الهاتف ” الجوال ” ممنوع في السجن و يعاقب من يوجد بحوزته ، لكن للسجناء طرقهم الخاصة في إدخال مايريدون ، رغم التشدد في التفتيش و المراقبة .. اذكر في ايامنا الأولى كانت عقوبة الهاتف ” الجلد 25 و الحبس في الإنفرادي لمدة شهر مع المنع من الزيارة “
لكن مع مرور السنوات بدا التخفيف على سجناء الاعدام في التفتيش ، حتى من يجدوا معه هاتف يصادروه فقط بدون عقوبة ..
***
كنا نعاني كثيرا في إخفاء الهواتف ، نسبة لضيق المكان و قلة الأغراض التي يمكن ان نخفي فيها ما نريد .. أحيانا كنا نحفر نصف متر بحجم الهاتف و ندفنه ، أو نضعه في وسط الخبز أو ” حافظة المياه ” السجناء لا تعجزهم الحيلة في الإبتكار ، ربما للفراغ الذي يعيشونه ، فكلما إكتشف الحراس شيئا مباشرة يلجأوا لحيلة اخرى .. لا انسى تلك الشجرة التي تتوسط الزنازين ، و يتسابق إليها السجناء يتسلقونها رغم السلاسل في أقدامهم ، في ثوان معدودات يخفون فيها الهواتف ، و لكن بمجرد دخول العساكر للتفتيش يختارون ” أصغرهم حجما ” فيصعد و يلتقط الهواتف من بين اغصانها ، كانما يلتقط اطايب الثمر !
و السجناء ينظرون كل يرى هاتفه تم اخذه ، لا يستطيع ان ينطق بكلمة !
****
طرائف إخفاء الهواتف كثيرة جدا .. أذكر احد السجناء في زنزانة مجاورة لي ” قارب الستين من عمره ” كان شديد الخوف من التفتيش ، إن سمع عنه و لو بالمزاح يرتفع ضغطه و تتحرك بطنه ! احيانا يبيعه بأقل سعر ، او يرميه في مكب ” النفايات ” !
في إحدى المرات أخبرنا احد الحراس ليلا ، بان صباح الغد سيكون تفتيش كبير ، كانت ابواب الزنازين مغلقة ، و إخفاء الهاتف شبه مستحيل ، إلتفت صاحبنا يمينا و شمالا لم يجد ملجأ ، قام بإخرج ” الشريحة ” و قال لسجين آخر معه في نفس الزنزانة ” يا فلان خذ هذا الهاتف هدية مني ، و اعطاه اياه مخافة ان يجدوه عنده ! “
****
في رأس كل سجين أسئلة ، كانت تدور بلا إجابات .. من الذي إخترع السجون ؟ كيف إهتدى لهذه الفكرة ، بقبر الأحياء في هكذا مكان ؟ !
كان الجميع يتساءلون و يتداولون قصة فيما بينهم ، اقرب ما تكون إلى خرافة ، كانهم يعبرون بها عن بؤس واقعهم ، يقولون : ان ” الخواجة ” الذي قام ببناء السجن و عليه سمي السجن ” كوبر ” بعد ان فرغ من بناء الزنازين ، جاء بكلب و حبسه لثلاثة أيام في احدى الزنازين ، و لم يعطه جرعة ماء و لا شيء ليأكله ؛ و بعد اليوم الثالث و ضع أمام الباب الكثير من اللحم و فتح له الباب ، و لكن الكلب و بمجرد فتح الباب هرب و ترك اللحم ، نسي جوعه ! عندها ضحك ” الخواجة ” و قال هذا الذي أريده !
سجن كوبر / قسم الإعدام :
ما استفدته في قسم الإعدام ، لا اظنني كنت ساجده في اي مكان آخر في هذه الدنيا ، و إن كرهته نفسي في باديء الأمر ، إلا انني اعده محض فضل من الله عزوجل ..
و مع انني ما كنت اخالط إلا قلة منهم ، إلا انني كنت اعرف تفاصيل قضاياهم ، فقد كانوا يثقون في ، و يشاركوني خفايا اسرارهم ، و كم كان فيها من العظات و العبر !
فمن هؤلاء الذين ينظر إليهم الناس ، على انهم قتلة و بلا رحمة او خلق ، تعلمت و رايت الكثير :
رايت الصدق في التوبة ، و الندم و الإنكسار لله .. رأيت الجد و الإجتهاد في العبادة ، ففيهم من يحتقر المرء نفسه أمامهم .. رايت الصبر على قسوة السجن و السجان ، و هجر الاهل و الخلان .. و رايت البذل و الصدقة ، و إن كان احدهم معدما لا يملك شيئا .. رايت الشجاعة في مواجهة الموت ، و الرضا بقضاء الله و قدره ..
و بصدق حين تعلم بتفاصيل جرائم البعض ، يزداد عجبك كيف تغير هؤلاء ؟ و كيف ارتكبوا جرائمهم و هم بهذه السكينة و الهدوء ؟
**
من عرفتهم في ذلك المكان ، لم ينجو منهم إلا القليل ، غالبيتهم تم إعدامهم ، لا ابالغ إن قلت كانوا بالمئات ، او أكثر .. لم يكن ينقضي أسبوعا إلا و نفقد شخصين او ثلاثة ، و في بعض الأحيان يتم إعدام خمسة اشخاص ، في يوم واحد ، بل عشرة اشخاص ذات يوم ، فيهم اب و إثنين من ابناءه !
لقد كان الموت كأنه مزحة ، نودع احدنا في الصباح ، و قبل العصر يأتينا نعيه !
****
و للسجانة طقوسهم في تنفيذ الإعدام ، ففي الصباح و مع اول شروق الشمس ، كانوا يرسلون قصاصة ورق صغيرة من مكتب المدير ، فيها اسماء من يريدون إعدامهم ، يدخل الحارس إلى القسم حاملا الورقة ، و بمجرد ان يراه الجميع يدركون ان هناك تنفيذ ” قبل التنفيذ لا يتم اخبار احد ” يطوف العسكري بين الزنازين باحثا عمن يريده ، بمجرد ان يشير عليه يفهم السجين انهم يريدونه ، ياخذ ملابسه و يغتسل في عجل ، و ياخذ مصحفه ” و مصلايه و مسبحه ” ثم يودع إخوانه ويعانقهم ، و يطلب منهم العفو و الدعاء ، و في تلك اللحظات يسود المكان صمت رهيب ، لا يقطعه إلا تكبير البعض و ترديدهم عبارات التثبيت و الدعاء ، ثم ياخذونه و يغلقون الباب ، بينما يعكف اخوانه بالاتصال لأهله ، و حثهم للقيام بعمل التاجيل ، يقضون بقية يومهم في الإتصالات مع المحامي و الدعاء ، إلى ان يرجع أخاهم ، و إن نفد امر الله ، يعزي بعضهم بعضا ، لكأن الجميع اهله و عشيرته ..
الصورة في سجن بورسودان 2019