى التحيّات، على أمل أن نلتقي قريبًا في منتدى الكتاب الحيفاوي، وأعدك أن يكون اللقاء حول أحد أجزاء الكوميديا الدانتيّة؛ فحيفانا ستبقى حديقة الرب السريّة المُعدّة مسبقًا للعشق، امرأة الهويّة والدهشة التي تشتهيها، فهي التي تسكنك، امرأة من وطن ووطن بلا امرأة.

حيفا 31 يوليو 2019

“خسوف بدر الدين”؛ يسرد لنا باسم في الرواية الحدث التاريخيّ مطعّمًا بالأجواء الصوفيّة مرتكزًا على شخصيّة بدر الدين التي حيّر التاريخ والمؤرّخون بأمره، ليجعلنا نستنبط الحالة الإنسانيّة عامّةً، وحالتنا العربيّة والفلسطينيّة خاصّةً لرفض الوضع القائم والتمرّد عليه. يغوص في جدليّة الحياة: هل هناك جدوى من الرفض والتحدّي، وصفّ الصفوف وتجنيد الناس وراء فكر مهما كان ساطعًا مشرقًا إنسانيًّا وعادلا، أم أنّ في الدنيا توازنًا ما يفرضه الأقوياء؟ عندها هل تبقى لجذوة الكفاح نفس الجدوى؟ هو سؤال يخترق التاريخ والمستقبل، ويجثم على كاهل الحاضر. إنّه سؤال يُحرج الأيديولوجيّات المذهبيّة، السياسيّة، العلمانيّة والدينيّة، ويُعرّيها أمام النتائج، يجعلنا نتساءل: ما جدوى رفض القيم القائمة؟ ما جدوى التأرجح مقابل القبول؟ ما جدوى الرفض مقابل الرضوخ؟ هل نتقبّل الوضع القائم كما هو؟ وظّف باسم المدرسة والنهج الصوفي ليصدمنا بالحقيقة، كما يراها، يدور به القدر والزمن فينهار المجد، بخسوفه بدرًا من النور إلى العتمة، وفي خسوف القمر حركة دائريّة أدّت إلى حدوثه، ولولا الدوران لربّما بقي الخسوف، أو لربّما ما كان أصلًا. لهذا فالرواية تحثُّ على التغيير وعدم تقبّل الوضع القائم المرير، فالتغيير أفضل من الجمود، ولا بدّ أن يوصلنا لما نُريد: “ها أنت قد عدت إلى سيماونة شيخًا، لا بل معلّمًا، لا بل ثائرًا، بل ممسوسًا”(ص 304).

الرواية مليئة بالخيبات، تسعى شخصيّاتها إلى تحقيق ما تصبو إليه، ممّا يجعلنا نتساءل لماذا نحلم إن كانت الخيبة تتربّص هناك في طرفه، وهل هي واهنة وواهية إلى هذا الحدّ تلك الخيوط التي ننسج منها أحلامنا هذه؟ وهنا يوجّهنا باسم بحنكة إلى جدوى الإقدام، والتغيير، والرفض، والنيّة في البناء وعدم الاستسلام! فالصّوفيّ لا يبقى في بوتقتِهِ ومِحرابِهِ، بل يسعى إلى تحقيقِ العدل والمساواة!

نجد باسم حداثيًا قد خرج عن المألوف في رواية أدب السجون، ورغم سوداويّة الحياة نحن محكومون بالأمل، والأمل مزروع في كلّ طيّات الرواية رغم نهايتها المأساويّة، فقد مات بدر الدّين، دفاعًا عن مفاهيم تبعث الأمل في النّفوس، ودفاعًا عن العدل، دفاعًا عن المساواة، دفاعًا عن الإنسانيّة بكلّ معانيها.

قال لي الأسير ناصر أبو سرور: “الأديب يعيش أكثر من السياسي”، فالأدب يُعمّر أكثر من السياسة وتحفظه الأجيال وتتناقله بينما السياسة تموت على الغالب مع صاحبها، وتبقى كلمات أسرانا وكتاباتهم أبديّة.

إسمحوا لي أن أنهي بما كتبته حول زيارتي لباسم حين التقيته يوم 15 أيلول:

ابتسامة عالقة

التقيته صباح اليوم في سجن “هداريم”، قابلني بابتسامته الطفوليّة الملائكيّة التي ما زالت عالقة في ذهني وترافقني منذ لقاءاتنا السابق يوم 12 حزيران، واللقاء من يوم 31 تموز؛ عانقتُ باسم عبر الحاجز الزجاجيّ اللئيم، أمسك كلٌّ منا سمّاعته وأكملنا حديثنا.
تحدّثنا عن قراءاته وكتاباته الأخيرة و”المُصادرة” الكتابيّة التي تبنّاها من إدوارد سعيد، حدّثته بدوري عن رواية “عليّ، قصّة رجل مستقيم” لصديقي حسين ياسين ووعدته بنسخة منها لقرب أسلوبها من مشروعه الكتابيّ المستقبليّ، وبشّرته أنّ أيمن صار أبًا!

تحدّثنا حول لقائي بعائلته في نابلس، تفاعل قُرّائه مع كتاباته، خبّرني عن تشجيعه لزملائه الأسرى على الكتابة وضرورة النشر كمُتَنفّس لهم؛ أكملنا نقاشنا حول يافا، رام الله وباريس وما بينها، والرواية التاريخيّة الحديثة التي يوظّفها لنقل رسالته.

لك عزيزي الباسم أحلى التحيّات، على أمل أن نلتقي قريبًا في حيفا ونابلس وكلّ أرجاء الوطن ونكمل حديثنا، بدون زجاج وسمّاعات وحواجز.

الحريّة لكافّة أسرى الحريّة

حسن عبادي

(مداخلة في افتتاح معرض الكتاب الأوّل في نابلس يوم الأحد 03.11.2019)

تصنيف السجناء وفق النموذج الأمريكي أحد وسائل التنكيل بالمعتقلين الإسلاميين داخل السجون المغربية مول البركي نموذجا

قياما منا نحن اللجنة المشتركة للدفاع عن المعتقلين الإسلاميين بواجب النصرة و العمل على فكاك الأسير ، ها نحن نطلق من جديد هذه الصرخة ليسمعها كل مسئول و كل صاحب ضمير حي و كل حقوقي و كل إعلامي فاعل ، بل ليسمعها الجميع، نسلط من خلالها الضوء على أحد فصول مأساة المعتقلين الإسلاميين المستمرة و التي يأبى صناعها أن يسدلوا عليها الستار فحسبنا الله ونعم الوكيل فيهم .

سنسلط الضوء في هذا البيان على تصنيف السجناء وفق النموذج الأمريكي باعتباره اتخذ مطية ركبت عليه المندوبية لتنكل بالمعتقلين الإسلاميين و تصادر آدميتهم بعد أن صودرت حريتهم ظلما و عدوانا .

وعليه فإننا نقول بأن تصنيف المعتقلين الإسلاميين وفق النموذج الأمريكي الذي قسمهم إلى صنف ” أ ” وصنف ” ب ” و صنف ” ج ” منذ سنة 2016 قد جر وراءه ويلات كابدها المعتقلون الإسلاميون داخل السجون .

فبعد تنزيل هذا التصنيف تم التضييق على المعتقلين لدرجة الاختناق ، فقد تم إبعاد الكثير منهم إلى سجون بعيدة جدا عن عائلاتهم ، هذه السجون التي حتى وسائل المواصلات لا تصل إليها ، مما يجعل الأمر كعقوبة مزدوجة للسجين و عائلته و ما مول البركي بآسفي عنا ببعيد .

هذا من جهة. أما من جهة أخرى فقد تم تقليص مدة الفسحة لدقائق معدودة في اليوم .

كذلك لا يسمح للسجين بالتواصل مع عائلته في هاتف المؤسسة إلا مرة في الأسبوع و لدقائق معدودة . إضافة إلى أن مدة الزيارة لا تتجاوز أيضا الدقائق التي يعدها السجان الواقف على رأس المعتقل و عائلته عدا .

هذا ناهيك عن وضع عدد من السجناء في حي معزول عن كل السجناء و في غرف معزولة .

و في كل هذا سعي حثيث نحو قطع المعتقل عن محيطه الداخلي و الخارجي و قطع أواصره عن عائلته شيئا فشيئا حتى يترسخ بداخله شعور الوحدة و العزلة.

كما منعت المندوبية في إطار سياستها التعسفية إدخال “القفة الغذائية” التي كان السجين يعيش منها و استبدلتها بوجبات رديئة كما و كيفا مما أدى إلى تجويع المعتقلين الإسلاميين و إنهاك أبدانهم .

إضافة إلى كل هذا و ذاك فقد سعت مندوبية السجون بكل ما أوتيت من سلطة ووسائل إلى تحويل السجون إلى جحيم يعاش على الأرض . و مرغت كرامة المعتقلين الإسلاميين بالأرض . فقد أصبح هذا التصنيف كالسيف المعلق على رؤوسهم فكل من احتج على تردي أوضاعه السجنية فإن التصنيف و الإبعاد والزنزانة العقابية و التكبيل بالسلاسل في انتظاره .

بل الأدهى و الأمر من ذلك أن هذا التصنيف و مايليه من تنكيل أصبح من وسائل العقاب الجماعي المجحف الذي تنهجه مندوبية السجون . وخير دليل على ذلك ما حدث في الأسابيع الأخيرة بسجن عكاشة بالدار البيضاء فبسب خطأ معتقل إسلامي واحد فقط ، تمت معاقبة العديد من المعتقلين الإسلاميين بالتصنيف والإبعاد بل إن أحدهم وجد في الزنزانة الشبيهة بالصندوق والتي بدون تهوية مشنقة معلقة، في إشارة واضحة إلى استهتارهم بحقهم في الحياة .

وهكذا فقد حرم المعتقلون الإسلاميون من حريتهم وبعدها صودرت حقوقهم و كرامتهم و إنسانيتهم و قد أتى الدور حتى على الهواء أن يحرموا منه في مثل هذه الزنازن و في هذا الصيف الحار، بل الأصح أتى الدور على حقهم في الحياة .

إن كل هذا و ذاك شكل ضغطا رهيبا على المعتقلين الإسلاميين و أثر على نفسياتهم بشكل متفاقم حتى بتنا نسمع من حين لآخر عن وفيات داخل السجون تدعي مندوبية السجون على أنها حالات ” انتحار ” .

و عليه فإننا في اللجنة المشتركة للدفاع عن المعتقلين الإسلاميين نعتبر أن الضغط الذي خلقه تصنيف المعتقلين الإسلاميين وفق النموذج الأمريكي و الوضعية الحقوقية المزرية التي باتوا يعيشونها داخل السجون تهدد سلامتهم البدنية و حقهم في الحياة . لذلك فإننا نحتفظ لأنفسنا بحق الدفاع عنهم و عن حقوقهم بكل ما هو متاح و مشروع ، محملين مسؤولية إزهاق أرواحهم لمندوبية السجون و سياستها التعسفية الممنهجة . كما نطالب بوضح حد لمعاناة المعتقلين الإسلاميين و عائلاتهم وذلك بإطلاق سراحهم و جبر ضررهم . و في انتظار ذلك نطالب بتمكينهم من حقوقهم السجنية و رفع التعسف عنهم .

والله من وراء القصد و هو يهدي السبيل . وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

المكتب التنفيذي

للجنة المشتركة للدفاع عن المعتقلين الإسلاميين

بتاريخ : 10 محرم 1445 الموافق ل 28-07-2023

رسالة مسربة من سجن النساء الجديد بالعاشر .. كاميرات تجسس ( مراقبة ) داخل الزنازين

رسالة مسربة من سجن النساء الجديد بالعاشر .. كاميرات تجسس ( مراقبة ) داخل الزنازين! نص الرسالة فوجئت المعتقلات السياسيات بوجود كاميرات مراقبة في سجن النساء الجديد بمنطقة سجون العاشر من رمضان، وهو الذي تم نقل المعتقلات إليه قبل 3 أسابيع دون غيرهن من باقي السجينات اللاتي مازلن في سجن النسا بالقناطر الخيرية. وقد اعترضت المعتقلات على هذا الإجراء إلا إنهن فوجئن برد إدارة السجن أن الكاميرات موجودة لرصد حركاتهن على مدار الساعة حسب تعليمات وزير الداخلية؛ وهو ما اضطر المعتقلات لإرتداء ملابسهن كاملة بالحجاب طوال اليوم!، خوفاً من تصويرهن واستغلال هذه الصور ضدهن، كما جرى مع الناشط الحقوقي علاء عبد الفتاح الذي تم تصويره من داخل زنزانته وهو يشرب مياه غازية لإثبات أنه غير مضرب عن الطعام. مع العلم أن هذه الكاميرات مراقبة من أكثر من 12 مكتب .. بدءا من رئاسة الجمهورية حتي ضابط الاتصال في السجن، مرورا بوزير الداخلية ورئيس قطاع الأمن الوطني ورئيس قطاع السجون وضباط الأمن الوطني المسئولون عن السجون، وانتهاءا بأربع جهات داخل السجن نفسه. وتؤكد المعتقلات أنهن مراقبات على مدار الساعة وأنهن يتناوبن فترات النوم حتى تقوم كل معتقلة بإيقاظ زميلتها إذا انكشف منها شئ من جسدها أثناء النوم. وتطالب المعتقلات بوقف هذه المهزلة التي تنتهك أدني حقوق الخصوصية وتمثل وسيلة ابتزاز وتحرش واضح ضد المعتقلات، كما أنهن يتوجهن بهذه الشكوي للمجلس القومي لحقوق المرأة وكل المدافعات عن المرأة في كل العالم لوقف هذه الكارثة غير الأخلاقية التي تقوم بها وزارة الداخلية ضد المعتقلات السياسيات.

#الداخلية_تتحرش_بالمعتقلات

#انقذوا_المعتقلات_من_كاميرات_الداخلية

#عشرية_القمع #مصر #FreeThemAll

وثائق السجون المغربية حوار ناذر مع الاخ محمد الشطبي رحمه الله من اقبية السجون المغربية عام 2003م

هذا حوار مع أحد المختطفين المعتقلين الذين أنكر وزير حقوق الإنسان وجود حالات عنهم، وغير وزير الاتصال صفتهم من الاختطاف إلى الاعتقال. محمد الشطبي مواطن مغربي مسلم عمرة ثلاثون سنة، أحب أفغانستان وسافر إليها ليقدم لمسلميها خدمات اجتماعية ومادية انطلاقا من واجب التضامن الإسلامي، كما يكشف في هذا الحوار الذي خص به جريدة “التجديد” عبر أجوبة من السجن بناء على أسئلة قدمت له سلفا، ويمضي المختطف المعتقل ليكشف كيف تم اختطافه بعد عودته من أفغانستان، وأساليب التعذيب الرهيبة التي مورست عليه وعلى أخيه كمال. وعلى باقي المختطفين والمعتقلين دون أي خرق للقانون بالمملكة المغربية. تهمتهم الوحيدة هي أنهم شاركوا في الجهاد الأفغاني، وصلتهم بالمجاهدين الأفغان والعرب. وكما يكشف المختطف المعتقل عن بعض المختطفين المغاربة وغير العرب الذين استقدموا من المعتقل الأمريكي السيء السمعة غوانتانامو، ويصر الرجل المختطف على أنه لم يرتكب شيئا ضد بلده ويرجو له الخير، ويناشد الجمعيات والمنظمات الحقوقية والإعلامية للوقوف إلى جانبه وجانب المختطفين في محنتهم حتى تضمن لهم على الأقل المحاكمة العادلة وأن تثبت براءتهم من التهم الملفقة
المنسوبة إليهم.
محمد الشطبي.. أنت مختطف ومعتقل الآن بسجن عكاشة بالدار البيضاء. ولكن سبق لك أن سافرت إلى أفغانستان، كيف سافرت إلى هناك ولماذا؟
لقد سمعت وقرأت عن أفغانستان الشيء الكثير وتحسست معاناة المسلمين هناك رجالا ونساءا وأطفالا، فراودتني فكرة الذهاب إلى هناك والوقوف على مأساة هذا الشعب المسلم عن قرب خاصة بعد أن حدثني بعض الأصدقاء بإسبانيا عن إمكانية الانخراط في العمل الإغاثي التطوعي الذي أحبه منذ الصغر. والذي كانت تقوم به بعض المؤسسات القليلة هناك، والأمر يتعلق بمؤسسة الوفاء الخيرية التي قصف مقرها بكابل وجمدت أرصدتها في كل مكان والتهمة طبعا معروفة ومعلومة.
وبالفعل فقد قررت الذهاب إلى أفغانستان وذلك في أواخر يوليوز 2001، وبالمناسبة فقد ارتأيت أن أصطحب معي أخي كمال (20 سنة) ليقضي العطلة الصيفية معي، خاصة وأنه كان ضعيف التدين وخفت إن أنا تركته وحده في إسبانيا أن يزيد تأثره بالبيئة الفاسدة وبرفاق السوء الذين كان يعرفهم هناك.
وصلنا إلى هيرات أوائل شهر غشت انخرطنا مباشرة في العمل التطوعي الإغاثي بمخيمات اللاجئين الأفغان على الحدود الأفغانية الإيرانية، وحقيقة كانت أوضاع الناس هناك مزرية للغاية خاصة الأطفال والنسوة. مما يجعل القلب يتفطر كمدا على هؤلاء، بحيث لا يجدون طعاما أو شرابا ولا دواءا بينما خيرات المسلمين وأموالهم تنهب نهبا وما بقي منها فمكدس في بنوك أوربا وأمريكا…

باختصار فقد مكثنا حوالي الشهر والنصف بهيرات وقندهار، وبعدها حل ما حل بأمريكا من تلك الضربات التي خدشت كبرياءها وأسقطت الكثير من ادعاءاتها بمعرفة كل شيء والتحكم في أي شيء..، فبدأت التحرشات بالإمارة الإسلامية في أفغانستان وبالمجاهدين العرب الموجودين هناك وعلى رأسهم أسامة بن لادن… فوجدنا أنفسنا ملزمين بالتحرك إلى “كابل” حيث وجود العرب على الخط الأول مواجهة مع قوات التحالف الشمالي، أخذنا مواقعنا مع المجاهدين العرب والطالبان وغيرهم على السواء. وهذا الأمر أي (وجودنا في خط المواجهة) لم يكن منه مفر لا من الناحية الشرعية امتثالا لقوله عز وجل (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر) ولا من الناحية الواقعية. فبقينا بهذه المواقع قرابة شهر ونصف تحت قصف الطيران الجبان. ننتظر الإنزالات المزعومة للأمريكان أو تقدم قوات الشمال، لكن شيئا من هذا لم يحدث، بحيث اختارت أمريكا كعادتها قتال الجبناء، أي الاعتماد على القصف العشوائي الذي تضرر منه المدنيون بشكل كبير جدا. مما دفع بالملا عمر أن يعطي أوامره بالانسحاب حفاظا على أرواح المدنيين. هذا الذي لم يتقبله كثير من المجاهدين داخل أفغانستان أو خارجها. والذي لا
يعرف العقلية الأفغانية يصعب عليه تفهم هذا التصرف (الانسحاب) ولكن الأفغان بحكم طبيعتهم الصلبة ليس عندهم مثل تقديراتنا للأمور، ففتح كابل أو سقوطها لا يشكل عندهم أمرا خطيرا كما نعتبره نحن. فتقديراتهم أنهم ماداموا في جهاد وماداموا يحملون السلاح فإنهم سينصرون وسيعاودون فتح كابل اليوم أو غدا. فالحرب سجال.

بعد سقوط كابل انتقلنا إلى جبال “خوست” (ستكاندو) غير بعيد عن جبال (شاهي كوت) حيث جرت الملحمة العظيمة والمعركة التاريخية (شاهي كوت) التي اشتشهد بها أعز الأصدقاء على قلبي الأخ هشام عنقود المكنى بأبي بكر رحمه الله 23 سنة.
لزمنا تلك الجبال طيلة شهر رمضان المبارك ونحن ننتظر مجيء الأمريكان والإنجليز في لهف وشوق، ولكن الجبناء الذين يملكون أكبر قوة في العالم عددا وعدة أخلفوا الموعد مرة أخرى والتزموا طريقتهم الخبيثة وهي الاعتماد على القصف العشوائي للمدنيين والإيعاز للمنافقين من أجل ترهيب الأهالي من وجود العرب، حتى أصبح وجود العربي في قرية من القرى معناه المسح الكلي لهذه القرية… فجاءت الأوامر مرة أخرى بإخراج كل العرب من أفغانستان مادام أنهم أصبحوا المستهدفين الرئيسيين في معركة غير متكافئة… فخرجنا إلى باكستان عبر مجموعات وبمساعدة رجال القبائل ووقفاتهم البطولية إلى جانب المجاهدين العرب. فقد خدموا المجاهدين خدمة جليلة ومؤثرة لا يمكن أن تفسر إلا بصدق انتسابهم لهذا الدين. كنا نغادر القرى والقبائل بأصوات بكاء النساء وتعلق الأطفال بنا ودعواتهم. تعلمنا من أولئك البسطاء دروسا قوية في معاني الأخوة ونصرة المسلمين وتحمل المخاطر المهلكة من أجل التيسير على المعسرين. فجزاهم الله خير الجزاء.
متى تم اختطافك وهل تحكي لنا عن ظروف ذلك وأين ذهب بك المختطفون؟ وماذا فعلوا بك؟
عدنا أدراجنا المغرب لأجد نفسي في دوامة يشيب لها الولدان أنسانا أبطالها جرم أمريكا ووحشيتها على شعب أفغانستان المسلم. ذلك أني بعد أن أمضيت عيد الأضحى لسنة 2002 بالمغرب عدت إلى إسبانيا شهر أبريل لأتدبر أموري هناك. ففوجئت بمكالمة من المغرب تخبرني بأن المخابرات اقتحموا بيت أحد الأسر بحينا وهم أصهار لأحد الإخوة (بريطاني مسلم) استشهد في أفغانستان، يبحثون عنه حينما علموا عن صداقته لي. ومنذ ذلك الحين بدؤوا في البحث عني ووضعوا بيتي وأسرتي تحت المراقبة إلى أن تم اختطافي يوم 29 شتنبر 2002 ،بعد أن عدت للمغرب لزيارة والدي المريض الذي كان طريح الفراش، حيث قاموا بمحاصرتي بأعداد هائلة من الأفراد والسيارات في أحد الأحياء الشعبية وهددوني بإطلاق النار إن أنا أبديت أية مقاومة، فأخذوني في سيارة بعد أن عصبوا عيني وأشربوني بعض الماء من قارورة كانت معهم شعرت بالدوار وفقدت توازني ولم أستيقظ إلا وأنا بإحدى الزنازين الانفرادية عرفت فيما بعد أن المكان قرب مدينة تمارة من خلال أصداء وتشجيعات الجماهير عشية نهاية كأس العرش في كرة القدم التي كانت تصل للزنازين من المركب الرياضي الأمير مولاي عبد الله بضواحي تمارة. هناك

بدأت رحلة أخرى ليس إلى أفغانستان ولا إسبانيا ولكن رحلة العذاب والمآسي بحيث سأفاجأ بصوت أخي كمال وهو يصرخ من العذاب. فعلمت أنهم اختطفوه هو الآخر، من مركز الحدود باب سبتة، حيث صرح لي بعد ذلك بأن شرطة الحدود سلمته للمخابرات فأخذوه إلى معتقل تمارة، الذي مكثنا فيه ما يقارب الشهرين، وفي الحقيقة لا أعرف كيف أصف لكم ما عانيته هناك طيلة هذه المدة من تعذيب جسدي ونفسي حيث أصبت بالهوس والجنون والهذيان إلى درجة أني حاولت الانتحار بغير شعور رغم علمي بحرمة ذلك. لكن الأمر كان فوق طاقتي بكثير. وعلى كل حال فقد تفنن أبطال معتقل تمارة “الأشاوس” في التنكيل بي فبين ضرب وركل وتجريد من الثياب وتهديد بإحضار الزوجة والأم والأخت واغتصابهن، وإيقاظ بالليل، وأصوات صراخ الإخوة واستغاثتهم، والإهانات وسب الدين والرب عز وجل حتى في شهر رمضان المبارك أمام المختطف والكلام البذيء الذي لا يتفوه به إلا السفلة والساقطون،… و..
فقد كان اليوم يمر هنا كالسنة والسنتين من جراء تلك الجرائم التي تذكرنا بما سمعناه عن محاكم التفتيش وبطش اليهود ضد الفلسطينيين.
وبعد أن مرت تلك الأيام العصيبة 50 يوما أو أزيد بقليل حملوني ذات صباح إلى سيارة معصوب العينين لأفاجأ بأخي كمال هو الآخر متواجدا بها بعد أن كنت أظن أنهم قد أطلقوا سراحه لصغر سنه وبراءته فهو لا يعرف شيئا ولم يفعل أي شيء يخالف لا القانون الأرضي أو السماوي، فأخذونا بعد ذلك إلى ولاية الأمن، لأجد نفس الصوت الذي كان يسألنا في الأيام الأخيرة بمعتقل تمارة يعيد علينا بعض الأسئلة بعدها أمروني بإمضاء بعض الأوراق كانت حالتي الصحية جد متدهورة لا تسمح لي بالامتناع عن التوقيع خاصة وأنهم هددوني بالعودة إلى تمارة. وبعد ذلك قدمونا إلى النيابة العامة التي أمرت باعتقالنا أنا وأخي كمال تحت طائلة من التهم الباطلة والتي لا أصل لها ولا فصل منها تكوين عصابة إجرامية والتزوير والهجرة السرية و… و… و…
ما نوع الأسئلة التي كانت توجه إليك وكيف كنت تجيب؟
تتعلق الأسئلة بسفري إلى أفغانستان: طريقة السفر والأعمال التي قمت بها هناك والتداريب والأفراد المغاربة الذين التقيتهم وقد كانوا يركزون على بعض الأفراد كثيرا. ثم عن الأفراد الذين أعرفهم بأوروبا وبعض الدول الخليجية، وعن بعض الأفراد الذين يسكنون بسلا خاصة المتهمين منهم ببعض الأفعال، كما عرضوا علي مئات الصور لأشخاص أغلبهم مغاربة وبعضهم أجانب. اعترفت لهم بكل ما أعرفه من معلومات لعلمي أن هذه المعلومات لا تشكل خرقا للقانون وليس فيها إيذاء لأحد. فحتى من عرفتهم بأفغانستان لا أعرفهم إلا بكناهم، ولكن المشكل كان يقع حين يسألونني عن شيء أنا لا أعرفه فيظنون أني أكذب عليهم فيكون رد فعلهم هو مزيد من الضرب والعذاب حتى أضطر لمداراتهم بأي طريقة حتى بالكذب. ولذلك فإنهم لما لم يجدوا أي دليل على ارتكاب أي عمل يخرق القانون لفقوا تلك التهم التي أشرت إليها كتبرير لاختطافي، بل صرحوا لي أنه لولا أن خبر اختطافي وأخي كمال شاع في الداخل والخارج لبادروا لإطلاق سراحنا!!
هل التقيت ببعض المعتقلين المستقدمين من معتقل غوانتانامو الأمريكي في المعتقل السري بتمارة كما أشرتم في بيان الاضراب عن الطعام؟

بخصوص الإخوة المستقدمين من غوانتانامو فقد أكد لي أحد الإخوة وهو موجود معنا هنا بعكاشة بعد أن قضى هناك بتمارة ثلاثة أشهر وأن معنوياتهم عالية وأنهم استقدموا 23 فردا منهم واحد موريطاني، وقد كان دائم الصياح والاحتجاج على تواجده هناك بتمارة. كذلك الشيخ أبو عاصم (محمد تبارك) وهو من قدماء المهاجرين لأفغانستان وكذلك محمد العلمي المكنى أبو حمزة، والأخ سعيد بجعدية. وأبو حمزة البرطاني شاب من أبوين مغربيين مولود ببريطانيا يده مبتورة جراء القصف على جبال (طورة بورة) و(أبو أحمد الشنقيطي) و(عبد الفتاح الطباخ) من بريطانيا و(عبد الرحيم الفقيه) من مواليد بلجيكا وغيرهم وقد كان أحد الإخوة يكلمهم خلسة من تحت باب الزنزانة، كما أنهم جاءوا ببعض الإخوة من سوريا في حالة صحية يرثى لها جراء ما تعرضوا له هناك على يد المخابرات السورية. منهم الشاب (أنور الجابري) 23 سنة يكنى (جليبيب) وهو مكسور اليد والأنف والأخ المكنى شعيب صاحب الجنسية الإيطالية وزوجته كذلك إيطالية. وهناك أيضا بعض الإخوة من السعودية منهم (أبو عاصم) المكنى (الدّبْ) وغيره ممن لا نعرف أسماءهم ولا كناهم، وخير استقدام هؤلاء الأسرى صرح به أيضا بعض المحققين
بحيث جعل يعرف بهذا الاستقدام في معرض حديثه عن رجولة المغاربة (يعني المخابرات) وأنهم جاؤوا بهؤلاء المغاربة من غوانتانامو حماية لهم. زعموا!!
من التهم الموجهة إليك وإلى أمثالك أنكم من سما يسمى “السلفية الجهادية”. ما حقيقة ذلك؟
أنتمي لهذا الدين العظيم انتماء من يشهد شهادة حق بأن الله رب لا رب سواه وبأن نبينا محمدا قدوتنا

إننا نظن أن الاختطاف والتعذيب وتلفيق التهم الباطلة وترويع الأهالي وبث الذعر في أوساطهم لا يخدم قطعا مقتضيات دولة الحق والقانون التي جعلها ملك البلاد أملا وهدفا على حد سواء. بقدر ما تؤسس هذه التصرفات الرعناء للمفهوم الحقيقي وليس الجديد للسلطة، هذا المفهوم الذي تجذر عبر محطات بائسة من تاريخ المغرب وأصبح من الصعب مفارقة وسائل البطش والاعتداء الصارخ في سبيل تحقيق الاستقرار المزعوم. وكأن رواد هذا المفهوم القديم/الجديد يجهلون أو يتجاهلون أن الظلم لا يولد إلا الظلم والعنف لا يؤدي إلا إلى عنف مضاد، وأن الإرهاب الحقيقي هو إرهاب الدولة ضد أبناءها ومواطنيها الذين لا تقل غيرتهم على بلدهم عن غيرة غيرهم، بل غيرتهم أشد وأعظم لأنها غيرة حقيقية لا غيرة مصالح ومناصب…
ولا نكفر أحدا من المسلمين من الذنوب الغير مكفرة ما لم يستحله، نرجو للمحسن ونخاف على المسيء.
وعليه فإن خيار الاختطاف والإخفاء القسري، والتعذيب الذي يمارس في السر والخفاء ويقابله الإنكار والتكذيب في العلن كما هو شأن الوزير المكلف بحقوق الإنسان ليس خيار العقلاء، علما بأن هذه التصرفات لا يمكن أن نعزلها عن سياق الحرب العالمية على الإسلام وأهله التي تتولى كبرها أمريكا راعية “السلام والأمن العالميين”!!!. وعليه فإن الانصياع التام لأوامرها وتوجيهاتها مقابل مصالح مزعومة ليس له حد إلا بأن يفارق كل المغاربة دينهم الذي ارتضاه الله لهم، مصداقا لقوله تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) ولا يتم ذلك إلا بالضرب على أيدي المصلحين عموما والإسلاميين خصوصا وإن اختلفت أفكارهم وتلويناتهم. وفسح المجال أمام تيار الزندقة من أهل الزيغ والانحراف عبر بعض الجرائد والمجلات والسينما وغيرها من الوسائل الهدامة. ولذا فإن دور العلماء في رد هذا العدوان الهمجي دور مهم ومحوري. ودور أصحاب المنابر الدعوية عموما موأصحاب المنابر السياسية خصوصا دور حيوي في مدافعة أهل الفساد والإفساد بكل الوسائل.
وبالمناسبة فإني أناشد باسمي واسم المعتقلين فيما يسمى “السلفية الجهادية” الذين يعتبرون أول ضحايا الحرب العالمية على “الإرهاب”/الإسلام بالمغرب. أناشد كل الشرفاء من جمعيات ومنظمات حقوقية وهيئات إنسانية وأحزاب إسلامية وعلماء وطلبة علم بأن يقفوا مع إخوانهم في هذه المحنة حتى نضمن على الأقل المحاكمة العادلة التي تقتضي بأن يتابع المرء بما عمل فقط، وليس بما لفق له من تهم باطلة نحن منها مبراء مائة في المائة.
وأشكر جريدتكم الغراء على ما تبذله من جهد لنصرة المظلومين. والسلام
حاورته خديجة عليموسى

التجديديوم 05 – 02 – 2003

https://www.maghress.com/attajdid/10622

أغرب طقوس الكتابة عند أشهر الأدباء في العالم

ليست الكتابة سوى قفزة في الظلام على حد قول الاديب والمترجم الجزائري، مرزاق بقطاش. فهي بمثابة مغامرة غير محسوبة العواقب التي قد تجعل هؤلاء المشاهير، الذين نزين رفوف مكتباتنا بابدعاتهم، مجرد “مجانين” لا أكثر في نظرنا. لما نطلع عن كثب على طقوس الكتابة عند أشهر الأدباء في العالم. والتي غالبا ما تفضح سيرهم الذاتية ذلك. فتنكشف العوالم الحقيقية التي كتبت فيها تلك النصوص الخالدة التي تبهرنا.

منهم من يستحضر الجن خلال الكتابة مثلما كان يروج عن “شعراء الجاهلية” في واد عبقر. وبعضهم من لا يمتلك القدرة على خط أي حرف الا اذا كان “عاريا”. والأغرب من كل هذا أن هناك العديد من الأدباء من لا يستطيع أن يتناغم مع نصوصه الا اذا كان في حالة “ركض” أو”بكاء” أو معلقا رأسا على عقب.!

نادرا ما نهتم نحن القراء، بالطقوس التي يلجأ اليها الروائيون والكتاب، هروبا من الواقع ليكونوا وجها لوجه مع نصوصهم. والتي تشكل حالاتهم النفسية. والتي تنعكس بدورها على نظرتهم للعالم، من خلال تلك الاعمال الابداعية. حيث تتملكهم حالات وتصرفات غريبة وعجيبة،خلال الكتابة. بعض الكتاب والروائيين بلغ بهم “جنون الكتابة” في أن يتفاعلوا مع نصوصهم لدرجة الانغماس فيها. والتخلي عن حياتهم الواقعية ولو لفترات من الزمن!.

ماركيز ..لما قتلت جدي الكولونيل

يروى الأديب الكولومبي غابريال غارسيا ماركيز، في سيرته الذاتية-عشت لأروي- الحزن الشديد الذي تملكه لما مات جده. بطل نصه المشهور “لا أحد يراسل الكولونيل”. حيث ولما قرر موت البطل في تلك الرواية جثم على ركبتيه منهارا، ويائسا، قبل أن ينزل سريعا من الطابق الثاني لبيته. وهو ينادي بأعلى صوته، “لقد قتلته يامرسيدس ..لقد قتلته “. مرسيدس كانت زوجته التي احتضنته. وخففت ألالام قتله لجده في ذلك النص الخالد. ورغم الغرائبية الساحرة، التي تمتاز بها نصوص”غابو” الا أنه لا يملك سجلا حافلا بالطقوس الغريبة في الكتابة. سوى أنه كان تحت رحمة الافلاس طوال حياته تقريبا، حيث كان يقول أن “شح الأحلام يؤثر بي أكثر من شح النقود”.

ورغم هذه الوضعية المادية المزرية الا أن الكتابة كانت متنفسه الوحيد. ومرأته لهذا العالم، حيث كان يكتب من الساعة السادسة صباحا حتى الثانية بعد الظهيرة. أما الشيء الثابت غير المتحول في كل طقوسه الكتابية هو ”التدخين” الذي أعتبره “عاملا من عوامل اليقضة الكتابية”. وهو الذي جعله يتربع على عرش نوبل سنة 1982 من خلال رويته الغرائبية المبهرة “مائة عام من العزلة”.

فيكتور هيغو..الكتابة دون ثياب !

في الادب الفرنسي، أيضا يتداول الكتاب عن طقوس الروائي العالمي فيكتور هيغو وعاداته الغريبة في الكتابة. هذا الاديب الذي يعتبر من اشهر الادباء الفرنسيين. واكثرهم تأثيرا في العالم، في حقبة ما من الزمن. ولما كان يخط روايته ”أحدب نوتردام” كان محكوماً بموعد محدد لتسليم الرواية. فقرر خلع ثيابه كلها والتخلص منها، كي يبقى عارياً فلا يقدر على مغادرة المنزل. بالتالي التفرغ كلياً للكتابة. وعند اشتداد البرد، كان يلتحف ببطانية ويتابع الكتابة. حيث يعتبر أن “بعض الأفكار صلوات، فهناك لحظات تكون فيها النفس جاثية على ركبتيها مهما كان وضع الجسد”. وهي من أغرب طقوس الكتابة عند أشهر الأدباء في العالم.

همينغوي..الكتابة بحذاء أكبر من مقاسه

“إن الكتابه تبدو سهله غير أنها فى الواقع أشق الأعمال في هذا العالم”. بهذه العبارة يلخص الكاتب الامريكي الشهير إرنست همينغوي تصوره للكتابة. فالاديب الحاصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1954، من خلال روايته العجوز والبحر، كانت له طقوس كتابية غريبة. حيث كان يكتب في غرفة النوم في منزله في”هافانا”.

وكان أيضا يكتب بقلم الرصاص. الا أن العادة الغريبة التي تيمز بها الاديب هو الكتابة واقفا وهو ينتعل حذاءً أكبر من مقاسه. كما انه كان يهوى الصيد. هذه المهنة التي ألهمته ليكتب اروع نص له على الاطلاق وهي روايته “العجوز والبحر” التي قال فيها “انها حماقة أن يسيطر اليأس على الانسان. وفي اعتقادي ان اليأس نفسه خطيئة. ولست واثقاً انني افكر باليأس أو أؤمن به. هناك في الحياة أفراد يعيشون للتفكير في اليأس. دعهم يفكروا فيه هم، أما انت ايها العجوز فلقد خلقت لتكون صياداً عظيماً”.

ويرى العديد من النقاد أن الرواية وجل أعمال الكاتب ليس سوى انعكاس لحياة الروائي الذي كان محاط بسخرية من المحيط الثقافي الامريكي. والذين أعلنوا الحرب عليه، على خلفيته علاقاته الوطيدة مع فيدال كاسترو والثورة الكوبية. لذلك تعرض لحرب وملاحقات من قبل الاستخبارات الامريكية لدفعه الى الانتحار. ورغم مقاومته الشديدة لحالات الاكتئاب اليأس التي كانت هي الأخرى تعتري حياته اليومية والابداعية، بـتأكيده ان “الرجل يمكن تدميره، لكن لا يمكن هزيمته”. لكنه استسلم للانتحار سنة 1961 بطلقة مسدس في رأسه.

موراكامي.. الركض وراء النص

يرى الروائي الياباني هاروكي موراكامي نفسه على أنه شبيه بـ”فرخ البط القبيح”. ملخصا بهذه العبارة علاقته مع مجتمعه في اليابان. وعالم الادب في أرض الساموراي. حيث يقول “أنا منبوذ”. ولعل هذا الشعور هو الذي يرسم حياة العزلة التي يعيشها ويطل بها على العالم من خلال نافذة الكتابة والادب. كما أن أعظم عادة يقوم بها هذا الروائي الشهير، اثناء الكتابة هو “الركض”. حيث لما يشرع في خط نصوصه يستيقظ في الرابعة صباحا، لينهمك في الكتابة لمدة خمسة أو ستة ساعات دون توقف. ليخصص الفترة ما بعد الظهر، لممارسة الرياضة والجري أو السباحة. وكذلك القراءة، والاستماع إلى الموسيقى، التي تمثل عنصرا روحيا في حياته. والتي استطاع ان ينقلها الى عالمه الروائي المتخيل. مؤكد أنه يحافظ على هذه العادات دون تغير تقريبا.

ويسعى من خلال هذه الطريقة للوصول الى حالة ذهنية أعمق”في الكتابة”. لكن الشيء الوحيد الذي يراه موراكامي سيئا في هذا النظام أنه لا يسمح له بقدر كبير من التواصل الاجتماعي”. ويصف الروائي حالة الضياع تلك انه “في داخل كل منا طفل يلعب الغميضة وحيدا على أمل أن يعثر عليه أحد”.

ديكينز ..الكتابة  في حضرة السكين

كل ما يحتاجه الروائي الانجليزي تشارلز ديكينز، هو الهدوء التام من أجل رسم معالم روياته ونصوصه. وكذلك قراءة الكتب. حيث كنتُ أقضي معظمَ الوقتِ في حجرتي أطالعُ واكتب وأنا ملتفٌّ بالأغطية. موضحا أن اي نبوغ لا يصنعه سوى المقدرة على تحمل الجهد المستمر. وهذا الذي انعكس على روياته واعماله على غرار “ديفيد كوبرفيلد”. حيث يروى سيرته الذاتية وخيباته العاطفية التي أثرت فيه كثيرا. ورغم ذلك استطاع أن يتجاوزها ويصبح في مصاف أكثر الروائيين شهرة في انجليترا والعالم. وربما تكون لحياته التي امتازت بالفوضى والعذابات خلال الصغر، الاثر الكبير عليه.

ولذاك تجده يبحث دائما عن  الهدوء التام التي يضعه كشرط أسياسي في عمليته الابداعية، حيث يقوم بوضع باب إضافي لمكتبه لحجب الضوضاء والضجيج الخارجي، كما يشترط أيضا ان يكون مكتبه مرتبا بدقة، مع وضع طاولة الكتابة بالقرب من النافذة. وعلى الطاولة ذاتها كل ما يحتاجه للكتابة، الورق والأقلام، بصحبة بعض التحف، فضلا عن مزهرية مليئة بالورود، دون نسيان “السكين” لتقطيع الورق الذي لا يتخلى عنه ابدا. ورغم المصائب التي عصفت بهذا الروائي الا انه تصالح مع ذاته متجاوزا كل تلك المحن بالكتابة، حيث قال علينا “أن نفكر في النعم التي لدكنا حاليا والتي يملك كل شخص منها الكثير بدلا من التفكير في البلايا الماضية التي واجه الجميع بعضا منها”

دان بروان.. رأسا على عقب

من بين أغرب طقوس الكتابة عند أشهر الأدباء نجد الروائي الأميركي دان بروان. الذي اشتهر بروايته المعقدة والمتينة. يخضع أحياناً لـ “العلاج بالمقلوب”، حيث يعلّق نفسه بالمقلوب كي يسترخي ويركز أفكاره. ويقول صاحب رواية “ملائكة و شياطين”  أن هذه الطريقة هي التي كانت تلهمه وتساعده على التركيز في الكتابة. ولعل هذه الطقوس هي التي جعلته يقول ان “الجسد البشري مذهل ، إن حرمته من إحدى حواسه تقوم الحواس الأخرى على الفور بملء الفراغ” .

ومن خلال هذه النماذج التي عرضناها والتي تمثل مدارس بحد ذاتها في فن الكتابة الروائية والقصصية تختلف كل واحدة عن الأخرى في طريقة السرد وظروفه، الا أن شيئا مشتركا يجمع هؤلاء المبدعين ويضعهم في قالب” واحد” وهو الهروب الى “النص” من خيبات الواقع. بطقوس قد نراها نحن القراء غريبة ومجنونة الا أنها هي التي خلفت بدون شك عوالم الانبهار فينا!.

الكاتب: أحمد لعلوي

سوبرنوفا