أرشيف يوم: أبريل 16, 2025

الســـــجن للرجـــال قصة: نزيه أبو نضـال

المشهد الأول:
قاعة واسعة من الطراز القديم، جدران بيضاء فقدت لونها بتراكم السنين والغبار والدخان، كنبات راسخة ومتينة تتدلى من زواياها شراشيب فقدت شكلها ونضارتها، آثار التعرق والاتساخ تبدو بوضوح على أيدي الكنبات المغطاة بنسيج داكن الخضرة، وصمت مهيب يخيم على رؤوس الرجال المتقاربين في إحدى الزوايا.
تنحنح أبو شاهر وقال بلهجة صارمة ومتوعدة:

  • الفضيحة ما عاد ينسكت عليها، وسيرتنا صارت على لسان إللي بسوى واللي ما بسوى. وإذا ما عندك حل يا أبو برهم، أنا بخلي واحد من ولادي يغسل عار العيلة، بس أنا قلت هذه مش منيحة بحقكم، وإخوانها موجودين.
    قال أبو برهم عاتباً وغاضباً:
  • شو هالحكي يا أبو شاهر لو اخوانها قدروا يلاقوها قبل اليوم كان هي بعدها طيبة؟
    اتطمنوا يا جماعة، عرفنا طريقها، وإنشاء لله ما بطلع عليها الصبح.
    وقف برهم والشرر يتطاير من عينيه وصوته:
  • أي قلة زلام ابّيت أبو برهم يا عمي؟! أنا الليلة رايح أجيب خبرها.
    قال أبو برهم مهدئاً:
  • أقعد يابا واهدا، انت متجوّز، وعندك ولاد ومسؤوليات، خلّي واحد من إخوانك يذبحها.
    رد برهم بيقين:
  • يابا اخواني صغار، ولساتهم بالمدارس، والله ما حدا بذبحها غيري.
    تدخل أبو شاهر وقال بلهجة آمرة ومتزنة، كمن اعتاد أن لا يردّ له طلب:
  • أبوك معه حق يا برهم، وانت مسؤول عن عيلة، وهاي أبوك زي ما انت شايف صحته على قدها. وما شاء لله! أخوك سليم شب.
    تذكر برهم زوجته وأولاده وقال بلهجة أكثر لينـاً:
  • بس يا عمي سليم عنده توجيهي هالسنة، واحنا بدنا إياه يكمل علمه.
    قال أبو برهم:
  • بلا توجيهي بلا كلام فاضي، هو لو كان فالح بالمدرسة، كان نجح السنة إللي فاتت.
    والتفت إلى سليم وقال بلهجة مهدده:
  • ها يابا يا سليم شو قلت؟
    تلفت سليم حوله وهو يشعر بأن دائرة الحصار تلتف حول عنقه، تذكر سليم وجه مريم ونظرتها الحانية، كانت بمثابة أم وصديقة، رغم إنها تكبره بعام واحد فقط ، وخاصة بعد وفاة والدته. “كيف فعلت ذلك يا مريم”!! واكفهرّ وجهه وهو يتذكر بطنها المنتفخة، قبل أن تهرب من البيت.
    انتبه إلى صرخة أبيه:
  • ها ولـك شو قلت؟
    رد سليم متلعثماً:
  • إللي بتشوفوه يابا أنا بساويه.
    كان يعرف سلفاً انه المرشح الوحيد لذبح أخته، فبرهم رغم هيجانه المعلن يعلم ان العائلة لن تفرّط بمصدر رزقها الوحيد، وهو حين يبالغ بالتهديد بأنه هو الذي سوف يذبح مريم، فإنما يريد أن يدفعه هو للقيام بالمهمة.
    قال أبو شاهر وهو يسحب مسدسه ويناوله لسليم:
  • خذ يا عمي يا نشمي! بدنا إياك تحط ست رصاصات بين عيونها هالكلبة.
    قال أبو برهم وهو يشعر بالتصاغر لأنه لا يمتلك مسدساً مثل أبو شاهر:
  • هاي ما بتستاهل الرصاصة، سليم يذبحها بالشبرية، مش هيك يابا؟
    أعاد سليم يده الممدودة وهو يرتعش.. فقد تصور نفسه يطعن مريم بالشبرية، وهي تستغيث به، ودمها يغطي يديه وثيابـه:
  • إللي بتشوفـه يابـا.
    إنتبه إلى النظرات التي تحدق به من كل جانب، كان فيها الكثير من الإكبار والتشجيع. لم يسبق لكبار العائلة أن أولوه مثل هذا الاهتمام، بل كثيراً ما سخروا منه وعيّروه، لاهتمامه بمظهره ومطاردته للبنات، وخاصة بعد سقوطه في التوجيهي: “معلوم يا عمي الولد إتشبشب وعقله انتقل من راسه….” أصبح الآن مركز الاهتمام الذي تعول عليه العائلة لإنقاذ شرفها، استحضر بطن أخته المنتفخة ونظرات أهل الحارة له فأستقوى قائلاً:
  • هاي ما بتستاهل غير الذبح زي الغنمـة.
    غمر الجميع الارتياح.. قال ابو شاهر وابو برهم معا:
  • عفية عليك يا عمي، عفية عليك يابا. ** المشهد الثانـي: قاووش السجن واسع وكئيب، والشبابيك الضيقة عاليـة ومغطاة بالحديد والشبك القذر، الأسرة الحديدية ذات الطابقين تلتف بمحاذاة الجدران الرمادية على شكل حدوة حصان. في الفراغ المتبقي آنيـة قذرة للتبول الليلي وأكوام من البطانيات للذين ينامون على الأرض ولا يجدون مكاناً لهم فوق الأسرة إلا مقابل أجرة معلومة يدفعها المستجدون لـ(أبو الروس). وأبو الروس هو رئيس القاووش الذي لا يُرد له أمر، ومن يتجرأ مرة على الاعتراض فإن “روسيه” واحدة كفيلة بإقناع المعترض بأن الله حق. ولكنك تستطيع أن تكسب رضا أبو الروس ما دمت تدفع المعلوم فتحصل على سرير تنام عليه، وتعفى من عمليات التنظيف البشعة للقاووش وللحمامات والمراحيض القذرة. والحقيقة أن أبو الروس قلما يستخدم رأسه أو عضلاته لفرض ما يريد، ذلك أن المستجد ومنذ دخوله القاووش يستطيع أن يكتشف أن أبو الروس ، برأسه الضخم وجبهته الغليظة البارزة المليئة بالكدمات وآثار التشطيبات، هو قوة ماحقة لا ترد. خصوصاً وان عتاة المجرمين قد اضطروا قبله إلى الرضوخ لهذا الواقع، فما باله وهو الشاب المستجد. مند دخوله القاووش دب الذعر بقلب سليم، فقد استقبله أبو الروس بأسلوبه التحقيري المتسلط وبنظراته الهائلة وهو يقيسه من فوق لتحت:
    • إنت يا ولد! خذ بطانياتك ونام هناك في الزاوية.
      ولم يمهله:
  • والدور في التنظيف عليك اليوم، قومْ نظّـف القاووش.
    حاول سليم الاعتراض:
  • بس انا..
    قاطعه ابو الروس بلهجة ماحقة:
  • قوم هز طولك ولا! وبلاش اقوم لك هه!
  • حاضر حاضر.
    وبنفس اللهجة المتسلطة أصدر أوامره للمستجدين الآخرين. ولم يملك أحد منهم في هذا الجو المرعب سوى الأمتثال لأوامر أبو الروس.
    في الليل لم يستطع سليم النوم فالأرض قاسية وروائح البطانيات والمساجين والبول تملأ المكان وأصوات الشخير غير المنتظمة تختلط بحركات وأصوات مريبة.
    لم يعرف سليم متى تمكن النوم منه حين صحا على حركة غريبة خلفه وجسد هائل يحشره إلى الحائط، وحين حاول أن يتفلت كانت قبضة قوية تغلق فمه بينما الأخرى تدفع سرواله إلى أسفل، حاول بكل قواه أن يصرخ أو يتحرك دون جدوى ، وجاءه صوت أبو الروس المتحشرج:
  • إذا ما بدك تمـوت، خليك ساكت، ما تخاف! وأنا ببسطك وبريحك.

المشهد الثالــث:
..بعد سنوات، في نفس القاعة الواسعة، إلا أن جدرانها قد أصبحت أكثر إصفراراً وتشققاً، والكنبات الخضراء الداكنة أكثر إهتراء وإتساخاً، لكنها كانت تغص بالهرج والأهل والضحكات.
حين دخل سليم القاعة، بصحبة برهم، دبت الزغاريد وانطلقت التهاني وتدافع الأهل لعناق الغائب.
كان أبو برهم قد مات، كما مات أبو شاهر.
قال برهــم:

  • الحمدلله على سلامتك يا سليم! بيضت وجهنا.
    وقال شاهر :
  • والله زلمة يا سليم! رفعت راسنا. وترى لا تهكل هم، احنا رتبنالك كل شي الشغل والمره! واسمع قدام الجميع، انا اعطيتك بنت عمك: اختي سروة.
    (اصوات زغاريد)
    ام برهم: مبروك يما مبروك سروة زينة البنات.
    قالت ام شاهر بعدم رضا:
  • مبروك يا سليم والحمد الله على سلامتك.
    تابع شاهر بحماس:
  • ها شو قلت يا سليم؟ والعرس آخر الشهر؟
    رد سليم بصوت انثوي:
  • تسلم يا شاهر! انا ممنون لك!
    قال شاهر ليملأ مساحة الصمت والحرج:
  • بس إنشالله ما تكون اتعبت كثير في السجن؟
    رد سليم وعيناه تبرقان بصفاقة ومباهاة:
  • ولا يهمـك يا شاهر! السجن للرجـال

موقع الصفصاف

الوديع يقدم “ميموزا ـ سيرة ناج من القرن العشرين”

هسبريس – وائل بورشاشن

المكتبة الوطنية في العاصمة الرباط قدّمت مساء الجمعة سيرة صلاح الوديع “ميموزا – سيرة ناج من القرن العشرين”، للشاعر، والمعتقل السياسي في عهد “سنوات الرصاص”، وعضو “هيئة الإنصاف والمصالحة”.

في اللقاء الذي قدّمت فيه “السيرة”، ووثائقيٌّ حول مضمونها وحياة عائلة الوديع ذات الصيت السياسي والإنساني والأدبي، قال الشاهد الذي اعتُقل وعذّب في المعتقل نفسه الذي استقبل أباه محمد الوديع الآسفي سنوات قبله: “لم أنسَ، لكنني سامحت”.

وتابع الوديع: “أخذ مني هذا الكتاب سنوات… ففي الكتابة تبدأ شيئا فشيئا، ثم يصير الكتاب هو من يجرّ، بديناميته. والهاجس الأول لكتابة ‘ميموزا’ كان أن أكون ما أمكن موضوعيا إذا كانت هذه الكلمة ممكنة في الحديث عن سيرةٍ، وتذكر من عاشوا معي فيها. وعندي يقين بأن الذاكرة يجب أن يحافظ عليها، انطلاقا من مسؤولية تجاه الناس القادمين، لأننا جيل من الأجيال ولسنا وحدنا، ولكل أجل كتاب، وتوجد مسؤولية معنوية: أن تشهد. أما الهاجس الثالث فأن لا أكون ثقيلا على القارئ، وأن يكون الشكل الأدبي حاضرا، وتكون متعةٌ في القراءة”.

وزاد الكاتب ذاته: “حاولت أن أكون موضوعيا كما هو مطلوب من مؤرخ، ولو أنني لم أقم بعمل تأريخيّ، نهائيا؛ بل هو عمل أدبي يسترجع الذكريات، يمكن أن يدخل في باب السيرة. لكن ظروف حياتي جعلت تداخلا للشخصي بالأُسرَويّ وبالوطن”، مردفا: “إذن سيرة ‘ناجٍ من القرن العشرين’ توليفة، دون جفاف المؤرخ ولا الخيال المنساب للشاعر، أتمنى أن أكون نجحت فيها، لأضع القارئ في صورة ما وقع، لا للأسى على ما ضاع، بل لفتح أفق للمستقبل. والدليل أن الفصل الأخير موجه للأجيال الصاعدة، ووصية للمستقبل، سياسيا وفكريا واجتماعيا: جيلنا واجه هذه المعضلات، وهكذا حاول حلها، وجيلكم في ‘عالم ليس هو العالم’”.

هذه العالم “الجديد” من بين ما يسمه “جريمة فلسطين التي ليس لها اسم، والوضع الاقتصادي، ووضع أوروبا وكيف صارت في عيون الأفارقة والشعوب المستعمرة سابقا، وتحول كبير جدا من التحولات الكبرى في تاريخ البشرية”، وفق الشاهد الذي يقول في ختام سيرته: “هذا عالمكم عيشوه، وعايشوه، على أساس التشبث بدون تردد ونقاش بالوطن؛ لأنه من دونه لن نكون غير أشباح مشردين. وحياتُنا فوق هذا المغرب، وعليها أن تستمر، وعلينا أن نكافح من أجلها، ونحافظ على وحدتها، ونعمل من أجل عدالة اجتماعية، تجعل التراص عند الشعوب، والصمود أمام الامتحانات الكبرى القادمة”.

وتذكّر صلاح الوديع “أول درس في مواجهة العسف يوم اعتقل الوالد سنة 1963″، موردا: “أيقظتني أمي صباحا للبحث عنه لأنه ليست عادته الغياب، و(…) تحدثت مع الحارس وهي بنت 28 عاما، قائلة: أبحث عن زوجي، ‘فين دّيتوه؟’ (أي أين أخذتموه؟)”؛ كما تذكّر تشبّث الأم بأن زوجها وطني ولا حرج من اعتقالاته المتكرّرة، واستحضر مخاطبة والده له، وهو مازال طفلا، بأن ثمن الموقف هو السجن، وإن لم يتحقق ما يريده للوطن فإن على أبنائه في سبيل الموقف أن يصبروا على تأدية الثمن.

وعلّق الشاهد بقوله: “ربما كان لدي حظ التعرض لامتحانات وأنا طفل (…) والوطن ليس فندقا، بل كيان ومسار، وتاريخ ومستقبل، ويسائل في كل لحظة شخصاً… ويمكن أن يعطي الإنسان ما يمكن أن يعطيه، ولا يمكن أن يقول لا”.

وفي مرحلة ما بعد “الاعتقال السياسي” تحدّث الوديع عن “المنظمة المغربية لحقوق الإنسان”، حيث “تتلمذت على حقوق الإنسان، ووجدت أناسا مقتنعين بها، مع اختلافات طبيعية، ومن 1988 إلى 1999 اشتغلنا إلى وقت ظهور الفكرة”، وواصل: “للحقيقة والإنصاف أول من طرح فكرة ‘هيئة بين الحقيقة والإنصاف’ هو الراحل إدريس بنزكري، ولقينا استجابة مباشرة بعد تأسيس ‘منتدى الحقيقة والإنصاف’ سنة 1999. وفي مارس وأبريل 2000 بدأ الحوار، وتم إنضاج الفكرة على مهل إلى أن وجدت طريقها للتحقق في يناير 2004”.

وعاد الشاعر بذاكرته إلى علاقته بـ”الإنصاف والمصالحة”، قائلا: “فهمت أن هذه فكرة جديدة، تتطلب روحا جديدة، وتعاملا جديدا، مع بنزكري، وهذا كان درسا في الواقع بالنسبة لي شخصيا”.

ويرى الشاهد أن درس “الإنصاف والمصالحة” ومراحل أخرى هو أن “كل دولةٍ محافظةٌ بطبيعتها على ما هو موجود، فيما المجتمع والمفكرون والأدباء والنشطاء يعطون دينامية تنعكس ويجب أن تنعكس في مؤسسات الدولة…”، واسترسل: “يجب تسجيل السلاسة التي تم بها هذا، وكانت تجربة ‘الإنصاف والمصالحة’ بالمغرب من التجارب الخمس الرائدة في العالم من بين 60 تجربة. يمكن أن نختلف حول المنعطفات والأزمات، لكن يجب أن نشهد للتاريخ بما حدث”.

وتفاعلا مع سؤال من الحضور حول “المبالغة في المؤسسات الرسمية المهتمة بحقوق الإنسان” لم يتفق صلاح الوديع مع التشخيص، وأجاب: “نحن في حاجة ليس فقط إلى آليات للحماية، بل أيضا إلى آليات للنهوض… ومازلنا نحتاج إلى ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان في بلادنا، واحترام النساء والمساواة والإقرار بحقوق الأطفال، ومسائل على المستوى الاجتماعي، وحماية المجتمع من السياسات غير المناسبة للحكومات”، ثم ختم بقوله: “المجتمعات تتقدم بدينامية مؤسساتها، وأحزابها ونقاباتها، ولا يمكن أن ننكر الأمر. ولا إطناب في المؤسسات اليوم، بل مازلنا في حاجة إليها”.سنوات الرصاصسيرة داتيةصلاح الوديع