Yearly Archives: 2023

قراءة في كتاب “عائد من المشرحة” لأحمد حو – عبد الرحيم مفكير

أحمد حو يعود من طاولة المشرحة ومخالب الموت، ليكشف بعضا من المستور عن مغرب الاعتقال وانتهاك حقوق الإنسان في مرحلة عصيبة من تاريخه، سنوات الجمر والرصاص. من حي الإعدام حيث كان يموت كل يوم، يطارده شبح المشنقة أو الطلقات النارية، نجا بقدرة إلهية، وتدرج في العقوبة من الإعدام مرورا إلى العفو الذي لم يطلبه، وألحت أمه التي واكبت أحداث الاعتقال وتعرضت هي ووالده لكل أشكال الاستفزاز والحيف، أن لا تخط أنامله رسالة العفو، لأنها بكل بساطة اعتراف بجريمة لم يقترفها أحمد الذي زج به في السجن، وهو في ريعان الشباب، ليأخذ منه زهرة عمره، 15 سنة (1983 /1998). لمجرد رفع لافتة تطالب بالعدالة الاجتماعية، وتخليدا لذكرى شهداء 81 م. ابن الشبيبة الإسلامية تأتيه الطعنة من قيادة التنظيم الذي انتمى إليه وهو يبحث عن الحقيقة حيث تدرج بين تنظيمات ذات مرجعية إسلامية، ليجد نفسه في حي الإعدام.

زيارة مفاجئة للموت:

في زوال يوم شديد الحر لمحتهم وهم يحملون “الحاج ثابت” إلى حتفه، كان من عادته كلما نودي عليه للزيارة يمشي بخيلاء وعنجهية، قاسي النظرة قوي الشكيمة لكن في يوم إعدامه كان يمشي على رجليه ويكاد يسقط رغم قوة بنيته. ولم يصدق كل ما قيل له عن أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد تنقيل روتيني، أحسست كأني أنا المساق إلى الموت لا أكاد أشم إلا رائحة الموت من حولي لم يعد بعد ذلك اليوم أمان، فقد أعدم يوم عطلة أسبوعية وهو يوم الأحد في واضحة النهار، وهو ما يعني أن الموت لم يعد زائرا منتظرا في الليل فقط، بل أيضا في عز النهار، ولم يعد الإعدام مختصا فقط بقاطني حي الإعدام بل فقط يكفي ان تكون محكوما بعقوبة الإعدام ولا يهم أي حي سجني تقطنه، وحتى في أوقات الراحة والعطل كانت الحركة تتوقف في أيام السبت والاحاد وفي العطل ومع سكون الحركة تهدأ النفوس، لكن بعد إعدام الحاج ثابت كل المعايير انقلبت، حتى مزاعم أن المغرب الذي لم يعد ينفذ عقوبة الإعدام، بعد سنة 1981م تبخرت، فعاد الموت يرفرف علينا بجوارحه بقوة وأكثر مما مضى، ليال وشهور قاسية مرت علينا بعد إعدام الكومسير المذكور، لم يعد للنوم أو للأكل طعم، فكل الآمال تبخرت وأصبح الموت قريبا منا بعد أن كان بعيدا عن حي الإعدام وعن المحكومين بالإعدام في أي سجن أو أي حي كانوا لأكثر من عقد من الزمن”.    هي أيام بلياليها خيم فيها شبح الموت على أحمد، وطيفه لم يفارقه، لا يمكن لعاقل أن يتخيل نفسية أحمد ومن معه، ممن انتظروا، حتى تمنى الواحد منهم إنهاء هذا الألم والكابوس المزعج بنزع الروح من جسد لم يعد يستنكر التعذيب لكثرة ما مورس عليه.

مسار ناج من الموت:

عائد من المشرحة لأحمد حو شهادة عن سنوات عجاف من تاريخ المغرب، سرد بكل عفوية ودون تكلف عن وقائع وتجربة وراء الشمس بآلامها وآمالها، حديث عن الطفولة والبحث عن الحقيقة والنضال السياسي، سيرة كشفت عن بعض البقع الكالحة، والقضايا الخفية والعصية عن التفكيك والتحليل، سيرة هي عصارة تجربة أليمة ستلقي به في مواجهة الموت الذي بقي كظله لا يفارقه طيلة أكثر من عقد من الزمن حيث أدين سنة 1984 بحكم الإعدام إثر تضامنه وثلة من رفاقه مع ما أسماها آنذاك وزير الداخلية ادريس البصري “انتفاضة شهداء الكوميرا”.

في “مقبرة الأحياء” أو “حي الإعدام”، كما يحلو لل”حو” أن يسميه، بدأت الرحلة الطويلة بعد الحكم عليه بالإعدام، الشاب أحمد الذي لم يتجاوز عمره ال 24 سنة، لما كان يمعن النظر في حي باء وفي ساكنته ويرى أن حي الموت هذا الذي يشبه الهلالية في تصميمه والذي يحتله صمت رهيب، كان دائما يحيره السؤال ماذا يصنع هنا؟ وهو الذي لم يسفك دما وجرمه الوحيد أنه كتب شعارات منددة بالنظام، يطيل النظر في المشرحة فلا يجد إلا جرائم الدم المشفوعة بالتشديد فمن قتل أكثر من اثنين أو قتل وأحرق الجثة أو قتل واغتصب.. إلخ.

جاور الموت وبقي في سجال جدلي معه، في كل حركة، مفتاح أو دبيب خطى حارس، وفي كل همسة وسكنة وفي دياجير الليل وفي واضحة النهار، ساحاته وزنازنه كأنها تنطق جهارا بكل الذين زاروه وسيقوا إلى ساحة السجن أو غابة المعمورة لينفذ فيهم الإعدام رميا بالرصاص.

عاشر قافلة من الشهداء والقتلة زارته من حدب وصوب، من مقاومين تظاهروا أيام الاستعمار في غشت1953م، ومن معارضين سياسيين وقوافل من الشهداء من أمثال عمر دهكون ورفاقه، وادريس الملياني وانقلابي قصر الصخيرات والطائرة الملكية كالملازم كويرة والكونولين محمد أعبابو، وذكريات مع مغتصبين للأطفال والنساء من شاكلة المتشوق والحاج ثابت، إنها بالجملة مشرحة لا تشم فيها إلا رائحة الموت الزؤوم.

أحمد قاوم الموت ولم ينهزم أمامه، كان مفروضا عليه أن يقارعه في موطنه، أن يحدق فيه بعينين حادتين، لدرجة أنه في كثير من الأحيان يستنجد بالموت لمقارعة الموت، ولذلك فلا غرابة إن كان يدخل في إضرابات مميتة لدرجة أن الأطباء المتابعين لوضعه الصحي لم يترددوا ذات مرة في الإعلان عن موته، وتسجيل شهادة وفاة له يقينا منهم أنه من المستحيل أن يعود للحياة، وكان الهجوم على الموت في عقر داره هو الذي بمنحه في كثير من الآحايين تحدي الموت والهروب من مخالبه.

أحمد المتعدد:

لا يمكنك لك أن تسجن أحمد في زاوية ضيقة بالرغم من انتسابه مبكرا للحركة الإسلامية، وتدرجه في البحث عن الحقيقة من البوتشيشية مرورا بجماعة التبليغ والشبيبة الإسلامية وانتهاء بالحركة من أجل الأمة، فالرجل عصي عن التصنيف، إنه المتعدد في الواحد، لأنه جعل من الدفاع عن حقوق الإنسان وكرامته عقديته، الذي لا تميز بين الخلائق بالنظر إلى انتماءاتهم، وإنما من منطلق آدميتهم.

ومن هنا جاءت سيرته/مذكراته “عائد من المشرحة” محاكمة لشخوص وأحداث سنوات الرصاص وما ترتب عنها فيما بعد، شملت مختلف الطيف السياسي للتيار الإسلامي ومكونات اليسار خصوصا منه الراديكالي، وقد لامس تجربته من منظوره قضايا ساخنة، وفي كثير من الأحيان صادمة طلوعا وهبوطا، وأصعبها والتي ما زال الغموض يحوم حولها قضية اغتيال الزعيم الاتحادي عمر بن جلون، الذي ما زال طيفه يراود أبناء حركة الشبيبة الإسلامية، ليؤكد ولأول مرة أن أحد المتورطين، وقد عاشوا معه في زنازن الإعدام سنين عديدة، أنهم في ليلة ما قبل ارتكاب جريمة الاغتيال، اجتمع معهم عبد الكريم مطيع رئيس جمعية الشبيبة الإسلامية. وأمرهم بقوله: اقتلوه ولا تفلتوه“. شهادة صادمة قد تميط اللثام على حقائق كثيرة.

كما تطرق” عائد من المشرحة”، إلى حركات إسلامية مغربية شغلت الساحة الوطنية وماتزال من قبيل حركة الشبيبة الإسلامية والعدل والإحسان وجمعية الجماعة الإسلامية حركة التوحيد والإصلاح حاليا، واستفاض في ذكر عبد الإله بن كيران وموقفه منه، وتحدث عن اليسار خصوصا منه الراديكالي في شقيه “23 مارس” و” إلى الامام” والمرتبط أساسا بتجربة الاعتقال، وذكر  شخوصا وأحداثا عاينها أحمد خلال تجربته المريرة سواء في فترة اعتقاله أو بعد الافراج عنه من تلك الشخوص الناجون من تازمامارت، محنة الفقيه الزيتوني، إعدام الكومسير ثابت، نفي المعارض اليساري ابراهام السرفاتي.

وماذا بعد:

” هرمنا وتعبنا وكدنا أن نموت … من أجل هذه اللحظة”

إنه يوم 5 شتنبر 2016 م افتتاح مقبرة ضحايا أحداث البيضاء 1981 م كان حدثا استثنائيا بالنسبة لأحمد فبعد 33 سنة من اعتقاله بسبب تعليق لافتات، وكتابة شعارات، احتجاجا على العنف والقتل الهمجي الذي صاحب الاحداث، ها هي قبور الذين قتلوا بغير حق ودفنوا في مقابر جماعية في جنح الليل، يتم تكريمهم وأصبح بإمكان المعذبين وعائلاتهم تأبينهم والترحم عليهم، ولم تعد قبورهم مجهولة. وتوجت مجهودات صاحب ” عائد من المشرحة” بتأسيس الهيئة المستقلة للتعويض وهيئة الانصاف والمصالحة، والمشاركة في تأسيس جمعية ضحايا سنوات الرصاص المنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف، وتم الوقوف أمام أبشع السجون السرية من بينها تازمامارت ودرب مولاي الشريف، الذي سامه جلادوه فيه سوء العذاب، وتابع أحمد عن قرب المفاوضات الممهدة لتأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة، والاشتغال بالمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان ونسخته المعدلة المجلس الوطني لحقوق الإنسان.

ينتظر أحمد العدالة الإلهية ليس من أجل التلذذ بآلام الآخرين حتى ولو كانوا من الجلادين الذين أذاقوا المعتقلين أنواعا من التعذيب والتنكيل، لأن نفوسهم الأبية لن تكون مصاصة للدماء وتحن لصنوف من الانتقام، فيكفيهم أن يعتذروا ويتخلوا عن مناصبهم السامية.

قبل القراءة:

لا بد قبل أن تقٍرأ الكتاب، ف”عائد من المشرحة ” كتاب جاء في سياق الكشف عن الحقيقة ونفض الغبار عن محطة تاريخية مؤلمة، تضمنت صورا ووقائع لم يطلع عليها الكثير من المغاربة، وتكتسي هذه المذكرة أهمية كبيرة بإمكانها أن تقطع مع مرحلة الحيف والظلم وتؤسس لمغرب العدالة والمساواة وحرية التعبير والديمقراطية، تأتي المذكرة في وقت تطالب فيه هيئات بإلغاء عقوبة الإعدام، وتحقيق المصالحة الوطنية والقطع مع الاستبداد. وتشد القارئ ل” عائد من المشرحة” صفحة الغلاف “الحمامة” التي تحلق عاليا وهي تحمل حبل المشنقة وتحاول إخراجه من سجن ظالم مظلم، توخيا للانعتاق والحرية وكسر قيود الظلم.

ولن تغني هذه الأسطر عن قراءة ” عائد من المشرحة” لأحمد حو عن دار الوطن والذي قدم له عبد النبي الشراط، والمحجوب الهيبة، ومحمد السكتاوي ويقع في 233 صفحة وتضمن مقدمة، وعشرة فصول الأول عنونه ب: قبل الاعتقال، الثاني: بدأ حملة الاعتقال، الثالث: الاستضافة وإكرام الوفادة بدار الحجاج، الرابع: الانتقال إلى مقبرة مقاومة كريان سنطرال، الخامس: محاكمة مجموعة 71، السادس: الرحلة نحو ألكاتراز المغرب، السابع: الانتقال إلى سجن عكاشة، الثامن: وأخيرا انفتح الباب الكبير للسجن، التاسع: عود على بدء، العاشر: وماذا بعد؟ كما ختمه بأربع ملاحق وصور شاهدة على مساره.

يشار إلى أن أحمد حو من مواليد المحمدية سنة 1959 م قضى أزيد من 15 سنة بداخل السجن باعتباره معتقلا سياسيا محكوم بالإعدام.

حصل على الاجازة في القانون الخاص عمل صحفيا بجريدة النبأ مختصا بحقوق الانسان، التحق بعد ذلك للعمل بالمجلس الاستشاري لحقوق الانسان، كلف بمعالجة الشكايات ثم مسؤولا عن تدبير الشؤون اللوجيستيكية، ومكلف بمهمة لدى الأمانة العامة للمجلس.

أحد مؤسسي المنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف وعضو مكتبه التنفيذي.

عمل على بلورة تصور هيئة الانصاف والمصالحة المختصة بجبر أضرار سنوات الرصاص واشتغل بها، وهو أيضا أحد مؤسسي منتدى الكرامة لحقوق الإنسان، وناشط حقوقي ينتمي إلى منظمة العفو الدولية وينشط في مجال مناهضة عقوبة الإعدام.

24 يونيو، 2021

فصول من ذاكرة الاعتقال والممارسة السجنية بالمغرب في سنوات الرصاص في متن كتاب «عائد من المشرحة

مغربنا 1 المغرب

«عائد من المشرحة «عنوان كتاب للأستاذ أحمد حو، صدر عن دار الوطن للصحافة والطباعة والنشر، سنة 2021، وهو في سمته سيرة، سيرة كاتبه الأستاذ أحمد حو. والكتاب في 233 صفحة مجذذة في عشرة فصول تعقبها الملاحق، بما هي صور ووثائق.
»عائد من المشرحة» سمته سيرة، حسب إفصاح الكاتب، ويبقى كذلك، لولا أن القارئ يلفى فيه معنى آخر، صورة أخرى، قد تعكس وجها من أوجه الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في المغرب. ومن حسن حظ الذاكرة أن تصادف من يبوح بها. وما أكثر الذين لم يمكنهم الحظ ليعيشوا لحظة يمكنهم الظرف من البوح. وأحبّ أن أعتذر الأستاذ أحمد حو، فقد أزيغ وأبخس تقديره بالقول: إن كتابك لا يندرج ضمن أدب السيرة، فقط، بل هو، أيضا، كتاب في الذاكرة. وعلى المؤرخين أن يشتغلوا عليه لاستخلاص المادة التاريخية.
وجدتني منبهرا بطاقة الرجل في التحمل، وأنا أقرأ الكتاب، حتى كدت أتراجع عن إجراء هذه القراءة. وفي الحقيقة، يظل إجراء القراءة في كتاب الذاكرة عمل يسئ للكاتب وللكتاب، ولو كانت القراءة سليمة من كل شية، لأن الذاكرة ذاتية، وهي في ملك الشخص الذي طوعت له نفسه أن يبوح. وأما تقدير صناعة الذاكرة وتمييزها من حيث كونُها ذاكرةً، أو بيانها من حيث غناها، وما إذا كانت حقلا خصبا للمؤرخ، فأمر جائز. ولست أدري كيف ستدافع عن نفسك، إن قيل لك، ما الذي حملك لتمس ذاكرتي أو ذاكرة زيد أو عمرو بالقرح؟ وباختصار، فإجراء القراءة في كتاب الذاكرة مجازفة، فمعذرة مني إلى الكاتب عن هذا الفعل. سأخفف الوطء ووقع المجازفة، وستقتصر قراءتي لهذا العمل الغني على بيان بعض أوجه الذاكرة فيه، وهي كثيرة. وإني أظن أن بيانها، أو بالأحرى إعادة إبرازها مفيد مادام الكاتب أمينا في إحساسه، حسنا في سلوكه وسيرته، عفيفا لا يبتغي من آدائه جزاء ونوالا.
نعم، إن الذاكرة ذاتية لذلك أحب أن أسجل أني لا أصادر بهذا الموقف مواقف أخرى إذ يمكن أن يأخذ الكتاب معنى آخر، وبعدا آخر، إذ «لا يسجل، فقط، سيرة أحمد الحو ومحنته، وهو شاب في مخافر الأمن السرية والعلنية، وليس فقط وثيقة تاريخية تكشف عن مجاهيل سنوات الرصاص، وكيف كان الجلادون يرتقون في سلاليم الإدارة بمعيار من هو أكثر مهارة منهم في صنع الملفات وتشكيل خلايا المعارضة وتوريطها في سيناريوهات مفبركة من العنف والاعتداء على الأمن، ثو تفكيكها وتقديم الضحايا المختارين بشكل عشوائي قرابين على مذبح السلطة، وليس كتابا يعري وجه السلطة البشع حينما تصير في يد الجلادين يمارسونها خارج القانون ومراقبة المجتمع، إنما هو أيضا ينبهنا إلى أن القطع مع هذا الماضي المخزي لا يمكن أن يتحقق بدون وضع حد للإفلات من العقاب»، يقول الأستاذ محمد السكتاوي، الصفحة 19 من الكتاب.
والأستاذ أحمد حو ثقي ذو قصد سليم، لذا فكل ما أفصح عنه يعد شهادة وجب أخذها كلها، وهي، كما قال الأستاذ المحجوب الهيبة، تشكل «مصدرا غنيا للمعلومات والمعطيات المتعلقة بماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان»، الصفحة 14 من الكتاب. فلا مجال لننثني، هنا، أو هناك، أو نزاوَرُ عن مجال الذاكرة. ذلك أن الكتاب تعبير عن «مرارة الحياة داخل السجن ودهاليز التعذيب»، كما قال الأستاذ عبد النبي الشراط، وهو يقدم الكتاب، فضلا عن «أن الكاتب صاحب المذكرات أبدع في وصف حقائق الأمور التي كانت تجري أمام عينيه داخل هذه الأماكن المرعبة والمظلمة»، يضيف الأستاذ الشراط. فما كان للقارئ إلا أن يصادف أن للتجربة «ما يميزها عن غيرها مما نسميه»، أدب السجون.
» عائد من المشرحة » تجربة إنسان واجه محنة حرية الاجتهاد داخل المعتقد، محنة اعتماد نهج معين في الدين، فكان صورة تذكارية لما حصل من مصادرة للحرية منذ العصر الأموي حيث ذُبح الجعد بن درهم، يوم عيد الأضحى، واضطهد المعتزلة، وعاش ابن رشد المحنة، وقطع رأس الفقيه الزقاق في بداية الدولة السعدية في المغرب. وكادت المشرحة تتكرر مع الكاتب الذي لم يرتكب ذنبا ولم تلصق بذمته زلة عظيمة أو لميمة.
»عائد من المشرحة» مذكرات «أحد ضحايا ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ببلادنا، التي اختارت في نهاية تسعينيات القرن الماضي تسوية ملفاته وفق آلية العدالة الانتقالية»، يقول الأستاذ المحجوب الهيبة. وإنها «مساهمة أخرى فيما يعرف بمذكرات الاعتقال السياسي أو آدابه». ويضيف الأستاذ المحجوب أن هذه المذكرات شكلت «مصدرا أساسيا في التعريف بتلك الانتهاكات والاستئناس بها في عمل هيئة الإنصاف والمصالحة، إنها تساهم بما لا شك فيه في حفظ الذاكرة. وهو عنصر أساسي في تجارب العدالة الانتقالية».
ولما كانت الذاكرة صناعة مستحدثة في الخطاب المغربي المعاصر، لصاحبتها هيئة الإنصاف والمصالحة، التي لم تعمل ما ينبغي عمله لإبرازها بالوجه اللائق، إذ قدرتها عنصرا ضمن برنامج جبر الضرر الجماعي، لا يزال تصنيف الخطاب ضمن الذاكرة يواجه بعض التعثر، فيقتصر التقدير – تقدير الخطاب- أنه أدب السجون، أو مذكرات، أو خواطر. ولم يجر الاشتغال، بعد، في مدرجات الجامعات على الذاكرة، من حيث إبداعها لمادة أدبية، أو مادة سينمائية، أو مسرحية، أو مادة المؤرخ بالدرجة الأولى.
وقبل العروج إلى مواطن الذاكرة في الكتاب، جدر السؤال: لماذا العنوان، «عائد من المشرحة»؟
نعود إلى شهادة الأستاذ المحجوب الهيبة لنستشف مغزى العنوان »عائد من المشرحة». مفاد الشهادة أن السيد أحمد حو ضمن مجموعة 71 الذين اعتقلوا يوم 31 من غشت من العام 1983، وهو من الذين عذبوا بدرب مولاي الشريف، وحوكم بالإعدام يوم 30 من غشت من العام 1984، وكان نقله «إلى حي الإعدام بالسجن المركزي بالقنيطرة مباشرة بعد الحكم عليه بهذه العقوبة القاسية والقصوى، أي: في 31 من غشت 1984». وقضى السيد أحمد حو «حوالي عشر سنوات محكوما بالإعدام، قبل تحويل هذه الأخيرة إلى عقوبة المؤبد سنة 1994»، وجرى «الإفراج عنه بموجب عفو شامل سنة 1998».
ولما صدر الكتاب سنة 2021 حسن العودة إلى السياق الذي يمكن أن يبطنه، السياق الذي «عرف تطورا ملحوظا فيما يخص عقوبة الإعدام». ذلك أن «ما يزيد عن ثلثي دول العالم ألغتها، إما قانونا وإما في الممارسة. كما أن عدد المحكومين بها وتنفيذها في حقهم آخذا في التراجع سنة بعد سنة عبر العالم، وخلال العقدين الآخيرين، ما يزيد عن خمسين دولة ألغت قانونا العقوبة المذكورة. وحسب إحصائيات دولية رسمية، وصل عدد الدول التي ألغتها قانونا أو في الممارسة 163 دولة، وبالتالي، فالتوجه العام يسير بصورة متواصلة نحو الإلغاء»، يقول الأستاذ المحجوب الهيبة، في الصفحة 16 من الكتاب. فالكتاب يبطن في طياته أملا حقوقيا، إلغاء عقوبة الإعدام، ونصرة الحق في الحياة.
ما هي أوجه الذاكرة في كتاب «عائد من المشرحة»؟
نسجل، في البدء، ومع الاطلاع على الفقرة من المقدمة، أن الكتاب وجه من أوجه الذاكرة، إذ صدر و«الساحة الأدبية قد حفلت بالعديد من المذكرات، التي تؤرخ لتجربة عصيبة عانى فيها الكثير من ويلات السجون والمعتقلات السرية والمنافي. ولذلك، كانت كلمة تجربة تختص بالدرجة الأولى بذكر ما وقع فيها، لأنها تعاش فقط»، الصفحة 25 من الكتاب. والتجربة تستصحب معها سمة من سمات الذاكرة، سمة الذاتية، وقد تمتد، عبر الذات، لتمس «المعتقل والمنفى بكل قوة في جسده وفي مشاعره وفي وعيه وفي محيطه». ويراد من الكتاب الانتقال بالذاكرة من الشفاهية إلى الكتابية. وقد مكنت تلك المذكرات والتجارب «بلادنا من توثيق قسم هام لذاكرته ولتاريخه الحديث»، الصفحة 26. ومما يميز تجربة الأستاذ أحمد حو، وبالأحرى، ذاكرته أنها تخص التيار الإسلامي، في الوقت الذي طفت فيه تجارب اليسار والعسكريين على السطح. هنا وجبت الإشارة إلى أن الذاكرة لا تخص المذهب السياسي بقدر ما تخص الإحساس واستعادة الماضي وجعلها يستمر في الحاضر. لذلك رأى الكاتب أن اللحظة «فارقة لاستعادة ذاكرو يحتاج المغاربة إلى الحفاظ عليها من الاندثار والنسيان»، الصفحة 26.
نسجل في الثاني أن الكاتب وقف عند لقطة الانتهاك، والأحداث التي انجر عنها الانتهاك، وحرص على نقل الحدث، إذ سطر لقطة سنة 1981، حيث جرت «محاكمة المتهمين في قضية عمر بن جلون»، وصدور أحكام بالإعدام «في حق المتهمين باغتيال الزعيم الاتحادي»، وما صاحب ذلك من خروج مظاهرات، وقمع واعتقال. ولم يغفل الكاتب الوقوف عند وحدة الآداء في المشاركة في التظاهرات، «خصوصا في الثانويات وبتحالف مع اليسار لدرجة أن المناسبات التلاميذية التي كان يخلدها اليسار»، يدعمها تلاميذ التيار الإسلامي ويشاركون فيها «كما كان الحال في مناسبة 23 مارس 1973 الخاصة بأحداث مولاي بوعزة الأليمة، والانتهاكات الجسيمة التي صاحبتها من إعدام وقتل وتشريد ونفي، مس منطقة الأطلس المتوسط كلها»، والمغرب كله، «وكان لمخلفات الانتفاضة الاجتماعية بالدار البيضاء سنة 1981» الأثر الكبير على نفس الكاتب، الصفحة 38.
ولم يغفل الكاتب أن يخصص نبذة عن انتفاضة شهداء الكوميرا في 20 من شهر يونيو من سنة 1981 و21 منه، بما هي مكان للذاكرة، وقدرها «أحد مظاهر الاحتجاج في تاريخ المغرب الحديث»، الصفحة 38، فكان الانتهاك «بالضرب والجرح والقتل بالرصاص الحي والاختطاف والاعتقال»، و«انتهاك حرمات البيوت وترويع سكانها وسرقة ما غلا ثمنه، وخف وزنه»، وجرى أن «اسفرت تلك الأحداث عن سقوط عشرات القتلى ومئات من الجرحى، حيث بينت التحريات فيما بعد أن الإصابات مست الأجزاء الحساسة من الجسم كالرأس والصدر والقلب»، الصفحة 39 من الكتاب. إنها مكان في الذاكرة، لأنها «بمثابة النار في الهشيم لإشعال كل حس مناهض للطغيان والقتل والتنكيل، خاصة عندما يرى المرء بأم عينه كيف عبثت الدبابات والبنادق بالأجساد ولم تفرق بين صغير وكبير»، الصفحة 39.
أثناء اندلاع حريق الاعتقال انثنى الأستاذ أحمد حو بالإشارة إلى الذين استغلت الشبيبة الإسلامية «عدم معرفتهم بألاعيبها، وأولئك المرتزقة الذين سعت هذه الحركة أن تجعل منهم محرقة لأهدافها غير المعلنة». ولطفا من الأستاذ أحمد حو، أشار إلى أحد المرتزقة باسم مستعار، كان «أظهر التعاون ولم يتلق بذلك صفعة واحدة»، وأتيحت للكاتب الفرصة ليراه بين أحضان الشرطة، وقد أجلسوه «في أريكة مريحة، وبين يديه كأس قهوة معتقة، وبين الفينة والأخرى كان يتلذذ بمضغ العلك، وقد زعم ذات يوم أنه تعرض للتعذيب، للضرب عبر «الطيارة»»، وهي تقنية من تقنيات التعذيب، لذلك قال له الأستاذ أحمد حو: «صفها لي فبهت الذي كذب»، الصفحة 44 من الكتاب. واللقطة وجه آخر من أوجه الذاكرة، لنزوع الكاتب نحو إخفاء هؤلاء المرتزقة. وجدير بالذكر، أن الذاكرة لا تكون كذلك حتى تستغرق فصولا من النسيان المراد.
كانت الاعتقالات وقتها كالنار في الهشيم تمتد تدريجيا وتنتشر، فالذي نجا بعض الوقت يكون الحظ، قد أمهله قليلا، وساعده لينتظر دوره. هنالك، و«بعد اعتقالات غشت سنة 1983»، حصلت «مداهمة بيت العائلة في أوقات من الليل متأخرة، وبشكل همجي»، ولم يكن الكاتب وحدها حاضرا، فكان تبكيتها واعتقال والده. ولما حضر، وأخبر بما حصل، قال في نفسه: «أنا المعني بالأمر وأنا المسؤول عن العمل الذي قمت به، ولا يمكن أن تؤدي عائلتي ثمن قناعاتي السياسية»، فقرر تسليم نفسه، وذلك يوم 31 غشت 1983. ومن عناصر الذاكرة، بما هي الماضي في الحاضر والماضي الممتد إلى المستقبل، الإفصاح عن لحظات الوهم. فالكاتب قدر الأمر الذي يواجهه أنه «لا يعدو أن يكون مجرد شبهة كما في السابق، أو في أسوأ الأحوال غرامة من أجل جنحة العبث بطلاء جدار أو مخالفة بعدم الأشعار»، أو يصدر حكم مخفف في حقه، لأن ما فعله، «كان مجرد تعبير عن رأي، ولم يصاحبه أي عمل مقترن بجرائم الدم قولا أو فعلا»، الصفحة 45، لكن المشنقة هي التي تنتظره. وبين وهم الذاكرة والحقيقة الواقعية تأخذ صناعة الذاكرة، التي برع الأستاذ أحمد حو في إنشائها، صورتها الكاملة.
جل تجارب الذاكرة المغربية تظهر في متنها ماهية التعذيب، أدواته، دون التعريف بالتعذيب، ومن يفعل غير ذلك فقد ازاوَر عن صناعة الذاكرة. يقول الكاتب: «وقبل أن يبدؤوا جولة التعذيب عرضوا علي أحجاما مختلفة من السياط وأدوات التعذيب وأنواعا من السوائل المنظفة والقاذورات [التي] تستعمل للخنق والقارورات المخصصة للاغتصاب، وآلة الصعق الكهربائي، ولما لاحظوا أن الأمر لم يغير من نفسيتي شيئا، عمدوا إلى أول جولة من التعذيب ستتبعها جولات أخرى». ويعنينا أن الكاتب وقف عند التبكيت في صلته بانتزاع المعلومات، وذاك هو المغزى من التعذيب. والسيد أحمد حو من الذين يدرون، حق الدراية معنى التعذيب، لذلك ذكر مصطلح «التعذيب»، ونقل معناه بأسلوب أدبي يبين للقارئ ماهية التعذيب، وذاك من مظاهر الذاكرة. يقول: «وحين كنت أصرخ من شدة الألم، كانوا يقولون لي: إذا كنت تريد أن تعترف، ما عليك إلا أن ترفع أصبعك»، الصفحة 46.
وكما هو شأن جل صناعات الذاكرة، يتوجب الانعراج غلى المكان، معتقل درب مولاي الشريف بالدار البيضاء. «بناية لم يكن يعرف سرها حتى القاطنين بالقرب منها، أو الذين يسكنون في طوابقها الثلاث العليا، فهي تقع بالقرب من حي مولاي الشريف بالحي المحمدي، فهي تقع بالقرب من حي درب مولاي الشريف بالحي المحمدي بالدار البيضاء». وتحتضن البناية معتقلا سريا رهيبا، «تحال عليه أيضا، بالإضافة إلى قضايا الاعتقال السري قضايا الانفصال والتجسس وقضايا الجريمة العابرة للقارات، كالمتاجرة في الكوكايين وتزوير العملة». يمتد المعتقل بالسرية لتغشى «أزيد من ثلاثين شقة تقطن بها عائلات موظفي الأمن»، (الصفحة 49 من الكتاب)، لا يعلم قاطنيها أن بأسفلهم سجن سري رهيب. وتمتد جذور المعتقل في الزمان إلى عهد الحماية الفرنسية، واستمر نشاطه، بما هو معتقل سري في عهد الاستقلال. هنا وجب استلهام رأي الأستاذة إرسني نيدو عضو الائتلاف الدولي لحفظ أماكن الذاكرة إذ أشارت، أثناء اليوم الدراسي حول معتقل تازمامارت بالرباط، الذي نظمه المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان والمعهد الدولي للعدالة الانتقالية، يوم 20 من شهر دجنبر من العام 2008، إلى أن: «حفظ الذاكرة يستلزم من باب أولي مراعاة السياقات المحلية والخصوصيات الثقافية والاجتماعية للسكان والمناطق. فمراكز الاعتقال ليست صماء، ولكنها مواقع ينبغي أن ينظر إليها على أنها حافز للأجيال على التساؤل حول ما جرى من انتهاكات وحول شروط ضمان عدم تكرارها، حتى لا تكون مجالا لمد الجسور وخلق الروابط والحديث عن قضايا حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية».
وقف الكاتب عند الحياة في معتقل درب مولاي الشريف من الصفحة 51 من الكتاب إلى الصفحة 62، وهي مدة تداني «خمسة أشهر ونصف» من العذاب يشهد عليها الذين جرى «غسل أدمغتهم، حتى لم يبق لهم عقل يميزون به، ومنهم من حمل معه جروحا وندوبا نفسية وجسدية لن تندمل أبد الدهر». معتقل استقبل الضحايا نحو «أبرهام السرفاتي، وأمين التهاني، وسعيدة المنبهي». معتقل دبر أمره جلادون، يقول عنهم الكاتب، إن نذالتهم «أحالتنا إلى أجساد ممزقة من فرط الإدلال والجلد والانتقام والوحشية التي تجعل من الجلاد أخس وأشرس من الوحوش الضواري»، الصفحة 62. وبين مدة الاعتقال البعيدة بدون محاكمة، والتناقض بين الضيف الضحية والجلاد المستضيف توفق الأستاذ أحمد حو من رسم ذاكرة معتقل درب مولاي الشريف.
ومع تتبع الحدث، ذي الصلة بالذات التي تبوح بما حصل، وبما ينبغي أن يكون في الماضي، أو في الحاضر، كان التمهيد للقول في السجن المدني «اغبيلية» بالدار البيضاء. سمي السجن «اغبيلية» لأن «المساحة التي بني عليها السجن أيام الحماية كانت مخصصة لمقبرة». إنه «أحد السجون المخضرمة التي كانت مذبحة، تنفذ فيه الإعدامات وأبشع الممارسات في حق عناصر المقاومة، إبان فترة الحماية الفرنسية، ولم تنج منها انتفاضة «كاريان سونطرال» التي وجهت بقمع منقطع النظير من لدن المستعمر الفرنسي». وهو «اليوم معروض للبيع لمافيا العقار لطمس معالم الذاكرة». أو ليس «معلمة تحمل في طياتها تاريخا أسود للقمع السياسي، أقلها أن ساحته كانت مكانا لتنفيذ حكم الإعدام في حق عناصر المقاومة»؟ الصفحة 63 من الكتاب. بلى، وذاك ما دفع جمعية الدار البيضاء الذاكرة «casamémoire» لتنتبه إلى ذاكرة «كاريان سونطرال»، وذاك ما دفع المؤرخ المقتدر التقي نجيب ثقي ليؤلف كاتبا حول «جوانب من ذاكرة كاريان سونطرال، الحي المحمدي الدار البيضاء في القرن العشرين». ولا غرو، فأماكن الذاكرة ممتدة في الزمان. ذلك أن بساط معتقل تازمامارت هو نفسه مجال قيادة عدي وبيهي التي سامت الأبرياء سوء المعاملة. وسجن أكدز قصبة من قصبات الكلاوي. وليقس على سجن تاكونيت وقلعة مكونة. ولحسن الحظ أن سجن «اغبيلية» سجن نظامي، حسب ما أفصح به ثلاثة سجناء من الحق العام، «أخبرونا أن إدارة السجن وضعتهم لمراقبة كل حركتنا وهمساتنا، وقد أوضحوا لنا أن الكلام والحركة والنظر مسموح بها، وأننا في سجن نظامي وليس في معتقل سري، وهم الذين مكنونا من تذوق بعض الأكل والشاي الساخن…»، الصفحة 65. ولم يغفل الكاتب سرد نبذة عن السجن المركزي بالقنيطرة بين الماضي والحاضر، انظر الصفحة 116 وما بعدها.
لم يختلف وضع محكمة الجنايات بحي «الحيبوس» بالدار البيضاء يوم 13 من شهر يناير من العام 1984 من حيث الإذلال والتبكيت عن مشاهد المعاناة التي سلف للكاتب أن فصل فيها القول. ولقد كان اليوم يوما طويلا «حيث نقلونا في طابور من السيارات على الساعة الثالثة صباحا، معصوبي العينين، مقيدي اليدين. وعند وصولنا إلى باب محكمة الاستئناف أزالوا العصابة على أعيننا بعد أن وضعونا في قبو، تفوح منه رائحة البول والغائظ»، الصفحة 63. ولم تنج الحياة داخل السجن من الاكتظاظ وانعدام الشروط الإنسانية، «بها مرحاض مكشوف تتناسل فيه كل القاذورات والحشرات والجرذان والصراصير»، وانتشار الظلام الدامس، (الصفحة 66 وما بعدها). وجرت المحاكمة في أجواء متوترة، بعيد أحداث يناير 1984، لتبرير إنزال أقسى العقوبات.
يمكن قياس ما حمله القانون 23- 98 على وضع السجن في كتاب «العائد من المشرحة»، لبيان الفرق الشاسع من حيث التغذية، والمعاملة، والفسحة، والزيارة: «لم يكن لنا من حق في الفسحة سوى ربع ساعة في اليوم، وبعد أسبوع نودي علي وأخبروني أن أهلي ينتظروني في المزار، الذي كان به حواجز مشتبكة من أسلاك الحديد، وكان يفصل بيني وبين عائلتي حاجزين»، الصفحة 65 من الكتاب.
ويمكن قياس حال المحاكمة قبل الإصلاح الذي غشي قانون المسطرة الجنائية، ففتلك الأثناء كانت مصادرة الحق في التبليغ بالتهمة. فبعد التقديم أمام المحكمة جرى التبليغ «بالتهم التي أتابع من أجلها حضوريا»، الصفحة 71 من الكتاب المذكور، و«رفضت المحكمة كل الدفوعات الشكلية والجوهرية للدفاع، كتجاوز مدة الحراسة النظرية التي فاقت الستة أشهر، وغياب حالات التلبس، ولا قانونية المداهمات للبيوت وتفتيشها بدون إذن قضائي… ورفض إنجاز أية خبرة خصوصا حول حالات التعذيب التي كانت واضحة»، (الصفحة 71 من الكتاب المذكور)، وكلها مشاهد من الانتهاكات حاقت بالمحاكمة، «التي تفتقد لأي عنصر من عناصر المحاكمة العادلة، كقرينة البراءة، واحترام المساطر والقوانين الجاري بها العمل»، فكان أن أصدر القاضي الخاضع «لتعليمات فوقية حكما بالإعدام»، في حق السيد أحمد حو، وخمسة من زملائه بتاريخ 30 من شهر يوليوز من العام 1984، (الصفحة 74 من الكتاب المذكور).
لما قُضي الأمر، وجب الترحيل إلى السجن المركزي بالقنيطرة في الفاتح من شهر غشت من العام 1984، ليكون الاعتقال «في زنزانة مساحتها 4 أمتار مربعة… بداخل الزنزانة حفرة سموها مرحاضا ليس بها أي ساتر، مما يجعلها مرتعا للروائح الكريهة ومرتعا لخروج جرذان كبيرة يجب التعايش معها»، (الصفحة 82 من الكتاب)، نُصرةً للحياة، ودفاعا عن انتصار الحياة. و«الحي مصمم على شكل هلال، وبارد برود المشرحة وصامت صمت المقبرة، صمته رهيب يجعلك في خوف دائم»، (الصفحة 82 من الكتاب).
ومن حسن الحظ أن اتسعت فرص النجاة من المشرحة، إلى أن ظهرت سياقات الانفراج سنة 1990 فتحسنت ظروف الزيارة، والتغذية بالسجن وتحسن التطبيب، وسُمح بمتابعة الدراسة، وجرى التواصل بالجرائد. وأثناء مقام الكاتب بالسجن المركزي بالقنيطرة حكى عن المعتقلين، وفصل القول في انتمائهم السياسي. ففي أجواء الانفراج تحولت العقوبة من الإعدام إلى المؤبد، «وهو الأمر الذي استفاد منه كل المعتقلين السياسيين الإحدى عشر المحكومين بالإعدام، وأيضا غالبية المحكومين بالإعدام من سجناء الحق العام الذين كان عددهم يتجاوز الثمانين»، الصفحة 150 من الكتاب المذكور. وكان الانتقال إلى سجن عكاشة بالدار البيضاء، فنشأ الترافع على الملف المطلبي «الخاص بالوضعية داخل السجن»، الصفحة 159 من الكتاب المذكور.
لم تتوقف الذاكرة بعد الانفراج، وبعد العفو الذي استفاد منه السيد أحمد حو. فمن مميزات الذاكرة الديمومة، واستمرار الماضي في الحاضر، كما سلفت إليه الإشارة. «ولأنه لم يكن أحد منا يرضى أن يكون الإفراج عنا منة وعفرا ذليلا من لدن من أحالوا حياتنا إلى جحيم لا يطاق، سواء داخل السجون وخارجها، فقد بدأت فكرة جبر الضرر ورد الاعتبار تسيطر على نقاشاتنا، إلى أن قررنا تأسيس منظمة لضحايا سنوات الرصاص»، الصفحة 184 من الكتاب المذكور.
كانت خاتمة الكتاب خاتمةً لمسلسل طويل من الانتهاك والتعذيب، والنضال ضد ذلك، إلى حين معايشة الكاتب لتأسيس هيئة التحكيم المستقلة للتعويض وهيئة الإنصاف والمصالحة، و«المشاركة في تأسي جمعية ضحايا سنوات الرصاص المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف، والوقفات الاحتجاجية والقافلات أمام أبشع السجون السرية من بينها تازمامارت ودرب مولاي الشريف»، ومتابعته عن قرب «للمفاوضات الممهدة لتأسي هيئة الإنصاف والمصالحة» واشتغاله بالمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، «ونسخته المعدلة المجلس الوطني لحقوق الإنسان»، الصفحة 198 من الكتاب المذكور. وليست الخاتمة خاتمة في دينامية الفعل الحقوقي، لقد توج ذلك بدستور 2011 الذي يعد «بحق دستور حقوق الإنسان»، وهو «خلاصة للكثير من التوصيات الصادرة في التقرير الختامي لهيئة الإنصاف والمصالحة»، الصفحة 199 من الكتاب المذكور.
ولما كانت الذاكرة تقضي استخلاص الدروس من الماضي والعبر. فما هي تلك الدروس والعبر؟
هناك دروس بارزة في متن الكتاب، وهناك دروس يمكن استخلاصها.
– «لقد أصبحت بحكم تجربتي مطالبا شرسا بإلغائها»، أحمد حو، الصفحة 94 من الكتاب المذكور.
– نضال عائلات المعتقلين، بالاعتصامات «أمام وزارة العدل وإدارة السجون والمقرات الرسمية السجون، والمقرات الرسمية، وأمام مقرات الصحف والمنظمات الحقوقية…»، الصفحة 154 من الكتاب، وقد توفقت «في تنوير الرأي العام الوطني والدولي»، وإيصال الرسالة المشفرة وغيرها إلى المعنيين.
– تحسن الوضع داخل السجون بفعل نضال السجناء صحبة عائلاتهم، فعم الإصلاح نظام السجون، فكان تضمين جزء كبير من القواعد الدنيا النموذجية لمعاملة السجناء في القانون 23- 98.
– وجوب استقلال الهيئة الحقوقية عن الأحزاب السياسية.
– الممارسة الحقوقية تقضي تحفيفها بأمل مستمر.

حوار مع أحد الناجين من السجن السري الشهير
”فرع فلسطين” بسوريا





يسرنا أن نقدم للأمة الإسلامية هذا الحوار مع أحد الإخوة الأسرى السابقين بالسجن السري الشهير المسمى ” فرع فلسطين ” هذا السجن الذي يسام فيه أهل الإسلام نساءً ورجالاً، كباراً وصغاراً أشد العذاب منذ استيلاء الزنادقة النصيريين بتعاون مع الفرنسيين والبريطانيين المحتلين على بلاد الشام المباركة أعادها الله دار إسلام وسنة.


وقد حمَّل الإخوة الأسرى هناك أخانا الذي أجرينا معه هذا الحوار حين خروجه من الفرع وموعد ترحيله نحو بلده أمانة ألحوا عليه إلحاحاً شديداً واستحلفوه بالله أن يبلغها للأمة الإسلامية عامة ولمجاهديها بصفة خاصة ورغم ظروف الأخ – تقبل الله منه- فإنه لم يهدأ له بال ولم يقر له قرار حتى يوفي بوعده الذي وعد به إخوانه وعاهد ربه على الوفاء به . وها هو اليوم يوفي بوعده ويبر يمينه نسأل الله العلي القدير أن يتقبل منه ويحفظه ويرعاه وأن يفرج كرب كل مكروب من أمة المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام كما نطلب من إخواننا المسلمين في كل مكان ومن كل من يطلع على هذا الحوار أن لا يدَّخر جهداً في القيام بأي عمل يمكن أن يساعد به إخوانه الأسرى في سوريا المكلومة بحراب النصيرية البعثيين الزنادقة عليهم من الله ما يستحقون وأن يسعى إلى إيصاله لمن يعنيه الأمر للمسلمين عامة وللمجاهدين وقادتهم خاصة .


بارك الله في الأخ المحاور وفي الأخ الأسير الذي أجري معه الحوار وفي كل من عمل على تبليغه ونشره ولا تنسوهم من دعائكم.




سؤال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أخي نريد نبذة مختصرة عنكم وعن سبب سفركم إلى سوريا ؟؟؟


وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته, أشكرك أخي على هذه الإلتفاتة المباركة الطيبة وأود قبل إجابتي على أسئلتكم أن أخبركم وأخبر كل مسلم ومسلمة أن ما سأذكره هنا هو مجرد صورة مصغرة ولا يعد إلا كنقطة ماء في محيط كبير لما يكابده ويعانيه إخوانكم المسلمون الموحدون في سوريا النصيرية البعثية التي يرفع نظامها المجرم في العلن شعار الممانعة والمقاومة ومشاكسة أمريكا ودويلة يهود ومشروعهما التوسعي أما في الخفاء فهذا النظام الإجرامي لا يختلف عن بقية الأنظمة العميلة, بل ربما تجاوز بعضها, خاصة بعد أحداث سبتمبر 2001 وإعلان الحرب الصليبية على الإسلام والمسلمين.



فتعاونهم الإستخباراتي مع أمريكا لم يعد يخفى على أحد. وأتمنى أن أوفق في تأدية الأمانة والوفاء بالوعد الذي قطعته على نفسي وعاهدت به إخواني المحتجزين هناك الذين منهم من لم ير نور الشمس منذ سنوات عديدة وقد نخرت أجسادهم الأمراض والعلل, وهي رسالة للمسلمين عامة ولأهل الشام والمجاهدين بصفة خاصة . فأتمنى وأسأل الله أن أوفق في نقل ولو جزء من الصورة الحقيقية كما أسأل الله أن يوصلها لأهلها والله من وراء القصد.


أعود لسؤالك : أنا شاب موحد لله تعالى فتحت عيني على مآسي أمتي المسلمة ومذابحها في كل مكان دون غيرها من الأمم والملل فكنت أتابع الأخبار التي تزيدني ألما وأسى وأسفا وأتجرع بها المرارة في كل يوم ولم أكن أملك سوى الدعاء.


إلى أن جاءت أحداث محرقة غزة التي زادت من اهتمامي وتفكيري بجدية في التكليف الملقى على عاتق كل مسلم اتجاه ما يجري وفي كيفية أداء هذا التكليف العيني لنصرة الأمة المستضعفة. بدأت المشاركة في بعض المواقع والمنتديات الإسلامية الجهادية والتعرف على بعض الشباب عبر الشبكة ممن يقاسمونني نفس الهموم, فعرفت ولله الحمد الكثير وتعلمت الكثير في ظرف وجيز من الزمن خاصة في أمور الجهاد ووجوبه وفقهه وأمور الهجرة وغيرها …


منذ ذلك الحين وأنا في بحث دائم عن طريق يوصلني إلى أرض الجهاد والإعداد والهجرة والنصرة وكان همي الوحيد هو اللحاق بركب الشهداء وقافلتهم المباركة التي لا تتوقف بفضل الله, إلى أن تعرفت على بعض الشباب الذين وفق الله بعضهم لهذا الأمر . فكنا كلما سافر أحدهم ترك بريداً إلكترونياً وهاتفاً للذي يليه ليلحق به. فجاء دوري, جهزت المال وتركت التجارة الدنيوية لعلي أظفر بما هو أعلى . توكلت على الله فتيسرت لي ظروف السفر بعدما درست كل مراحلها بشكل دقيق وواضح ثم توكلت على الله وانطلقت في سفري.


باختصار شديد وحتى لا أطيل في هذه التفاصيل الغير مهمة. وصلت تركيا وتوجهت منها براً نحو سوريا بعدما أمرني (المنسق) بذلك وهو سوري ظل معي على اتصال دائم منذ نزولي بتركيا إلى حين وصولي سوريا حيث سألتقيه لأول مرة بعد أن تواعدنا. خلال هذا اللقاء كان معه شخص آخر بقي في السيارة ولم ينزل منها نزل فقط (المنسق) وسبحان الله حين سلم علي أول مرة ببرود ولا مبالاة ارتبت في أمره ولم يطمئن قلبي له أبداً, فقلت مع نفسي ربما هذا من الأمنيات والحذر فلا بأس ركبت معهما السيارة فلمحت بجانب السائق مسدسا فأخذه بسرعة وبطريقة غريبة ثم نظر إلي ليختبر ردة فعلي فتصرفت بشكل عادي. في الطريق إلى دمشق شرعت أناقشهما بعض الأحداث وتبين لي من أول الحديث أنهما في الحقيقة لا يعرفان شيئا عن الجهاد والمجاهدين لكن من خبثه اشترط علي أن لا أسأله عن شيء من باب الأمنيات,فكنت كلما انتابتني الشكوك قلت لعله من تشويش الشيطان ووسوسته لصدي عن هذه العبادة العظيمة ولقلة تجربتي . ثم سلمت أمري إلى الله عز وجل، وصلنا بعدها دمشق فأخذني إلى فندق كان يعرفه مسبقا فحجزت غرفة .




ومن الملاحظات وللفائدة فقط , فهناك فرق كبير بين مسئولي الفنادق في تركيا وفنادق سوريا. ففي سوريا هناك كثرة الأسئلة وكثرة علامات التعجب والاستفسارات والملاحظات وغيرها تحس كأنك في مجتمع مخابراتي بامتياز.


كان هذا( المنسق) يتصل بي باستمرار للاطمئنان علي ويسألني عن الأجواء وفي كل مرة كنت أستعجله وأسأله عن موعد السفر لدخول العراق فيُسَوِّفُ تحت دعاوى عدة.


أما الفندق الذي أنزلني فيه فكان يقع وسط سوق شعبي مزدحم بالناس يصعب عليك فيه تحديد من يراقبك. بقيت بضعة أيام لم أره حتى أصررت على اللقاء به، وطلبت منه موعد السفر إلى حيث أريد، لكنه برر عدم استطاعة الدخول إلى العراق بسبب بعض الظروف الصعبة في الطريق وغير ذلك…


في هذه الفترة وقع لي حادث غريب أسرده للإخوة للعظة والفائدة والحيطة والحذر : في يوم من الأيام خرجت من هذا الفندق للمشي فاستوقفني صاحب محل لبيع الملابس. سألني هل أنت من البلد الفلاني؟؟؟ أنا أحبكم وزبائني كثر من أبناء بلدكم وعندي بضاعة ستعجبك وهذا محلي وعندي محل في بلادكم يبيع المنتجات السورية أجبته أنني لا أحتاج ملابس وليس معي مال لشرائها . فألح علي إلحاحاً عجيباً قال تعال معي تأخذ فكرة فقط عن المحل ربما مرة أخرى تحتاج الشراء والتسوق من عندنا فبضاعتنا رخيصة وممتازة. كان إلحاحه شديدًا كإلحاح التجار عامة وأكثر , المهم دخلت معه المحل فيه درج صعدناه فوجدت عشرة أشخاص أمرني بالجلوس لا يظهر عليهم أنهم لصوص قالوا لي إذا أردت أن تخرج من هنا فضع ما معك من مال ولا تحاول المقاومة فأخذوا ما كان معي حينها أزيد من ألفي أورو أمروني بالخروج وعدم الإلتفات لأني مراقب توجهت مباشرة للفندق وجمعت أغراضي وانتقلت لفندق آخر.وقد علمت فيما بعد أن كثير من الشباب المهاجرين خاصة من أهل الجزيرة العربية قد تعرضوا للسرقة والنصب من قبل العصابات وأحيانا من قبل المخابرات السورية وهو ما حدث معي شخصياً .


بعد حلولي بالفندق الجديد اتصلت ب ( المنسق) فأخبرني أن الأمور جاهزة وميسرة وما هي إلا نصف ساعة ويكون عندي لننتقل صوب الحدود العراقية للدخول. استلقيت على ظهري متأملا فيما جرى معي وبينما أنا كذلك داهمت عناصر مسلحة بالرشاشات والمسدسات غرفة الفندق بعد فتحها بمفتاح احتياطي من عند صاحب الفندق كانوا حوالي 13 شخصا ألقوني على الأرض وقيدوا يداي خلف ظهري بقوة حتى دخل القيد في اللحم ووصل العظم حاولت الاستفسار عن الوضع فكان جوابهم ضربي بأخمص الرشاش على رأسي وكامل جسمي.


أخذوا الجواز ومبلغ ألف أورو كان بقي معي والهاتف وكل الملابس والأغراض في باب الفندق وجدنا سيارة أخرى بها 8 أفراد أيضا مسلحين بالرشاشات سلموني لهم وانطلقوا بي بعدما أغمضوا عيني بقماش.


سؤال : أين أخذوك بعد هذا ؟؟؟


توجهوا بي مباشرة إلى سجن سري يسمى فرع فلسطين وهو عبارة عن بناية تقع على طريق المطار مكونة من سبع طوابق كل طابق يختص بالتحقيق في قضايا معينة: الإسلام – الأسلحة التهريب – التزوير- قضايا سياسية – مخالفات الجيش- الأجانب …. وسمي بهذا الاسم حسب ما علمت لأنه كان فرعاً أمنياً مخصص للقضايا الفلسطينية منذ عهد الهالك المجرم حافظ الأسد وقد أعيد ترميمه في سنة 2006 وهو جحيم للمسلمين ووبال على الفلسطينيين .


هذا المعتقل العسكري له قانون خاص مع الأجانب الذين لا تسأل عنهم حكومات بلدانهم ولا تتدخل سفاراتها لتسلمهم وترحيلهم مثل أهل أفغانستان وغيرها كأهل المخيمات الفلسطينية وهم كثر وأعدادهم هائلة. فهؤلاء بعد أن يقضوا في المنفردات أو المهاجع أكثر من أربع أو خمس سنوات، تعقد لهم مسرحية وهي عبارة عن محاكمة عرفية داخل المبنى ويستمعون فيها لأقوال المتهم ثم يأخذونه إلى سجن من سجون سوريا يبقى فيه إلى أن يشاء الله دون وقت محدد.


أول ما أدخلوني هناك بدأ التعذيب الشديد في مكاتب التحقيق بالطابق الرابع من البناية سألوني عن سبب مجيئي لسوريا فقلت لهم أنا تاجر وجئت للتسوق والبحث عن بضائع جديدة وطبعا هم كانوا يعرفون سبب مجيئي لأن (المنسق المزعوم) لم يكن سوى مخبراً يعمل معهم وقد ربط الاتصال بي بعدما اعتقلوا أحد الإخوة قبلي ووجدوا معه بريدي وكان يتصل بي على أنه من طرف الأخ وأن الأخير قد دخل العراق وهذا من قلة التجربة والإفراط في الثقة … عذبوني بشكل لا أستطيع وصفه حتى أغمي علي عدة مرات وركزوا ضربي على أذناي حتى قلت لهم أن بي كسر سابق في رقبتي لعلهم يتركون ضرب الأذن لكن المجرم كان يمسك برقبتي ويلويها بعنف متعمداً كسرها وإيلامي وكذلك رفعوني عار من الملابس وكبلوا يدي ورجلي إلى حديدة طويلة وشرعوا في جلدي بالسياط وصعقي بالكهرباء إلى أن اعترفت لهم بالحقيقة وأن سبب دخولي سوريا هو رغبتي في الانضمام للمجاهدين في العراق ثم بعد التحقيق أمروا بي إلى المنفردة.


وهناك سيبدأ عذاب من نوع وألوان مختلفة .فحين ينزلونك تحت الأرض للمنفردة يعطونك رقماً عوض الاسم وهناك كل شيء ممنوع : الكلام، الجهر بالصلاة، الدعاء وحتى تلاوة القرآن والوضوء ممنوع، يمكنك فقط التيمم وأخطر شيء هناك أن يسمعك تقرأ القرآن أو تدعو الله أو تناجيه . سيتهمونك بأنك تدعو عليهم ويخرجونك للتعذيب الشديد الفظيع والتعذيب هناك بالسياط والركل واللكم وكل الوسائل الممكنة والمتوفرة لديهم وحين يرون السوط لم يعد ينفع يعذبونك بألوان أخرى منها أن تضل واقفاً مكبل اليدين إلى الخلف ووجهك باتجاه الجدار لأزيد من 24 ساعة وحين تحاول الجلوس أو السقوط يجلدونك بالسوط وهناك شخص سوري رأيته أوقف 36 ساعة إلى أن انفجرت الدماء من قدميه.






وأيضا التكبيل للخلف داخل الزنزانة ولكم أن تتخيلوا شخصاً يقيد لأزيد من أربعين يوماً في زنزانة انفرادية ولا يستطيع حتى حك جلده وطرد الحشرات والقمل عنه. وحين يسمعون الإخوة يتكلمون مثلا ولم يعترفوا على المتكلم يعذبون الجميع في الممر تعذيباً شديداً . هذا والله العظيم مجرد جزء يسير مما يحدث للإخوة هناك …والله المستعان .


أول مرة دخلت “الانفرادية” في اليوم الأول نادوا على رقمي للمرحاض خرجت بشكل عادي فإذا بالسجان يركلني ويقول باللهجة السورية ( على السارع يا كور) أي بسرعة يا كلب لم أكن أفهم شيئا حينها لأني جديد فبقيت على هذه الحال لأسبوع كل يوم ضرب وسب وإهانة حين الخروج للمرحاض إلى أن اكتشفت ما يجب علي فعله.


سؤال : ممكن تصف لنا هذا السجن ؟؟؟





عدد الزنازين الانفرادية ويسمونها المنفردات هو 38 منفردة طولها متران وعرضها متر ونصف , وعدد المهاجع 19 مهجع طول كل واحد منها تقريباً عشرة أمتار وعرضه متر ونصف وكل مهجع يضم ما بين أربعين وخمسين سجيناً ولكم أن تتخيلوا هذا العدد من الناس في مسافة بعرض متر ونصف وطول عشرة أمتار، إنه الجحيم الدنيوي بعينه وكل هذا في مكان تحت عمق الأرض ب5 أمتار.


الطابق الأول فيه غرف التحقيق ومكتب المدير المجرم ويكنونه ( أبو حمزة) وبه منفردات قضايا سياسية خاصة .


الثاني والثالث لم نعرف ماذا يجري فيهما. أما الرابع فهو المخصص للتحقيق في قضايا الإسلاميين يرأسه ضابط من أخبث من رأيت أو سمعت عنهم في حياتي وأظنه كبيرهم في هذا القسم لأنني لاحظت الحراسة المشددة على مكتبه والتبجيل الذي يكنونه له, والمعلومة الوحيدة التي عرفتها عن هذا المجرم هي أنه كان مسئولا عن تعذيب أهل السنة في المعتقلات اللبنانية ثم مساعده وله مكتب مجاور واسمه منير وهذا أيضا من كبار مجرميها بلغ به الإجرام أنه إذا رأى على الأسير قميصاً أو في قدمه حذاءًا من نوع جيد أمره بنزعه ولبسه أمامه وأرسله حاف أو عار إلى زنزانته وقد أخذ مني شخصياً حذائي وقال لي الأولى أن تمشي حافياً والاستهزاء من طبعه وعادته وسمعته يقول عن نقاب زوجاتنا أنه قمامة من الأزبال …


عدد المراحيض ستة و3 حمامات الخروج للمرحاض من السادسة صباحاً إلى السادسة مساء ماؤه جد بارد وللمرحاض هناك قصص وآلام ومعاناة لا أستطيع وصفها خاصة للمرضى المصابين بالإسهال أو السكري أو المعدة وغيرها من الأمراض التي يحتاج صاحبها التردد على المرحاض لمرات متعددة.


مدة المرحاض لا تتجاوز 30 ثانية وهذا يعود لمزاج الحارس وخبثه فما تكاد تنزع سراويلك حتى تسمع شتمه وسبه وأوامره لك بالخروج فهناك دخول المرحاض يصير عندك كابوساً حقيقياً تخطط له وتستعد وتتعوذ وتدعو أن يسلمك الله من السياط والجلد وأن توفق لقضاء حاجتك وملئ قارورتك من الماء …


وطريقة الخروج من المنفردة إلى المرحاض لها طقوسها الخاصة فعليك أن تخرج وأنت منحني على صفة الركوع ووجهك في الأرض لا تلتفت يميناً ولا شمالاً ولا تنطق ولو بكلمة أو حرف حين تسمع رقمك والأمر بانتهاء الثواني المخصصة للخلاء عليك أن تخرج يدك من نافذة المرحاض وتعود لمنفردتك كما غادرتها . أما إذا نودي عليك ولم تسمع رقمك كأن تكون نائماً مثلا فإنك ستأخذ من السياط لمدة أسبوع كامل عند كل ذهاب وعودة للخلاء وكل مجرم من المجرمين حين ينهي دوامه يوصي بك من يتسلم الدور والسوط من بعده تظل على هذه الحال على مدار الأسبوع إلى أن يرجع الدور للمجرم الأول الذي وقع المشكل معه في فترة دوامه .


بالنسبة للحمام فهو الآخر حسب مزاج السجان مرة في الشهرين أو الشهر ومدته أيضا بمزاجه , وفي أحسن مزاج وأحسن حال فهي لا تتعدى 5 دقائق تقضي فيها حاجتك البيولوجية وتغسل فيها جسدك الوسخ . ومفروض عليك أن تخرج للحمام من منفردتك بلباس داخلي فقط كي يفتشها المساعد ويسرق ملابسك ودوائك وكل شيء. أذكر أنه في يوم من الأيام نادى المجرم على السجين ليخرج من الخلاء وكان قد دخل لتوه وهو سجين جديد فرد على السجان : مهلا هل تظنني سأبيت هنا سأطلع حين أنتهي من قضاء حاجتي. وأقسم بالله أنني رأيت السجان من شق الباب يفرك يديه فرحا وسعادة من رد السجين لأنه وجد طريقا لتعذيبه كما يشاء. وهو ما كان, فقد تفننوا في تعذيبه بل وجعلوه يبيت ليلته في المرحاض عار من الثياب.


أما ما حدث معي شخصياً في موضوع المرحاض هذا فبعد مرور 4 أشهر على دخولي ذلك المكان كاد القمل والوسخ والعفن أن يقتلني وكنت لا أنام الليل من شدة الحك والألم حتى تورم جسدي وكلما حككت جلدي نزعت يدي والدماء تغطي أظافري فقررت في يوم من الأيام أن أستغل دوري لقضاء حاجتي وأستحم في المرحاض وليكن ما يكون. وهو ما كان دخلت وبدأت أغسل رأسي من القمل ونصف جسمي الأعلى فناداني المجرم للخروج فقلت له أنني جد متسخ وأحتاج فقط دقيقة لأغسل بعض القمل حينها جن جنونه وشرع يصرخ ويلعن ويسب, وحينها خرجت . فقال لي غسلت وسخك ؟؟


أجبته نعم شيئا ما فقط . فأمرني بالتمرغ عاريا في ماء معقد معلك أسود اللون رائحته لا تطاق أبدا وشكله مثل العسل ينزل ويتسرب من أسفل سلال الأزبال المتراكمة في زاوية من زوايا المراحيض . امتنعت في البداية ورفضت الأوامر وعندها نادى أصحابه فانهالوا علي جميعا بالكرابيج وأنا عار الجسد إلى أن امتثلت وتمرغت على بطني وظهري كما أمروا, ثم نهضت حاملا قنينة الماء الذي أشربه فأفسحوا لي الطريق هاربين من رائحة جسدي وحين دخولي المنفردة غسلت أعلى جسمي بقنينة الشرب وبقيت أتكبد عناء العطش مدة 24 ساعة وطبعا هذا المجرم أخبر من يليه في الدوام وكنت أعذب عند كل خروج ورجوع من الخلاء مدة أسبوع …


لكن سبحان الله رغم هذا فإن تلك الثواني المعدودة كانت فيها رحمة من الله لعباده ففيها يتبادل الإخوة الملابس وبعض حبوب الدواء والحاجات البسيطة التي تعتبر هناك شيئا ذا قيمة كبيرة ,لأن المراحيض مفتوحة من فوق لا سقف لها ولا يفصلك عن أخيك في جانبك إلا جدار….ولا يمر يوم دون جلد الإخوة وتعذيبهم حين الذهاب بهم أو العودة للمرحاض حتى أن البعض كانوا حين المناداة عليهم برقمهم يمتنعون عن الخروج بدعوى أن ليس لهم رغبة مع أنهم يتقطعون من الألم والحاجة إلى التبول أو التبرز أكرمكم الله….


سؤال : وماذا عن المهاجع ؟؟؟


المهاجع كما ذكرت لكم آنفا هي غرف جماعية طولها عشرة أمتار وتتسع فقط لعشرين شخصاً لكنهم يحشرون فيها حتى الخمسين وفيها مرحاض واحد بداخلها لا يتوقف 24 على 24 ساعة لكثرة النزلاء وقانونهم هو منع الكلام ومنع رفع الصوت حتى بتلاوة القرآن أو الصلاة والدعاء كذلك ممنوع , وفي إحدى الليالي سمعناهم يعذبون أحد الإخوة في ثلث الليل الأخير ويقولون له من الذي كان يقوم معك الليل؟؟؟


أما طعامهم هناك فهو لا يكفي حتى عشرة من الناس يجوعونهم عمداً حتى يضطرونهم للشراء من مدخراتهم في الأمانات وهذه تعتبر فرصة للسجانين للنهب والسرقة فأنت توقع على ورقة مشترياتك ولا تعرف على ماذا توقع حتى ينفذ المال في رمشة عين وهناك بالمهاجع دعاء السجناء هو أن يأتي من عنده مبلغ محترم من المال حتى يقتاتون شيئا فأول ما يسألك عنه السجناء هو هل معك مال في الأمانات؟؟ أما طريقة نومهم فهي بالدور, يصطف البعض منهم على جنب واحد دون حراك أو تقلب ويقف الثلث الباقي فلما تنتهي المدة ينام من كانوا واقفين, مثل صلاة الخوف ويمكننا تسمية القياس عليه وتسميته بنوم الخوف وهو كذلك بل أشد.


أما الفراش فبطانية واحدة على الأرض دون غطاء بل بعضهم ليس معه بطانية أصلاً ومنهم من انتهى التحقيق معهم منذ عامين وأزيد ولم يحالوا على المحاكم ولا على السجون فاضطروا مرة لخوض إضراب عن الطعام لم يتجاوز 12 ساعة حتى ذاقوا كل أشكال العذاب ما اضطرهم لفك الإضراب والتوقف عنه .


وهذا التعذيب تم برئاسة المجرم كبير الجلادين واسمه سليمان وهو رقم 1 في التعذيب وهذا المجرم نصيري الديانة عمره حوالي 36 سنة وطوله حوالي186 بشرته بيضاء.




بالنسبة للتنظيف هناك في “فرع فلسطين” فالمكلف به هم السجناء من الجنود السوريين أصحاب المخالفات ينظفون المبنى كاملا في ظرف وجيز والضرب والركل على ظهورهم والسب والشتم عدا المنفردات والمهاجع فنزلاؤها هم من يتكلفون بتنظيفها بقليل من الماء فقط لا صابون ولا أي مواد أخرى للتنظيف .


وأنا أول ما أدخلوني المنفردة الشخصية وجدت فيها ثلاث بطانيات أظنها من عهد الحرب العالمية الأولى ثقيلة بالقمل والعفن والأرض كذلك معفنة والسقف تعشعش فيه الحشرات بأنواعها أما الباب فمغطى بالصراصير ففزعت من هول المكان ووحشته وتساءلت طويلا هل سبق لأحد أن سكن هذا المكان؟؟ ثم علمت فيما بعد أنها كانت تسكن من طرف سجين ضل مكبل اليدين لمدة جد طويلة . حاولت طويلا تنظيف المكان مستغلا قنينتي الماء والتبول لكن بلا فائدة .


سؤال : وماذا عن السجانين ومعاملتهم للسجناء ؟؟؟


عدد مجموعات السجانين ثلاثة، كل مجموعة تتكون من خمسة أفراد اثنين للمنفردات وثلاثة للمهاجع. هؤلاء القوم لعنة الله عليهم مهما تفننت واجتهدت في انتقاء العبارات لوصف إجرامهم وخبثهم وكفرهم فلن أوفي ولن أوفق. وأذكر منهم :
المسمى رمضان : نلقبه بالضفدع من مدينة حماه ديانته (سني) وهذا يطلقه الإخوة على المنتسبين زوراً لأهل السنة عمره حوالي 40 سنة طوله تقريبا 180سنتم بنيته قوية لون بشرته أبيض مع احمرار وجهه حين غضبه وعيناه خضراوان بلون الزيتون صوته خشن لا تكاد تعرف ما يقوله .


المسمى هاني : يلقبونه (جويعه) لأنه كان ينقص لنا كمية الطعام رغم قلته. طوله حوالي 184 سنتم بنيته كذلك قوية لون عينيه بني كثير الحركة مثل القرد وهو جديد في وظيفته هوايته المفضلة صفع الإخوة على وجوههم وآذانهم ويجتهد الخبيث في كشف وتوريط الإخوة ليبلغ أسياده كي ينال قربهم ورضاهم .


أبو سليم : دينه نصيري ( قرد) قصير حوالي 160 سنتم 37 سنه لونه أشقر من صفاته أنه يحب التعذيب والاستهزاء بشكل كبير ويتلذذ بهذا مع السجين مهما كان مستواه العلمي والثقافي والاجتماعي خاصة المثقفين تجده يتفنن في التنكيل بهم وينادي المهندس بالحمار والدكتور بالكلب وهكذا.. وهذا الخبيث يحسب نفسه شيئا وأنه أبو المعارف يعرف كل شيء ويفهم في كل شيء وهو في الحقيقة أجهل من حمار أبي جهل لا يعرف ولا يفقه شيئا ومن جرائمه سرقة دواء الإخوة المرضى ومن قصصه أن أخاً مصاباً بعدة أمراض منها السكري والقلب وغيرهما كان يأخذ دواءً متنوعاً وكثيراً حين لمح هذا المجرم علب الأدوية قال للأخ ساخراً : عندك صيدلية فشرع يسأله عن كل دواء وما يصلح له وهذا الأخ كان يحقن الأنسولين فرأى المجرم الطريقة التي يحقن بها الأخ نفسه. قال له هذه الطريقة بطيئة وتأخرنا يا حمار, من علمك إياها ؟؟ قال الأخ : إنه الطبيب . فأجابه إنه حمار مثلك وفي الغد سرق له نصف الدواء.


ومنها أيضا أنه مرة أراد أن يسرقنا بالجملة فجاء بخطة قال لنا سأسمح لكم بالحمام لخمس دقائق واشترط علينا أن نخرج عراة إلا من التبان الداخلي فقط وأن لا نحمل معنا شيئا سوى الصابونة وقنينة الماء وهذه كانت منه خطة ليفتش كل شيء ويسرق كل ما يجد لكن بعض الإخوة فطنوا لخطته وخرجوا بالمأزر يخبئون تحته دواءهم وأغراضهم القليلة فلم يسلموا من الجلد والضرب بقسوة بالغة من المجرم وحين رجوعنا للزنزانة وجدنا الملابس والفراش مبعثر ووجدت أن المجرم قد سرق سروالي .




لمن المشتكى ولمن الملجأ ومع من نتكلم هناك . ليس لنا سوى الله والتوسل إليه ورفع أكف الدعاء له …
ومرارا هذا المجرم كان يأمرنا أن نخرج في وضع ركوع من زنازيننا حتى المرحاض وهو يسخر ويضحك ويستهزئ وحسبنا الله ونعم الوكيل.


صادق : 37 سنة طوله 180 سنتم بنيته قوية لكن أصابه الله بمرض الربو وهو مجرم حقود لا يرحم على أقل وأتفه شيء يعذب الأخ ينقص من وقت المرحاض ويتجسس على الشباب وهم في زنازينهم وهو حافي القدمين حتى لا تسمع خشخشة نعله خصوصا إذا سمع الأخ يدعو الله ويذكره ولو في أنفاسه همساً فيخرجه ويقول له أنت تدعو علينا ويجلده ويضربه بطريقة لا تتصور والمجرم من هواياته التي يكثر منها البصق على وجوه الشباب بدون أي ذنب. مرة أحد الإخوة خرج من المرحاض فرأى قطعة خبز مرمية فأماطها فقال له المجرم أنتم تسفكون الدماء وتميطون الخبز عن الطريق. لم يرد عليه الأخ لكنه لم يسلم من الجلد والتعذيب. ومن خصائصه أنه حين يأتي أخ جديد لا يعرف كيف يتصرف ويكون بطيء الحركة من التعذيب والصدمة يعذبه المجرم ويقول له يجب عليك أن تستيقظ فيأمره أن يستحم بقنينة الماء دون خلع ملابسه ويدخل زنزانته على تلك الحالة في أيام شديدة البرد.


أبو سمراء :40 عام تقريبا طوله 156 سنتم بدين الجسم أحمر اللون هذا المجرم يريد فقط أن يمر دوامه بسلام و دون مشاكل وهذه نعمة من الله على الإخوة فهم يتنفسون الصعداء عند حضوره وصديقه في الدوام أبو محمد شأنه شأن أبو سمراء لا يفترقان عقلية واحدة تفكير واحد حتى العمر والطول والشكل..


سؤال : ذكرت حالات مرضية هل يمكن أن تحدثنا عن بعضها بشيء من التفصيل وعن العلاج والتطبيب هناك في فرع فلسطين؟؟؟


بالنسبة لهذا الأمر فإنني سأتحدث عن نفسي أولا فأذني لحد الساعة لا أسمع بها من كثرة الصفع عليها وحدث فيها تعفن خطير ولست الوحيد من يعاني هذا فكل السجناء هناك يعانون من تعفن الأذن الذي يسبب آلاماً فظيعة في كل الرأس ويحرم من النوم وسأحكي فقط عن الممر الذي كنت أنزل فيه وهو يتكون من ست منفردات من بين 48 منفردة .


في إحدى المنفردات كان طالب علم سوري من أبناء مدينة اللاذقية السورية والذي على جانبي الآخر هو أخ من قادة المجاهدين في مدينة الموصل اسمه أبو محمد الزوبيلي كل الشباب هناك مصابون بالحساسية الجلدية (الجرب) وشقيقة الرأس بسبب كثرة الصراخ الذي لا يتوقف هناك ليل نهار وبسبب الوحشية والهمجية وكذلك من الأرق والإرهاق وتعفن جراح التعذيب وأوجاع الأسنان وآلام المعدة لسوء التغدية والأمعاء واللوزتين والعنق وأمراض الصدر الخطيرة والزكام المستمر فلا يخلو يوم ولا ساعة ولا لحظة من الأنين والألم .
أما القمل هناك فلا أستطيع وصفه ووصف المعاناة بسببه فهذه الحشرة الصغيرة لم أعرف حقيقتها إلا هناك فوالله إن البطانية يزيد وزنها ويتضاعف من كثرة القمل الساكن فيها وكنت أعري ساقي وأكشط بأظافري وفي كل كشطة أنزع 15 حتى 20 قملة وقد غزا جسدي ومص دمي وكاد يصيبني بالجنون وفي إحدى الليالي كنت أصرخ بأعلى صوتي من الألم وشدة الحك بسبب الحساسية الجلدية التي تسبب لي فيها ولا من ينقذ أو يجيب فقد فتحوا البوابة وأخرجوني للتعذيب حتى لا أنادي وأصرخ مرة أخرى وكلما طالبت العلاج سخروا وقالوا لي هذا عادي ليس بك شيء غدا ستكون في أحسن حال ولم أتوصل طيلة الشهور التي بقيت هناك ولو بحبة دواء أسبرين كان أحد جيران زنزانتي كنيته أبو محمد فلسطيني الأصل وأمه سورية يقطن مع أهله في مدينة دمشق تهمته المشاركة في عملية تفجير هذا السجن الخبيث “فرع فلسطين” التي حدثت سنة 2008 وشقيقه هو البطل المجاهد أبو صالح استشهد في بلاد الرافدين سنة 2007 بعدما أرق الأمريكان وكلابهم . هذا الأخ لا يتوقفون عن تعذيبه ما نزل عليه من العذاب لو نزل على جبل لهده وزنزانته الانفرادية تقع في أول الممر وهو أول واحد يتعرض منا للخطر لأنه يكون في الحراسة عندما نريد أن نكلم بعضنا البعض وبسبب التعذيب الفظيع فإن هذا الأخ قد أصيب بعدة أمراض مستعصية وخطيرة مرة في أيام البرد الشديد اكتشفه المجرم المسمى رمضان وهو يسمع سورة قرآنية من جاره ليحفظها ( وهذه هي طريقة الحفظ هناك إضافة لما هو مكتوب على الجدران من كتاب الله) فما أن يأتوا بأخ جديد وتسمح الظروف حتى يسارع الإخوة لسؤاله عما يحفظه من القرآن حتى نأخذه منه سماعا فتسمع الأخ من آخر الممر ينادي بصوت هامس يا إخوة اسألوه هل يحفظ سورة كذا اسألوه عن سورة كذا وكذا ؟؟؟ هذا الأخ الفلسطيني بعدما كشفه المجرم هو وصديقه كانت الساعة الثانية بعد الزوال تقريبا فتركهما حتى منتصف الليل ثم أخرجهما عراة بدون ملابس والبرد جد قارس حينها إلى الحمام وشرع يصب عليهما الماء المثلج ويجلدهما بالكرباج حتى كادت أطرافهم تتجمد من البرد وعند عودتهما إلى الزنزانة لم يستطع الأخ الثاني أن يتوقف عن البكاء فأمره المجرم بالسكوت فلم يستطع فأخذ ملابسه فبللها بالماء ثم رماها إليه وأغلق عليه باب الزنزانة كأن شيئا لم يقع والأخ الفلسطيني رغم شجاعته وصلابته وثباته فقد أصيب بسبب التعذيب بعدة أمراض منها الربو الذي يخنقه حتى تكاد أنفاسه تنقطع ولا من يهتم لحاله بل يسخرون منه ويقولون عنه أنه يمثل فقط حتى سمعنا اختناقه وآلامه في ليلة من الليالي فلا ندري أين أخذوه وهل فارق الحياة أم ماذا جرى له ؟؟؟ نفس الشيء مع صديقه وهو رجل كبير السن ونحيف الجسم كنا نقول بعد كل ليلة لا ننام بسبب أنينه وعذابه بسبب آلام قرحة المعدة أنها آخر ليلة له في هذه الحياة لكن لا من يهتم له. الطبيب المجرم السارق عندهم له حقيبة فيها بعض المسكنات الرخيصة ولا يعطيها إلا لمن تجاوز الأربع والخمس سنوات في ذلك المكان .


كل السجناء يعانون الأمراض هناك وآثار ذلك رأيتها حين ترحيلي ففي مطار دولة عربية توقفت بها الطائرة للتغيير (ترانزيت) لم أعد أتحمل الوقوف من تعب السفر فقدموا لي بعض الإسعافات الأولية حين ذاك عرفت أن وزني قد أصبح 49 بعدما كان 76 كيلو غرام فذهل الجميع من هذا الأمر حتى سمعت مسئولا أمنياً في هذا المطار يقول لصاحبه هؤلاء النصيرية كلاب وأنجس من اليهود بعدما علم من أين قدمت . الإنسان يموت هناك كالحشرة لا يساوي شيئا .ولا حول ولا قوة إلا بالله .



المجرم هاني : لا يرتاح ويشغل باله ووقته في توريط الإخوة واكتشاف طرق جديدة لتعذيبهم والتضييق عليهم أكثر ومن خبثه أنه إذا سمع سجينان يتكلمان يعذبهما وجيرانهما لأنهم لم يبلغوا عنهم حتى الذي كان نائم ساعتها يعذبه . وكذلك ما يختص به هذا المجرم هو أنه يوزع الفطور في منتصف الليل وهو الوحيد الذي يفعل هذا الأمر فحين يكون الإخوة في نوم وسبات يشرع في السب والصراخ لتوزيع الطعام وإفزاعهم وإيقاظهم من النوم .وفي الصباح لا تأخذ شيئا حتى الساعة الثانية بعد الظهر وهي وجبة الغداء.


المجرم : أسعد هو نائب المدير وأحيانا يقوم بدور السجان هذا هو الذي عذبني في الأسبوع الأول حين رفضت إخباره عمن كان يتكلم مع صاحبه من جيراني . عمره 42 سنة وطوله 180 سنتم دينه نصيري ( قرد) بدين الجسم خفيف الشعر من الأمام.


المجرم : حسين رئيس مجموعة سجانين ، 20 سنة عمل وتعذيب للموحدين عمره 48 تقريبا بدين الجسم قصير القامة أصلع الشعر صوته خشن , هذا المجرم لا يفارقه السوط كأنه مغروس في يده ملتصق بها لا ينزعه أبدا .


المجرم علي: عمره حوالي 32 سنة وطوله 176 دينه سنتم نصيري (قرد) قوي البنية هوايته تشديد المراقبة عند المرحاض وتعذيب الشباب هناك . أسنانه متضررة بشكل كبير بسبب التدخين يضرب ويسب دين الإخوة عند المرحاض بدون سبب , وأذكر أنه عذب أخا حتى كاد يموت بسبب إضرابه عن الأكل.


سؤال : ما نوعية الطعام هناك ؟؟؟


الجواب : حين اعتقلوني لم أذق الطعام لمدة ثلاثة أيام وطريقته هي كالتالي : في الصباح يوزعون كأس صغير ليس له من الشاي إلا الاسم فقط وخمس حبات زيتون طعمه شديد المرارة وملعقة صغيرة من المربى يصيح المجرم بسخرية ( خرج كوبك تأخذ لحسه) وببيضة في الأسبوع وثلاث رغائف رقيقة كل 24 ساعة حين تتركها لمدة خمس دقائق فقط تصبح مثل صفيحة قصدير، أما وجبة الغداء فهي حبة بطاطس واحدة صغيرة وحبة طماطم صغيرة وكوب صغير من البرغل هذا هو نظام التغذية هناك وكما سبق وقلت: كل الأسرى هناك وبدون مبالغة ، وأؤكد الكل مصاب بأمراض المعدة والأمعاء المختلفة.


سؤال : ما هي الجنسيات المتواجدة هناك ؟؟؟


تجتمع في “فرع فلسطين” كل الجنسيات العربية وغيرها وخاصة الفلسطينية لأن الفلسطيني على الخصوص لا أحد يطالب به لا حكومة عباس ولا حكومة هنية، فالفلسطينيون يبقون هناك إلى أن يشاء الله ومنهم من زال موجوداً هناك منذ 5 سنوات وكذلك الحال من قبل مع اللبنانيين والسعوديين فمنهم من لم يتمكن من إخبار سفارة بلاده أو أسرته إلا عن طريق سجين مسفر أو حارس برشوة كبيرة، وإلا فسيظل هناك ولا يسأل عنه أحد كالإخوة العراقيين والأفغان والفلسطينيين طبعاً. وكذلك هناك إخوة مهاجرون من الأردن واليمن وتونس والمغرب والجزائر ومصر والسودان وغيرها من البلاد الأخرى .


سؤال : أذكر لنا قصصا بقيت عالقة في ذاكرتك ولن تنساها؟؟؟


كثيرة والله ومما يحضرني الآن قصة شخص فلسطيني ينتمي للحركة الشعبية لتحرير فلسطين لم نعرف مخالفته ماهي . ألقوه في الانفرادية ولضعف إيمانه أول يوم بدأ ينشد الأشعار والأناشيد العلمانية ويتغنى بحركته وثورتها واسترجاع القدس وغير ذلك … بعد أيام صار يصرخ ويستغيث بالمخلوق من قادة فصيله وينادي بأسمائهم ضل هكذا ونحن ننصحه ونحاول التخفيف عنه حتى صار يصيح بالعامية اللهجة الشامية ( حطخ خرجوني من هون حطخ … حطخ ….) يعني سأجن سأجن كان يصيح هكذا ليل نهار لأزيد من شهر حتى جن جنونه وأخرجوه وملابسه قذرة تمتلئ بالبراز والبول ورائحته جد منتنة ولا ندري أين أخذوه بعدها .


ومرة أخذوني للتحقيق وسمعت صوت امرأة تبكي وتنتحب وتصيح أخرجوني من هنا أخرجوني ويجيبها المحقق ستخرجين بعد أسبوعين اسكتي وهو يسبها وعلمت أن هناك نساء ينجبن أي يضعن مواليدهن في الزنازين وأزواجهن معهن في نفس السجن ولا يسمح لهم برؤية أولادهم. فهنا حين يتهم الشخص يعتقلون كامل أسرته . وقد حكي أن أخاً قد اعتقلت زوجته معه وأنجبت هناك بعد شهر من أسرهما ولم يسمحوا له برؤية ابنه حتى كان يصرخ ويذكر قصص كفار قريش وكيف كانوا يتعاملون مع الأسير والنساء والأطفال وكان بجواره جاسوس يكتب على الجدار كل ما يتلفظ به الأخ ولما سمع المحقق بهذا الأمر سمحوا له برؤية ابنه في مكتب المحقق لدقائق فقط مع العلم أن هذا السجن لا توجد فيه موظفات، فكل الموظفين ذكور.


وكذلك بلغني هناك أن الشيخ أبو مصعب السوري – فك الله أسره – قد مرَّ من هناك بعدما سلمته أمريكا للنصيريين وهذا بعد عناء طويل وتنقل مستمر في السجون السرية الأمريكية وقد بقي هناك إلى أن جاءت قضية فتح الإسلام وبعد اعتقال الشيخ شاكر العبسي –فك الله أسره – وقيام الإخوة بعملية استشهادية على هذا السجن تم ترحيل الشيخين لمكان مجهول وهناك قادة ومشايخ آخرون لا أذكر أسماءهم في سجون النصيرية.


وهناك أخ شاب مرة جاؤوا به وكنا نناديه ولا يسمعنا لأنهم أخذوه بعد اعتقاله لغرفة مظلمة وعذبوه عذابا فظيعا حتى سال الدم من أذنيه وثقبت طبلتها وحين أدخلوه المنفردة لم يكن يعرف الشهر ولا اليوم هذا ولا حتى أوقات الصلاة من شدة العذاب وجسده وملابسه ممتلئة بالبول والغائط وعمر هذا الشاب لا يتجاوز العشرين سنة وكانت تهمته هي الانتماء لفتح الإسلام وقد جلدوه حتى تمزق جلد ظهره ونزف دماً وأيضا أرغم على الوقوف 32 ساعة حتى انفجرت قدماه دماً ونزعت أظافرها وبقي المسكين لأسابيع مقيد اليدين للخلف ومغمض العينين وكل يوم يذوق فيه العذاب ولا أدري هل مات أم لا يزال على قيد الحياة.


وهناك أيضا شاب أفغاني عمره 19سنة اعتقلوه وهو في طريقه للعراق لنصرة إخوانه ومنذ 2005 وهو هناك في عزلة انفرادية وسبحان الله هذا الأخ ثباته غريب ونادر فهو لا يعرف من اللغة العربية سوى كلمتين اثنين : “إن الفرج قريب” وكلما حاولنا التواصل معه لا يعرف إجابة سوى هاتين الكلمتين وثباته وتحمله ما شاء الله نسأل الله أن يعجل فرجه, وقد حولوه مرة للمهجع وهي أمنية كل أسير في الانفرادية هناك على ما فيها من زحام وعذاب لكنه يهون أمام الانفرادي لكنه طالب الرجوع للعزلة وسط ذهول واستغراب الجميع وهذا بسبب بعض المنكرات الموجودة في المهاجع لأنها تضم كل القضايا كالتدخين والكلام القبيح وغيره ….


السائل : هل من كلمة أخيرة قبل ختم هذا الحوار؟؟؟


كلمتي للمسلمين في كل مكان عامة ولعلمائهم ومجاهديهم طليعة الأمة بصفة خاصة . هذه رسالة من إخوانكم في سجون النصيرية كُلفت أمانة تبليغها لكم، فانظروا ما أنتم فاعلون



اللهم هل بلغت … اللهم فاشهد
اللهم هل بلغت …اللهم فاشهد
اللهم هل بلغت… اللهم فاشهد