adminis

خمس دقائق وحسب” تسع سنوات في سجون سورية الحلقة الرابعة

مسرحية التجسس !

وذات مرة أحضروا امرأة فلسطينية إلى إحدى المنفردات ولعبوا لعبة علينا قامت بها هذه المرأة التي تبين بعدها أنها مخبرة مثل منيرة التي قامت بتكملة الدور . ففي البداية قالت لنا فاديا صراحة أنهم طلبوا منها أن تجلس معها وتستدرجها على أساس أنها سجينة مثلها وتحلل لهم نفسيتها وتنقل لهم أخبارها ، وذهبت من المهجع إلى المنفردة وجلست معها اليوم الأول ثم عادت تقص علينا قصصها ، وظلت تقوم بهذا الدور الأسبوع فتأتي وتقص علينا بصراحة كيف أنها تدرس شخصية تلك السجينة وتقدم التقارير بها وتنقل أسرارها للمقدم . . حتى إذا زرعت الشفقة عليها في قلوبنا وجدناهم أحضروها إلينا من المنفردة ووضعوها معنا في المهجع بضعة أيام كنا نعاملها خلالهما أحسن المعاملة ونفتح لها قلوبنا كأية سجينة مظلومة ، وكانت من جهتها تتنقل من واحدة إلى أخرى تسمع قصتها وتستل الأسرار منها . . ثم لم يلبثوا أن نادوا عليها بالإفراج ففرحنا لها وجلسنا نودعها ، فجعلت تسالنا بكل تلقائيه إن كنا نريد إرسال أية رسائل أو معلومات لأحد لنا في الخارج ، ولا أدري ما سبب الشعور الذي تملكني والإحساس بانقباض القلب رأيتها تلح علي في طلب ولو حتى إشارة مني أو أثر تذهب بها إلى أقربائي وأهلي ، فبعد أن هممت بذلك عدت وانسحبت شاكرة وقامت أكثر البنات بإعطائها رسائل إلى أهاليهن وصلت كلها يد المقدم فاستطاع من خلال هذه المخبرة التي أجادت دورها بالتعاون مع فاديا أن يعرف الكثير عما يدور في هذا المهجع وبين نزيلاته المعتقلات ، لكن فاديا ظلت من خبثها تدعي استغرابها مما حدث ، وكان من دهائها أن شاركت حتى في الإضراب الأخير ، وكانت أكثر المتشددات في مراقبة من يهم بالتراجع أو نقض الإضراب . . وكل ذلك تمويها وتدليسا علينا لاستكمال المسرحية ! وفي نفس الفترة انضم إلى مهجعنا نزيلة جديدة اسمها ترفة لم تكن من اتجاهنا ولا من ديننا ، لكنها كانت على النقيض من فاديا هادئة الطباع سمحة الخلق لا تؤذي أحدا بقول أو فعل .

وترفة سيدة مسيحية من باب توما بدمشق في الثالثة والعشرين من عمرها ، كانت لديها – كما روت – مشكلة في الإنجاب ، فذهب بها زوجها إلى الإردن أولا ثم إلى العراق للعلاج ، لكن الزوج اعتقل بعد عودتهما بتهمة التعامل مع العراق واعتقلت معه ، ورغم أنها نفت علمها بأي شيء أو معرفتها إن كان زوجها قد فعل شيئا أم لا ، إلا أنها اقتيدت من بيتها إلى سجن كفر سوسة ، وتم تعذيبها أيضا قبل أن ينقلوها إلى المهجع معنا ، فكانت بيننا كواحدة منا . وعندما قررنا الإضراب أضربت أيضا واستمرت ثابتة حتى النهاية . . وتم نقلها عندما نقلونا إلى قطنا ، لتبقى معنا هناك إلى اخر فترة ولا يفرج عنها إلا بعدنا بشهور .


الضيف ضيف الله !

وتتابع وفود معتقلات جدد ومآس أجد . . فبعد كل من وفد أحضروا إلى مهجعنا الذي غص بنزلائه أختين من اللاذقية هما منى وأمل ف .

عمر الأولى35 أو 36 سنة وهي أم لثلاثة أبناء : بنتين وصبي ، والثانية عزباء في الثامنة أو التاسعة عشرة . وقد بدأت قصة منى التي كانت غاية في الطيب إلى درجة السذاجة بالفعل . . بدأت حينما قتل زوجها برصاصة طائشة أثناء عبوره منطقة كانت مسرحا لاشتباك بين المخابرات وعناصر مضادة في اللاذقية ، وكان – كما روت – يحمل ابنته على كتفه حينما أصابته طلقة اخترقت يده التي يمسك الطفلة بها واستقرت في قلبه فقتلته ، وظلت البنت على قيد الحياة .

وبعد مدة طرق بابها رجل من الملاحقين المشهورين في اللاذقية يسمونه أبا عنتر أو أحمد عنتر ادعى أنه بائع كاز فأرادت أن تشتري منه ، وبينما هو يؤدي عمله سالها إن كان يستطيع أن يختبئ عندها لأنه لا يجد له مأوى فوافقت على بساطتها وأدخلته فأوته . . ولكن أمره انكشف كما يبدو فداهمت المخابرات البيت ووجدوه مختبئا في إحدى الخزائن فرشوه مباشرة وأحضروها إلى السجن . . ولما ساكوها في التحقيق عن ذلك الشخص أجابت : -ضيف .

قالوا : ضيط ؟ هذا أكبر مجرم وأنت تسكنينه في بيتك !

قالت : لأن الضيف ضيف الله ! فسالها المحقق هازئا : ضيف الله ؟ قالت على طيبها وبساطتها : إي والله ! واحد أتاني يقول لا يوجد لي أحد وليس عندي مكان ويسألني الضيافة هل أرده ! وكانت قد اتفقت معه أو اتفق معها أنه إذا سالها شخص عن سبب وجوده معها تقول بأنه خطيب أختها . . فبلغهم ذلك أيضا . . وأحضروا الأخت التي لم تكن تعلم أي شيء عن أي شيء وأودعوها السجن معنا كل الفترة ، وأتوا بأبيهما وبأخيها فسجنوهما أيضا ، ثم أفرجوا عن الأخ وتركوا الأب . ولقد تبدت طيبتها من أول لحظة دخلت بها علينا وهي تبكي بحرقة وتنتحب كالأطفال . . وكالعادة التففنا حولها وحول أختها كأية قادمة جديدة خاصة وأنها محجبة وسألناهما : – من أنتما . . ولماذا أحضراكما ؟

فقصتا علينا القصة . . فسألناهما : -ولماذا تبكيان كل هذا البكاء وهم لم يعذبوكما بعد ولكما في الإعتقال مدة ؟ قالت منى : قال لي العنصر ادخلي فلما لم أدخل بسرعة سب أبي . قالت لها الحاجة : وماذا في ذلك ؟ قالت : أبي لا يسب ! ولقد ظلت منى معنا حتى عام 85 ثم نقلوها إلى اللاذقية ، وعادوا فأرجعوها بعد سنة إلى قطنا وانتقلت معنا إلى دوما حتى خرجنا جميعا ، وأما أختها فخرجت من كفر سوسة عام 1984.


عصة القبر !

ومن نزيلات مهجعنا كذلك كانت أم ياسين ساريج السيدة التي اتهم ابنها بتنفيذ حادثة الأزبكية بدمشق أواخر عام 1981 .

وكانوا في البداية قد أحضروا إلينا صورته مقتولا وقد تمزق وجهه فلا يكاد يبين منه شيء وسألونا إن كنا نعرفه فكان جوابنا النفي ، ومرروا الصورة على كل المهاجع فلم يتعرف عليه أحد ، وفي المساء أحضروا أمه وسألوها إن كانت تعرف عنه شيئا – ولم يكن الشاب ملاحقا فقالت لا أعرف . . وعندما أروها جثته ثبتها الله فلم تزد عن أن تقول : – حسبنا الله ونعم الوكيل .

وكانوا قد اعتقلوا معها زوجها وابنيهما أيضا وكان عمر أحدهما 16 والأخر 12 سنة ، فوضعوا الأب والأولاد في الجنوبي ووضعوها في المهجع معنا، وبقيت هناك فلم يفرج عنها إلا بعد نقلنا إلى سجن قطنا .

ولا أزال أذكر أنهم عندما أخرجونا إلى “المحكمة الميدا نية ” عرض علينا رئيسها النقيب سليمان حبيب صورا من الجريدة لقتلى التفجير وهو يقول: دماء هؤلاء الأبرياء هي السبب في تشكيل المحكمة . . وهذه الدماء سنخرجها والله من رقابكم أنتم وبعد انتهاء من تلك “المحكمة” المهزلة ، وبينما كان أحد العناصر يعيدنا إلى المهجع قال لنا : – شايفين الحادثة التي صارت ، هذه الإخوان فعلوها . . ولازم تتأكدوا أن كل حادثة تحدث في الخارج ستنعكس على الذين في الداخل ! وفعلا كانوا كلما ضيقوا علينا نعلم لاحقا أن أمرا ما قد حدث في الخارج . . ونحس ذلك من منع التنفس فجأة أو إغلاق الطاقة علينا لعدة أيام . . ونتأكد أكثر من صياح الشباب الذي يتعالى وهم يتلقون مزيدا من التعذيب . . وكانت الحاجة رياض ببساطتها تقول عندها : ولي على قامتكم يا اخوان . . تعالوا شوفوا إيش صايرلنا . . أنتم تفعلون ما تريدون على كيفكم ونحن عصة القبر علينا !


سجن أم دير !

واذا كانت مشاهد السجن كلها مؤلمة وحالة السجينات وقصص المعتقلات تفيض بالأسى والمرارة فإن قصة هالة ن . قد تكون من أشد المشاهد التي رأيت إيلاما وأكثر ما سمعت وعايشت في السجن من قصص مرة . . فبينما كنت أنظر من شق الطاقة يوما شد انتباهي مشهد غير طبيعي أراه أمامي ، فالتفت إلى البنات وقلت لهن: كأنهم والله أتوا بواحدة أجنبية لا تفهم العربي ! هذا حسن يكلمها ويجذبها من كتفها وهي تنظر إليه مثل “الخوتة” ولا تفهم عليه . . لكنها تبدو أجنبية مسلمة لأنها تضع حجابا على رأسها .

كانوا قد أخرجوها كما يبدو من المنفردة إلى “الخط ” حينما رأيتها أول مرة ، وانتظرت فرأيتهم حينما أعادوها ، ثم جعلت أراهم يأخذونها ويعيدونها قرابة شهر كامل على هذه الحال : كانوا يشحطونها شحطا ويدفعونها في كل خطوة لتنتقل إلى الخطوة التالية وكأن أعصابها قد أصيبت بالتشنج ، والجمود كسا سحنتها فلا تتكلم ولا تتألم ! كانوا يأخذونها إلى التحقيق ويعيدونها سحبا كالدابة أو كالميت ، ولا تزيد هي على الحملقة فيهم والنظر حولها نظرات بلا معنى ! وبعد شهر كأنما يئسوا منها فأتو بها إلى مهجعنا . . ولا أزال أذكر لحظة أن فتح السجان إبراهيم الباب علينا وهو ممسك إياها من كتفها وناداني : هبة . . قومي استلمي . . هذه وظيفتك . ودفع بنفس المرأة إلى المهجع ومضى .

نظرت فرأيتها وهي لا تزال بحجابها ترتدي بنطالا عريضا جدا يمسح الأرض . . وملابس كلها قذرة لم تنل نصيبا من النظافة منذ زمن لا يعلمه إلا الله ! انتظرنا لحظة أن تتحرك فلم تغادر المكان الذي دفعها إليه إبراهيم وظلت واقفة عنده لا تتزحزح . . تقدمنا جميعا نحوها وسألنا بلطف : ” -ما اسمك ؟ فلم يجب أحد ! – من أين أنت ؟ لم ترد ! تقدمت الحاجة وقالت : – ابتعدوا قليلا . . والله ضبعتوها . فتأخرنا جميعا وتقدمت الحاجة فسألتها من جديد : -ما اسمك يا بنتي ؟ أجابت بصوت كأنما ينبعث من بئر خرب ونظرتها الوجلة مركزة على نقطة واحدة في أفق بعيد لا نراه ولا تتزحزح عنه : من أنت ؟ ومضت قرابة الساعة والسؤال يتردد ومحاولات استنطاقها ولو كلمة واحدة إضافية دون جدوى . . فيئسنا منها وتركناها .

ظنا : لعلها خائفة . . لندعها تهدأ بعض الشيء . وقتها كانت منيرة تستمع إلى الراديو . . وكانت عندما تلتقط إذاعة القران الكريم وعلى الأض برنامج “ناشئ في رحاب القران ” ترفع الصوت أو تعطينا الجهاز لنسمع . . وغالبا ما كنا نضه على أنبوب التدفئة ليسمع الشباب في الزنزانة المجاورة أيضا ، وما أن فعلت وقتذاك وعلا صوت طفل بالتلاوة حتى وجدنا ضيفتنا الجديدة هجمت على الراديو وقالت بانفعال : -أغلقوه . . أغلقوه . . هذا يخلط بالقران . . حرام . . كل هذا كذب وافتراء ! قلنا جميعا وقد تملكتنا الدهشة : أستغفر الله . وقامت أم شيماء فأقفلت الراديو وهي تقول بجد : -يابنات هذه فيها شيء ! لكن هالة ظلت على وقفتها لا تتزحزح ولا تتحرك ولا تغير من وضعها . . صار الليل . . بعد منتصف الليل وهي كالخشبة لا تتحرك . . وعندما حاولنا تحريكها كانت كالمسمار المدقوق في الأرض ! فلم تتمالك الحاجة نفسها ودقت الباب وقالت لابراهيم لما حضر : -يا ابني هذه المخلوقة فيها شيء ؟ ما لها يبست مكانها ؟ نريد أن ننام . . نجلس . . نأكل . . نشرب . . وهي واقفة على وقفتها ! فقال ابراهيم : لا تصدقوها . . إنها تمثل . فسألته الحاجة : وهل هي كذلك منذ أن أتت هنا ؟

قال : نعم . . لكنها تمثل . . كله تمثيل بتمثيل . . تظن أنها ستتخلص من الإعتراف والتحقيق والشيء ثابت عليها . . لكن هذا شيء تحلم فيه ! تركته الحاجة وعادت إليها ثانية فسحبتها من يدها شيئا فشيئا وأجلستها بجانبها فاستجابت وجلست . . سالناهم أن يطفؤوا الضوء ففعلوا وأتينا لننام ، ولم تمض دقائق على ذلك حتى وجدتها متربعة فوق قدمي تحدق في وجهي ، فلما رأيتها كذلك لم أتمالك نفسي وصحت برعب : -حجة . . من شان الله تعالي وخذيها ! قامت البنات كلهن وقامت الحاجة يسألنني ماذا هناك . . فنظروا ورأوها . . وعادت هي فجلست منكمشة تنظر برعب وهلع إلينا ، فجاءت الحاجة وقالت لها بالإنسانية : -تعالي لعندي وانتي ابنتي . . وجعلت تحضنها وتلفها حتى أرجعتها إلى جانبها . . وعاد الهدوء شيئا فشيئا إلى المهجع . . وفي الصباح وبعد أن أدينا الصلاة وعدنا للنوم ثانية أحست وقد غفا الجميع تدفق أنفاس بالقرب مني ، فلما فتحت عيني رأيتها فوق رأسي هذه المرة تكشف الغطاء من جانبه وتتلصص بالنظرإلي ، فلما رأيتها هكذا تخيلت أنها تريد أن تخنقني فصحت صوتا بالمقلوب ولم أعد أقوى حتى على التحرك ، فيما تحركت هي بلا أدنى انفعال وجلست على جنب وكأن شيئا لم يكن ! وكانت ماجدة قد استيقظت على الصوت فسألتها : – ماذا تريدين ؟ هل تريدين شيئا ؟ فما وجدناها إلا وقد نطقت وقالت تسألها بلهجة جامدة : -ماهذا . . هل هذا بدير؟ قالت لها ماجدة : لا . . هذا ليس بدير . . هذا سجن ! فعادت إلى صمتها وظلت على جلستها لا تتحرك .


قذيفة بطاطا !

كان حجاب هالة وثيابها حينما جاءت وسخة جدا ، وبمرور الأيام وهي على حالتها تلك ازدادت نتانة واتساخا ، لكننا كلما حاولت أحدانا أن تقترب منها أو تلامس ثيابها انكمشت أكثر ومنعتها من الإقتراب! وظلت على هذه الحال ثمانية أشهر لا تحكي ولا تأكل ولا تشرب ولا تحرج إلى الحمام ! كنا نسقيها الماء بالغصب وندس لها اللقمة في فمها دسا فتبقى فيه ساعة ولا تبتلعها ! وتقوم في الليل لتدخل الحمام فنتظاهـر كلنا بالنوم ، فتبقي الستارة مكشوفة وتجعل تراقبنا دون أن تفعل شيئا ، فإذا رأت أحدا تحرك تخرج مباشرة ولم تسحب ثيابها عنها بعد وذات يوم جلست عائشة بجانبها وأعطتها حبة بطاطا مسلوقة وهي تقول لها : -خذي . . هذه بطاطا طيبة وحلوة . . وقشرتها لها وأرادت أن تطعمها إياها ، فخطفتها من يدها بسرعة وأطبقت عليها ثم عادت فرمتها . . وكنت وقتها أغسل ملابسي في الحمام فما وجدت إلا شيئا يرتطم برأسي . . نظرت فإذا بها قد قذفتني بالبطاطا فكادت أن تشجني ، فيما وقعت حبة البطاطا في التواليت !


كي. . واعتداء. . وافتراء !

وفي مرة أخرى وبعد شهر من حضورها قررنا أن نغير لها ملابسها بأي طريقة ، وكانت طوال هذه الفترة لم يمس جسدها الماء . لكنها ظلت تنفر وتزمجر كلما اقتربنا منها ، فجاءت الحاجة وأم شيماء إليها معا وقالتا لها: – انظري . . هذه ثياب جميلة وثيابك وسخة الان . . فكشت من جديد علامة الرفض ، فتقدمت أم شيماء لتخلع عنها ملابسها ، فصاحت صوتا يا لطيف ويا ساتر . . ورفضت بكل إصرار ، فلم نجد بدا إلا أن نمزق لها ثيابها تمزيقا لنلبسها الثياب النظيفة لأول مرة ، لكن جسدها ظل وسخا وطال شعرها فكانت تحكه بأظافرها الطويلة الوسخة وتظل تحكه وتحكه بشكل مقزز حتى رجحنا أن لديها قمل ، فقررنا إعادة المحاولة وجلست الحاجة والبنات يسايرنها حتى أدخلوها الحمام . . وما أن بدأن بخلع ثيابها حتى خرجت أصواتها وارتفع زعيقها ، وهرع العناصر يسألون ما الذي يجري فقالت لهم الحاجة : لا شيء . . نريد أن نحممها فقط . . نخاف أن تجرب إن تركناها مدة أكثر .

فقالوا لها : اعلموا أنها تمثل عليكم . . هي سفيهة . . فاجرة . . وظلوا حتى خروجها وانتقالنا إلى قطنا يتكلمون عنها بهدا الكلام . . وعندما حمموها وجدوا آثار ما يشبه الكي بسيخ محمى على أرجلها وفخذيها وجسمها من الأسفل . . لكن الأحجية لم تكن لتحل بعد ، وسر هذه المرأة ظل غامضا يستعصي علينا . . وفجأة وبعد خمسة أو ستة أشهر من وجودها معنا لاحظنا أن بطنها تنتفخ وتكبر وقد بدأت تتأوه وتتألمم ، ثم لم تلبث أن فقدت قدرتها على الإحتمال . . فجعلت تصيح وتستغيث ، فشككنا أنها حامل – ولم نكن قد عرفنا قصتها بعد – وقدرت الحاجة وقتها أنها ربما كانت متزوجة من أحد الشباب وكانا جالسين معا فحدثت مداهمة لقاعدتهم واستشهد الزوج أمامها فأتتها صدمة . . وهى الآن حامل .

ولما لاحظ العناصر ذلك أيضا نقلوا الخبر كما يبدو إلى رؤسائهم ، فأتى رئيس التحقيق وسأل عن الأمر وقال من ثم لعائشة : نريد أن نفحصها فربما تكون حاملا بالفعل. فقالت له عائشة : دعنا نفعل ذلك وسوف نخبركم .

وقامت بالفعل ففحصتها بين الصراخ والزعيق الذي صرع الدنيا فوجدتها قد تعرضت لاعتداء واضح لكنه لم يؤثر عليها كثيرا وليس هناك ما يشير إلى حمل ، وظلت على هذه الحال يومين كاملين حتى ظننا من شدة الألم الذي نزل بها أن منيتها قد دنت . . فجعلنا نقرع الباب عليهم وننادي : -هالة ستموت . . نريد طبيبا . . فأتى أحد العناصر يسأل ماذا حدث ، فقلنا له إنها تكاد تموت من الألم . . فأجابنا بكل برود وجلافة :- وماذا في ذلك؟ مسموح هنا حسب القانون أن يموت 7% من المساجين ! وأمام إلحاحنا الذي لم يتوقف ونحن نراها على هذه الحال أحضروا لها آخر الأمر طبيب الفرع المخصص لا لعلاج السجناء بالطبع وإنما للضباط والعناصر ، فلما كشف عليها قال لهم : -ليس لديها شيء . . مجرد إمساك. وأعطاها تحاميل ومرهما أذكر أنني وضعتهم لها بنفسي . . وبعد قليل يا لطيف دخلت الحمام فخنقتنا الرائحة حتى كدنا نموت ! وكان نهارا لا ينسى حتى طرقت الحاجة الباب وسألتهم أن يفتحوه قليلا قبل أن نختنق جميعا !فسألها مستغربا : ما هذا . . ماذا لديكم . . ماذا فعلتم ؟ فأجابته الحاجة تضحك : فعلتها المدللة !


شويط اللحم !

والذي يبدو أن مسؤولي الفرع قرروا بعد استمرار هالة بتصرفاتها تلك القيام بمحاولة جديدة لامتحانها ، فرأوا أن يخرجوا ابن خالها السجين في نفس الفرع ويجمعوهما معا ليروا رد فعلها من اللقاء ، فسألت الحاجة مديحة رئيس قسم التحقيق أبا فهد أن يسمح لها بمرافقتها علها تستأنس وتتكلم . . ففعل .

فأخرجوهم معا إلى غرفة التحقيق بالقبو وكانت هالة وقتها قد نزعت الحجاب بالمرة وما عادت تبالي بستر أو بلباس ، فخرجت منكوشة الشعر تلبس تنورة ممزقة وتحملق في المجهول ، فما أن راها ابن خالتها بهذه الحال حتى أخذ يناديها بألم : هالة . . هالة . . لماذا تفعلين هذا بنفسك ؟ أنا ابن خالك . . وأمسكها يهزها وهي لا حياة لمن تنادي . . والمسكين يبكي ويقول لها : -يا هالة . . أنا ابن خالك . . أنا فلان . . ولكنها لم تبد أي ردة فعل ولم تظهر أية حركة ، فأتى إبراهيم وفتح باب المهجع علينا ثم جرها إليه جرا ودفعها لتدخل ونحن كلنا نراقب ما جري فما دخلت ، ووضعت يديها على طرفي الباب ووقفت مكانها فاجتمع أربعة عناصر يدفعونها تارة ويسحبونها أخرى ولكنهم ما استطاعوا أن يزحزحونها قيد أنملة . . فأشعل أحدهم السيكارة وجعل يلسع لها يدها ويزيد ويكرر حتى وصلت والله رائحة شويط اللحم إلى أنوفنا وهي لا تزحزح أصبعا واحدا وكأنها لا تحس بشيء . . فلم أتمالك نفسي أمام هذا المنظر الرهيب وصرت أصرخ بلا وعي : – منشان الله . . والله حرام . . حرام . وفي آخر الأمر تعاونوا فحملوها حملا وألقوها كقطعة من خشب على أرض المهجع وأقفلوا الباب . ولم تمض فترة على ذلك اللقاء حتى وجدناهم يستدعونها ثانية لمقابلة والدتها التي علمنا من بعد أنها دفعت مبلغا كبيرا ثمن ذلك ، وكان والد هالة قد أصيب بجلطة إثر اعتقال ابنته فنقل إلى المستشفى ولكنه ما لبث أن مات هناك بعد فترة . . وحضرت الأم الملتاعة إلى السجن وهي لا تزال متشحة بالسواد ، لكن اللقاء أثر بالسلب على الأم والبنت معا ، ففيما ازدادت صدمة البنت وقد علمت بوفاة أبيها تعاظمت لوعة الأم التي هالها أن تجد ابنتها فقدت العقل وانقلبت في تصرفاتها وشكلها أسوأ من المجانين . . فأصاب الأخرى ما يشبه الإنهيار ، ولم يستطيعوا أن يخرجوها من الفرع إلا شحطا !


وتكلمت هالة !

وانتهت المقابلة ، ولكن عذاب المسكينة وتعذيبها لم ينته ، فبعد فترة من الزمان وكان قد انقض على وجودها معنا حوالي الثلاثة أشهر كان باب المهجع مفتوحا للتنفس ، فما وجدناها إلا وقد ارتدت ملابسها وحملت حقيبتها ووضعت غطاء صلاة على رأسها وركضت بلا مقدمات خارج المهجع . . فلما رآها السجان هيثم اندفع وراءها يريد الإمساك بها فزلقت قدمه ووقع على قفاه . . وركض بقية العناصر فأمسكوا بها وأعادوها !لى المهجع .

فسألتها الحاجة: إلى أين كنت ذاهبة ؟ قالت : عيد ميلاد أمي . . رايحة أحضر عيد ميلاد أمي ! ودخل ابراهيم وقد التأم منها بشكل كبير وكانت جالسة على الأرض مثلما ألقاها العناصر فصفعها على وجهها صفعة خبطت رأسها مرتين في الجدار،ثم أمسك بهاوهويصيح : تريدين أن تخدعيننا وتهربي يا . . . وبدأ يلف يدها وراء ظهرها . . ويصفعها . . ثم يدير يدها أكثر ويصفعها . . ونحن كلنا نصيح ونستغيث . . فلا هو يرحمها ولا وهى بين يديه تتلقى العذاب تنبس ببنت شفة ! وعلى هذه الحال ظلت هالة تتعذب وتعذبنا لعذابها حتى كانت أول مرة تكلمت فيها معي حينما كانت مستلقية ذات مرة ، فلاحظت أن أظافرها قد طالت جدا فقلت لنفسي : فلأحاول معها من جديد .

وسألتها: -قولي لي يا أختي . . ما اسمك ؟ ففوجئت بها تجيبني بصوت كأنما هو قادم من عالم اخر : -اسمي على كسمي . .اسمي مخبا بنسمي ! انتفضت وأنا أصيح : حجة . . حكت . . حكييت ! .

وسألتها من ثم وأنا بين مصدقة لما أسمع ومكذبة : – ما رأيك أن أقص لك أظافرك ؟ ومددت يدي أحاول أن أمسك بأصابعها فما وجدتها إلا وقد نترتهم من بين يدي نترا قطعني من الرعب ، فانكمشت على طرف وألغيت الفكرة وما عاودت الإقتراب ! وفي مرة تالية أردنا أن نحممها ثانية فقلنا لعلنا إذا أخرجناها إلى حمامات الشباب وجدت المكان أوسع فتستجيب بسهولة ، فلما أخرجناها وأخذنا معنا بقجة ثياب . . سألت : – إلى أين أنتم تأخذونني ؟ إلى التلفزيون ! ولم تلبث أن انفجرت في الصراخ والبكاء فأرجعناها! وفيما بعد وعندما بدأت تتقبل فكرة الحمام قالت للحاجة عندما: سألتها أن تتحمم : لن أفعل حتى تخلع لي هذه ثوبها.مشيرة إلى ماجدة .

فقالت لها الحاجة! – لكنها إذا فعلت فليس لديها ثوب آخر تلبسه . . أنا عندي ثوب والله أرسله أهلي لي وما مسسته أو لبسته وهو غالي علي . . : ولم تكن الحاجة قد لبسته من قبل بالفعل فأخرجته خصيصا لها لعلها تقبل به ،لكنها لم تفعل وكررت طلبها لثوب ماجدة، فخلعته ماجدة لها اخر الأمر.. وقامت الحاجة فأعطت ماجدة بدورها الثوب الجديد!


الأحمر ممنوع والماء مرفوض

وكان مما لاحظناه على هالة أنها تخاف كل شيء أحمر اللون وتنفر منه فعند ما كانت تشاهد ضوء سخان الحمام الأحمر كنا نحس بهلعها وتوترها وكأنه يثير شيئا بأعصابها لا نعلمه . . وكانت ماجدة تضع حلقا على شكل وردة فيه حجرة صغيرة حمراء ،فكانت هالة تحملق فيه أيضا وترتسم على وجهها معالم الخوف . . فقمنا وغطينا الزر بكيس ورق ، وخلعت ماجدة حلقها وأخفته . وكانت عائشة تضع نظارات طبية ،.

فكانت هالة تحملق في النظارات فترة طويلة..وتظل تدنو من وجهها وتبتعد وتعود فتدنو تنظر كما يبدو إلى صورتها المرتسمة على زجاج النظارات ولا تمل وبعد فترة وهكذا بلا مقدمات قالت إنها عطشى . . فملأنا لها كأسا ! من حنفية الحمام حيث نشرب كلنا،فنظرت إلينا هكذا جميعا وقالت بترفع.”

-هل يسقي أحد بوله للثاني ! فقالت لها الحاجة :طيب . . سنأتي لك بأحسن كأس ماء في السجن كله وطرقت الباب فجاء أبو عادل يسأل ما الأمر، فقالت له الحاجة نريد كأس ماء للست هالة . . تريد أن تشرب .

– قال مستغربا:ألايوجدلديكم ماء؟ فأجابته الحاجة : الماء الذي لدينا لا يشرب مع هالة ! فذهب وأتى لها بكأس ماء أعطتها الحاجة إياه ،فنظرت في ثم فينا وقالت: هذا وسخ وبصقت فيه فسألته الحاجة أن يأتي بآخر ففعل ،ولما قدمته لها فعلت الشيء نفسه . .وعادت الحاجة فرجته أن يجلب لها كأسا آخر فاستجاب أيضا وكأنما اندمج في هذه التجربة المثيرة ! لكن الفعل تكرر وعاد فتكرر حتى اجتمعت أمامها سبع كاسات مصفوفة بصقت فيها جميعا وماشربت ولاقطرة! ومرة أخرى وفي إحدى جلسات التسلية كنا نمثل على أننا مثل اللاجئين الفلسطينيين نرسل سلامات لأهلنا عبر الراديو . . فكانت كل واحدة منا تعبر عن مشاعرها وأشواقها بهذه الطريقة ، فكانت الحاجة رياض تقول -أهدي سلامي إلى أمي . . يا حنونتي . . إيش عم تعملي هلق .ا أى أنك جالسة تنشقي وتبكي . . وتنخرط في البكاء . . فتبدأ المناحة ويبدأ الكل في البكاء على  ! أثرها. .فسألناها مرة: – هالة . . ألا تريدين أن تشاركي معنا في الإذاعة؟ وقالت لها أم شيماء: هيا هالة . .أنشدي لنا نشيدا.

فما وجدناها إلا وقد انبلقت مرة واحدة تنشد”توحيد ربي .- ومضت بها فما توقفت حتى نهاية النشيد وجاء السجان وقال : ما هذا؟ عاملين مولد نبوي فقالت له الحاجة : دعنا الآن بحالنا . . أغلق الطاقة واذهب الآن. وكأننا بفرحتنا بكلامها قد ولد لنا أول مولود، فجلسنا نحمد الله أنها نطقت وكسرت عن نفسها حاجز الصمت آخر الأمر

خمس دقائق وحسب” تسع سنوات في سجون سورية الحلقة الثالثة

أبناء النظام ضد النظام !

هؤلاء كن السجينات الأربع المتهمات بالإنتساب أو ألتعاون مع الإخوان ، وأما الخامسة منيرة كامل مصطفى فكانت من تصنيف اخر وحال مختلف : كانت البنت التي لم تجاوز الثامنة عشرة من عمرها واحدة من بنات القرى الساحلية العلويات ، شكل والدها وأخوتها وبعض أصدقائهم تنظيما ضد الدولة شيوعي التوجه وصاروا يصدرون منشورات تحض على كراهية النظام ، وكانت معتقلة مع أخيها أيضا الذي لم يكن يجاوز السادسة عشرة من عمره ، فاعتبروهما مجرد مراهقين يقومان بأعمال طائشة ، وقالوا بأنهم سيتركونها في السجن حتى يكتمل عقلها وينضج تفكيرها ، لكنهم كانوا متساهلين معها إلى أبعد الحدود ، فسمحوا لها بالزيارات ، وبإحضار جهاز راديو إلى زنزانتها ، وبزيارة أخيها في القسم الجنوبي من السجن ومقابلته ، وعندما عرف الشباب المعتقلون معه بذلك صارون يقسمون زياراتهم (أي الأغراض التي تأتي لهم في الزيارات المتاحة) ويرسلون قسما منها مع منيرة إلينا وكنا فى البدايه نشك بها جميعا ونحذر أن تكون متعاملة مع المخابرات ، لكنها كانت لطيفة جدا وطيبة القلب ، حتى أن الحاجة مديحة سالتها مرة بين المزاح والجد : – نحن لن نبين لك أي شيء ولن نتكلم أمامك عن وضعنا لأننا نخاف أن تذهبي إلى المقدم وتحكي له . . فأجابتها منيرة بطيب خاطر : تأكدي تماما أنني لست من هذا النوع ، ولو كنت لما وجدتني معكم هنا . وعلى الرغم من أنها ظلت متمسكة بشيوعيتها بعد العديد من المناقشات بينها وبين البنات ، إلا أنها كانت تحترم تديننا ، فكانت تخفض صوت الراديو إذا كنا في صلاتنا أو تلاوتنا وتراعي مثل هذه الأمور ، وعندما أضربنا في وقت لاحق شاركت معنا ووقفت إلى جانبنا حتى النهاية .


هافي طاقة !

هؤلاء كن صحبة المهجع الأوائل ولشهور عدة قبل أن يفد نزلاء جدد ويغادر البعض من بعد . . وأما المهجع نفسه وهو الثاني في التسلسل العددي لمهاجع القسم فكان عبارة عن غرفة متوسطة الحجم ثمة حمام على يسار الداخلين إليها فوقه دوش ولكن من غير باب ، ولحل ذلك مددنا حبلا استخرجناه من وسط إحدى “التنورات ” التي معنا وعلقنا عليه إحدى البطانيات القليلة التي أعطونا إياها كحاجز .

وكان الحمام يحتوي أيضا على سخان كهربائي خصوا به مهجع النساء فقط ، فلم تكن لمهاجع الشباب لاحمامات ولاسخانات ولا حتى صنابير ماء ! ولكن ذلك كان سببا لكي يخرج الشباب مرتين أو ثلاث إلى “الخط ” أو إلى الحمامات بعد كل موعد طعام ، وأما باب مهجعنا فلم يكن بابه يفتح غالب الأوقات ، ولم يكن له منفذ اخر غير فتحة تسمى نافذة اصطلاحا وهي في الحقيقة مجرد فراغ بين أعلى الجدار من الداخل قريبا من السقف وبوابة السجن الرئيسية من طرفه الآخر على مستوى الأرض فيها ، وبين الجهتين ثمه طبقات من القضبان الحديديه والشباك الخشن والناعم إلى درجة لاتسمح حتى بمرور الهواء نفسه وتحجب وصول أي شعاع ضوء ! ولذلك كنا في عز البرد نستغيث من الحرارة وانعدام الهواء النقي ، ونرجوهم أن يفتحوا لنا طاقة الباب أو أن يأتوا لنا بمروحة تحرك الأ نفاس الراكدة على أقل تقدير ، فكان السجان ياسين على الأخص يرفض أن يفتح لنا الطاقة لنتنفس ، فإذا رجته إحدانا ازداد تعنتا وجعل يكرر كالآلة على مسامعنا عبارة واحدة أثيرة لديه : – هافي – أي لا توجد – طاقة . فتقول له الحاجة : طيب أحضر لنا مروحة أو أي شيء يمكن أن يغير جو الغرفة فإنا نكاد نختنق .

فلا يجيب إلا بنفس الإجابة : – هافي طاقة . . هافي مروحة . . هافي باب ! وكان يوم عيد لنا يوم أن سمحوا لنا بعد ثمانية أشهر من الإعتقال بالتنفس خارج جدران المهجع مرة أو مرتين في الأسبوع . . فيما لم يجيبوا طلبنا الثاني بشأن المروحة إلا بعد انقضاء أكثر من سنتين على الإعتقال . . وامتلاء المهجع بالنزيلات حتى غص بهن ، وكدن من فرط المعاناة وشدة الإزدحام أن يقضين نحبهن !


الهمس ممنوع . . والزمن معدوم . . والشكوى مذلة !

كانت الأيام تمر بطيئة ورتيبة . . وبدأنا لذلك نعتاد أن ننسى الوقت ونغفل عن جريان الزمن ! كنا لا نستطيع التفريق بين الليل والنهار ونصلي على التقدير . . ونحسب الأيام بتبدل دفعات السجانين وبتباعد تاريخ اعتقال كل واحدة منا ، وأما ضوء المهجع الذي كان يشعل ويطفؤ من الخارج فكان يزيد تعميق الشعور لدينا بتساوي الليل والنهار . . وبالطبع فلم تكن النافذة لتسمع عمقهما وتعدد طبقات القضبان والشبك فيها بالاشارة إلى أي تبدل في المواقيت أو الزمان ، علاوة على الظلمة التي تسود بطبيعة الحال في فصل الشتاء .

وزيادة في إشاعة القلق الدائم والتوتر فينا لم يكن مسموح لنا بالكلام إلا همسا ، ومجرد أن يسمع أحد العناصر صوت واحدة منا كان يخبط الباب بالكابل خبطة مرعبة وهو يصيح بنا أن نخرس أو أن نخفض الصوت ! وعلاوة على ذلك كانوا إذا أرادوا مناداتنا لأمر ما خاطبونا باسم رجل لا بأسمائنا . . فكنت على سبيل المثال أنادى غالب الأحيان باسم محمد إ! ويبدو أن أمي قررت بعد أسبوعين تقريبا من اجتماعنا في المهجع أن تكسر هذا الجو المرعب بطريقتها وتخترق أسوار الارهاب . . فطرقت الباب بلطف في البداية وسألت حسين أن يحضر لنا مصحفا فقال لها باستغراب : -وهل تظنين أنك في بيتك أو في قصر لتطلبي على كيفك ! ألا تعلمين أن المصحف ممنوع هنا؟ فسألته وهي لا تزال محافظة على هدوئها : لماذا ؟ قال بشراسة : لأنه لا توجد مصاحف هنا في الفرع . فقالت له : رأيتهم بعيني مكدسين في غرفة التحقيق وأصحابهم جالسين في المنفردات .

وكانت تتحدث عن الشباب الذين أحضروهم يوم اعتقالنا الأول من المسجد دفعة واحدة ووجدوا معهم مصاحف حفاظ صغيرة فصادروها . . فأجابها بصلف : -لكن تلك المصاحف للحرق لا للقراءة ! فعادت ترجوه بلطف وتقول له : أعطنا واحدا منهم فقط ولن يراك أحد أو يحاسبك . . وحتى لو كان صغيرا فليست مشكلة . . فقال لها ممنوع وأغلق الطاقة . فعادت ودقت وكررت عليه الرجاء فأجابها نفس الجواب وصفق الطاقة بوجهها من جديد .

فعادت ودقت بقوة فحضر عنصر أخر علوي اسمه ابراهيم فسألته نفس الطلب ، وكانت أجابته كما أجاب من قبله : ممنوع . . المصحف هنا ممنوع . . . فقالت له إذا أعطني ورقة لأقدم طلبا إلى رئيس الفرع . فقال لها:لا يوجد لدي ورق .. وبعد مماطلات ومشادات كل ومل وأعطاها ورقة قدمت عليها طلبا للمقدم ،فأرسل ذاك وراءها وبهدلها وقال لها: لاتوجد مصاحف هنا.

وأضاف: لماذا تريدينها لتقرأى وتدعى علينا فلما عادت وأخبرتنا بذلك قررنا الإضراب عن الطعام . . وامتنعنا عن استلام وجبتي الإفطار والغداء . .فهددونا إن لم نفك الإضراب بالعودة إلى المنفردات ، وقطعوا الماء عن المهجع زيادة في الضغط ، وكانت أول تجربة لنا فتوقفنا عن المطالبة وما عدنا تكلمنا بشيء وفي اليوم الثاني عادت أمي فطلبت ورقة وقلما لتقدم طلبا اخر للمقدم فحضر أبو عصام مدير السجن وسألها ماذا تريدين فقالت اننا نعاني ضيق الخلق ونريد أن نتسلى بالمصحف فقال لها ولماذا لا تتسلي بأشياء ثانية . قالت : مثل ماذا ؟ قال :كما يتسلى الشباب . . بشغل العجين قالت له : طيب علمنا .

فقال لها:سأذهب فأسألهم لك وأعود بالجواب وبالفعل لم تمض حوالي الساعة حتى عاد أبو عصام ومعه مصحف قديم جدا لا أدري من أين أتى به ولكنه جيد وكبير فقسمناه من فورنا أجزاء أجزاء،وكانت لدينا كرتونة لا أدري من أين أيضا فغلفنا الأجزاء بها ورقمناهم وصرنا نتلو ونحفظ منهم ، وعاد عنصر بأمر من أبي عصام إلينا فعلمنا كيف يشتغل الشباب بالعجين .


اوراد وأذكار وتسالى

كان الشباب السجناء ياكلون من الخبز وجهها الناضج وحسب ويجمعون العجين من قلبه فيعجنونه مره ثانيه اذا تكدست كميه كافيه منه ويخمرونه بلعابهم ثم يعيدون عجنه حتى يصبح متماسك القوام فيصنعون به اشكالا وتماثيل مختلفه ومسابيح جميله جدا حتى ان رئيس الفرع احتفظ بطائره من صنع الشباب فى مكتبه ظننتها اول ما رايتها هناك مصنوعه من الفضه وكان العناصر يحضرون للشباب الوانا يستخدمونها ايضا فى تجميل انتاجهم لياخذوه منهم آخر الامر بالتاكيد وهكذا دخل حياتنا الرتيبه عنصر جديد وبدانا بصنع المسابيح اول الامر فكنا نمضى ساعات نعرك فيها العجين ونخمره ونكوره ثم انتقلنا بعدها الى صنع الاطواق وعلاقات المفاتيح والاشغال البسيطه وعندما تطورت خبرتنا ادخلنا التلوين بطريقتنا الخاصه فصرنا نطلب من بعض العناصر ان يعطونا طحل القهوه او بقايا لنلون به ثم لما سمحوا لنا بالادويه فى الفتره الاخيره استخدمنا بعضها بعد اذابته اوسحقه كعنصر تلوين وكانت المفاجاه بحق حينما وجدنا الحاجه مديحه د تمكنت من تهريب اسياخ لشغل الصوف حينما حضرت من سجن المسلميه وكانت واحده اخرى من البنات قد احضرت قطعه ملابس صوفيه قديمه معها فكررنا وجعلنا نتسلى بشغل الصوف ايضا وبدانا فى فتره لاحقه بجمع نوى الزيتون اذا حصلنا عليه وحفها وصنع مسابيح منها لكن احد العناصر عندما اكتشف اننا نحفها على جدار المهجع لخشونته نهانا عن ذلك خشيه ان تكون اشارات نكتبها لاحد فصرنا نجمعها وناخذها معنا فنحفها على ارض الساحه وقت التنفس وصارت امى تبتكراشياء جديده بسيطه ومسليه لنا وتعلمنا من الالعاب مالم نكن نعلم فعلمتنا مثلا لعبه الكاس وكان لدينا واحده من البلاستك فكنا نتحلق حولها ونديرها الى ان تتوقف عند احدى البنات فكان عليها ان تجيب على اى سؤال يوجه اليها بسرعه وصراحه وكنا نجتمع على هذه الالعاب ونستمتع بها لا يشذ عنا إلا الحاجة مديحة التي كانت تسخر منا ولا ترتاح كأنما لاتفاقنا . . وترانا دائما أقل منها سنا ومنزلة وخبرة وتحسنا وكأننا ضد طباعها في كل شيء ! وبرغم المعاناة والتوتر استطعنا أن ننظم أوقاتا لتلاوة القرآن الكريم وحفظه وتلاوة الأوراد والمأثورات والتهجد . . حتى صارت البنات يتبارزن من تستطيع أن تصلي أكبر قدر من القران في تهجدها . . فإذا قدرنا دخول وقت الفجر صلينا وجلسنا إلى المأثورأت – والضوء مطفؤ بالطبع لنبدأ بعدها بقراءة ياسين أربعين مرة وحزبا من القرأن على نية الفرج وتيسير الأمور ، ونكرر الشيء نفسه في المساء . وكنت أبقى مع ماجدة بعد انتهاء ورد الصباح نراجع حفظنا من القران حتى ننعس فننام أو نكمل اليوم بلا نوم . وكانت والدتي تظل صاحية بعد الفجر حتى يدخل وقت الضحى فتصليها وتنام بعدها برهة من زمن .


أحاديث عبر الجدار !

وخارج جدران مهجعنا كان لأكثرنا تسلية وتسرية من نوع اخر ، فكنا نترقب وقت خروج الشباب بعد الإفطارإلى الخط فيقبل بعضنا إلى شق في طاقة بابنا تراقب ما يجري وتترقب بعضهن أن ترى أخا لها أو قريبا بينهم . . ولم تكن هذه هي الصلة الوحيدة بيننا وبين الشباب ، فلقد اكتشفت البنات قبلنا وجود فراغ بسيط حول انبوب التدفئة بين مهجعنا والمهجع المجاور فطلبن من العناصر خرطوما بحجة استعماله في الحمام فأحضروه لهم ، فمددوه عبر الفراغ وصرن يحادثن الشباب عبره أو يمررن لهم الماء من خلاله لأن المهاجع الأخرى باستثنائنا لم تكن فيها حمامات أو صنابير مياه كما قلت ، ولم يكونوا يسمحون لأحد بطلب ماء أو الذهاب للحمام إلا في المواعيد . .

ولقد حدث بعدها أن واحدة من السجينات الجدد متهمة بالتعامل مع العراق اسمها أم كامل فسدت علينا ، فقام العناصر بسد الفتحة بالإسمنت ، فلجأنا إلى التخاطب عبر الأ نبوب المعدني نفسه بالطرق عليه كإشارة أولى ، وكانت الحاجة تتولى الحديث بعدها أغلب الأحيان لأن مكانها كان مجاورا للأنبوب ، فكانت تنتظر هدوء الأحوال ونوم الحرس لتقرع على الأ نبوب وتحادث الشباب بصياح مكتوم تخفيه قدر ما تريد أن تبديه خشية أن يسمعها أحد من العناصر ! وكانوا في تلك الفترة يتعمدون معاملة الشباب أسوأ ما يمكن ، وينقلون دفعات منهم إلى تدمر كل يوم ، وكان الشخص الموكل بذلك وينادونه أبا طلال يأتي قبل صلاة الصبح فيقرع باب المهجع الذي فيه المطلوبون بكلبشات يحملها بيديه ثم يبدأ بتلاوة أسمائهم واحدا بعد الاخر ، وبعد أن ينتهي من سرد القائمة التي كانت تبالغ عشرين أو ثلاثين اسما كل يوم يصطف الشباب المساكين في الظلام فيكلبش كل اثنين منهم من أيديهما وأرجلهما معا . . فمنهم من يتجلد فيمضي ،ومنهم من يصيح ويستغيث ، ومنهم من يغمى عليه وقد أحس بدنو منيته ، فيشحطون هؤلاء على أرض السجن إلى سيارة بانتظارهم كالذبائح تماما تقاد إلى المسلخ . . وربما استفرغ بعضم أو فعلها تحته من هول الخبر ، فلا نستطيع ونحن نسمع هذه المأساة كل فجر يوم إلا البكاء والدعاء . . وكانوا كلما نقلوا دفعة إلى تدمرأتوا بثلاث أو أربع دفعات جديدة من المعتقلين مكانها ! فكانت الزنزانات والمهاجع محشورة أيامها بالشباب حشرا ، حتى لجأوا إلى استخدام الحمامات كزنازين في بعض الأحيان !


لوعة الام. . ومأساه الولد !

ولقد كان من عجائب مشاهدات السجن وقتذاك أن والدتي أخبرتني يوم لقائنا الأول في المهجع بأن أخي وارف سيغادر سورية حسب معلوماتها إلى لبنان ، وسيخرج من هناك إلى بلد اخر ولن يعود ، ويبدو أنه أخبرها بذلك حتى لا تقلق عليه وحسب ، وحقيقة الأمر أنه كان لا يزال في سورية . . ففي يوم من الأيام صلت أمي التهجد ثم الفجر ، وانتظرت فصلت الضحى ثم اتكأت لتنام على عادتها ، فما وجدتها إلا وقد انتفضت فجأة من نومها تقول لي :- سمعت صوت مشي أخيك وارف في السجن ! وكان السجن وقتها في غاية الهدوء ، فالشباب عادوا من الخط . . والعناصر نائمة على الأغلب . . فلا تسمع أي حس . . فقلت لها : – ما هذا الكلام ؟ لا يوجد أي صوت . . وتقدمت من شق الطاقة لأتأكد فوجدتهم يقودون أخي وارف بالفعل من طرف سترته البنية التي أعرفها وقد طمشوا له عينيه وكبلوا يديه للوراء . . ورأيت حذاءه الرياضي الأبيض وحسين يسوقه ويقول له : – هيا إلى المنفردة . لكنني قلت لأمي وكأنني أحدثها من عالم آخر : لا أحد هناك . غير أن قلبي كان كأنما هبت النار فيه . . وغمرتني رغبة في البكاء وحاجة لإخبار أحد ، لكنني لم أستطع فعل أي شيء أمام أمي . . وبعد فترة وعندما أضربنا إضرابنا الثاني وأخرجونا إلى المنفردات فعلا عقوبة لنا تصادف أن وضعوا أمي وأم شيماء في زنزانة واحدة معا ، لى اذ بها نفس الزنزانة التي كان وارف معتقلا فيها ، في تلك اللحظات كانت أمي تتصنع وأم شيماء البكاء لترققا قلوب السجانين علينا ،لكنهما كانتا لا تكادان تتمالكان نفسيهما من الضحك . . فأخذتا منشفة ووضعتاها بين أسنانهما لإخفاء الضحكات ، والتفتت أمي كأنها تريد أن تدق الباب على السجان فرأت على الجدار رسم مسجد محفور وقد كتب تحته بنفس الطريقة : لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد . . الشهيد محمد وارف دباغ . فانقلب البكاء الذي كانت أمي تتصنعه حقيقيا ، وصارت تنادي عليهم تريد أن تعرف أين ولدها ومتى اعتقال . . لكن أحدا لم يجبها . . وظلت تعذبها الظنون وتقتلها الحيرة ولا من مجيب . . وتبين لي فيما بعد أنهم اعتقلوا وارف وغسان أول مرة في حماة وأفرجوا عنهما بعد أيام دون أن يثبت شيء على أي منهما ، ثم كان اعتقال وارف الثاني واحضاره إلى كفر سوسة والإفراج عنه من غير أن يدان بشيء أيضا ، وعندما استشهد بعد مدة استدعى المقدم ماجدة وقال لها ضمن ما قال :- أمسكناه في المرة الأولى لما ظننا أنه مجرم ، فلما تبين لنا أنه بريء أخرجناه . . وفي المرة الثانية ظنناه بريئا فأطلقناه أيضا ولكنه طلع مجرما غرر به أخوه فنال جزاءه بعد ذلك . . وبشر القاتل بالقتل ولو بعد حين !


نصف بلاطة للنوم !

وتستمر معاناة السجن وتزداد . . ووجدتني بعد فترة في المهجع قد ابتليت بالام شديدة في ظهري حتى لم أعد أستطيع رفعه ، وترافق ذلك مع حالة تقيؤ مستمر واسهال . . حتى كدت أموت يومها بالفعل ! كان نومي وقتها بجانب أنبوب السخان المركزي الذي كان عاطلا عن العمل بالطبع فلا نتلقى منه إلا برودته ورطوبة الماء المتكثف عليه ، ولم يكن لي خيار في المكان لأ ننا كنا لازدحام المهجع لا يكاد يجاوز نصيب الواحدة منا وقت النوم أكثر من نصف بلاطة وحسب ، ولو أرادت إحدانا أن تتقلب لاستدعى ذلك تحريك المهجع بأكمله لم أحس بالبرودة في البداية ، لكنني وجدتني فجأة لا أقدر على تحريك ظهري مع الأعراض المؤلمة الأخرى التي ذكرت . . فقامت البنات يطرقن الباب جميعا ويسألن العناصر أن يحضروا طبيبا لعلاجي لكنهم لم يجيبوا ، فطلبت الدكتورة عائشة منهم طستا من البلاستيك أحضروه لها بعد إلحاح وطول رجاء ، فجعلت تعمل لي مغاطس ماء ساخن متتالية خفت عليها الأوجاع بحمد الله بعد يومين .


إضراب جديد

ومرت الأيام ، وفي كل يوم كانت لنا قصة جديدة وتجربة وعبرة . . وكانت أمي لا تفوت فرصة تحقق لنا فيها بعض السلوى أو تؤرق فيها السجانين والعناصر إلا واغتنمتها ، وباتت سياسة واضحة عندها أن تبتكر مطاليب لنا أو باسمنا تحقق منها إحدى الغايتين أو كلاهما . . وذات يوم وبعدما رأيناهم سمحوا لمنيرة بتقديم امتحان الثانوية خطر على بال بعض البنات المطالبة بالمثل ، فكتبن إلى رئيس الفرع يسألنه السماح لنا بالكتب الجامعية التي ندرس بها وبتوفير جو ملائم للدراسة . . وبالطبع قوبل الطلب بالرفض والسخرية والتقريع ، فاقترحت أم شيماء أن نضرب عن الطعام حتى يستجيبوا ، وسرعان ما شجعتها أمي وأيدت أكثريتنا الفكرة ، فلما أتوا بطعام العشاء رفضنا استلامه .

سألونا : – لما ذ ا ؟ قلنا : مضربين . -السبب ؟ أجبنا : نريد أن نقدم امتحاناتنا أيضا . رد العنصر ابراهيم : إذا لم تأخذوا العشاء فسنأخذكم إلى المنفردات . فأجابته أمي : سيكون أحسن . . ستتنفس كل واحدة لوحدها على الأقل ! أغلق ابراهيم الباب بلؤم وذهب ليعود بعد قليل بضحكة صفراء يقول : – المعلم – أي رئيس الفرع يريدكم أن تتجهزوا لننقلكم إلى المنفردات بعد نصف ساعة .

وبالفعل لم تمض الفترة التي تحدث عنها حتى حضر وأخذ كل اثنتين منا إلى زنزانة من المنفردات ، فوضع أمي وأم شيماء في واحدة ، وماجدة وعائشة في أخرى ، ووضعني وفوزية حجازي في الثالثة ، وأما الحاجة مديحة فسألها ساخرا : – وماذا عنك أنت ؟ ألن تقدمي الثانوية أيضا ؟ فأجابته : أبوي . . أنا لا أعرف القراءة ولا الكتابة ! فتركها في المهجع . . وبقينا بضع ساعات شاهدت أمي خلالها اسم أخي وارف على الجدار فازدادت ثورتها وعلا صياحها . . ولم يلبثوا أن أعادونا إلى المهجع اخر الليل ، ولم يستجيبوا لطلبنا بالطبع ، لكننا كنا سعداء بهذا الأثر الذي تركناه والحركة التي أحدثناها رغم كل الضغوط والترهيب .


رصاص بعد منتصف الليل !

وفي يوم من الأيام وبعدما انتهى العشاء وهجع أكثر السجناء والسجانين مزق السكون عن غير سابق إنذار صوت الرصاص يلعلع على مقربة من السجن وكأنه فوق رؤوسنا . . واستنفر الفرع كله وهرع العناصر فأغلقوا الطاقات كلها وأطفؤوا الأ نوار ، وصاحوا بالمساجين وصوتهم يكاد لا يسمع مع أصوات خرطشة الأسلحة وأزيز الرصاص : – ولا حركة ! لم نفهم ما الذي يجري بالتحديد هل كان اشتباكا أم هجوما على الفرع ، لكن الرصاص كان يصل إلينا فيصيب حتى جدار المهجع من الخارج ولم يكن بينه وبين الشارع إلا فسحة صغيرة يليها السور فنحس وكأنما اخترقه . . حتى أن أمي نهضت فتوضأت وصلت صلاة الشهادة ثم احتمت وإيانا بالجدار خشية أن تبلغنا الطلقات ! وبلغنا فجأة من بين الأصوات المختلطة صرخة كالزعيق تبعها صياح العناصر المضطرب ينادي : فلان قتل . . تعالوا . . فقدرنا أنه أحد عناصر الحماية على الباب . . وبعد حوالي الساعة من بدء الإشتباك هدأت الأمور بالتدريج كما بدأت ، وحاولت الحاجة الإستعلام عما حدث من ابراهيم الذي كانت نوبته وقتها فنهرها وحذرها من إعادة السؤال ، وعدنا إلى ما كنا عليه لأيام قليلة أخر دون أن نعرف حقيقة ما جرى بالتحديد . .


إفراج . . ولكن إلى تدمر !

وذات يوم . . وبينما كانت الحاجة تحادث الشباب في الزنزانة المجاورة عبر الأنبوب أتاها من وراء الجدار صوت سائل منهم يسأل إن كان بيننا حمويات .

فقالت له نعم . . فقال لها : – يا خالتي نحن من حماة أيضا وسنخرج غدا إفراج ، فلو كانت لدى أي من الحمويات رسالة لأهاليهن اكتبوها وضعوها في شق الطاقة ونحن سنسحبها بإذن الله أثناء خروجنا إلى الخط بطريقة لا تشعر العناصر ونوصلها لهم .

والذي تبين بعدها أن هؤلاء الشباب المساكين وعدوا بالخروج في اليوم التالي بالفعل ولكن الخروج كان في الحقيقة إلى تدمر ! وفوجئنا عند الصباح بالمحقق يرسل وراء أمي بلا مقدمات أو سبب . . فتعود والدموع ملء عينيها تحدق في وتبكي . . فتملكني القلق والخوف عليها وهجمت أحضنها وأسألها ماذا حدث . . فقالت : – أخبرني أنهم سينقلونني إلى فرع اخر اليوم ولكنني أظنه كاذبا . . وأحس أنهم سيطلقونني اليوم .

وقصت علينا أن المحقق لما استدعاها ابتدرها يقول لها : – جهزي نفسك وأحضري أغراضك بسرعة . فسألته : وابنتي ؟ قال : ستبقى رهينة عن أخيها صفوان ولن تخرج حتى يسلم نفسه . . أو فاعتبري أنك لم تلدي هذه البنت وانسيها ! وجعلت أمي وهي تقص علينا ذلك تخلع ملابسها عنها وتعطينا إياها قطعة بعد قطعة ، وما أبقت إلا ما يسترها وحسب لعلمها أنه ليس لدينا ما يكفينا . . وسألتنا إن كان أي منا يريد إرسال رسالة أو توصيل خبر عنه ، فسارعت ماجدة وأخذت قلما من منيرة وكتبت رسالة لأهلها على ورق المحارم دستها أمي في كم سترتها ، وأخذت تعانقنا وتقبلنا وتدعو لنا وندعو لها وخرجت . . ولم تكد تبلغ الباب عند السلم وهي تستحلف العنصر أن يخبرها بموعد خروجنا لى اجابته الساخرة ورجاؤها المتكرر يبلغ مسامعنا فيزيدنا ألما وحسرة حتى انفلتت من بين يديه وقفلت راجعة ، ففتحت طاقة الباب وسألت بسرعة تقول : – نسيت هؤلاء الشباب جيراننا من بيت من كانوا ؟ ولم نكد نخبرها حتى كان حسين قد وصل إليها فأمسكها من ياقة جلبابها وجذبها مغلظا لها في الكلام . . وهي ترد عليه الكلمة بأخرى والعبارة بأشد منها حتى خرجت . . وكانت اخر مرة أراها فيها رحمها الله .

وأما رسالة ماجدة فعلمنا بعدها أن أمي توجهت أولا إلى بيتنا في دمشق الذي اعتقلنا فيه وقصت أخبارنا على البنات اللاتي كن معنا فسألنها أن يرين الرسالة ، لكنهن اجتهدن أن ينقلنها على ورقة عادية خشية أن تتمزق المحرمة ، فلما ذهبت أمي بها إلى أهل ماجدة لم يصدقوها لأنهم رأوا الخط مختلفا . . وظنوا وقد فقدوا الأمل بابنتهم أنها إنما تسري عنهم وحسب ، وظلوا في شكهم حتى فتحت الزيارات في سجن قطنا بعد سنين فرأتهم هناك ورأوها بعد طول فراق .


معززات مكرمات !

وتم الإفراج عن أمي في السادس عشر من شباط . . وتأكد لنا الخبر حينما استدعى المقدم ماجدة بعد أسبوع تقريبا لأنها قدمت طلبا له تسأل فيه حلا للوضع ، فقال لها بكل صلافة واستعلاء : – انظري . . لا توجد أحسن من جلستكن هذه أبدا . . أنتن هنا معززات مكرمات . . ومثل هذا الفرع لن تجدوا ! وأضاف يقول : هذه أم هبة أخرجناها فجلست هنا على الباب فترة طويلة تبكي ولا تعرف كيف تتصرف حتى أعطيتها أجرة الطريق من جيبي أنا . . وبالتأكيد كان ناصيف يكذب لأن أمي ظلت جالسة عند الباب ترفض التحرك قبل أن تعرف مصيرنا وتأمل أن تسمع قبل ذهابها ولو إشارة بقرب الإفراج عنا وإلى أين ستتجه الأمور ، لكن الإفراج لم يتم . . وسارت الأمور من سيء إلى أسوأ ، فلم تلبث أن انضمت دفعة جديدة من المعتقلات إلينا . . لتنفتح علينا قصص أخرى من الماسي والآلام . . ونبدأ فصلا جديدا من الكرب والمعاناة .


مزيد من الضيو ف . . مزيد من المآسي !

لم تكن يومان أو ثلاثة من الإفراج عن أمي قد انقضت حينما قرع علينا أبو عادل مدير السجن باب المهجع ضحى ذلك اليوم ودفع إلينا بسيدة تضع منديلا أسود انقلب لونه من الأعلى إلى الصفار الباهت . . وترتدي بالطو من الجوخ الأسود أيضا وتحمل في يدها بقجة جمعت فيها حاجياتها كما يفعل الشحاذون تماما ! أطلت ثم ارتدت للوراء لبرهة كانت كافية أن نلمح هيأتها الرثة وبقايا جدري أصابها منذ الطفولة فترك مع أصابع الزمن ندبا على وجهها المرهق . . فتبادر إلى أذهاننا أنها متسولة ألقوا القبض عليها وأحضروها لتشاركنا المكان ! فحوقلنا وقلنا لأ نفسنا ونحن بين النفور والإشفاق : وهل ينقصنا عذاب من هذا النوع مع كل الذي نلقاه . . روائح ومناظر الشحاذين ! لكن الباب فتح على اخره مرة ثانية واندفع أبو عادل يصيح بنا : -هيا . . انهضوا واستقبلوهن . . ودخلت السيدة نفسها تتبعها أخريات لا يختلفن في الهيئة الرثة عنها كثيرا : فهذه كالخادمة . . والأ خرى أشبه بالمتسولات . . وتلك تلبس مانطو ممزقا . . ورابعة ترتدي تنورة أطول منها وقد عقدت إيشاربها على رأسها أوثق ما تستطيع ، وعليها كنزة ضيقة تلتصق على جسدها وقد عفا عليها الزمن ، وفقدت أزرارها من الخلف فبقيت مفتوحة بعض الشيء . . ولم نكد نستوعب النظر إلى النساء الست القادمات حتى اندفعت أولاهن نحو الحاجة مديحة تعانقها وهي تصيح : – أبوي . . أنت هون ؟ وانفجرت السيدة في البكاء ، وبادرتها الحاجة بالدموع تقول : – حاجة رياض . . الحمد لله على سلامتك . أخيرا . . أخيرا وجدت ونيسا لي في هذا المكان .

وبحركة غير متكلفة دفعت الحاجة مديحة البنت التي كانت تجاورها في المجلس وأفسحت لصديقتها الحاجة رياض المكان فأجلستها فيه وما عادت تحركت عنه أبدا ! وتحركت بقية القادمات الجدد نحونا بتوجس طبيعي بادئ الأمر . . ثم لم تلبث النفوس أن استراحت . . وانفتحت جعب الحكايات . . وغص المهج بالعدد الذي زاد عن سعته . . لتزداد المعاناة وتتوالى أيام العذاب .


باب الحديد !

كانت القادمات من سجن المسلمية بحلب خمس هذه المرة : الحاجة رياض د. ولمى ع. ورغداء خ. ومنتهى ج. وإيمان ق. وكانت مهزلة إحضارهن إلى كفر سوسة لا تقل ألما عن مأساة اعتقالهن وتعذيبهن . . فلقد أركبوهن السيارة من سجن المسلمية بحلب وقد كبلوا كل اثنتين منهما معا والخبر يقول إنه إفراج ، وكان قد سبق بالفعل إطلاق سراح حوالي 16 سيدة أخرى كن معهن ، لكن السائق اتجه بهؤلاء الخمس على الطريق الموصل إلى دمشق ، فلما عبرت السيارة الكرة الأرضية مغادرة حلب لاحظت الحاجة رياض ذلك رغم أن الوقت كان مساء فقالت للسائق ببراءة : -أنا بيتي عند باب الحديد خيو . . يمكن ضيعت الطريق ! فأجابها بلؤم وسخرية : لا . . طولي بالك . . ما وصلنا باب الحديد بعد . . أريد أن أعمل لكم دورة حول حلب وأوصلكم بعدها كلكم إلى باب الحديد ! فلما فهمت الحاجة المقصود أغمي عليها . . واصفر وجه لمى وقد ظنت أنهم سيأخذوهن الان إلى غرفة الإعدام . . وجعل العناصر يسخرون منهن طوال الطريق ويزيدون قلقهن قلقا ورعبهن رعبا . . فلما وصلن إلينا كن في غاية التوتر والإجهاد . . لكن دقائق تالية مرت كانت كافية لتغير الحال . . ولتفتح كل منها جعبتها وتروي قصتها في رحلة الآلام .


تحويشة العمر !

كانت الحاجة رياض من النساء الطيبات البسيطات ، خرجت من المدرسة في الصف السادس ولم تكمل تعليمها ، ولم تتزوج رغم بلوغها الأربعينات ، لكنها – كالحاجة مديحة – من أسرة متدينة وأخت لأشقاء ملتزمين كانت لديهم منجرة في حلب ففتحوا فيها مخبأ للملاحقين قبل أن تنكشف فيعتقل واحد منهم ويهرب الآخر إلى عمان ، وفي مرة كانت الحاجة رياض ذاهبة إلى هناك لتزور أخاها في عمان قدمت لها إحدى السيدات بعض المال لتوزعه على أبناء الشباب الذين أعدموا ولا يكادون يجدون في هذا الظرف الصعب معينا أو مصدرا للكسب ، وبالفعل أخذت رياض المبلغ ووزعته كجزء من واجب أحسته نحو هؤلاء المساكين ، لكن اعترافا أتى عليها لا تدري من أين فاعتقلوها وجعلوا يعذبونها أشد العذاب ، وبعدما فتشوا بيتها ولم يجدوا شيئا جعلوا يهددونها لتخرج النقود التي أحضرتها من عمان ، لكنها كانت قد وزعت المبلغ كله ، فزادوا عليها التعذيب حتى اضطرت أن تخبرهم عن مبلغ من المال كانت قد جمعته على مدار حياتها وخبأته للطوارئ تحت أحد الكراسي ، فأعطتهم إياه مرغمة لتنجو بنفسها ، وكانت كلما تذكرت ذلك بعدها تبكي وتقول للحاجة مديحة بحسرة : – أخذوا تعبي وعرق جبيني يا حاجة وعملوهم من الإخوان . . إي ولي على الإخوان وساعتهم ! وكانت تنشد أحيانا بين الحسرة والطرافة تقول : – إلهي قد غدوت هنا سجينا . . لأني وزعت مصرات الإخوان المسلمين ا إ! وروت الحاجة رياض عن تعذيبها الأهوال بحق ، فلقد تمت تعريتها مثل أكثر المعتقلات بحلب ، وجعل عمر حميدة يسحبها من شعرها على الأرض فيرتطم رأسها بالأرض والجدار ، مما تسبب في كسر عظمة أنفها . . وأصابها بعسر دائم في التنفس ، فكانت المسكينة بعد ذلك دائمة التشخير . . وزاد حميدة على ذلك العذاب الوحشي فسلط على وجهها خرطوم ماء شديد لتصحو من الإغماء فخرق لها طبلة أذنها ، وكان من المضحكات المبكيات أنها اعتادت بعد ذلك أن تنام على أذنها السليمة فلا تعود تسمع شخيرها الذي كان يؤرق نوم المهجع كله ، فنضطر إلى إيقاظها آخر الأمر لتعدل من وضعيتها وتساعدنا على اقتناص ساعة نوم هنيئ ! وقام الجلادون أيضا بقلع أظافرها التي لم تنم حتى بعد وصولها إلى كفر سوسة ، وظل مكانها مزرقا لفترة طويلة بعدها ، وكان حميدة – كما روت يجلسها في ركن الغرفة ويناديها : -تعالي يا بقرة . . تعالي .

وهو يومىء لها برأسه لتأتي ، فتفهم المسكينة الإشارة ولا تسمع الكلام وتجيبه . . فيضج والعناصر والمحققون عليها بالضحك وهو يقول : -والله بتعرفي اسمك يا بقرة !


أربعمائة ليره بثماني سنوات !

أما منتهى ج . والتي لم تكن جاوزت وقتذاك السادسة عشرة من عمرها فكانت زوجة أحد الذين أعدمتهم السلطة عام 1979 بتهمة الإنضمام إلى تنظيم مسلح معارض للنظام ، وكانت منتهى قد تزوجت عن غير رضا والدها ، فلما أعدم الزوج وهي حامل رفض أهلها استقبالها في بيتهم ، وأمضت عدتها عند بيت إحماها ووالدها يقول على الملأ “عيني لا تشوفها . . هذا جزاؤها لأنها لم تسمع كلمتي أ ا ! وعاشت المسكينة بعدها على الصدقات ، وكانت من ثم إحدى من أوصلت الحاجة رياض لهن مالا من تبرع السيدة في عمان ، فلما اعتقلت رياض أخذوها في الليل لتدلهم على بيتها فلم تستطع الرفض بعد العذاب الشديد الذي ذاقته ، ولما اقتحموا على منتهى البيت خرجت وابنتها الرضيعة على يدها ، فانتزعوا الطفلة من بين أيديها ودفعو بها إلى الأهل واقتادوا منتهى إلى فرع المخابرات .

ومن سوء حظها أن اعترافا آخر أتى عليها في الوقت نفسه بأنها تلقت رسالة من مصطفى قصار عرض عليهما الزواج فيها ، فنالت كالأخريات أشد العذاب ، فعروها وعلقوها بالسقف وتناوبت عليها كل وسائل التعذيب . . وقالت لهم ببساطة أنها لا تنكر تلقي الرسالة لكنها أجابته من حينها بالرفض ، ولم تنكر تسلم المساعدة المالية التي لم تجاوز الأربعمائة ليرة . . لكنها أوضحت أنها كانت هدية نقوط لابنتها وهذا حق البنت ولا علاقة له بالأم أو بأي أحد اخر . . ولم يشفع ذلك لمنتهى فأرسلوها بعد التحقيق والعذاب المهين إلى سجن المسلمية ، ومن هناك إلى كفر سوسة .

ومع الحاجة رياض ومنتهى حضرت فتاة حلبية أخرى اسمها إيمان ق . وكانت في صفها الثامن أو التاسع ، ولم توجه إليها أية تهمة سوى نقل الرسالة من أخيها مصطفى إلى منتهى بطلب الزواج ، ولذلك لم يشددوا عليها في التحقيق ولا في التعذيب واعتبروا عملها نوعا من الطياشة والجهل ، ونجت بذلك ولله الحمد من التعرية والإساءات . . وقد تم الإفراج عنهاعام 84 مع أم شيماء . وأما رابعة القادمات رغداء خ .

فقد اعتقلت مع الخامسة لمى في بيروت عندما ذهبتا هناك على أساس أن تلتقيا بأحد الشباب الذي وعدهما بضمهما إلى التنظيم ، لكن الشاب كان قد اعتقل قبلهما فوجدتا المخابرات في انتظارهما واعتقلوهما من هناك ، ولم تعذبا كثيرا لصغر سنهما ، حيث كانتا في الصف التاسع ونجحتا وقتها على العاشر ، لكن لمى تحدثت بأنهم أحضروا أثناء التحقيق معها ابن عمها المتهم بتنظيمهما ليعترف عليهما أمامها ، وقالت بأنها رأته يحمل عينه على كفه عندما أحضروه والدم لا يزال يخرج منها ! ولشدة طيبتهما ولما أرادوا إعادة التحقيق معهما في كفر سوسة عادت لمى إلينا منفعلة تبكي بحرقة ، فسألتها الحاجة ملهوفة عم حدث ، فقالت بقلب محروق وانفعال بلغ مداه : – نسفني كف وسب والدي . . واعتبرت ذلك غاية الإهانة وأشد العذاب !


حزب الهرموشية !

لكن العذاب كان أشكالا في السجن وألوانا . . ضرب الكف ولسع الخيزران والسب والشتائم بعض من أصنافه وحسب ، ونوع اخر من أصنافه أن تضيق الزنزانة على بضعة عشر شخصا لا منفس لها ولا مخرج . . تتباين بعض الأحيان عاداتهم وتختلف اراؤهم وتتعارض انتماءاتهم ولا يجدون بدا إلا المجاورة بالقسر ! ومن هذا الصنف أتوا إلينا مرة بسجينة من قرى درعا تهمتها تهريب السلاح والمتاجرة فيه . دخلت علينا فجأة فرمتنا بنظرة غريبة ومن غير أية مقدمات قالت : -طقع . . كل من على شكله وقع ! لم ندر وقتها ما الذي كانت تتحدث عنه . . وعندما سألناها لاحقا قالت : – عندما نظرت إلى المهجع أول مرة رأيت هؤلاء الكبار اللاتي تنادوهن حجات قاعدات مع بعضهما البعض وأنتن لوحدكن فتصورت أن هؤلاء غيرأولئك . . وكل واحد جالس مع شكله ! كان اسمها كما أذكر أم جبري ، ضخمة البنية طويلة الجسم عريضة المنكبين ، لكنها كانت غاية في الجهل ابتداء بأولويات النظافة وانتهاء بالسياسة ! كانت وسخة جدا فلا تنظف لا جسدها ولا مكانها ولا حتى الحمام إذا استعملته . . والمكان كله شبر بشبر ! وزاد عليها وعلينا القمل الذي تسرب منها إلى المهجع لكنه ويا للعجب لم يطب له المقام إلا في رأس منيرة التي كانت تجاورها في مكان النوم . . فلما اشتد الأمر على منيرة قالت لها الحاجة : -عندي الدواء ! وطرقت الباب منادية على حسين فلما جاء سألته أن يحضرو ا بابور الكازا ويعيره لنا ففعل ، فتناولته بيد وأدنت رأس منيرة باليد الأخرى وسكبت الكاز على رأسها . . لكن الكاز انتهى وظل القمل غاية في الحيوية والنشاط إ! ولم يخرج إلا بخروج أم جبري هذه بعد شهر أو شهرين بوساطة من محمود الزعبي رئيس الوزراء وقتها ، بعدما كادت تصيبنا وتصيب حتى المحققين بالجنون ! ولقد كانوا يسألونها وقد ظنوا أن وراء تهريبها السلاح أمر جلل : – من أي حزب أنت ؟ فتجيب : من حزب الهرموشية . . تقصد القرية التي أتت منها . . فيعيدها إلى التعذيب ظنا أنها تراوغه ، والمسكينة من جهلها لا تعرف ما الذي يغضب المحقق ولا الذي يستغربه من إجاباتها !


بلاء أخف من بلإء!

لكن “أم جبري ” كانت على ما فيها أرحم من صنف من السجينات أخر ابتلينا به . . وهن الشيوعيات الحاقدات . . ففي وقت لاحق وأثناء حوادث الإعتداء على المحجبات بدمشق أواخر عام 81 ألقوا القبض على عضوة في التنظيم الشيوعي وهي طالبة طب من دمشق من زميلات أخي في الجامعة اسمها فاديا لاذقاني ، كانت توزع منشورات باسم الإخوان لتأجيج التوتر كما يبدو ، وسرعان ما انقلب لتصبح مخبرة تنقل أخبارنا إلى رئيس الفرع أولا بأول ! كانت تفتخر بشيوعيتها وتتعالى بها علينا . . وكثيرا ما كانت النقاشات تدور بيننا حول ذلك بلا نتيجة ، لكن ذلك لم يكن ليمنع من إحسان الصحبة لولا أنها كانت تتعمد إزعاجنا والتشويش علينا ، فلقد سمحوا لها بالراديو مثل منيرة وبممنوعات علينا أخر ، فكنا إذا أردنا الصلاة أو قراءة القران رفعت صوته بالموسيقى والغناء لتشوش علينا ، أو وضعت السماعات على أذنيها مظهرة لنا الإنزعاج . . ولم تغير من سلوكها رغم تكرر الطلبات والرجاءات .

وعندما استشهد أهلي علمت فاديا بالخبر من المقدم وحدها ، فما وجدناها إلا وقد عادت بادية السرور تتدحرج على أرض المهجع وكأنما أصابها مس . . ولما سألناها عم حدث قالت : -سمحو الي بمسجلة . . لكن ذلك لم يدخل عقولنا ، فالراديو معها منذ وقت طويل ، والفرق بين الإثنين ليس بهذه الدرجة . . فعادت الحاجة بعد ذلك واستدرجتها على انفراد ، فما استحت أن تقول بأنها سمعت يومها خبر مقتل أهلي في أحداث حماة من المقدم فكان ذلك سبب فرحتها ! وكانت تتابع الأخبار بالراديو وتتتبع ما يجري في حماة وقتذاك ولكنها لم تخبرنا ولا كلمة . . وتظل تسهر من إذاعة لأخرى طوال الليل ونحن لا ندري عما يجري في الدنيا . وبقيت فاديا في “كفر سوسة” عندما نقلنا نحن إلى قطنا ليفرج عنها لاحقا . . وبعد ذلك أتت بنفسها فزارتنا في سجن قطنا” ، وكانت وكأنما تريد إغاظتنا تتحدث كيف أطلقوا سراحها ونالت حريتها فذهبت لتكمل دراستها في فرنسا وعادت الان في إجازة .

أدب السجون في رواية (ما لا ترونه) محمد الحسناوي

أدب السجون مظلوم ، كما أن سجناء الرأي أنفسهم مظلومون ، فهل يأتي يوم ، ترفع فيه كل الظلامات عن البشر والأدب ؟ وهل ظلم أدب السجون من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان أو لنفسه التي لا ترتاح لحديث السجن – ولو كان عن الأبرياء والمظلومين – كما ترتاح لحديث الحب والغزل ؟ وهل من العدالة أو الكياسة والذوق الرفيع الارتياح للغزل وشعر الغزل ، والإعراض عن السجون وأدب السجون ؟ وإلى متى ينساق الإنسان وراء الغرائز ، انسياقاً أعمى ، مما يصرفه عن الأخلاق والمُثُل والعواطف الشريفة النظيفة ؟
أدب السجون موجود منذ وجد الأدب ووجدت السجون ، ويمكن أن نعدّ منها كتاب (تجربة السجن في الأدب الأندلسي- لرشا عبد الله الخطيب )(1) و ( السجون وأثرها في شعر العرب –لأحمد ممتاز البزرة )(2) و( السجون وأثرها في الآداب العربية من الجاهلية حتى العصر الأموي- لواضح الصمد ) (3) وهي مؤلفات تهتم بأدب العصور الماضية ، أما ما يهتم  بأدب العصر الحديث ، فنذكر منها : ( أدب السجون والمنافي في فترة الاحتلال الفرنسي – ليحيى الشيخ صالح )(4) و( شعر السجون في الأدب العربي الحديث والمعاصر – لسالم معروف المعوش )(5) وأحدث دراسة في ذلك كتاب ( القبض على الجمر – للدكتور محمد حُوَّر) (6)..
أما النصوص الأدبية التي عكست تجربة السجن شعراَ أو نثراً فهي ليست قليلة ، لا في أدبنا القديم ولا في الأدب الحديث : نذكر منها ( روميات أبي فراس الحمداني ) وقصائد الحطيئة وعلي ابن الجهم وأمثالهم في الأدب القديم . أما في الأدب الحديث فنذكر : ( حصاد السجن – لأحمد الصافي النجفي )(7) و (شاعر في النظارة : شاعر بين الجدران- لسليمان العيسى ) (8) و ديوان (في غيابة الجب – لمحمد بهار : محمد الحسناوي)(9) وديوان ( تراتيل على أسوار تدمر – ليحيى البشيري )(10) وكتاب ( عندما غابت الشمس – لعبد الحليم خفاجي )(11)  ورواية (خطوات في الليل – لمحمد الحسناوي )(12)  وقد يكون آخر إصدار هو رواية (ما لا ترونه – لسليم عبد القادر ) وهي موضوع دراستنا في هذه المقالة .
عُرف سليم عبد القادر شاعراً سوريأ في ديوانيه ( القادمون الخضر )(13) و ( نعيم الروح )(14) وبأناشيده للأطفال التي أخرجتها (دار سنا) في أشرطة كاسيت وأشرطة فيديو ، فطبقت الآفاق . وأما (ما لا ترونه – الناشر بلا حدود – 2005م ) فهي روايته الثالثة بعد روايتيه (الأصدقاء الثلاثة ) ( و( ذبيح القدس )  ، وهي تحكي تجربة المؤلف نفسه بضمير الغائب من خلال الشخصية الأولى ( محمود النعيمي ) : طالب جامعي في كلية الهندسة من جامعة حلب في الثمانينيات من القرن المنصرم ، اعتقل من حرم الجامعة أمام زملائه وزميلاته في وضح النهار ، على حين اعتقل معظم زملائه من بيوتهم في جنح الظلام ، ولم تعرف أماكن اعتقالهم أو زيارتهم إلا بعد شهور من اختطافهم ، وتعذيبهم واستشهاد بعضهم تحت التعذيب ، من غير ذنب ارتكبوه إلا مخالفة الرأي للذين اغتصبوا السلطة .
أول درس سياسي في هذه الرواية – ولعله الهدف الأول منها – أن بطل الرواية محموداً كان قبل الاعتقال ضد العنف في معارضة النظام ، يؤمن بالحوار وبالعمل السلمي ، لكن طريقة الاعتقال ، بلا مذكرة قضائية ، وأشكال التحقيق المصحوبة بالتعذيب الرهيب ، نفسياً وجسمانياً ، مما وقع عليه وعلى إخوانه .. جعله ذلك كله يتحول إلى طلب العنف ، والتخلي عن النهج السلمي الذي كان يعتقده . فبعد شهور تستطيع أمه الوالهة أن تظفر بالموافقة على زيارته عن طريق أحد الأقارب الذي يعمل في أجهزة القمع ، بشرط أن تقنع ابنها المعتقل محموداً بالضغط على أخيه فخر الدين المتواري عن الأنظار ، بأن يسلم نفسه ويعترف على (إخوانه ) ثم يتم الإفراج عنه ، يقول الكاتب : ( نظر محمود في الوجوه التي ترقب ردّ فعله باهتمام ، وكان رئيس الفرع يجلس بعيداً في صدر المكتب يتشاغل ببعض الأوراق أمامه ، فسأل محمود : وأخي ؟ ما رأيه ؟
قالت الأم : إنه يرفض الاستسلام ؟
فأخذ نفساً عميقاً ، وقال : الحمد لله ..ثم التفت إلى  ذلك الرجل ليطلب منه طلباً استفزازياً مستحيلاً ، فقال: أخرجوني من هنا لأسلمكم أخي .
ولم يكترث فيما يكون لسخريته الغضوب من أثر ، وتابع الكلام وهو ينظر إلى أمه : إنهم كذابون ، مراوغون ، واحذروا أن يخدعوكم .. لقد عانيت من جراحهم أربعة شهور بلا علاج ، إنهم ألعن من الشياطين ألف مرة ..
فقالت : حتى المقدم علي ؟!
أجابها بغيظ : إنه أكذب من مسيلمة الكذاب … قولي لأخي وللشباب جميعاً ، ألا يستسلموا مهما تكن الظروف … أن يقاتلوا بالرصاص ، بالسكاكين ، بالعصي ، بالحجارة ، بالأظافر … بأي شيء … والذي يعجز عن ذلك فليرحل خارج البلاد لينجو من هذا الجحيم الكافر ، ولو كنت أعلم بأني سألقى هنا معشار ما لقيت ، لما تركتهم يستلمونني إلا جثة هامدة .
فقال الرجل : إذا كان الأمر كما تقول ، فأنا أنسحب ، وأنتم أحرار .
قال الرائد : انتهت الزيارة .
فقالت الأم : يا له من لقاء قصير ، بعد فراق طويل ) ( ما لا ترونه – ص 91- 92 ) ويبدو أن أخاه الشاب فخري سمع نصيحة أخيه ، فقاوم وقاتل حتى استشهد ( وحملت له الأخبار نبأ استشهاد أخيه فخر الدين ابن الثمانية عشر ربيعاً ، فتلقى أكبر صدمة في حياته بالصبر والتسليم ، واستشهد صديقه أيمن ، وهو أمر كان يتوقعه ، أما أبو اليسر فقد اعتقل بعد إصابات بالغة فقد فيها عينه وذراعيه ، وقضى في المنفردة بضعة شهور ، ثم حكم بالإعدام ونال ما يتمناه : الشهادة في سبيل الله ) ( ص 97 ) ..وبالمناسبة هذه الأسماء حقيقية ، وبقية الأسماء التي وردت في الرواية كاملة أو بالاسم الأول ، وفي ديوانه الأول ( القادمون الخضر ) قصيدة خاصة برثاء أخيه الشهيد فخر الدين ، وقصائد متعددة في رثاء الآخرين ، لكن المؤلف لما اتخذ اسم محمود في  الرواية ، تحدث عن بعده الأدبي من خلال شاعر اسمه (عبد القادر ) يطرب المعتقلين بأناشيده وبمزاحه الطريف للتخفيف من وطأة السجن ، والترويح عن النفوس المكدودة وبعث الأمل .
الدرس الثاني في هذه الرواية الجانب التوثيقي فيها لجانب من أحداث سورية في ثمانينيات القرن الماضي : أنواع التعذيب وأدواته .. أماكن الاعتقال ..أسماء الجلادين .. بذاءة التحقيق .. نتن النوايا المنكشفة .. حجم المأساة والضحايا ولا سيما جيل الشياب الجامعي المثقف .. المحاكم الأمنية الصورية ..  التجديف بالله تعالى وبالأنبياء والرسل .. الافتراء على العلماء  لتخذيل الشباب عن أساتذتهم والإيقاع بهم ..
الدرس الثالث هو تحليل نفسيات الجلادين الكبار والصغار ، الصغار منهم يتنافسون في الإيذاء الجسدي والنفسي ويتفنون في إرضاء الكبار ، ومن خلال رسم صورهم الجسدية وبذاءة لسانهم وقساوة نفوسهم وخلوهم من أي إحساس إنساني ، فهم وحوش في لبوس بشر أو عبيد ، وأما الكبار فيتفنون في حبك الاستدراج من خلال حبائل الترغيب والترهيب من جهة ، ومن خلال الافتراء أو الإيقاع بين المعتقلين من جهة ثانية  .
ومن قاع المأساة ، من صلب القساوة والوحشية والبذاءة والاستعباد تشرق نفوس إنسانية تعيد الثقة بأن الإنسان ليس وحشاَ محضاً ، بل هو من مادة وروح ، يظهر ذلك حتى في بعض الجلادين ، مثل الرقيب طاهر( بدءاً من الصفحات 104 ) ،  الذي تعاطف مع المعتقلين ، فأخذ يسهل لهم الانتفاع من دورات المياه ، ومن التواصل فيما بينهم ، ومن إحضار بعض الكتب والأوراق والأقلام والأخبار والرسائل ، وكل ذلك   ممنوع ، يعرّض صاحبه للمهالك ، فكيف إذا بلغ به الأمر أن يتواطأ مع المعتقلين على ترتيب عملية هرب جماعية من السجن ، ثم تأمين مخابيء لهم خارج السجن ؟ وقد حصل ذلك في الرواية ( ص109)  وفي الواقع على حدّ سواء .
أما الأطرف من ذلك فهو انقسام المعتقلين في البداية حول (نظافة ) الرقيب طاهر ، أي هناك من يشك بتصرفاته على احتمال أن يكون جاسوساً عليهم ، يستدرجهم للإيقاع بهم ، أو إنساناً موثوقاً يتعاطف   معهم ، وهذه واقعة مألوفة في صناعة القمع ، وفي تحطيم الثقة بين البشر المعتقلين لدرجة الشك ، فيمن يتعاطف معهم أو يريد تقديم خدمة لهم . فما أعظم جريمة القمع وسجون الرأي بحق الإنسان والبشرية جمعاء ، وهي جريمة ترتكب في السجن الصغير، كما ترتكب في الوطن كله حين يصبح سجناً كبيراً ، وقد صارت سورية للأسف كذلك ، فما من إنسان سوري أو أسرة سورية أو حزب سوري إلا انشق على نفسه طولاً أوعرضاً أو الاثنين معاً ، وكم يلزم من الجهود والأزمان للإصلاح الحقيقي ؟!
ومقابل شخصيات الجلادين تظهر شخصيات المعتقلين صغاراً وكباراً في الأعمار والمدارك والنفوس ، أفراداً وجماعات ، لم يظهر فيهم جاسوس واحد ، لكن سقط عدد منهم في الاعتراف على أنفسهم أو على إخوانهم من شدة التعذيب ، ومنهم محمود النعيمي (أي المؤلف نفسه )، وكان ذلك عبئاً آخر من آلام السجن أن يضطر السجين إلى أن يخون أخاه أو صديقه أو جاره أو زميله ، وأن يسلمه مضطراً لكابل الحديد ، والصعق الكهربائي ، والانحشار في الدولاب للضرب على الأرجل أو على القفا بالعصي ، أو حمل الدولاب ساعات طوالاً ، أو لإطفاء السكاير في المواضع الحساسة من الجسم ولا سيما الأعضاء التناسلية ، أو ما شابه مما يعف القلم عن ذكره .
وهذا غير السباب والشتائم من العيار الثقيل ، وغير الهواء المتعفن وضيق النفس ، والتناوب على شم الهواء من ثقب في أسفل الباب من قبو محروم من النوافذ والتهوية ، لدرجة التعرض للإغماء. ولقد تمنى محمود النعيمي الموت أكثر من مرة للخلاص من هذا الجحيم الذي لا يُطاق ، وتوسل للمحققين أن يريحوه بالموت فرفضوا ذلك (ص32و 35و 40 و43و ) ، لأن الغرض إيقاد الألم ، وتفريغ   الحقد ، وليس راحة الإنسان .  كانت المعادلة ( عدوّ مع عدو) لا (محقق مع متهم ) ، فتصور الثمار التي أنتجتها هذه الصناعة /العلاقة يقول : ( لقد انتهى كل شيء .. لقد اعترفت ، انتهيت .. سيأتون بإخوانك إلى هنا ، يقاسون العذاب والمرارة مثلما قاسيت أنت … أصحابك الذين يظنون بك خيراً ، يحسبون أنك لن تعترف .. وأنت في نظرهم شيء كبير ، وأنت الآن  شيء تافه .. لاشيء …. لكن ماذا أصنع ؟ لكل شيء حدود ، ولكل إنسان طاقة .. حتى الفولاذ ينكسر ويذوب ، كان الموت أسهل عليَّ . ولكن الموت لم يأتِ ، والرحمة كلمة لا وجود لها هنا ، وقد صبرت كما لم يصبر إنسان ، وقد أخَّرت اعترافاتي سبعة أيام ، وعلى أصحابي أن يدبروا أمورهم .. أن يهربوا .. أو يختفوا ، أو يغادروا البلد …و ليس من المعقول أن أذوب قطعة قطعة وهم يجلسون بلا حركة … ولكنهم يظنون بأني أموت ولا أعترف ) ( ص45) .
إن طبيعة التحقيق (جلاد .. معتقل ) تقتضي وفرة في الحوار وتنوعاً  بشكل مسّوغ ، والعزلة أو الانقطاع عن الآخرين تؤدي إلى النجوى أو (المنولوج) ، وذلك كله يعين على تحليل نفوس الشخصيات الظالمة والمظلومة على حد سواء ، وعلى الأخص الشخصية  الأولى ( ص 22 و25 و29و 31 و 37 و38 و 41 و 42 و 45 ).
محمود النعيمي شخصية مواطن مثالي أو عاشق للمثل العليا ، يظن الناس كلهم مثله ، ولم يخطر في باله أن يدخل سجناً ، وإذا دخل ، فهو يظن في نفسه المقدرة على إقناع الجلادين ببراءته ، وبعدالة الأفكار التي يؤمن بها ، وبقدسية ما هو مقدس عند البشر من دين أو خلق أو صدق أو رحمة ، فإذا هو يكتشف الجانب القذر من إنسان الغابة في الكبار والصغار ، بل في مؤسسات كاملة ، وهي خبرة نافعة للمواطنين العاديين ، ولكل مجتمع مبتلى بالطغيان ، حتى يكتسبوا المناعة ، وحتى تزول عن أعينهم الأغشية ، ولكي يأخذوا دورهم في الهم العام وفي عملية الإصلاح ، وبذلك يكون الطغيان جلب لنفسه الخطر ، وأسس لمحاربة نفسه وحشد من لم يحشد من المواطنين ضده وضد وجوده .
وهنا تجدر الإشارة إلى أن صمت الشارع أو الرأي العام طوال أربعة عقود من الانحرافات لا يعني إخراج المجتمع من السياسة ، بل يعني أن هناك تراكمات من المعاناة المضاعفة المحتقنة كالبركان الذي ينتظر لحظة الانفجار ، كما أن تطاول الزمن لا يعني النسيان بحال من الأحوال ، بل التخمر والتفاقم والمزيد من الغليان وتلاحم الآلام . فالثورة الفرنسية لم توجد أسبابها قبل يوم أو شهر أو سنة من انفجارها ، وكذلك ثورة العبيد في روما ، لكن وعي الجماهير المضطهدة فعل فعله حين اكتشف المواطن الفرد أن ألمه ألم جماعي ، وأن النقمة جماعية ، وأن الحراك الجماعي قابل للتحرك والتفجير ثم التغيير . وهذا قانون أو سنة من قوانين الاجتماع البشري ، لكن هل يقيم الجلادون أو الطغاة شأناً للقوانين أيّاً كانت ؟
يفسر هذا القانونَ العبثُ ولحظات الضحك التي يمرُّ بها مجتمع المعتقلين حين يأوون إلى النوم الساعة العاشرة مساء ، فلا ينضبطون بقرار اتخذوه في أحد المهاجع الجماعية ، يخرقه أحدهم بهمس أو نكتة ، فينفجر المهجع بصيحات التأييد أو المعارضة تنفيسا عما فيه من بلاء .
كما يفسره جانب السخرية اللاذعة في شخصية محمود النعيمي أيضاً ، يقول : ( القاضي : – هل من أقوال أخرى ؟
– نعم يا سيدي ، فإن كلامي لم ينتهِ بعد ، وكنت أودّ أن أقول ، بأنك أنت نفسك لو وضعوك في الفلق أو تحت لسع الكهرباء ، لاعترفت بأنك أخ لموشيه ديان .
– ضحك الجميع إلا القاضي ، فقد كان هو الآخر أعور …) (ص100) . وما السخرية إلا ضحك هادف يخفي وجعاً عميقاً .
              ويفسره أيضا الضحك غير الهادف إلا طلباً للترويح عن النفس ، والضحك للضحك في قاع الجحيم ، يقول : ( كان للشيخ مريد طريف طيب ، يدعى عبد السلام ، كان كلما شعر بدبيب الملل و احتدام الجدل ينقذ الموقف بقوله : إذاعة القرآن الكريم من سجن<السادات> تقدم لكم ما تيسر من كتاب الله من تلاوة شيخي محمد خير .. فيقرأ الشيخ ما تيسر ، حتى يجد الهدوء والراحة والسكينة مرتسمة في الوجوه . وقال عبد الكريم : عندي كنز لا ينفد من حكايات جدتي ، سأقص عليكم قصتين كل يوم ، نستعين بذلك على طرد الملل ، وجلب شيء من البهجة ) ( ص 76) والصفحات ( 66 و 74 و 75 و 1079 ) .
أما الروسم أي (الثيمة ) التي قام عليها بناء الرواية ، فهو التسلسل الزمني للأحداث والوقائع من البداية إلى النهاية ، وهو أخلق بالرواية التسجيلية . والذي بعث الحيوية في هذا البناء ثلاثة عوامل :
الأول تعدد الأمكنة والانتقال من سجن إلى سجن ومن تحقيق إلى آخر .
العامل الثاني شبيه بالأول وهو تنوع الشخصيات في الجلادين والمعتقلين .
العامل الثالث ، وهو أهمها ، ختام الرواية بترتيب عملية هرب جماعية ، يخطط لها وينفذها المعتقلون بتعاون مع السجان الرقيب (طاهر) ، وهي خاتمة تذكرنا بالقصص البوليسي وبروايات أغاثا غريستي ، خاتمة ملائمة لطبيعة الأحداث ، وللغة السجون القائمة على أحد الخيارات الثلاثة : دوام السجن لمعتقلي الرأي ، أو الموت صبراً ، أو الهرب لمن يتاح له الهرب ، وما أندر ذلك !! وحصول الهرب مؤشر على التفاؤل ، و على انتصار الخير على الشر بعد صراع مرّ ، وإعمال للفكر ، وتصميم  على النصر . وما ضاع حقّ وراءه  مطالب !!
                                                                               * كاتب سوري وعضو رابطة أدباء الشام
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
(1) – المجمع الثقافي – أبو ظبي1999م .
(2) – مؤسسة علوم القرآن – بيروت 1985 .
(3) – المؤسسة الجامعية – بيروت . 1995م .
(4) – رسالة دكتوراة – جامعة الجزائر 1413هـ = 1993م – محفوظة بمكتبة الأسد – دمشق .
(5) – رسالة دكتوراة – الجامعة اللبنانية 1997م .
(6) – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – وزارة الثقافة الأردنية – عمان – الأردن – ط1 = 2004م .
(7) – مكتبة المعارف – بيروت .
(8) – الأعمال الشعرية – المؤسسة العربية للدراسات – بيروت 1992م .
(9) – مكتبة الأقصى – عمان – الأردن 1968م .
(10) –  دار المنار – الزرقاء – الأردن – ط2 : 1405 = 1993م .
(11) – مكتبة الفلاح – الكويت 1998م .
(12) – دار الشفق – للطبع والنشر –بيروت – ط1 : 1994م .
(13) – مكتبة بيت المقدس .
(14) – مركز الراية للتنمية الفكرية – المملكة العربية السعودية – جدة – – ط1 : 1424هـ = 2003م.

مسرحية محاكمة في زمان الصمت


الفصل الأول 
 ديكور المسرح يمثل قاعة المحكمة التي تتألف من طاولة المدعي العام يقابلها قفص الحديد الذي تسكن فيه المتهمة بينما توجد في صدر القاعة طاولة القضاة يقابلها مقاعد الحضور . 

يعم الصمت القاعة كلها حيث الجميع ينتظر دخول القاضي ليبت قراره الفاصل في هذه القضية ,كل من المتهم والمدعي ينظر للآخر, هي تخشى الحكم ولكن كبرياءها وغرورها بل سلطانها ونفوذها يطبطبان على ذلك الخوف فتغدو وكأنها لبؤة هائجة تصرخ بعينيها متحدية ذاك المدعي .

بينما جابر يصر لما وقع عليه  من لظلم وقسوة أن ينتقم منها لعل كلمة عدل تخرج من ضمير القاضي تعيد له اعتباره وتحمي آخرين من غدر هذه الملعونة. 

وبينما يتطاير شرار الحقد بين هذا وذاك يدخل القاضي قاعة المحكمة والهيبة تكلل محياه , فيقف الجميع احتراما وتقديرا لرمز العدالة وما هي إلا لحظات بسيطة حتى جلس القاضي معلنا بصوت رزين تمزجه الشدة :افتتحت الجلسة). 

ومع افتتاح الجلسة افتتحت ذكريات من الآهات والآلام ,ذكريات عاشها جابر دون أن يعرف أنها وجع وهموم ما كان يدري أنها ستقوده إلى هذا المكان بل والى هذا الموقف بالتحديد . 

القاضي : أقبل علي يا جابر وقل اقسم بالله العظيم أن أقول الحق ولا شيء غير الحق

جابر : اقسم بالله العظيم أن أقول الحق ولا شيء غير الحق. 

القاضي : حسنا جابر أمامي مجموعة من الأوراق تظهر بأنك قد تقدمت بشكوى ضد المدعوة مخدرات تطالب فيها بحرقها فما حجتك على ذلك ؟. 

جابر : حجتي ؟ لا ادري سيدي القاضي إن كانت مدة الجلسة ستسعني للبوح بحجة تحكي قصة شاب عمره ثمانية  وعشرون عاما .ضاع فيه شبابه بين أنياب هذه المغتالة,أوهمتني  بالحياة فظننت أنها ستمنحني إياها فإذا بالسجون والمعتقلات ونوبات الصرع هي ما ينتظرني , قالت لي أن الحياة لهو ومرح وساعة مزاج تقصيها بين حقنة هيروين وجرعة كوكائين هكذا قالت وهكذا كنت غبيا لدرجة أنني آمنت بقولها.

وأنا اليوم هنا لأنني أريدك أن تمنحها ما منحتني إياه من ذل وهلاك .احرقها يا سيدي استحلفك بالله عليك أن تنتقم لشبابي الذي اغتصبته مني ,أن تنتقم لعرضي وكرامتي اللذين دنسهما الذل والعار .أرجوك , أرجوك سيدي القاضي أن تعوضني عن نفسي التي شوهت تحت أقدام هذه القاتلة .عوضني عن عمري… 

ثم يصمت قليلا ويبتسم والحزن يعانق شفتيه قائلا: 

عمري هههههه.حتى هذا العمر لم يعد لي فيه نصيب فمخدرات سلبته مني خلسة ودون رحمة ,أنا لم أنكر الموت يوما ولكنني ما أردت إلا أن يأتيني بغتة ومرة واحدة وليس ألف مرة . مذ عرفتها وأنا أراه كلما انتهى وقت الجرعة المخدرة .أنا يا سادة ألقى الموت في كل لحظة وكأن كل منا يصارع الآخر فما أن يضجعني مصرعا ,حتى أجد نفسي معلق القلب في دعاء الله, ليطيل في عمري حتى انتقم من هذه الملعونة . 
 وفي هذه الأثناء تنفعل مخدرات غاضبة وتصرخ بصوت عال قائلة : 

كف عن هذا الهراء أيها الغبي فقد مللت كلامك الذي يثير اشمئزازي  ولتعلم جيدا أن القانون لا يحمي المغفلين أمثالك , فانا لم أجبرك على التعاطي أنت من أتاني ,وأنا كأي تاجر ماهر أعرض سلعي وأروج لها وأمنح المشتري فرصة تذوقها ومن ثم له الخيار فإما الاستمرار وإما الإعراض ,ثم فلتذكر جيدا كيف أنقذتك مما كنت تعانيه من فراغ وضياع فلا عمل يؤويك ولا أسرة صالحة ولا رفقة ناصحة , وجدتني أنا,وأنا وحدي من قدم لك يد العون منحتك الحياة في وقت اعتبرك فيه  الجميع كلبا ضالا ليس له سوى الموت .

ثم صمتت لحظة وأشارت بإصبعها لجابر تسأله بلطف غير معتاد :جابر أعرف صدقك وإخلاصك واستحلفك بما تؤمن به أن تخبر عن الوضع الذي كنت فيه قبل لقاءنا الأول .

أخبرهم كيف أن أسرتك غفلت عنك منشغلة بالمال والأعمال والموضات والسهرات أنا من احتضنك ساعة خوفك أليس كذلك ؟؟. اخبرهم عن دولتك التي لم تتمكن من أن تمنحك عملا يتناسب وشهادتك الجامعية .الضياع يا رفيقي هو ما كان ينتظرك والشارع هو ملجؤك أولئك الملامون فلماذا تحملني ما ليس لي فيه شأن ؟؟

أبعد كل هذا المعروف تشكوني وتطلب حرقي أي فتى أنت ؟!! لمن ستترك الضائعين أمثالك من سيضمهم تحت جناحه إن أدبرت راحلة ؟.

 حقا أنتم البشر تنكرون المعروف, ولكن لا بأس لا بد أن سيدي القاضي سيكون عادلاًُ في حكمه ويحرقك بدلاً مني لأنك عاجز والزمان قوي يرفض الضعفاء . 

ينفعل جابر كثور هائج محاولاً ضربها غير أن العسكر يمسكون به بشدة فيقف عاجزاً عن الحراك إلا أنه يقول لها : يا وقحة …أبعد كل ما فعلتيه لا زلت تتظاهرين بالملاك ؟ انزعي عنك هذا القناع لتري ما أنت عليه من قبح أريهم يديك اللتين تلطخهما دماء الأبرياء اسمعيهم أصوات نياح وعويل المدمنين أريهم كم أنت قذرة وبشعة علّك تشفقين أنت على نفسك فتطالبين لها بالموت والحرق . 

فترد مخدرات ببرود قاهر قائلة : بالطبع لن افعل ذلك . 

وإثر هذه المجادلة الحادة يصرخ القاضي قائلا : هدوء وفي أثناء ذلك يطرق بمطرقته على الطاولة ومعالم الغضب تظهر على وجهه ثم يعاود الكرة قائلا هدوء اصمتوا جميعا انتم في قاعة المحكمة وليس من حقكم أن تتشاجروا في حضرتي .ولا أريد من احد منكما أن يتكلم دون أذني . 

ثم سأل القاضي جابر : هل أنت من عمد إلى زيارة مخدرات مرارا ؟ 

يجيبه جابر ومعالم الخجل تبدو واضحة على وجهه  : نعم سيدي ولكنني ما علمت أنني بتكرار ذهابي إليها قد أعنتها على أن تحيك لي كفن الموت بهذه السرعة .  ما علمت ما علمت  

القاضي : حسنا أتفهم من هذا أنها لم تجبرك على تعاطيها  

جابر: مخدرات يل سيدي صياد ماهر يكتفي بوضع الطعم مرة واحدة ثم إذا ما تلقفته إحدى الضحايا علق في فيها فلا يزال إلا وهي بين يدي الصياد الذي يمتلك الخيار بين إرسالها إلى القبر أو إلى مصحة المجانين .

القاضي : لماذا لم تعالج نفسك منذ البداية وأنت على يقين بأن الحالة تزداد سوءا كلما تماديت في التعاطي؟ 

جابر: حبها منعني وما كنت أدرك أنني سأظل كل هذا الوقت أسيرا لها ,لم أكن اعلم أن الإهانة والذل والألم لن يزجروني ,لم أكن اعلم أن المصحات والمعتقلات لن تخيفني ,ما كنت اعلم سأظل أتعاطى, وأتعاطى, وأتعاطى, حتى أتحول من مدمن مخدرات إلى مريض ايدز . 

(أوووه ه ه ايدز…..يا حرام ……..يا الهي )كلمات عديدة تخرج من أفواه الحضور حيث يظهر على وجوه الجميع علامات الاستفهام والتعجب حول ذاك المجهول الذي ينتظر هذا المسكين .) 

يسأله القاضي متعجبا : وما شأن مخدرات بالايدز ؟؟!!!.  

فيجيبه كريم متحسرا : بدأت رحلة الضياع في سيجارة أعقبها حشيش وظللت انتقل من نوع لآخر حتى وصلت إلى حقن الهيروين فقد قال لي رفاقي أن لها حلاوة لا تشترك بها مع غيرها ,وما كان مني سوى أن سلمتهم يديّ ليحقنوها ولا عجب فقد سلمتهم عقلي من قبل يوم أن أغلقوه وغلفوه وكتبوا عليه (منتهي الصلاحية). 

وبعد فترة من تعاطي الحقن تعرضت للإصابة بالإيدز لاستخدامي حقنة ملوثة بالفيروس .

وهكذا أصبحت عاجزا مرتين وهذه الأخيرة تعني الموت.

فهذه الملعونة قدمت لي الموت وأنا اليوم أطالب لها بالموت ,فاحكم بهذا إن أردت العدل . 

القاضي بنبرة غاضبة : جابر .لا تتجاوز حدودك وتذكر أنني من يصدر الحكم هنا ولست أنت ,فلا تتدخل فيما لا يعنيك وإلا حبستك مقيدا إلى جانب مخدرات. 

يجيبه جابر بانكسار :حسنا كما تشاء . 

ثم يلتفت القاضي إلى مخدرات ويسألها : ما رأيك فيما يقوله جابر .كوني دقيقة وموضوعية في ردك. 

مخدرات تجيبه وحالة من الثقة المصطنعة تبدو عليها :سيدي القاضي ألم تسمعه وهو يعترف أمام حضرتكم بأنني قدمت له السعادة ابتداء ,جعلته يرحل بعقله عن هذا الواقع المر ,ثم يا سيدي القاضي أليس من العدل أن تأخذ بعين الاعتبار ما قاله من أنني لم اجبره على التعامل معي ,هو من أتاني (تصمت برهة)ثم تقول : ثم فلنفترض جدلا أنني أجبرته المرة الأولى مثلا أليس من الواجب عليه أن يعالج نفسه وبالأخص أن الدولة حفظها الله ورعاها(تبتسم سخرية)تنفق على أمثالك من المدمنين مئات آلاف الدنانير . كما أن الشرطة في خدمة الشعب ألا تقولون ذلك انتم البشر!فلماذا لم يبلغ عنّا منذ البداية (تضحك بسخرية مواصلة حديثها ).

طبعا سيدي القاضي الإجابة واضحة وهي عدم إرادته لذلك لأنه يؤمن أنني منحته الحياة كما وعدته , وما حصل مجرد خطأ . خطأ عادي .وكلنا نخطئ في قانونكم وقانوننا . 

ينفعل جابر مقاطعا مخدرات: يا فاجرة هذا الخطأ العادي كلفني حياتي ,كما أنك تعلمين أنني ما كنت قادرا على تركك لان لا عقل لي فقد سلبته حبوبك وحقنك . وما كان يشغلني سوى أن أسعى لتأمين ثمن الجرعة ,لا بأس كيف ومن أين المهم أن أتعاطى .

فكري ,وعقلي ,أهدافي ,وطموحاتي انحسرت في الانشغال بالصنف القادم الذي يفوق السابق قوة.

فلا تدعي البراءة وتقولي بأن هدفك هو تحقيق السعادة لنا ,فليس هذا ورب الكعبة ما تسعين له ,فهدفك هو تدمير عقول الشباب وسلب عقولهم حتى لا يفكروا في استرداد ما سلبه من أرسلوك إلينا ظلما وعدوانا ,ورصيدك في البنوك العالمية اصدق دليل على ذلك . 

ويبدو الحضور والقضاة متعاطفين مع جابر مما يربك مخدرات . 

وفي أثناء ذلك تنزل ستارة المسرح لتعلن الدخول في الفصل الثاني : 

غادر القضاة قاعة المحكمة للتشاور, ومخدرات في قفص الاتهام عاجزة عن إخفاء معالم الخوف والارتباك تهز رجليها وتفرك يديها وكأنها تتأمل بحبل نجاة بدلا من حبل السجان الذي سيقودها للمحرقة . 

أما جابر فيبدو في حالة غريبة حيث تشترك كل المشاعر في الظهور على وجهه وكأنها تتصارع على ذلك فتارة تراه مبتسما وتارة خائفا وتارة تعانق وجهه دموع حزينة وكأنها تودع تلك الخدود السمراء قبل أن تفترسها التقرحات الناجمة عن فيروس الايدز . 

وأمام تلك المشاعر الحائرة ينتظر الحضور حكم القاضي الذي يدخل المحكمة فيقوم له الحضور ثم يجلس وينظر إلى مخدرات ثم يسألها :مخدرات هل أنت مذنبة ؟ 

(فتعلو صرخات الحضور هي مذنبة, أحرقوها , أحرقوها ). 

وأمام تلك الصرخات المشتعلة غضبا تكاد مخدرات تنهار لتقول:اعترف بأنني مذ…

لكن قبل أن تكمل اعترافها تدخل جماعة غريبة الأطوار قاعة المحكمة يلبسون ثيابا تنازع في شدة سوادها قسوة قلوبهم ملامحهم لا تدل على الخير والسلام. 

يوزعون أنظارهم على مختلف الأشخاص في القاعة غير أنها لا تعبر سوى عن الكره والاحتقار للجميع وكأن كل من في القاعة عبيد مستضعفون عند أولئك الغرباء. 

وهكذا تقدم أولئك الغرباء نحو القاضي وبلهجة تختلط فيها السخرية مع التهديد قالوا له :هي مذنبة وإن استطعت فعاقبها ولكن لا تنسى أن ذلك سيكلفك سلطانك وحياتك . 

أما مخدرات فقد انفجرت ضحكا ثم قالت : كنت اعرف أيها السادة أنكم لن تتركوني وحيدة وانتم من بعثني إليهم. 

فأقبل عليها كبيرهم وطبطب على كتفها قائلا : اطمئني عزيزتي.بالطبع ما كنا لنتركك وقد حققت لنا هذا الإذلال والتدمير لشبابهم فأنت جعلت حياتهم وكرامتهم وأموالهم بل حتى أحلامهم وطموحاتهم بين أيدينا  . 

ثم تطلق من أفواههم جميعا ضحكة شماتة قوية:ههههههههه 

ثم وقف الضحك فجأة لينظر هذا الكبير إلى القاضي قائلا له : ما حكمك أيها القاضي ؟ 

فيجيب القاضي:لك الحكم يا سيدي فاكتب حكمها بيديك لأوقع عليه وإن شئت بصمت لك بالعشر لكن أرجوك أن لا تحرمني من مالي وسلطاني . 

فابتسم القاضي مغترا ودفعه جبن القاضي لان يزيد على براءة مخدرات بأن أعلن أن جابر مذنب باعتباره قد تعرض لمخدرات بالشتم والذم كما انه تدخل في حريات المدمنين وسعى لتشويه صورتهم .!! 
 وفعلا فك وثاق مخدرات التي أدبرت خارجة ورفاقها من قاعة المحكمة غير أن الله العادل الذي أبى إلا أن يسود الخير هذا الوجود ,يمنح جابراً قوة تدفعه للثورة على قيود العساكر بل وقيود الخوف والجبن التي جبل عليها الكثيرون من أبناء جيله, ثورة قادته لأن ينتزع خنجرا من احد العساكر, ويسرع فلا يسكن حتى يراه مغروساً في ظهر تلك المجرمة ,ثم صدرها, ثم بطنها .  

ثم يندفع الغرباء هاربين تاركين وراءهم عجزا عن قتل بطولة تلك الأمة ورجولة وصلابة شبانها. 

في ذلك الحين  تدب الحماسة المتوهجة  في قلوب جمهور المحكمة, الذي يشبك يدا بيد ويتقدم أماماً متجهاً إلى الغرباء, ثم ينقضون عليهم وكأنهم نسر جارح يتعطش شوقا للفريسة.وما هي إلا لحظات حتى تفارق الأنفاس أجسادهم النجسة معلنة تحررها من تلك الأرواح الشريرة . 

وهكذا تمكن جابر بعد كل هذا الظلم من كسر قيد الخوف في داخله ربما سيكون الدور لاحقا على عاتقكم فإما أن تكونوا أحياء أو أمواتا ,حكاما أو محكومين  .

وحتى وإن كان الزمان الذي تعيشونه هو زمان الصمت فلا ترضى إلا أن تكون أول صرخة حق تصدع في جنباته 

انتهى

سوزان نبيل الشرايري  *

*ماجستير تربية إسلامية

جامعة اليرموك

قصيدة رائعةللاديبة المسلمة امينة قطب لزوجها السجين

لها ديوان باسم ( رسائل إلى شهيد ) نتمنى أن نراه في المكتبات قريباً

تلمس في شعرها تجسيد بكل صدق و إحساس و وصف للحركة الجهادية في الأمة في القرن الحالي و السابق و الآلام والصعوبات التي مرت بالأمة و التضحيات التي قدمت في سبيل هذا الدين

تقول لزوجها كمال :

هل تـــــــرانا نلتقـــــي أم أنهــــــــا كانت اللقيا على أرض السراب؟!

ثم ولَّت وتلاشــــــــــــى ظلُّهــــــــا واستحالت ذكــــــــــرياتٍ للعذاب

هكذا يســــــــــــــأل قلبي كلمـــــــا طالت الأيام من بعــــــــــد الغياب

فإذا طيفــــــك يرنــــــو باســـــــمًا وكأني في استماع للجـــــــــــواب

هل تـــــــرانا نلتقـــــي أم أنهــــــــا كانت اللقيا على أرض السراب؟!

ثم ولَّت وتلاشــــــــــــى ظلُّهــــــــا واستحالت ذكــــــــــرياتٍ للعذاب

هكذا يســــــــــــــأل قلبي كلمـــــــا طالت الأيام من بعــــــــــد الغياب

فإذا طيفــــــك يرنــــــو باســـــــمًا وكأني في استماع للجـــــــــــواب

أولــــــم نمــــضِ على الدرب مـعًا كي يعــــود الخـير للأرض اليباب

فمضينا فـــــــــــي طريــــق شائك نتخلى فيـــــــــــه عن كل الرغاب

ودفنَّا الشــــــــــوق فـــــي أعماقنا ومضينا في رضــــــــاء واحتساب

قد تعاهـــــــــــدنا على الســير معًا ثم عاجلت مُجيبًا للذهــــــــــــــاب

حين نـــــــــــاداك ربٌّ منعـــــــــمٌ لحياة في جنـــــــــان ورحـــــــاب

ولقــــــــــــاء فـــي نعيــــم دائــــم بجنود الله مرحى بالصحــــــــــاب

قدَّموا الأرواح والعمـــــــر فـــــدا مستجيبين على غــير ارتيــــــــاب

فليعُد قلبك مـــــــن غفلاتـــــــــــه فلقاء الخلد في تلك الرحـــــــــــاب

أيها الراحل عذرًا في شكــــــــاتي فإلى طيفك أنَّات عتـــــــــــــــــاب

قد تركــــــت القلب يــــدمي مثقلاً تائهًا في الليل في عمق الضبــاب

وإذ أطـــــــــوي وحيدًا حائــــــرًا أقطع الدرب طويلاً في اكتئـــــاب

فإذ الليل خضـــــــــــمٌّ مـــــوحِشٌ تتلاقى فيه أمواج العـــــــــــــذاب

لم يعُــــــــد يبــق فـــــي ليلي سنًا قد توارت كـــــل أنــــوار الشهاب

غير أني سوف أمضي مثلمـــــــا كنت تلقـــاني في وجــــه الصعاب

سوف يمضي الرأس مرفوعًا فلا يرتضي ضعفًا بقـــول أو جــــواب

سوف تحذوني دماء عابقـــــــات قـــــــد أنارت كل فــــــجٍ للذهــــاب

وقالت :

شاقني صوتك الحبيبُ على الهاتف يدعو ألاّ يطول غـــــيابي

شاقني أن تقول لي: طال شوقي قد غدا البيتُ موحشاً كاليباب

شاقــني ذلك النـــــداء حـــــنوناً فلتعـــــــودي لعالم الأحــــباب

شاقــــني أن تقــــول: حُبك بعداً لا تعــيـــدي بواعث الأســباب

حوار مع الدكتور حلمي محمد القاعود – الأدب الإسلامي هو أدب الأمة

حوار مع الدكتور حلمي محمد  القاعود

مفهوم الأدب الإسلامي من كونه أدب أمة إسلامية لها تصوراتها ومنظورها للكون والحياة والناس

الجزء الأول

أدب السجون-  حاوره :زكرياء  بوغرارة

  حوارنا هذا الأسبوع  مع  أديب  رفيع  وناقذ  فذ وقامة أدبية عالية ظلت تنافح عن قيمها ومبادئها تحت راية الاسلا م  طيلة عقود مديدة  انه  الاديب  والروائي والناقذ  حلمي محمد القاعود  أشهر من نار على علم…  كان لي  شرف   محاورته والغوص  معه في  أعماق مفاهيم الادب الإسلامي وقضاياه المعاصرة  ولم  يفتني وانا احاوره ان انكش    في ادب السجون ما هو  ؟؟ ولماذا هو ادب   هش  لدى الاسلاميين يتسم بالضعف من حيث   قلة الكتابة   فيه  رغم انهم الأكثر تعرضا لوحشية الأنظمة الوظيفية والاستبدادية …؟؟  وقضايا اخرى ادبية

 الدكتور  حلمي  محمدالقاعود    استقبل  أسئلتنا  بصدررحب  رغم انشغالاته   الكثيرة  و بتواضع جم  هو سمة الادباء الكبار

  فكان هذا الحوار  الشيق الماتع  ننشره     في جزئين من خلال موقعنا  ادب السجون وشبكة وا إسلاماه

   بطاقة تعريف 

   الدكتور حلمي القاعود  غني عن التعريف °° اسم يعرفه العاملون على الساحة الإسلامية، كما يعرفه خصوم الإسلام من المثقفين العرب أيضاً، هو حاضر في أذهان الجميع بما يكتبه من آراء جريئة، وأفكار قوية، ومقالات حادة لا تعرف المراوغة أو المداورة.

في المجال الأدبي، هو ناقد أصيل وكبير. منذ بداياته، وصفه الأديب الكبير “وديع فلسطين” في مجلة “الثقافة” التي كانت تصدر في السبعينيات من القرن الماضي بأنه أفضل النقاد الشبان، وفي عام 1968م فاز في مسابقة مجمع اللغة العربية، التي كان يتنافس عليها كبار الأدباء والكتَّاب، وكان عمره آنذاك لا يزيد عن الثانية والعشرين، وفي عام 1974م فاز في مسابقة “يوم الأرض” الخاص بالشعب الفلسطيني ببحث عن شعراء المقاومة الفلسطينية، وهي المسابقة التي كان يقيمها المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية (المجلس الأعلى للثقافة الآن).

في حياته الجامعية، يمثِّل صورة للأستاذ الجامعي الجاد، الصارم من غير قسوة، الحازم في غير شدة، وخاصة في مجال الدراسات العليا، حيث يأخذ طلابه بالعمل الدؤوب، والبحث المستمر، والاهتمام بالجزئيات مثل الاهتمام بالكليات، وهو كذلك أيضاً في مناقشة رسائل الماجستير والدكتوراه، حيث تكون مناقشاته ـ كما شهد زملاؤه وطلابه ـ درساً تطبيقياً وعملياً، يعلِّم الطالب كيف يصل ببحثه إلى التفرد°°

وقد عرف الدكتور حلمى القاعود طريقه إلى الصحافة الأدبية والفكرية مبكراً، فكتب فى مجلات: °°”الأديب”، و”الآداب”، و”الجديد”، و”الرسالة”، و”الثقافة”، ومجلة “الأزهر”، وكانت تجربته مع الصحافة الإسلامية تجربة ثرية جدا جديرة بالدراسة والتحليل، والمقالات التى نشرت بها شكلت صلب الكتب الثقافية التى نشرها على مدار تاريخه الثقافى الطويل، فكتب فى “الاعتصام”، و”لواء الإسلام” و”المختار الإسلامى”، و”الدعوة” وصحف “المصريون”، و”النور”، و”آفاق عربية”، و”الشعب” الأولى والثانية، كما كتب فى مجلات الخليج مثل “المجتمع”، و”المنهل”، و”الأمة”، و”الوعى الإسلامى”، و”منار الإسلام”..ويمتاز أسلوبة بالبساطة والعمق وسبر أغوار الموضوعات فى لغة بسيطة راقية يستفيد منها الباحث المتخصص والقارىء العادى..°°

  بوصف دقيق  جامع مانع اجاد رسمه  بعمق  الدكتور محمد  عباس وهو يتحدث عن اديبنا الرفيع فقال

{إن عملا واحدا من أعماله وهي عشرات كثيرة بل مئات،عمل واحد منها كان كفيلا باستغراق عمر إنسان عادي، فكيف بهذه الأعمال جميعا؟

 دراساته عن محمد عبد الحليم عبد الله على سبيل المثال، ومعايشة أعماله الأدبية ونقدها حيث النقد إبداع لا يقل عن العمل الإبداعي نفسه وقد يزيد. أو دراساته عن با كثير ورحيله إلى بلاده في أقصى بلاد العرب كي يعيش جوه وبيئته ولغته والمؤثرات في كتاباته، نعم أحب الدكتور حلمي القاعود الكاتب الكبير علي احمد باكثير (1969،1910) وكتب عنه الكثير أيضا كما سافر إلي بلده حضرموت ليعيش مع بعض من أهله بعض الوقت. وكان دافعه أن يضيء جوانب حياة الرجل الذي عتم كلاب الحكام والنخبة العفنة عليه انتقاما من كتاباته الإسلامية التي تسببت في نقمة الشيوعيين علي أدبه وفكره فحاصروه حتى لقي ربه .

. عمل واحد  من أعمال الدكتور حلمي القاعود كدراساته عن نجيب الكيلاني كفيل باستغراق العمر كله، حيث يخيل إليك من فرط الانصهار أو الذوبان أنهما كتبا نفس العمل معا،أو أن القاعود هو الذي كتبه ووضع اسم الكيلاني عليه، سمة النقاد العظماء، الذين يتناولون العمل بحب وشغف وذوبان، فتختلط نبضات القلب بنبضات العمل، ومع ذلك لا يعوقه هذا عن انتقاده سلبا أو إيجابا كالأب الحنون يعامل ابنه الأعز فتكون حتى قسوته رحمة.

عمل واحد كمتابعته البديعة للأدب الإسلامي بداياته وتطوراته وأفكاره وتطبيقه، بطريقة ربما لا يكون مسبوقا فيها، ثم دراساته في النقد الأدبي الحديث، وفي تيسير علم المعاني، وكتابه البديع: محمد – صلي الله عليه وسلم – في الشعر العربي الحديث، ثم دع هذا كله وادلف معه إلى كتابه عن البلاغة القرآنية،مناقشا ومتعلما ومعلما يحلق في الآفاق كما لو كان يركب بساط الريح أو عربة الزمن فيجعلك تعيش معه كل العصور وعبر الدهور، ثم دع ذلك واقفز ألف عام أو يزيد إلى الأمام لتقرأ له القصائد الإسلامية الطوال في العصر الحديث : دراسة ونصوص.}

    وأخيرا لايعسنا الا ان   نستعد للتحليق  معه  في سماء الادب   الرحبة من خلال هذا الحوار الماتع  لما فيه من فائدة لاتخلو  منها كتابات القاعود  او حواراته

1

في البداية نحب أن نسألكم عن مفهوم الأدب الإسلامي بإيجاز؛ بحيث يتضح معناه، وتتكوَّن صورته في ذهن القارئ الكريم

وما الذي يعنيه الأدب الإسلامي بالنسبة إليك؟ وما الذي يدل عليه في رأيك؟

وهل لهذا الادب الإسلامي مستقبل؟؟؟؟

الأدب الإسلامي هو أدب أمتنا الإسلامية منذ بدء الدعوة حتى اليوم. إنه ليس شيئا جديدا أو مستحدثا، ولكنه استمرار لأدب أمة تغيرت معتقداتها وتصوراتها من الجاهلية إلى التوحيد ومن الفوضى الاجتماعية والفكرية إلى منظومة الأخلاق والقيم والثقافة التي تدعو إلى الوحدة والأخوة والإنسانية والعمل والأمل تحت راية الدين الحنيف. ويأتي مفهوم الأدب الإسلامي من كونه أدب أمة إسلامية لها تصوراتها ومنظورها للكون والحياة والناس، فكل أدب يصدر عن معتقدات الكاتب وثقافته وتصوراته لما حوله. الأدب الشيوعي مثلا يحتفي بقضايا الصراع بين الطبقات وما يسمى الحتمية التاريخية، ومخاطبة الغرائز المادية ورفض الدين والألوهية، والأمر نفسه في الآداب الوجودية والعلمانية والوثنية .. كل أدب يعبر عن تصور أصحابه وثقافتهم وفكر هم. والأدب الإسلامي بإيجاز يعبر عن التصور الإسلامي، وهو تصور مفتوح وممتد في الزمان والمكان والفكر والقضايا المختلفة. وقد ظهرت الدعوة إليه أخيرا في سياق استعادة الهوية التي تغبشت بحكم هيمنة الثقافات الأجنبية على كثير من أدبائنا المحدثين، ونبذهم للتصور الإيماني الإسلامي، فكانت تجديدا في حقيقة الأمر لأدبنا التاريخي.

ويمثل الأدب لإسلامي بالنسبة لي التعبير عن إنسانيتي وديني وقيمي وهويتي. ويشير ذلك إلى استقلالي وخصوصيتي وعلاقتي بالبشرية جمعاء من خلال الرغبة في إسعاد الإنسانية وهدايتها إلى طريق الرشد والأمل بأسلوب فني راق.

2

حسب اعتقادك هل يجسد الأدب الإسلامي جسرا ممتدا بين الأدب والإسلام؟ ثم ما جوهر العلاقة القائمة بينهما؟

و ما الذي تراه في شأن رسالة الأديب المسلم؟

في إجابة السؤال السابق بعض أو معظم إجابتي على هذ السؤال. والأدب الإسلامي لسان الإسلام في الجانب الفني الذي يناغي الوجدان البشري، وخاصة إذا كان الأديب الإسلامي موهوبا ويملك القدرة التعبيرية عن التصور الإسلامي الناضج. الإسلام دين عام شامل ، صالح لكل زمان ومكان، والأديب الحق هو الذي يستطيع التعبير عن ذلك من خلال القيم الفنية والعناصر الجمالية، وبذا يكون الأدب الإسلامي جسرا ممدودا في كل الاتجاهات مع مضمون الإسلام وتصوراته.

الأدب الإسلامي بالمفهوم الصحيح هو لسان الإسلام والمعبر عن حقائقه ومعطياته وهداياه بالنسبة للإنسانية، ورسالة الأديب المسلم لا تقل عن رسالة الداعية الذي يوضح طبيعة الإسلام وينشر قيمه ويدعو إليه ويصحح ما ألصق به من دعاوى، ويدفع عنه الأكاذيب والتشويه والتلوث في الإطار الفني الجمالي المبهر.

3

بنظرة شمولية نجد أنَّ هناك تبايناً في النتاج الإسلامي للأجناس الأدبية: فالشعر يتصدر المشهد دائماً، ثم تأتي القصة والرواية، ثم المسرح. فهل لذلك أسبابٌ ترونها؟ وهل تتحقق هنا أهمية “الكمّ”؟

سأخبرك بقصة طريفة كنت أحد أطرافها . ذات يوم كنت عضوا في لجنة تختار المعيدين لإلحاقهم بالكلية التي أعمل بها في بلد عربي. وفي المقابلة الشخصية كان هناك شاب يبدو عليه سمت التدين الهادئ ،سألته هل قرأت روايات أو مسرحيات؟ فسكت ولم يجب. فأعدت عليه السؤال، فلم يجب ولزم الصمت، فابتسمت وقلت له: هل القصة حرام؟ فقال: الشيخ سُئل فسكت. فضحكت، وقلت له : ألم تدرس في كليتك شيئا عن القصة والرواية والمسرحية.. وذكرت له بعض أسماء أساتذته فقال: بلى. قلت له: إذا القصة ليست كذبا ولا حراما، لكنها خيال مسموح به.

الشاهد في القصة أن هناك فهما مغلوطا لدى بعض الناس تجاه الفنون السردية، وهو ما يجعل الاتجاه إلى الشعر أكثر من السرد، ولكن المناقشات والحوارات التي جرت في العقود الأخيرة جعلت الأمر مختلفا، فقد اتجه كثيرون إلى كتابة القصة والرواية والمسرحية، وقد شجعت بعض الجهات هذه الفنون من منظور إسلامي ،مما أظهر بعض المواهب الجيدة.

ومناط الأمر في كل الأحوال ليس “الكم” ولكن “الكيف” . ونحن نتمنى أن يكون هناك كم كثير جيد في إطار كيف كثير جيد.

4

نلاحظ كثيراً أن عدة ألقاب تسبق بعض الأسماء، فهذا “القاص والكاتب والشاعر”، وذلك “الناقد والمسرحي والروائي”.. إلَخ. فهل أنتم مع “احتراف” الأديب لفنٍّ واحد؟ وما مدى تأثير عدم الاحترافية والتخصص على المشهد الإبداعي؟   

الأدب موهبة والأديب كاتب موهوب، ويمكن أن تكون موهبته ممتدة ومتسعة وتستوعب فنا أدبيا أو أكثر وهناك أدباء جمعوا بين الشعر والقصة القصيرة والرواية والسيرة الذاتية والمسرحية والمقالة والبحث النقدي والدراسة الأدبية إلى جانب الكتابة في تخصصهم العلمي مثل الطب والرياضيات والهندسة والكيمياء  والفيزياء. وأبرز الأمثلة على ذلك نجيب الكيلاني وعبد السلام العجيلي ويوسف إدريس ومن قبلهم أحمد زكي أبو شادي فقد كتبوا في معظم الفنون الأدبية إلى جانب تخصصهم في مهنة الطب..

احتراف الأدب في البلاد العربية ليس مجديا. الاحتراف يفرض على صاحبه في بلادنا التفرغ، كي يأكل ويعيش، وهوما لا يتناسب مع واقعنا الذي تشيع فيه الأمية، وضعف القراءة، وسوء التعامل مع الناشرين. الأديب في بلادنا العربية إن لم تكن له وظيفة أو مصدر آخر للرزق يموت جوعا إذا احترف الأدب، أو يضطر للتنازل عن قيمه وأخلاقه ليلتحق بجهة رسمية توفر له دخلا ما، مقابل أن تفرض عليه نمطا معينا من التصور أو الرؤية تختلف عن اقتناع بما يمليه الضمير والدين والأخلاق.

ولعلي فهمت بجانب المفهوم العام للاحتراف وهو التفرغ للكتابة الأدبية، فهما آخر لمصطلح الاحتراف في السؤال وهو التخصص في فن معين من الفنون الأدبية، ولا أرى  مانعا أن يتخصص في فن يظهر موهبته، ويجعل صاحبه يبدو أكثر تجويدا وأفضل تعبيرا.

وبصفة عامة يبدو التخصص في فن واحد يجيده الكاتب ويحبه أفضل من تشتيت الموهبة في مجموعة فنون لا يبدو فيها التميز والتفوق.

5

 كناقد  له   باع طويل في النقد  ومتابعة   كافة أنماط  الفن الروائي أود  أن أسألكم عن أدب السجون  إلى أي مدى  يمكن أن نصنفه  ضمن الأدب الإنساني  في   فن الرواية   والشعر؟؟؟

أدب السجون أدب إنساني بامتياز. لأنه يكشف وحشية السجان ومن يأمر بالسجن، والحديث هنا بالدرجة الأولى عن السجون التي تقوم على التعذيب واستباحة الضحية في الأنظمة الديكتاتورية التي تسعى إلى الانتقام من المعارضين السياسيين. هناك سجناء جنائيين (ليسوا سياسيين) يتعرضون أيضا للتعذيب حتى الموت، ولكن هؤلاء قلة بالنسبة للسياسيين الذين لم يرتكبوا غير جريمة المطالبة بالحرية والعدل والكرامة والمساواة. وفي الأدب العربي الحديث صور ونماذج للتعذيب في السجون تقشعر لها الأبدان، وكشف وحشية الجلادين عمل ضروري لتكتمل إنسانية الإنسان برفضه لهذه الوحشية واستنكاره لها. 

6

كتب الكثير من الادباء الذين  يحملون  الهم الإسلامي والفكرة الإسلامية    الروايات والشعر   المصنف ضمن ادب السجون بل  لعل   الدكتور نجيب الكيلاني كان  أطول نفسا في هذا ومن المعاصرين ايمن العتوم

  ما رؤيتكم  النقدية  فيما  يحمله  هذا الادب  وهل يمكن ان نصنفه بالأدب الإسلامي….؟؟؟

كل أدب يعبر عن الإنسان ومعاناته في السجون أو غيرها، يعدّ أدبا إسلاميا حين يعبر عنه أديب إسلامي موهوب. في روايته رحلة إلى الله مثلا يصور نجيب الكيلاني ما تعرض له المعتقلون في سجن القلعة أو السجن الحربي من تعذيب وحشي يفوق الخيال تصويرا حيا ومؤثرا، وفي روايات أخرى تعرض لوصف ما يلاقيه السجناء الإسلاميون والمجاهدون ضد السلطات الاستعمارية الغازية تصويرا يجرّم كل من شارك في التعذيب ولو بالموافقة والرضا. وقد نجح في تصوير التعذيب لأنه عاني في السجن الحربي وسجون أخرى.

وفي رواية القوقعة الشهيرة صورة لوحشية الكائنات التي مارست التعذيب ضد السجناء السوريين ،والمفارقة أن راوي الأحداث كان غير مسلم تعرض للتعذيب بوصفه مسلما!

خمس دقائق وحسب” تسع سنوات في سجون سورية الحلقةالثانية

الفصل الثاني : كفر سوسة : رحلة خارج الزمن (يناير 1981 – أكتوبر 1982 )

كفر سوسة : رحله خارج الزمان

عبرت السيارات الثلاث بوابة السجن العامة مضيا نحو المبنى الرئيسي الذي انتصب أمامنا بطوابقه الثلاث ، والتفط السائق حوله بين ممرات ومداخل معقدة حتى بلغ بابا كهربائيا توقف بنا عنده ، واجتذبتنا الأيادي مرة أخرى فاقتادتنا عبر ساحة المبنى الداخلية إلى باب اخر تنزل خمس درجات منه إلى القبو المعتم ، فإذا هو عالم اخر من عوالم الرعب التي قطعناها خلال اليومين الماضيين عن غير ما اختيار .

مضت الأيدي القاسية عبر ممر القبو المظلم فالتفت بنا جهة اليسار وليس في طريقنا إلا الصمت والأ بواب الحديدية الكئيبة ووحشة المكان ، ولم يلبث أن قطع لهاثنا المتدفق صوت أجش أتانا من وسط العتمة ينادي : -منيرة! فما كدنا نلمح المنادي حتى بدت من الجهة المقابلة في اخر الممر فتاة مضفورة الشعر ترتدي “جلابية” شاعت موضتها وقتذاك ، وجعلت تتقدم نحونا متمايلة يوحي مظهرها أنها سجانة أو موظفة هناك . . فلما اقتربت ومن غير أن يلتفت إلينا قال لها أبو عادل رئيس نوبة السجانين وقتذاك : – هيا فتشيهن واحدة واحدة .

ودفع بي أول الجميع إلى غرفة علمنا بعدها أنها غرفة التحقيق والتعذيب ، ودخلت منيرة هذه ورائي وسألتني ؟ – ما اسمك ؟ قلت وقد بلغ التوتر بي مبلغا : وماذا تريدين من اسمي ؟ أحسست وقتها أن بامكاني أن أقتلها من شدة توتري بيدي . . لكنها قالت ببرود : -وليش معصبة؟ .

قلت : والله لا أدري ! ماذا تريدينني أن أفعل ؟ هل يمكن للإنسان أن يكون مبسوطا هنا ! أجابت بنفس برودها ورتابة صوتها : بس لا تعصبي . . أنا سجينة مثلك. قلت بحدة : لماذا تكذبين على ؟ شكلك هذا ليس كشكل السجينات .

قالت : والله العظيم أنا سجينة وقاعدة في مهجع مملوء بنسوان من الإخوان . لم أجرؤ أن أزيد معها وظننتها سجانة تريد أن تستدرجني في الكلام خاصة وأنها تتحدث بالقاف العلوية ، لكنها عادت وقالت لي : ما صدقتيني ؟ بكره بنلتقي بالمهجع وبذكرك .

أحسست لهجة صدق في حديثها فاستأنست بعض الشيء وسألتها دون أن أغادر الحذر : – ومن معك من الإخوان هناك ؟ قالت : هناك واحدة حاجة من حلب وأخرى اسمها أم شيماء و جلست تعد لي أسماء وألقاب لا أعرفها وأضافت : وأنا الشيوعية الوحيدة في المهجع والبقية كلهن من الإخوان فتشتني منيرة بعد ذلك ، وفعلت الشيء نفسه مع ماجدة وملك بالتتابع ، وكان العنصر في انتظاري حينما انتهت ، فأخذني وأصعدني ثانية من القبو ، واقتادني عبر سلالم وممرات عديدة إلى المبنى الجنوبي للفرع ، ليبدأ التحقيق معي حسب الأصول !


بين يدي الجلاد !

كان كل ما حولي يثير الفزع والإضطراب : هذا داخل وذاك خارج . . باب يقفل واخر من أين لا أدري يفتح . . وكل قادم أو عابر يحمل بيده جهاز لاسلكي أو كبلا أو أداة أخرى للتعذيب . . وفي البداية أدخلوني على مكتب رئيس الفرع ناصيف خير بك ، فأحسست وكأنني انتقلت إلى عالم اخر . . فالغرفة واسعة دافئة أنيقة التأثيث ، يمتد السجاد الفاخر على أرضهما بمهابة وقد توزعت عليه كنبات وثيرة ومكتبة ومكتب فاخر يحتل تمثال لرأس الرئيس الأسد ركنا منه ، بينما ينتصب في زاوية الغرفة القصوى تمثال برونزي آخر لرأس الرئيس بالحجم الطبيعي .

وأما المقدم ناصيف الذي كان منهمكا بمحادثة لاسلكية وقتها فلم يعرني أكثر من نظرة ازدراء بطرف عينه ، وأومأ للعنصر أن يعيدني إلى مكاني وأكمل حديثه . . ولم ألبث أن اقتادني ذاك ثانية إلى غرفة أخرى مقابل مكتب ناصيف ، فوجدت مجموعة أشخاص مجتمعين على شاب مقيد يعذبونه ويحققون معه ، وناصيف ممسك جهاز اللاسلكي بيده يتحدث فيه مرة ومع الشاب المسكين والعناصر مرة .

ولم يلبث أن أشار بيده إلى العنصر الذي أحضرني فجذبني ذاك من منكبي وأمرني أن أنتظر خارج الغرفة من جديد ، وأنا كالنائمة لا أكاد أقدر على متابعة المشاهد المتجددة والوجوه المتعاقبة والأصوات التي تختلط الشتائم فيها بالإستغاثات والآهات ! وسرعان ما عاد العنصر فأدخلني الغرفة ذاتها لأحضر تعذيب الشاب نفسه لعلي أخاف وأتكلم ما يريدون .

كانوا أربعة أو خمسة يشتركون في التعذيب أمامي بالكابل والعصي والخيزران والكهرباء : ناصيف خير بك رئيس الفرع ، والرائد عبد العزيز ثلجة وهو رجل ضخم الجثة بالغ الجلافة ، وعناصر آخرون كان أحدهم لم يبلغ العشرين بعد مجندا من درعا كما عرفت لاحقا ينادونه حسين ، ولم أعرف من كان ذاك الشاب ولماذا يعذبونه ، لكنه كان يصيح طوال التعذيب ويستغيث مناديا : – والله العظيم موأنا . . ثم اعترف اخر الأمر لا أدري ليتخلص من مزيد من العذاب أم لسبب اخر فأقرأنه قتل أحد الضباط . . وعندما اشتد التعذيب عليه وكاد صراخه يصيبني بالإنهيار التفت إلى العنصر معي وسألته : -لماذا أتيتم بي هنا ؟ قال بسخرية : لا أعرف . . إسأليهم.

قلت بانفعال : لا أريد أن أسألهم ولكن أنا ما عندي شيء لأعترف به ويضعوني في هذا الموقف فأتفرج على تعذيب الناس . ولم يزد العنصر عن أن هز كتفيه وابتسم متهكما وهو يقول : -لا أعرف . . لا علاقة لي بأي شيء هنا ! واستمر الضرب والتعذيب حوالي نصف الساعة أنهضوا الشاب بعدها مضرجا بالدماء والكدمات فكبلوا يديه ورجليه ، وفيما اقتادني العنصر وراءه لأكمل كما يبدو رؤية المشهد ، سحب الرائد ثلجة الشاب إلى رأس الدرج ، ثم ركله برجله بكل قسوة ، فتدحرج هاويا يئن ، ونادى على أحد ما هنالك لينزله إلى المنفردة في القبو أسفل المبنى ، وعاد فأمر العنصر ليدخلني إلى الغرفة مرة أخرى ، فأوقفني في زاويتها ، وجعل ناصيف وثلجة يتحدثان باللاسلكي لا أدري مع من ، ثم خرج الجميع فجأة ، ليعود الرائد ثلجة وحده ويغلق الباب كهربائيا بضغطة زر ، فاستوى الباب بالجدار حتى لم أعد أدري من أين دخل ولا أين كان هذا الباب . . ومن غير أن يلفظ أي كلمة أو يسألنى أي سؤال لم أحس إلا وصفعة مفاجئة تأتيني على حين غرة اصطدم رأسي من عزمها بالجدار وارتد ، وصارت الدنيا تدور كلها في ، وصرت أرى الرائد أمامي أربعة أشخاص معا ، وأرى رأسي أسفل مني ورجلاي فوق الرأس وفوقي ! لم يزد عن أن قال : – انظري . . إذا ما بدك تحكي ما بتعرفي ما الذي سيحصل لك .


بساط الريح !

خروج الرائد ثلجة برهة لم أكد أتمالك فيها نفسي حتى عاد مع ناصيف ورئيس الدورية التي أحضرتنا من البيت وشخص رابع لم أعرف من كان . وابتدرني ناصيف يقول : -وليك . . شو ما بدك تحكي ؟ ما بدك تقري وتدلينا فين أخوك ؟ قلت له :أخي ليس هنا . قال : إذا أين هو ؟

قلت : لا أعرف الظاهرأنه ذهب ليكمل دراسته . وواقع الأمر فإن أخي صفوان كان قد أخبر أمي عندما زارته في الأردن وقال لهما : إذا سألك أبي أين أنا فقولي له ذهب ليكمل دراسته في الباكستان .

تذكرت ذلك بمجرد أن سألني عنه ، ولم أكن أدري وقتها بأن أمي كانت معتقلة في نفس السجن معي ، وأنه سألها قبل دقائق عن أخي فأجابت الجواب نفسه ، والتقى كلامي مع كلامها في هذه النقطة ، الأمر الذي أعفاني من التعذيب على ذلك السؤال ، ولكنه سألني بلؤم : -أنت تعرفين بأن أخاك هنا ، وسوف تأخذيننا وتدليننا عليه ، أو على رفاقه والبيت الذي يجلسون فيه .

قلت : لا أعلم أي شيء من هذا . . فنادى على أحدهم وقال له : إذهب وأحضر لها بنطالا وأعطها إياه خليها تنستر وضعها على بساط الريح .

تقدم العنصر مني وطرحني على لوح من الخشب له أحزمة طوق بها رقبتي ورسغي وبطني وركبي ومشط رجلي ، ولما تأكد من تثبيتي رفع القسم السفلي من لوح الخشب فجأة فبات كالزاوية القائمة ، ووجدتني وأنا بين الدهشة والرعب مرفوعة الرجلين في الهواء وقد سقط الجلباب عنهما ولم يعد يغطيهما إلا الجوارب والسروال الشتوي الطويل ، ولا قدره لي على تحريك أي من مفاصل جسمي . . وبكل وقاحة صاح العنصر يقول : – انظر سيدي .. أرأيت ؟ قالت إنها ليست من الإخوان . . ولكن انظر كيف أنها منهم ومجهزة نفسها للفلقة ولا حاجة لها للبنطلون ! حاولت دفع أي من القيود الجلدية عن مفاصلي فما استطعت . . وقبل أن أحاول إعادة لوح الخشب إلى استقامته طلبا للستر كانوا قد علقوه من جنزير مثبت به إلى السقف ، وتقدم رئيس الدورية التي اعتقلنا وبيده خيزرانة طويلة رفيعة وسألنى بلهجة تهديد صريح : -شوما بدك تحكي ؟

قلت :ليس لدي أي شيء لأحكيه . في نفس الوقت كان الرائد ثلجة فوق رأسي يجهز مولدا كهربائيا مربع الشكل موصولا بالفيش وله يد يدار بها وملاقط قربها مني وأطبقها فجأة على أصابع يدي . . وفيما هوى ذاك بالخيزرانة على بطن رجلي أطلق هذا شحنة من الكهرباء سرت كالنار في بدنى ، فقال دون أن يلتفت لصرختي : -هه إلسه مابدك تحكي ؟ صرخت : قلت لكم ماعندي شيء للحكي .

قال ببرود : أرأيت كم كانت الكهرباء قوية؟ هذه أخف الموجود لدينا! قلت : حتى ولو كان ، هل أعترف بأشياء أنا لم أفعلها ! قال : لا . . أنت تكذبين وتخبين علينا . . بدك تقومي الآن تأخذينا وتدلينا على البيت الذي يسكن فيه أخوك ورفاقه والا فسنأخذك إلى تدمر ! وأقبل ثلجة هنا بصورة قربها من وجهى وسألنى : – هل تعرفين هذا الشاب ؟ قلت :لا. قال : كيف ؟ ألا تعرفين رفاق أخيك ؟ قلت :لا.

قال : لكن هذا رفيق أخيك الحميم . . هذا عبد الكريم رجب . . ألا تعرفينه ؟ قلت بحزم وقد تأكدت لي الوشاية الرخيصة التي حيكت لي : لا . . لا أعرفه . تبسم الرائد ثلجة ابتسامة صفراء وشرع يقرأ من مجموعة أوراق بين يديه بعين ، وعينه الأخرى تتاج انفعالات وجهي : – هبة الدباغ : منظمة مع الإخوان وتتعامل معهم . . اشترت لهم بيتا ، وتعطي دروسا لسيد قطب في مساجد دمشق و . . صرخت بانفعال وأنا أسمع قائمة الإتهامات الكاذبة للمرة الألف : كذب . . كذب . . لا أعرف أي شيء تتحدث عنه .

دس الرائد ثلجة الأوراق بوجهي وهو يقول : -ألا تري ؟ هذا كله مكتوب هنا . . كله من اعترافات الرجب . . هو الذي تكلم عنك بهذا ، وهو من الإخوان مائة في المائة ويعرف عنك كل شيء ولا بدوأنك تعرفينه أيضا . . عدت إلى قولة كلا . . وعاد التعذيب من جديد ، وصار رئيس الدورية يضرب قدمي بكل عزمه ، حتى أصبحت الخيزرانة عندما تهوي عليهما تشق الهواء بصوت كالصفير ، وجاء عنصر آخر بخيزرانة ثانية وجعل يشارك معه الضرب ، فيما عاد عبد العزيز ثلجة فقبع فوق رأسي وجعل يكوي أصابعي بالكهرباء من جديد .

كان الألم أشد من أن يوصف . . وكنت في البداية أصيح : يا الله . . لكنني لم أعد أستطيع اخر الأمر أن أخرج صوتي ، فصرت ألوح برأسي فقط ولم أعد أحس بشيء . . ووجدتهم بعد عشر دقائق تقريبا من الضرب المتواصل يتوقفون فجأة ، ومع الشتائم والعبارات البذيئة طرق سمعي عبارة : – إلى تدمر! وسرعان ما انفكت القيود عن مفاصلي ، وسحبني عنصر من غرفة التعذيب عبر الممرات والسلالم ثانية إلى سيارة متوقفة عند الباب ، ففوجئت برفيقتي ماجدة قد سبقتني إليها بحراسة عنصر آخر . أركبانا معا ولكنني لم أجرؤأن أتحدث معها بشيء . . وانطلقت السيارة بحركة مسرحية إلى أن بلغت الباب الخارجي ، فسألنى من جديد : -لسه ما بدك تحكي ؟ أحسست وكأن أعصابي المشدودة تصيح كلها معي بصوت واحد : -ما عندي أي شيىء أحكيه . . أنا لا علاقة لي بأحد . . هل تريدون أن أكذب عليكم فقط ؟

هل تريدون ! توقفت السيارة ، ولم يلبث السائق أن عاد بنا إلى المبنى من جديد، وأعادوني مرة أخرى إلى التعذيب . . وعادت نفس الأسئلة والإتهامات تطرح علي ، لكن الضرب والتعذيب اشتد أكثر ، وزاد عدد المشاركين بتعذيبي حتى لم أعد أستطيع أن أعرف عدد من حولي أو عدد المحصي والخيزرانات التي تهوي على رجلي . . وبدأت أرى الغرفة كلها عصيا وخيزرانات . . والناس فيها من كثرة أسئلتهم كالضفادع تنق وتنق بصوت واحد غامض . . فلم أعد في النهاية أجيب على أحد ! وأتاني صوت الرائد ثلجة من جديد

يقول : – ها . . أنت إذا مسلحة . . انظروا إليها . . تدعي البراءة وتنفي أنها منظمة وهي ليست من الإخوان وحسب . . ولكنها مسلحة أيضا! أحسست أن تهمة أكبر تلفق لي هذه المرة فصرخت بعصبية : لا . .أنا لا علاقة لى بأحد . . وأنا لست مسلحة . قال : ولكن رفيقتك ماجدة هي التي قالت ذلك عنك .

قلت : لا تصدقها . . أحضرها لتقول ذلك أمامي . . ربما قالت ذلك من خوفها حتى تنجو من الضرب . قال : لا . . رفيقتك لا تكذب . . هى أصدق منك . . تكلمت عن كل شيء وما تعذبت ، وأنت أذا لم تتكلمي فستبقي تأكلي ضربا حتى تحكي .

وتقدم ثلجة من جديد نحوي وبيده بطارية كهرباء وضعها على فمي مباشرة وقال بلهجة التهديد : -الن تتكلمي ؟

قلت : ما عندي شيء أحكيه . . مهما وضعت لي الكهرباء أو أطعمتني ضربا فما عندي شيء أحكيه ولن أكذب على نفسي .

وهنا صاح ناصيف بضجر : – هيا أنهضها وأعطها ورقة لتكتب ما لديها من معلومات وسنرى بعدها . والتفت نحوي مهددا

يقول : -إذا لم تتحدثي بكل شيء هذه المرة فاعلمي أن لدينا عناصر الواحد منم كالوحش يسد الباب . وأضاف : – هل تعرفين ألشوايا الديرية كيف يكون شكلهم ؟ إذا لم تعترفي فسأدخلهم عليك وسنرى بعدها !


الموت راحة المؤمن !

أنهضوني عن “بساط الريح ” فوجدت نفسي مبللة من غير أن أشعر، وكنت كأنما أغمي علي أثناء التعذيب فدلقوا علي سطل ماء حتى أصحو . تلفت حولي كالسكرى فرأيت الغرفة خلت تقريبا من الناس ، وأدركت من خلال نافذة كانت فوق رأسي أن الدنيا قد أصبحت ليلا ، فقدرت أن ساعتين أو ثلاث انقضت علي وأنا في التعذيب ! وبينا أنا لا أزال أحاول استعادة توازني جاء أحد العناصر بورقة وقلم وجلس أمامي يقول : – انظري . . إذا حكيت فستساعدي نفسك ، وإلا فستطمسي أكثر مما أنت طامسة . قلت له : ماعندي أي شيء أحكيه . قال : لا أحد يأتون به إلى هنا وما عنده شيء . . ولا أحد يصل هنا إلا إذا كان مذنبا . قلت له : ولكن أنا ليس لدي أي شيء .

قال : أنت حرة . وأعطاني استمارة معلومات عامة عن دراستي ومدارسي ثم عن علاقتي بتنظيم الإخوان . . أجبت بما أعرف وأعطيت الورقة للعنصر فذهب بها ، ولم يلبث أن عاد الرائد ثلجة يلوح بها وملامح الغضب بادية على وجهه وهو يصرخ في : – هل هذه أجوبة تلك التي أجبت بها يا أخت ال . . . واندلقت كل الشتائم والعبارات البذيئة دفعة واحدة من لسانه وكأنها كانت تنتظر فرصتها للإفلات وفى آخر عبارة أطلقها سمعته

يقول :أنت تعرفين هذا البيت الذى يسكن فيه أخوك ورفاقه وبدك تدلينا عليه الآن لكن أنا أعرف لماذا لا تريدين ذلك . . تريدين أن تماطلى بالوقت حتى يهربوا اوسجل دون أن أرد عليه بعض الكلمات على الاوراق التى معه وخرج ولم يلبث أن عاد وقالو خرج ، ولم يلبث أن عاد وقال : – إذالم تتكلمي فسننزلك إلى القبو ،والقبو إذا نزلت إليه لا تخرجى منه حتى تموتى قلت له : أحسن. . الموت راحة المؤمن !

قال بغيظ :وتجيبين بكل وقاحة وكل عين يخرب بيتك الم تحسي كم أكلت من قتل ؟ ألا تفكري في أن ترحمى نفسك وتعترفى لتخلصى من هذا العذاب.

قلت له :لكن أنا ليس لدي أي شيء حتى أعترف به . . قلت لكم ماعندى شىء  : في تلك اللحظة دخل ناصيف خير بك من وسمعنى أقول ذلك جديد للرائد ثلجة ،فابتدرني بتكشيرة ونظرة مرعبة وقال والشتائم البذيئة تسبق كلماته- إذا الم تعترفي بكل شيء الان .. مباشرة . .فسوف أعريك من ثيابك صحت وقد هزني التهديد:لكن انا ما عندي شيء احكيه . قال بلهجة الأمر:إخلعي جلبابك .وقفت هنا ونظرت إليه والخوف الحقيقي يغمر قلبي لأول مرة . ل قال ألا تريدين أن تخلعيه؟ أنا سأخلعه لك. وتقدم مني فمد يده يريد أن يفك أزرار الجلباب فما وجد شيئا .

ففي تفصيلة ذلك الجلباب كانت الأزرار مخفية ، فحول يده وأنا أحاول مدافعته إلى رأسي لينزع حجابي فلم يستطع . . أمسكني من شعرى تحت الحجاب وكان طويلا وقتها وملفوفا للخلف أمسكني منه وبدأ يشده فينجذب رأسي كله من غير إرادة مني إليه ،ثم يعود ويخبطه بالجدار . .وسيل الشتائم البذيئة يرافق ذلك كله ،لكنه لم يتمكن رغم ذلك من نزع الحجاب لأن غطاء الصلاة كان قد نزل في أكمامي عندما لبست الجلباب فوقه ساعة الإعتقال . .

فصاح بي : وتقولي عن نفسك أنك لست من الإخوان وثيابك كلها ملتصقة ببدنك التصاقا والجلباب أزراره سرية ومخفية ومجهز اخر تجهيز! .

ومع استمرار صمتى وسيل الشتائم منه نادى أحدهم ليعطيه الكبل أو الخيزرانة ليجدد ضربي . . ووقتها كانت قدماي قد تورمتا من الضرب ولم يعد بإمكاني لبس الحذاء، فقال وهويتناول ماطلب :لا تريدين الكلام ؟ أنا سأريك ” وتقدم ليبدأ ضربي ، فركضت بعفوية منه والتجأت وراء الطاولة فركض ورائي . . وبدأت أركض وأدورحولها وهويركض ورائي ليمسك بى ويصيح : يخرب بيتك كل هذا التعذيب والضرب ولازال فيك روح لتنطي وتركضى ونادى الحاجب وقال له : أمسكها من عندك فلما تقدم العنصر وأمسكني صاح ناصيف فيه : خذها . . خذها تنقلع من وجهى . . خذها إلى المنفردة . . لا أريد أن أراها أكثر من ذلك. لم أصدق أن حفل التعذيب قد انتهى ولم أعي مامعنى أن أذهب الى المنفرده إلا عندما دفع العنصر حذائى الى وجذبنى خارج الغرفه وجعل يقودنى عبرالسلالم والممرات ثانية نزولا هذه المرة وهو يقول لى: لماذا؟ لماذا لم تتكلمي ؟ أما كان ذلك أفضل لك ؟ كنت على الأقل رأفت بحالك . . أنظري كيف انتفخ وجهك وازرقت يداك وتورمت رجلاك وأكلت قتل الدنيا حتى لم تعودي تستطيعين أن تلبسي حذائك .

قلت : ما عندي شيء أحكيه . وأضفت وقد فاض بي الأمر ولم أعد ألقي بالا لكلماتي : الله لا يعطيهم العافية هؤلاء الظلام . . لكنه وكأنما كان يؤدي دورا مرسوما لم يلتفت لعبارتي وأكمل يقول : لكن لو أنك كذبت عليهم كنت خلصت حالك.

قلت :- أنا لا أكذب وأعلم أن الذي يصدق هنا أو يكذب فنتيجته واحدة .

سألنى بدهاء: وكيف عرفت ذلك ؟

قلت : – لأنهم لم يصدقونني . . قلت لهم الحقيقة فلم يصدقوا فكيف سيفعلون إن أنا كذبت عليهم ! كنا قد وصلنا باب القبو أخيرا ، فوجدت حسين . . العنصر الذي كان يشارك قبل قليل في تعذيب الشاب في الأعلى يطل علينا بوجه مظلم وقد فتح فمه على ابتسامة سخرية تكشف سنا مقلوعة فى الوسط فكأنها نافذة في بيت خرب . . استقبلني وبيده كبل يتلوى مثلما تلوت كلمات الترحيب الساخر على فمه وهو يقول : -أهلا . . أهلا وسهلا . . والله نورت !


قن الدجاج !

أمسكني حسين من كتفي وأنزلني الدرجات الخمس إلى أسفل ، واقتادني من جديد عبر الممر المعتم إلى ثاني زنزانة منفردة في ممر آخر لا يكاد يبدو آخره ، وقال وهو يشير إلى الداخل -هذا مكانك . . غرفتك العامرة . . وان شاء الله نومة هنية ! أحسست بالنفور من الظلمة ووحشة المكان وكنت لا أزال متوترة الأعصاب جدا فقلت بلا وعي : – لا والله . . لا أدخلها أبدا ! قال وهو يدفعني إلى الزنزانة بغلظة : -إي بدك تدخلي بكسر رأسك .

التفت إلى أبواب الغرف الأخرى فلمحت صديقاتي زميلات السكن معي يطللن بوجوههن من طاقات الزنازين التي وزعوهن عليها ، فركضت نحوهن وأنا أصيح : فاطمة . . فلانة . . فجذبني بقوة وهو يقول : تعالي . . تعالي . . هل تظنين نفسك في فندق أو في زيارة ! وفجأة سمعت من آخر الزنازين (رقم 24 ) صوت أمي التي يبدو أنها سمعت صوتي أيضا فبدأت تدعو عليهم بصوت عال وتصيح : -هؤلاء حريمات تتقوون عليهن يا ظلام . . ما عندكم رحمة ! والله أنا طول عمري أسمع أنه لا رحمة في قلوبكم ولكنني أرى ذلك الآن بعيني ! بهرتني المفاجأة . . وركضت ثانية باتجاه مصدر الصوت وأنا أصيح بدوري : -أمي هنا ؟ الله يخرب بيتكم . . ماذا تفعلون بها ؟ إخوتي صغار وأبي مريض . . ولا حول جميعا لهم ولا قوة .

فناداني حسين وهو يقهقه بسخرية : -وما حاجتنا لأبيك وإخوتك ؟ نحن نريد أمك فقط ! وذهب فأغلق نوافذ المنفردات جميعا ثم عاد يدفعني إلى المنفردة وأنا أحاول المقاومة وأتكىء على زاوية الباب ، فقال لي مهددا : -إذا لم تدخلي الآن فسأحضر كل عناصر الفرع ليدخلوك.

قلت : المكان معتم جدا ! أجاب بسخرية : أنت الآن ستنورينه . . هيا ادخلي . نظرت فإذا بعلبتين من الصفيح في زاوية الزنزانة واحدة فيها خبيص من أرز أو برغل مع مرق وفي الثانية ماء . . قلت له : والله هذا مثل قن الدجاج . . وهذه والله مثل معاملة الحيوانات ! قال : هذا عشاؤك الليلة داذا كان لك نفس لتأكلي فكليه .

قلت وقد تملكني الغيظ : أنتم تعرفون أن الذي يدخل إليكم لا تعود له نفس ليأكل ! وهنا حضر عنصر اخر متقدم في السن كان يحسن معاملتي فيما بعد قدر المستطاع . . تقدم مني وقال بصوت منخفض : – يالله يا أختي ادخلي وتوكلي على الله ولا تتركي له مزيدا من الفرص ليسخر منك.

فدخلت المنفردة وصوت أمي لا يزال يبلغ مسمعي . . ثم لم يلبث صوتها أن غاب وسط قهقهات العناصر وصياحهم وهذرهم ، وعمت المكان رائحة الخمر وصيحات المجون احتفالا بليلة رأس السنة إ! فيما لفتني في وحدتي الظلمة ووحشة المكان فازدادت أعصابي توترا ولم أستطع حتى أن أغير جلستي ، خاصة وأنهم أخذوا ماجدة بعدي إلى التحقيق وكان من الممكن أنها تعذب في تلك الساعة مثلما كان محتملا أن تقول عني أي شيء . وبقيت على هذا الحال إلى ما بعد منتصف الليل ، حينما حضر أحد العناصر واقتادني إلى غرفة التحقيق من جديد .


لون الليمون !

في غرفة التحقيق وجدت الرائد ثلجة في انتظاري يستقبلني قائلا : – لست من الإخوان أليس كذلك ؟ ولم تقومي بأي عمل لهم ولا تريدين الإعتراف . . ولكن هناك من أرسله الله ليعترف عليك الليلة . هذه رفيقتك – يقصد ماجدة – قالت بأنك مسلحة وأنها رأت السلاخ معك بعينها .

قلت له بتحد : أحضرها لأفقأ لها عينها . . هيا أحضرها لتقول ذلك أمامى . قال : هي لا تكذب ،أنا قلت لك هي لا تكذب . . هي أصدق منك ، والدليل على كذبك لونك الذي أصبح أصفر مثل الليمون .

قلت له : لي ليلتان كاملتان لم أنم ولم آكل ولم أدخل الحمام مع القتل والتعذيب ولعيان القلب ، فكيف لا يصفر لوني ! هز برأسه وهو يمط شفتيه بلا معنى وصاح للحاجب كي يعيدني للمنفردة ، فعدت إلى جلستي القلقة ذاتها وعاد إلي التوتر والأرق ، حتى أنني لم أمد البطانيات خوف أن يأتي أحد العناصر فيفتح نافذة الباب أو يدخل علي وأنا نائمة . . وبينما أنا متكورة على نفسي وسط الزنزانة أرمق الصراصير في تلك الظلمة تتسلق الجدران حولي دونما اكتراث بالنزيل الجديد . . شق جدار السكون فجأة صوت مزلاج الباب الخارجي وصياح السجانين وتدافع أقدام تتخبط مهرولة فوق الدرجات وعلى الممر باتجاه منفردة قريبة .

أدركت بحدسي أن دفعة من المعتقلين الجدد قد وصلت ، وعلمت لاحقا أنهم ستة أو سبعة شباب بين الثانية عشرة والخامسة عشرة من العمر جمعوهم من مسجد واحد وحشروهم معا في هذه المنفردة التي لا تزيد بمساحتها عن متر بمتر ونصف ! والذي يبدو أن واحدا منهم أصابه إسهال من الخوف أو التعذيب فجعل يصيح طالبا الخروج إلى الحمام ، فلا يجيبه إلا صوت العناصر الغارقين في متعة الإحتفال برأس السنة : -سد حلقك ! لكن الفتى لم يكن يستطيع الصبر ، فيعيد الرجاء وينادي : -والله بطني بتوجعني . . يا عالم . . لم أعد أستطيع ضبط نفسي . . عندها جاءه عنصر منهم وفتح النافذة وتناوله بضربة بالكبل وهو يكرر-سد حلقك واخرس يا . . .

وسكت الفتى لبرهة يا حرام ، بدأنا نشم بعدها رائحة من زنزانتهم خنقتنا . . فعاد العنصر إليه يكفر ويلعن ويقول له : -فعلتها هنا يا ابن ال . . . وأخرجه إلى الممر وانهال عليه ضربا كالمجنون ، وتعالى صراخ أمي من منفردتها ثانية تدعو عليهم وتقول له : -يخرب بيتك . . مالك قلب بشر؟ سألك أن تخرجه فلم تفعل ففعلها تحته . .ماذا يفعل المسكين بنفسه ؟ وعاد الأمر بعد هذه المهزلة إلى ما يشبه الهدوء من جديد . . ومضت ساعات الليل المتبقية تمر علي أثقل من الجبال ، وعلى الرغم من أنني لم يطرق لي النوم جفنا ليلتها إلا أنني بدأت أفقد الإحساس بما حولي ، وأتخيل ربما من شدة البرد أن الثلج قد غطى المكان كله ، وأن العناصر تستعد لاقتحام الزنزانة علي ليسحبوني في هذا الثلج فيعروني ويعذبوني للمرة الأخيرة قبل أن يرشوني وأغادر الحياة ! لكن شيئا من ذلك لم يحدث ، ولم ألبث وقد دنا وقت الفجر أن أحسست بما يشبه الطرق الخافت على الجدار من الزنزانة الأخرى المجاورة حيث وضعوا ماجدة ، فعلمت أنها تنبهني إلى موعد الصلاة ، ولم نكن خلال الفترة السابقة من الإعتقال كلها قد تمكنا من الصلاة ، فتيممت وهممت أن أبدأ ، لكنني لم أستطع معرفة اتجاه القبلة فطرقت الباب ، ولم يلبث أن حضر حسين من جديد فسألته ، فقال بسخرية : – كيف وضعت رأسك على الفلقة فهذا اتجاه القبلة ! كررت عليه السؤال مع الرجاء ، فقال بتبرم : – أنا لا أصلي . . لا أعرف ، لكنني أشاهد الشباب في المنفردات يصلون بهدا الإتجاه .

فصليت إلى حيث أشار وظهري إلى الباب ، فكان قلبي ينتفض من الرعب طوال الصلاة خشية أن يفتح أحد العناصر علي فيراني وأنا أصلى! فيحدث ما لا تحمد عقباه ! وبالفعل . . وبينما أنا في صلاتي فتح السجان ابراهيم الطاقة ليعطيني الإفطار ، فلما رآني أصلي قال بما يشبه السخرية : -شو . . عم بتصلي ؟ فلم أجب ، ولكنني أحسست أن قلبي قد سقط بين يدي ، غير أن الله سلم ، ومضى إبراهيم فأكمل توزيم الفطور على الزنزانات الأخرى ثم عاد ففتح وسألنى باستهزاء : -خلصتي ؟ الله يتقبل ! هززت برأسي دون أن أجيب ، فاكتفى بدفع طبق الطعام إلي والذهاب . . ولم يكد يفعل حتى فتحت الطاقة من جديد وكان القادم هذه المرة أبو محمد . . الرجل الذي ترفق بي لأدخل الزنزانة ليلة الأمس ،

فسألني : – ألا تريدين الخروج إلى الحمام ؟ أشرت بالإيجاب ، فلما فتح باب المنفردة أطللت على الممر برأسي فما وجدت أحدا . .

سألته : – مالي لا أسمع صوتا هنا ؟ وهذه صديقتي ملك ألم تنزل من التحقيق ؟ قال : خرجوا . . كلهم خرجوا ، وما بقي إلا أنت ورفيقتك الثانية – يقصد ماجدة – . قلت بدهشة واضطراب : وأمي ؟ قال : أنت ورفيقتك وأمك فقط . . صفوكم ! أحسست أنها النهاية وأنها راحت علينا . . خرج الجميع وبقينا نحن . . إذا فهي النهاية! سألته وأنا أشهق بالبكاء : – ولماذا أخرجوهم ولم يخرجونا نحن ؟ أنا لم يثبت أي شيء علي . . أنا بريئة .

أطرق وهو يقول : والله لا أعلم . . إسأليهم ، أنا هنا مجرد موظف. ثم غير مجرى الحديث وقال : – أتريدين أن تأكلي .. ألست جائعة؟ أنا أحضرت فطوري الخاص معي : زبدة ومربى وأشياء أخرى . . أكلت منهم وزاد معي قطعة .

تذكرت وقتها أنني لم أكن قد أكلت شيئا إلى ذلك الوقت من قبل ، لكنني لم أشأ أن آكل طعام غيري أيضا ، فشكرته واعتذرت . . ثم لما اشتد علي الجوع في اليوم الثاني بدأت آكل القشرة الخارجية للصمون الذي يحضرونه لأن الداخل عجين كله . . وقطعة الجبن التي لا يحضرونها إلا نادرا بطبيعة الحال ، وعلى هذه الحال بقيت طوال فترة بياتي في المنفردة ثمانية أيام بالتمام والكمال !


“الخط “ورعاه البقر !

طلع صباح أول أيامي في سجن كفر سوسة وأنا لا أزال قابعة أترقب في زنزانتني المجهول بوجل ، وأطل على أحداث الأيام التي مضت مصدقة ومكذبة! تلفت أتأمل “مسكني ” الجديد فإذا به أشبه بالقبر منه إلى أي شيء اخر ، وعدا الصراصير التي كانت لا تزال تبحث بمجساتها المقرفة عن شيء رطب تقتات عليه لم أستطع في البداية أن أجد على الجدار القاتم شيء ، لكن تسرب بعض الضوء واعتياد عيناي على الظلمة جعلني أبصر خطوطا مميزة بعض الشيء وشعار “الله أكبر ولله الحمد” محفورة أكثر من مرة وحولها أسماء أشخاص عديدين مروا على هذا المكان التعس قبلي . . وكان ثمة نقش لمسجد كتب حوله “لا إله إلا الله محمد رسول الله ” وأسفل منه اسم الشخص الذي نقشه على الأغلب . . كذلك لمحت خريطة لفلسطين وتحتها عبارة “الله أكبر ولله الحمدا ا! لم تكن أكثر من ساعتين على صلاة الفجر قد مضتا حين بدأت دورة يوم جديد من أيام السجن تأخذ مجراها . . فكما الكلاب تفعل كان المحققون والجلادون والسجانون لا ينامون إلا إذا دنا الفجر ويستيقظون وقت الضحى! وسرعان ما بدأت الشتائم واللعنات وعبارات الكفر بالله تختلط بفرقعة الكبلات على ظهور السجناء يقتادونهم إلى الحمامات أو إلى “الخط ” بلغة السجن المتداولة .

كان (ياسين ) المجند العلوي المتطوع أحد أجهل خلق الله وأغباهم يتصدر لهذا العمل على الدوام ، فتراه يمسك بالكبل بيده ويتفرس في طابور المعتقلين المتجه نحو الحمامات لبرهة ، ثم لا يلبث أن ينقض على المساكين لطما ولسعا يسلخ جلودهم كالدواب . . والويل كل الويل لمن كان يجرؤ ويصيح من الألم . . فجزاء ذلك مضاعفة العذاب حتى لا يعيدها ثانية! وسرعان ما انطلق صوت أمي من زنزانتها تنادي عليه : يا ولدي . . هل تظن أنك لا تزال في الضيعة التي جئت منها وهؤلاء قطيع من البقر الذي كنت ترعاه ! ولم يكن ياسين ليرضى أن يقطع متعته الصباحية شيء فاستمر يجلد الشباب ويتلذذ في خلق هذا المشهد الرهيب . . وأمي تطرق الباب بأيديها وأرجلها وتبكي ألما عليهم وحسرة وليس من مجيب ! ولم تكد تنته هذه المأساة ويهدأ المكان بعض الوقت حتى كان موعد التحقيقات قد جاء ، وعاد صراخ المعذبين وصيحات العناصر وشتائم المحققين تقرع اذاننا وتذيب منا القلوب ، ثم وكما بدأت بلا مقدمات خفتت الأصوات من جديد ، ولم ألبث أن وجدت باب الزنزانة يفتح وأحد العناصر يدعوني للذهاب إلى الحمام ، فلما أصبحت هناك وحدي وبدأت الوضوء وكل ظني أنني قد أغلقت الباب بإحكام علي فوجئت بوالدتي أمامي ، فأدهشتها المفاجأة مثلما أدهشتني . . واندفعت من فورها تحيطني بذراعيها وتسألنى وهي بادية الإضطراب : – قتلوك ؟ عذ بوك ؟ قلت أريد أن أخفف المصاب عنها : لا . . أنا بخير . لكنني كنت وقتها أضع رجلي على الحوض وأغسلها للوضوء ، فأشارت مفجوعة إليها

تقول :ولكن ما هذا ؟ رجلك كلها زرقاء وأصابعك مزرقة أيضا ولا تكاد تظهر ! هل أذاك أحد؟ هل مسك أحد ؟

قلت من جديد : لا . . الحمد لله ما مسني أحد .

سألتني وكأننا في سباق مع الزمن : ولماذا أمسكوك إذا ؟

قلت : والله لا أعرف . . يريدون أخي صفوان ويريدونني أن أدلهم عليه .

فأخبرتني هنا أنها أجابت في التحقيق كما أجبت بأنه يدرس في الباكستان ، فشعرت بارتياح لتطابق كلامي مع كلامها ، ولكنني وجدتها تتركني وتخرج إلى الممر ندعو عليهم بأعلى صوتها ، فحضر حسين راكضا وهو يصيح بالعنصر الآخر : – كيف جعلتها تدخل والأخرى لا تزال هناك ؟ ألا تعلم أن اجتماع أكثر من شخص هناك ممنوع ؟ أجاب العنصر الذي أحضر أمي : لم يكن لي عالم بوجود أحد اخر . . لماذا أغلقت أنت باب المنفردة التي كانت فيها ولم تتركه مفتوحا لأعلم أنها لا تزال في الخارج ؟ واقتاد كلاهما والدتي وهي لا تكف عن إطلاق دعواتها عليهم ، ولم تتح لي رؤيتها ثانية إلا بعد أيام ، ولم تتح لي معرفة سبب وكيفية اعتقالها إلا حينما اجتمعنا في المهجع بعد انتهاء التحقيق . . فقصت علي – رحمها الله – ما جرى بالتفصيل .


الكمين !

كانت والدتي – علية الأمير – قادمة من حماة لتحضر لي بعض أغراض كنت قد نسيتها أثناء الإجازة هناك ، ولتكمل بعدها إلى الأردن حيث استقر أخي صفوان مع كثير من الشباب الملاحقين بتهمة معارضة الحكومة والإنضمام إلى تنظيم الإخوان . . ومع والدتي حضرت أسرة ال مرقة ترافقها لزيارة ابنهم المقيم في عمان لنفس السبب .

قالت والدتي – استيقظ أبوك ليلة اعتقالك على منام مزعج أولمه شرا أصاب أخاك صفوان ، فقال لي اذهبي وا نظري أحواله ، فمضيت يرافقني المرقة وقد اتفقنا على المبيت عندكم ليلتها والتحرك إلى عمان في اليوم التالي . ، ولما وصلنا قرب بيتكم في دمشق وبت على خطوات من مدخل البناية سمعت صوتا يأتيني ويقول برجاء ظاهر : يا خالتي ارجعي . . لا تدخلي ! كان أحد الجيران ينادي من جهة لا أراها ويحذرني من الصعود بعد أن تم اعتقالكم قبل ليلة ، ولكنني لم أرد وما ظننت النداء كان لي ، فما أن طرقنا الباب حتى استقبلتنا الرشاشات وأيادي جذبتنا إلى الداخل بغلظة ، ووجدنا أنفسنا بعد ساعة زمن في سجن كفرسوسة !


أحكم الأحكمين . .

كنت وأمي تحدثني عن اعتقالها لا أقل تأثرا وحزنا على حالها من تأثري وألمي على حال هؤلاء المساكين أسرة عمر مرقة الذين اعتقلوا معها ، فوالدتهم لم تكن قد أفاقت بعد من صدمة مقتل ابنها أيمن 18 سنة وأخته مجد 14 سنة حينما رشهما الخابرات في الشارع انتقاما من أهالي الملاحقين وحسب ! وكانت الأم حتى هذه الفترة فاقدة لتوازنها العقلي وقد نزعت حجابها وعصبت رأسها بعصابة تشد بها على الألم . . فلما وجدت نفسها قيد الإعتقال المفاجيء انهارت المسكينة . . وكنت وأنا في أول ليلة لي في المنفردة أسمع المحقق يصرخ في أذنها بأعلى صوته فيصل الصوت عندي وهي كالبلهاء لا تجيب . . وأما الزوج فكان أسوأ حالا وقد جاوز المسكين السبعين من عمره . . تجره والأم ابنتاهما اللتان اعتقلتا معهما وأغمي عليهما على باب المحقق ، فاضطرت والدتي أن تصفعهما لتفيقا ! وعندما لم يجدوا ما يهمهم من التحقيق مع هؤلاء البؤساء أرسلوهم للمبيت في القبو تلك الليلة ، لكن ولاغتصاص المكان ليلتها بالمعتقلين لم يجدوا مساحة يضعون العجوز فيها فتركوه بهرمه وشيخوخته ينام على أرض الممر أمام منفردتي ، فكنت أدعو الله أن يخفف عنهم المصائب التي تتوالى عليهم واحدة بعد الأخرى . . وأما والدتي فقد جابهتهم من البداية ما شاء الله بحزم . .

قال لها المحقق : -خبرينا عن ابنك المجرم . . أين هو؟ فقالت : أنا ماعندي ابن مجرم . . دير بالك ها !

قال لها : ماذا لديك إذا ؟ مجرم ومغرر بإخواته أيضا على طريق ا لإجرا م . قالت : أنا لا أعرف نفسي إلا أنني ربيت ابني من الجامع إلى البيت ومن البيت إلى الجامعة. فقال لها ساخرا : الله يعطيك العافية . . تعيشي وتربي ! إذا لا تريدي أن تحكي . . والتفت إلى أحد العناصر وقال له : ضعها على الفلقة .

فقالت له : كتر خيرك . . أنا في سن أمك وتضعني على الفلقة ؟ قال لها : ولكنك ما تكلمت . قالت : وماذا تريدني أن أقول ؟ لا الذي يصدق يسلك معكم ولا الذي يكذب ! فتركها – سبحان الله – ولم يعذبها . . وكانت لا أدري كيف تقوم طوال فترة اعتقالها فتشد معهم وتواجههم وتدعو عليهم وكانوا مع ذلك يراعونها من دون جميع السجينات والسجناء الآخرين . . وكانت لا تكاد تنام لا في الليل ولا في النهار ، وتراقب كل صغيرة تجري وكبيرة فلا يفوتها شيء ! وفي بداية اعتقالها في المنفردة كانت تنادي أبا عصام مدير السجن – وهومن درعا – وتسأله : – ماذا فعلت أنا . . ولماذا تعتقلونني ؟ فيجيبها : أنا لا علاقة لي بذلك .

فترد عليه وتقول : بل بيدك كل العلاقة . . أنا أريد أن أرفع كتابا لرئيس الفرع ، أعطني ورقة وقلما . فينهرها وهو يكرر عليها : -ممنوع . . لا تصل . . مخالفة للأوامر . . . فيصيبها القهر ويشتد بها الغيظ وتنادي داعية عليه : شكيتك لواحد أحد . . لأحكم الحاكمين . . وإن شاء الله تقعد قعدتي وما بتصبر صبري . وسبحان الله لم يمر شهر أو شهران حتى قتل هذا الرجل كما بلغنا حادث سيارة . . ودخل المقود في بطنه . . وسمعت أمي بموته قبل أن تموت


رهائن !

ولقد استمر الكمين من بعد اعتقال أمي ومرافقيها ، فاعتقلوا من زميلات السكن ومن الزائرات من غير أي تهمة أو علاقة أكثر من عشر أشخا ص : –

فاطمة : من قارة ،طالبة تسكن معنا . – سوسن س : خريجة طب أسنان من حلب كانت في سنة التدريب بعد التخرج وتسكن معنا .

أختين من ال جاموس إحداهما كانت تسمى منى فيما أذكر ، وهما طالبتا علوم من التل وتسكنان معنا أيضا . –

يسرى ح : وهي أردنية كانت تدرس في جامعة دمشق كلية العلوم الطبيعية وتسكن معنا ، وقد اعتقلوا والدتها أيضا التي كانت في زيارة لها أيام الإمتحان .

مها أ : طالبة طب في دمشق وهي فلسطينية لبنان ية . طالبة أخرى من اللاذقية من ال درويش . كذلك اعتقلوا غادة ع طالبة جامعة تسكن معنا كما اعتقلوا أخاها وصديقا له حضرا لزيارتها فاعتقلا معا . والذي حدث أنهم أخذوهم إلى التحقيق جميعا بعدما انتهوا مني ومن ماجدة واحدة بعد الأخرى ، فلما لم يجدوا فائدة من احتجازهم أطلقوهم . . لكنني ومن شدة تعبي وآلامي لم أحس ساعتها بما حدث رغم أنني كنت يقظة متنبهة طوال الليل


أمى والإضراب

لم ينته اليوم الثاني علي من غير تحقيق جديد . . كنت خلال ساعاتي التي مضت في السجن قد أدركت مجمل ما يدور حولي ، وتذوقت في أول قدومي أشد العذاب وأبشع التهديدات ، فلما نادوني للتحقيق من جديد لم يكن هناك ثمة جديد ! أعادوا طرح نفس الأسئلة وتوجيه نفس الإتهامات بنفس الطريقة ونفس الأسلوب . . وعلى مدار أسبوع كامل استمر البرنامج نفسه ، ولم يتغير فيه إلا طريقة الضرب بعض الشيء ! فمع الضرب بالخيزران والعصي أرادوا مرة أن يضعوني على الدولاب فلم يكن على مقاسي ، فصار المحقق يعوض عن ذلك بالضرب بالخيزرانة وأنا واقفة ، فطال بذلك كل جسدي ، وزاد من بقع الألم وآثار المعاناة ، ولكن شيئا في الأسئلة أو الإجابات لم يتغير ! أما في المنفردة فكانت المتغيرات مستمرة هناك . . والمشاهد المفجعة والحوادث المحزنة لم تتوقف : كانت استغاثات السجناء لا تكاد تكف ليلا أو نهارا . . والويل كل الويل لمن يضبطه العناصر وهو يصلي ! كانوا يمرون عليهم بلا ميعاد ، فإذا ضبطوا أحدهم من الطاقة يصلي أخرجوه فأوسعوه ضربا وتعذيبا بلا رحمة ، وأما الكفر بالله والشتائم البذيئة فكانت ديدنهم حتى عندما يتخاطبون فيما بينهم ، لكنهم لم يكونوا ولله الحمد يضربوننا نحن النساء على ذلك ، وكنا نتمكن من الصلاة حتى تحت مراقبتهم .

وكنت في بعض الأحيان أعطي ماجدة بعض الإشارات بالضرب على الجدار بيني وبينها ، واذا تأكدنا من خلو المكان من العناصر كنت أكلمها وتكلمني عبر الجدار ، وأذكر أن عنصرا أحس بنا مرة نتحدث في الليل فنهض بسرعة وأتى نحونا يصيح : -أنا أسمع صوتا . . من هذا الذي يتكلم ؟ وحتى لا تكون سببا في تعذيب أحد من الشباب قالت ماجدة بثقة : – أنا .

فسالها بغضب : مع من ؟ قالت : مع صديقتي . . أهو حرام؟ ومرت الحادثة ولله الحمد بسلام . وأما والدتي فلم تكن تدخر فرصة للإتصال بي إلا واغتنمتها . . حتى ولو كلفها ذلك الكثير .

كانت كلما أرادت أن تخرج إلى “الخط” توقفت عند زنزانتي وتعلقت بقفلها لا تريد أن تتزحزح حتى يفتحوا لها فتراني وتحدثني ولو كلمتين ، فإذا ملوا أحيانا من سحبها ومدافعتها فتحوا لها الطاقة وقالوا : – هيا شوفيها ولكن بلا كلمتين . . فترفض وتطلب أن يفتحوا الباب لها . . فيقولوا : ممنوع .

ولم تلبث في اليوم الثاني من اعتقالها وبعد خروج بقية البنات من دوننا أن أضربت عن الطعام وعن الخروج إلى الحمام وحتى عن النوم حتى تراني . . ولم أدر بذلك إلا عندما حضر أبو عادل رئيس النوبة يقول لي : -إذا التقيت أمك مرة ثانية فأعطيها دروسا في الدين . . قولي لها إن لجسدك عليك حقا . . ألم تدرسي ذلك في الشريعة؟ خليها تأكل .

قلت له : هي أم وأنت تعرف كيف يكون قلب الأم . . والحق معها . وفي اليوم الثاني ومع استمرارها بالإضراب أتى الأمر بالسماح لها أن تراني وأراها ، فجاء أبو عادل ثانية وأخذني إلى زنزانتها وهو يذكرني بحديث الأمس ، وقال وهو يدفعنى إليها : -مثلما اتفقنا . .قولي لها . . قلت له : ماذا أقول ؟ هي حرة . قال : ألا تريدين أن تساعدينا لتفك إضرابها ؟ قلت : ماذا يمكن أن أفعل . . ألا ترى وضعها ؟ الله يعينها ويساعدها .

فالتفت إليها بغيظ وسالها : هل رأيت ابنتك ؟ ولم تكن رفعت نظرها إلي طوال ذلك الوقت لتقهرهم . . فقالت : لا . فقال : إذا ماذا تريدين ؟ والله حيرتينا ! قالت : أنت تعرف ماذا أريد . . وحتى يأذن الله . . هو أحسن منكم جميعا وهو أحكم الحاكمين . . وهو قادر على أن يقصف رقابكم ! فلم يجد ما يفعله إلا أن يضحك بغباء ويقفل الزنزانة عليها ويعيدني أنا لزنزانتي من جديد ، لكن إضرابها كان – والله أعلم – سببا للتعجيل بإنهاء التحقيق معنا ونقلنا بعد ثمانية أيام قضيناها في المنفردة إلى المهجع ،لننضم هناك إلى بقية النساء المعتقلات .


إلى المهجع

لم نكن خلال الأيام الثمانية قد رأينا أيا من المعتقلات أو اتصلنا بهن باستثناء منيرة التي فتشتنا أول وصولنا ، لكنهن كن قد رأيننا من شق صغير في طاقة باب المهجع وعرفن بوجودنا كما أخبرننا لاحقا ، وذات مرة وأنا في طريقي إلى الحمام رأتني الحاجة مديحة إحداهن بجلبابي الأسود أعبر من أمام مهجعهن فدقت الباب تنادي أحدا من العناصر ، فلما جاءها حسين بادرته قائلة : -أريد أن أنفض البطانية . . افتح لي ! فأدخلني الحمام بسرعة ليخرجها ، فصارت تتحدث بصوت عال لنسمع صوتها ونعلم بوجود نساء وتصيح :فلانة . . هيا تعالي نظفي البطانية معي . . ثم مضت كعادتها تحاول استدراج حسين وسألته : – كأن هناك أحدا في الحمام . . أنا أسمع صوت نساء ! أجابها وقتذاك : لا . . لايوجد أحد . . لوأن هناك نساء لأتينا بهن إليكن .

لكنها استمرت تلح عليه حتى ضجر وسألها : -خبريني أنت . . ماذا على بطانيتك ؟ لك ساعة تنفضين فيها ! قالت : صرصور . . ووالله ماعرفنا وين راح ! قال لها : إي يالله ادخلي وخلصيني . . فعادت وهي تلم البطانية تسأله بصوت خافت : – هناك نسوان أليس كذلك ؟ فأجابها أخيرا : نعم . . وبكرة سيأتون إليكم فاطمئني . لكنها عادت تسأله : ألا تعرف من أين ؟ فأجابها : بكرة جايين لعندكم وستعرفي . . وتجلسوا تتحدثوا معا حتى تشبعوا حكي ! ثم أدخلها وأرجعني المنفردة ، لكنني كنت أسمعهما وأنظر بين حين واخر إليهما بدوري من شق باب الحمام ، فاستأنست بذلك بعض الشيء واطمأننت إلى أن هناك نساء غيرنا في هذا المكان الموحش . . وفي اليوم الثامن وبينما أنا في المنفردة جاء مدير السجن وأعطاني استمارة معلومات عامة عن الإسم وتاريخ الإعتقال وسببه وعدد الأيام التي أمضيت في المنفردة . . فأجبت بشكل عادي وكتبت أنني اتهمت بالإنتماء إلى تنظيم الإخوان ووقعت ، وبعد حوالي نصف الساعة حضر حسين وفتح الباب بسرعة وطلب مني القيام ، فسألته وقد ظننت أنها جولة أخرى من التحقيق والتعذيب والأ خذ والشد والإتهامات : – إلى أين ؟ إلى التحقيق ؟ قال :لا . قلت : إلى الإعدام ! قال : الان سترين .

قلت له : إذا كان الإعدام فسيكون أريح ! فأجابني ساخرا : لا . . لن نعدمك الان . قلت : واذا فمتى ؟ قال بلؤم : حتى تعترفي أنك منظمة .

قلت له : طيب . . هل تعدمونني فعلا إذا اعترفت ؟ قال : اعترفي أولا والأمر بعد ذلك بينك وبين رئيس التحقيق ! أخرجني من المنفردة وساقني عبر الممر إلى باب اخر كبير وأسود فقلت لنفسي : خلاص . . رحت فيها . . إلى التعذيب من جديد ! فلما فتح الباب ودفعني باتجاه الداخل مددت رأسي بحذر فرأيت المكان مليئا بالنساء وكلهن يضعن شاشيات صلاة بيض على رؤوسهن فارتحت قليلا وخطوت نحوهن سلمت ،ولكن الخوف كان لا يزال يتملكني ،فيما أغلق السجان الباب ورائي وعاد بعد هنيهة بأمي وماجدة فأدخلهما وعلقها إلى السقف من يديها المكبلتين خلف ظهرها ،ومضى يعذبها على ومضى، وجعلنا في البداية نتلفت حذرات خشية أن يكون بين هؤلاء النسوة جاسوسة أو مخبرة ،ولم تلبث أمي أن انفجرت بالبكاء في اللحظة التي اندفعت أنا نحوها وعانقتها ، وكأنها أحست أنهم وضعونا في المهجع ولن يخرجونا منه إلى الأبد. . فجعلت تزدادبكاء وتدعو عليهم بحرقة وتجهر بالدعاء. . في تلك اللحظة تقدمت واحدة من النساء وهي تمد إليهايدها وتقول : ابوي . . لا تبكي ولا على بالك . . حطي إيديك ورجليك بمي باردة واقعدي .. ولاراحة لمؤمن إلابلقاء ربه ! كانت هذه هي الحاجة مديحة أ.أول من دخل السجن من النساء كانت الأيام التي أمضيناها معها أكثر من كافية لنسمع منها ومن بقيه السجينات حكاية اعتقالهن وقصص تعذيبهن ومآسيهن .


تعرية . . وتعذيب . . وقص اللسان!

كانت الحاجة مديحة في الأربعينيات من عمرها ، وهي امرأة معروفه في حلب تدرس النساء درو سافي الدين على الرغم من أنها تكاد تكون أمية لاتقرأ أوتكتب وكانت قد جعلت من بيتها قاعدة سكن فيها بعض الملاحقين ،وبينما كانت ذاهبة إلى موعد خارج البيت لتسليم رسالة ألقوا القبض عليها نتيجة فسادة من سامح كيلاني – عميل المخابرات الآخر وجاسوسهم داخل تنظيم الإخوان – وحملوها مباشرة إلى فرع مخابرات أمن الدولة ، وهناك ازدادت نقمة رئيس الفرع عمرحميدة عليها حينما استطاعت رغم التعذيب الشديد أن تراوغهم فترة كافية تمكن الشباب في بيتها من الهرب بعد مضي فترة أمان كانوا متفقين عليها فيما بينهم . . ونتيجة جرأتها وصلابة ردودها ازداد حميدة غيظا منها فختم لها حفلة التعذيب بأن قص لها طرف لسانها بالمقص . . وفقدت قطعة منه بالفعل ! ولقد قصت علينا أن حميدة عراها في البداية من ملابسها وعلقها إلى السقف من يديها المكبلتين خلف ظهرها ، ومضى يعذبها على هذه الحالة ويسمعها أقذع الشتائم وأبشع العبارات . . ثم أمر بإحضار أخيها الأصغر وعرضها عليه بهذه الحالة وساله :هل عرفتها؟ قال الولد بصدق : لا . . من هذه ! أجاب حميدة بتشفي : أختك مديحة . فأغمي على الولد فورا ولم يعد يحس بشيء ، وأعادوه إلى البيت وهو لا يزال في غيبوبته . . واستمرت حفلة التعذيب ساعات عديدة تأكدت بعدها أن الشباب غادروا البيت كما يفترض فدلتهم عليه ، ولما لم يجدوا هناك إلا آثارهم وحسب عاد حميدة غاضبا يقسم أنه سيقص لها هذا اللسان الذي كذب عليهم وخدعهم.

وقصه بالفعل ! لكنها ولله الحمد شفيت بسرعة وعاد اللسان فنما بشكل طبيعي ، بل إن مدير السجن المدني بدوما المقدم عماد وكان سيىء الخلق جدا قال لها بعد ذلك بسنوات : – قطعنا لك لسانك ليقل كلامك فلا أراه إلا ازداد طولا ! وبعد اعتقالها الذي كان قد مضى عليه نحو الشهر أتوا بها إلى كفر سوسة مرورا بسجن المسلمية بحلب مع مجموعة السجينات الأخريات : أم شيماء ، وزوجة عبد العزيز سيخ ، وعائشة ق . فيما أفرجوا عن عدد اخر من البنات والنساء كانت بينهن – فيما روين لنا – سناء . . . . . ، و . . . . . . وكانت تسكن مع الحاجة مديحة وتلازمها في بيتها ، ولذلك كانت تدعوها الحاجة ابنتها ، وزوجة عبد القادر حربلي ووالدتها من بيت القطان ، وسيدة أخرى وكانت عروسا في شهرها السادس وفي السادسة عشرة من عمرها ، أمسكوا زوجها نتيجة وشاية من سامح كيالي أيضا وجعلوا يعذبونه ليعترف بمكان القاعدة التي اتهم أنه يديرها ، فلما لم يفعل أحضروا الزوجة بأمر من حميدة أيضا واعتدوا عليها أمامه قبل أن يرسلوه إلى تدمر فيقتل لاحقا هناك في المجزرة الكبيرة التي جرت . . وأفرجوا عن المرأة وقد سقطت عنها كل الإتهامات !


وترك لها جوربان

تقدمت الحاجة مديحة تخفف عن أمي وعنا ، وتبعتها بقية البنات : أم شيماء ، وعائشة ق . ومن ورائهما كانت منيرة التي فتشتني أول دخولي تنظر وتبتسم ! وأما عائشة فهي طبيبة من حلب قامت بعلاج جريح من الشباب الملاحقين فبلغ النبأ المخابرات واعتقلوها من بيتها ، وقالت لهم وقتها إن أشخاصا أتوا إليها كأي طبيب وسألوها أن تعالج جريحا ففعلت ، ولم تسألهم عن هويتهم لأن مهمتها الإنسانية خدمة الناس لا التحقيق معهم ، لكن جوابها لم يرق لهم ، واعتقدوا أنها تداوي كل جرحى الملاحقين ومصابيهم ، وقد تولى التحقيق معها مصطفى التاجر أول الأمر فسألها في البداية : -أترضي أن تبقي بلا حجاب ؟

قالت : لا طبعا . . قال : فما رأيك إذا أن تبقي بلا جلباب ؟ فانتفضت تتطلع إلى مكان تلتجئ إليه ، لكن المجرم لم يترك لها فرصة وهجم عليها كالوحش يصفعها ويضربها وهو يمزق ثيابها قطعة بعد قطعة وهي مكبلة تقاوم بكل ما أوتيت من قوة دون أن تستطيع الدفع . . فلما مزق كل شيء ووصل إلى جواربها قال لها : -سأتركهم عليك حتى لا تبردي ! وأمر فمددوها على “بساط الريح ” ومر عليها بكافة أنواع التعذيب : الخيزران والعصي والكهرباء . . علاوة على نزع نظارتها الطبية وحرمانها من استعمالها فترة من الزمن . . ثم أتى دور عمر حميدة فأجلسها على كرسي وقد كبل أيديها وأرجلها من الخلف ببعضهم البعض وجعل يطفىء أعقاب السجاير فى اعف منطقه ببدنها ليطفىء بعضا من نيران حقده الاسود ويودعها الزنزانه من ثم بضعه ايام قبل ان تنقل مع بقيه المجموعه الى كفر سوسه


فنون التعذيب !

كانت إيمان ت . “أم شيماء” راجعة إلى بيتهم مع زوجها وابنتها الرضيعة شيماء وكانت في الشهور السبعة أو الثمانية من عمرها ، وعندما بلغوا مدخل البناية لاحظوا مؤشرات غير طبيعية في المنطقة ، فتقدمت ايمان ووضعت المفتاح في القفل لتفتح ، فيما كان الزوج والطفلة معه ينتظر أسفل الدرج ، فما أن فعلت حتى أحست كما روت من بعد صوت تلقيم السلاح من الداخل ، فأعطته إشارة سريعة بالهرب ، في الوقت الذي فتح عناصر المخابرات الباب بسرعة وأمسكوا بها وسحبوها إلى الداخل ، وفي إحدى غرف البيت دخل عليها رئيس الدورية يسألها عن زوجها وعن الشباب الذين كانوا معها في البيت لأ نهم دخلوه ولم يكن فيه أحد ، وهؤلاء جميعا أبلغ عنهم سامح كيالي ، فقالت إنها لا تعرف شيئا ولا تعرف أين ذهب زوجها ولا من كان معه ، فجعل يهددها بالإعتداء عليها إن لم تبلغه المعلومات فأصرت على الإنكار ، فنفذ تهديده بالفعل وحاول فعل ذلك ، لكنها قاومته بشدة وراحت تتصارع معه فأنجاها الله وألقى في قلبه الرعب فلم يتمكن منها كما أراد . . وبعد ذلك نقلوها إلى الفرع عند عمر حميدة الذي اتبع نفس الطريقة معها ، فشبحوها في السقف بأن كبلوا أيديها خلف ظهرها وعلقوها منهما مرفوعة عن الأرض فكأنما هي الذبيحة بين يدي الجزار ، وجعلوا يضربونها ويعذبونها وهي على هذه الحالة لا حول لها ولا قوة ، ثم وضعوا لها الكهرباء في صدرها والحليب يقطر منه زيادة في التعذيب والإهانة . . وبعد انتهاء التحقيق ومن غيرأن تدان المسكينة بشيء نقلوها إلى كفر سوسة مع عائشة والحاجة مديحة ، لنجتمع واياهن في هذا المهجع المقيت !


سحل القتلى

أما رابعة نزيلات المهجع وقتها فكانت أما من إدلب لأربعة أو خمسة أولاد من إدلب اسمها فوزية ح . هذه السيدة استشهد زوجها وهو يقاوم أثناء مداهمة قاعدتهم بحلب ، وقامت السلطة بعد مقتله بسحل جثته أمامها بالدبابة في شوارع المدينة ثم اقتادوها للسجن وعذبوها أشد العذاب .

وعلى الرغم من أنها لم تتحدث عن ذلك كثيرا وكانت من النوع الذي يؤثر الصمت إلا أننا بقينا نرى اثار التعذيب على أرجلها والزرقة مكان أظافرها المقلوعة إلى حين ، وبقيت فوزية في الشهور الأولى معتدة على زوجها لا تكاد تكلم أحدا وتسارع كلما فتحوا الباب أو الطاقة فتغطي رأسها بالبطانية وتدير وجهها إلى الجدار .

تحميل كتاب لأنهم قالوا لا

مذكرات سجنية

منشورات موقع أدب السجون

تقديم

 الأديب الناقد الأستاذ محمد الحسناوي

الأولــى في أدب السجون .. سورية

بقلم : محمد الحسناوي

                                 ( أدب لم يزل تحت الأرض ، ولم يخرج بعد إلى النور ،وهــــو         

                                  أدب السجون . هذا الأدب لم يزل أبطاله في الغياهب المختلفة

                                  ويتوقع أن يكون له شأن لو قيّض له من يجاهدون في سبيل

                                  جمعه وتدوينه . .. ولو كنتم تعلمون مقدار الخسارة ، التـــي

                                  سيمنى بها الأدب الإسلامي خاصة ، والفكر الإسلامي عامة ،

                                 لضياع أدب السجون ، لقاتلتم بأظفاركم وأسنانكم للحصـــــول

                                 عليه أو على بعضه. فليحرص كلّ كاتب على البحث عنــــــــه

                                  والوصول إلى مظانه ، والحصول عليه ، وتوثيقه . فهــــــــذا

                                  الأدب هو الوثيقة الحقيقية الوحيدة الباقية للتاريخ ، من حياة

                                  هذا التاريخ .  

                                           محب الدين داوود – موقع رابطة أدباء الشـــــــــام –

                                                                    كلمة الافتتاحيــــــــــــــــــــــــة )

                                ( سيرشحنا المستقبل كأصحاب أكبر تراث عالمــــــي في أدب

                                 السجون .

                                         فرج بيرقدار – مقابلة مع عادل محمود – موقع الرأي )

لعل القطر السوري يحوز قصب السبق في ميدان (أدب السجون )(1) فلا تكاد تنجو من هذا الشرف / العار أسرة سورية ـ بفضل أربعين عاماً من حكم الطواريء ومحكمة أمن الدولة الاستثنائية وزوار الليل الأشاوس والغيلان المتناسلة على رأس أربعة عشر جهازاً قمعياً سوفياتياً نازياً وحكومات تأكل المواطنين ، ثم يأكل بعضها بعضاً ، كما تأكل الهرة أولادها .

يشرفني ويسعدني في الوقت نفسه أن أخط كلمات في التقديم لأول إنتاج مهندس سوري حلبي من حيّ المشارقة ، تربى في (سجون الرأي) السورية ، بعد أن نذر نفسه في سبيل الله لخدمة الناس وحب الناس ونظافة اليد والقلب واللسان .

كان يميل إلى التدين منذ نعومة أظفاره ، ويتمنى أن يتخرج في كلية الشريعة ، لكن أستاذ العربية العليم بمقتضيات العرض والطلب في سوق الحياة أقنع أهله بتوجيه الفتى إلى الدراسة العلمية ، فصار إلى (كلية الهندسة ) ، ثم إلى سجون الرأي .

ما علاقة ( الهندسة) بسجون الرأي ؟

بل ما ذنب ثلاثة أرباع الشعب السوري ليستضافوا في سجون الرأي جماعات جماعات ، وربما راح بعضهم ضحايا المجازر الجماعية .

إن اختصاصي الأدبي يخولني أن أتلمس في حروف المؤلف (الرهيبة ) دقة المهندس وصدق العالم وإيجاز الخبير . أسلوب لا يمكن إلا أن تحترمه وتعجب به ، بصدق نبرته وتعبيره عن صاحبه وعن التجربة/المأساة التي يتحدث عنها . هناك من ابتكر تسمية (الأدب التسجيلي ) ، وأزعم أن صاحب هذا السفر الملتهب صنع لنفسه أسلوباً ( فوق التسجيلي ) : من حرص على الدقة والتواضع ونثر الانطباعات والتحريضات والانتقادات نجوماً فشموساً فصواريخ عابرة للأضلاع والوجدانات والمحيطات على حدّ سواء .

من غير ما اتفاق مسبق ولا تخطيط .. يذكرني أسلوب محمد عادل فارس الموجز المكثف تكثيف العطر والحكم والأمثال .. بأسلوب الدكتور مصطفى السباعي ـ في كتابه (هكذا علمتني  الحياة) . لغة برقيات نارية .. قصراً ودفئاً واستهدافاً . أقل الفروق بين الرجلين اللذين يسطران مذكراتهما أن الفارس اختص بزبانية السجون الذين هم أذرعة السلاطين ، على حين غلب على اهتمامات السباعي التنديد بعلماء السلاطين . إنهما  سجلا تجربتهما أدباً نابضاً ، سيذكره التاريخ الوجداني للإنسان وللأمم .

محمد عادل فارس مواطن شريف (نظيف ) ، لم يحمل سكيناً ولا عصا ، يُخطف من عمله مرة ومن فراشه مرة ، ويمدد على (مشرحة ) التحقيق أياماً وشهوراً وسنين ـ وتُغرز فيه سفافيد من خيزران أو حديد أو كهرباء وشتائم ، أشدّ لذعاً من النار والحديد والصرعات الكهربائية عالية التوتر حتى يملّ الزبانية الكبار والصغار من موجات التعذيب ، فإذا ملوا منه قذفوا به إلى كهوف الظلام والعفن والحيوانية . وإذا قال لهم : هذا مخالف للدستور الذي (خيّطتموه) على قياسكم ..ضحكوا وقالوا : وهل تصدقون ما نقوله لكم في الدستور ؟ وإذا قال لهم : إن أصدقائي الطلاب الذين أعلنوا عن رأيهم المكبوت على صفحات الجدران لا يستحقون كل هذا العذاب .. قالوا له : لا دور لك فعلاً ، ولكننا كنا نريد <ضربكم> منذ زمن بعيد ، وكنا ننتظر مناسبة ، فهذه كانت المناسبة.

إذن ليست هناك علاقة تعاقدية بين الحاكم والمحكوم ، كما في الشريعة السمحاء وفي المجتمعات المتحضرة ، بل بين اللص والمواطن ، بين قاتل ومقتول طوال أربعين عاماً ونيّف .

انظر إلى  بقايا (الفطرة)أو الخير التي ما زالت في نفوس بعض الجلادين ، التي أشار إليها الفارس أكثر من مرة . هل نتوقع من الضحية التي لاقت الأمرين من هذه الشرائح المفترسة أن تعترف لبعضها بمواقف خيرة ؟ قد تقول : هذه أمانة علمية ، حصلت للكاتب من الدرس ( الهندسي) الموضوعي . وقد تقول : بل هي جزء من تصور محمد عادل فارس للإنسان والكون والحياة وخالق الإنسان والكون والحياة ، ذلك التصور الإسلامي الذي يعتقد أن الإنسان مفطور على الخير ، لكن شياطين الإنس والجن تجتاله فتحرفه ( ولا يجرمنّكم شنآنُ قومٍ على أن تعدلوا . اعدلوا هو أقرب للتقوى) ، فالإنسان بين النفس اللوامة والنفس الأمارة بالسوء ، فليختر . وصاحب الاختيار صاحب قرار ، وصاحب القرار خطير بخطورة القرار الذي يتخذه ، فإما جنة وإما نار ، إما سعادة وإما شقاء في الدنيا والآخرة . تلك أمانة عُرضت على السماوات والأرض فأبينَ أن يحملنها ، وحملها الإنسانُ إنه كانَ ظلوماً جهولاً .

يقول الفارس : ( كان السجن لي مدرسة عرفت فيها نفسي وعرفت شرائح مختلفة من البشر: من الإخوان ، ومن الإسلاميين الآخرين – وبخاصة أعضاء حزب التحرير – ومن الفلسطينيين – من فتح والجبهة الشعبية وغيرهما – ، ومن البعثيين الذين انشق عنهم حافظ ، أقصد اليمينيين جماعة أمين الحافظ ، واليساريين جماعة صلاح جديد …. فضلاً عن أفراد من هنا وهناك ، من التنظيمات الكردية ، ومن أصحاب انتماءات مختلفة ، ومن أناس غير سوريين : عراقيين وأردنيين وبريطانيين وكنديين وإسبانيين …) .

ما هذه المدرسة التي لم توفر مواطناً سورياً ولا عربياً ولا أجنبياً ؟؟

يقول الفارس أيضاً : ( الصفة العامة لمعظم ضباط المخابرات والمحققين الذين عرفتهم ، أنهم قليلو الذكاء ، ضعيفو الضمير ، محدودو الثقافة ، جفاة الطبع ،منحدرو الأخلاق … )

فلنتصور كيف يغدو هؤلاء الأغبياء الفاسدون حكاماً لسلالة أبي سفيان وعمر بن عبد العزيز وصلاح الدين الأيوبي وأبي فراس الحمداني .

يقول الفارس : ( دخلنا فرع المخابرات العامة هناك ، الذي يسمى <بناية العداس>أو<مدرسة نابلس>، إذ يقال : إن المبنى كان يملكه أحد الأثرياء من آل العدّاس ، وصادرته الدولة ، وجعلته مدرسة باسم ثانوية نابلس ـ ثم وجدت أن الأنفع للمجتمع أن يصير فرعاً للمخابرات ، فصار!!) .

أولاً : هل ترى معي أن تحولات هذا المبنى تعكس بشكل رمزي بسيط .. تحولات الوطن السوري بأسره من مجتمع مدني مسالم إلى سجن قمعي كبير ؟؟

ثانياً لننبش معاً بعض ما في هذه العبارات من منجزات تعبيرية تفصيلية :

يقول الفارس : ( دخلنا فرع المخابرات العامة.. ) ، والحقيقة أدخلونا مجبرين قهراً لدرجة الاستسلام والقول: نحن دخلنا…

يقول : ( يسمى …) ، والحقيقة كان يسمى …

يقول : ( وصادرته الدولة ..) ، لم يذكر سبب المصادرة ، كأن من الطبيعي أن الدولة تصادر الممتلكات الشخصية للمواطنين متى تشاء وكيف تشاء وبلا سبب قانوني….

ويقول : ( وجعلته مدرسة ) ، هذه مرحلة من مراحل (الجعل) …

ويقول : ( ثم وجدت أن من الأنفع للمجتمع أن يصير فرعاً للمخابرات ) هكذا بلا سندقانوني  .

ويقول : ( فصار!!) ، كأن الدولة (إله) أو حلت محل الإله ( تقول للشيء : كن فيكون ) ، وهذا هو جوهر الفساد في الأرض .. أن تحل الآلهة البشرية محل الإله الحقيقي العادل الرحمان الرحيم ، جبار السماوات والأرضين  . ودعك من سخرية ( الأنفع للمجتمع ) التي تعكس زيف الأقوال والشعارات الممضوغة صباح مساء . هكذا ببساطة أراحوك وأراحوا المجتمع والرقابة الشفافة والصحافة من التفكير والنقد ثم الحساب .

_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _

  • – انظر على سبيل التمثيل لا الحصر : دواوين (وما أنت وحدك – رقصة جديدة – في ساحة القلب – حمامة مطلقة الجناحين – تقاسيم آسيوية – خيانات اللغة والصمت) لفرج بيرقدار، وديوان مروان حديد – ومجوعة أشعار(من ذكريات الماضي) لعلي صدر الدين البيانوني، وديوان (ترانيم على أسوار تدمر) ليحيى الحاج يحيى، وديوان (القادمون الخضر) وروايتَي (نقطة انتهى التحقيق- ما لا ترونه) لسليم عبد القادر، وديوان ( الظل والحرور) لعبد الله عيسى السلامة، وديوان(في غيابة الجب) وقصص (بين القصر والقلعة) ورواية (خطوات في  الليل) لمحمد الحسناوي، وقصص (الخطو الثقيل) (الوعر الأزرق) (النحنحات) لإبراهيم  صمؤيل، وقصص جميل حتمل، وقصص (آه .. يا وطني) (تقول الحكاية) ورواية (بدر الزمان) لفاضل السباعي، ورواية (الشرنقة) (سقط سهواً) لحسيبة عبد الرحمن، ورواية (الصلصال) (طفلة من السماء) لسمر يزبك، ورواية (الفقد) للؤي حسين، ورواية (غبار الطلع) لعماد شيحة، وكتاب (التحقيق) لمحمود ترجمان، و(كتاب الخوف) لحكم البابا، ورواية (عينك على السفينة) لميّ الحافظ، وكتاب (شاهد ومشهود) لمحمد سليم حماد، وكتاب (خمس دقائق) لهبة الدباغ، وكتاب(في القاع) لخالد فاضل، و رواية نشرت في جريدة النهار لهالا الحاج ، وكتاب (النداء الأخير للحرية) لحبيب عيسى، وشريط (ابن العم) لمحمد علي الأتاسي، وشريط (قطعة الحلوى) لهالة محمد.

                                                                * كاتب سوري عضو رابطة أدباء الشام

تحميل الكتاب

تحميل كتاب السجينة رواية مليكة أوفقير

نبذة عن رواية سماء قريبة من بيتنا نبذة عن رواية يوسف يا مريم نبذة عن رواية نهاية رجل شجاع نبذة رواية مثل إيكاروس مؤلف رواية السجينة يمكن القول بأن رواية السجينة كانت ثمرة جهود مزدوجة بين كاتبتين اثنتين، صاحبة القصة الأصلية الكاتبة المغربية مليكة أوفقير ابنة الجنرال أوفقير التي ولدت عام 1953م في مراكش، وسافرت إلى فرنسا مع عائلتها بعد خروجهم من السجن بخمس سنوات في عام 1996م والتقت هناك بالكاتبة التونسية الفرنسية ميشيل فيتوسي وقصَّت عليها قصتها كاملةً، فبدأتا بالكتابة في عام 1998م، وصاغت منها ميشيل رواية باللغة الفرنسية بعنوان السجينة نُشرت في عام 1999م، وقد ترجمت إلى العربية في العام التالي، وفي هذا المقال سيتم تسليط الضوء على ملخص رواية السجينة مع إدراج بعض الاقتباسات منها.[١] ملخص رواية السجينة تعدُّ رواية السجينة إحدى الروايات الواقعية التي تروي سيرةً شخصيةً حول قصة حياة الفتاة المغربية مليكة أوفقير، فقد عاشت مليكة في القصر الملكي منذ نعومة أظفارها، ففي الخامسة من العمر ترعرعت مع أمينة ابنة الملك محمد الخامس بعد أن تبناها وتولى رعايتها فقد كانت ابنة الجنرال أوفقير، فعاست في القصر أجمل أيام حياتها،وبعد وفاة الملك محمد الخامس تبناها أيضًا الحسن الثاني وأكمل تربيتها إلى جانب أمينة، وفي عام 1969م خرجت مليكة من القصر الملكي لتلتحق بعائلتها، ولكن والدها الجنرال يقوم بمحاولة فاشلة لاغتيال للملك ينجو منها الحسن الثاني ويُقتل أوفقير نتيجة لذلك، وتتعرض عائلة مليكة للسجن تسعة عشر عامًا تقريبًا، فتقع العائلة ضحية خلافات ومشكلات سياسية رمت بها في سجن طويل جدًّا، ولم يتم الإفراج عن العائلة، إلا في عام 1991م لتتمكن بعد ذلك من الرحيل إلى فرنسا بعد خمس سنوات.[٢] وفي ملخص رواية السجينة لا بُدّ من القول إن الرواية تدور حول مشاعر عظيمة في قاموس المشاعر الإنسانية كالخوف والجوع والحنين واليتم وغير ذلك، فحاولت مليكة أن تصف حياتها في القصر الملكي وكيف يحيا الناس فيه ويمارسون أعيادهم واحتفالاتهم، وتناولت مغامراتها في صغرها وشعورها بالغربة بعيدًا عن أسرتها، وفي النهاية طرقت جدران المعاناة في السجن بكل ما أوتيت من قوة، سجن حرمهتا وحرم عائلتها من كل حرية أو خصوصية، فكانت تشعر مليكة بأنها تيتَّمت مرتين، مرةً عندما توفي والدها، ومرةً أخرى بعد أصبح من تبناها جلادًا قاسيًا.[٢] اقتباسات من رواية السجينة بعد المرور على ملخص رواية السجينة التي طغى الجانب المأساوي والمؤلم على معظمها بسبب الظلم الذي تعرضت له عائلة مليكة أوفقير، لا بدَّ للقارئ أن يلمس تلك الأوجاع في بعض كلمات الرواية وتعابيرها العميقة، وفيما يأتي بعض الاقتباسات من الرواية:[٣] كيف لأبي أن يحاول قتلَ من ربَّاني، وكيف للأخير الذي طالما كان لي أبًا آخر أن يتحول إلى جلَّاد. إني لأرثي لكلِّ هؤلاء البشر الذين يعيشون خارج قضبان السجن ولم تتسنَّ لهم الفرصة ليعرفوا القيمة الحقيقية للحياة. كانت حياتي الداخلية في السجن، أكثر ثراء ألف مرة من حياة الآخرين، وأفكاري أكثر كثافة من أفكارهم ألف مرة، كنت أشدَّ وعيًا من الناس الأحرار، تعلمت أن أفكر في معنى الحياة والموت. ما ذنب الصغار حتى يؤاخذوا بجريمة الكبار. كل شيء يمضي ويمرُّ إلا أن يكون عدوك جزءًا لا يتجزأ منك، وتلك هي المصيبة والهزيمة.

تحميل رواية السجينة

تحميل رواية الغريبة مليكة أوفقير

تعتبر رواية “الغريبة” هى الجزء الثاني لرواية “السجينة” للكاتبة المغربية “مليكة أوفقير” تصف فيها يوم أن خرجت من السجن بعد أن اقتُطِع من حياتها عشرين عاماً في أعتى سجون الحسن الثاني، تصف رفاهية الحرية، وتحاول أن تعيد رتق ما تم اقتطاعه من عمرها، وتلصقه مرة أخرى فتنجح أحياناً وتفشل أحايين أخرى.
إنها في باريس حيث تستطيع أن تسير دون أن تنظر خلفها، وأن تمارس حرية الكلمة، وتختار طعامها، وكتابها، وتركب المترو، وتقود السيارة، وتتحدث مع رجل شرطة دون أن يرفع صوته أو سوطه وينهال على ظهرها.
تقارن بين سنوات كانت وأفراد أسرتها يتعفنون في السجن الذي أراده الملك انتقاما لروح والدها، وبين تدفق الأحلام فجأة رغم أن سنوات الحصار في الحرية كانت خمساً، وكانت أجهزة المخابرات المغربية تستجوب كل من يقترب من الأسرة، أو يصافح أحد أفرادها، أو يبتسم في وجه أحدهم.
مليكة تحمل معها عشرين عاما كانت مفقودة، وكلما استعادت مشهداً قديماً، حتى لو كان مقاسمة الحشرات والفئران لهم كسرات الخبز التي كانوا يدفنونها تحت الأرض خشية مصادرتها، يصطدم المشهد بعالم الحرية، ويختلط الأمر عليها فلا تفرق بين السجن الحقيقي والسجن الكبير.
هي لا تصدق أنها يمكن أن تستدعي الشرطة لموقف أو لحمايتها فقد تعلمت أن الشرطة هي التي تستدعي الأشخاص، وأن الحديث مع رجل الأمن له أصوله وقواعده، والنظرات المتراخية، وأحيانا تقليد المتذللين والمساكين والخائفين فهي الطريقة الأكثر أمناً لتجنب غضب رجال السلطة.
في “الغريبة” تكتب “مليكة أوفقير” بقلمها أو بقلبها أو بمرارة ذكرياتها، وتتحول إلى حكمة متحركة ساخرة للحياة ومن الحياة، لكن آلامها التي تجترها تصيب كلها كبد الطغاة، وتغرس أنيابها في وجوههم القبيحة.
في “الغريبة” تحاول أن تصف الحرية، ولكن ماذا عن الشخص الذي لم يعايش تجربة مثلها، هل هو قادر على الاستمتاع بالعالم خارج السجن؟
في “الغريبة” تدين مليكة الطاغية الذي سرق من عمرها وأعمار أفراد أسرتها عقدين من الزمان، لكن خلف الحديث عن الحرية يختفي شيء رهيب.