أحمد حو يعود من طاولة المشرحة ومخالب الموت، ليكشف بعضا من المستور عن مغرب الاعتقال وانتهاك حقوق الإنسان في مرحلة عصيبة من تاريخه، سنوات الجمر والرصاص. من حي الإعدام حيث كان يموت كل يوم، يطارده شبح المشنقة أو الطلقات النارية، نجا بقدرة إلهية، وتدرج في العقوبة من الإعدام مرورا إلى العفو الذي لم يطلبه، وألحت أمه التي واكبت أحداث الاعتقال وتعرضت هي ووالده لكل أشكال الاستفزاز والحيف، أن لا تخط أنامله رسالة العفو، لأنها بكل بساطة اعتراف بجريمة لم يقترفها أحمد الذي زج به في السجن، وهو في ريعان الشباب، ليأخذ منه زهرة عمره، 15 سنة (1983 /1998). لمجرد رفع لافتة تطالب بالعدالة الاجتماعية، وتخليدا لذكرى شهداء 81 م. ابن الشبيبة الإسلامية تأتيه الطعنة من قيادة التنظيم الذي انتمى إليه وهو يبحث عن الحقيقة حيث تدرج بين تنظيمات ذات مرجعية إسلامية، ليجد نفسه في حي الإعدام.
زيارة مفاجئة للموت:
في زوال يوم شديد الحر لمحتهم وهم يحملون “الحاج ثابت” إلى حتفه، كان من عادته كلما نودي عليه للزيارة يمشي بخيلاء وعنجهية، قاسي النظرة قوي الشكيمة لكن في يوم إعدامه كان يمشي على رجليه ويكاد يسقط رغم قوة بنيته. ولم يصدق كل ما قيل له عن أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد تنقيل روتيني، أحسست كأني أنا المساق إلى الموت لا أكاد أشم إلا رائحة الموت من حولي لم يعد بعد ذلك اليوم أمان، فقد أعدم يوم عطلة أسبوعية وهو يوم الأحد في واضحة النهار، وهو ما يعني أن الموت لم يعد زائرا منتظرا في الليل فقط، بل أيضا في عز النهار، ولم يعد الإعدام مختصا فقط بقاطني حي الإعدام بل فقط يكفي ان تكون محكوما بعقوبة الإعدام ولا يهم أي حي سجني تقطنه، وحتى في أوقات الراحة والعطل كانت الحركة تتوقف في أيام السبت والاحاد وفي العطل ومع سكون الحركة تهدأ النفوس، لكن بعد إعدام الحاج ثابت كل المعايير انقلبت، حتى مزاعم أن المغرب الذي لم يعد ينفذ عقوبة الإعدام، بعد سنة 1981م تبخرت، فعاد الموت يرفرف علينا بجوارحه بقوة وأكثر مما مضى، ليال وشهور قاسية مرت علينا بعد إعدام الكومسير المذكور، لم يعد للنوم أو للأكل طعم، فكل الآمال تبخرت وأصبح الموت قريبا منا بعد أن كان بعيدا عن حي الإعدام وعن المحكومين بالإعدام في أي سجن أو أي حي كانوا لأكثر من عقد من الزمن”. هي أيام بلياليها خيم فيها شبح الموت على أحمد، وطيفه لم يفارقه، لا يمكن لعاقل أن يتخيل نفسية أحمد ومن معه، ممن انتظروا، حتى تمنى الواحد منهم إنهاء هذا الألم والكابوس المزعج بنزع الروح من جسد لم يعد يستنكر التعذيب لكثرة ما مورس عليه.
مسار ناج من الموت:
عائد من المشرحة لأحمد حو شهادة عن سنوات عجاف من تاريخ المغرب، سرد بكل عفوية ودون تكلف عن وقائع وتجربة وراء الشمس بآلامها وآمالها، حديث عن الطفولة والبحث عن الحقيقة والنضال السياسي، سيرة كشفت عن بعض البقع الكالحة، والقضايا الخفية والعصية عن التفكيك والتحليل، سيرة هي عصارة تجربة أليمة ستلقي به في مواجهة الموت الذي بقي كظله لا يفارقه طيلة أكثر من عقد من الزمن حيث أدين سنة 1984 بحكم الإعدام إثر تضامنه وثلة من رفاقه مع ما أسماها آنذاك وزير الداخلية ادريس البصري “انتفاضة شهداء الكوميرا”.
في “مقبرة الأحياء” أو “حي الإعدام”، كما يحلو لل”حو” أن يسميه، بدأت الرحلة الطويلة بعد الحكم عليه بالإعدام، الشاب أحمد الذي لم يتجاوز عمره ال 24 سنة، لما كان يمعن النظر في حي باء وفي ساكنته ويرى أن حي الموت هذا الذي يشبه الهلالية في تصميمه والذي يحتله صمت رهيب، كان دائما يحيره السؤال ماذا يصنع هنا؟ وهو الذي لم يسفك دما وجرمه الوحيد أنه كتب شعارات منددة بالنظام، يطيل النظر في المشرحة فلا يجد إلا جرائم الدم المشفوعة بالتشديد فمن قتل أكثر من اثنين أو قتل وأحرق الجثة أو قتل واغتصب.. إلخ.
جاور الموت وبقي في سجال جدلي معه، في كل حركة، مفتاح أو دبيب خطى حارس، وفي كل همسة وسكنة وفي دياجير الليل وفي واضحة النهار، ساحاته وزنازنه كأنها تنطق جهارا بكل الذين زاروه وسيقوا إلى ساحة السجن أو غابة المعمورة لينفذ فيهم الإعدام رميا بالرصاص.
عاشر قافلة من الشهداء والقتلة زارته من حدب وصوب، من مقاومين تظاهروا أيام الاستعمار في غشت1953م، ومن معارضين سياسيين وقوافل من الشهداء من أمثال عمر دهكون ورفاقه، وادريس الملياني وانقلابي قصر الصخيرات والطائرة الملكية كالملازم كويرة والكونولين محمد أعبابو، وذكريات مع مغتصبين للأطفال والنساء من شاكلة المتشوق والحاج ثابت، إنها بالجملة مشرحة لا تشم فيها إلا رائحة الموت الزؤوم.
أحمد قاوم الموت ولم ينهزم أمامه، كان مفروضا عليه أن يقارعه في موطنه، أن يحدق فيه بعينين حادتين، لدرجة أنه في كثير من الأحيان يستنجد بالموت لمقارعة الموت، ولذلك فلا غرابة إن كان يدخل في إضرابات مميتة لدرجة أن الأطباء المتابعين لوضعه الصحي لم يترددوا ذات مرة في الإعلان عن موته، وتسجيل شهادة وفاة له يقينا منهم أنه من المستحيل أن يعود للحياة، وكان الهجوم على الموت في عقر داره هو الذي بمنحه في كثير من الآحايين تحدي الموت والهروب من مخالبه.
أحمد المتعدد:
لا يمكنك لك أن تسجن أحمد في زاوية ضيقة بالرغم من انتسابه مبكرا للحركة الإسلامية، وتدرجه في البحث عن الحقيقة من البوتشيشية مرورا بجماعة التبليغ والشبيبة الإسلامية وانتهاء بالحركة من أجل الأمة، فالرجل عصي عن التصنيف، إنه المتعدد في الواحد، لأنه جعل من الدفاع عن حقوق الإنسان وكرامته عقديته، الذي لا تميز بين الخلائق بالنظر إلى انتماءاتهم، وإنما من منطلق آدميتهم.
ومن هنا جاءت سيرته/مذكراته “عائد من المشرحة” محاكمة لشخوص وأحداث سنوات الرصاص وما ترتب عنها فيما بعد، شملت مختلف الطيف السياسي للتيار الإسلامي ومكونات اليسار خصوصا منه الراديكالي، وقد لامس تجربته من منظوره قضايا ساخنة، وفي كثير من الأحيان صادمة طلوعا وهبوطا، وأصعبها والتي ما زال الغموض يحوم حولها قضية اغتيال الزعيم الاتحادي عمر بن جلون، الذي ما زال طيفه يراود أبناء حركة الشبيبة الإسلامية، ليؤكد ولأول مرة أن أحد المتورطين، وقد عاشوا معه في زنازن الإعدام سنين عديدة، أنهم في ليلة ما قبل ارتكاب جريمة الاغتيال، اجتمع معهم عبد الكريم مطيع رئيس جمعية الشبيبة الإسلامية. وأمرهم بقوله: اقتلوه ولا تفلتوه“. شهادة صادمة قد تميط اللثام على حقائق كثيرة.
كما تطرق” عائد من المشرحة”، إلى حركات إسلامية مغربية شغلت الساحة الوطنية وماتزال من قبيل حركة الشبيبة الإسلامية والعدل والإحسان وجمعية الجماعة الإسلامية حركة التوحيد والإصلاح حاليا، واستفاض في ذكر عبد الإله بن كيران وموقفه منه، وتحدث عن اليسار خصوصا منه الراديكالي في شقيه “23 مارس” و” إلى الامام” والمرتبط أساسا بتجربة الاعتقال، وذكر شخوصا وأحداثا عاينها أحمد خلال تجربته المريرة سواء في فترة اعتقاله أو بعد الافراج عنه من تلك الشخوص الناجون من تازمامارت، محنة الفقيه الزيتوني، إعدام الكومسير ثابت، نفي المعارض اليساري ابراهام السرفاتي.
وماذا بعد:
” هرمنا وتعبنا وكدنا أن نموت … من أجل هذه اللحظة”
إنه يوم 5 شتنبر 2016 م افتتاح مقبرة ضحايا أحداث البيضاء 1981 م كان حدثا استثنائيا بالنسبة لأحمد فبعد 33 سنة من اعتقاله بسبب تعليق لافتات، وكتابة شعارات، احتجاجا على العنف والقتل الهمجي الذي صاحب الاحداث، ها هي قبور الذين قتلوا بغير حق ودفنوا في مقابر جماعية في جنح الليل، يتم تكريمهم وأصبح بإمكان المعذبين وعائلاتهم تأبينهم والترحم عليهم، ولم تعد قبورهم مجهولة. وتوجت مجهودات صاحب ” عائد من المشرحة” بتأسيس الهيئة المستقلة للتعويض وهيئة الانصاف والمصالحة، والمشاركة في تأسيس جمعية ضحايا سنوات الرصاص المنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف، وتم الوقوف أمام أبشع السجون السرية من بينها تازمامارت ودرب مولاي الشريف، الذي سامه جلادوه فيه سوء العذاب، وتابع أحمد عن قرب المفاوضات الممهدة لتأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة، والاشتغال بالمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان ونسخته المعدلة المجلس الوطني لحقوق الإنسان.
ينتظر أحمد العدالة الإلهية ليس من أجل التلذذ بآلام الآخرين حتى ولو كانوا من الجلادين الذين أذاقوا المعتقلين أنواعا من التعذيب والتنكيل، لأن نفوسهم الأبية لن تكون مصاصة للدماء وتحن لصنوف من الانتقام، فيكفيهم أن يعتذروا ويتخلوا عن مناصبهم السامية.
قبل القراءة:
لا بد قبل أن تقٍرأ الكتاب، ف”عائد من المشرحة ” كتاب جاء في سياق الكشف عن الحقيقة ونفض الغبار عن محطة تاريخية مؤلمة، تضمنت صورا ووقائع لم يطلع عليها الكثير من المغاربة، وتكتسي هذه المذكرة أهمية كبيرة بإمكانها أن تقطع مع مرحلة الحيف والظلم وتؤسس لمغرب العدالة والمساواة وحرية التعبير والديمقراطية، تأتي المذكرة في وقت تطالب فيه هيئات بإلغاء عقوبة الإعدام، وتحقيق المصالحة الوطنية والقطع مع الاستبداد. وتشد القارئ ل” عائد من المشرحة” صفحة الغلاف “الحمامة” التي تحلق عاليا وهي تحمل حبل المشنقة وتحاول إخراجه من سجن ظالم مظلم، توخيا للانعتاق والحرية وكسر قيود الظلم.
ولن تغني هذه الأسطر عن قراءة ” عائد من المشرحة” لأحمد حو عن دار الوطن والذي قدم له عبد النبي الشراط، والمحجوب الهيبة، ومحمد السكتاوي ويقع في 233 صفحة وتضمن مقدمة، وعشرة فصول الأول عنونه ب: قبل الاعتقال، الثاني: بدأ حملة الاعتقال، الثالث: الاستضافة وإكرام الوفادة بدار الحجاج، الرابع: الانتقال إلى مقبرة مقاومة كريان سنطرال، الخامس: محاكمة مجموعة 71، السادس: الرحلة نحو ألكاتراز المغرب، السابع: الانتقال إلى سجن عكاشة، الثامن: وأخيرا انفتح الباب الكبير للسجن، التاسع: عود على بدء، العاشر: وماذا بعد؟ كما ختمه بأربع ملاحق وصور شاهدة على مساره.
يشار إلى أن أحمد حو من مواليد المحمدية سنة 1959 م قضى أزيد من 15 سنة بداخل السجن باعتباره معتقلا سياسيا محكوم بالإعدام.
حصل على الاجازة في القانون الخاص عمل صحفيا بجريدة النبأ مختصا بحقوق الانسان، التحق بعد ذلك للعمل بالمجلس الاستشاري لحقوق الانسان، كلف بمعالجة الشكايات ثم مسؤولا عن تدبير الشؤون اللوجيستيكية، ومكلف بمهمة لدى الأمانة العامة للمجلس.
أحد مؤسسي المنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف وعضو مكتبه التنفيذي.
عمل على بلورة تصور هيئة الانصاف والمصالحة المختصة بجبر أضرار سنوات الرصاص واشتغل بها، وهو أيضا أحد مؤسسي منتدى الكرامة لحقوق الإنسان، وناشط حقوقي ينتمي إلى منظمة العفو الدولية وينشط في مجال مناهضة عقوبة الإعدام.
24 يونيو، 2021