الكتاب: “أدب السجون في تونس بعد الثورة: بين محنة الكتابة وكتابة المحنة”
المؤلف: الدكتور محمّد التومي
الناشر: كلمة للنشر والتوزيع
الطبعة الأولى: 2020
عدد الصفحات: 205
كيف يمكن معالجة النصوص الأدبية المتخصصة في نقل تجارب معتقلي الرأي في عالمنا العربي: هل هي نصوص أدبية يسري عليها ما يسري على باقي الأجناس الأدبية الأخرى؟ وهل تدخل في صنف الرواية أم السير الذاتية؟ أم هي قيمة فكرية في ذاتها طالما أنها تعالج قضية حرية الرأي والتعبير في عالمنا العربي؟
على الرغم من أن نقاد الجنس الأدبي يميلون إلى تصنيف هذا النوع من الكتابة ضمن أدب السجون، ويمزجون في كثير من الأحيان بينه وبين الرواية حينا وبينه وبين السير الذاتية حينا آخر، فإن ما اختزنته هذه النصوص من معاناة إنسانية وحوارات فكرية، وصل بعضها حد المراجعات الفكرية، يمثل تعبيرا عن الحراك الفكري والسياسي ليس فقط باعتباره الترجمة الواقعية للتطور الطبيعي للإنسان، وإنما أيضا لأنه يعكس الواقع الممكن كما رسمته خارطة الصراع الفكري والسياسي للمرحلة التي ينتمي إليها صاحب المنجز الأدبي.
الإعلامي التونسي الحسين بن عمر، يبحث في هذه القراءة الخاصة بـ “عربي21” لكتاب تونسي عن أدب السجون، هذه العلاقة بين الأدبي والفكري في ما بات يعرف بـ “أدب السجون”، ودوره في تعرية واقع الدكتاتوريات العربية والإسهام في تنوير الرأي العام بتاريخ النضال من أجل الحرية.
متابعة شحيحة وضنينة
ظلت المتابعة النقدية لأدب السجون شحيحة وضنينة إذا ما قورنت بغيرها من المنجزات السردية، والحال أن أجيال الرواية السياسية العربية قد نجحت في ربط المتعة الأدبيّة بالوعي، من خلال الميسم الأكبر للرواية السياسية على حدّ قول الروائي المصري أحمد إبراهيم الهواري، بدء بالروايات المصرية الثلاث: “وراء القضبان” لأحمد حسين و”العين ذات الجفن المعدنية” لشريف حتاتة و”القطار” لصلاح حافظ، حيث مثلت الخمائر الأولى لإعادة طرح السؤال السياسي ورشوحها داخل نسق الرواية العربيّة المعاصرة، منذ فترة الاحتلال الانجليزي لمصر أواخر خمسينيات القرن الماضي، مرورا برائعة “شرق المتوسط” للكاتب السعودي عبد الرحمان منيف، ووصولا لرواية “أسوار وأقمار” للكاتب التونسي محمد عز الدّين جميّل (2019)، الذي ارتحل بقارئه من أقبية زنازين الداخلية وسجون نظام الراحل بن علي إلى فضاءات السجن الموسّع وما ارتبطت به من عذابات نفسية وعلائق مجتمعية.
من أهمّ ما أُلّف عربيا في هذا الصنف النفيس من الأدب الروائي، الذي اجتباه منيف بالقول: “أما نحن فقد تخصصنا في موضوع واحد ولا نستطيع أن نتركه، لأنه لاصق بنا،علامة فارقة لنا، عنوان لعصرنا الذي نعيشه”، نقرأ كتابي “السجن السياسي في الرواية العربيّة” لسمر روحي الفيصل (1983) و”ثلاثية الرفض والهزيمة” لمحمود أمين العالم وكذلك أطروحة دكتوراه بعنوان “البطل السجين السياسي في الرواية العربية المعاصرة” للباحث الجزائري علي منصوري. أمّا تونسيّا، فإن أهم الأعمال النقدية التي تناولت البحث في هذا الصنف من الكتابة، ظلّت حبيسة أسوار الجامعة، ومن أهمها: “السجن في الرواية العربيّة من خلال أعمال منيف وآخرين” لفوزية سعيد و”أدب السجون من خلال أقاصيص الخولي” للمنصف غانمي.
لكن على أهميّة البحوث الجامعيّة التونسية في مجال نقد الرواية السجنية، فإنّ مجال اهتمامها لم يتخطّ دراسة التجارب السردية المشرقيّة. ولذلك يأتي كتاب “أدب السجون في تونس بعد الثورة: بين محنة الكتابة وكتابة المحنة”، للدكتور الباحث محمد التومي، ليسدّ ثُلمة في البحوث الأكاديمية التونسية في هذا السياق البحثي الذي يلاحق أعمالا سرديّة لمناضلين سياسيين، تقطّعت بهم السبل سنينا عددا بين سجون نظامي بورقيبة وابن علي، فنثروها سرديّات استحقت أن تعمّد بماء الكتابة على حدّ وصف فاطمة العراقي في روايتها “مذكّرات سجينة: صفحات حمراء من تاريخ منسي” .
“هذا كتاب جدير بأن يقرأ”
قام الدكتور محمّد القاضي، أستاذ السرد في الجامعة التونسية وأبرز نقّادها الأعلام، بالتقديم لكتاب “أدب السجون في تونس بعد الثورة: بين محنة الكتابة وكتابة المحنة”، لمؤلفه الدكتور محمّد التومي، وجعل له عتبة مهمّة بعنوان “هذا كتاب جدير بأن يقرأ”. وقد ثمّن القاضي في الكاتب “إطّلاعه الواسع على موضوع أدب السجون في البلدان العربيّة سواء من حيث مدوّنة المؤلفات الصّادرة في سياقه أو من حيث الدّراسات الحافّة به وإلمامه المستفيض بمؤلفات أدب السجون في تونس ومعرفته الدقيقة للكثير من الجزئيات التي واكبت ظروف وقوع أحداثها وملابسات تدوينها”. ويُمثل كتاب الحال، أوّل منجز نقدي في سلسلة “مرايا النقد” التي يشرف عليها محمّد القاضي في دار “كلمة” المحكّمة في مجال النقد الأدبي.
من حيث مورفولوجيا النص، اعتمد الدكتور محمّد التومي على تقسيم ثنائي للبحث، اهتمّ في الباب الأوّل منه على “محنة الكتابة السرديّة”، فيما اشتغل في الثاني على “كتابة المحنة السجنيّة”. و”قد جعل مدار الباب الأوّل على أدبيّة تلك النصوص وبحث فيه عن النصّ الموازي وعن صلتها الملتبسة بالأجناس الأدبية المجاورة كالرواية والسيرة الذاتيّة والمذكّرات والتراجم والاعترافات…أمّا الباب الثاني فكان وكد الباحث فيه أن ينفذ في المرحلة الأولى إلى صور المحنة عند أولئك المؤلفين من جهة السجن ومن جهة السجين، ثم تسلل في المرحلة الثانية إلى تقاطع الأدبي والتاريخي في أدب السجون فأطلّ على أوجاع الذاكرة ومساحة الإيديولوجيا في أدب السجون”.
الرواية التونسية وعاء التجارب النضالية المضنية
تظلّ الرواية الجنس الأدبيّ “الأقدر على إنطاق المسكوت عنه في الخطاب الثقافي والاجتماعي العام”، على حدّ تعبير علي منصوري، وهي إلى ذلك “النوع الأجسر في مواجهة القمع وتعرية مشـاكل التعصب وتقليم براثن التخلف والجهل”، بتعبير جابر عصفور، في مؤلفه “فجر الرواية العربيّة”.
وإنّ الكتاب الذي بين أيدينا يرتحل بالقارئ في التاريخ والفاجعة لينقل تجارب نضالية وإنسانية مضنية “تسردها حكايات الليل والنهار في ما طوّحت به الحتوف والأقدار” على حدّ وصف مؤلفه محمّد التومي، إلى الحد الذي يصير فيه المشغل الإبداعي، في أحيان كثيرة، ثانويا بالرغم من أن العمل إبداعيّ بالأساس.
ويرى المؤلف محمد التومي أنّ ظاهرة الكتابة الروائية السير ذاتية، التي تقوم على تذكر المحن بأسلوب أدبي يزعم المعالجة الأدبية للمسألة السياسية والانتماء الإيديولوجي وعلاقة المناضل السياسي بالسلطة، قد تولّدت ضمن الواقع التونسي الرجراج المتحوّل من دكتاتورية القهر إلى الحريّة الناشئة. نفس هذا الواقع الأليم هو الذي كان محددا لعلاقات الإنسان الاجتماعية المنحصرة في حدود صلة الرحم، لتكون أيّ علاقة خارج أُطرها جريمة وخاصة إذا ما تعلقت بعائلات المساجين فإن التهمة الجاهزة هي مساعدة عائلة متمرّد سياسي خارج عن الطوق السياسي بما يُكسبها حقّ الوجود والإصرار على الخطيئة في عرف سدنة القهر .
من “الميتا” نص إلى كتابة المحنة في الرواية السجنية
لا يسع قارئ الكتاب الفكاك من قبضة مؤلفه وهو يستدرجه إلى مَواطن ثقوب الذاكرة المأزومة لمساجين أثثوا بعذاباتهم مشهدية دراميّة متشابهة حدّ التطابق، لجغرافيا عربيّة متناثرة. فبينما يتأرجح السرد في الزمن صعودا ونزولا، ينُطّ الكاتب بقارئه بين سجن وسجن أو بين مخفر وآخر، حتى لكأن الأقطار العربية أضحت زنازين مرتحلة في الزمان والمكان. وما الصحراء الفاصلة بين مدنها سوى فسحة السجن المُسيّجة (الآريا area)، التي تفصل بين زنزانة وأخرى…
عذابات حفرت في القلوب الملتاعة أخاديد وبصمت على الأبدان جراحات بحجم الأوطان السليبة، إلاّ من سجّانيها وزنازينها التي لا تحصى. ولذلك بدت مساحات السرد المتقطعة التي وثقها الناقد محمد التومي أشبه بما أسمته فاطمة العراقي بـ”الرغبة الصادقة الصارمة للتصدي لهذا البخس والإهمال الذي طال الشهداء والذي سبّب تغييب صفحات من نور كادت تنطفئ لتراكم المحن وتغيّر المهاجر والإحن والتي جعلت من ألوانها شاحبة باهتة !”.
فتعدد الروايات السجنية، التي أفلح محمد التومي في جردها ونقل خلاصاتها إلى قارئ الكتاب الذي بين أيدينا، والتقائها عند عنوان “التعذيب” و”قهر الذات البشرية المخالفة في الرأي” في كل الأقطار العربية، يجعل منها فصولا متواترة ومكررة من روايات عبد الرحمان منيف، “الذي تمتح شخصيته من أكثر من جنسية، وقد انعكس ذلك على ما كتب من روايات ظلّت هلامية المكان وضبابيته هي السمة الغالبة عليها حتى لكأنّ الرجل يكتب عن كل البلاد العربيّة. ولعلّ ذلك يلاقي بعضا من أصداء الذات المتشظية عبر أنحاء متعددة من الوطن المنقسم”…
وينضاف لنجاح معظم الروايات المذكورة في نقل مشهديّة كاملة ثلاثية الأبعاد عن معاناة السجناء العرب، فإنّ المطالع لها يقف على ما أسماها محمد التومي باللغة المنغمسة في عالم الأنين والانكسارات والخيبات المتلاحقة. “ذلك هو عالم السجين السياسي فضّ موتور. تقف اللغة عند تخوم التجربة ولكنها لا توفي الوصف حقّه.”
إن سؤال الرواية سيشهد بدوره تحوّلا مهمّا تتطلب الإجابة عنه تبدّلا في المفاهيم وقلبا للنواميس الأدبية التقليدية باعتبار أنّ مناخات سياسية جديدة خلقتها الثورة بما تكشفه من واقع خانق عنيف عملت الرواية السجنية على تعريته وكشفه وهو ما لم يكن متاحا قبلها،
ولا يفوت القارئ لكتاب “أدب السجون في تونس بعد الثورة: بين محنة الكتابة وكتابة المحنة” الوقوف على اتساق شخصية “شرف” في رواية الكاتب اليساري المصري صنع الله إبراهيم ومعاناتها في سجون عبد الناصر وأنور السادات، مع شخصيّة ذلك الطبيب النحيل القادم من باريس إثر مهمّة علميّة في رواية “القوقعة” لمصطفى خليفة الذي عرّى بطش النظام الأسدي في سوريا من خلال الاعتناء بأدق تفاصيل “الحياة” اليومية في سجن تدمر، أحد أكبر السجون السوريّة.
وهي نفسها المعاناة التي تحاكيها الروايات التونسية: “في القلب جمرة” لحميد عبايدية و”انتماء” للطفي السنوسي و”سنوات الجمر” لعالم الرياضيات المنصف بن سالم و”طريق الظلام” و”برج الرومي” لسمير ساسي و”حدائق الفجر” لعلي دب و”الدكتاتور” لعبد الحفيظ خميري و”صباط الظلام” لمحمد التومي و”مناضل رغم أنفك” لعبد الجبار المدوري و”كريستال” لجلبار نقاش و”الحبس كذاب والحي يروح” لفتحي بالحاج يحيى و”الشتات” لخديجة التومي و”الشهداء يكتبون الثورة” لعبد الحميد الجلاصي و”درب العدلاني” لعادل النهدي.
نجحت الرواية السجنية التونسية الحديثة في نقل عذابات السجون فترتي حكم بورقيبة وبن علي، كما نجحت رواية “الزنزانة رقم 10” لصاحبها الضابط المغربي السابق أحمد المرزوقي، والذي قضى ثمان عشرة سنة في سراديب “تزممارت” المظلمة “التي لا يسمع فيها صوت آدمي ولا يزوره أحد من ذويه بل ولا يكلّم أحدا من السجناء الذين ضمّهم القدر وتطاول عليهم ليل السجن ووعثاء المهانة ودروب القهر المستطير”. وعلى القدر نفسه نقلت رواية “طريقي إلى السجن” لمحمد الجاسم عذابات سجين سياسي في الكويت، وروت “مقاومة” و”أحلم بزنزانة من كرز” لسهى بشارة عذابات السجون اللبنانية وحكت رواية “قصّتي” لسمير القنطار واقع الأسرى الفلسطينين والعرب في سجون الاحتلال الصهيوني.
نفس العذابات تحاكيها روايتا “الكراديب” لتركي الحمد و”الغرفة عدد 7″ لمطلق العتيبي، اللتين نقلتا “هالات التعذيب الوحشي في السعوديّة وتعلنان عن واقع مخفي وراء الجلابيب والسّبح يُطلّ برأسه كلّما أحسّ الحاكم أنّه مهدد في وجوده”. و”مذكرات سجينة” لفاطمة العراقي. ورواية “في ضيافة كتائب القذافي” لمراسل الجزيرة أحمد فال و”مذكرات سجين ليبي” لعبد القادر الفيتوري اللتان تسجّلان عنف تعامل اللجان الثورية مع مخالفيهم في الرأي وخاصة في معتقل “أبو سليم” . ومن الجزائر “1994: حرب لم تضع أوزارها” لعدلان مدّي و”مجنونة الجزائر لأحمد حنيفي” التي سجلت محنة “العشرية السوداء”.
الرواية السجنية بين تحدّي التشكيل الأجناسي والقضايا المجتمعية
يرى المؤلف محمد التومي أنّ الرواية السجنية وهي “تعتني بأشراط السرد ووضعية الراوي في القصّ تحاول ألاّ تضيّع المهمّة التي أوكلت إليها وهي “تعقّب أثر أحداث تالدة بوضعيات لغوية طارفة”، إذ لم يحض موضوع الروايات السجنية عند التونسيين من المناضلين السياسيين بدراسات جادة تولي ما كتبوا بعد الثورة أو قبلها اهتماما، ولذلك فإن الولوج إليها يظل معتما ومحاطا بهالة سوداء.
ويضيف التومي بالقول: إن الحديث عن مقومات هذا الجنس من الكتابة مقيّد بجملة من المسلّمات التي تقرّ بطابعها الانفتاحي وقدرتها على تأثيث فضائها بأنواع تعبيرية متعددة المظاهر التلفظية وتشخيصاتها الأجناسية. و”لعل الواضح أن تلك التشخيصات تستفيد من أفق التنويع الأجناسي وتأسيس أشكال كتابية تحاور الواقع وقضاياه المجتمعية دون الوعي بتعقيدات المسألة نظريا إذ الغالب على هؤلاء المؤلفين، افتقارهم إلى الخلفية النظرية للكتابة الإبداعية باستثناء بعض الأسماء التي تميزت نتيجة وعيها بالتشكيل الأجناسي داخل الأطر السردية وإحساسها بالقضايا المجتمعية وبالتجربة النضالية التي خاضها السجين السياسي مع رفقاء الدرب الإيديولوجي وما نتج عنها في ظل حكم بوليسي من سوق إلى السجون يجوبونها شمالا وجنوبا من حربوب إلى برج الرومي في دوامة للمصير مرعبة تفاصيلها”.
وينتهي المؤلف إلى القول بأنّ الرواية بما هي جنس أدبي فقد انتهت إلى أن تكون الوعاء الأنسب لعالم اليوم بما يحوي من تعقيدات. ولعلها “الشكل العالمي المعمم للثقافة”. وهي بذلك “أداة تحقيق للوعي ورصد لوضع المجتمعات من خلال تمثّل الشخوص للمهمة التي تناط بعهدتها. ولعل اهتمام الرواية بتفاصيل التفاصيل للأحداث والعلاقات، هو ما جعلها إحدى أهمّ المداخل الضرورية لفهم التحوّلات الاجتماعية والتعامل مع المتغيرات السياسية التي واجهها المبدع التونسي الملتزم بقضايا وطنه إبان الثورة التونسية الكبرى التي أسقطت الدكتاتورية وعرّت وجهها القبيح متمثلا في أعوانها من سدنة المعبد الإيديولوجي والكهنوت السياسي”.
لأجل ذلك فإن سؤال الرواية سيشهد بدوره تحوّلا مهمّا تتطلب الإجابة عنه تبدّلا في المفاهيم وقلبا للنواميس الأدبية التقليدية باعتبار أنّ مناخات سياسية جديدة خلقتها الثورة بما تكشفه من واقع خانق عنيف عملت الرواية السجنية على تعريته وكشفه وهو ما لم يكن متاحا قبلها، كما يضيف الدكتور محمد التومي.
عربي21