في سجن الاستئناف كنت نزيلاً فترة الامتحانات بجوار غرفة مقصلة الإعدام. سجن الاستئناف يجتمع فيه تنفيذ إعدامات عدة سجون من حول القاهرة. المقصلة يفصلها عني حائط، يمر من أمام باب غرفتي المساقون إلى الموت كل أحد وثلاثاء، عند شروق الشمس، بالبذلة الحمراء والشوال الأسود على رؤوسهم وأيديهم مربوطة من ظهورهم. ليلة الإعدامات يكون هناك نشاط بالطابق مختلف، مسح أرض العنبر بالماء والصابون، بخور يشعل، وشيخ من الأزهر، وسباب وشتائم، وصراخ من الدور الثاني من الأعلى من طابق زنازين الإعدامات،
ومنهم من يتلو القرآن بصوت مفجوع، ومنهم من يجن ويتألم مزلزلاً الأرض، من الموت الذي يموته كل لحظة وهو ينتظر دور المقصلة عليه… في الطابق الأسفل منه مباشرة. المقصلة لا بد من تحقيق تشغيلها، وتجربتها عدة مرات ليلة الإعدام وسط الطقوس. حين تفتح للتجربة وتهوي البوابة يحدث صوت صرير، وقصل، وارتطام جبل من الحديد بآخر، صوت تخرج له الروح فزعاً، وينفطر القلب هلعاً، وتجحظ العين رعباً. هذا الصوت هو نذير يوم أسود على زنازين الإعدام وعلي أنا أيضاً. المساقون إذا هلعوا من الموت وهم على باب المقصلة فإنهم يهرعون على الباب المجاور (باب حجرتي أنا) يطلبون الفرار من الموت، الفتحة التي في الباب رأيت منها رعباً لا يوصف، وكم من مُساق إلى الموت ألقى برعبه كله عليَّ من فتحة الباب: «أنا مش عاوز أموووت». فأموت أنا قبله يدخلون به سحباً وجراً ودفعاً وقرآن يتلى، وتلقين شهادة… وتفتح المقصلة، وينفجر القلب من مكانه من الصوت والصرير والاصطدام، يا ربي في صباح يوم أعدموا ثمانية. يدخل على أقدامه، يخرج جثة، يضعونها جانباً أمام عيني إن نظرت أنا من فتحة بابي. يدخل الثاني والثالث والمقصلة والارتطام والصرير والصراخ والهلع أمامي، والمبنى يهتز، وصراخ من زنازين الإعدام، وقرآن يتلى، وجثث تُرتب جوار بعضها جنباً إلى جنب، والرابع، والخامس، وأفزع للصلاة، وأرفع من السجود، وأجد عيناً من فتحة بابي تجحظ فيَّ، فأنسلخ روحاً من جسد وأصرخ، أحدهم لم يضعوا على رأسه الشوال الأسود، يحدق فيّ، يا ويلي!! ولا أشعر بالصلاة فأرتعش من نظري إليه. ماذا عليَّ أن أقول له؟! كيف أتكلم ونظراته جمَّدتني رعباً. حتى سحبوه من أمامي وسكن المكان قليلاً… ثم وقع الارتطام. الموت هناك أهون من الانتظار.