أرشيف شهر: نوفمبر 2025

إلى لقاءٍ قريبٍ أخي مصطفى

“أكثروا من ذكر هادم اللذات…”

صحيح، إن الموت هادم اللذات…نطلق لأنفسنا العنان في التخطيط للمستقبل القريب ونغفل عن المستقبل البعيد..نهيم في رسم الأحلام حتى نستيقظ على كابوس مرور العمر بسرعة واقتراب موعد الرحيل…

لكن بمجرد تذكر الموت..نجمل في الطلب، ونوقن أن الحياة الحقيقية هي التي نحياها ما بعد الموت.

ومن جديد يخطف الموت على حين غفلة منا أحد إخواننا من مجموعة ال71..الدور هذه المرة كان على أخينا مصطفى الراجي.

اليوم، فقدت أخًا عزيزًا، رافقني طيلة فترة الاعتقال داخل المجموعة التي حوكمت بالمؤبد، فقد كان من قدرنا أن يطال حكم المؤبد 21 من افراد المجموعة.

تعرفت على مصطفى الراجي رحمة الله عليه فلامست شخصيته المرحة عندما تمت إحالتنا من السجن السري بدرب مولاي الشريف إلى السجن المدني بالدار البيضاء “أغبيلة” حين جرى توزيعنا على الزنازن بعد يوم متعب..دلفنا إلى الزنزانة رقم 16 بالحي الأوروبي مرهقين، فوجدنا مصطفى الراجي جالسًا وظهره إلى جدار الزنزانة، وقد أكل خبزة كانت موضوعة على رف الزنزانة… كان الجوع قد أخذ منا مأخذه… وعندما دخلنا عليه أجهز على الباقي إلا قليلاً كان يتهيأ لإرساله إلى مثواه الأخير… فبادرناه أن الخبزة هي من نصيب الجميع… رد في ابتسامة سوف ترافقه طيلة حياته “أنا لقيتها وسحاب ليا ديالي بوحدي” فنمنا تلك الليلة على بطن فارغة إلى الصباح.

عندما تلتقيه رحمه الله كان يلقي إليك بكلمة ساخرة تنسيك هموم السجن، بل كان رحمه الله يتصرف كأنه في مصطاف او مخيم مع إخوانه..وليس في السجن، وأكيد أن لكل من عاشره حكاية أو أكثر حول الموضوع.

اعتقل رحمة الله عليه بعدما قامت فصيلة الجهاد في يونيو 1983 بتعليق اللافتات والكتابة على الجدران في كل من المحمدية والبرنوصي..وتصادف أن صلى مصطفى في أحد مساجد الحي المحمدي بالدار البيضاء الذي ألقيت فيه المناشير… دفعه فضوله إلى أن يلتقط أحدها ودسه في جيبه ليقرأه فيما بعد. امتطى مصطفى دراجته النارية، وفي طريقه إلى منزله بحي جوادي أردف معه خياطًا ملتحيًا… كانت الدار البيضاء في حالة استنفار أمني، حيث سدود رجال الأمن تترصد المشتبه فيهم داخل المدينة.

مصطفى يقود دراجته النارية وخلفه الشخص الملتحي… وأمامه حاجز تفتيش لرجال الأمن…أوقف الشرطي مصطفى وعينه على الرجل الملتحي رديفه.. فلما هم هذا الأخير بتقديم أوراق دراجته النارية للشرطي، إذا به يخرج المنشور الذي كان قد دسه في جيبه..حاول المسكين أن يرجعه بسرعة، لكن الشرطي لاحظ ذلك، فأصر على معرفة ما في الورقة..أخذها وتفحصها فإذا به منشور “تحريضي”..

لقد وقع الشرطي على صيد ثمين، وسرعان ما ساق الكل إلى أقرب مفوضية للشرطة، فتم التحقيق مع الخياط الملتحي وتم تعنيفه ضربا، وعندما تأكدوا من خلو ساحته،أطلقوا سراحه، أما مصطفى فقد احتفظوا به لوجود المنشور بحوزته..

وحينما عرض أمام قاضي التحقيق، ولم يجد ما يلفقه له، زعم أن الراجي ينتمي إلى ما يسمى “خلية الجلسة” لأنه كان يجلس مع بعض الأصدقاء، الذين كان قاسمهم المشترك أنهم يؤدون الصلاة ويقطنون بحي جوادي أو قريبًا منه، وكان عددهم سبعة أو ثمانية، وقد حوكم أعضاء هذه الخلية “الخطيرة” بالمؤبد وعشرون سنة وعشر وأربع سنوات. وكان من نصيب المرحوم الحكم بالمؤبد.

انتقل مصطفى من سجن أغبيلة إلى السجن المركزي بالقنيطرة ثم إلى السجن المدني بآسفي…وانتهى به المطاف بالمركب السجني عكاشة بالدار البيضاء، ليعانق الحرية بعد إحدى عشر سنة من الاعتقال في يوليوز 1994.

عندما كان مصطفى في المعتقل رزق بولد اختار له من الأسماء “عبد الحكيم”، حول عبد الحكيم السجن إلى واحة من البهجة والسعادة خاصة بالنسبة لمصطفى، وعندما أطلق سراحنا سنة 1994 ازدادت علاقة مصطفى بابنه عبد الحكيم، إلى أن كبر الابن وبدأ يتهيأ ليصبح محاميًا.. حتى وقع ما وقع، وكانت الفاجعة، حيث تعرض عبد الحكيم لحادثة سير أودت بحياته، رحمة الله عليه… وعوض الله مصطفى بولد آخر وبنت… وما تزال والدة المرحوم عبد الحكيم الصامدة الصبورة تحمل لقب “أم عبد الحكيم”…

لقد خلفت أحد عشر سنة من الاعتقال التي قضاها مصطفى خلف القضبان ندوبًا غائرة على حالته الصحية..حيث كان يعاني من امراض الجهاز التنفسي وتطور هذا المرض ليكون سببًا في وفاته.

رحل مصطفى، لكن ذكرياته ستبقى حية فينا، رحل ليجتمع مع ابنه عبد الحكيم وكل الأحباب الذين سبقونا إلى دار البقاء.

فاللهم ارحمه وأسكنه فسيح جناتك، واجعل قبره روضة من رياض الجنة، واجمعنا به في مستقر رحمتك.

اللهم ارحم آبائنا وأمهاتنا وإخوتنا وأخواتنا وإخواننا الذين اقتسمنا معهم المحنة والمعاناة، واختم لنا بالحسنى وزيادة.

رب توفني مسلمًا وألحقني بالصالحين

محمد حقيقي