صدر حديثا كتاب ادبي متخصص يقوم على فكرة تقريب الادب الاسلامي وادب السجون من خلال حوارات مع رموز ادبية لها وزنها في الادب والفكر كتاب حوارات في الادب الاسلامي وادب السجون قضايا وهموم للكاتب المغربي زكرياء بوغرارة يحاور ستة من وجوه الادب والمعرفة
الكتاب صدر عن دار مفكر للنشر والتوزيع في 150 صفحة من الحجم المتوسط.. في طبعته الاولى 2025
في عالم يزداد تعقيدًا وتشابكًا، حيث تتصارع الأفكار وتتنازع القيم، يبرز الأدب كأداة فاعلة للتعبير عن هموم الإنسان وقضاياه. وفي هذا السياق، يأتي كتاب “حوارات في الأدب الإسلامي وأدب السجون: هموم وقضايا” للكاتب زكرياء بوغرارة، ليكون إضافة نوعية إلى المكتبة العربية، حيث يفتح نافذة على عالمين متقاطعين: الأدب الإسلامي بأبعاده الفكرية والروحية، وأدب السجون بمعاناته الإنسانية العميقة. الأدب الإسلامي: بين الهوية والتحديات
يبدأ الكتاب بسلسلة من الحوارات مع نخبة من الأدباء والمفكرين الذين أثروا الساحة الفكرية والأدبية بإسهاماتهم المتميزة. من خلال هذه الحوارات، يتناول الكاتب قضايا جوهرية تتعلق بالأدب الإسلامي، مفهومه، همومه، وتحدياته. فالأدب الإسلامي ليس مجرد أدب يعبر عن قيم الإسلام وأخلاقه، بل هو أدب يعكس رؤية شاملة للكون والحياة، ويحمل رسالة إنسانية تسعى إلى إسعاد البشرية وهدايتها إلى طريق الرشد.
زكرياء بوغرارة
في حوار مع الأديب الفلسطيني جميل السلحوت، نتعرف على كيف أصبح أدب السجون جزءًا لا يتجزأ من الأدب الفلسطيني، حيث يعكس معاناة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال. كما يتناول الكتاب تجارب أدباء سوريين ومصريين خاضوا تجارب السجون، وكيف استطاعوا تحويل معاناتهم إلى أعمال أدبية تفضح انتهاكات الأنظمة القمعية. الحوارات: رحلة في أعماق الأدب والإنسان
في حوار مع الدكتور محمد حلمي القاعود، يتضح أن الأدب الإسلامي هو أدب أمة لها تصوراتها ومنظورها الخاص للكون والحياة. وهو ليس شيئًا جديدًا أو مستحدثًا، بل هو استمرار لأدب أمة تغيرت معتقداتها من الجاهلية إلى التوحيد. الأدب الإسلامي يعبر عن التصور الإسلامي للوجود، وهو تصور مفتوح وممتد في الزمان والمكان، يحمل في طياته قيم الوحدة والأخوة والإنسانية. أدب السجون: معاناة الإنسان في ظل القمع
بالإضافة إلى الأدب الإسلامي، يتناول الكتاب أدب السجون، الذي يعكس معاناة الإنسان في ظل القمع والاضطهاد. من خلال حوارات مع أدباء خاضوا تجارب السجون، نتعرف على كيف يصبح الأدب وسيلة للتعبير عن الألم والمقاومة. أدب السجون ليس مجرد أدب يعكس معاناة السجناء، بل هو أدب إنساني بامتياز، يكشف عن وحشية الأنظمة الديكتاتورية التي تسعى إلى الانتقام من المعارضين السياسيين.
ما يميز هذا الكتاب هو أنه ليس مجرد مجموعة من الحوارات الأدبية، بل هو رحلة في أعماق الأدب والإنسان. من خلال هذه الحوارات، نتعرف على رؤى الأدباء والمفكرين حول دور الأدب في تشكيل الوعي الإنساني، وكيف يمكن أن يكون أداة للتغيير والتحرر. الحوارات لا تقدم فقط رؤى نقدية وفكرية، بل تكشف أيضًا عن تجارب شخصية عميقة، خاصة في ما يتعلق بأدب السجون.
في حوار مع الدكتور عماد الدين خليل، نتعرف على كيف يمكن للأدب الإسلامي أن يكون جسرًا بين الأدب والإسلام، وكيف يمكن أن يعبر عن حقائق الإسلام ومعطياته. كما يتناول الكتاب قضايا أخرى مثل تباين النتاج الإسلامي للأجناس الأدبية، ودور الأدب في خدمة القضايا المعاصرة مثل الأقليات والأوبئة. الخاتمة: الأدب كأداة للتغيير
في زمن تشتد فيه التحديات وتتعقد القضايا، يأتي كتاب “حوارات في الأدب الإسلامي وأدب السجون: هموم وقضايا” ليكون مرجعًا لكل من يبحث عن فهم أعمق للأدب ودوره في تشكيل واقعنا المعاصر. الكتاب ليس مجرد مجموعة من الحوارات، بل هو دعوة للتفكير، والحوار، والتفاعل مع قضايا الإنسان في عالم مليء بالتناقضات والتحديات.
من خلال هذا العمل، يسلط زكرياء بوغرارة الضوء على دور الأدب في تشكيل الوعي الإنساني، وكيف يمكن أن يكون أداة للتغيير والتحرر. إنه كتاب يقدم رؤى عميقة حول الأدب الإسلامي وأدب السجون، ويكشف عن كيف يمكن للأدب أن يكون جسرًا بين الماضي والحاضر، وبين الذات والآخر.
في النهاية، يمكن القول إن هذا الكتاب هو إضافة قيمة إلى المكتبة العربية، حيث يقدم رؤى نقدية وفكرية عميقة، ويكشف عن تجارب إنسانية مؤثرة. إنه كتاب يستحق القراءة من قبل كل من يهتم بالأدب وقضايا الإنسان في عالمنا المعاصر.
المشهد الأول: قاعة واسعة من الطراز القديم، جدران بيضاء فقدت لونها بتراكم السنين والغبار والدخان، كنبات راسخة ومتينة تتدلى من زواياها شراشيب فقدت شكلها ونضارتها، آثار التعرق والاتساخ تبدو بوضوح على أيدي الكنبات المغطاة بنسيج داكن الخضرة، وصمت مهيب يخيم على رؤوس الرجال المتقاربين في إحدى الزوايا. تنحنح أبو شاهر وقال بلهجة صارمة ومتوعدة:
الفضيحة ما عاد ينسكت عليها، وسيرتنا صارت على لسان إللي بسوى واللي ما بسوى. وإذا ما عندك حل يا أبو برهم، أنا بخلي واحد من ولادي يغسل عار العيلة، بس أنا قلت هذه مش منيحة بحقكم، وإخوانها موجودين. قال أبو برهم عاتباً وغاضباً:
شو هالحكي يا أبو شاهر لو اخوانها قدروا يلاقوها قبل اليوم كان هي بعدها طيبة؟ اتطمنوا يا جماعة، عرفنا طريقها، وإنشاء لله ما بطلع عليها الصبح. وقف برهم والشرر يتطاير من عينيه وصوته:
أي قلة زلام ابّيت أبو برهم يا عمي؟! أنا الليلة رايح أجيب خبرها. قال أبو برهم مهدئاً:
أقعد يابا واهدا، انت متجوّز، وعندك ولاد ومسؤوليات، خلّي واحد من إخوانك يذبحها. رد برهم بيقين:
يابا اخواني صغار، ولساتهم بالمدارس، والله ما حدا بذبحها غيري. تدخل أبو شاهر وقال بلهجة آمرة ومتزنة، كمن اعتاد أن لا يردّ له طلب:
أبوك معه حق يا برهم، وانت مسؤول عن عيلة، وهاي أبوك زي ما انت شايف صحته على قدها. وما شاء لله! أخوك سليم شب. تذكر برهم زوجته وأولاده وقال بلهجة أكثر لينـاً:
بس يا عمي سليم عنده توجيهي هالسنة، واحنا بدنا إياه يكمل علمه. قال أبو برهم:
بلا توجيهي بلا كلام فاضي، هو لو كان فالح بالمدرسة، كان نجح السنة إللي فاتت. والتفت إلى سليم وقال بلهجة مهدده:
ها يابا يا سليم شو قلت؟ تلفت سليم حوله وهو يشعر بأن دائرة الحصار تلتف حول عنقه، تذكر سليم وجه مريم ونظرتها الحانية، كانت بمثابة أم وصديقة، رغم إنها تكبره بعام واحد فقط ، وخاصة بعد وفاة والدته. “كيف فعلت ذلك يا مريم”!! واكفهرّ وجهه وهو يتذكر بطنها المنتفخة، قبل أن تهرب من البيت. انتبه إلى صرخة أبيه:
ها ولـك شو قلت؟ رد سليم متلعثماً:
إللي بتشوفوه يابا أنا بساويه. كان يعرف سلفاً انه المرشح الوحيد لذبح أخته، فبرهم رغم هيجانه المعلن يعلم ان العائلة لن تفرّط بمصدر رزقها الوحيد، وهو حين يبالغ بالتهديد بأنه هو الذي سوف يذبح مريم، فإنما يريد أن يدفعه هو للقيام بالمهمة. قال أبو شاهر وهو يسحب مسدسه ويناوله لسليم:
خذ يا عمي يا نشمي! بدنا إياك تحط ست رصاصات بين عيونها هالكلبة. قال أبو برهم وهو يشعر بالتصاغر لأنه لا يمتلك مسدساً مثل أبو شاهر:
هاي ما بتستاهل الرصاصة، سليم يذبحها بالشبرية، مش هيك يابا؟ أعاد سليم يده الممدودة وهو يرتعش.. فقد تصور نفسه يطعن مريم بالشبرية، وهي تستغيث به، ودمها يغطي يديه وثيابـه:
إللي بتشوفـه يابـا. إنتبه إلى النظرات التي تحدق به من كل جانب، كان فيها الكثير من الإكبار والتشجيع. لم يسبق لكبار العائلة أن أولوه مثل هذا الاهتمام، بل كثيراً ما سخروا منه وعيّروه، لاهتمامه بمظهره ومطاردته للبنات، وخاصة بعد سقوطه في التوجيهي: “معلوم يا عمي الولد إتشبشب وعقله انتقل من راسه….” أصبح الآن مركز الاهتمام الذي تعول عليه العائلة لإنقاذ شرفها، استحضر بطن أخته المنتفخة ونظرات أهل الحارة له فأستقوى قائلاً:
هاي ما بتستاهل غير الذبح زي الغنمـة. غمر الجميع الارتياح.. قال ابو شاهر وابو برهم معا:
عفية عليك يا عمي، عفية عليك يابا. ** المشهد الثانـي: قاووش السجن واسع وكئيب، والشبابيك الضيقة عاليـة ومغطاة بالحديد والشبك القذر، الأسرة الحديدية ذات الطابقين تلتف بمحاذاة الجدران الرمادية على شكل حدوة حصان. في الفراغ المتبقي آنيـة قذرة للتبول الليلي وأكوام من البطانيات للذين ينامون على الأرض ولا يجدون مكاناً لهم فوق الأسرة إلا مقابل أجرة معلومة يدفعها المستجدون لـ(أبو الروس). وأبو الروس هو رئيس القاووش الذي لا يُرد له أمر، ومن يتجرأ مرة على الاعتراض فإن “روسيه” واحدة كفيلة بإقناع المعترض بأن الله حق. ولكنك تستطيع أن تكسب رضا أبو الروس ما دمت تدفع المعلوم فتحصل على سرير تنام عليه، وتعفى من عمليات التنظيف البشعة للقاووش وللحمامات والمراحيض القذرة. والحقيقة أن أبو الروس قلما يستخدم رأسه أو عضلاته لفرض ما يريد، ذلك أن المستجد ومنذ دخوله القاووش يستطيع أن يكتشف أن أبو الروس ، برأسه الضخم وجبهته الغليظة البارزة المليئة بالكدمات وآثار التشطيبات، هو قوة ماحقة لا ترد. خصوصاً وان عتاة المجرمين قد اضطروا قبله إلى الرضوخ لهذا الواقع، فما باله وهو الشاب المستجد. مند دخوله القاووش دب الذعر بقلب سليم، فقد استقبله أبو الروس بأسلوبه التحقيري المتسلط وبنظراته الهائلة وهو يقيسه من فوق لتحت:
إنت يا ولد! خذ بطانياتك ونام هناك في الزاوية. ولم يمهله:
والدور في التنظيف عليك اليوم، قومْ نظّـف القاووش. حاول سليم الاعتراض:
بس انا.. قاطعه ابو الروس بلهجة ماحقة:
قوم هز طولك ولا! وبلاش اقوم لك هه!
حاضر حاضر. وبنفس اللهجة المتسلطة أصدر أوامره للمستجدين الآخرين. ولم يملك أحد منهم في هذا الجو المرعب سوى الأمتثال لأوامر أبو الروس. في الليل لم يستطع سليم النوم فالأرض قاسية وروائح البطانيات والمساجين والبول تملأ المكان وأصوات الشخير غير المنتظمة تختلط بحركات وأصوات مريبة. لم يعرف سليم متى تمكن النوم منه حين صحا على حركة غريبة خلفه وجسد هائل يحشره إلى الحائط، وحين حاول أن يتفلت كانت قبضة قوية تغلق فمه بينما الأخرى تدفع سرواله إلى أسفل، حاول بكل قواه أن يصرخ أو يتحرك دون جدوى ، وجاءه صوت أبو الروس المتحشرج:
إذا ما بدك تمـوت، خليك ساكت، ما تخاف! وأنا ببسطك وبريحك.
المشهد الثالــث: ..بعد سنوات، في نفس القاعة الواسعة، إلا أن جدرانها قد أصبحت أكثر إصفراراً وتشققاً، والكنبات الخضراء الداكنة أكثر إهتراء وإتساخاً، لكنها كانت تغص بالهرج والأهل والضحكات. حين دخل سليم القاعة، بصحبة برهم، دبت الزغاريد وانطلقت التهاني وتدافع الأهل لعناق الغائب. كان أبو برهم قد مات، كما مات أبو شاهر. قال برهــم:
الحمدلله على سلامتك يا سليم! بيضت وجهنا. وقال شاهر :
والله زلمة يا سليم! رفعت راسنا. وترى لا تهكل هم، احنا رتبنالك كل شي الشغل والمره! واسمع قدام الجميع، انا اعطيتك بنت عمك: اختي سروة. (اصوات زغاريد) ام برهم: مبروك يما مبروك سروة زينة البنات. قالت ام شاهر بعدم رضا:
مبروك يا سليم والحمد الله على سلامتك. تابع شاهر بحماس:
ها شو قلت يا سليم؟ والعرس آخر الشهر؟ رد سليم بصوت انثوي:
تسلم يا شاهر! انا ممنون لك! قال شاهر ليملأ مساحة الصمت والحرج:
بس إنشالله ما تكون اتعبت كثير في السجن؟ رد سليم وعيناه تبرقان بصفاقة ومباهاة:
المكتبة الوطنية في العاصمة الرباط قدّمت مساء الجمعة سيرة صلاح الوديع “ميموزا – سيرة ناج من القرن العشرين”، للشاعر، والمعتقل السياسي في عهد “سنوات الرصاص”، وعضو “هيئة الإنصاف والمصالحة”.
في اللقاء الذي قدّمت فيه “السيرة”، ووثائقيٌّ حول مضمونها وحياة عائلة الوديع ذات الصيت السياسي والإنساني والأدبي، قال الشاهد الذي اعتُقل وعذّب في المعتقل نفسه الذي استقبل أباه محمد الوديع الآسفي سنوات قبله: “لم أنسَ، لكنني سامحت”.
وتابع الوديع: “أخذ مني هذا الكتاب سنوات… ففي الكتابة تبدأ شيئا فشيئا، ثم يصير الكتاب هو من يجرّ، بديناميته. والهاجس الأول لكتابة ‘ميموزا’ كان أن أكون ما أمكن موضوعيا إذا كانت هذه الكلمة ممكنة في الحديث عن سيرةٍ، وتذكر من عاشوا معي فيها. وعندي يقين بأن الذاكرة يجب أن يحافظ عليها، انطلاقا من مسؤولية تجاه الناس القادمين، لأننا جيل من الأجيال ولسنا وحدنا، ولكل أجل كتاب، وتوجد مسؤولية معنوية: أن تشهد. أما الهاجس الثالث فأن لا أكون ثقيلا على القارئ، وأن يكون الشكل الأدبي حاضرا، وتكون متعةٌ في القراءة”.
وزاد الكاتب ذاته: “حاولت أن أكون موضوعيا كما هو مطلوب من مؤرخ، ولو أنني لم أقم بعمل تأريخيّ، نهائيا؛ بل هو عمل أدبي يسترجع الذكريات، يمكن أن يدخل في باب السيرة. لكن ظروف حياتي جعلت تداخلا للشخصي بالأُسرَويّ وبالوطن”، مردفا: “إذن سيرة ‘ناجٍ من القرن العشرين’ توليفة، دون جفاف المؤرخ ولا الخيال المنساب للشاعر، أتمنى أن أكون نجحت فيها، لأضع القارئ في صورة ما وقع، لا للأسى على ما ضاع، بل لفتح أفق للمستقبل. والدليل أن الفصل الأخير موجه للأجيال الصاعدة، ووصية للمستقبل، سياسيا وفكريا واجتماعيا: جيلنا واجه هذه المعضلات، وهكذا حاول حلها، وجيلكم في ‘عالم ليس هو العالم’”.
هذه العالم “الجديد” من بين ما يسمه “جريمة فلسطين التي ليس لها اسم، والوضع الاقتصادي، ووضع أوروبا وكيف صارت في عيون الأفارقة والشعوب المستعمرة سابقا، وتحول كبير جدا من التحولات الكبرى في تاريخ البشرية”، وفق الشاهد الذي يقول في ختام سيرته: “هذا عالمكم عيشوه، وعايشوه، على أساس التشبث بدون تردد ونقاش بالوطن؛ لأنه من دونه لن نكون غير أشباح مشردين. وحياتُنا فوق هذا المغرب، وعليها أن تستمر، وعلينا أن نكافح من أجلها، ونحافظ على وحدتها، ونعمل من أجل عدالة اجتماعية، تجعل التراص عند الشعوب، والصمود أمام الامتحانات الكبرى القادمة”.
وتذكّر صلاح الوديع “أول درس في مواجهة العسف يوم اعتقل الوالد سنة 1963″، موردا: “أيقظتني أمي صباحا للبحث عنه لأنه ليست عادته الغياب، و(…) تحدثت مع الحارس وهي بنت 28 عاما، قائلة: أبحث عن زوجي، ‘فين دّيتوه؟’ (أي أين أخذتموه؟)”؛ كما تذكّر تشبّث الأم بأن زوجها وطني ولا حرج من اعتقالاته المتكرّرة، واستحضر مخاطبة والده له، وهو مازال طفلا، بأن ثمن الموقف هو السجن، وإن لم يتحقق ما يريده للوطن فإن على أبنائه في سبيل الموقف أن يصبروا على تأدية الثمن.
وعلّق الشاهد بقوله: “ربما كان لدي حظ التعرض لامتحانات وأنا طفل (…) والوطن ليس فندقا، بل كيان ومسار، وتاريخ ومستقبل، ويسائل في كل لحظة شخصاً… ويمكن أن يعطي الإنسان ما يمكن أن يعطيه، ولا يمكن أن يقول لا”.
وفي مرحلة ما بعد “الاعتقال السياسي” تحدّث الوديع عن “المنظمة المغربية لحقوق الإنسان”، حيث “تتلمذت على حقوق الإنسان، ووجدت أناسا مقتنعين بها، مع اختلافات طبيعية، ومن 1988 إلى 1999 اشتغلنا إلى وقت ظهور الفكرة”، وواصل: “للحقيقة والإنصاف أول من طرح فكرة ‘هيئة بين الحقيقة والإنصاف’ هو الراحل إدريس بنزكري، ولقينا استجابة مباشرة بعد تأسيس ‘منتدى الحقيقة والإنصاف’ سنة 1999. وفي مارس وأبريل 2000 بدأ الحوار، وتم إنضاج الفكرة على مهل إلى أن وجدت طريقها للتحقق في يناير 2004”.
وعاد الشاعر بذاكرته إلى علاقته بـ”الإنصاف والمصالحة”، قائلا: “فهمت أن هذه فكرة جديدة، تتطلب روحا جديدة، وتعاملا جديدا، مع بنزكري، وهذا كان درسا في الواقع بالنسبة لي شخصيا”.
ويرى الشاهد أن درس “الإنصاف والمصالحة” ومراحل أخرى هو أن “كل دولةٍ محافظةٌ بطبيعتها على ما هو موجود، فيما المجتمع والمفكرون والأدباء والنشطاء يعطون دينامية تنعكس ويجب أن تنعكس في مؤسسات الدولة…”، واسترسل: “يجب تسجيل السلاسة التي تم بها هذا، وكانت تجربة ‘الإنصاف والمصالحة’ بالمغرب من التجارب الخمس الرائدة في العالم من بين 60 تجربة. يمكن أن نختلف حول المنعطفات والأزمات، لكن يجب أن نشهد للتاريخ بما حدث”.
وتفاعلا مع سؤال من الحضور حول “المبالغة في المؤسسات الرسمية المهتمة بحقوق الإنسان” لم يتفق صلاح الوديع مع التشخيص، وأجاب: “نحن في حاجة ليس فقط إلى آليات للحماية، بل أيضا إلى آليات للنهوض… ومازلنا نحتاج إلى ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان في بلادنا، واحترام النساء والمساواة والإقرار بحقوق الأطفال، ومسائل على المستوى الاجتماعي، وحماية المجتمع من السياسات غير المناسبة للحكومات”، ثم ختم بقوله: “المجتمعات تتقدم بدينامية مؤسساتها، وأحزابها ونقاباتها، ولا يمكن أن ننكر الأمر. ولا إطناب في المؤسسات اليوم، بل مازلنا في حاجة إليها”.سنوات الرصاصسيرة داتيةصلاح الوديع
شيد السجن في عهد السلطان إسماعيل (1672 1727) وبينما كان السلطان يستقبل ضيوفه في القبة فوق الأرض، كان المساجين تحتها يفترشون الأرض ويعيشون أياما بائسة دون أمل في انفراج، ويرجح أن يكون السرداب قد بني في البداية ليكون مخزنا للمؤونة في وقت الأزمات خاصة أن السلطان خاض حروبا في مواجهة القبائل الخارجة على سلطته ثم تم تحويل المخزن بعد ذلك إلى سجن لمعارضيه ومرتكبي الجرائم الكبيرة والأسرى، والذي يؤكد أن هذا السرداب كان يؤدي وظيفة أخرى أنه أصبح في فترات مختلفة بعد مرحلة السلطان إسماعيل مخزنا للمؤونة
وهناك عدة شهادات حول السجن منها شهادة الأسير الفرنسي مويط (كان أسيرا في بداية حكم السلطان إسماعيل) حكى فيها الظروف الصعبة التي عاشها في السجن، وكيف كانوا يعملون طيلة النهار حتى تنهك أجسادهم تحت إشراف حراس قساة يمعنون في التنكيل بهم.
وكتب المؤرخ المغربي عبد الرحمن بن زيدان عن هذا السجن في كتابه “إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس” حيث قال “إنه كان من جملة السجون المعدة للأسارى وغيرهم من أصحاب الجرائم العظيمة، يبيتون به ليلا ويخرجون نهارا للخدمة. استعمال المساجين في الخدمة نهارا وجعلهم بالسجن ليلا هو ما يفعله الاستعمار الفرنسي مع المساجين من الأهالي وكأنه أخذ ذلك من فعل المولى إسماعيل”.
اختلف الباحثون في تحديد أصل تسمية سجن قارة، فهناك من يقول إنه يحمل اسم سجين برتغالي وعده السلطان إسماعيل بنيل حريته إن استطاع بناء سرداب متين تحت الأرض، في حين يرجع آخرون أصل التسمية إلى فترة الحماية الفرنسية حين اتخذه المستعمر سجنا للأهالي وكان حارسه أقرع، فعرف السجن بصفته تلك بعد تحريفها كون الفرنسيين لا ينطقون حرف العين فصار قارة.
ولم يكن للسجن باب للدخول عند بنائه وكان السجناء ينزلون إليه عبر سلم من حبال من ثقب كبير قرب قبة السفراء ومن الثقب نفسه يدخل الضوء والهواء وأيضا الطعام.
ويتناقل أهل مكناس قصصا غريبة ومبالغا فيها عن هذا المكان، فيتداولون روايات شفوية عن حدوده التي تمتد إلى مدينة تازة، وأن السجن كان يستوعب 40 ألف سجين، وقسم من الناس نسج حوله اساطير وعن اختفاء عدد من الزوار في متاهاته المعقدة وعن أرواح المساجين القلقة التي لا تزال تسكنه وتصرخ كل ليلة داخله.
يقع بمدينة مكناس تحت الأرض في الساحة المقابلة لقبة السفراء هو واحد من أكثر السجون المغربية غموضا وإثارة للخوف.. ينزل الزائر إليه تحت الأرض عبر أدراج ضيقة، تلف الظلمة المكان إلا من خيوط رفيعة من أشعة الشمس تتسلل محتشمة عبر ثقوب في السقف لتضفي على المكان هالة من الرهبة.
هو سجن مفتوح بلا أبواب ولا زنازين، صمم على شكل يشبه المستطيل، ومقسم إلى 3 قاعات واسعة في كل واحدة منها مجموعة من الأقواس والدعامات الضخمة.
حبس قارة أو السرداب أو المطبق الإسماعيلي أو الدهليز.. كلها أسماء لهذا المكان تناسلت حكايات وإشاعات حوله، ونسجت أساطير ما زالت تلاحقه وتوصيف مرعب يلفه “الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود”.
وتحوّل السجن التاريخي إلى مزار سياحي يجذب الأجانب قبل المغاربة.
مروان حديد (ت 1976م) ، قائد أول ثورة إسلامية مسلحة في سوريا ضد حزب البعث والطائفة النصيرية الحاكمة .
في مواجهة سياسات القمع الوحشي الممنهج، ظهرت حركة معارضة مسلحة بقيادة مروان حديد الذي انشق عن جماعة الإخوان المسلمين وتبنّى العمل المسلح الاسلامي ، وأطلقت هذه المجموعة على نفسها اسم “الطليعة المقاتلة”، وبدأت في تنفيذ سلسلة من الاغتيالاتو العمل الفدائي ضد رموز النظام النصيري .
وبلغ التصعيد ذروته في عملية مدرسة المدفعية في الراموسة بحلب بقيادة إبراهيم اليوسف وعدنان عقلة ، حيث قتل 250 ضابط نصيري من أصل 270 كانوا متواجدين بالمدرسة..
لم تكن السلطة البعثية الغاشمة بغافلة أو متغافلة عن تحركاته ونشاطه بل كان همها الوحيد أن تلاحقه وتراقبه في كل مكان وزمان، ومروان هو مروان لم يتوانَ لحظة واحدة عن الاستمرار في الطريق الذي نذر له روحه وحياته ودائماً ما كانَ يُردد كلمته المشهورة المقتبسة من الحديث الشريف: (لموتٌ في طاعة الله خيرٌ من حياةٍ في معصيته)، وكانت أحاديثه كلها تدورُ حول الصبر والمصابرة ومقارعة الأعداء، وأنّ من كانوا قبلنا يؤتى بأحدهم فيمشَّطُ بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه ويوضع المنشار على مفرق رأسه حتى يكون نصفين ما يصدهم ذلك عن دينهم، وكان يبشِّرُ بالنصر ويعتقدُ أن النصرَ مع الإيمان، ويستشهد بالآية الكريمة (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة)، أي بالممكن منها حتى ولو كانت عصا فقط فالله تكفَّلَ بالنصر إذا صدق العبدُ ربَّه .
اعتقلت المخابرات الجوية مروان حديد في 30 حزيران سنة 1975 بعد أن قضى عدة سنوات يتنقل في الخفاء هرباً منها .
ولم يكن هناك محاكمةٌ سريةٌ أو علنيةٌ لمروان وإنما كان التحقيق المعروف لدى رجال المباحث والمختصين بشئون التعذيب والتصفية الجسدية، ومروان قويُّ البنية والشكيمة، صعبَ المنال لا يبالي أن يقاوم حتى لو كانت يديه في القيود فاتبعوا معه أسلوباً جديداً في التعذيب النفسي والجسدي، أما النفسي فكانوا يُسمعونَه أصواتاً كصوت زوجته وهي تعذب وكأنما يُرادَ اغتصابها حتى أنهكوه .
تعرض مروان للتعذيب بالأضواء المبُهِرة وكان أعظمَ وأَشدَّ تعذيبا على نفسه، وإن أخسَّ ما اتبعوه معه من وسائل قذرة واستطاعوا أن يكبلوا به قواه ويحدوا من مقاومته هو كشف قُبُلِهِ ودبُرِه، ومروان معروف بشدة حيائه وخجله فإذا دخلوا عليه الزنزانة انكمش على نفسه ليتستر عورته التي أرادوا كشفها وأراد الله سترها، ويستغلوا هذه الحالة ليكيلوا له صنوف التعذيب، بهذه الطريقة تمكنوا من السيطرة على مروان وإلا ليكيل لهم الكلمة بكلمة والصاع بصاعين، ثم قطعوا عنه الطعام وأجاعوه حتى خارت قواه، وأحياناً كانوا يقدمون له الطعام بعد أن يمزجوه أمام ناظريه بالأقذار، فصار يأبى أن يأكل من هذا الطعام القذر .
مروان صاحب الطول الفارع والجسد الممتلئ والقبضة الحديدية ينقُلُ عنه أحد الذين شاهدوه أخيراً وهو بحالة هو فيها أقرب إلى الهيكل العظمي منه إلى الجسد العادي، ويقول مروان لهذا بعد أن سقاه لبناً بيده فتقيأه لأن معدته لم تعد تحتملُ حتى اللبن، وكان يغيب عن الوعي لفترات متقطعة ويصحو، وبعد أن صحا قليلاً من غيبوبته قال لهذا الأخ : (انقل عنّي وقل للناس أن هؤلاء الكلاب «ويعني بهم المحققين» أنهم لم يحصلوا مني على كلمة واحدة تُشفى بها صدورهم).
ثم بعد ذلك ساءت حالته الصحية إلى درجة يئست السلطة منه فأرادت أن تُخفي جريمتها، فنقلوا مروان إلى مستشفى حرستا العسكري وطلب أسد منهم أن يأتوا بأخيه الدبلوماسي كنعان ليكون كما أراد الأشرار شاهداً من أهله أنه كان مضرباً عن الطعام، وأنه حالته تردت بسبب امتناعه عن الطعام، ومروان قد أعياه الجوع وأضناه الجهد وهبط ضغطه، فكان أخوه يتوسل إليه أن يأكل ويشرب فيرفض لكثرة ما رأى من تلويث الطعام والماء بالبول والغائط وقد أخبره مروان بذلك، ومع ذلك وافق مروان على طلب أخيه بأن يأكل بشرط، فقال : – يا أخي أشرب وآكل بشرطين، أحدهما أن يكون الماء من حماه والثاني تعدني أن تصلي ، وكان كنعان لا يُصلّي .
– فقال له أخوه كنعان : كُلْ وأُصَلّي .. وأكل مروان وشرب ماء حماة، ووفّى كنعان بوعده وصار مصلياً عابداً لله بعدما رأى ما رأى من حال أخيه .
وبدأت صحة مروان في التحسن، وبدأ ضغطه يعود إلى الوضع الطبيعي، وعاد إلى الحديث مع أهله الذين استبشروا خيراً .
وفي مساء أحد الأيام عاد إليه أهله ليجدوه يجود بروحه الطاهرة وقد أشار إليهم بإصبعه إلى رقبته وأنه قد أعطي حقنة في عنقه، وإذ بالأجهزة الطبية تشير إلى أن ضغطه أخذ يهبط من جديد وأن حالته صارت تسوء وتسوء، ثم فاضت روحه طاهرة زكيه إلى بارئها لتلتقي مع ركب الشهداء باذن الله الذين سبقوه ويستبشرون بقدومه كما هو يستبشر بقدوم إخوانه من خلفه ولا حول ولا قوة إلا بالله .
لقد توفى في سجن المزة العسكري في شهر 6/1976
استشهد مروان باذن الله ولم يُسمح لأهله بدفنه في حماة، فدُفِنَ في دمشق في مقبرة الباب الصغير تحت حراسة الأمن المشددة التي أحاطت بالمكان، وبعد دفنه بقيت الحراسة على القبر شهوراً حيث كانوا يعتقلون كل من يزور القبر .
المراجع :
1. **”الثورة الإسلامية المسلحة في سوريا”** للمؤلف: عدنان سعد الدين. 2. **”الصراع على الإسلام في سوريا”** للمؤلف: حازم صاغية. 3. **”الطليعة المقاتلة في سوريا: مذكرات أيمن الشربجي”** 4. **”حماة مأساة العصر”** للمؤلف: بسام جعارة.