adminis

لأنّهم قالوا .. لا مذكرات سجنية الحلقةالثالثة

وسرقوا بيتي

            هل فهمتم من العنوان أنهم سرقوا بعض محتويات بيتي، أو أنهم سرقوا بيتي كله واغتصبوه! كلا الفهمين صحيح. فمرّة فعلوا هذا، ومرة فعلوا هذا. ولا يخفى عليكم من هؤلاء الذين سرقوا؟ إنهم هم، وليس غيرهم!.

        في شهر آذار من عام 1973 كان عملي قد استقرّ مهندساً في مؤسسة المشاريع الكبرى –مديرية صوامع الحبوب- موقع حلب، فجاء قرار بنقلي إلى الرقة لأكون مسؤولاً عن موقع الصوامع هناك،  الذي هو في طور التأسيس.

        وفي الأيام الأخيرة من الشهر المذكور التحقت بعملي هناك، ونقلت معي زوجتي وطفلتي ذات الأشهر الثلاثة. وحتى لا يبقى بيتي فارغاً، أعطيت مفتاحه لأحد فتية الحي، من روّاد المسجد، حتى يتردّد على البيت، أو يستخدمه في تحضير دروسه المدرسية…

        وما هي إلا أيام، حتى بدأت الاعتقالات بمناسبة الاحتجاجات الشعبية على دستور حافظ أسد. ولم يكن أمام الجماهير المحتجّة إلا وسائل بسيطة، وطرق ضيّقة، للتعبير عن احتجاجها. فقام بعض الشباب بكتابة شعارات على جدران الشوارع تندّد بذلك الدستور، مثل: “لا، للدستور الظالم”. وألقي القبض على أحدهم، وتحت التعذيب اعترف على بعض من له به علاقة، وبعض هؤلاء اعترفوا على علاقة بي، ليس في شأن تلك الكتابات، ولكن بشأن التنظيم في جماعة الإخوان المسلمين!.

        جاءت دورية مخابرات لاعتقالي، لكني كنت –كما ذكرت آنفاً- قد انتقلت إلى الرقة، وكان في البيت الفتى الذي سلَّمته مفتاح البيت، وبعض أصدقائه، وأستاذ لهم يعطيهم درساً خاصاً في مادة اللغة العربية.

        وحتى لا تعود الدورية خائبة، فقد اعتقلت كلَّ من في البيت، وسكنت البيت نفسه، وجعلته مصيدة، تعتقل كلَّ من يطرق بابه!. واستمرَّت على ذلك أسبوعين أو يزيد.

        وعلى إثر مجيء الدورية إلى بيتي شُكِّلت دورية أخرى فسافرت إلى الرقة، واعتقلتني هناك.

        بعد مضيِّ نحو ثلاثة أشهر، سمحت إدارة فرع مخابرات حلب، حيث كنت معتقلاً، بأن تزورني والدتي. وفي الزيارة أخبرتني، أنَّ عناصر المخابرات الذين احتلوا البيت مدة أسبوعين سرقوا منه ما خفَّ حمله، وغلا ثمنه، ومن جملة ذلك بعض القطع الذهبية، وبدلة جديدة لي، لم أكن لبستها إلا مرة واحدة، وأشياء أخرى.

        شكوتُ إلى المحقق ما فعلته الدورية، فنفى أن يكون عناصرها قد سرقوا شيئاً، وقدّم دفاعاً قوياً عنهم. قال: وماذا يفعلون بالذهب؟! وما يفعلون بالبدلة؟! وماذا يستفيدون من تلك المسروقات؟!! وانتهى التحقيق.

*   *   *

        وفي صيف عام 1980 جاءت دورية لاعتقالي من بيتي. ولم أكن فيه! فتواريت عن الأنظار، ثمَّ تمكنت من الخروج من سورية. وبقي البيت مغلقاً، إلى أن وَضَعَ مساعد في المخابرات العسكرية يده على البيت فاحتلّه، وسكنه “مفروشاً” هو وأسرته الكريمة!.

        لم يكن هناك أمرٌ بمصادرة البيت. ولكن متى كانت العصابات تنتظر الأوامر؟! إنها شريعة المافيا. فقد استباحه ذلك “العنصر” واتخذه مسكناً لأسرته.

        وعَلِمَ أخي “مطيع” –رحمه الله- بالأمر، فاحتال على طريقة للسؤال عن البيت. وذهب إلى المخابرات ليقول لهم: إنَّ أخي مسافر خارج القطر، وبيته فارغ، ولكننا وجدنا حَرَكَةً في البيت، وإشعالاً للأضواء فيه، فلعلَّ بعض “الحرامية” قد فتحوا بابه واغتصبوه!.

        فقالوا له: “لا. إنه في أيدٍ أمينة. إنَّ بيت أخيك هو بيتنا، ونحن نحافظ عليه. ولا حاجة لأن تسأل عنه مرة أخرى. أفهمت؟!”.

        وتذكَّرتُ الأيدي الأمينة التي كانت تحتفظ بثمن النفط السوري كله مدة ثلاثين سنة كاملة، فهذه الأيدي من تلك. قطع الله هذه الأيدي وتلك!.


أبو غياث

إنه نفسه، المحقق عبد القادر حيزة، الذي كان رئيس الدورية التي جاءت لاعتقالي.

متوسط الطول، ذو كرش كبيرة، أسمر اللون، شعره أسود خفيف، يتأنق بملابسه ليبدو منظره مقبولاً.

وهو يحوز درجة متقدمة في الغباء وضعف الثقافة!!

قد يتصنّع اللطف أحياناًً، لكن طبعه سرعان ما يخونه، فتبدو فظاظته المنكرة.

وولاؤه للسلطة التي يخدمها كولاء كثيرين: متسلّق، متكسّب، مرتزق، يروقه ممارسة التعذيب على الآخرين ليستكمل التحقيق، ويرضي مشاعره الساديّة. وهو يلوّن في الأساليب، بين استعمال الخيزرانة، والصعق الكهربائي، واللكمات والشتائم…

لكنه إذا شعر أنه استكمل التحقيق وختمه، ثم ظهرت له معلومة جديدة تقتضي منه إعادة النظر في النتائج، فإنه يتقاعس، ويكتفي بأن يأخذ المعلومة لنفسه!.

في أثناء التحقيق معي في اليوم الأول، حين كان النقيب دياب يتولى رئاسة فريق التحقيق، تدخّل أبو غياث ليوجه إليّ تهمة غريبة تنمّ عن ثقافته الأمنية والدينية والأدبية! قال لي: أنت المسؤول عن توزيع الكتب في جماعة الإخوان المسلمين!. قلت له: كيف ذاك؟ ليس عندنا مثل هذه الوظيفة. نحن نشتري الكتب من السوق، أو من “السوق السوداء” وندفع ثمنها من جيوبنا… قال: إذاً لماذا عندك عشر نسخ من كتاب سيد قطب، هذا الذي يبحث في القرآن (وبدأ يتلعثم ليتذكر اسم الكتاب) فقلت له: تقصد: “في ظلال القرآن”؟ قال: نعم، هذا الكتاب عندك منه في البيت عشر نسخ، وقد فتشنا بيتك وأخذنا إحدى النسخ!. قلت له: إنها ثمانٍ وليست عشراً!. قال: لتكن ثمانياً؟ لماذا هذا العدد كله؟! قلت له: إنه كتاب واحد في ثمانية مجلدات! ألا تعلم أن هناك كتباً كبيرة تضمّ عدداً من المجلدات؟!

وفي اليوم الثالث، بعد حفلة التعذيب الثانية، قام أبو غياث هذا بجولة من التحقيق، فلم يقصّر في التعذيب والإيذاء. فعلى الرغم من أن الحفلتين قد استنفدتا معظم ما يمكن أن يأخذوه، فإن بعض الصعقات الكهربائية، وبعض الخيزرانات، وما يرافق هذه وتلك من لكمات وشتائم… هي من لوازم التحقيق!.

ولقد كنت بالفعل ناشطاً في التنظيم قبل دخولي السجن، ومعظم الإخوة المعتقلين يعرفونني، وقد كنتُ سبباً في تنظيم عددٍ منهم… وحين شاع في غرف السجن وزنزاناته أنني معتقل معهم، صار كل أخ منهم إذا سئل: من الذي نظّمك؟ أشار إليّ، سواء أكنتُ أنا الذي نظّمه أم لا، وذلك حتى لا يوقعوا إخوة آخرين ويتسببوا في اعتقالهم. وقد سرّني هذا السلوك الذكي منهم، ولكن المحقق أخذ عني فكرة -بسبب ذلك- هي أنني نظّمت عدداً هائلاً من الشباب.

كان إذا أراد أن يتثبت من إحدى المعلومات، أو يحل إحدى معضلات التحقيق يأتي إلى زنزانتي ليسألني، فأحاول أن تكون إجابتي “محسوبة”!. جاءني مرة ليسألني أتعرف فلاناً (سأسمّيه عبد الله المهندس)؟. كان السؤال صاعقاً لي. فهذا الأخ ليس من حلب. وإذاً كيف وصل الاعتقال إليه، وكيف توقّع المحقق أن يكون عندي علمٌ به. وكان لا بدّ من الإجابة سريعاً. وبما أنه سأل عن اسم حقيقي فهم يعرفونه. ولكن هل يعرفون أنه منظّم؟!..

دارت مثل هذه الأسئلة في ذهني، ربما في ثانية واحدة. قلت للمحقق: نعم أعرفه!. قال لي: هل هو من الإخوان؟! قلت: وما يدريني؟!.

اكتفى بهذا الجواب وذهب. أما أنا فقد بدأت أفكّر إلى أيّ مدى امتدّت الاعتقالات؟ وكيف تمّ الربط بين المعلومات في محافظات متعددة؟!.

بعد حوالي ساعتين، جاءني المحقق إلى زنزانتي (أمام المرحاض) هو ومحمد سعيد بخيتان، وكانا، على غير العادة منشرحين يبتسمان لأمر ما. قال: قلتَ لي إنك لا تعرف هل عبد الله المهندس منظَّمٌ أم لا؟! لقد اعترفَ أنك أنت الذي نظمتَه!. والله إن الطير الذي يطير فوقك في السماء تنظّمه! ولو أنني ترددتُ على بيتك مرتين لنظَّمتني! قلت له: لا، والله! فابتسم هو وصاحبه وذهبا، وذهبتْ مثلاً. فقد كان بعض الإخوان في الزنازين المجاورة يسمعون الحوار، فكانوا بعدئذ يصفونني بأنني أنظم الطير الذي يمرّ فوقي في السماء!.

والمحقق لم يسألني كيف نظّمته ومتى؟! ولو سألني لأحرجني. لقد نظّمته بالفعل، ولكن كيف سأذكر له مناسبة ذلك، وتكون متطابقة مع ما ذكر أخي عبد الله المهندس؟!..

بعد أيام حدث لقاء بيني وبين الأخ عبد الله وسألته عن سبب اعتقاله، وعن اعترافه بالتنظيم… فذكر أنه كان يؤدي خدمة العلم، وأن الدورة التدريبية العسكرية كانت في مدرسة المشاة وقد تعرّف إلى بعض إخواني من الحلبيين فدلّوه على بيتي، وجاء ليزورني فكان عناصر المخابرات قد احتلّوا البيت فاعتقلوه، وحين أتوا به إلى السجن وعلم بوجودي اعترف أنني نظّمته، لكنه ذكر لهم مناسبة لتعرفي عليه، وتنظيمي إياه، لا يمكن أن تخطر ببالي فيما لو سألني المحقق أن أتحدث له عن ذلك.

وبعد مضي حوالي ثلاثة أسابيع على الاعتقال، وكان التحقيق قد انتهى (نسبياً) وبدأنا نشعر بشيء من الاستقرار، جاء أمرٌ من رئيس الفرع بحلق اللحى للإخوة الملتحين، وكان معظمنا كذلك.

لم تكن هناك جدوى من المقاومة والامتناع. جاؤوا بحلاق فحلق لنا اللحى، ورحنا ينظر بعضنا في وجوه بعض، ونتذكّر قول السيدة عائشة الصديقة التي كانت تحلِف: “والذي زَيَّنَ الرجال باللحى، والنساء بالشعور”. لقد ذهبوا بهذه الزينة، قاتلهم الله.

ومرّ بنا المحقق ووجَدَنا جميعاً حليقي اللحى، فتبسّم ابتسامةً صفراء وقال: أمرُ حلق اللحى لم يصدر من عندي، لقد صدر من رئيس الفرع. لو كان الأمر إليّ لأمرتُ بحلقها منذ اليوم الأوّل!.

لقد ظننّا أن الغبي يريد أن يعتذر لنا، وإذا هو يعبِّر عن لؤمه وحقده على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم!.

كان المحقق يعود إلينا، أو يطلبنا إلى غرفة التحقيق بين الحين والآخر كلما قرأ الملف الخاص بكل منّا، ووجد فيه بعض الثغرات… لكنه، بعد هذا كله، لم يستطع أن يكمل الصورة. فهو لم يعرف، طوال خمسة أشهر، ما معنى المكتب التنفيذي، وما معنى مجلس الشورى، وإدارة المركز…. وكان إذا سألني، أستجلي من صيغة سؤاله التصور الذي عنده، فأعلم أن الصورة التي عنده -على بساطتها- مضطربة، فأعمل على تثبيت الاضطراب أو زيادته!.

[استدراك: ذُكِر لي، بعد نشر الكتاب، أن المحقق عبد القادر حيزة قد تحسّنت حاله في آخر أيامه، ومال إلى التدين، ثم توفي!]

أبو سعيد بخيتان

شاب في الثلاثينيات من عمره، طويل القامة، حنطي اللون، رتبته ملازم أول، ووظيفته: نائب رئيس فرع المخابرات العامة بحلب.

هكذا كان يوم دخلتُ المعتقل في نيسان 1973، أما حين أطلق سراحي بعد أربع سنوات فقد كانت رتبته نقيباً أو رائداً، وكانت وظيفته رئيساً للفرع المذكور. وهو الآن عضو في القيادة القطرية، ورئيس لمكتب الأمن القومي!. إنه اللواء محمد سعيد بخيتان.

من مهماته – يوم كان نائباً لرئيس الفرع- صناعة العملاء، وشراء الذمم والضمائر، يستخدم في ذلك التهديد والإغراء، وبعض الفكاهة، ويساعده في ذلك ذكاؤه. ويمارس التحقيق مع المعتقلين أحياناً.

وليس بالضرورة أن يكون حادّ الذكاء، إنما إذا قورن بمعظم من نعرف من ضباط المخابرات السورية… كان من أذكاهم.

والحقيقة إنه يصعب على الذكي أن يعمل في مثل ذلك السلك، فالمهمات المطلوبة منه تحتاج إلى ذكاء، نعم، لكنها كذلك تتناقض مع الذكاء، بل مع العقل، إذ كيف يطيق الذكي أن يَسْجِن ويُعذِّب إنساناً بتهمة أنه يفكر تفكيراً منطقياً، ويعتقد اعتقاداً سويّاً، ويعارض السلطة الغاشمة بلسانه أو بقلمه، ويرفض أن يهتف أو يصفِّق للطاغية، أَقْصِدُ: للقائد الملهم بطل الجولان!.

وصاحبنا أبو سعيد يدرك منذ الأيام الأولى، تلك البنية الطائفية للنظام وفشوّ المحسوبيات والرشاوي…

ومن خلال التحقيق الذي يمارسه أحياناً، ومن خلال الجلسات التي يحاول بها شراء الذمم.. يسرِّب كلمةً هنا، وكلمة هناك.. لتفهم أنه مخلص لمهنته، لكنه عارف بمفاسد الأوضاع القائمة في السلطة، عالمٌ بأنَّ السلطة تتربَّص بالإسلاميين لتُوجِّه إليهم ضربةً تعيدهم إلى الصفر.

لقد كانت المناسبة التي اعتُقِلتُ بسببها هي أنَّ حافظ أسد، الذي قام بانقلابه على رفاقه في 16 من تشرين الثاني عام 1970م، وبدأ يسيطر على مفاصل السلطة، ويرسي قواعد حكمه… أصدر دستوراً للبلاد عام 1973م، وأراد أن يحمل الناس على قبوله.

وحدث، نتيجة ذلك، غليان شعبي، لا سيما في أوساط المتدينين، لإظهار الاستنكار لهذا البلاء. ولكن ماذا يفعل الناس؟! ليس عندهم صحافة أو إذاعة أو منتديات… يعبِّرون فيها عن غضبهم. فكل هذا، وغيره كذلك، قد استحوذت عليه السلطة التي يقول رأسها: “سنحارب أعداء الديمقراطية بمزيد من الديمقراطية”! وعلينا أن نصدِّق!.

كان من الوسائل القليلة التي عبَّر بها بعض الشباب عن سخطهم على هذا الدستور أنهم راحوا يكتبون على جدران الشوارع عبارات السخط والتنديد، مثل: “لا، للدستور الظالم”.

وضبط بعض الشباب بـ “الجرم المشهود” واعتُقلوا وعُذِّبوا فاعترفوا على غيرهم… وكان بعضهم من الإخوان المسلمين، وتتابعت الاعتقالات بأن تُستخلص اعترافات من المعتقل تحت التعذيب، فتتّسع الدائرة ويؤتى بمعتقل جديد.

في أثناء التحقيق الثانوي معي (بعد تحقيق الليلتين الأُوليين) قلت لبخيتان: أنتم تقولون: إنكم اعتقلتمونا بسبب الشعارات التي كُتبت على الجدران استنكاراً للدستور. لكنكم لم توجِّهوا إليَّ أيَّ تهمة بهذا الخصوص، فهل يمكن أن تذكر لي: ما دوري في مسألة كتابة الشعارات؟!.

قال: لا دور لك فعلاً، ولكننا كنا نريد “ضربكم” منذ زمن بعيد، وكنا ننتظر مناسبة، فهذه كانت “المناسبة”.

إذاً فالنيّة كانت مبيَّتة، وضربُ التنظيم مقصود، إنما هو انتظار المناسبة.

ومرّةً قدّم إليّ سيجارة للتدخين، فقلت له: أنا لا أدخّن، والحمد لله. ولحظت أن باكيت السجائر، عليه اللصاقة الخاصة بالصناعة السعودية، يعني أن التبغ مهرَّب, فقلت له: كيف تدخِّن تبغاً مهرَّباً؟! (تجرَّأت عليه بهذا السؤال وبما بعده لأن الجوَّ كان مريحاً، يسمح بالحوار).

قال لي: أنزاود على بعضنا؟! إنه أرخص ثمناً من الدخان الوطني.

قلت: أنت رجل “أمن” ويجب أن تنظر إلى مصلحة الاقتصاد الوطني.

قال: كل الناس يدخنون منه فلماذا أمتنع أنا عنه؟!.

قلت: بإمكانك أن تضبط من يبيعه وتعاقبه وتمنع التهريب؟.

قال: أهذا الولد الذي يبيع في الشوارع من الصباح حتى المساء ليحصّل قوت أهله أو عياله.. نعاقبه ونحرمه من رزقه؟.

قلت: هذا الولد يدلُّكَ بسهولة على من فوقه ثم من فوقه، حتى تصل إلى المهرِّب الكبير.

قال: المهرِّب الكبير يكون مدعوماً ولا أستطيع عقوبته!

*   *   *

ومرة استدعاني إلى غرفته، وراح يساومني: “إذا لم تتعاون معنا فقد تبقى في السجن سنة كاملة”.

كنا نتوقع أن لا يستمر اعتقالنا سوى أيام أو أسابيع. فالتهديد بالسَّنة له معناه. وفي الواقع بقيت أربع سنين ويوماً!.

وقال: “سوف نسرِّحك من وظيفتك”.

قلت: هذا لا يهمني، فأنا مهندس، قد أحتاج إلى الوظيفة سنة أو اثنتين بعد التخرج، أما الآن وقد مضى على تخرجي ست سنوات، فالتسريح من مصلحتي.

قال: وماذا تفعل إذا سرّحناك.

قلت: يمكن أن أعمل بالتعهدات مثلاً.

قال: وهل معك رأس مال لهذا العمل؟.

قلت: لا، ولكن…

قاطعني وقال: نحن مستعدون لأن نعطيك رأس المال الذي تحتاجه، ونستطيع أن نجعل المشروع الذي ترغب بتنفيذه من نصيبك، أي نجعل المناقصة ترسو عليك.

قلت: لا حاجة لي بذلك. فهناك من يثق بأمانتي، ويستثمر أمواله عندي.

سَكَتَ قليلاً ثم قال: الوزارة الحالية توشك أن تتغيّر. وفي الوزارة الجديدة نعطيك موقع وزير الصناعة!.

قلت: وهل تتوقع أن أقبل المشاركة في وزارةٍ عندكم؟!.

وبينما هو يحدثني جاءته مكالمة هاتفية، فتكلم فيها نحو دقيقتين. وفي أثناء ذلك رحتُ أقلِّب بصري في محتويات الغرفة الأنيقة. ولفت نظري جهاز راديو ذو تصميم جميل.

قال لي: هل أعجبك هذا الجهاز.

قلت: نعم، إنه جميل.

قال: نريد أن نهديك إياه، مقابل أن تعمل معنا!.

ابتسمت وقلت: لا حاجة لي به.

قال لي: هل تعشَّيت؟.

قلت: لا.

قال: سأصحبك معي إلى العشاء في (البلو أب).

قلت: وما هذا البلو أب؟.

قال: مطعم ظريف. يقدِّم “المشروبات”. أنا أعلم أنك لا تشرب. ولكن سنقعد على الطاولة ونضع عليها بعض المشروبات، ونلتقط لك بعض الصور، ثم نعرضها على إخوانك المعتقلين ونقول لهم: انظروا، هذا معلمكم وشيخكم الذي تثقون به. إنه يقعد على مائدة الخمر.

والحقيقة إنه لم ينفذ وعده، أو تهديده هذا. إنما أراد فقط أن يعرِّفني بالأساليب الساقطة التي يستخدمونها.

ومرة كان يحقق مع أحد الإخوة المعتقلين، وكان هذا الأخ قد تلقى تعذيباً شديداً فقال: أليس دستوركم الذي تعتقلوننا بحجة اعتراضنا عليه ينصُّ على حفظ كرامة المواطن، وحُرْمة البيوت و…؟ وها أنتم هؤلاء تنتهكون ذلك كله؟! قال أبو سعيد: وهل تصدِّق شيئاً مما ينصُّ عليه الدستور؟! لقد وضعنا هذه المواد في الدستور كي نضحك عليكم فقط!.

*   *   *

بعد مضيِّ أربع سنوات على اعتقالي، وفي اليوم الذي ابتدأت به سنة خامسة جاءت سيارة (باص كوستر) إلى سجن حلب المركزي، حيث كنت أقضي فيه الفترة الأخيرة من سجني منذ ثمانية عشر شهراً، ونقلت مع عدد من المعتقلين إلى فرع مخابرات حلب، الفرع الذي قضيت فيه الأشهر الخمسة الأولى من الاعتقال.

دخلنا إلى بهو كبير في الطابق الأول، حيث غرفة رئيس الفرع وبعض المحققين…

اصطففنا بشكل عفوي على محيط البهو، ونحن ننتظر أن يأتي أحد المسؤولين ليلقي فينا “كلمة”! أو نستدعى واحداً واحداً إلى غرفته. ولم يطُلْ الانتظار فقد كنتُ أولَ من نودي عليه، وخرج الرائد بخيتان إلى باب الغرفة ليستقبلني!. مددت يدي لمصافحته، فمدَّ ذراعيه ليعانقني ويقبِّلني وقد بدا السرور على وجهه. قلت: إذاً ما زلت تذكرني! قال: وهل تشكُّ في ذلك؟!.

أدخلني إلى الغرفة، وأجلسني قبالته وقال: لقد رفعت بشأنك عدداً من الكتب من أجل الإفراج عنك. وضَغَطَ زرَّ الجرس، فجاء النقيب سحلول وانحنى أمامه باحترام. قال له: أحضِرْ لي ملفَّ الأستاذ لنطلعه على الكتُب التي أرسلناها بشأنه. خبط سحلول قدمه على الأرض وانحنى من جديد وانصرف ولم يعد!!.

إنها طريقة لتمرير الغشّ والكذب، فلا ملفات ولا هم يحزنون. وبالمناسبة فإن النقيب الذي ينحني ويقف باستعداد “كالقملة المفروكة” هو ذاته كان رئيس الدورية التي أحضرتنا من سجن حلب المركزي إلى فرع المخابرات، وقد رأيته عندما جاء إلى سجن حلب، كيف كان يتصرف بعجرفة واستعلاء، ولا يعبأ بضباط الشرطة ولا بغيرهم، لأنه من خِلْقَةٍ أخرى، أو لأنَّ الدم الأزرق يجري في عروقه، دم المخابرات النبلاء!.

*   *   *

بقيت مسألتان مما أريد الحديث عنه بشأن “أبي سعيد”:

الأولى: أنه لا يحب أن يعذِّب المعتقلين، وإذا احتاج إلى تعذيب أحدهم يأمر الجلادين بذلك ويذهب هو إلى غرفته كي لا يتمّ التعذيب أمام عينيه. ولكن هذه القاعدة ليست مطّردة، فقد يمارس التعذيب بيديه، أو يمارسه الجلادون أمامه. وقد حدثني أحد الإخوة الفضلاء أنَّ أبا سعيد قد حقق معه فصفعه على وجهه صفعات، وقام بنتف لحيته بيده.

هكذا طبيعة هذا السلك. لا يمكن لمن يعمل معه أن يحافظ على قدرٍ مناسب من الطهارة. هذا إن افترضنا أن العنصر المذكور طاهر!.

الثانية: في أواخر عام 1977، أو أوائل 1978، حَدَثَ أنَّ مدرِّبة الفتوّة في إحدى المدارس الثانوية للبنات في حي الأنصاري بحلب، أرادت إلزام الفتيات بنزع الحجاب. ويقال: إنَّ رسالة وصلت إليها بالبريد تهدِّدها (بالضرب أو القتل، لا أدري) إذا هي عادت لإلزام الفتيات بذلك.

عُرضت الرسالة على المخابرات، وكان من الصعب، أو من المستحيل، معرفة من الذي كتب الرسالة، وكان رئيس الفرع آنذاك أبا سعيد، فقام باستدعاء بعض رجالات الحي ليحقق معهم. وكان من هؤلاء أحد الأساتذة الفضلاء.

أبو سعيد: من الذي كتب الرسالة؟.

الأستاذ: وما يدريني بذلك؟!.

أبو سعيد: سأنتقل إلى موضوع آخر. أنت تعلم أنه يحدث بين الحين والآخر عملية اغتيال لبعض رموز السلطة. فمن يقوم بذلك؟.

الأستاذ: أتسألني أنا عن هذا؟! أنت رئيس فرع المخابرات، وعليك أنت أن تعلم.

أبو سعيد: الذي ينفّذ تلك العمليات أحد اثنين: إما واحد تابع لأحد مراكز القوة في السلطة، فلا أنا، ولا غيري، يستطيع أن يكشفه! وإما واحد: الله معه، ويرسل له ملائكة تحميه!.

ولا تعليق!.

التقميطة المغربية بقلم زكرياء بوغرارة

قمَطَ الأَسِيرَ : جَمَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ بِحَبْلٍ

قمط يقمط ويقمط ، قمطا ، فهو قامط ، والمفعول مقموط• قمط المولود : ضم أعضاءه إلى جسده ، ولفه بالقماط . • قمط الثوب : ضيق وسطه أو أسفله حتى يلتصق بالجسم .

قمط يقمط ، تقميطا ، فهو مقمط ، والمفعول مقمط• قمطت الأم المولود : قمطته ، ضمت أعضاءه إلى جسده ولفته بالقماط .

°°°°°°

انصت يا صديقي لقصتي.. أنها   موجعة..

من تلك اللحظة الفارقة   بالنسبة لي أصبح أسمي …

تقمّط قهرا …

لاتعجب.. إنه اختصار لحالة قهر   لاتزال متواصلة كالسلسلة

   في تلك اللحظة.. فقدت القدرة على الحركة والتركيز ..

كان ذهني مشتّتا .. كأنما هو فخار يكسر بعضه ..

لا أدري من أين خرجوا ؟؟

هل كانوا يتخفّون سرا في مكان ما ..

أم أنّ الأرض انشقت عنهم ليبرزوا فجأة ..

كأنما هم أشباح لا ترى منهم إلا لون السواد وتلك العيون المقتدة شررا المتحفزة لشيء ما …

كنت لحظتها أجهل سبب خروجهم… شككت للحظة انني حضرت العفاريت وعجزت عن صرفهم

كان كبيرهم يضع على رأسه قبعة الكايبوي..   ويخفي عينيه وراء نظارة سوداء مظلمة… في يديه سيجارته…

لم يمهلوني سوى لحظات قصيرة جدا لاتكاد تبين ..

كأنما هي لمح البصر..

إندفعوا نحوي بقوة ثم إختفيت…

بعد أن بتلعتني تلك السيارة البيضاء من نوع لوندروفر كبيرة الحجم ….

كان في حلقي   شيء مثل المرارة وأنا أحاول أن استوعب ما يجري من حولي .. وأنني صرت مشروع انسان   محذوف …

لحظتها شعرت بالأسى وبعجزي كإنسان… قليل الحيلة وبمرارة الزمن المرّ في حلقي..

أمام قوى هائلة   هائلة جدا

كنت افكر .. في تلك الخمسة دقائق التي سبقت لحظة ارتطامهم بي أو إرتطامي بهم…

قبل خمسة دقائق فقط كنت حرا ..

أخال نفسي وكأنني أطير   في الفضاء البعيد كاليعاسيب..

هكذا تخيلت حريتي   وقتذاك وهي تسحب مني وانا انسحب بدوري من الحياة ومن هذا الكون لأختفي في المكان القصي المجهول….

حاولت عبثا أن اشم كمية من الهواء .. لأملئ بها رئتي ..

لكن شيئا ما كان يرشح في أعماقي   غير الهواء الذي لم يصبح   له أي معنى

أنها الخيبة .. الخيبة الكبرى

حاولت وأنا في قبضتهم كالعصفور الذي قص جناحاه..   أحاول أن أتبين أي طريق سيسلكونه…

كانت مرارة الإحساس بأني صرت أسيرا… قاتلة

لا ادري متى تنتهي تلك الحالة التي اعترتني…

كما لا ادري الى متى ستظل   تنتابني مع كل الأحاسيس المتبانية .. هي مزيج من الخوف   والقلق والترقب والضجر والانقباض والحيرة ….

قبل   أن يزجوا بي في السيارة اللوندروفر البيضاء

دنا مني الحاج قال بصوت فيه بحة خشنة..   إنها مميزة   خلته   كقرصان   عينه اليسرى منطفئة يضع حولها عصابة سوداء كابن غوريون … ثم وهو يحتسى الخمر بشراهة

فهو يتأرحج بين الصحو والثمالة…

هكذا كان   في مخيالي في تلك الهنيهات من الزمن التي وقفت امامه جسدا بلا حراك

كان صوتا كريها… أو ربما هو إحساسي بالكره إتجاههم هو من جعلني أشعر بالكراهية له

إنه لايزال عاللقا   في ذاكرتي…

{ أنتم إعتديتم علينا ….

نحن لا نعتدي على أحد}

بعدها….

سقطت قهرا داخل السيارة

لحظتها فقط تبيّن لي أنني قد سقطت مقمّطا

تبين لي أنهم   قمّطوني بعناية فائقة

خلت نفسي   كطفل رضيع يستسلم بين يدي أمه وهي تقمّطه

انها ايدي ناعمة صديقة ..

أما هؤلاء فأيدي معتدية …

مسافة هائلة تدير الرؤوس بين التقميطتين

ثم بعد التقميطة العصية وضعوني في شيء كالكيس…

كنت أشم بصعوبة   بالغة تلك الرائحة وذلك العفن الهائل

سحبتني اللحظة إلى الوراء .. أوغلت في الغوص في عمق الذاكرة لتصل بي إلى   البدايات.. عندما قال لي العياشي

ذات نقاش مرّ كان بيننا

كانت مرارته في صدر   كل واحد منّا..

{إنهم يراقبون التراب }

قلت بمرارة { وما فوق التراب}

   كنّا لحظتها على طرف نقيض.. وفي مفترق طرق…

قبل أن يختفي أحدنا قال

{ سيختطفونك.. ذات يوم أراه وشيكا.. ثم سيضعونك في كيس خشن ثم تختفي في لمح البصر }

لكنه أختفى بعدها .. كان كمن يرى مصيره من   خلف سجف الغيب… أو ربما   خلته هكذا… ظل مقمطا.. تقميطة مغربية طويلة الأمد.. بعيدة الصدى.. ممتدة المدى ..

لكن ها قد تحققت نبوءته وجاء دوري لأصير مقمّطا..

كأن من قدرنا أن نقمط مرتين

داخل السيارة   ألقوا بي كما يلقى بكيس ممتلئة بالأشياء التافهة .. سقطت مقمّطا على بطني ووجهي المكدود مرتطم بأرضية السيارة القذر… ويداي مقيدتان الى الوراء…

يرسفان تحت نير المينوط الأمريكي… العتيد.

كلما تحركت قليلا إلا ونهشت الأصفاد يدي ّوكادت أن تخترق العظم…

بعد زمن… قطعت السيارة شوطا كبيرا.. كانت تأكل الطريق   كأكل أشعب الطماع لقصعة   من طعام…..

كانوا يقدون السيارة في لذة   عجيبة   كأنما كانوا في عزوة وعادوا بالغنيمة….

   لا ادري متى انتبه الحاج   إلى وضعيتي تلك

قال بصلف{ قلبوه على ظهره…}

بعدها صرت ممدّدا كالميت في نعشه….

لكن الحاج إرتأى لحظتها أن يزيدني رهقا

وضع حذاءه الغليظ فوق صدري بقوة

   كنا قد غاذرنا مدينة وجدة شرقا

كان معتقل تمارة السري في انتظارنا……

عندما نطقت   كلمة

معتقل تمارة السري

تقيء صاحبي لا إراديا.. ظل هكذا يستخرج كل ما في بطنه

وفي مخياله صورة الضحية مقمّطا

البطاقة الزرقاء زكرياء بوغرارة

كَدَمة زرقاء أخالها تتمدد على ذاكرتي ، لا أذكر متى ؟؟ رأيت لونا آخر غير اللون الأسود .. ترى هل اللون الأسود لون ؟؟
أحسست أنني اصطدمت بشيء! ، هو سبب هذه الكدمة .. هل هو السُعال! الذي يرافقني منذ متى؟، لست أدري .. سأعصر رأسي كليمونة لأتذكر…
 كل الذي أذكره الآن انني بالكاد نسيت جدار الصمت والزنزانة حاولت أن اقتلع السجن من أعماقي من ذاكرتي و وجداني كما تقتلع عين عدو في ساحة حرب ضارية في القرون الوسطى ..
لعل كل شي ء قد إنتهى أصبح كل ما حولي بالكاد شبه شيء ..
 الأشياء.. أصبحت باهتة
 كل شيء فقد قيمته إنه بلا رصيد تماما مثل بطارية هاتفي الفارغة.. ربما هي آيلة للسقوط أوالموت فقد انتهت صلاحيتها ..
 ترى هل صرنا في زمن تنتهي فيه بطاية الحرية ؟؟
 فإما أن يعاد شحنها وتعبئتها لمدة إضافية أو تموت ..
 لا شيء يظاهي تلك الكدمة الزرقاء… أذكر أنني توصلت من البارحة بالورقة الزرقاء .. ربما لها صلة بالكدمة الزرقاء وبالبطارية المنتهية الصلاحية..
 ربما حريتي تحتاج لأن أصل بطاريتها بالشاحن، عيناي متعبة،يبدو أنني بكيت قبل النوم.. لا البكاء لم يعد يجدي .. حتى في لحظة تكون فيها حاجتي للبكاء كبيرة لكن العين الزرقاء أصبحت كالأرض الجدباء قاحلة بلا ماء
لا أعلم ما الذي حصل طيلة الليلة التي إنضافت لليالي السهاد لعلها هي السبب في تلك الكدمة الزرقاء التي أصبحت كالحبر الأزرق المراق فوف مكتبي .. وعلى اوراقي، ما اذكره أنني استيقظت متأخرا الحقيقة انني لم أنم , أنا والنوم لسنا توأمان .. لكنني من زمن أكذب على نفسي أكذب عليك يا أنا وأقول لك انني كنت نائما .. الكذب بلا أرجل وبلا لون ولا رائحة، النوافذ مغلقة على غير العادة انا اكره كل باب مغلق وكل نافذة مغلقة لا اطيق شيئا مغلقا اشعر بالاختناق .. لم أكن هكذا لكني صرت هكذا ..
الصورة ارشيفية
 العتمة علمتني أن لا أطيق اللون الأسود ..
 وأن لا أعترف به لونا ضمن باقة الألوان.. وعلّمتني أن لا أطيق شيئا مغلقا أبدا،
ها هي ذي أكواب القهوة الكثيرة، انها من بقايا ليالي السهاد التي مرت بي منذ أن استلمت من ذلك الرجل ذي الوجه الرمادي والملامح الغامضة ذلك الاستدعاء الورقة الزرقاء .. ربما تصير كفنا لحريتي..
كفن العتمة بدايتها زرقاء
السؤال الذي يطرق دماغي الآن: ترى هل إنتهت صلاحية حريتي؟؟
 منذ أن خرجت من العتمة من عام مضى
 نفضت كل ذكرى لذلك الزمن من مخيالي لكنه يعود ويصبح بلون الكدمة الزرقاء في ذاكرتي… انه ينتفض حيا أمامي كمكنسة الساحرة الأسطورية وهي تطير في الفضاء… لتعانق السماء الزرقاء
 الصياح المزعج والقرع بالمفتاح على البوابة الرمادية الصامتة في وقت مبكر
 إنه {{ النداء اليومي }} ثم بعده تأتي مرحلة توزيع الفطور شاي كبول البعير وخبز…
 أحيانا كانوا يقولون لنا إنها قهوة بالحليب كنا نعرف انهم يكذبون علينا
 في عالم العتمة لايوجد الا القهوة السوداء
.. ذكرى الرعب ثم نطت إلى مخيالي وهو يقاوم الكدمة الزرقاء المتسعة
{{التفتيش}} {{ لافاي }}
 إنها ساعات ثقيلة جدا كضمة القبر
 فيها حسوة الذل المركزة
 حاولت أن اطرد عني كل شيء بداية من اللون الأسود .. لكن الورقة الزرقاء أيقضت في حسي شجوناوسجونا
وقف أمامي كالتمثال
 دفع بالورقة وهو يمتص سيجارته بعمق كن يغلق عينا ثم يفتح أخرى وهو يرسل الدخان الكثيف من فمه
 {{ ينبغي ان تسافر غدا مع العاشرة صباحا الى ….}}
 سادت لحظة صمت كثيفة
 {{ العاشرة
 في ظهر الورقة ارقام الهاتف إن ضللت الطريق اتصل بهم …}}
 كان كل ما يهمني لحظتها أن أسأله
{{ أنا لا امتلك المال الكافي للسفر والرحلة طويلة جدا ومتعبة }}}
 لاذ للصمت
 كان لايزال يغازل سيجارته ويرتشفها كعاشق..
إبتسم بخبث
 ثم انصرف
 ظل عقلي مسرحا لمعركة تفكير رهيبة كنت أضرب الأخماس في الأسداس وأحقق معي أسألني كل الأسئلة التي سيسألونها والتي ربما لن يسألونها
 ما الذي جرى؟؟؟
؟؟واتهمني بكل الاتهامات افتش في تلابيبي
 بعدها كان أهم ما كن يشغلني .. كيف سأسافر وأنا صفر اليدين
.. عطلت من أي درهم
ثم…..
بعد ان وضعت الحرب التي دارت رحاها في عقلي أوزارها إهتديت لأن اتصل بهم الرقم في ظهر الورقة الزرقاء
 {{ اللي ليها ليها}}1 سأقول لهم كل شيء
 بهم بعد تردد اتصلت
 بعد أن استجمعت قواي … خرجت الكلمات من فمي
أخبرتهم أني لا أستطيع الذهاب بحكم اني عاطل عن العمل قالوا لي
{{استلف}}
ظللت صامتا
 جائني الصوت كأنما امتدت من الهاتف يد لتخنقني كانت كالكدمة الزرقاء
 {{ شغبك هذاك
 سوقك هداك }}
 ثم انقطع الاتصال
 مكثت للحظات أحاول ان استنشق الهواء……..
 وأنا أردد بذهول
{{ شغلك هذاك سوقك هذاك}}

°°°°°°

{{ فكرة القصة حقيقية جرت لأحد الأخوة حدثت له كتبتها كما رويت لي معه شيء من التصرف…}}

وجدة المغرب

26 أغسطس 2019

°°° العنوان كلمة عامية تعني { ذلك شأنك}}

1اللي ليها ليها كلمة عامية تعني {سيان عندي}

المسرح السياسي في أمريكا

المسرح السياسى فى أمريكا
((التعريف..الوظيفة..الأصول..وصولا إلي نظرية العرض المسرحي السياسي)
المسرح السياسى، مصطلح عسير ووعر، مما تحمل عبر السنوات من جدل وشوائب وتسطيح، منه ما كان يعمد للإنتصار له، ومنه ما هو دعائى ومنه ما يسخر من هذا المصطلح ويمكننا أن نعرف المسرح السياسى.
” بأنه مسرح ذو مضمون سياسى يستهدف تعليم جمهور شعبى عريض له صبغة سياسية معينة”.
ولكن هذا التعريف يركز على مضمون المسرح فقط ولا يتطرق إلى الوسائل التى من شأنها أن تعمل على توصيل هذا المضمون السياسى، ويرى المخرج سعد أردش فى كتابة المخرج فى المسرح المعاصر أن ” المسرح السياسى الواعى الواضح، المباشر، هو الذى يسعى إلى تأثير إيجابى محدد فى الجماهير، بهدف إكتسابها فى صفوف معركة طويل نحو حياة أفضل تسودها العدالة الإجتماعية، ويرفرف عليها السلام وتمنحها الحرية، طعم العزة والكرامة الإنسانية”.
وما يدهشنا هنا فضلاً عن الطبيعة الإنشائية لهذا التعريف هو قصر دور المسرح السياسى على طبقة العمال فقط وكأن القضايا الأساسية والإقتصادية والإجتماعية وقضايا الحرب والسلم ومفهوم الحرية لا تعنى فقط إلا طبقة العمال ويرى الدكتور سمير سرحان أن المسرح السياسى يميل إلى المباشرة والخطابية نافياً عنه صفة الفن ومشاركة الجمهور وهو يقول
“أنه مسرح أفكار تلقى من فوق خشبة المسرح كما تلقى الخطابة. والمسرح السياسى هو توضيح للرؤيا الإجتماعية والسياسية فى بلد ما …. وهو بلوره العواطف الثائرة بشكل منظم”.
إلا أن المسرح السياسى لا يوضح رؤيا إجتماعية وسياسية فحسب فدوره يتمثل أولاً فى مناقشة الواقع الفعلى بتناقضاته سواء أكان واقعياً سياسياً أم اجتماعياً أم إقتصادياً بشكل حاد ومباشر لأن هذا الواقع الفعلى هو ما يهم جمهور المسرح.
وثمة من يرى أن المسرح السياسى، يتمثل دوره فى خدمة أيدلوجية معينة كأن يكون فى متناول يد النشاط السياسى لليسار مثلاً كما يرى “ماسيمو كاسترى” “أن المسرح السياسى هو ذلك المسرح الذى يرغب فى المشاركة بجميع وسائله النوعية فى الجهد العام وقضية تحول الواقع الإجتماعى، أو بشكل مطلق قضية تحول الإنسان من منظور إعادة بناء الشمول والكلية للإنسان اللتين تحطمتا فى مجتمع مقسم إلى طبقات وما تم على الإستغلال”.
ومن هنا قصر كاسترى تعريفه على المجتمع الطبقى وما يدور حوله من صراعات طبقية، وترى الدكتورة نهاد صليحة “أن المسرح السياسى ينبغى أن يقتصر على ذلك النوع من المسرح الذى لا يكتفى بأن يتخذ من فلسفة الحكم خلفية مسلماً بها للصراع بل يتخطى ذلك إلى إتخاذ فلسفة الحكم نفسها مادة للصراع أى يصبح موضوعه السلطة والفلسفة التى تساندها والقوانين التى تفرزها ومظاهر تطبيقها” ولكن هذا المصطلح وحسب رأى الدكتورة نهاد صليحة نفسها يمكن أن ينصرف إلى أعمال “شكسبير” و “بايرون” و”شيللى” و”بوشنر” و”تشيكوف” و”بيسكاتور” و”بريخت” و”سارتر” و”توللر” وهذا ما يجعل التعريف يشير فى مضمونه إلى الجوانب الإقتصادية والإجتماعية التى ترتبط وبشكل مباشر بالموضوع السياسى وتعتبر إنعكاساً له. ولكن هذا التعريف يزيد من إتساع دائرة الدراسة بما لا يجعله قادراً على التمييز بين البدايات الحديثة للمسرح السياسى وبين أصول وجذور هذا المسرح.
ويرى الدكتور عبد العزيز حموده أن “المسرحية السياسية بمفهومها الحقيقى هى إستخدام خشبة المسرح لتصدير جوانب محددة. غالباً ما تكون سياسية أو اقتصادية مع تقديم وجهة نظر محددة بغية التأثير على الجمهور وتعليمه بطريقة فنية تعتمد على كل أدوات التعبير التى تميز المسرح من كل ضروب الفنون الأخرى ومن مزايا هذا التعريف أن دكتور عبد العزيز حمودة لم يقتصر فى تعريفه على الجانب السياسى فقط بل طرح الجانب الإقتصادى أيضاً فالمسرح السياسى فى رأيه يهدف إلى إيقاظ الناس وتعليمهم فهو يعتمد إلى حد كبير على الحقائق، أو القيمة الإخبارية للواقع أى أن عملية الكتابة للمسرح السياسى هنا تسبقها مرحلة طويلة من البحث والتقصى.
وملاحظتى الوحيدة على هذا التعريف هو تركيز الدكتور عبد العزيز حمودة على إستخدام خشبة المسرح فى حين أننا سنرى أن “مسرع الشارع” و “المسرح الحى” و”المسرح العمالى” فى أمريكا أو أى من دول أوروبا لا تستخدم خشبة المسرح بالمفهوم التقليدى. ولكن هذا التعريف أنسب وأكثر اتساعاً من التعاريف السابقة وذلك فى إطار الحركات الفنية للمسرح السياسى الحديث.
ولكنى فى النهاية أتفق مع رأى الدكتور أمين العيوطى فهو يقول “عندما تتكلم عن المسرح السياسى فإن أذهاننا غالباً ما تتجه إلى ذلك النوع من المسرح الذى إزدهر فى ألمانيا فى أعقاب الحرب العالمية الأولى أو فى أمريكا إبان أزمة 1929 الإقتصادية وجاء محملاً بوعى سياسى متوسلاً بأساليب فنية جديدة سواء فى أسلوب صياغة هذه الرسالة أدبياً، أو فى أسلوب عرضها على المسرح” غير أن هذا المسرح لا يعنى أن المسرح لم يكن، منذ بدايته يحمل رسالة سياسية فى طيات رسالته الفكرية بل إننا نخطىء إذا توهمنا أن الأدب فى كل صورة وعلى إختلاف مذاهبه الفنية لم يكن يعبر فى المقام الأول عن رؤيا سياسية.
فوفق تعريف معين لمعنى كلمة سياسة يمكننا القول بأن المسرح بل والأدب كله، كان وما زال فى أحد مظاهره سياسياً. أى إننا إذا إتفقنا على تعريف السياسة بأنها مجموعة الأفكار أو الفلسفة التى تشكل نظرية الحكم التى يتم فى ضوئها تنظيم علاقات الأفراد والمجموعات فى المجتمع وفق قوانين وقيم معينة تحكم توزيع السلطة والمال وتحديد الأدوار ومناطق التحرك للأفراد والجماعات. وإذا إتفقنا على هذا التعريف لكلمة سياسة يمكننا أن نصف المسرح بأنه كان دائماً سياسياً بمعنى أن كل مسرحية نعرفها تتضمن بصورة مباشرة أو غير مباشرة أيدلوجية ونظاماً يشكلان الخلفية الفكرية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية للصراع القائم فى الدراما ويحددان مساره ونهايته حتى وإن كان هذا الصراع صراعاً نفسياً بالدرجة الأولى وعلى هذا الأساس نستطيع أن تقول أن المسرح منذ نشأته المبكرة كان دائماً مسرحاً سياسياً ولهذا فليس من الغريب أن نجد أن الدراما الأغريقية تخضع بسهولة للتحليلات التاريخية والسياسية فنجد ناقداً مثل “جورج لوكاتش” يتحدث عن ضرورة ربط ظهور التراجيديا الأغريقية بالتحول التاريخى العالمى فى تاريخ الجنس البشرى ويقول “من المؤكد أنه ليس من باب الصدفة أن تتفق فترات التراجيديا العظيمة مع المتغيرات التاريخية العظيمة والعالمية فى المجتمع الإنسانى. وقد رأى هبجل بالعقل فى الصراع الذى ينشب فى (أنتيجون) “سوفوكليس” رغم غموض ذلك الصدام الذى ينشأ بين تلك القوى الإجتماعية التى أدت إلى تحطيم الأشغال البدائية للمجتمع وإلى ظهور المدنية الأغريقية.
كما أن النظرة المتأنية لجوهر التراجيديا منذ نشأتها وحتى الآن ومفهوم البطل المأسوى بمعناه الأرسطى أو غير الأرسطى تؤكد إقتراب المسرح الدائم من دائرة السياسة فالبطل التراجيدى الذى يعانى من نقطة الضعف القاتلة وهى الكبرياء والذى يرتكب خطأ مأسوياً لا رجعة فيه… قد يكون خطأ فى حق الآلهة أو البشر يسقط معاقباً على هذا الخطأ وذلك لتطاوله على سلطة أعلى أو أقوى منه ربما تكون سلطة تدعى لنفسها شرعية أكبر من شرعيته، هكذا يسقط “إجاممنون” الذى يكون خطأه الأساسى أنه تطاول وإدعى لنفسه إحدى صفات الألهة وهى الكبرياء وهو يسقط ولكنه فى سقوطه يشير فينا الإعجاب لان إعجابنا الأبدى بالإنسان وهو يقاوم فى عناء سلطة أعلى منه سياسة كما أن بروميثيوس مغلولاً تعرض على إستحياء لإمكانية التورة الإنسانية على القدرية الدينية والتى تتمثل فى شخص الإله “زيوس” الطاغية الذى يعاقب “بروميثيوس” عقاباً مروعاً لكشفه سر النار للبشر مما يجعلهم قادرين على التحكم فى مصائرهم وهذه مسرحية يمكن إعتبارها نوع من المسرحيات السياسية التى تتعرض للنظرية السياسية السائدة فى المجتمع وأخطائها دون المساس بالنظرية نفسها وما يقال هنا فى المسرح الأغريقى ينطبق أيضاً على المسرح الإليزابيثى فى أبرز كتابه “ويليام شكسبير” فلم يكن فى أعماله إثراء للمسرح العالمى على إمتداد تاريخه فحسب بل إثراء لما يحمله من فكر سياسى وتاريخى وهو تلك العبقرية التى عاشت فى فترة تميزت بالصراع التاريخى الحاد بين المجتمع الإقطاعى وبين مجتمع الرأسمالى الذى كان يسعى إلى تأكيد ذاته وفى رأى دكتور عبد العزيز حمود أن شكسبير فى كل تراجيدياته تقريباً حينما ينطلق من بعض بقايا المجتمع الفكر الإقطاعى، وإن كانت أخطره على الإطلاق، ليؤكد أن البطل يخرج على ناموس الطبيعة حينما يهز النظام الاجتماعى والاقتصادى للجماعة محاولاً تغييره بمفرده وبيديه وهى جرأة يعاقب عليها شاعر البلاط الإنجليزى بالسقوط المعنوى والبدنى وهذه فى رأيه سياسة.
ويقول “جورج لوكاتش” أن شكسبير يبدع فى الملك لير أعظم ما عرفه الأدب العالمى من التراجيديات وأشدها أثراً فى انهيار الأسرة بصفتها مجتمعاً إنسانياً … إن شكسبير يصور فى علاقة الملك لير وبناته، وجلوستر وأبنية الحركات والإتجاهات الخلقية النمطية التى تبرز بشكل قوى إشكالية العائلة الإقطاعية وانهيارها وهذا الحس التاريخى عند شكسبير هو الذى جعله هدفاً للتحليلات السياسية المتبانية وهكذا نجد برنارد شو يصور شكسبير فى مسرحيته الكوميدية الخفيفة (السمراء فى أغانى سكسبير) على أنه فنان ينمق الكلمات ولا يقدم فكراً ويهتم بإرضاء أولى الأمر ويتملق السلطة ويقف إلى جانب الديكتاتورية فى “يوليوس قيصر” غير أن شاعراً وناقداً أخر، وهو “الجرنون سويتبرن” يرى فى شكسبير رأياً مختلفاً فهو يراه مفكراً حديثاً فى نظرته السياسية والإجتماعية ويستشهد على ذلك بمسرحية يوليوس قيصر أيضاً، فيقول أن شكسبير كان فى أعماقه جمهوريا وأنه فى “الملك لير” ديمقراطى وإشتراكى روحاً إلا أنه يمكن أن يقال أن مسرحية يوليوس قيصر تمثل نموذجاً للمسرح الفكرى السياسى الحق. فهى تثير التفكير النقدى دون أن تلزم المتفرج برأى بعينه ولقد عبر فيها شكسبير بصدق وحساسية شديدة عن الصراع الخفى فى عصره بين نظرية الحكم الموروثة من العصور الوسطى وبين رياح الثورة والتغيير التى أتى بها عصر النهضة ولكن مما يعزز وجهه نظر سويتبرن فى شكسبير أختيار “أروين بسكاتور” رائد المسرح السياسى لمسرحية الملك لير لعرضها بأسلوب مسرحه السياسى وأختيار “برتولت بريشت” لمسرحيتى (ماكبث) و(هاملت) لإعدادهما للإذاعة، ومسرحيتى (يوليوس قيصر) و (كوريولنيوس) لإعدادهما للمسرح هذا فضلاً عن إستخدامه لأسلوب مسرحيات شكسبير التاريخية فى الأم شجاعة وجاليلو بل وتأثر المسرح الملحمى عموماً بفن شكسبير المسرحى.
ويبدو أن ظاهرة إلقاء المؤلفين المسرحيين فى السجون كانت شائعة فى ذلك العصر إذ نجد “جون مارستون” و “جورج تشابمان” يلقون نفس المصير مع بن “جونسون” مرة أخرى بعد إشتراكهم جميعاً فى تأليف مسرحية (إتجهوا شرقاً) التى تسخر من نظام الهبات والألقاب الإجتماعية والرتب والعطايا الملكية ثم نجد مارستون يتعرض مرة أخرى لخطر السجن عندما كتبت مسرحية (المتذمر) وإنتقد النفاق والخداع الذى ساد البلاطات الملكية إبان عصر النهضة ولكن هؤلاء الكتاب أنفسهم كانوا من المؤمنين بفلسفة الحكم السائد ولم يحدث أن دعا أحدهم مثلاً إلى إحلال نظرية الحكم الديمقراطى محل نظرية الحكم الملكى.
وخلاصة القول أن ثمة نوعاً من المسرح الذى ينحو إلى الإصلاح لا الثورة وجد سواء فى ظل النظام الديمقراطى اليونانى الذى كان يسمح بالسخرية من الحكام الأفراد ويحرم المساس بالشعب أو فى ظل النظام الملكى الإنجليزى الذى يحرم إنتقاد البلاط ويسمح إلى حد ما بالنقد للشعب أو لمن يقومون بتطبيق النظام.
وتستطيع أن نضيف إلى هذا الإدراك المبكر لوظيفة المسرح الإجتماعية والسياسية وموقف النقد الكلاسيكى المتزمت فى إنجلترا فى القرن السادس عشر فوسط كل التأكيد على النقد الشكلى عند “فيليب سيدنى” و “بن جونسون” وغيرهم على الإلتزام بالوحدات الثلاث والمحافظة على نقاء القوالب والتقاليد الفنية بحيث لا تمتزج الكوميديا بالتراجيديا أو النثر بالشعر، نستطيع أن نتبين هدفاً سياسياً واضحاً وموقفاً سياسياً محافظاً. كان مزج الكوميديا بالتراجيديا يعنى فى التحليل النهائى. مزج أنماط سامية من الشخصيات والموضوعات التى لا يصح لها إلا القوالب الكوميدية الشعبية أو بعبارة أخرى كان مزج القالبين التراجيدى والكوميدى يعنى مزج الأشراف والعامة فى إطار واحد كذلك كانت الدعوة إلى فصل اللغة الشعرية عن الحوار النثرى واللغة الدارجة تهدف إلى فضل الأسلوبين إذ أراد الكاتب المسرحى أن يحتفظ للأبطال الذين ينتمون إلى طبقات المجتمع العليا بتميزهم وسموهم فيما ينطقون به ويعبرون عنه من عواطف نبيلة، أن يترك للعامة وعواطفهم اللغة الأكثر تدنياً. كان الإصرار على الإحتفاظ بالقوالب المسرحية والتقاليد الشعرية “نقية” يعنى فى المحصلة النهائية، المحافظة على القوالب الاجتماعية وعلى الإطار العام للمجتمع الطبقى. بحيث لا يتهدده أية مزاوجات بين الطبقات العليا والطبقات الدنيا من المجتمع بل إن أى إخلال بهذه القوالب الاجتماعية تعتبر تهديراً للنظام القائم ويرى هيوم أن الرومانسية فى رأيه دعوة إلى إعادة تنظيم المجتمع من خلال الإطاحة “بنظام غاشم” أى بالنظام الإقطاعى بطبيعة الحال وهو يرى الرومانسية ترتبط بثورة الطبقة الوسطى فى فرنسا، ووصولها إلى الحكم فى إنجلترا مما يعنى الفوضى فى نظره أما الكلاسيكية فترتبط بالكنيسة والإقطاع ولذلك تعنى النظام. وهكذا يقول “لو أنك سألت رجلاً عن مجموعة معينة ما إذا كان يفضل الكلاسيكية أو الرومانسية لاستطعت أن تستدل من ذلك على اتجاهاته السياسية”.
وبالنسبة لمسرح الثورة فهو مسرح دعوة إلى إبدال فلسفة ونظرية حكم بأخرى ولعل أول من كتب هذا النوع من المسرحيات واعياً ومن منطق عقيدة سياسية واضحة كان “شيلى” وخاصة فى مسرحية بروميثيوس طليقاً لقد كان “شيلى” مؤمنا بالحرية والعلم والعقلانية وبملكات الخير لدى الإنسان، ويعتقد أن البشرية لا ينقصها إلا الحرية لتنطلق ملكاتها الإبداعية الخيرة لتحقيق المدنية الفاضلة ويصف الكثيرون “شيلى” بأنه أول أديب إشتراكى قبل ظهور كارل ماركس وربما كان الفرق الوحيد بينهما هو إيمان “شيلى” الرومانسى بالقدرة على التغيير الإجتماعى الجذرى عن طريق الحرية والحب والتنوير، على عكس ماركس الذى رأى حتمية صراع الطبقات.
أما فى العصر الحديث فلقد إرتبط المسرح فى العصر الحديث بالجماهير وأخذ أكثر من شكل وتحولت الحياة كلها إلى المسرح بتجسيد جديد تحولت معها كثير من القضايا السياسية ذات العلاقة الوطيدة بمستقبل إنساننا فى أكثر من مكان، إلى خشبة المسرح وأصبحت الأحداث اليومية الهامة والأحداث الراهنة الأخرى، والتحولات السياسية، والإنتقاضات الوطنية وأساليب الإستعمار بكل أشكاله، وقضايا الحرب والسلم والصراع الطبقى، وقضايا الحرية أصبحت كلها سمات تميز مسرح هذا العصر وتغنيه بالجديد المتحرك الذى لا يركن إلى السكون أو الجمهور أو مجرد العرض العابر، أو النقد الساخر الخالى من كل إثارة للذهن أو تحريك الفكر، أو المشاركة الجدلية على أقل تقدير “وبهذا الإطار والمحتوى كان المسرح السياسى علامة من علامات الحياة الجديدة التى تنشدها الشعوب فى كل مكان ولقد أصبح المسرح وسيلة وقلق دائم، موثقاً صله المشاهد بكل ما يدور من حوله إن هذا التحول فى العصر الحديث يرجع أساساً إلى فلسفة ماركس فقد بلور أفكاره فى علم الفلسفة حين قال قولته المشهورة ” إنحصر جهد الفلاسفة دائماً فى تفسير العالم وذهبوا فى ذلك مذاهب شتى. ولكن القضية الأساسية ليست تفسير العالم بل تغييره ولقد حمل ماركس التيار الفلسفى الذى ينطلق بداية من فعل الإنسان اللا إرادى إلى ذروته. وتحولت الفلسفة على أيدى أتباعه من نشاط فكرى بتأمل الفعل الإنسانى إلى برنامج عمل ثورى ولقد كانت فلسفة ماركس، فلسفة فعل تهدف إلى تغيير العالم وتغيير وعى الإنسان به.
كانت الفلسفة قبل ماركس محاولة للتنظير والتقنين المطلق بعيداً عن متغيرات ونسبية الآن وهنا أى بعيداً عن الواقع الإنسانى المتغير أما عن طريق توحيد بصرها إلى ما فوق الطبيعة إلى عوالم الروح والعقل المجرد كما فعل المثاليين أو عن طريق فصل عالم التجربة والفعل الإنسانى عن عالم الروحيات والأخلاقيات مفترضة لهذا العالم المعنوى قوانين أزليه خارج نطاق التجربة الإنسانية ولا تتأثر بها وهذا ما يعنى فى الحقيقة عدم إمكانية تغيير العالم.
بدايات المسرح السياسى فى القرن العشرين أو أصول المسرح السياسى الأمريكى:
إذا إعتبرنا المسرح السياسى شكلاً حديثاً من الأشكال الأساسية فإن بدايته فى الواقع تبدأ فى العقد الثانى من هذا القرن، أو بعبارة أدق مع الثورة فى الإتحاد السوفيتى، حيث بدأت المحاولات الحقيقية الأولى لإستخدام المسرح كسلاح، كما إتفق على مدى الخمسين عاماً الأخيرة وتحديد الهدف بهذا الشكل يسهل عمليه تحديد الشكل المسرحى الذى تم اختياره، وهنا أيضاً يجب أن نسلم بأن القرار منذ عام 1919 كان فى حقيقة الأمر إستخدام المسرح كسلاح لا فى معركة تثقيف الجمهور فى الفكر السياسى الجديد فقط بل تثقيفه أو تعليمه فى مجالات الاقتصاد والنظريات الاجتماعية الجديدة وهذا ما يعيدنا مرة أخرى إلى التذكرة بأن المسرح السياسى لا يعنى فقط بفكر سياسى محدد فقط بل أيضاً الفكر الإجتماعى والإقتصادى، لقد وجد أعوان الثورة فى بداية الأمر أنفسهم فى موقف لا يحسد عليه ولا أقصد بهذا هزائم الجيوش الروسية المتتالية على الجهة الألمانية، بل فى الداخل حيث كان الحزب أقلية واضحة فى قلب مجتمع يحتاج إلى الاقتناع بالتغيرات الجذرية الجديدة فى طريقة الحياة، ولكن بمجرد إستتباب الأمر بدأت تنتشر فى الإتحاد السوفيتى عشرات الفرق المسرحية الصفوة بإسم “العاصفة” مرة و “القمصان الزرقاء” مرة أخرى وكلها فرق من العمال المتحمسين الذين أخذوا على عاتقهم مسئولية توعية السواد الأعظم من العمال وتعليمهم الفكر الجديد سواء كان فكراً سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً كانت المجموعة من هؤلاء تتسلح عن بقية العمال قبل موعد إنصرافهم بدقائق لتتلقفهم أمام المصنع وقت إنصرافهم أو فى أى مراكز أخرى للمجتمع العمالى لتقدم لهم فيما يشبه الإرتجال الكامل نصاً وإخراجاً مشاهد قصيرة تبين مزايا النظام الجديد وتهاجم النظام الرأسمالى وتجسد نقاط الضعف فيه وكانت تلك المقطوعات تندرج تحت ما أتفق على تسميته باسم مقطوعات الإثارة والدعاية. وهنا يجب أن تتوقف قليلاً عن خصائص هذا الشكل وأهدافه لأنه يمثل المرحلة المبكرة وغير الناضجة بما يمكن أن نسميه المسرح السياسى فى القرن العشرين.
لم تكن هناك أية محاولات على الإطلاق لإيهام المتلقى أو المتفرج بأن ما يراه واقعاً بل كان التركيز على تغيير فكر هذا المتلقى وعلى هذا الأساس يكفى أن يظل العمال بملابس المصنع فقد يرتدى واحد منهم قبعة مرتفعة أو يحشو نفسه قليلاً ليمثل دور الرأسمالى المنتفخ، ويكفى كرسى خشبى أو أثنين ليمثلا خشبة المسرح وتلك حقيقة يجب أن نتذكرها فى حديثنا عن المسرح فى مرحلة متطورة تالية وهى مرحلة المسرح الملحمى عند بريخت.
لم يكن الهدف من هذه العروض تقديم شكل مسرحى ناضج بل إستخدام أدوات المسرحية التقليدية والإستفادة من قدرته على التأثير لتغيير مفاهيم المتفرجين وتعليمهم أفكاراً جديدة، لهذا لم ينشأ المعنيون بهذا الشكل التوقف عند الجماليات التقليدية أو قواعد الكتابة الدرامية المألوفة، ويكفى أن نذكر شعار الفرق التى ظهرت فى ألمانيا فى نفس الفترة بإسم القمصان الحمراء والتى كانت تهدف لإستخدام المسرح كسلاح.
إن عشرات النماذج التى وصلتنا عن هذه الفترة تؤكد المقولة الأساسية التى أود تأكيدها طوال الوقت وهى أن المسرح السياسى لا يقتصر على السياسة بمعناها الأكاديمى الدقيق بل إنه يركز على كل من شأنه تغيير طريق تفكير الفرد أو طريقة حياته، وهذا ما أتبعته فرق الصحف الحية المسماه بجماعة القمصان الزرقاء.
ورغم جدية الوظيفة الجديدة للمسرح إلا أن سذاجة الشكل لا يمكن إنكارها، وهى سذاجة تتمشى مع طبيعة المتلقى البسيطة وما يهمنا هنا أن المقولة الأساسية التى تستخدم “سلاح المسرح” لتقديمها إلى الجمهور ليست مقولة أساسية بالمعنى المتعارف عليه للسياسة. ومن نفس الوقت كانت هناك عشرات الصحف الحية أو مقطوعات الإثارة والدعاية التى تتناول موضوعات شتى كمحاربة بعض العادات الإجتماعية البالية، والتشجيع على رفع معدلات الإنتاج الصناعى والزراعى وتشجيع الإقبال على الميكنة الزراعية ونبذ الوسائل البدائية إلخ. وكلها موضوعات غير سياسية يقودها ما يمكن أن نسميه بالمسرح السياسى الصرف.
وأخطر أعداء هذا المسرح السياسى هو طبيعته ذاتها، وخاصة فى تلك المرحلة المبكرة منذ فرضت طبيعة المتلقى البسيط لجوء مقدمى هذا الشكل إلى التبسيط الشديد الذى يصل إلى حد السذاجة أحياناً وإلى التضحية بالشخصية الدرامية المتكاملة الأبعاد من أجل الفكرة المباشرة والشخصية النمطية وكلما ازدادت مباشرة هذا الشكل عادة كلما زاد رفض الجمهور له.
إن كانت الثورة الروسية هى الحدث الأول الذى ساهم فى خلق المسرح السياسى بمعناه الحديث فى روسيا فإن لهزيمة ألمانيا فى 1919 أثارها المدمرة على المجتمع الألمانى، التى أدت إلى إهتزاز مؤسساته الإقتصادية والاجتماعية والثقافية جاءت ثورة 1919 الإشتراكية، التى فشلت وأغتيل كل زعمائها، تعبيراً عن السخط عما أنزلته الرأسمالية والحرب بالشعب الألمانى، وعن الفوضى الإقتصادية التى أطاحت بكل الآمال المعقودة على نهاية الحرب من إنتشار الأخوة والإنسانية والحب وعن خيبة الأمل التى تولدت عن هذا كله ولم تلبث الأزمة التى ضربت الاقتصاد الأمريكى فى 1929 أن أمتدت لتشمل آثارها العالم الرأسمالى كله بما فى ذلك ألمانيا، ولتنزل بكل فئات الشعب وعلى الأخص الطبقة العمالية التى إنتشرت بينها البطالة، مما أثار معارك فى الشوارع بين العمال والشرطة ودفع بالبرجوازية إلى أن تحكم قبضتها على الأمور فأسلمت زمام السلطة إلى هتلر ولقد تبنى المسرح السياسى فى ألمانيا فى ذلك الوقت رسالة سياسية من الرسالة التى حذوها لنفسه الأساليب الفنية التى تخدم هدفه لتوصيل رسالته.
وكانت هذه الرسالة مباشرة واضحة، ترمى إلى التأثير فى الجماهير من أجل توعيتها، وإجتذابها إلى جانب المعركة ضد المجتمع الرأسمالى الطبقى، للوصول إلى مجتمع العدالة الإجتماعية والسلام، ولم يكن الأمر مجرد طرح أفكار، بقدر ما كان إستفزازاً للجماهير، وتحريضها على الثورة وقد إرتبط بهذا الإسم المسرح إسم “إيروين بيسكاتور” وكان من رأى بيسكاتور أن الإهتمام بالشكل الفنى للعرض من الممكن أن يطمس ملامح الرسالة السياسية، كما أن النص المسرحى لا يحب أن يكتفى بتصوير أحداث شخصية، أو إنعكاسات الواقع الإجتماعى على الذات الإنسانية فلابد أن يكون العرض المسرحى بكل مقوماته تحليلاً للظروف الإجتماعية والاقتصادية والتاريخية. لهذا كان تأكيده على عرض الظروف التاريخية والإجتماعية عرضاً مباشراً لا كمجرد خلفية للأحداث الشخصية وبالنسبة إلى بيسكاتور كان المسرح برلماناً، والجمهور هيئة تشريعية وقد عرضت أمام هذا البرلمان بوضوح المسائل العامة الكثيرة التى هى بحاجة إلى إقرار. وبدلاً من خطبة النائب حول ظروف إجتماعية لا يمكن تفاديها ظهرت نسخة فنية لهذه الظروف، وطمع المسرح بدفع (البرلمان- الجمهور) إستناداً إلى الصور المسرحية والإحصائيات والشعارات إلى إتخاذ قرارات سياسية ولم يستغن مسرح بيسكاتور عن التصفيق ولكنه طمع أكثر من ذلك بالنقاش ولم يسع إلى تهيئة تجربة لمشاهدة، وإنما دفعه إلى إتخاذ قرار عملى بالتدخل فى الحياة بنشاط وفى سبيل ذلك لجأ إلى إستخدامه للأفلام السينمائية كوسيلة لتوسيع مجال الحدث وربطه بالظروف التاريخية، وإبراز دلالته السياسية إستخدامه لوسائل أخرى مثل اللافتات والشرائح الزجاجية، والأفلام التسجيلية، فإننا نتبين فى أعماله الأخرى بداية فكرة المسرح الملحمى التى قام برتولت بريشت بعد ذلك بتطويرها لخدمة نفس الهدف السياسى التعليمى الذى بدأه بيسكاتور. ومن خلال إستفادة بيسكاتور من إمكانيات التقدم التكنولوجى فى العرض المسرحى فإنه، كما يقول بريشت حول خشبة المسرح إلى قاعة آلات، وحول صالة العرض إلى قاعة إجتماعات.
كان بيسكاتور مضطراً إلى إبتكار هذه الأساليب حين فشل أن يجد مسرحيات تنطلق من موقف إشتراكى. غير أنه وجد أن الإمكانيات التكنولوجية لمثل هذه العروض التى تتلاءم مع أهداف مسرحه، كانت تتطلب تمويلاً لا يمكن للمسارح الشعبية أن تتحملها لذلك لم يكن أمامه إلا أن يعمل من خلال المسارح البرجوازية. غير أن هذه الأجهزة بدأت تفرض عليه الدخول فى مساومات أيدلوجية، وتنازلات، مما إضطره أخر الأمر إلى التخلص عن عروض مسرحية تستخدم آلات وتكاليف ضخمة، والإتجاه إلى المنظمات العمالية، وكانت هذه تتألف من فرق عمالية بسيطة وفرق هواه تعمل بإمكانيات متواضعة فى مسارح النوادى. وقد أدى إغلاق المسارح البرجوازية الكبيرة فى وجه مثل هذه العروض إلى أن يحاول فنان المسرح أن يلائم بين تقنيات العمل وبين الوسائل المتواضعة المتاحة للفرق العمالية كان هذا هو الدور الذى كان على بوتولت بريشت أن يستكمله فى مسرحه الملحمى.
إن مسرح بريشت مرتب بمقدره فائقة للحد الذى يحاول فيه أرباب الفن أن يقيموا الدليل على وجود تناقض بينه وبين المسرح السياسى والحق أن مسرح بريشت قد وصل إلى تفوقه الفنى وإستطاع أن يخرج الحقائق السياسية إلى النور، كما إنه يكرس كل ذكائه لإزالة التناقض ولبناء مجتمع رجال سياسة الكوارث.
والحقيقة أن بريخت قد وجد الشكل الدرامى عاجزاً عن توصيل أية رسالة سياسية بشكل يضمن إستفزاز المتفرج، وتحريضه على أن يكون إيجابياً فى العمل لتغير الواقع الإجتماعى. إن المسرح الملحمى يعترض على إثارة الشفقة والرهبة فى نفس المتفرج، بقصد تطهير عواطفه وعلى جذب المتفرج داخل الحدث بحيث يتوحد مع البطل وينسى ذاته نسياناً تاماً، وعلى إثارة الإيهام بواقعية الأحداث فى نفس المتفرج كوسيلة لتحقيق هذين الهدفين فهو يرى أن المتفرج فى مثل هذه الدراما التقليدية، يفقد القدرة على التفكير فيما يجرى أمامه، يسلب القدرة على مواجهة المشاكل السياسية وحلها بشكل مغال يقضى على أصل المشكلة المطروحة.
كان هدف “بريشت” الأول أن يجعل المتفرج يرمى العالم الحقيقى، ويفهمه أن يجعله يفهم كيف تدور الحياة فى المجتمع الرأسمالى المعاصر بحيث يسعى إلى تغييره. كانت هذه هى الرسالة السياسية التى كرس لها مسرحه الملحمى وهاجم “بريشت” فكرة الإيهام فى الدراما التقليدية فالمسرح لابد من أن يحاول تحطيم أى إيهام بالحقيقة. ولذلك لابد من أن يكون واضحاً لدى المتفرج أنه لا يشاهد أحداثاً واقعية تجرى أمام عينيه ذلك لأنه بصدد مسرح سياسى ينقل رسالة على المتفرج أن يستوعبها من خلال الإنفصال من الشخصيات والأحداث، لا التوحد معها، وعلى المخرج أن يحاول بكل الوسائل خلق التأثيرات التى تحافظ على إنفصال الجمهور وتغريبه عن الحدث.
المسرح الملحمى عكس المسرح التقليدى، ينقلنا إلى عالم الحكايات البعيدة، عالم السرد التاريخى الملحمى. فمن الشائع عندنا أن نتكلم عن أساليب التغريب، ونعنى بها المسرح الملحمى، أما التغريب فليس فى حقيقة الأمر سوى وسيلة لسرد ملحمه، ولتصوير الأحداث على أنها حالة تاريخية تنتمى إلى الماضى، وحتى ولو كانت معاصرة. المسرح الملحمى إذن، مسرح سرد تاريخى يحكى لنا قصة والقصة هى تتابع أحداث تكون التجربة الاجتماعية، ونصور التفاعل بين الشخصيات وهذا التفاعل هو الذى يبرز لنا مغزى التجربة الاجتماعية. ومن خلال التركيز على التعبير عن السلوك الإجتماعى لإنسان تجاه أخر. يحول بريشت الإهتمام من حياة الشخصيات الداخلية إلى الطريقة التى تسلك بها تجاه إحداهما الأخرى، أو بمعنى أخر إلى العلاقات الاجتماعية، ومغزاها السياسى.
كان “بريشت” يهدف إلى إستخدام المسرح كوسيلة لخدمة المجتمع، فلقد كان مؤمنا بأن المسرح الملحمى بتركيزه على تصوير الإنسان فى علاقته الاجتماعية، كان قادراً على إيقاظ قدرات المشاهدين لإحداث تغيير فى المجتمع، فهو لا يترك، كما فى المسرح التقليدى للمتفرج أن يستخلص النتائج الممكنة للعرض، بل إنه يزودنا بالخلفية الاجتماعية، ويعلق عليها من خلال الراوى فعن طريق إبقاء المتفرج فى حالة عقلية نقدية تمنعه من رؤية الصراع كلية من وجهه نظر الشخصيات ومن تقبل عواطفها ودوافعها على أنها محكومة بالطبيعة البشرية والمجتمع ولا يمكن تغييرها، يستطيع المسرح أن يجعل المتفرجين يرون التناقضات الموجودة ةداخل المجتمع وأن يجعلهم يسعون لتغييرها.
مع تحيات أ.د أحمد صقر- جامعة الإسكندرية

رواية القوقعة -الحلقة الثانية مصطفى خليفة

16 تشرين الثاني

منذ الصباح يعم ضجيج مكبرات الصوت. أرجاء السجن وما حوله تبث الأناشيد الوطنية والأناشيد التي تمجد رئيس الدولة وتسبغ عليه صفات الحكمة والشجاعة، وتصفه بأوصاف عديدة، فهو المفدى، القائد العظيم، المعلم، المُلهِم… تذكر أفضاله العميمة على جميع أبناء الشعب ، فلولاه لما بزغت الشمس، وهو الذي يمنحنا الهواء لنتنفس ، والماء لنشرب …

نحن السجناء جميعاً نقف في الساحات في صفوف منتظمة، ولأول مرة منذ مجيئي الى هنا سمحوا لنا بالوقوف ضمن الساحة مفتوحي الأعين.

أعطوا واحداً من السجناء ورقة، ومما هو مكتوب عليها يهتف… فنهتف وراءه: بالروح…بالدم سنفدي رئيسنا المحبوب والمعبود!.

لازمني الدكتور زاهي (زاهي عبادي، طبيب من دير الزور، خريج جامعة حلب، معتقل معنا) بعنايته الفائقة، وبلهجة المنطقة الشرقية المحببة كان يشرح لي بما يشبه التقرير الطبي أن وضعي كان خطراً لسببين: الأول أن أذية بالغة قد أصابت إحدى الكليتين وأنني بقيت فترة أتبول دماً. أما الثاني فهو أن مساحة الجلد المتهتك في جسدي قد اقتربت من حد الخطر. وإن تفاوتت النسبة حسب المنطقة. تَهَتَّك جلد الظهر بكامله تقريبا ، قسم من البطن ، الجهة الأمامية من الفخذين، القدمان من الجهتين العلوية والسفلية. أما جلد القدم اليسرى فقد انكشط من الجهة العلوية وبانت العظام.

أخبرني زاهي أنني بقيت ستة أيام غائباً عن الوعي ومعلقاً بين الحياة والموت، كان الملح هو المادة المعقمة الوحيدة المتوفرة، بالملح عالجني الشيخ زاهي، كما كان يحب أن ينادى متنازلا عن لقب دكتور بكل طيبة خاطر وكان يشربني الماء وقليلا من المربى المذاب والمخفف بالماء.

وكما شرح لي وضعي الصحي فإنه أخبرني عن المعلومات التي وصلتهم من المهاجع الأخرى والتي تقول إن عدد أفراد دفعتنا كان / 91 / شخصاً، قتل منهم ثلاثة في الساحة الأولى أثناء الاستقبال وهؤلاء لم يدخلوهم إلى المهاجع، وخلال فترة غيابي عن الوعي مات عشرة آخرون متأثرين بجروحهم وإصاباتهم البليغة، واثنان من الدفعة أصيبا بشلل دائم نتيجة أذى كبير بالعمود الفقري، واحد فقط أصبح أعمى بعد أن تلقى ضربة كرباج فقأت عينيه، وبعد أن انتهى زاهي من سرد هذه المعلومات قال:

-والحمد لله على سلامتك .. احمد الله يا أخوي احمده.. و رغم أن الصلاة ممنوعة بس أنت تقدر تصلي سراً ركعتين لوجه الله !.

الحلاقة

وقف رئيس المهجع في الصباح وقال مخاطباً الناس في المهجع:

-يا إخوان .. اليوم دورنا بالحلاقة، اصبروا وصابروا، سيعيننا الله .. احملوا المرضى ويللي ما بيحسن يمشي على البطانيات، كل بطانية يحملها أربعة فدائيين … وقدر ما فيكم أسرعوا، السرعة أفضل.. والله يقوينا!

صفان من الشرطة على جانبي الباب، بين الشرطي والآخر حوالي المترين، كل شرطي يحمل كرباجاً، ما أن يصل السجين إلى الباب حتى يبدأ الركض، تتلقاه كرابيج الصف اليميني للشرطة من الأمام، الكرابيج اليسارية تطارده من الخلف، من يتعثر أو يقع .. قد يموت فهو يكون قد كسر التناغم وإيقاع الضرب، يقف الصف من خلفه وتجتمع عليه الكرابيج جميعاً، فإذا كان ذا بنية قوية واستطاع النهوض رغم الكرابيج المنهالة عليه فقد نجا. أما الضعيف فستبقيه الكرابيج لصيقاً بالأرض إلى الأبد.

حوالي الثلاثمائة سجين من مهجعنا ركضوا بسرعة، تلقوا الضربات السريعة والكاوية، اصطفوا في الساحة ووجوههم إلى الحائط وأعينهم مغمضة، نحن المرضى وضعونا في منتصف الساحة.

حلاقة الذقن عملية تشريح أو حراثة للوجه مصحوبة بالبصاق والشتائم، وكان بعضهم يتلذذ بافتعال السعال قبل البصق على وجه السجين كي يكون البصاق مصحوبا بالمخاط !!! وتلتصق بصقة البلديات بالوجه ! ويمنع السجين من مسحها

حلاقة الرأس .. مع كل سحبة ماكينة على الرأس، وبعد أن ينفض البلديات الشعر المحلوق، ضربة قوية بالماكينة نفسها على المكان المحلوق وهو يصر على أسنانه ويشتم.

المهجع

خلال استلقائي أكثر من شهر في هذا الركن أتيح لي أن أعاين وأفهم الكثير من الأشياء والأمور في هذا المهجع الكبير. يبلغ طول المهجع خمسة عشر متراً، وعرضه حوالي ستة أمتار. باب حديدي أسود، في أعلى الجدران نوافذ صغيرة ملاصقة للسقف ومسلحة بقضبان حديدية سميكة، لا يتجاوز عرض النافذة خمسين سنتمتراً وطولها حوالي المتر. أهم ما في المهجع هو الفتحة السقفية، وهي فتحة في منتصف السقف طولها أربعة أمتار وعرضها متران، مسلحة أيضا بقضبان حديدية متينة، هذه الفتحة ويسمونها ” الشراقة ” تتيح للحارس المسلح ببندقية والذي يقف على سطح المهجع أن يراقب ويعاين كل ما يجري داخل المهجع وعلى مدار ساعات الليل والنهار، فوق كل مهجع في السجن الصحراوي حارس مسلح من الشرطة العسكرية.

الطعام

ثلاث مرات في اليوم يفتح الباب الحديدي الأسود لإدخال الطعام، وفي كل مرة يكون الفدائيون واقفين خلف الباب، ما أن يفتح حتى يصبحوا جميعاً بلمح البصر عند الطعام، وبسرعة البرق يحملونه، فدائي واحد لكل جاط برغل، جاط المرق يحمله اثنان، الخبز يكومونه على البطانيات وكل بطانية يحملها أربعة أشخاص، طوال الوقت الذي يستغرقه إدخال الطعام تكون كرابيج الشرطة قد فعلت فعلها، يتفنن عناصر الشرطة ويبتدعون أساليب جديدة:

أمام جاط شوربة العدس الغالي، أمسك الرقيب بالفدائي الذي هَمَّ بحمل الجاط. قال:

-اترك الجاط على الأرض … ولا ….!

ترك السجين الجاط ووقف.

-وهلق … غطس إيديك بالشوربة لشوف!

وخرجت اليدان من الشوربة مسلوختين. وأجبره بعدها أن يحمل الجاط بيديه المسلوختين إلى داخل المهجع. كل بضعة أيام يقتل واحد أو أكثر أثناء إدخال الطعام إلى المهاجع.

الفدائيون

يوجد هنا أناس من كل الأعمار، رجال في الثمانين من عمرهم، فتيان لم يتجاوزوا الخامسة عشر، يوجد مرضى، ضعفاء، ذوو عاهات سواء كانت في الأصل أو حدثت جراء التعذيب.

الفدائيون مجموعة من الشباب الأقوياء ذوي الأجساد المتينة، تطوعوا من تلقاء أنفسهم للقيام بالمهام الخطرة التي تحتاج إلى قوة تحمل أو سرعة، مثل إدخال الطعام إلى المهجع، أو إذا تم ” تعليم ” أحد المرضى أو الشيوخ من قبل الحراس، فإن أحد الفدائيين ينوب عن هذا المريض في تلقي الخمسمائة جلدة، لا يعرف أحد أي مهجع في السجن كان السباق إلى ابتداع هذه الفرقة الفدائية.

سمعت أحد الفدائيين يقول إلى زميله:

-نحن مشروع شهادة.

وهم صادقون في سعيهم إلى الاستشهاد، وقد أنقذت الفرق الفدائية حياة الكثير، وعملهم يتسم بالإخلاص والاندفاع الشديدين النابعين عن إيمان عميق.

الحمّام

نحن في المهجع ستة مرضى لا نذهب إلى الحمام، أنا وزميلي في الدفعة الذي بقي غائباً عن الوعي طوال الفترة التي كنت لا أستطيع الحركة فيها، “وكان قد دخل إلى هذا المهجع من دفعتنا ثلاثة، واحد مات بعد يومين، أنا صحوت بعد ستة أيام، أما الثالث فقد بقي شهرين يتأرجح بين الموت والحياة، صحا بعدها وشفي” وأربعة مشلولون، اثنان منهم بالأصل شلل أطفال ، الثالث أثناء الاستقبال، أما الرابع فقد شل نتيجة التعذيب بـ ” المظلة “.

فتح الباب … خرجنا ركضاً، اثنين اثنين، حولنا من الجانبين الشرطة يحملون الكرابيج التي ترتفع عالياً وتهوي على من تصادفه. الكل حفاة ” كانت قدماي لما تُشْفَ جيدا بعد “، من الساحة السادسة عبرنا ثلاث ساحات أخرى حتى وصلنا الحمام، أدخلونا كل اثنين إلى مقصورة بلا باب، وزعوا الصابون العسكري ضرباً على الرأس.. صياح … شتائم …

“سوف يلغى الحمّام بعد فترة نتيجة اكتظاظ السجن وسيتم تحويله إلى مهجع يوضع فيه المعتقلون الشيوعيون .”

تابع الدكتور زاهي العناية بي وبالمرضى الآخرين، جروحي كلها على وشك الشفاء عدا الجرح على وجه القدم اليسرى، ونتيجة لأن عظام مشط القدم قد بانت بعد انكشاط الجلد عنها فقد خشي الدكتور زاهي من مضاعفات أخرى، حضر مرة ومعه شخص آخر وعرّف به على أنه طبيب أخصائي جلدية، وقد أخبرني هذا الطبيب أن بمهجعنا فقط يوجد ثلاثة وعشرون طبيباً من مختلف الاختصاصات.

الصلاة

الصلاة ممنوعة منعاً باتاً بأوامر مدير السجن. عقوبة من يقبض عليه متلبسا بجرم الصلاة هي ” الموت “، رغم ذلك فإنهم لم يكونوا يفوّتون صلاة واحدة. ولكن هنا الإنسان يصلي وهو جالس في مكانه أو في أي وضعية أخرى. إدارة السجن عرفت هذا أيضاً، ويتناقلون حديثاً لمدير السجن قاله أمام السجناء الشيوعيين، ودائماً حديث مدير السجن أشبه ما يكون بالمحاضرات أو الخطب، خاطب الشيوعيين قائلاً:

-هؤلاء الكلاب … الإخوان المسلمون، البارحة فقط أمضيت أكثر من نصف ساعة وأنا أشرح لهم وأفهمهم أن القومية أهم من الدين، ولكن هل تتصورون أنهم اليوم عادوا يصلّون !!! عجيب أمر هؤلاء الناس !!

الاتصال

جميع المهاجع ملتصقة ببعضها، من اليمين واليسار، وأحياناً من الخلف أيضاً، وهذا الأمر سهّل الاتصال بين السجناء، ويكون ذلك بالدق على الحائط حسب طريقة مورس، دقة على الحائط … دقتان … دقة قوية ودقة ضعيفة….

كل ما يجري داخل السجن: الدفعات الجديدة، من مات، عدد الذين أعدموا وأسماؤهم، الأخبار خارج السجن والتي ينقلها السجناء الذين جاؤوا حديثاً، كل هذه الأشياء كانت تنتقل عبر المهاجع وفي كل مهجع مجموعة مخصصة لتلقي وإرسال تلك الرموز، تقف خلفهم مجموعة الحفظة.

بدأ الحفظ منذ بداية “المحنة” كما يسميها الإسلاميون، كان الشيوخ الكبار يجلسون ويتلون آياتِ القرآن على مجموعة من الشباب، وهؤلاء يظلون يكررونها حتى يحفظوها، لم يبق أحد في المهجع إلا وحفظ القرآن من أول حرف إلى آخر حرف، ومع كل دفعة جديدة كانت تبدأ دورة جديدة، ولاحقاً تطور الأمر باتجاه آخر، يتم انتقاء مجموعة من الشباب صغار السن يحفظون إضافة الى القرآن وأحاديث النبي محمد … ما يمكن تسميته بسجل السجن، أسماء كل من دخل هذا السجن من الحركات الإسلامية. “في مهجعنا شاب لم يبلغ العشرين من عمره، يحفظ أكثر من ثلاثة آلاف اسم، اسم السجين، اسم مدينته أو بلدته، قريته، تاريخ دخوله السجن … مصيره!!.” بعضهم متخصص بالإعدامات والقتل، وهم يسمون كل من يقتل أو يعدم في السجن شهيداً، وهذا سجل الشهداء. أيضا يحفظون الاسم، عنوان الأهل، تاريخ الإعدام أو القتل.

شجاعتهم أسطورية في مواجهة التعذيب والموت، وخاصةً لدى فرق الفدائيين، وقد رأيت أناساً منهم كانوا يفرحون فرحاً حقيقياً وهم ذاهبون للإعدام. لاأعتقد أن مثل هذه الشجاعة يمكن أن توجد في مكان أخر أو لدى مجموعة بشرية أخرى.

وسط هذه الصحراء المترامية، لا توجد فصول أربعة، فقط فصلان، صيف وشتاء، ولا ندري أيهما أشد قسوة من الآخر.

-نحن الآن في عز الصيف. الجو لاهب. سمعت بعضهم ممن يعرف المنطقة سابقاً يقول إن درجة الحرارة قد تصل الخمسين أو حتى ستين درجة مئوية في الخارج، وفي الظل داخل المهجع لا تقل عن الخمسة وأربعين درجة مئوية.

بعض كبار السن قَضَوا اختناقا، رئيس المهجع يدق الباب ويخبر الشرطة بموت أحدهم، يفتحون الباب، ويبدو صوت الشرطي سائلاً من شدة الحرارة:

-وين هادا الفطسان ؟… يالله … زتُّوه لبرّه.

أما اليوم الشتائي فهو يوم منكمش، ثياب الجميع قد تهرأت ولا يمكن أن تقي من البرد الصحراوي الحاد الذي ينخر العظام ويجمد المفاصل. أحد القادمين الجدد إلى المهجع كان أهله أغنياء جدا، وقد استطاعوا زيارته أثناء وجوده في فرع المخابرات بعد أن دفعوا ما يوازي ثروة صغيرة كرشوة إلى الضابط المسؤول، وهناك من نصحهم بأن يأخذوا لابنهم الكثير من الثياب. “جلب معه أكثر من مائة غيار داخلي، كان نصيبي منها سروالاً داخلياً، أعطاني إياه رئيس المهجع:

-خود هذا …. مشان يكون عندك بدل!

أما مشكلة القمل فتكون أصعب في اليوم الشتائي، فلا حل للقمل المنتشر بكثافة في جميع المهاجع إلا أن تجلس وتخلع كل ثيابك وتبدأ بالتفتيش عنه في ثنايا الثياب. الجميع هنا يفعل ذلك.

جافاني النوم. مددت البطانية كالعادة وتمددت. الواحدة بعد منتصف الليل مللت الاضطجاع بعد أن آلمتني أجنابي، جلست ولففت نفسي بالبطانيات، خمس دقائق وصوت الحارس من خلال الشراقة:

-يا رئيس المهجع .. يا حمار.

-نعم سيدي.

-علّملي هالتيس القاعد جنبك.

-حاضر سيدي.

لقد علمني. تمددت فورا، غداً صباحاً سيكون فطوري خمسمائة جلدة بقشاط مروحة الدبابة على قدمي! إن قدمي التي أصيبت شفيت تماما مع ندب طويل ولكنها كانت تؤلمني دائماً في أيام البرد فألفّها أكثر من غيرها، كنت أحلم بزوج من الجوارب الصوفية! أحد أحلامي الصغيرة. ماذا سيكون مصير هذه القدم المسكينة عندما تتلقى خمسمائة جلدة؟ وعندما فتح الباب وصاح الشرطي برئيس المهجع ليخرج الأشخاص الذين تم تعليمهم، قفزت واقفاً، ولكن رئيس المهجع وبسرعة قال:

– مكانك، لا تتحرك، واحد من الشباب طلع بدلا منك.

ذهلت، واحد من الفدائيين، واحد من المتشددين الإسلاميين يفديني الآن بنفسه ويتلقى عني خمسمائة جلدة!!

التنفس

في السجون الأخرى التنفس هو حيز زمني يخرج فيه السجين من مهجعه إلى ساحة هواؤها نقي، يأخذ حاجته من الهواء والشمس والحركة.

هنا … قبل التنفس يكون السجناء في المهجع قد انتظموا في طابور، تفتح الشرطة الباب، يخرج الطابور بخطوات بطيئة، الرؤوس منكسة إلى الأسفل، العيون مغمضة، كل سجين يمسك بثياب الذي أمامه، عناصر الشرطة والبلديات يحيطون بالساحة وينتشرون بها بكثافة.

الاثنين والخميس يومان مختلفان عن بقية أيام الأسبوع هنا. في هذين اليومين تتم الإعدامات، لذلك عندما نخرج للتنفس في هذين اليومين تكون كمية التعذيب والضرب أكثر، وفي التنفس يكون الضرب غالباً على الرأس:

-يا كلب… ليش عم ترفع راسك؟!

ويهوي الكرباج على الرأس.

يصرخ الرقيب:

– يا حقير… أنت أنت يا طويل… أطول واحد بالصف، تعال هون…

يركض أحد البلديات ويجر أطول واحد بيننا، الرقيب جالس يضع رِجلاً على رجل، يقول:

– يا حقير .. أنت بني آدم ولا زرافة؟

يضحك المتجمعون حوله بصخب، يتابع الرقيب:

– وهلق … اركض حول الساحة خمس دورات وطالع صوت متل صوت الزرافة … يالله بسرعة. يركض السجين ويصدر أصواتاً، لا أحد يعرف كيف هو صوت الزرافة، أعتقد حتى ولا الرقيب نفسه، يدور السجين خمس مرات، يتوقف، يقول الرقيب:

– ولا حقير … هلق بدك تنهق متل الحمار!

ينهق السجين الطويل. تضحك الشرطة.

– ولا حقير… هلق بدك تعوي متل الكلب!

يعوي السجين الطويل. تضحك الشرطة. يضحك الرقيب وهو يهتز. ثم يلتفت إلى رتل السجناء الذي يسير منكس الرؤوس ومغمض العينين، يصيح:

– ولا حقير… أنت أنت… أقصر واحد بالصف ، تعال هون.

يركض أحد البلديات، يجر أقصر واحد بالرتل. شاب صغير لا يتجاوز الخامسة عشر، يقف أمام الرقيب الذي يضحك ويقول:

– ولا حقير… يا زْمِكّ … وقف قدام هالكلب الطويل.

يقف السجين القصير أمام السجين الطويل، يصرخ الرقيب:

– ولا حقير … يا طويل … هلق بدك تعوي وتعض هالكلب يللي قدامك وبدك تشيل قطعة من كتفه، وإذا ما شلت هـ القطعة … ألف كرباج.

– وهلق … انتوا الاثنين اشلحوا تيابكم.

يخلع الاثنان ثيابهما ويبقيان بالسراويل.

– ولا حقير قصير… نزل سرواله.

ينزل القصير سروال الطويل الى حد الركبتين.

– ونزل سروالك كمان. (ينزل القصير سرواله أيضا).

– وهلق …… اعمل فيه ….(يتلكأ القصير، يشير الرقيب إلى أحد عناصر الشرطة، يقترب هذا ويهوي بالكرباج على ظهر القصير… يجلس الرقيب ، يصيح وهو ينظر إلى الرتل الذي يسير برؤوس منكسة وعيون مغمضة):

– جيبوا لي هـ البغل … السمين.

يأتون برجل أربعيني بدين، يعرف الرقيب منه اسمه واسم مدينته، كم أمضى في السجن … وتفاصيل أخرى، ثم يسأله:

– أنت متزوج ولاّ أعزب؟

– متزوج سيدي.

– أنت بتعرف شو عم تساوي زوجتك هلق … ولا … أنا بقول لك، أنت صار لك ثلاث سنين في السجن …. وهي كل يوم مع واحد جديد.

– السجين ساكت، منكس الرأس مغمض العينين…

تمضي الأيام، يتبدل الرقباء، لكن الأساليب تبقى نفسها …

” كنت أتساءل : هل هي تسلية فقط أم أنها نهج مدروس الغاية منه تحطيم الإنسان وإذلاله من خلال المرأة باعتبارها أعلى قيم الشرف لدى المسلمين؟!…”

لأنهم قالوا: لا مذكرات سجنية الحلقة الثانية

السلام عليكم

-1-

        الاضطهاد وما يتبعه، وما قد يتبعه، جزء من نظام “حزب البعث العربي الاشتراكي” الذي ابتلي به قطرنا السوري، وانخدع به بعض الناس فترة من الزمن، ولا يزال بعضهم مخدوعاً به.

        من توابع الاضطهاد في قطرنا: الاعتقال لأهل الرأي، والتعذيب الوحشي بدنياً ونفسياً، بل الاعتقال كذلك لزائري القطر من سيّاح وغيرهم!… وانتشار الرشوة على المستويات كافّة، ونشر الرذيلة، وتكميم الأفواه، واحتكار الإعلام، ومنع تشكيل الأحزاب السياسية والجمعيات الثقافية والنوادي… إلا ما ينام على يد السلطة ويأتمر بأمرها ويسبّح بحمدها!. والتمييز والتسلط الفئويّان والطائفيان، وممارسة ألوانٍ من الظلم. منها ما يشمل الشعب كله أو معظمه، ومنها ما يخصّ فئات معينة كالإسلاميين والأكراد والتنظيمات التي لا تسير في فلك السلطة، كبعض أجنحة البعث الخارجة عن الطاعة! وكثير من التنظيمات الفلسطينية….

-2-

        الفترة التي أتحدث عنها في هذا الكتاب هي الفترة الممتدة من 6/4/1973 إلى 7/4/1977، وهذه الفترة هي جزء من الحقبة الكئيبة التي أقعى فيها حافظ أسد على صدر الشعب، بأجهزته “الأمنية” وبالأشقياء من أبناء طائفته وغيرهم، وأبعد المعارضين له والمناوئين والشرفاء، سواء أكانوا من أبناء الطائفة أم من غيرها… أي أنه مكّن جزءاً يسيراً، من الحثالات، وأقصى جماهير الشعب، وفرض وصاية التُّحوت على الوعول!.

        قضيت الفترة المذكورة في عددٍ من السجون:

1- من 6/4/1973 وحتى 6/9/1973 (تقريباً) في فرع مخابرات حلب، المعروف باسم سجن أمن الدولة، وكان رئيس الفرع آنذاك محمد خير دياب، ونائبه محمد سعيد بخيتان، والمحقق عبد القادر حيزة، وأبرز الجلادين والسجانين: جاسم وشيخو وأبو حميد…

2- ومن 6/9/1973 وحتى 6/10/1975 في فرع الحلبوني.

3- ومن 6/10/1975 وحتى 7/4/1977 في سجن حلب المركزي.

        وكان وصولي إلى سجن حلب المركزي في ليلة عيد الفطر. وفي صباح العيد تم الإفراج عن الإخوة الثلاثة الذين نقلوا معي، وكانت الإشاعات قد تحدثت عن تلك الإفراجات مسبقاً، ولا شكَّ أنَّ أهلي -كأهالي المعتقلين الآخرين- تعلقوا بهذه الإشاعات، وبنوا عليها الآمال. لكن السلطة الحاقدة خيبت أمل أهلي، فبقيت بعد هذا التاريخ ثمانية عشر شهراً أخرى!. لقد امتدت فترة السجن إلى أربع سنوات، قضيت أكثر من نصفها في فرع الحلبوني.

-3-

        كان السجن لي مدرسةً عرفت فيها نفسي، وعرفت شرائح مختلفة من البشر: من الإخوان، ومن الإسلاميين الآخرين (وبخاصة أعضاء حزب التحرير)، ومن الفلسطينيين (من فتح والجبهة الشعبية وغيرهما)، ومن البعثيين الذين انشقّ عنهم حافظ، أقصد اليمينيين جماعة أمين الحافظ، واليساريين جماعة صلاح جديد… فضلاً عن أفراد من هنا وهناك، من التنظيمات الكردية، ومن أصحاب انتماءاتٍ مختلفة، ومن أناس غير سوريين: عراقيين وأردنيين وبريطانيين وكنديين وإسبانيين…

        وعرفت فيها أزلام السلطة وأجراءها، من ضباط مخابرات، ومحققين وجلادين… وضباط شرطة وأفراد شرطة (في سجن حلب المركزي)…

-4-

        الصفة العامة لمعظم ضباط المخابرات والمحققين الذين عرفتهم، أنهم قليلو الذكاء، ضعيفو الضمير، محدودو الثقافة، جفاة الطبع، منحدرو الأخلاق… ولا تخلو القاعدة من شذوذات يسيرة، فقد تجد الذكي ولو نسبياً، ومن عنده بقية من أخلاق!.

        أما السجانون والجلادون فيتّسمون عادة بالغباء والمحدودية، وبضعف الثقافة بل الأمّية أحياناً. ويصطرع في نفوسهم أثر التربية البيتية، والانتماء إلى شعبنا الطيب، والجهل، والتوجيهات الحاقدة اللئيمة التي يتلَّقونها من رؤسائهم…

        أما المعتقلون فهم يمثّلون شرائح متباينة جداً. وكثير منهم ينحاز، بعد أن يرى الظلم والسوء، إلى دينه وفطرته، ويتوجّه إلى الله بالعبادة…

        ومعظم الأجانب الغربيين الذين كنا نلتقيهم في السجن، يُعربون عن نيّاتهم بفضح “النظام” الذي سجنهم، وشَرْح الظلم الذي شاهدوه أو طُبِّق عليهم، أمام حكوماتهم وأمام وسائل الإعلام، وأمام منظمات حقوق الإنسان!.

-5-

        وقد حاولت تحرّي الدقة والموضوعية فيما كتبت، ولم أمتنع عن ذكر إيجابية رأيتها من محقق أو سجّان، على قلّة ما رأيت… فالنفس البشرية لا تتمحَّض للشر، لكنَّ شرّها يتكاثر أحياناً ويطغى حتى يكاد يغطّي كل خير!.

        وقد تخونني الذاكرة فأهمل كثيراً من التفصيلات.

        ومع أني تحرّيت الكتابة بالعربية الفصيحة، فقد تساهلت مرّات بذكر كلماتٍ لها وقع في النفوس، عاميةٍ أو أعجمية!.

-6-

        ولا يفوتني أن أذكر أنَّ الظلم الذي لقيته، على فداحته، لا يُعَدُّ شيئاً أمام الحقبة التي كانت بعد عام 1979، لا سيما في سجن تدمر، وفي السجون المؤقتة التي أنشئت في مدرسة المدفعية بحلب، أو في حماة، في شباط 1982…

        كما أنَّ سجن المخابرات العسكرية في حلب، حي السريان، وسجن فرع فلسطين في دمشق، وسجن الآمرية الجوية… تعجّ بألوانٍ من الظلم والقهر والتعذيب البدني والنفسي لا يعرفها إبليس!.

        ومن المناسب أن نشير إلى بعض الكتب التي تتحدث عن حقبة ما بعد 1979، بما فيها حقبة ما بعد 2000م!. فمن هذه الكتب: “تدمر شاهد ومشهود”، “خمس دقائق وحسب” و”تدمر.. المجزرة المستمرّة” ومقالات الرياضي العراقي البريطاني هلال عبد الرزاق علي في جريدة القدس العربي، ومقالات الدكتور هشام الشامي على المواقع الالكترونية وغيرها.

لقطات من البداية

كانت البداية في يوم السادس من نيسان عام 1973م، في يوم جمعة وقت أذان العصر، وكنتُ وقتها في ورشة بناء صوامع الحبوب بجوار مدينة الرقة، حيث كنت المهندس المسؤول عن ذلك الموقع من جهة الدولة.

توقفت بجواري سيارة (لاندروفر) وترجّل منها ثلاثة. أحدهم هو أكبرهم سناً، في مطلع الأربعينيات من عمره، منظره مقبول، أسمر، ذو كرش، لباسه أنيق… قدّم لي نفسه أنه ضابط مخابرات. عرفتُ فيما بعد، أنه عبد القادر حيزة، المحقق. وفهمت أن الاثنين الآخرين مرافقان، وأحدهما هو سائق السيارة.

بادر المرافقان وقالا لسيدهما: سيدي، أنفتِّشُه؟ قال: “لا. لا حاجة. الإخوان المسلمون لا يحملون سلاحاً”.

إذاً جاء يعتقلني بصفتي عضواً في جماعة الإخوان المسلمين، وهو يشهد أن الإخوان المسلمين لا يحملون سلاحاًَ. وبالمناسبة فقد بقيت معتقلاً حتى يوم 7/4/1977 أي مدة أربع سنين كاملة!.

دخل إلى البيت الذي أسكنه في الورشة، ولم يكن تفتيش هذا البيت عملية معقدة، فالبيت شبه فارغ! لكنه وجد على الطاولة دفتر جيب صغيراً. وضعت قلبي على كفّي، كما يقال، حذراً من أن يسألني عن حل ألغاز ما في الدفتر، فقد كان فيه مواعيد لقاءاتي التنظيمية، مكتوبة برموز وأرقام، لا يحلّها غيري.

قلّب أوراق الدفتر ثم رماه، وقال: إنه دفتر حسابات!.

قال لي: إنك مطلوب إلى فرع المخابرات في حلب، للتحقيق معك في بعض الأمور.

قلت: لكنّ معي زوجتي وطفلتي، ولا يمكن أن أتركهما هنا، ألا يمكن أن آخذهما في السيارة إلى حلب؟ قال: لا، ولكن نوصلهما إلى منطلق سيارات “التاكسي” المسافرة إلى حلب!.

في منطلق السيارات وجدنا سيارة تحتاج إلى راكبين، دفعت أجرة راكبين حتى لا يضايق زوجتي أحد، وأوصى المحقق “حيزة” سائق السيارة: “هذه السيدة ستسافر معك إلى حلب، لسبب يهمّ الدولة. عليك أن توصلها إلى بيت أهلها. وإذا أصابها مكروه فلا تلومَنَّ إلا نفسك! أسمعت؟!”.

قال السائق: نعم سيدي. إنها أمانة في عنقي.

وتأكيداً لجدّية الأمر فقد سجّل حيزة رقم السيارة على ورقة عنده.

وقد بقيتُ في قلق وتوجُّس مع هذا كله، فليس من شأن زوجتي أن تذهب في سيارةٍ مع سائقٍ غريب ضمن مدينة حلب نفسها، فكيف بسفرها مسافة 150 كيلومتراً؟!. ولكن لم يكن أمامي خيار آخر، فأنا معتقل بيد من لا يرحمون. سلَّمتُ الأمر إلى الله، وقرأت بعض الآيات الكريمة والأدعية، رجاء أن يحفظ الله الزوجة وطفلتها.

مضت بنا السيارة إلى فرع مخابرات “الطبْقة”. بقينا هناك مدة ساعتين أو أكثر، وُضعت فيها في غرفة وحدي. أما المحقق فقد قعد في مكان آخر، وأظنّه كان يتسامر مع زملائه.

مرّة أخرى مضت بنا السيارة نحو حلب. دخلنا فرع المخابرات العامة هناك، الذي يسمى أحياناً (بناية العدّاس) أو (مدرسة نابلس) إذ يقال: إن المبنى كان يملكه أحد الأثرياء من آل العدّاس، وصادرته الدولة، وجعلته مدرسةً باسم ثانوية نابلس، ثم وجدتْ أن الأنفع للمجتمع أن يصير فرعاً للمخابرات فصار!.

يبدأ الدخول بدرج نازل إلى القبو، بنحو عشرين درجة متوالية، نصفها تقريباً يقع خارج باب القبو ونصفها الثاني بعد الباب.

ينتهي الدرج ببهو صغير فيه طاولة صغيرة، خلفها كرسي، يجلس عليه عادة أحد السجانين، وفيه كذلك سرير ينام عليه السجّان المناوب.

في هذا البهو كان في استقبالي مجموعة من “الأشخاص” بعضهم ممّن (إذا رأيتهم تُعجبك أجسامُهم) وبعضهم ليس كذلك.

كان أجملُهم هيئةً: قصيرَ القامة نسبياً، أبيض البشرة، أنيق الملبس، لكنه، كما تبيّن بعدئذ، أكثرهم حقارة وسفاهةً، وأسوؤهم أدباً… إنه رئيس الفرع م خير دياب، وكان برتبة نقيب. ولأن رئيس الفرع موجود، فطاقم الجلاوزة كله موجود، وسوف يتبارى في إثبات الجدارة أمام “المعلم”، وهو اللقب الذي يطلقونه على رئيس الفرع!.

وكان الثاني طويل القامة؛ يلبس بدلة رمادية مخططة، هيئتهُ تشير إلى أنه من أصول بدوية، وحين نظرت في وجهه بادرني بالكلام: ألا تعرفني؟! قلت: لا أدري، ربما تقابلنا مرةً ما! قال: أنا أراقبك منذ ستة أشهر، وأعرف عنك كل شيء: من زارك في هذه المدة، ومن قابلك، ومن زرتَ أنت…

تشكّكتُ في كلامه، وتبيّن لي فعلاً أنه كان يكذب عليّ، كما هو شأن هذا الصنف من الناس، ليوحي إليّ أنه لا فائدة من إنكار شيء!. فكل شيء عنك معروف لدينا.

وعرفت بعدئذ أنه الملازم أول محمد سعيد بخيتان، نائب رئيس الفرع (الذي أصبح في عهد بشار أسد عضو قيادة قطرية).

وكان في البهو “شخصان” آخران، سأتحدث عنهما في فصل آخر، إن شاء الله، وهما السجّانان: شيخو وأبو حميد.

قام أحد السجّانين بتفتيشي، صادر مني “ساعة اليد” والمفاتيح، والمشط والهوية… وسئلت عن معلوماتي الشخصية، ثم قادوني إلى غرفة التحقيق.

في الحقيقة هما غرفتان. غرفة خارجية، يُدخل إليها من ممرّ طوله نحو 6 أمتار وعرضه حوالي 1.40 م، والغرفة نفسها كبيرة نسبياً، أبعادها حوالي 4.5× 5.5م، وهي غرفة جرداء، ليس لها أي نافذة، وليس فيها أي شيء من قطع الأثاث، سوى دولاب، أي إطار سيارة ركّاب، وحزمة من الخيزرانات، وجهاز لاسلكي صغير علمتُ بعدئذ أنه يستعمل في التعذيب بالكهرباء!.

وهذه الغرفة هي غرفة التعذيب.

أما الغرفة الثانية فهي غرفة التحقيق، وهي غرفة أصغر من الأولى، يُدخل إليها من الغرفة الأولى. أبعادها حوالي 2.5×3م، ولها شباك مقابل بابها. فيها طاولة مكتب، وعلى الطاولة جهازان للهاتف.

كان النقيب دياب هو الذي باشر التحقيق، وكان يناوب بين القعود خلف الطاولة، وبين مغادرة الطاولة لأجل “القيام بالواجب”. أما الآخرون فكانوا يكملون الدور، فالجلادان بأيديهما الخيزران، فهما لا يقصّران في الضرب اللاسع، والصفع والشتم والتهديد، وبخيتان يرمي بعض الكلمات بين حين وآخر من أجل المزيد من الاستدراج.

وكان النقيب أفحشهم بذاءةً، وأكثرهم قسوة، لكنه لم يكن أكثرهم ذكاء.

وراحوا ينقّلونني بين غرفة التعذيب وغرفة التحقيق، وقد جرّدوني من ملابسي، إلا ما يستر العورة الغليظة، ويسلّطون عليّ أنواع التعذيب من لسعات الخيزران على أنحاء جسمي كافّة، وهزّات الكهرباء الفظيعة.

أما لسعات الخيزران فقد كانت تؤلمني مثل الكيّ بالنار، وقد تكسَّرت بين أيديهم مجموعة من الخيزرانات، فكانوا يستبدلون بها خيزرانات جديدة، وأشهد أنهم لم يطالبوني بثمن الخيزرانات التي تكسَّرت على جسدي.

لقد سال الدم من أماكن مختلفة، جرّاء الضرب المبرّح، وكانت بعض الضربات قوية فخلّفت خطوطاً أو بقعاً داكنة، بعضها بقي ظاهراً على ساقيّ أو على ظهري أكثر من سنة. وبعضها ما يزال ظاهراً، بعد مضيّ أكثر من ثلث قرن!!.

ولا أدري عدد الضربات التي تعرَّضت لها، لكنني، ومن خلال خبراتي التي كوّنتها فيما بعد، أقدِّر أنها لا تقل عن ثلاثمئة!.

أما الصعقات الكهربائية فهي شيء مختلف. يمسك الطاغية الكبير جهاز اللاسلكي بيده، ويساعده الجلاد بأن يلفّ مقدمة كل من السلكين المتصلين بالجهاز، حول أصابع قدميّ. وللجهاز ذراع صغيرة ومقبض، فإذا أدار الطاغية الذراع انطلق تيار كهربائي، وانطلق معه صوت الضحية بصراخ قوي، من غير شعور أو قصد.

وقد وجدت من نفسي، ومن غيري في أوقات أخرى، أنَّ الضحية قد يملك التحمل وضبط النفس وكتمان الصوت أمام لسعات الخيزران مع ألمها الشديد، أمّا عند التعرّض لهزّات الكهرباء فلا يملك أحد كتمان الصوت، فإن صراخَه قسري، لا إرادة له به.

ومعظم ما يتلقّاه الضحية من تعذيب، بالخيزرانة أو بالكهرباء، يتلقّاه وهو محشور في الدولاب، فخذاه ملتصقتان ببطنه، والدولاب هو الذي يشدّ الفخذين إلى البطن، والضحية ملقى على الأرض، وتتناوشه اللسعات والضربات والهزّات الكهربائية من كل جانب، ويتلقى الشتائم والبذاءات من أشاوس البعث القائد.

وفي حوالي الساعة الثانية ليلاً أو الثالثة غادرني فريق التحقيق، وبقيت في غرفة التحقيق عارياً كما ذكرت (أو شبه عارٍ)، لكنهم قبل أن يغادروا طلبوا مني أن أبقى واقفاً على قدمي ولا أجلس.

وكيف عرفتُ الوقت، ولو بشكل تقريبي؟! لقد سمعت أذان الفجر، الذي جاءني من أحد المساجد القريبة نسبياً، عبر نافذة غرفة التحقيق. وحين سمعته كان قد مضى على ذهاب “الفريق العتيد” نحو ساعتين.

وفي الصباح، ربما في الساعة الثامنة جاءني الجلاد أبو حميد فرآني قائماً، وآثار التعذيب تملأ جسدي، ولعله أشفق على حالي. قال لي: بعد قليل سيأتي المحقق، فإذا سألك عن حالك قل له: “إن السجّان لم يتركني. ما زال يذهب ويأتي ويضربني”. فعلمتُ أنَّ أبا حميد هذا مجرد موظف لا يهمُّه أن يعذبني، بل يريد أن يكسب رضا “أسياده” بأن يظهر أمامهم ظالماً قاسي القلب..

ومرّ النهار ولم يحققوا معي بل نقلوني إلى إحدى الزنازين، وحين طلبتُ ثيابي التي بقيت في غرفة التعذيب فأحضروها إلي.. ولكن بعد أن سرقوا بعض ما فيها من نقود، فقد كان في أحد الجيوب راتبي الذي قبضته قبل أيام قليلة!.

ولكنّ التعذيب لم يتوقف في الزنزانة، بل أخذ شكلاً آخر، إنه التعذيب النفسي: إهانات وتحطيم للكرامة. فقد أوجبوا عليّ أن أبقى واقفاً على قدمٍ واحدة! وأحمل الدولاب ذاته، أضمّه في رأسي وأسنده على كتفي. وحتى  يطمئنّ السجّان إلى حُسْن التنفيذ، ويزيد في العذاب النفسي، كان يمرّ بجانب الزنزانة بشكل غير منتظم: كل دقيقتين، أو كل ربع ساعة، فيفتح “الطاقة” ليراني في الوضع النظامي، أو يكتفي بالضرب على الباب المعدني ضربة قوية لأرتعب من مفاجأتها. يستخدم في الضرب على الباب قبضة يده، أو حذاءه، أو الخيزرانة….

لقد مضى عليّ أكثر من 24 ساعة في الاعتقال، ولم يدخل إلى جسمي لقمة طعام أو نقطة ماء، بل اكتفوا بالغذاء المذكور: الضرب والشتم والصدمات الكهربائية…

أما في المساء، فكما كان يقول أحد السجناء: جاء الليل وجاء الويل، فقد عاد النقيب والجلادان لإقامة “حفلة تعذيب” جديدة، لاستكمال التحقيق، لكن هذه الحفلة.. والحق يقال.. كانت أخفّ وأقصر من الحفلة الأولى، فقد كانت مدتها حوالي ثلثي مدة الحفلة الأولى، وكان عدد لسعات الخيزرانات، وصعقات الكهرباء كذلك حوالي ثلثي ما حوته الحفلة الأولى.

وحتى لا يظنّ أني لم أذق الطعام بعد، أذكر أنه بعد مضيّ الأربع والعشرين ساعة الأولى، كنت في الزنزانة الصغيرة، وكان موقعها استراتيجياً، فهي أمام دورة المياه تماماً! ولا يفصل بينهما سوى ممر بعرض متر واحد، فكان السجناء جميعاً يمرُّون أمامها عند قضاء الحاجة، وكان يسمح لهم بذلك مرتين يومياً، وكان السجن بكامله محجوزاً لحسابنا في تلك الأيام نحن أبناء جماعة الإخوان المسلمين، وقد تمكن أحد الإخوان من استغفال السجّان الذي يراقب الحركة، ففتح عليّ “الطاقة” ورمى إليّ برغيف وقطعة جبن.

وحين جاء دوري لقضاء الحاجة ثم استعمال المغسلة، تمكنت من شرب بعض الماء.

لقد كانت الأسئلة التي يوجهها المحقق إليّ تدور حول التنظيم: متى دخلت التنظيم؟ ما موقعكُ فيه؟ من نظّمك؟ ما بِنْيةُ التنظيم وما هيكليّته؟ ما المناهج التي تدرسونها؟!,,,

فضلاً عن عُروضٍ “للتعاون” مع أجهزة الأمن “لمصلحة الوطن”!.

أدب السجون المغربي (2/2)

إن إحدى محن السجن فضلا عن سلبه الحرية، العزلة( السجن الانفرادي).ومادام السجن فضاء المتناقضات بامتياز فهو تارة منتج لعزلة المعتقل و تارة مصدر للاكتظاظ كذلك. فضاء يجمع بين الفوضى والنظام بين التدمير والتأهيل، بين الضحية والجلاد كما يمكنه الإسعاف على اكتشاف الذات من جديد وفقدانها إلى الأبد. الانهيار واكتساب القدرة على مقاومة ألم التعذيب. إنه عالم الأضداد بامتياز. ولعلها مفارقة وجودية كون أصغر الفضاءات(الزنازين)هي التي أنتجت أرحب التخيلات والذكريات وأطول الاعترافات والأحلام..
ث- عريس الوديع(9) أو سلطة الاعتقال وجها لوجه مع السخرية
اعتمد صلاح الوديع كخلفية جمالية لتسريد جراح الاعتقال الكوميديا السوداء والسخرية المازجة بين الضحك والبكاء. سخرية واضحة منذ عتبة العنوان «العريس» مرورا بالرسائل وقوفا عند صورة صلاح الوديع الضاحك على ظهر الغلاف من محنة الاعتقال. بل يمكن اعتبار تاريخ إصدار «العريس» نفسه تاريخا ساخرا على اعتبار انه تزامن مع الذكرى الخمسين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان. بمعنى بعد مرور نصف قرن والانتهاكات لازالت على قدم وساق…وبالعودة إلى العنوان الملتبس «العريس» نفهم القصد من انتقائه لأنه يوحي بأجواء غبطة و فرح مرتقبين في الوقت الذي تحكي الرسائل عن مأساة التعذيب والتنكيل بالمعتقلين وبهذا فمضمون العنوان ومضمون الرسائل خلقت لنا سخرية سياقية مؤسسة على حدثين دراميين لا جامع بينهما. كما أن الرسائل سخرت من انتهاكات الجلاد بشكل مضاعف: أولا بالتهكم على عنفه غير المبرر. وثانيا بنشرها على الملأ.. فنحن نعلم أن الرسائل عادة تكون شخصية وخاصة وفي غاية الحميمية في حين هي هنا منشورة على الملأ بغاية فضح تجاوزات الجلاد وتعريتها. وتزداد سخرية الرسائل عندما نعلم أنها لا تبتغي جوابا بقدر ما تستدعي تعاطف عموم الناس. رسائل بقدر ما تسخر من الجلاد تمنح المعتقل تعويضا عن حالة العزلة وتحقق له حالة تواصل مأمولة مع الآخر المبعد(الأم)..إن خطاب الرسائل وأسلوبه الخاص جعل المتلقي يعيش الوقائع أول بأول كما لو كان مسلسلا تلفزيونيا…وما ميز خطاب المعتقل وهو يحكي شدة التعذيب وقسوة الجلاد وجرح المهانة على امتداد 150صفحةو27 رسالة هو ارتداؤه لمعطف الساخر. خطاب جعل المعتقل يتشح بوشاح اللاعب الماهر بمقاسات الأشياء. يضخمها ويقزمها حسب مقتضيات الموقف. يقول شيئا ويعني شيئا آخر مضعفا المعنى حيث أن ما يصل الذهن لأول وهلة ليس هو ما يستقر بالوجدان بعد ذلك.. كقوله للمستبد ما أعدلك؟ ولهذا فخطاب السخرية في هذا العمل جمع بين الهذيان والرزانة، بين اليقين والشك، بين الجنون والعقل من فرط حدة التعذيب والإهانة الأمر الذي جعل السخرية عنده تتجاوز كونها مجرد وسيط بلاغي لموقف فلسفي من الوجود منتجة كتابة حدادية في العمق لأنها ترثي موت الأشياء الأصيلة فينا. يقول المرسل والشك يعتصر خافقه حول احتمال وصول الرسائل لأمه ص13:»أبعث إليك بهذه الأوراق و أطلب الله أن تكوني على قيد الحياة لكي تتسلمينا بنفسك «وهذه النزعة الشكية مصدرها أن كل شيء محتمل في واقع مماثل.. الحياة فيه كالموت دون أن يتجرأ أحد عن مساءلة الجلاد عن جرائمه.. وتجدر الإشارة هنا أن الخلفية الإبداعية للمعتقل وهو شاعر في الأصل لونت خطابه بنفحة شعرية مائزة، تماما كما مر معنا في تجربة عبد اللطيف اللعبي.. غير أن النغمة المهيمنة على العمل هي السخرية ربما لأنها تمنح المعتقل/الساخر طمأنينة معنوية وتفوقا رمزيا من خلال فعل المقاومة وعدم الاستسلام.. فهي فضلا عن كل هذا تقترح نفسها كبديل عن الهزيمة الواقعية وشرفة للتنفيس عن الاحتقان النفسي مع تعرية بشاعة الجلاد وتجاوزاته.. يقول المرسل في ص21:»ها هو الكهرباء يحل ببدني قبل وصوله إلى البوادي والقرى، رغم أنني لم أطلب ذلك من أحد. فكيف تشتكي الحكومة من قلة ذات اليد، وهي توزع الكهرباء بهذا السخاء وبدون مقابل…»إن السخرية هنا تأزم المعنى وتنسب الحقيقة وتضعها محل استفهام…مترجمة التوتر النفسي العاصف للمعتقل.. مسعفة على استغوار جراح الأعماق مستقطرة هشاشة الذات في بعدها العائلي والجماعي لاسيما إذا علمنا أن آلة الاعتقال شملت مجمل عائلة المرسل بما في ذلك الأب والأخ والأخت…
وبهذا فالسخرية مثلت تعويضا وملاذا للمقصي والمبعد وطريقا لمراوغة الجرح ومهادنة الفقد. يقول المرسل في الرسالة الخامسة ص27:»وقد جاءني إبان ذلك منهم من صاح بي أن أخي وأختي وزوجها كلهم موجودون معي هنا في نفس المكان الكريه، فسألته هل جئتم بالعائلة وأنتم تنوون الاعتذار لها على ما بدر منكم تجاهها من هفوات. إنني أسامحكم مهمات يكن وباسم عائلتي كلها.»
إن سخرية بهذا العمق تصير ممتلكة لعنف صدمة كهربائية من خلال إشعال نار السؤال…تضرب بعنف إعصار محيط منتجة قارئها الخاص لأنها لا تقول سوى جزء من الحقيقة وتحتفظ بالجزء الثاني قصد دفعه لمواصلة القراءة وكأني بها رشوة رمزية.. وعلى حد تعبير الفيلسوف كيكجرد:»إن المتهكم يحصل على لذة عندما لا يتم فهمه، أكبر من تلك التي يحصل عليها عندما يتم فهمه، وكأنه فهم يقيد حريته في التهكم أو يقلل منها.»


2- نماذج من أدب السجون العسكري
أ-جرح الاعتقال ومنطق الشهادة.
في شهادته «تزممارت الزنزانة رقم10»(10)استغرق أحمد المرزوقي حوالي أربعين صفحة ليصل إلى لحظة الاعتقال حيث تطرق بإسهاب في المفتتح عن ظروف التمدرس بمدرسة أهرموم العسكرية وشخصية امحمد اعبابو وأخويه (محمد وعبد العزيز)وأصولهم الريفية وتميز امحمد بصدامية مؤذية حيث قدمه كبرميل بارود يمكنه الانفجار عند أدنى احتكاك. مع حديثه عن ظروف التهيئ لانقلاب «الصخيرات» وهي أمور باتت معلومة للجميع .لكن لا شعور المرزوقي هنا بتبطئ زمن الوقائع والكتابة عن يوم القبض عليه كان يستبعد لحظة الاعتقال عمليا ولو على مستوى التذكر.. فالإنسان عموما يهرب من كل ما هو مؤلم.. وتجدر الإشارة هنا، أن تصور المرزوقي للكتابة لا يخرج عن إطار الشهادة التي تروم مطابقة ما وقع مع الحقيقة العامة.. حيث قال في ص29:»أؤكد كل ما سأرويه هنا، هو خليط مما رايته رأي العين ومما سمعته محققا من أفواه أصدقائي قبل وأثناء وبعد محاكمة القنيطرة» وهذا يعني في مستوى أول تواري الذات بهواجسها وأحلامها لصالح تسريد الوقائع المشتركة بين كافة المعتقلين أمر تحققنا منه في الجزء الثاني الذي تلا الاستهلال حيث انتقل بدءا من (ص57 )في الحديث عن انقلاب القوات المسلحة الجوية مارا بتوصيف مدير سجن تازممارت وحراسه مقدما إياهم بصفات تدخل في إطار ردات فعل السجناء والقتل الرمزي المضاد.. حيث صادفنا اسم الحارس «الوزة» كناية على حدة الصوت(ص81)ولجودن الفرنتشي(ص63)لاقترافه أعمال قاتلة ومحرقة ضدا على المعتقلين. والسارجان شاف «حفار القبور»(ص86).لكن بالمقابل لهذه الصفات السالبة حضرت نعوت ايجابية كوصف «لجدان شاف» العربي ب»اللويز» لصفاء معدنه وطينته الخالصة. ف»اللويز» معدن يجمع بين القيمة الغالية و الندرة ..وما شابه ذلك من التوصيفات…صحيح جدا أن شهادة أحمد المرزوقي حملت بالإضافة لمفردة تازممارت عبارة الزنزانة10.لكنه في أحيان كثيرة كان يستغرق في الحديث ليس فقط عن الزنازين المجاورة بل عن العنبر المجاور وما شابه.. وهذه الشرفة التي اطل منها احمد المرزوقي على عالم السجن هي التي تبرر حضور ضمير الجمع(نحن) بوفرة في هذه الشهادة.. وهو ضمير مخادع في الغالب لأنه يوهم بالموضوعية وتطابق المروي مع ما حدث والحال أن فعل الكتابة عن التجربة يشتغل على التذكر كما النسيان .بل إن التذكر نفسه يجعل الذات حاضرة بشكل مختلف عما كانته لحظة الحدث. إن استراتيجية تأجيل لحظة الاعتقال كانت نفسيا تحاول تقليص زمن الحرمان وجرح العزلة لأن زمن الحرية يعد شرفة لترميم أعطاب الذات وشرفة مفتوحة على الخارج والعالم بأسره.. وعموما هذا الهروب اللاواعي من لحظة بغيضة له ما يبرره نفسيا ووجوديا.. كما يمكن اعتبار حديثه عن زمن ما قبل وما بعد السجن محاول للتنفيس عن ضيقه وحدة اختناق القارئ كذلك.. علما بأن الكتابة نفسها عن الاعتقال تعد هروبا رمزيا من السجن لكن دون متابعة ولا عقاب. لكن ما بدا مستغربا حقا على مدى عقدين تقريبا من الاعتقال هو استبعاد كلي لجروح الجنس وغياب المرأة الفادح ولواحقها. ترى هل هي مبالغة في العفة أم استراتيجية لتقديم المعتقل بمظهر الصامد والطهراني والواقع غير ذلك؟ غياب لابد أن تكون له تبعات كحمق البعض وانتحار البعض الآخر وإلا ارتفعت صفة البشر عن المعتقلين. ولعله من الصدف الساخرة أن الأنثى إن لم تكن قد زارت متخيل وهواجس معتقلي تازممارت فإنها دخلت السجن في الواقع وهو ما أوهمتنا به هذه القرينة السردية الساخرة والتي تتحدث عن زيارة انثى لسجن تازممارت بالصفحة 148/149:»كانت رشيقة شابة من فصيلة عريقة(…)وكانت تنعم بما لا تنعم به إلا القليلات المحظوظات من مثيلاتها الساكنات في الفيلات الفخمة والقصور المشيدة. فقد كان سيدها فرنسيا ميسورا مولعا ولعا شديدا بالصيد. فرباها و أحسن تربيتها، وروضها وأجاد ترويضها حتى أصبحت له مفخرة بين زملائه الصيادين. واكتملت نعمتها حين رزقت بجروين جميلين. «فللحظة توهم تاء التأنيث العائدة على ضمير الغائب (هي) بالإحالة على امرأة لكن بعد حين يتكشف انه يتحدث عن كلبة مدير السجن.. إن اغلب المحكيات السجنية المغربية حكيت وفق شبكة أخلاقية ضيقة الأعين إذ قلما تسقط بوحا كاملا.. ولهذا جاء السقف البوحي واطئا جدا.. ربما كان خلف هذا، التنشئة الاجتماعية والرأي العام الأخلاقي الذي يفرض السترة والتخفي. فالرقابة بشتى تلويناتها تجعل الذات تعاني خوفا عميقا من تعرية الذات دون أن ننسى أن ثقافتنا الإسلامية لا تمتلك طقسا بوحيا كما هو شأن الديانة المسيحية وقساوسها الذين يتلقون الاعترافات صباح مساء، الأمر الذي جعل الغرب يتميز في باب السير الذاتية. استحضر هنا اعترافات جان جاك روسو في (ق18)كنموذج .صحيح جدا أن لدينا «طوق الحمامة» مثلا لابن حزم لكن ينبغي أن لا ننسى انه مرجع كتب على أرض الأندلس وبعيدا عن المغرب. وعموما الثقافة الإسلامية تسير في اتجاه «إذا ابتليتم فاستنيروا-و أعود بالله من قولة أنا وما شابه ذلك.. وبالعودة إلى التجربة المصرية بحكم سبقها التاريخي في باب أدب السجون نصادف ظاهرة غريبة تمثلت في منزع إخفاء الجسد في الواقع كما في الكتابة.. ولنأخذ أحد الرموز العسكرية (تمثال جمال عبد الناصر) الذي ألبس في إحدى ساحات القاهرة لباسا عسكريا ثقيلا ربما زيادة في الوقار والهبة (سيرة طاهر عبد الحكيم في»الأقدام الحافية نموذجا)..ومنزع إخفاء الجسد على مستوى المجسمات يوازيه إخفاء المشاعر على مستوى الحكي بطرق ملتوية في مجمل المحكيات السجنية العربية ومنها ستار ضمير الجمع في شهادة أحمد المرزوقي. لنتأمل القرينة النصية التالية ص60:»كان لارتطام الباب الحديدي الثقيل ورائنا دوي قنبلة انفجرت في أعماقنا فنسفت فيها كل خلية نسفا، فجأة، وجدنا أنفسنا معزولين في بحر من الظلمات، فأحسسنا بالاختناق والضياع. كانت حقا لحظة عنيفة صادمة شلت فيها عقولنا وانسحب الهواء من رئتنا وجعلت قلوبنا تخبط خبطا قويا وكأنها تهدد بسكتة مفاجئة. «إن هيمنت ضمير الجمع (نحن) يمكن رده للحياة العسكرية التي تقتضي الإجماع والالتزام بالتعليمات بخلاف الكتابة كفعل فردي حر يشترط تلبية نداء الذات وهواجسها. ربما كان سبب ذلك عدم تهيئ المعتقل للكتابة البوحية والمرتبطة بالذات أساسا ..وربما كانت الكتابة عن السجن من خارجه غيرها من داخله.. فكتابة التجربة من الخارج تكون تحت سطوة معاودة فقدان الحرية والمعتقل بحكم تجربة الاعتقال خبر أكثر من غيره معنى فقدانها…لكن رغم كل هذا فمحكيات السجناء العسكريين تحديدا غيرت كثيرا من صورة الجندي المغربي بصرف النظر عن رتبه حيث كان يقدم دائما كفرد واطئ الأفق وقصير النظر وأبعد ما يكون عن الكتابة. وعموما ضمير الجمع هذا ارتبط في الذاكرة الجمعية العربية بالشعب بينما ارتبطت صيغة المفرد بالسلطان وكأني بلاشعور الكتابة عندما يستعمل ضمير المتكلم يستشعر اعتداء رمزيا على صيغة المفرد الموكولة للسلطان.. وربما كان هذا سببا إضافيا في اختفاء أدب الرسائل الخاصة في حياتنا العربية والمغربية القديمة والحديثة لاشتمالها على ضمير المتكلم والقضايا الخاصة واقتصارها على الرسائل الأدبية العامة كرسائل الجاحظ والمعري وما شابه ذلك. وبالعودة إلى شهادة المرزوقي الضخمة(325صفحة)تبين لنا أنها خلافا للسير الذاتية قلما عملت على تسريد الذات بحيث من ص171 إلى ص 201 كان المرزوقي معنيا بتقديم المعتقلين الآخرين الذين لقوا حذفهم بالسجن متطرقا للوضع المزري الذي جردهم من الكرامة الآدمية والعودة بهم إلى مستوى البهيمية حيث كان كلما توفي رفيقا كلما ترك جرحا غائرا في ذاكرة الباقين.. وعلى الرغم من هذا الوضع المأساوي كان البعض يغالبه بالتندر كما كانت عادة الملازم المراكشي المحجوب الياكدي حيث كان يردد غير ما مرة «الموت بين الرجال نزاهة». كما أن الشهادة انصرفت من الصفحة 217 إلى 325 لرصد لحظة الخروج والانتقال بسرعة إلى تعاطف المنظمات الدولية والجمعيات الحقوقية المغربية وهذا يعني أن الحديث عن ما قبل لحظة الاعتقال وما بعده أخذ ثلتي الشهادة والثلث فقط هو الذي تحدث فيه المرزوقي عن لحظة الاعتقال إلى لحظة الإفراج وهذا يعود للطبيعة السيكولوجية للإنسان والتي تبتعد عن كل ما هو مؤلم.. إن طبيعة الزمن الرتيب للاعتقال و فضائه المعتم تماما جعلا الذاكرة فارغة من الجزئيات الدقيقة. يقول المرزوقي نفسه ص256:»كان العقدان اللذان بترا بترا من عمري أشبه شيء بشريط «فيديو» فارغ إن شغلته فلن ترى منه على الشاشة سوى حبات مبهمة بلا كنه ولا معنى. ماذا كان سيخسر سجانونا لو تركونا نملأ ذاك الشريط بما هو نافع.» والجدير بالذكر في هذا السياق أن المقاطع السردية التي احتفت بالبعد الإيحائي لا الإخباري للغة – على قلتها- اقترنت باللحظات التي رصدت المعيش داخل المعتقل ومنها النموذج التالي بالصفحة 164:»مر خريف تلك السنة باردا حزينا كعادته، وتلاه فصل الشتاء حاملا إلينا هدايا من الألم الأبيض. مناشير البرد الحلبية التي تنخر فينا العظام وتفعل الأفاعيل. ووجد منجل الموت ضالته في العنبر الثاني فواصل عمله بانتظام وإتقان حاصدا أرواح تلو أرواح.» إن مفارقة هذه الشهادة تكمن في كون فترة الاعتقال وان كانت طويلة جدا في الواقع فان حيزها من الأوراق والكتابة كان قليلا موازاة فترة الإفراج بخلاف محكيات أغلب معتقلي أقصى اليسار كما مر معنا.. وفي ذات الأفق تحركت تجربة محمد الرايس»من الصخيرات الى تزمامارت»(11) وبشكل أكثر مباشرة وخطية التجربة السجنية للمفضل المغوتي(12)
ب-محمد الرايس والرغبة في قول «الحقيقة المطلقة» (13)
تجدر الإشارة بداية إلى أن هذا العمل مرة أخرى مترجم عن اللغة الفرنسية الأمر الذي يعني أنه فقد الكثير من خصوصيته اللغوية التي درس بها المعتقل وتعلم بها طيلة حياته.. واللغة الفرنسية بالنسبة لهذا الجيل تحديدا مثلت الجسر اللساني الشائع و المكتوب الذي وصلهم بالذات والآخر والعلاقة بينهما.. ونحن نعلم أن لكل لغة خصوصيتها بل وخطورتها جراء هوية الذات المخاطبة(الرأي الدولي والرأي المحلي) يكفي ذكر وقع كتابات كرستين السرفاتي حول معتقل تزمامارت(1992)التي كادت تتسبب في أزمة سياسية بين المغرب وفرنسا ..وبالعودة إلى مذكرات محمد الرايس وجدناها تنطلق من نفس وجهة نظر احمد المرزوقي وهي تقدم الحدث/الانقلاب باعتباره كان نتيجة الطاعة العمياء للرؤساء وبالتالي تحميله للنظام العسكري مسؤولية الوصول لذاك المآل.. بل إن محمد الرايس يشدد على الهوية البيضاء «للجيش آنذاك حيث يقول في ص 26:»لم يكونوا مناصرين لا للروس ولا للأمريكان وللصينيين كما لم يكونوا ناصريين أو كاسترويين أو قذافيين. والأنكى من هذا هو أن هؤلاء المتمردين لم يكونوا لا من أنصار الجمهورية ولا ضد الملكية، وكان عملهم قضية عنف محضة لا غير. وباستثناء الرؤوس الثلاثة المدبرة والمتآمرين الرئيسيين الذين كانوا على علم بالهدف والمبتغى كان الكل يساير الموجة على أمل أن تجد في اللحظة المناسبة منفذا للهروب. لقد كانت الصخيرات يومها مثل قطار يسير بسرعة جنونية، يقف كل راكب فيه قرب مصعد الباب في انتظار أول منعطف للقفز، وحدها نقط القفز كانت تختلف من واحد إلى آخر. «فإذا كان محمد الرايس يتفق مع احمد المرزوقي في الموقف من الانقلاب فإنهما يختلفان في تقديم الكثير من الجزئيات والتفاصيل بحكم قرب الرايس الشديد لحظة الانقلاب من الرأس المدبر(امحمد اعبابو/مدير المدرسة العسكرية) فضلا عن كون محمد الرايس خلافا لزملائه حكم عليه بالإعدام ثم بالمؤبد.. حدثين ولا شك شكلا صدمة تراجيدية جعله يصافح الموت أكثر من مرة أمر انعكس على مرايا محكياته السجنية…غير أن موقف الرايس والمرزوقي يختلفان عن موقف صلاح حشاد مثلا الذي رفض فكرة «المفعول بهم» و رأي أن الجيش كان يطمح إلى تغيير الأوضاع المعطوبة لمغرب السبعينات(14)إن اختلاف طرق تقديم وقائع المرحلة والموقف منها يمكن إرجاعه كذلك لقدرة الذاكرة الفردية على تخزين ما وقع جراء القرب أو البعد من الحدث إضافة لما سمحت به الكتابة نفسها من هامش الحرية في قول «كل شيء»..دون نسيان الطبيعة النفسية لكل معتقل حيث كان فيهم المحترز والواثق وهو ما ينطبق تماما على المرزوقي و الرايس مثلا في محكياتهما..إضافة إلى أن هناك من أحجم عن كتابة التجربة لاعتبارات بدت لنا وجيهة ..وهي حالة المعتقل عزيز بينبين حيث قال «الإنسان جبل على أن يرى عيوب الآخرين ولا يرى عيوبه. ولذلك، فما يصدر من أحكام على هؤلاء الآخرين ينبغي أخده بالحيطة»(15)
وبالعودة للشهادة الضخمة لمحمد الرايس والتي فاقت310 صفحة من الحجم الكبير لاحظنا احتكامه لمنطق الشهادة المهووسة بسرد(كل) الجزئيات حيث أنه أغرق في تسجيل التواريخ والأسماء والعلاقة بينهم والأمكنة والمواقف أمر حد من فسحة الكتابة التخيلية مادام الهدف عند المعتقل هو قول «الحقيقة كاملة» ولا شيء غيرها. ونحن نعلم أن ممكنات التخييل لا سقف لها بخلاف تسريد الوقائع التي وقعت فعلا. .إن استدعاء الحقيقة كما وقعت فعلا يجعل المتلقي يحكم على المقروء بالخطأ والصواب بينما اعتماد المعتقل على المتخيل يجعلنا نقيم ما حكاه وفق الممتع أو المضجر والفرق كبير بين الاثنين وهنا يمكننا مثلا مقارنة متخيل عبد الرحمان منيف في «شرق المتوسط» وما قيل في السير السجنية الموازية لمعتقلين حكوا جرح الاعتقال بخلفية قول الحقيقة.. علما بأن السيرة السجنية تجد نفسها تحت سطوة ما وقع بالفعل.. وقائع توجه دفة الحكي خلافا لفسحة التخييل الذي يقترح أكثر مما يستعيد ويختلق أكثر مما يتذكر.. هذا يعني بالنتيجة أن الشهادة العفوية غير الكتابة الإبداعية وأن الشاهد/المؤرخ غير المبدع…إن ما يؤثر سلبا على السير السجنية حقا هو تصور صاحبها للكتابة أنها ملزمة بمهام جسيمة كصيانة المستقبل من معاودة نفس الأخطاء وخلق مجتمع ديمقراطي خال من الشطط في استعمال السلطة والحال أن المجتمع الديمقراطي يؤسسه الاشتغال اليومي في الميدان سواء في المجتمع المدني أو المجتمع السياسي…لا الكتابة السجنية بمفردها .
إن هاجس حكي «الحقيقة لمطلقة» عند محمد الرايس شكل حاجزا حاجبا لرؤية الذات وهي تحاول إيصال صوتها الخاص للقارئ بحيث أنه كلما ابتعد عن حكي «الحقيقة المطلقة» كلما بدا أكثر إقناعا وشعرية.. فحضور ذاته كان يضخ الخطاب بطاقة فنية تتأسس على بلاغة النسبي وشعرية الجزئي والعابر.. كما أن تقديم المعتقل للنقد الذاتي بين الفينة والأخرى كان يضفي الكثير من المصداقية والمشروعية على محكياتها السجنية حيث استشعر لحظة استنطاقه من لدن الجنرال أفقير مثلا فقدان الشجاعة كي يقول له أن التربية العسكرية التي ربتنا على الخنوع والطاعة العمياء هي التي أوصلتنا لهذا المآل وأنت بالذات واحد من أهم حماة هذه التربية المعطوبة. يقول محمد الرايس بكثير من التجرد والعفوية ص71:»لم تسعفني شجاعتي وظل الجبن لصيقا بي، فبدأت أنظر إليه دون كلام، لأنني فقدت شخصيتي «تقلص كياني» وتحولت إلى بيدق، يومها التزمت الصمت ملتفا في خوفي ونفاقي وانعدام شخصيتي شاخصا النظرات خنوعا، كما يقول المثل المغربي «شكون يقول للسبع فمك خانز» إن العودة إلى الذات كانت تمنح خطاب المعتقل شفافية نادرة و لحظة صفاء ذهني استثنائية حيث أنه كان يتصالح معها بتجديد رؤيته للنفس وللسجن وللخصم وللحليف وللوجود برمته.. يقول بكثير من العري والتجرد عن علاقة الذات بالسجن ص97:»في السجن المركزي بدأنا نفهم الحقائق التي طالما خباؤها عنا، ولو لا هذا الاعتقال لبقيت «حمارا» بأذنين طويلتين. في السجن المركزي وأنا أقضي الحكم المؤبد كنت أحس أنني أكثر حرية من السابق، لأنه إذا كان جسدي معتقلا فان روحي لم تكن كذلك. لم أعد ذلك القن الذي ينفد بدون تفكير، بل أمسيت ذلك المتمرد الحرون الثائر على خسة القادة، وهناك بدأت أحتقر ذاك «الآخر» الذي كنته. «السجن هنا تحول إلى رحم ولود ومصدر لتجديد الذات ولو بنار الاعتقال والحرمان من الحرية وكي العزلة والوحدة..
غير أن ما قفز عليه أحمد المرزوقي في «الزنزانة رقم10» ونقصد بذلك استدعاء المرأة المخبوءة في الذاكرة والوجدان أعطاه محمد الرايس فسحة واسعة وان لم تكن تليق به كما هي العادة في الحياة. ولعل حواره مع رفقاء المحنة عن الحرمان والاستمناء والاستحلام ومناقشة الرغبة المتجددة خير دليل على ما نروم. بل يمكن القول إن الكاتب توفق في اختيار الحوار كوسيط بلاغي لتقديم وجهات نظر رفقائه حيث هناك من حكمته الرؤية الدينية(المفضل المغوتي) وهناك من قارب ظاهرة الاستمناء من شرفة الظرف الخاص الذي كان فيه المعتقلين وهي رؤية اغلب السجناء.. وبالتالي تعارضت رؤية التحريم مع رؤية الإباحة.. علما بأن الحوار عمل على دمقرطة السرد وأعطى الفرصة لكل واحد منهم كي يقدم رؤيته الخاصة للموضوع. لنتأمل القرينة النصية الدالة بعمق ص176:»
أذكر بوضوح أن منصت كان أول من تطرق للموضوع يومها(…)
«أنصتوا جميعا، هناك موضوع تتفادون الخوض فيه هو موضوع النساء، منذ اعتقالنا وانتم لا تفكرون سوى في الطعام والمرض والموت وتوافه الحياة. أنسيتم أن الذكر يحتاج إلى الأنثى، سواء كان إنسانا أو حيوانا، حتى النبات نفسه يخضع لهذا القانون. إننا نتعمد جميعا التغاضي عن هذه الغريزة الإنسانية الأساسية. الجنس إحساس لا يضاهى ولذة لا حد لها. فما هو رأيكم.
انفجر الجميع ضاحكين ثم رد سعودي بمكر :سول لمزوجين(…)
عقب العديد(…)
لا فرق في مثل هذه الأمور بين المتزوجين والعزاب و أن اللذة لا جنس لها ولا عمر. وعندما تتحرك الغريزة لا بد من شريك.
أخد الزموري الكلمة وقال(…):»اقضي النهار في استحضار مغامراتي السابقة وفي الليل أستحلم وأشبع بذلك رغبتي» تدخل منصت قائلا:
-أعرف هذا، شخصيا كنت أقيم مع صديقتي في نفس المنزل مثل زوجين، لكنني الآن، محروم من هذه اللذة والحال أنها ضرورية للتوازن النفسي.(…)أضاف الصفريوي «يجب التفكير في القانون الذي يحرم السجناء من النساء. لأن هذا المنع لا إنساني وظالم، وصراحة كنت في السابق زير نساء. وكيف لا يكون المرء كذلك في فاس حيث الفتيات مثل الملائكة».


إن هذا الحوار بالقدر الذي أنسن الاعتقال ونزع تلك الصلابة الشائعة والمقاومة الأسطورية عن المعتقلين ذكرنا بالأصول الحيوانية للإنسان. وأن تحفظ بعض المعتقلين الخوض في نقاشات الجنس هو استبعاد لا شعوري لبقايا الحيوان في الإنسان مستعيضين عن الفعل الجنسي المباشر بتذكر بعض القبل والعناق والرقص كأفعال «متحضرة». صحيح أن وجود الشريك بالجوار يقوي من وتيرة الطلب لكن غيابه لا يلغي الطلب بقدر ما يؤجله فقط ..وهنا يفعل الاستحلام فعله.. علما بأن هذا السياق يذكرنا بالسجال النفسي بين الفرويدية التقليدية واليسار الفرويدي حيث توزعت الآراء بين اعتبار الرغبة الجنسية شيئا نفسيا وحاجة بدنية.. والجدير بالذكر هنا أن لاوعينا الجمعي لازال يعتبر «ممارسة الجنس من الممارسات القذرة التي تستوجب النظافة بعدها، بل تستوجب أكثر النظافة قبلها، والأعضاء الجنسية شديدة الارتباط بأعضاء الإفراغ وهذا وحده كاف لاعتبارها قذرة، ناهيك عن الروائح والمفرزات وما إلى ذلك، لكن هذه القذارة الموضوعية المادية تختلف عن مفهوم القذارة الاجتماعي الذي يجعل من الجنس دنسا وانحطاطا، ومن التسامي عليه غاية في النبل والارتقاء.. أو عن النظرة التي تعتبره إهانة وتستخدمه للدلالة على الحط من القدر، والشتيمة»(16)
تبقى الإشارة إلى أن الكتابة عن السجن تعد سلطة مضادة للسجان. فإذا كان الجلاد يحاول طمس معالم جريمته فبالكتابة يحاول المعتقل التذكير بها والتنصيص على حجم تجاوزات السلطة. غير أنها كتابة لا يمكن عزل فضحها للأخر عن فضح الذات في حدود معينة وذلك من خلال وقوفها عند ملامح التعايش مع المرض والجوع والكبت والجنون أحيانا، والضعف الإنساني عموما. إنها بقدر ما تنفس عن المكبوت وتبحث عن توازن نفسي تجعل الذات تعاود عيش جرح الاعتقال. كتابة يمكن اعتبارها وجع مضاعف وصرخة مدوية لضمير ملتاع. هي بالنتيجة ممارسة استشفائية قصد استرجاع الثقة في النفس وفي المجتمع. إنها نضال مواز للنضال داخل المعتقل.. صحيح أن الذات بالبوح والاعتراف تجد نفسها في وضع ملتبس إذ أنها تتأذى وتتطهر في ذات الآن الأمر الذي يطرح علينا سؤالا عميقا من قبيل: هل الجحيم هو أن نتذكر جرح الاعتقال أم ننساه؟ علما بأن ثمة بالجوار تأملات فلسفية تعتبر «أننا لا يمكن أن نتحرر إلا من خلال التذكر»، على حد تعبير فريدريك نتشه.
نخلص إلى النتيجة التالية :إذا كان السجن فضاء سالبا للحرية وحادا من الحركة الجسدية، فانه عاجز عن سلب المعتقل حرية التفكير والتذكر والحلم والكتابة.. فبالكتابة يضفى بعض المعنى على تجربة الاعتقال والسجن الذي تجتهد الدولة في إخفائه عن أنظار المواطنين بتشييده خارج المدن قصد إبعاده عن وعيهم، غير أن الكتابة تتوفق في جعله شاخصا للعيان في كثير من الحالات…

الاتحاد الاشتراكي

محمد رمصيص
(*) أستاذ باحث وناقد أدبي.
إحالات:
1-حديث العتمة.فاطنة البيه.نشر الفنك.2001.
2-سيرة الرماد.خديجة مروازي.إفريقيا الشرق.2000
3-تلك العتمة المبهرة.الطاهر بن جلون.ترجمة بسام حجار.دار الساقي.2003.
4- مجنون الأمل.عبد اللطيف اللعبي.ترجمة علي تزلكاد والمؤلف.مؤسسة الأبحاث العربية.1983.
5-ويعلو صوت الآذان من جحيم تزممارت.مذكرات المعتقل المفضل المغوتي.بلال التليدي.منشورات التجديد.2009.
6-مجنون الأمل.عبد اللطيف اللعبي.م/م.1983.
7-كان وأخواتها.عبد القادر الشاوي.منشورات الغد.الطبعة الثانية.1999.
8-حديث العتمة فاطنة لبيه.م/م.2001.
9-العريس.صلاح الوديع.مطبعة النجاح 1998
10- تزممارت الزنزانة 10 رقم.أحمد المرزوقي.طارق للنشر.2009.
11-مذكرات محمد الرايس.من السخيرات إلى تازمامارت ترجمة عبد الحميد جماهري.إفريقيا الشرق.2001
12-مذكرات المفضل المغوتي.م/م.2009.
13-مذكرات محمد الراس.م/م.2001.
14-Serhane Abdelhak.Kabasal.les Emûtes de Tazmamart .Mémoires de Sala
15-حزل عبد الرحيم.سنوات الجمر والرصاص:نصوص وحوارات في الكتابة السجنية.الجزء الأول.الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي.الجمعة 11 يونيو.2004.ص11.
16-الحب والجنس عند السلفية والامبريالية.محمد كمال اللبواني رياض الرايس للكتب والنشر.1994.ص74..

رواية القوقعة الحلقة الأولى مصطفى خليفة

يوميات متلصص

إنها قصة الفتية الأبرار في سجون الطغيان، يكتبها سجين عاش معهم المأساة. ولعل أول ما جنى عليه أن اسمه “مصطفى” هذا الاسم الذي يوحي بأنه مسلم، وبالتالي يمكن أن يكون من الإخوان المسلمين. ولم يشفع له أنْ علم الجلاوزة أن هذه التهمة لا أصل لها.

[يقدم الكاتب نفسه على أنه “مصطفى خليفة، مسيحي كاثوليكي، ملحد، عاش في باريس ودرس فيها وتخرج باختصاص مخرج سينمائي، وأحبّ أن يعود إلى بلده سورية ليخدم هذا الوطن” وما كان يدري أن عودته تعني دخوله سجناً من أعتى سجون الدنيا.

[والكاتب فنان بارع يحسن الوصف بالكلمة والصورة، وتتدفق أحاسيسه عبر كلماته. يكتب بالعربية الفصيحة تارة، وبالعامية تارة أخرى. وقد لخصنا هذا الكتاب وتجنبنا بذلك كلمات الإلحاد، وبعض الكلمات النابية التي يتفوه بها السجانون والجلادون والمحققون… وأدخلنا بعض التصحيحات اللغوية. [وإذا كنا لا نوافق الكاتب بالضرورة على كل كلمة كتبها، فإننا نؤكد أنه أحسن في تصوير الجرائم التي يمارسها النظام الطائفي الحاقد على أبناء شعبنا المؤمن. ولعل الله تعالى يكافئه على كتابته، فيهديه للدين الحق]

هذه اليوميات كتبتُها في السجن الصحراوي. وكلمة “كتبتُ” هنا ليست دقيقة ففي السجن الصحراوي لا يوجد أقلام ولا أوراق للكتابة.في هذا السجن الضخم الذي يحتوي على سبع ساحات، إضافة إلى الساحة صفر، وعلى سبعة وثلاثين مهجعاً، وعلى العديد من المهاجع الجديدة، والغرف والزنازين الفرنسية (السيلول) في الساحة الخامسة، والذي ضم بين جدرانه في لحظة من اللحظات أكثر من عشرة آلاف سجين، في هذا السجن الذي كان يحتوي على أعلى نسبة لحملة الشهادات الجامعية في هذا البلد، لم ير السجناء – وبعضهم قضى أكثر من عشرين عاماً – أية ورقة أو قلم.

الكتابة الذهنية أسلوب طوّره الإسلاميون. ” أحدهم كان يحفظ في ذهنه أكثر من عشرة آلاف اسم، هم السجناء الذين دخلوا السجن الصحراوي، مع أسماء عائلاتهم، مدنهم أو قراهم، تاريخ اعتقالهم، أحكامهم، مصيرهم …..”.

اثنان من رجال الأمن استلما جواز السفر، وبلطف مبالغ فيه، طلبا مني مرافقتهما.

أنا وحقيبتي – التي لم أرها بعد ذلك – ورحلة في سيارة الأمن على طريق المطار الطويل، أرقب الأضواء على جانبي الطريق، أرقب أضواء مدينتي تقترب، ألتفِتُ إلى رجل الأمن الجالس إلى جواري، أساله:

– خير إن شاء الله ؟ .. لماذا هذه الإجراءات ؟!

يصالب سبابته على شفتيه، لا ينطق بأي حرف، يطلب مني السكوت، فأسكت!

أصل مع مرافقي إلى مبنى. ومن ممر إلى ممر، ثم إلى غرفة فاخرة. انسلت إلى أنفي رائحة مميزة، لا يوجد مثيلها إلا في مكاتب ضباط الأمن، هي خليط روائح، العطور المختلفة، السجائر الفاخرة، رائحة العرق الإنساني، رائحة الأرجل.

كل ذلك ممزوج برائحة التعذيب. العذاب الإنساني. رائحة القسوة.

بينما كنت مذهولاً من رؤية الكابل الأسود يرتفع ثم يهوي على قدمي الشاب المحشور في دولاب السيارة الأسود، ثم يرتفع ناثراً معه نقاط الدم ونتف اللحم الآدمي، جمّدني صوت زاعق. التفتُّ مرغماً إلى مصدره، في زاوية الغرفة رجل محتقن الوجه، محمرّه، والزبد يرغي على زاويتي فمه: طمّشْ عيونه يا حمار. وُضعت الطماشة على عيوني ثم دفعة على ظهري، صفعة على رقبتي، يداي إلى الخلف، أسيرُ مرغما، يرتطم رأسي بالجدار، أقف.

– إرفع يديك لفوق ..ولك كلب … أرفعُهما.

– إرفع رجلك اليمين ووقف على رجلك اليسار.

– أرفع رجلي، أقف.

في الخلف يستمر ما كان يجري، أسمع صوت الكابل، صوت ارتطامه بالقدمين، صوت الشاب المتألم، صوت لهاث الجلاد، أكاد اسمع صوت نتف اللحم التي رأيتها تتطاير قبل قليل.. أصوات.. أصوات.

تتخدر اليسرى، لم أعد أستطيع الاحتمال، أغامر ..أبدل !!.. لم يحصل شيء، لم ينتبه أحد، أشعر بالانتصار!.. “بعد سنين طويلة من السجن مستقبلاً، سأكتشف أنه في الصراع الأبدي بين السجين والسجان، كل انتصارات السجين ستكون من هذا العيار!!”.

سيخ من النار لسع باطن قدمي، صرخت. قبل انتهاء الصرخة كانت الخيزرانة قد لسعت مرة أخرى .. الضرب متواصل، الصراخ متواصل.

وبدأت أعد الضربات وأنا أصرخ ألما. “بعد ذلك بزمن طويل، أخبرني المتمرسون: إن عدَّ الضربات أول علامات الضعف، وإن هذا يدل على أن المجاهد أو المناضل سينهار أمام المحقق!!..وقتها قلت في نفسي: ولكنني لست مناضلاً ولا مجاهداً. وأخْبَروني أن من الأفضل في هذه الحالات أن تكون لديك قدرة كبيرة على التركيز النفسي بحيث تركز على مسألة محببة لك، وتحاول أن تنسى قدميك !!”.

منذ تلك اللحظات علموني أن أقول: ” ياسيدي”.

هذه الكلمة لاتستخدم هنا كما بين رجلين مهذبين، هذه الكلمة تُنطق هنا وهي تحمل كل معاني الذلّ والعبودية.

طوال ثلاثة عشر عاما ، لم أسمع مرة قرقعة المفتاح في الباب الحديدي إلا وأحسست أن قلبي يكاد ينخلع!! لم أستطع الاعتياد عليها.

-اليدان مقيدتان بالقيد الحديدي إلى الخلف، كاحل القدم مربوط بجنزير حديدي إلى كاحل سجين آخر، نسير بصعوبة، نتعثر، ممرات … أدراج …. وصفعة مدوية.

تنبثق آلاف النجوم البراقة أمام عيني، الفجر ربيعي، أترنح…. أسكت.

يسحبوننا إلى خارج البناء، أرى أربع سيارات شحن ذات أقفاص معدنية، السجناء يسمون هذه السيارات بـ ” سيارات اللحمة”

أمام سجن تدمر الصحراوي

عشرات من عناصر الشرطة العسكرية.. الباب صغير.. تصدم العين لوحة حجرية فوق الباب مخططة بالأسود النافر:

“ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب”.

فتح لنا رجال الأمن أبواب السيارات، هم أنفسهم الذين كانوا يعاملوننا بفظاظة وقسوة (عندما كنا عندهم في فرع المخابرات في العاصمة)، أنزلونا من السيارات برفق مشوب بالشفقة، حتى إن أحدهم قال: ” الله يفرج عنكم ! “. وفيما بينهم كانوا يتحدثون همساً، يتحاشون النظر إلى عناصر الشرطة العسكرية الذين اصطفوا حولنا بما يشبه الدائرة، لاحظت أن لهم جميعاً نفس الوقفة، الساقان منفرجتان قليلاً، الصدر مشدود إلى الوراء، اليد اليسرى تتكىء على الخصر، اليد اليمنى تحمل إما عصاً غليظة أو كبلاً مجدولاً من أشرطة الكهرباء أو شيئاً مطاطيا أسودَ يشبه الحزام. ” عرفت فيما بعد أنه قشاط مروحة محرك الدبابة “.

ينظرون إلينا وإلى عناصر الأمن نظرة فوقية تحمل استخفافاً بعناصر الأمن ووعيداً مبطنا لنا. حركاتهم تدل على نفاد الصبر من بطء إجراءات التسليم والاستلام، يهزون يدهم اليمنى بما تحمل، هزات تبرُّم وغيظ، لباسهم جميعا عسكري أنيق، أعلى رتبة بينهم مساعد أول.

أكثر من مائة عنصر من عناصر الشرطة العسكرية يحومون حولنا، جميع السجناء يتحاشون النظر مباشرة إلى أي عنصر. رأسنا منخفض قليلا، أكتافنا متهدلة. وقفة تصاغُرٍ وذل، كيف اتفق جميع السجناء على هذه الوضعية وكأننا تدربنا عليها سابقا؟! لست أدري.

حكني رأسي من القفا، وكما يفعل كل إنسان يحكه رأسه، مددت يدي عفوياً وحككت !! وسمعت صوتاً راعداً: -ولك يا جماعة … شوفوا الكلب شوفوا !! عم يحك راسه كمان …!!

وسحبتني الأيدي خارج الرتل، تقاذفتني صفعاً ولكماً، لكمة تقذفني، صفعة توقفني، النار في الرقبة والوجه …. تمنيت لو أبكي قليلاً… طلبني المساعد لتسجيلي فلم يبق غيري، سجلني وأصبحت نزيلاً رسمياً في هذا السجن.

خلفي مهجع كبير. تخرج من جانب الباب بالوعة “صرف صحي” على وجه الأرض، تسيل في هذه البالوعة مياه سوداء قذرة.

انتهى التفتيش. جرى بدقة محترفين، حتى ثنايا الثياب، جميع النقود والأوراق، أي شيء معدني، الأحزمة وأربطة الأحذية … جميعها صودرت، “أنا كنت حافيا”. ورغم كل هذه الدقة بالتفتيش فإن ساعة يدي مرت، لم أتعمد إخفاءها، فقط لم ينتبه لها أحد، وعندما صاح المساعد:

– يا كلاب … كل واحد يحمل تيابه.

حملت ثيابي ووضعتها على يدي اليسرى، وفورا فككت الساعة ودسستها في الجيب الداخلي لسترتي، وشعور آخر بالانتصار.!

البلديــــــــات

هي كلمة خاصة بالسجون هنا، هم جنود سجناء … الفارون من الخدمة العسكرية، الجنود الذين يرتكبون جرائم القتل، الاغتصاب، السرقة، مدمنو المخدرات… كل الجنود المجرمين، حثالة الجيش، يقضون فترة عقوبتهم، في مثل هذا السجن، مهمتهم التنظيف وتوزيع الطعام وغيره من الأعمال… من هنا جاء اسم البلديات، هؤلاء في السجن الصحراوي لهم مهمات أخرى.

جمعونا في أحد أطراف الساحة، تكوَّمْنا ونحن نحمل ثيابنا، صوت المساعد ارتفع كثيراً، البلديات يقفون في الطرف الآخر من الساحة. البعض منهم يحمل عصاً غليظةً مربوط بها حبل متدل يصل بين طرفيها، حبل سميك يتدلى من العصا “الفلقة”. صاح المساعد بصوت مشحون موجهاً حديثه للسجناء : -مين فيكم ضابط ؟.

خرج اثنان من بين السجناء، أحدهما في منتصف العمر، الآخر شاب.

-شو رتبتك ؟

-عميد.

-وأنت شو رتبتك؟

-ملازم أول.

التفت المساعد إلى السجناء، وبصوت أقوى:

– مين فيكم طبيب .. أو مهندس أو محامي.. يطلع لبره.

خرج من بيننا أكثر من عشرة أشخاص.

-وقفوا هون.. ثم متوجهاً للسجناء:

-كل واحد معه شهادة جامعة … يطلع لبرّات الصف.

خرج أكثر من ثلاثين شخصاً، كنت أنا بينهم.

مشى المساعد مبتعداً، وقف بجوار البالوعة، صاح بالشرطة:

– جيبولي سيادة العميد!!

انقض أكثر من عشرة عناصر على العميد، وبلحظات كان أمام المساعد!!

-كيفك سيادة العميد؟

-الحمد لله … الذي لا يحمد على مكروه سواه.

-شو سيادة العميد … مانك عطشان؟

-لا .. شكراً.

-بس لازم نشربك.. يعني نحن عرب، والعرب مشهورون بالكرم، يعني لازم نقدم لك ضيافة… منشان واجبك!!

بعد لهجة الاستهزاء والسخرية صمت الاثنان قليلاً، ثم انتفض المساعد، وقال بصوت زاعق:

-شايف البالوعة ؟ .. انبطح واشرب منها حتى ترتوي … يالله يا كلب!!

-لا … ما راح اشرب.

وكأن مساً كهربائياً أصاب المساعد، وباستغراب صادق صرخ:

– شـو ..شـو …شـو ؟؟!!! ما بتشرب!!!

عندها التفت إلى عناصر الشرطة العسكرية ولا زال وجهه ينطق بالدهشة:

– شربوه …. شربوه على طريقتكن و لا كلاب…. تحركوا لشوف.

العميد عارٍ إلا من السروال الداخلي، حافٍ، وبلحظات قليلة اصطبغ جسده بالخطوط الحمراء والزرقاء، أكثر من عشرة عناصر انقضوا عليه، تناوشوه، عصي غليظة، كوابل مجدولة، أقشطة مراوح الدبابات …. كلها تنهال عليه من جميع الجهات، من أول لحظة بدأ العميد يقاوم، يضرب بيديه العنصر الذي يراه أمامه، أصاب بعضهم بضربات يديه …. كان يلكم … يصفع … يحاول جاهداً أن يمسك بواحد منهم، ولكنهم كانوا يضربونه وبشدة على يديه اللتين يمدهما للإمساك بهم… تزداد ضراوتهم، خيوط الدم تسيل من مختلف أنحاء جسده …. تمزق السروال وانقطع المطاط، أضحى العميد عارياً تماماً، إليتاه أكثر بياضاً من سائر أنحاء جسده، خيوط الدم أكثر وضوحاً عليهما، خصيتاه تتأرجحان مع كل ضربة أو حركة، بعد قليل تدلت يداه الى جانبيه وأخذتا تتأرجحان أيضاً، سمعت صوتاً هامساً خلفي:

– تكسروا إيديه !! يا لطيف … هالعميد إما رجّال كتير .. أو مجنون!!

لم ألتفت إلى مصدر الكلام. كنت مأخوذاً بما يجري أمامي، مع الضرب بدأ العناصر يحاولون أن يبطحوه أرضاً، العميد يقاوم، يملص من بين أيديهم… تساعده دماؤه التي جعلت جسده لزجاً. تكاثروا عليه، كلما نجحوا في إحنائه قليلا … ينتفض ويتملص من قبضاتهم وبعد كل حركة تزداد ضراوة الضرب …

رأيت هراوة غليظة ترتفع من خلف العميد وتهوي بسرعة البرق !!.. سمعت صوت ارتطامها برأس العميد….! صوتأ لا يشبه أي صوت آخر….! حتى عناصر الشرطة العسكرية توقفوا عن الضرب، شُلوا لدى سماعهم الصوت لثوان….صاحب الهراوة تراجع خطوتين إلى الوراء .. جامدَ العينين …!! العميد دار بجذعه ربع دورة وكأنه يريد أن يلتفت الى الخلف لرؤية ضاربه !! خطا خطوةً واحدة، وعندما هم برفع رجله الثانية …. انهار متكوّماً على الإسفلت الخشن !!

الصمت صفحة بيضاء صقيلة تمتد في فضاءات الساحة الأولى … شقها صوت المساعد القوي: – يا لله ولا حمير … اسحبوه وخلوه يشرب!!

سحب عناصر الشرطة العميد، واحد منهم التفت الى المساعد وقال:

-يا سيدي .. هذا غايب عن الوعي، شلون بدو يشرب؟!

-حطوا رأسه بالبالوعة .. بيصحى .. بعدين شربوه.

وضعوا رأس العميد بمياه البالوعة، ولكنه لم يصح.

-يا سيدي .. يمكن أعطاك عمره!

-الله لا يرحمه … اسحبوه لنص الساحة وزتوه هونيك.

من يديه جَرُّوه على ظهره، رأسه يتأرجح، اختلطت الدماء بأشياء بيضاء وسوداء لزجة على وجهه!! مسار من خطوط حمراء قاتمة تمتد على الإسفلت الخشن من البالوعة الى منتصف الساحة حيث تمددت جثة العميد. صاح المساعد وقد توترت وبرزت حبال رقبته:

-جيبولي .. هالكرّ الحقير … الملازم.

وبعد أن أصبح الملازم أمامه:

-شو يا حقير ؟ .. بدك تشرب ولا لأ؟

-حاضر سيدي .. حاضر .. بشرب.

انبطح الملازم على الإسفلت أمام البالوعة، غطس فكيه في مياه البالوعة، وضع المساعد حذاءه العسكري على رأس الملازم المنبطح وضغطه إلى الأسفل قائلاً:

-ما بيكفي هيك. لازم تشرب وتبلع!!

ثم تابع المساعد موجهاً حديثه للشرطة:

-وهلق .. خدوا هالكلب عا التشريفة … بدي يكون الاستقبال تمام .!

الملازم الذي شرب وبلع المياه القذرة بما فيها من بصاق ومخاط وبول وقاذورات أخرى، ألقي على ظهره بسرعة مذهلة، ووضع اثنان من البلديات قدميه في حبل الفلقة، لفوا الحبل على كاحليه ورفعوا القدمين إلى أعلى.

القدمان مشرعتان في الهواء، ثلاثة عناصر من الشرطة توزعوا أمام القدمين وحولهما، بحيث كانت كرابيجهم تهوي على القدمين دون أن تعيق إحدى الكرابيج الأخرى، ارتفع صراخ الملازم عالياً، تلوى جسده يحاول خلاصاً، ولكن دون جدوى.

استفز صراخُ الملازم واستغاثاتًه العالية المساعد، مشى باتجاهه مسرعاً، وكلاعب كرة قدم وجّهَ مقدمة بوطه إلى رأس الملازم وقذف الكرة.

صرخ الملازم صرخة حيوانية، صرخةً كالعواء… استُفز المساعد أكثر فأكثر، سحق فم الملازم بأسفل البوط، عناصر الشرطة يواصلون عملهم على قدمي الملازم، المساعد يواصل عمله سحقاً، الرأس، الصدر، البطن… رفسات على الخاصرة … حركات هستيرية للمساعد وهو يصرخ:

-ولاك عرصات … ولاك حقيرين …. عم تشتغلوا ضد الرئيس !!… ولاك سوّاك زلمة … سواك ملازم بالجيش … وبتشتغل ضده ؟!!… ولاك يا عملاء… يا جواسيس !.. ولاك الرئيس خلانا نشبع خبز… وهلق جايين أنتو يا كلاب تشتغلوا ضده ؟!… يا عملاء أمريكا…. يا عملاء اسرائيل… هلق عم تترَجُّوا ؟!!… بره كنتوا عاملين حالكن رجال … يا جبناء … هلق عم تصرخ ولاك حقير !!…

على إيقاع صرخات المساعد و”دبيكه” فوق الملازم، كانت ضربات الشرطة تزداد عنفاً وشراسةً، وصرخات واستغاثات الملازم تخفت شيئاً فشيئاً.

بعد قليل تمدد الملازم أول إلى جانب العميد!!… هل كان لدى إدارة السجن أوامر بقتل الضباط أثناء الاستقبال أو التشريفة ؟”.

والآن جاء دورنا. ” إجاك الموت يا تارك الصلاة !” عبارة سمعتها فيما بعد من الإسلاميين حتى مللتها، ولكن فعلا جاء دورنا، حملة الشهادات الجامعية، ليسانس ، بكالوريوس ، دبلوم ، ماجستير .. دكتوراه .. الأطباء شربوا وبلعوا البالوعة، المهندسون شربوا وبلعوا البالوعة، المحامون .. أساتذة الجامعات .. وحتى المخرج السينمائي .. شربت وبلعت البالوعة .. الطعم .. لا يمكن وصفه !! والغريب انه ولا واحد من بين كل الشاربين تقيأ !!.

وأصبح بين هؤلاء جميعاً شيئان مشتركان، الشهادة الجامعية، وشرب البالوعة !! .

ثم أكثر من ثلاثين فلقة، كل فلقة يحملها اثنان من البلديات، أمامها ثلاثة عناصر وثلاث كرابيج…. والكثير.. الكثير.. من القسوة، الألم، الصراخ.

الألم.. الضعف.. القهر.. القسوة.. الموت.. !!

قدماي متورمتان من آثار خيزرانة أيوب (في فرع المخابرات بدمشق)، بالكاد أستطيع المشي. عندما مشيت في الساحة الأولى فوق الإسفلت الخشن ، كنت كمن يمشي على المسامير ، رفع البلديات قدمي الى الأعلى بالفلقة ، ثلاثة كرابيج تلسع قدمي المتورمتين .. موجة داخلية عارمة من الألم تتكوم وتتصاعد لتنفجر في الصدر… تنحبس الأنفاس عندما تهوي الكرابيج … الرئتان تتشنجان … تنغلقان على الهواء المحبوس وتتوقفان عن العمل … ومع الموجة الثانية للألم وانفجاره في الصدر … ينفجر الهواء المحبوس في الرئتين عن صرخة مؤلمة، أحسها تخرج من قحف الرأس … من العينين … أصرخ … وأصرخ والقدمان مسمرتان في الهواء … كل محاولاتي لتحريكهما … لإزاحتهما … فاشلة !! تنفصلان عني … مصدر للألم فقط… سلك يصل بينهما وبين أسفل البطن والصدر… موجات متلاطمة من الألم، تبدأ الموجة عندهما، تمتد وتتصاعد ثم تتكسر عند الرأس، وصرخة ألم ورعب ومهانة ناثرةً الذهولَ وعدم الفهم والتصديق، أكثر من ثلاثين صرخة متوازية… متشابكة، لأكثر من ثلاثين رجلاً، تنتشر في فضاء الساحة الأولى.

في البداية استنجدت بالله، وأنا الذي كنت طوال عمري أتباهى بإلحادي.

أكثر من ثلاثين صرخة ألم … قهر … تخرج من أفواه أكثر من ثلاثين رجلاً مثقفاً .. متعلماً !! أكثر من ثلاثين رأساً، كل منها يحوي الكثير من الطموح والأمل والأحلام، الكل كان يصرخ … عواء ثلاثين ذئباً … زئير أكثر من ثلاثين أسداً … لن يكون أعلى من صراخ هؤلاء الرجال المتحضرين … ولن يكون أكثر وحشية … وحيوانية!!

يضيع صراخي وسط هذه الغابة من الصراخ وأصوات ارتطام الكرابيج بالأقدام … وترتفع الأمواج. أستنجد برئيس الدولة .. يشتد الضرب .. وأفهم منهم أن علي ألا أدنس اسم فخامته بفمي القذر. استنجد بنبيهم:

-من شان محمد!!!

لطمة على الرأس وصوت المساعد الراعد:

-إي .. […….]!!! ليش في حدا خرب بيتنا غير محمد ؟!

تقلصات الألم تزداد، لحم الفخذين رقيق ويختلف عن لحم باطن القدمين، أختنق بصرخاتي أسكت لحظات لأتنفس وأعب الهواء الذي سأصرخه، غمامة حمراء تتأرجح أمام عيني، حد الألم لا يطاق.

-يا رب خلصني… نجني من بين أيديهم.

قلت هذا الكلام دون أن انطقه، طاف بذهني، ومنه خرج مسرعاً باتجاه السماء.

قواي تخور، قدرتي على الصراخ تخفُتْ، يصبح الألم حاداً كنصل الشفرة، أرى الكرابيج ترتفع عالياً، أتوقعها، إذا نزلت هذه الكرابيج على جسدي فأنا حتماً سأموت !! لم يبق أي طاقة لتحمل المزيد من الألم !!.. الموت… أعود إلى الله:

-يا رب دعني أموت … دعني أموت … خلصني من هذا العذاب.

يصبح الموت أمنية!! أتمنى الموت صادقا … حتى الموت لا أستطيع الحصول عليه!!.