المحرر

في ذكرى محاكمة مجموعة ال71

ويستمر نزيف الجراح

كتبت سابقا حول محاكمة “مجموعة ال71” التي أدينت بأحكام قاسية في 31 يوليوز سنة 1984، وبما أن ذكرى هذه القضية على الأبواب، أعيد نشر ما كتبته في الموضوع، مع تغيير العنوان وتحيين ما يحتاج إلى التحيين وإضافة ما يساهم في تجويد النص.

هناك أحداث عصية على النسيان، لا يمكن تجاهلها بما لها من قدرة على إعادة رسم مسار حياتنا، فمهما حاولنا تجاوزها تظل محفورة في الذاكرة، بل إن بعض اللحظات قد تكشف “من نكون؟”. كما أن الحدث الذي نمر به ويترك فينا نذوبا، يعلمنا دروساً لا تمحى بفعل مرور الزمن..

من ذلك ما حدث يوم 31 يوليوز من سنة 1984، فقد رسم وشما غائرا في ذاكرة الإعتقال السياسي بالمغرب، حيث أصدرت محكمة الإستئناف بالحبوس بمدينة الدار البيضاء أحكامها التي تراوحت ما بين الإعدام وأربع سنوات في حق عناصر ما سمي ب”مجموعة ال71″.

وعندما ألتفت متأملا إلى تلك اللحظة، التي ما تزال تحضرني بكل تفاصيلها وأجوائها، أجد أن 42 سنة، بما تعنيه من توالي الأعوام والشهور والأيام وتعاقب الليل والنهار، قد مرت على الحدث..بالرغم من أننا كنا نشعر بتثاقل الزمن حينما كنا نعيش في أتون الحدث، فإننا في المقابل نشعر الآن أن كل اللحظات التي مرت كانت كحلم عابر..غير أن النذوب التي خلفها على ملامحنا تفضح مكر السنين..كان عمري حين اعتقلت 21 سنة، بينما أبلغ اليوم 63 سنة، مضت خلالها السنون سريعة كالطيف، وكأن الزمن قد انسل في ومضة، أو كأن ثقبا قد ابتلع ال42 سنة وطواها حين غفلة، لنجد أنفسنا قد وهن العظم منا واشتعل الرأس شيبا، ومنا من قضى نحبه، ومنا من ينتظر صامتا مطرقا.

تعود بي الذاكرة إلى ساعة متأخرة من ليلة الثلاثاء آخر يوم من شهر يوليوز سنة 1984، حين أصدرت محكمة الإستئناف بالحبوس المقابلة للمسجد المحمدي بالدار البيضاء أحكامها القاسية في مجموعة ال71.

نعم..استرجع شريط الذكريات حيث وجدت نفسي رفقة إخواني في المجموعة داخل قاعة المحكمة، أمام القاضي السيد الغزواني وممثل النيابة العامة السيد مداح.. نردد هتافات وأناشيد جماعية، ملء حناجرنا، يصل صداها إلى عائلاتنا المرابطة بعيدا أمام بوابة المسجد المحمدي، وهي تردد معنا سمفونية التحدي في جو مفعم بالحماسة والشعور العارم بالنشاط…

تعود بي الذاكرة إلى هذه اللحظة وكأن الحدث حصل بالأمس القريب، بينما مرت عليه 42 سنة منذ اختطافي وإخفائي قسريا في قبو معتقل درب مولاي الشريف السري مع بقية أعضاء مجموعتي.

نعم لقد مرت 42 سنة لا نلوي منها على شيء..منها 11 سنة قضيتها خلف القضبان موزعة على مجموعة من سجون بلادي منها، اغبيلة بالدارالبيضاء، والمركزي بالقنيطرة، والمحلي بآسفي، وبولمهارز بمراكش، ومركب عكاشة بالبيضاء، وسيدي موسى والعادير بالجديدة..كما انصرمت منها 31 سنة منذ الإفراج عني سنة 1994 ، لم يبارحني خلالها الإحساس بأنني ما زلت رهن الإعتقال، مقيد الإرادة، مخنوق النَفس، بلا حول ولا حيلة..بل لا يزال هذا الإحساس يلح علي واشعر إزاءه بالحسرة القاتلة، وهو يعلن أنني انتقلت من سجن انتصرت فيه لكرامتي ومبادئي، كنت فيه على خط النار ضد جلاد واضح مكشوف الملامح، واعتنق قضية تمنحني مبررا للوجود، إلى سجن مترامي الأطراف متعدد الوجوه والأقنعة، سجن فقدت فيه جزءا من هويتي المشروخة، وتهت في شعابه بين طاحونة المعيش اليومي وإكراهاتها المقيتة، وبين البحث عن ما تبقى من ذات هلامية. لأدرك عندئذ أنني فعلا انتقلت إلى سجن مخادع من نوع آخر، تغذي فيه الحرمان من ما هو طبيعي..البحر والجبال والمرأة.. وتتنازل فيه عن كينونتك كإنسان حر كريم..نعم أدركت أنني صرت في هذا السجن الكبير هدفا لسادية جلاد متستر مستتر يجيد فن التقمص، ويتقن لعب الأدوار..

تعود بدايات الحكاية إلى ثمانينيات القرن الماضي حين أدى سوء الظروف الإقتصادية في المغرب إلى تدهور ملحوظ في الوضعية المعيشية للمواطن المغربي البسيط، إذ لم يكن نصيب الفرد في المغرب من الناتج الإجمالي سوى 76 دولارا، بينما كان مثلا في تونس 129 دولارا، وبلغ في ليبيا 846 دولار حينذاك.

أمام هذه الوضعية دعت النقابة العمالية “الكونفدرالية الديمقراطية للشغل” إلى خوض إضراب عام عن العمل في يونيو سنة 1981 احتجاجا على الزيادة في أسعار بعض المواد الغذائية الأساسية.

وفي هذه الأجواء المشحونة بالتوتر والإحتقان تبنت منظمة “الشبيبة الإسلامية” خطابا سياسيا تصعيديا، معلنة عن إفلاس الخيار الليبرالي، وأدانت التوجهات الإقتصادية الممنهجة ضد الفقراء المعدَمين، ولم يتخلف المنتسبون لها عن المشاركة في الإضراب العام بمدينة الدار البيضاء والمحمدية في 20 يونيو من السنة المذكورة.

عمت أجواء الإضراب العام، وانتشرت الإحتجاجات السلمية التي تطورت إلى مواجهة أريد لها أن تنزلق إلى مواجهة دموية غير متكافئة، حين تدخلت قوات الجيش والأمن بعنف غير مبرر، استعملت فيه الذخيرة الحية، واكتسحت الدبابات شوارع الدارالبيضاء، ولعلع الرصاص في الأزقة.. وانتشرت رائحة الخوف والبارود والموت في الأحياء الشعبية..

وعندما وضعت هذه الهجمة أوزارها، انكشف المشهد الدموي عن انتهاكات جسيمة، حصدت أرواح عشرات الشهداء الذين دفنوا في قبور جماعية مجهولة، من دون مراسم..كما زجت بمئات المعتقلين داخل السجون في غياب ضمانات المحاكمة العادلة..

إزاء هول الفاجعة وقسوتها، إلتزمت منظمة “الشبيبة الإسلامية” بإحياء ذكرى هذه الأحداث الأليمة وفاءا لأرواح الشهداء الذين نعتهم وزير الداخلية آنئذ إدريس البصري ب”شهداء الكوميرا”.

وانطلاقا من هذا المبدأ أحيت المنظمة في 20 يونيو سنة 1983 الذكرى الثانية ل‘‘الإنتفاضة الشعبية’’عبر الأنشطة التي قامت بها ‘‘فصيلة الجهاد’’ والتي تمثلت في توزيع المنشورات والكتابة على الجدران وتعليق الملصقات ولافتات تحمل عبارات مناهضة لنظام الحكم تحرض على الثورة..، في كل من المحمدية والبرنوصي وعين السبع بالدار البيضاء.

وعلى إثر النشاط الذي قامت به “فصيلة الجهاد” ابتداء من يوم الإثنين 20 يونيو 1983 والذي وافق 10 رمضان 1403 ذكرى وفاة الملك محمد الخامس رحمه الله، انطلقت حملة من الإختطافات استهدفت نشطاء إسلاميين، فبتاريخ 22 يونيو 1983 قامت قوات الأمن باختطاف عدد منهم يقيمون بالحي المحمدي، بتهمة عقد تجمعات سرية والإنتماء لمنظمة الشبيبة الإسلامية. وقد استمرت موجة الإختطاف لتشمل مجموعة أخرى من درب الكبير بتاريخ 03 يوليوز بنفس التهمة السابقة.

واستمرت الحملة حتى اعتقل عضو من ‘‘فصيلة الجهاد’’ في حالة تلبس بالمحمدية في 13 غشت 1983 وهو يعلق ملصقا معاد لنظام الحكم. وبذلك انتقلت الإختطافات إلى صفوف أعضاء الفصيلة في كل من المحمدية وعين السبع والبرنوصي..وبما أنني كنت عضوا من أعضاء “فصيلة الجهاد”، فقد تم اختطافي بدوري بتاريخ 20 غشت 1983 بمدينة المحمدية، وبعد أربعة أيام.. نقلت إلى المعتقل السري بدرب مولاي الشريف معصوب العينين..حيث وجدت من سبقني من المختطفين من المحمدية والحي المحمدي ودرب كبير بالدار البيضاء هناك.. و في يناير 1984 اعتقلت عناصر أخرى كانت قادمة من فرنسا بعد توزيع مناشير بمناسبة انعقاد المؤتمر الإسلامي بالدار البيضاء تحمل توقيع ‘‘حركة الثورة الإسلامية بالمغرب’’ التي وصفها الراحل الحسن الثاني في خطاب له بأنها عناصر خمينية، وفي فبراير من نفس السنة اعتقل عنصرين من ‘‘حركة المجاهدين في المغرب’’ وبحوزتهما أعدادا من مجلة ‘‘السرايا’’ التي كان يصدرها عبد العزيز النعماني بفرنسا.

عندما كان المختطفون يقبعون داخل المعتقل السري بدرب مولاي الشريف بالحي المحمدي بالدار البيضاء، اندلعت إحتجاجات شعبية من جديد في يناير 1984 بكل من الدار البيضاء و الناضور ومراكش. و ينبغي التنبيه أن هذه الإحتجاجات كانت من بين الأسباب التي عجلت بتقديم أفراد مجموعة ال71 الموجودون في حالة اعتقال إلى غرفة الجنايات بمحكمة الإستئناف بالدار البيضاء.

لقد صار عدد المتهمين في قضية المجموعة 51 متهما حضوريا، قضى معظمهم ما يناهز ستة أشهر داخل المخفر السري بدرب مولاي الشريف، إضافة إلى 20 متهما غيابيا، ليكون مجموعهم هو 71 متهما، ومنه اقتبس إسم المجموعة.

عرض المعتقلون منهم على قاضي التحقيق ابتداء من 13 فبراير 1984 بتهمة الإعتداء بهدف دفع الناس لحمل السلاح ضد سلطة الملك، والمس بسلامة الدولة الداخلية ومقدساتها، والمؤامرة ضد النظام بهدف استبداله بنظام آخر، وعدم التبليغ بجناية المس بسلامة الدولة…

وبعد انتهاء أطوار كل من البحث التمهيدي والبحث التفصيلي انطلقت جلسات المحاكمة الماراطونية من 21 يونيو إلى 31 يوليوز 1984 حيث أصدرت استئنافية الدار البيضاء أحكامها حضوريا في حق المجموعة بإدانة 13 متهما بالإعدام منهم سبعة متهمين غيابيا، و 34 متهما بالمؤبد منهم ثلاثة عشر غيابيا، و 8 متهمين بعشرين سنة ، و9 متهمين بعشر سنوات، و7 متهمين بأربع سنوات سجنا نافذة، في قضية رقم 192/84، وقد رفض حق المتهمين في النقض بتاريخ 23 يوليوز من سنة 1985.

وعلى نفس الإيقاع التصعيدي حاولت منظمة “الشبيبة الإسلامية” مرة أخرى في سنة 1985 تسريب مجموعة من عناصرها تطلق على نفسها إسم ‘‘كتيبة بدر’’ إلى المغرب محمّلة بكمية من الأسلحة، غير أنها ضبطت على الحدود الشرقية، وقدّمت مع عناصر أخرى إلى المحاكمة ضمن ما سمي بمجموعة ال26 الإسلامية، التي حوكمت بالدار البيضاء ،وصدرت في حقها أحكاما بتاريخ 02 شتنبر من نفس السنة تراوحت ما بين الإعدام في حق خمسة من عناصر المجموعة ،وواحد بالمؤبد ،وتسعة حوكموا بعشرين سنة ،وواحد حوكم بخمسة عشر سنة ،بينما حوكم واحد من المجموعة بخمس سنوا سجنا نافذا.

وبالموازاة مع ذلك كانت ‘‘حركة المجاهدين بالمغرب’’ المنحدرة من منظمة الشبيبة الإسلامية والتابعة لعبد العزيز النعماني، تحاول تسجيل حضورها..، حيث ألقي القبض سنة 1985 على مجموعة من هذه الحركة بسبب توزيع مناشير بمدينة مراكش، وقدمت إلى المحاكمة التي أصدرت حكمها فيها بتاريخ 24 أكتوبر والذي قضى بإدانة أربعة أشخاص من المجموعة بالمؤبد ،وأربعة بثلاثين سنة، وإثنين أحدهما بخمسة وعشرين سنة، والآخر بعشرين سنة سجنا نافذا.

كما توبعت مجموعة أخرى من نفس التنظيم بنفس المدينة سنة 1986، وصدرت الإدانة بتاريخ 18 دجنبر 1986 في حق واحد بالمؤبد، وآخر بعشرين سنة، إثنان بعشر سنوات، وواحد بثماني سنوات، وثلاثة بخمس سنوات سجنا نافذا.

كانت سجون المغرب في هذه المرحلة تشهد توافدا لمجموعات من المعتقلين السياسيين يساريين وإسلاميين..خلدوا ملاحم في الدفاع عن حقوق المعتقل السياسي ومعتقل الرأي داخل السجون في وقت كانت فيه ﻻئحة الممنوعات تشمل حتى الجريدة والمجلة والمذياع وساعة اليد، والكتب وأحيانا اﻷوراق واﻷقلام..

لقد عشنا طيلة هذه المدة في نضال ومواجهات..وإضرابات لا محدودة عن الطعام خلفت شهداء من اليسار و تركت عاهات مستديمة في صفوف المعتقلين،..كما تعرض المعتقلون السياسيون لسلسلة من الإعتداءات المتواصلة من ترحيل وإبعاد تعسفي وهجوم انتقامي وحرمان من الحقوق.

ولا يمكن نسيان حركة العائلات خارج السجون والمتعاطفين مع قضية المعتقلين السياسيين بالمغرب، حيث كانت أمهات المعتقلين وزوجاتهم وأخواتهم يمثلن درعا لحمايتهم والدفاع عن حقوقهم ولسانا لإيصال صوتهم إلى الرأي العام الوطني والدولي..

لقد كانت العائلات في الواقع هي من عانت أكثر وتكبدت المشاق، ورافقتنا دون تأفف في رحلة العقاب ما بين السجون، أما نحن المعتقلون فكنا نعيش قمة التحدي مقتنعين بأفكارنا اعتقادا منا أننا نخدم قضيتنا العادلة التي كنا على استعداد للموت في سبيلها..

وكما قال ألبير كامو أن الأزمات والقيود هي التي تصنع الإنسان وتظهر ما بداخله من روح المقاومة. فإن ما عرفه المغرب من قمع وإجهاز على الحقوق ومحاولة لإسكات صوت الكرامة أدى في الأخير وأمام الصمود المعتقلين السياسيين وعائلاتهم وكل المساندين لهم إلى تكسير النير، و بداية للعد التنازلي

الذي أدى إلى طي مرحلة من تاريخ المغرب السياسي سميت ب “سنوات الرصاص”.

وانسجاما مع قناعاتهم واصل المناضلون من داخل قلاعهم ومن خارجها فضح الإنتهاكات الجسيمة المرتكبة من طرف الجلاد.. وبقينا في عملية شد وجدب..حتى أعلن الراحل الحسن الثاني رحمه الله عن عزمه إغلاق ملف المعتقلين السياسيين أثناء خطابه في 9 يوليوز 1994، وكلف المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان المنشأ سنة 1990 بإعداد لائحة الأسماء.

وبالفعل حصل الإنفراج السياسي وصدر العفو الملكي الشامل الذي استفاد منه 424 من المعتقلين السياسيين والنقابيين، كما سمح بعودة المنفيين والمغتربين إضطراريا إلى أرض الوطن…

أما بالنسبة لمجموعة ال71 فقد استفادت بدورها من هذا العفو باستثناء المحكومين منها بالإعدام والذي حول إلى السجن المؤبد ليطلق سراحهم بعد أربع سنوات، ما عدا عنصرين من أعضاء “فصيلة الجهاد” حاولا الفرار من السجن المركزي بالقنيطرة سنة 1987 وهي المحاولة التي أدت إلى مقتل أحد حراس السجن، ليمكثا رهن الإعتقال طيلة ما يناهز 25 سنة.

وهكذا لفضت السجون داخل المغرب ثلة من المعتقلين السياسيين السابقين بعدما قضوا سنوات من اﻹعتقال السياسي ارتكبت في حقهم انتهاكات جسيمة لحقوق اﻹنسان خلال هذه المرحلة التي أطلق عليها “سنوات الرصاص”.

و لم يتأخر المفرج عنهم من المعتقلين السياسيين في تأسيس “المنتدى المغربي من أجل الحقيقة واﻹنصاف” إطارا جامعا لهم، سنوات قليلة بعد إطلاق سراحهم..بعدها بادرت الدولة إلى إنشاء “هيئة اﻹنصاف والمصالحة” سنة 2004 ، لتحل محل “هيئة التحكيم والتعويض المستقلة” التي أنشأتها من قبل…

نعم لقد أطلق سراحنا.. وغادرنا السجون سنة 1994 وتنفسنا الصعداء، وتوهمنا أن ساعة الحقيقة والمصالحة الوطنية والإنصاف قد حان دورها سعيا وراء طي صفحة الماضي.. لنكتشف، مع كامل الأسف، أن الإنصاف والمصالحة “سراب..، يحسبه الظمئان ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا..”، حيث لم تضع كل التدابير المتخذة حدا لاستمرار الممارسات المرفوضة التي كانت مدعاة لمعارضتنا..وصار الحال منحصرا فقط في مسألة جبر الضرر المادي لضحايا الإنتهاكات الجسيمة، بغض النظر عن مطالب التغيير وتمتيع المغاربة بكافة حقوقهم السياسية وحقوقهم الإقتصادية والإجتماعية..بينما استمرت فلول الحرس القديم في انتهاكاتها السابقة..

فبعد استراحة قصيرة عرف المغرب أحداثا إرهابية كانت لها تداعيات أعادتنا إلى المربع الأول، و واصل سيزيف معاناته الأزلية، كما عادت حليمة إلى عادتها القديمة..

لقد كان من قدري الإشتغال في “هيئة الإنصاف

والمصالحة” التي أصدرت توصيات مهمة من قبيل “ضمانات عدم تكرار الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان”..لكن ما وقع فيما بعد كان صادما وامتحانا لتوصيات الهيئة..فبدعوى محاربة الإرهاب تم الإلتفاف على كل المكتسبات..، وقد خلفت لنا هذه الإنتهاكات الجديدة جيلا جديدا من ضحايا الإنتهاكات الجسيمة في صفوف ما يسمى بالتيار السلفي. كما أعقبتها موجة من الإعتقالات مع انطلاق الحراك الشعبي في فبراير 2011 وما صاحب ذلك من إجهاز على حرية التعبير والرأي والصحافة، وتراجع في مؤشرات التنمية البشرية، يضاف إلى ذلك ارتفاع نسبة البطالة وغياب ضمانات العيش الكريم…بل و ازدادت الوضعية قتامة بعد جائحة كورونا إذ تم الهجوم على ما تبقى من الحق في التظاهر السلمي من وقفات واحتجاجات، وتغولت مافيا الفساد..وضاق المغرب بما رحب على أبنائه..

لقد عشنا هذه المرحلة من سنوات الرصاص إلى سنة 1999، مليئة بالصراع وتشنج العلاقة ما بين الحاكمين والشعب، فكانت الإعتقالات ومحاولات الإنقلاب العسكري والثورات والانتفاضات الشعبية التي ووجهت بالنار والحديد، وكنا شاهدين على انتفاضة 20 يونيو 1981م والتي كانت منطلقا لحراكنا، حيث وقفنا على قسوة التدخل العسكري وعبثية قنص المواطنين العزل في الدار البيضاء الذين لم يكونون يحتجون سوى ضد الزيادة في أسعار بعض المواد الغذائية الأساسية، بل أن بعضهم لم يكن مشاركا في تلك المسيرات..

عشنا في مرحلة كانت فيها الشعوب مشبعة بقيم الحرية والكرامة والعدالة، مع الإستعداد للتضحية في سبيل تحقيق ذلك، كما كانت القوى الشعبية لا تتاخر في مواجهة الإستبداد والفساد.. بثورات تنطلق من قاعدة “نكون أو لا نكون”.

لقد نشأ جيلنا في فترة انتقالية ما بين الإستعمار والإستقلال، وكثير من والدينا وأقربائنا انخرطوا في صفوف المقاومة أو جيش التحرير، وقدم الشعب المغربي شهداء لتحرير الوطن من ربقة الإستعمار، وكان كله أمل في أن يعيش في أكناف الحرية والكرامة في ظل الاستقلال، لكن خابت آماله، واستمر الإستعمار الجديد في استغلال المغرب واستحمار المغاربة، و قد ناب عنه أبناء من جلدتنا..

إن نظاما سياسيا مسؤول عن حماية أبناءه و تمتيعهم بحقوقهم التي تكفل لهم الحرية والعيش الكريم، يقوم بتعريضهم للتجويع والقتل والسجن لهو أشبه بعصابة أو مافيا من أكابر المجرمين المقنعين، وأقل ما يمكن القيام به حفاظا على الكرامة والحرية وحماية الإنسان فينا يتمثل في رفض سياسات هذا النظام وفضحها ومناهضتها..لذلك عندما دعا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ربه قال “اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي أمر أمتي فرفق بهم فارفق به” كما أكد على أنه “ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة”.

وهكذا فبدافع المناهضة واستجابة لواجب التغيير قمنا بما قمنا به..

هذه المرحلة المفصلية علمتنا معنى الوطن والحرية، وربتنا على قيم المقاومة والإباء، ولقنتنا أن”الجهاد ماض إلى يوم القيامة” وأن ” من رأى منكم منكرا فليغيره..”.

فهل يا ترى، كان متوقعا منا أمام مكر المسؤولين تمرير سياسة التجويع التي كانت تمتح من قاموس “جوع كلبك يتبعك”؟ ألم ينتبه هؤلاء المسؤولين إلى قول أبي ذر الغفاري رضي الله عنه “عجبت لمن لم يجد قوت يومه، ولم يخرج شاهرا سيفه”؟، مع العلم أن جوعى المغرب البسطاء لم يخطر ببالهم الخروج بالسيف، بل كانوا فقط يريدون التعبير عن رفضهم لسياسة التجويع الظالمة..فإذا بهم يتعرضون لما تعرضوا له..

وهل كان مطلوبا منا ابتلاع ألسنتنا، والسكوت على الظلم والإعتداء الذي أصاب أبناء وطننا العزل؟ وهم يقنصون من فوق السطوح كالطرائد..

هل كان ينبغي لنا نسيان الشهداء ومسامحة الجلاد، وتجاهل المقابر الجماعية وغض الطرف عن قتل “المستضعفين من الرجال والنساء والولدان” الأبرياء.. كأن شيئا لم يقع؟..

أتأمل الزمن الذي مر سريعا، خطونا الخطوات الأولى في درب النضال ونحن شباب يافعون، كلنا حماس ورغبة في التغيير، وقد رسمنا معا لوحة وردية لمغرب المستقبل، رسمناها بآلامنا وصمودنا، واليوم أرى مغربا لا زال يعاني من انتهاكات جديدة ويئن تحت وطأة الفساد والإستبداد، وتهديد القوت اليومي للمغاربة..ف”ما أشبه اليوم بالبارحة”.

لقد صرنا أمام طينة من بني جلدتنا باعت الوطن في حفلة تطبيع بدعوى التنمية، واغتنت على حساب المستضعفين، واستحوذت على المناصب والمكاسب وسرقت منا الوطن. بل صار وضعنا سرياليا كالأيتام في مأدبة لئام لا يرقبون فينا إلا ولا ذمة، يراكمون ثرواتهم بتجويعنا وتفقيرنا ونهب ثرواتنا و التضييق علينا، ولا يخجلون من الجمع، في شراهة غير مسبوقة، ما بين “التجارة والإمارة”، وقد تمادوا في ظلمهم وسلطوا علينا قهرهم الجبائي حتى أصبحت حالتنا أقرب من ما ذكره الشيخ اليوسي في رسالته إلى المولى اسماعيل يشكو إليه جباة مملكته الذين “جرّوا ذيول الظُّلم على الرّعية. فَأَكَلُوا اللَّحْم وَشَرِبُوا الدَّم وامتشوا الْعظم وامتصوا المخ. وَلم يتْركُوا للنَّاس دينا وَلَا دنيا..”.

فما هي الحصيلة يا ترى؟ وماذا حصدنا غير الشوك؟، بينما بقيت الحقيقة غائبة والمصالحة ضائعة واﻹنصاف مفقود..ولم ندفن الماضي..

هذه السنوات العجاف التي مرت منذ إطلاق سراحنا من السجن الصغير، والزج بنا في هذا السجن الكبير، فقدنا فيها الكثير من آباءنا وأمهاتنا، ورحل عنا كوكبة من المناضلين من إخواننا ورفاقنا الذين قاسمونا المعاناة والحلم المشترك، رحلوا وفي صدورهم غصة وأسئلة حارقة..

نعم ما يزال الجرح نازفا والحصيلة هزيلة، فماذا تغير في مغرب الحريات والكرامة اليوم؟ وما آثار سنوات الرصاص، من نضال وتدافع، لتحسين واقع المغاربة الذين ضحينا من أجلهم ؟..أين هي ضمانات عدم التكرار من واقع الممارسات؟

أم أن المسألة لم تكن سوى مناورة سياسية، من أجل امتصاص الإحتقان؟..فتحولت معها أحلامنا إلى كوابيس، بينما أصرت دار لقمان أن تبقى على حالها..

لقد فقدنا الثقة في الأحزاب والنقابات وفي المسؤولين.. إلا من رحم الله، واستيقظنا من وهم الديمقراطية وحقوق الإنسان.. وأدركنا أن التفاهة والضحالة اخترقت كل مجال جاد و واعد ، وفهمنا متأخرين بأن “السياسيون كالقرود في الغابة، إذا تشاجروا أفسدوا الزرع، وإذا تصالحوا أكلوا المحصول”، على حد قول جورج أورويل.

نعم.. يمكن وأد أحلامنا، كما يمكن لكل نضالاتنا وتضحياتنا أن تعجز عن تغيير الواقع..لكننا موقنون أن الإنسان الذي يسكننا قادر على فضح الظلم ومناهضة التعسف والإستبداد، يشهر الممانعة حتى لا يبتعلنا هذا الواقع المرير ويحولنا إلى أدوات لتبرير نزواته، لقد رفضنا أن يغيرنا الواقع بدل تغييره، حينما اختلت موازين القوة، وآثرنا أن نكون مثل الأشجار التي تموت وهي واقفة، ولم نعدم المحاولة للقيام بواجب الشهادة على صراع الحق والباطل. وما يزال الكثير من ابناء ذلك الجيل يؤدون فاتورة رفض الإنحناء للعاصفة، يعانون من القهر والظلم ومن قسوة الحرمان في هذا السجن الكبير.

لكل ذلك صار الرهان عندنا ونحن في خريف العمر أن نستمر في فضح الظلم ورفض كل محاولات المسخ والإبتلاع، داعين الله تعالى أن يلحقنا بإخواننا الذين سبقونا إلى دار البقاء، لا فاتنين ولا مفتونين، ثابتين على الحق غير مبدلين أو مغيرين..

ف”اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس. يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصَلُحَ عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل علي غضبك، أو ينزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك”.

رب “تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ”.

محمد حقيقي : معتقل سياسي سابق مجموعة ال71

المحمدية بتاريخ 29 يوليوز2025

السجن في الغرب الإسلامي

جديد الإصدارات: الأستاذ حميد الحداد، السجن في الغرب الإسلامي، دار رؤية للنشر والتوزيع بالقاهرة، 2025.

يشير المؤلف إلى أن الكتاب هو طبعة ثانية مزيدة ومنقحة، فقد سبق أن تناول موضوع السجن ضمن مؤلفه المنشور سنة 2011م تحت عنوان ” السلطة والعنف في الغرب الإسلامي”، والذي قسمه إلى بابين: السجن والقتل، ونظرا لنفاذه من السوق منذ مدة ليست بالقصيرة، وإلحاح السيد مدير دار رؤية للنشر والتوزيع بالقاهرة لإعادة طبع الكتاب؛ فقد ارتأى إعادة طبع الباب الأول المشار إليه، على أن يتبعه إن شاء الله في القريب بالباب الثاني مع زيادة وتنقيح أيضا. وسيوزع بمعرض القاهرة للكتاب الذي سينطلق يوم الخميس 23 يناير 2025م، بينما المنتظر أن يسوق بالمغرب خلال معرض الرباط أبريل 2025م.

عرض لكتاب “حوارات في الأدب الإسلامي وأدب السجون: هموم وقضايا”للكاتب المغربي زكرياء بوغرارة

رائد المصري

صدر حديثا كتاب ادبي متخصص  يقوم على فكرة تقريب الادب الاسلامي وادب السجون من خلال حوارات مع رموز ادبية   لها وزنها في  الادب والفكر  كتاب حوارات في الادب الاسلامي وادب السجون قضايا وهموم للكاتب المغربي زكرياء بوغرارة يحاور ستة  من وجوه الادب  والمعرفة

الكتاب صدر عن دار مفكر للنشر والتوزيع  في 150 صفحة من الحجم المتوسط.. في طبعته الاولى 2025

في عالم يزداد تعقيدًا وتشابكًا، حيث تتصارع الأفكار وتتنازع القيم، يبرز الأدب كأداة فاعلة للتعبير عن هموم الإنسان وقضاياه. وفي هذا السياق، يأتي كتاب “حوارات في الأدب الإسلامي وأدب السجون: هموم وقضايا” للكاتب زكرياء بوغرارة، ليكون إضافة نوعية إلى المكتبة العربية، حيث يفتح نافذة على عالمين متقاطعين: الأدب الإسلامي بأبعاده الفكرية والروحية، وأدب السجون بمعاناته الإنسانية العميقة.
الأدب الإسلامي: بين الهوية والتحديات

يبدأ الكتاب بسلسلة من الحوارات مع نخبة من الأدباء والمفكرين الذين أثروا الساحة الفكرية والأدبية بإسهاماتهم المتميزة. من خلال هذه الحوارات، يتناول الكاتب قضايا جوهرية تتعلق بالأدب الإسلامي، مفهومه، همومه، وتحدياته. فالأدب الإسلامي ليس مجرد أدب يعبر عن قيم الإسلام وأخلاقه، بل هو أدب يعكس رؤية شاملة للكون والحياة، ويحمل رسالة إنسانية تسعى إلى إسعاد البشرية وهدايتها إلى طريق الرشد.

زكرياء بوغرارة
زكرياء بوغرارة

في حوار مع الأديب الفلسطيني جميل السلحوت، نتعرف على كيف أصبح أدب السجون جزءًا لا يتجزأ من الأدب الفلسطيني، حيث يعكس معاناة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال. كما يتناول الكتاب تجارب أدباء سوريين ومصريين خاضوا تجارب السجون، وكيف استطاعوا تحويل معاناتهم إلى أعمال أدبية تفضح انتهاكات الأنظمة القمعية.
الحوارات: رحلة في أعماق الأدب والإنسان

في حوار مع الدكتور محمد حلمي القاعود، يتضح أن الأدب الإسلامي هو أدب أمة لها تصوراتها ومنظورها الخاص للكون والحياة. وهو ليس شيئًا جديدًا أو مستحدثًا، بل هو استمرار لأدب أمة تغيرت معتقداتها من الجاهلية إلى التوحيد. الأدب الإسلامي يعبر عن التصور الإسلامي للوجود، وهو تصور مفتوح وممتد في الزمان والمكان، يحمل في طياته قيم الوحدة والأخوة والإنسانية.
أدب السجون: معاناة الإنسان في ظل القمع

بالإضافة إلى الأدب الإسلامي، يتناول الكتاب أدب السجون، الذي يعكس معاناة الإنسان في ظل القمع والاضطهاد. من خلال حوارات مع أدباء خاضوا تجارب السجون، نتعرف على كيف يصبح الأدب وسيلة للتعبير عن الألم والمقاومة. أدب السجون ليس مجرد أدب يعكس معاناة السجناء، بل هو أدب إنساني بامتياز، يكشف عن وحشية الأنظمة الديكتاتورية التي تسعى إلى الانتقام من المعارضين السياسيين.

ما يميز هذا الكتاب هو أنه ليس مجرد مجموعة من الحوارات الأدبية، بل هو رحلة في أعماق الأدب والإنسان. من خلال هذه الحوارات، نتعرف على رؤى الأدباء والمفكرين حول دور الأدب في تشكيل الوعي الإنساني، وكيف يمكن أن يكون أداة للتغيير والتحرر. الحوارات لا تقدم فقط رؤى نقدية وفكرية، بل تكشف أيضًا عن تجارب شخصية عميقة، خاصة في ما يتعلق بأدب السجون.

في حوار مع الدكتور عماد الدين خليل، نتعرف على كيف يمكن للأدب الإسلامي أن يكون جسرًا بين الأدب والإسلام، وكيف يمكن أن يعبر عن حقائق الإسلام ومعطياته. كما يتناول الكتاب قضايا أخرى مثل تباين النتاج الإسلامي للأجناس الأدبية، ودور الأدب في خدمة القضايا المعاصرة مثل الأقليات والأوبئة.
الخاتمة: الأدب كأداة للتغيير

في زمن تشتد فيه التحديات وتتعقد القضايا، يأتي كتاب “حوارات في الأدب الإسلامي وأدب السجون: هموم وقضايا” ليكون مرجعًا لكل من يبحث عن فهم أعمق للأدب ودوره في تشكيل واقعنا المعاصر. الكتاب ليس مجرد مجموعة من الحوارات، بل هو دعوة للتفكير، والحوار، والتفاعل مع قضايا الإنسان في عالم مليء بالتناقضات والتحديات.

من خلال هذا العمل، يسلط زكرياء بوغرارة الضوء على دور الأدب في تشكيل الوعي الإنساني، وكيف يمكن أن يكون أداة للتغيير والتحرر. إنه كتاب يقدم رؤى عميقة حول الأدب الإسلامي وأدب السجون، ويكشف عن كيف يمكن للأدب أن يكون جسرًا بين الماضي والحاضر، وبين الذات والآخر.

في النهاية، يمكن القول إن هذا الكتاب هو إضافة قيمة إلى المكتبة العربية، حيث يقدم رؤى نقدية وفكرية عميقة، ويكشف عن تجارب إنسانية مؤثرة. إنه كتاب يستحق القراءة من قبل كل من يهتم بالأدب وقضايا الإنسان في عالمنا المعاصر.

الســـــجن للرجـــال قصة: نزيه أبو نضـال

المشهد الأول:
قاعة واسعة من الطراز القديم، جدران بيضاء فقدت لونها بتراكم السنين والغبار والدخان، كنبات راسخة ومتينة تتدلى من زواياها شراشيب فقدت شكلها ونضارتها، آثار التعرق والاتساخ تبدو بوضوح على أيدي الكنبات المغطاة بنسيج داكن الخضرة، وصمت مهيب يخيم على رؤوس الرجال المتقاربين في إحدى الزوايا.
تنحنح أبو شاهر وقال بلهجة صارمة ومتوعدة:

  • الفضيحة ما عاد ينسكت عليها، وسيرتنا صارت على لسان إللي بسوى واللي ما بسوى. وإذا ما عندك حل يا أبو برهم، أنا بخلي واحد من ولادي يغسل عار العيلة، بس أنا قلت هذه مش منيحة بحقكم، وإخوانها موجودين.
    قال أبو برهم عاتباً وغاضباً:
  • شو هالحكي يا أبو شاهر لو اخوانها قدروا يلاقوها قبل اليوم كان هي بعدها طيبة؟
    اتطمنوا يا جماعة، عرفنا طريقها، وإنشاء لله ما بطلع عليها الصبح.
    وقف برهم والشرر يتطاير من عينيه وصوته:
  • أي قلة زلام ابّيت أبو برهم يا عمي؟! أنا الليلة رايح أجيب خبرها.
    قال أبو برهم مهدئاً:
  • أقعد يابا واهدا، انت متجوّز، وعندك ولاد ومسؤوليات، خلّي واحد من إخوانك يذبحها.
    رد برهم بيقين:
  • يابا اخواني صغار، ولساتهم بالمدارس، والله ما حدا بذبحها غيري.
    تدخل أبو شاهر وقال بلهجة آمرة ومتزنة، كمن اعتاد أن لا يردّ له طلب:
  • أبوك معه حق يا برهم، وانت مسؤول عن عيلة، وهاي أبوك زي ما انت شايف صحته على قدها. وما شاء لله! أخوك سليم شب.
    تذكر برهم زوجته وأولاده وقال بلهجة أكثر لينـاً:
  • بس يا عمي سليم عنده توجيهي هالسنة، واحنا بدنا إياه يكمل علمه.
    قال أبو برهم:
  • بلا توجيهي بلا كلام فاضي، هو لو كان فالح بالمدرسة، كان نجح السنة إللي فاتت.
    والتفت إلى سليم وقال بلهجة مهدده:
  • ها يابا يا سليم شو قلت؟
    تلفت سليم حوله وهو يشعر بأن دائرة الحصار تلتف حول عنقه، تذكر سليم وجه مريم ونظرتها الحانية، كانت بمثابة أم وصديقة، رغم إنها تكبره بعام واحد فقط ، وخاصة بعد وفاة والدته. “كيف فعلت ذلك يا مريم”!! واكفهرّ وجهه وهو يتذكر بطنها المنتفخة، قبل أن تهرب من البيت.
    انتبه إلى صرخة أبيه:
  • ها ولـك شو قلت؟
    رد سليم متلعثماً:
  • إللي بتشوفوه يابا أنا بساويه.
    كان يعرف سلفاً انه المرشح الوحيد لذبح أخته، فبرهم رغم هيجانه المعلن يعلم ان العائلة لن تفرّط بمصدر رزقها الوحيد، وهو حين يبالغ بالتهديد بأنه هو الذي سوف يذبح مريم، فإنما يريد أن يدفعه هو للقيام بالمهمة.
    قال أبو شاهر وهو يسحب مسدسه ويناوله لسليم:
  • خذ يا عمي يا نشمي! بدنا إياك تحط ست رصاصات بين عيونها هالكلبة.
    قال أبو برهم وهو يشعر بالتصاغر لأنه لا يمتلك مسدساً مثل أبو شاهر:
  • هاي ما بتستاهل الرصاصة، سليم يذبحها بالشبرية، مش هيك يابا؟
    أعاد سليم يده الممدودة وهو يرتعش.. فقد تصور نفسه يطعن مريم بالشبرية، وهي تستغيث به، ودمها يغطي يديه وثيابـه:
  • إللي بتشوفـه يابـا.
    إنتبه إلى النظرات التي تحدق به من كل جانب، كان فيها الكثير من الإكبار والتشجيع. لم يسبق لكبار العائلة أن أولوه مثل هذا الاهتمام، بل كثيراً ما سخروا منه وعيّروه، لاهتمامه بمظهره ومطاردته للبنات، وخاصة بعد سقوطه في التوجيهي: “معلوم يا عمي الولد إتشبشب وعقله انتقل من راسه….” أصبح الآن مركز الاهتمام الذي تعول عليه العائلة لإنقاذ شرفها، استحضر بطن أخته المنتفخة ونظرات أهل الحارة له فأستقوى قائلاً:
  • هاي ما بتستاهل غير الذبح زي الغنمـة.
    غمر الجميع الارتياح.. قال ابو شاهر وابو برهم معا:
  • عفية عليك يا عمي، عفية عليك يابا. ** المشهد الثانـي: قاووش السجن واسع وكئيب، والشبابيك الضيقة عاليـة ومغطاة بالحديد والشبك القذر، الأسرة الحديدية ذات الطابقين تلتف بمحاذاة الجدران الرمادية على شكل حدوة حصان. في الفراغ المتبقي آنيـة قذرة للتبول الليلي وأكوام من البطانيات للذين ينامون على الأرض ولا يجدون مكاناً لهم فوق الأسرة إلا مقابل أجرة معلومة يدفعها المستجدون لـ(أبو الروس). وأبو الروس هو رئيس القاووش الذي لا يُرد له أمر، ومن يتجرأ مرة على الاعتراض فإن “روسيه” واحدة كفيلة بإقناع المعترض بأن الله حق. ولكنك تستطيع أن تكسب رضا أبو الروس ما دمت تدفع المعلوم فتحصل على سرير تنام عليه، وتعفى من عمليات التنظيف البشعة للقاووش وللحمامات والمراحيض القذرة. والحقيقة أن أبو الروس قلما يستخدم رأسه أو عضلاته لفرض ما يريد، ذلك أن المستجد ومنذ دخوله القاووش يستطيع أن يكتشف أن أبو الروس ، برأسه الضخم وجبهته الغليظة البارزة المليئة بالكدمات وآثار التشطيبات، هو قوة ماحقة لا ترد. خصوصاً وان عتاة المجرمين قد اضطروا قبله إلى الرضوخ لهذا الواقع، فما باله وهو الشاب المستجد. مند دخوله القاووش دب الذعر بقلب سليم، فقد استقبله أبو الروس بأسلوبه التحقيري المتسلط وبنظراته الهائلة وهو يقيسه من فوق لتحت:
    • إنت يا ولد! خذ بطانياتك ونام هناك في الزاوية.
      ولم يمهله:
  • والدور في التنظيف عليك اليوم، قومْ نظّـف القاووش.
    حاول سليم الاعتراض:
  • بس انا..
    قاطعه ابو الروس بلهجة ماحقة:
  • قوم هز طولك ولا! وبلاش اقوم لك هه!
  • حاضر حاضر.
    وبنفس اللهجة المتسلطة أصدر أوامره للمستجدين الآخرين. ولم يملك أحد منهم في هذا الجو المرعب سوى الأمتثال لأوامر أبو الروس.
    في الليل لم يستطع سليم النوم فالأرض قاسية وروائح البطانيات والمساجين والبول تملأ المكان وأصوات الشخير غير المنتظمة تختلط بحركات وأصوات مريبة.
    لم يعرف سليم متى تمكن النوم منه حين صحا على حركة غريبة خلفه وجسد هائل يحشره إلى الحائط، وحين حاول أن يتفلت كانت قبضة قوية تغلق فمه بينما الأخرى تدفع سرواله إلى أسفل، حاول بكل قواه أن يصرخ أو يتحرك دون جدوى ، وجاءه صوت أبو الروس المتحشرج:
  • إذا ما بدك تمـوت، خليك ساكت، ما تخاف! وأنا ببسطك وبريحك.

المشهد الثالــث:
..بعد سنوات، في نفس القاعة الواسعة، إلا أن جدرانها قد أصبحت أكثر إصفراراً وتشققاً، والكنبات الخضراء الداكنة أكثر إهتراء وإتساخاً، لكنها كانت تغص بالهرج والأهل والضحكات.
حين دخل سليم القاعة، بصحبة برهم، دبت الزغاريد وانطلقت التهاني وتدافع الأهل لعناق الغائب.
كان أبو برهم قد مات، كما مات أبو شاهر.
قال برهــم:

  • الحمدلله على سلامتك يا سليم! بيضت وجهنا.
    وقال شاهر :
  • والله زلمة يا سليم! رفعت راسنا. وترى لا تهكل هم، احنا رتبنالك كل شي الشغل والمره! واسمع قدام الجميع، انا اعطيتك بنت عمك: اختي سروة.
    (اصوات زغاريد)
    ام برهم: مبروك يما مبروك سروة زينة البنات.
    قالت ام شاهر بعدم رضا:
  • مبروك يا سليم والحمد الله على سلامتك.
    تابع شاهر بحماس:
  • ها شو قلت يا سليم؟ والعرس آخر الشهر؟
    رد سليم بصوت انثوي:
  • تسلم يا شاهر! انا ممنون لك!
    قال شاهر ليملأ مساحة الصمت والحرج:
  • بس إنشالله ما تكون اتعبت كثير في السجن؟
    رد سليم وعيناه تبرقان بصفاقة ومباهاة:
  • ولا يهمـك يا شاهر! السجن للرجـال

موقع الصفصاف

الوديع يقدم “ميموزا ـ سيرة ناج من القرن العشرين”

هسبريس – وائل بورشاشن

المكتبة الوطنية في العاصمة الرباط قدّمت مساء الجمعة سيرة صلاح الوديع “ميموزا – سيرة ناج من القرن العشرين”، للشاعر، والمعتقل السياسي في عهد “سنوات الرصاص”، وعضو “هيئة الإنصاف والمصالحة”.

في اللقاء الذي قدّمت فيه “السيرة”، ووثائقيٌّ حول مضمونها وحياة عائلة الوديع ذات الصيت السياسي والإنساني والأدبي، قال الشاهد الذي اعتُقل وعذّب في المعتقل نفسه الذي استقبل أباه محمد الوديع الآسفي سنوات قبله: “لم أنسَ، لكنني سامحت”.

وتابع الوديع: “أخذ مني هذا الكتاب سنوات… ففي الكتابة تبدأ شيئا فشيئا، ثم يصير الكتاب هو من يجرّ، بديناميته. والهاجس الأول لكتابة ‘ميموزا’ كان أن أكون ما أمكن موضوعيا إذا كانت هذه الكلمة ممكنة في الحديث عن سيرةٍ، وتذكر من عاشوا معي فيها. وعندي يقين بأن الذاكرة يجب أن يحافظ عليها، انطلاقا من مسؤولية تجاه الناس القادمين، لأننا جيل من الأجيال ولسنا وحدنا، ولكل أجل كتاب، وتوجد مسؤولية معنوية: أن تشهد. أما الهاجس الثالث فأن لا أكون ثقيلا على القارئ، وأن يكون الشكل الأدبي حاضرا، وتكون متعةٌ في القراءة”.

وزاد الكاتب ذاته: “حاولت أن أكون موضوعيا كما هو مطلوب من مؤرخ، ولو أنني لم أقم بعمل تأريخيّ، نهائيا؛ بل هو عمل أدبي يسترجع الذكريات، يمكن أن يدخل في باب السيرة. لكن ظروف حياتي جعلت تداخلا للشخصي بالأُسرَويّ وبالوطن”، مردفا: “إذن سيرة ‘ناجٍ من القرن العشرين’ توليفة، دون جفاف المؤرخ ولا الخيال المنساب للشاعر، أتمنى أن أكون نجحت فيها، لأضع القارئ في صورة ما وقع، لا للأسى على ما ضاع، بل لفتح أفق للمستقبل. والدليل أن الفصل الأخير موجه للأجيال الصاعدة، ووصية للمستقبل، سياسيا وفكريا واجتماعيا: جيلنا واجه هذه المعضلات، وهكذا حاول حلها، وجيلكم في ‘عالم ليس هو العالم’”.

هذه العالم “الجديد” من بين ما يسمه “جريمة فلسطين التي ليس لها اسم، والوضع الاقتصادي، ووضع أوروبا وكيف صارت في عيون الأفارقة والشعوب المستعمرة سابقا، وتحول كبير جدا من التحولات الكبرى في تاريخ البشرية”، وفق الشاهد الذي يقول في ختام سيرته: “هذا عالمكم عيشوه، وعايشوه، على أساس التشبث بدون تردد ونقاش بالوطن؛ لأنه من دونه لن نكون غير أشباح مشردين. وحياتُنا فوق هذا المغرب، وعليها أن تستمر، وعلينا أن نكافح من أجلها، ونحافظ على وحدتها، ونعمل من أجل عدالة اجتماعية، تجعل التراص عند الشعوب، والصمود أمام الامتحانات الكبرى القادمة”.

وتذكّر صلاح الوديع “أول درس في مواجهة العسف يوم اعتقل الوالد سنة 1963″، موردا: “أيقظتني أمي صباحا للبحث عنه لأنه ليست عادته الغياب، و(…) تحدثت مع الحارس وهي بنت 28 عاما، قائلة: أبحث عن زوجي، ‘فين دّيتوه؟’ (أي أين أخذتموه؟)”؛ كما تذكّر تشبّث الأم بأن زوجها وطني ولا حرج من اعتقالاته المتكرّرة، واستحضر مخاطبة والده له، وهو مازال طفلا، بأن ثمن الموقف هو السجن، وإن لم يتحقق ما يريده للوطن فإن على أبنائه في سبيل الموقف أن يصبروا على تأدية الثمن.

وعلّق الشاهد بقوله: “ربما كان لدي حظ التعرض لامتحانات وأنا طفل (…) والوطن ليس فندقا، بل كيان ومسار، وتاريخ ومستقبل، ويسائل في كل لحظة شخصاً… ويمكن أن يعطي الإنسان ما يمكن أن يعطيه، ولا يمكن أن يقول لا”.

وفي مرحلة ما بعد “الاعتقال السياسي” تحدّث الوديع عن “المنظمة المغربية لحقوق الإنسان”، حيث “تتلمذت على حقوق الإنسان، ووجدت أناسا مقتنعين بها، مع اختلافات طبيعية، ومن 1988 إلى 1999 اشتغلنا إلى وقت ظهور الفكرة”، وواصل: “للحقيقة والإنصاف أول من طرح فكرة ‘هيئة بين الحقيقة والإنصاف’ هو الراحل إدريس بنزكري، ولقينا استجابة مباشرة بعد تأسيس ‘منتدى الحقيقة والإنصاف’ سنة 1999. وفي مارس وأبريل 2000 بدأ الحوار، وتم إنضاج الفكرة على مهل إلى أن وجدت طريقها للتحقق في يناير 2004”.

وعاد الشاعر بذاكرته إلى علاقته بـ”الإنصاف والمصالحة”، قائلا: “فهمت أن هذه فكرة جديدة، تتطلب روحا جديدة، وتعاملا جديدا، مع بنزكري، وهذا كان درسا في الواقع بالنسبة لي شخصيا”.

ويرى الشاهد أن درس “الإنصاف والمصالحة” ومراحل أخرى هو أن “كل دولةٍ محافظةٌ بطبيعتها على ما هو موجود، فيما المجتمع والمفكرون والأدباء والنشطاء يعطون دينامية تنعكس ويجب أن تنعكس في مؤسسات الدولة…”، واسترسل: “يجب تسجيل السلاسة التي تم بها هذا، وكانت تجربة ‘الإنصاف والمصالحة’ بالمغرب من التجارب الخمس الرائدة في العالم من بين 60 تجربة. يمكن أن نختلف حول المنعطفات والأزمات، لكن يجب أن نشهد للتاريخ بما حدث”.

وتفاعلا مع سؤال من الحضور حول “المبالغة في المؤسسات الرسمية المهتمة بحقوق الإنسان” لم يتفق صلاح الوديع مع التشخيص، وأجاب: “نحن في حاجة ليس فقط إلى آليات للحماية، بل أيضا إلى آليات للنهوض… ومازلنا نحتاج إلى ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان في بلادنا، واحترام النساء والمساواة والإقرار بحقوق الأطفال، ومسائل على المستوى الاجتماعي، وحماية المجتمع من السياسات غير المناسبة للحكومات”، ثم ختم بقوله: “المجتمعات تتقدم بدينامية مؤسساتها، وأحزابها ونقاباتها، ولا يمكن أن ننكر الأمر. ولا إطناب في المؤسسات اليوم، بل مازلنا في حاجة إليها”.سنوات الرصاصسيرة داتيةصلاح الوديع

سجن قارة في مدينة مكناس المغربية

شيد السجن في عهد السلطان إسماعيل (1672 1727) وبينما كان السلطان يستقبل ضيوفه في القبة فوق الأرض، كان المساجين تحتها يفترشون الأرض ويعيشون أياما بائسة دون أمل في انفراج، ويرجح أن يكون السرداب قد بني في البداية ليكون مخزنا للمؤونة في وقت الأزمات خاصة أن السلطان خاض حروبا في مواجهة القبائل الخارجة على سلطته ثم تم تحويل المخزن بعد ذلك إلى سجن لمعارضيه ومرتكبي الجرائم الكبيرة والأسرى، والذي يؤكد أن هذا السرداب كان يؤدي وظيفة أخرى أنه أصبح في فترات مختلفة بعد مرحلة السلطان إسماعيل مخزنا للمؤونة

وهناك عدة شهادات حول السجن منها شهادة الأسير الفرنسي مويط (كان أسيرا في بداية حكم السلطان إسماعيل) حكى فيها الظروف الصعبة التي عاشها في السجن، وكيف كانوا يعملون طيلة النهار حتى تنهك أجسادهم تحت إشراف حراس قساة يمعنون في التنكيل بهم.

وكتب المؤرخ المغربي عبد الرحمن بن زيدان عن هذا السجن في كتابه “إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس” حيث قال “إنه كان من جملة السجون المعدة للأسارى وغيرهم من أصحاب الجرائم العظيمة، يبيتون به ليلا ويخرجون نهارا للخدمة. استعمال المساجين في الخدمة نهارا وجعلهم بالسجن ليلا هو ما يفعله الاستعمار الفرنسي مع المساجين من الأهالي وكأنه أخذ ذلك من فعل المولى إسماعيل”.

اختلف الباحثون في تحديد أصل تسمية سجن قارة، فهناك من يقول إنه يحمل اسم سجين برتغالي وعده السلطان إسماعيل بنيل حريته إن استطاع بناء سرداب متين تحت الأرض، في حين يرجع آخرون أصل التسمية إلى فترة الحماية الفرنسية حين اتخذه المستعمر سجنا للأهالي وكان حارسه أقرع، فعرف السجن بصفته تلك بعد تحريفها كون الفرنسيين لا ينطقون حرف العين فصار قارة.

ولم يكن للسجن باب للدخول عند بنائه وكان السجناء ينزلون إليه عبر سلم من حبال من ثقب كبير قرب قبة السفراء ومن الثقب نفسه يدخل الضوء والهواء وأيضا الطعام.

ويتناقل أهل مكناس قصصا غريبة ومبالغا فيها عن هذا المكان، فيتداولون روايات شفوية عن حدوده التي تمتد إلى مدينة تازة، وأن السجن كان يستوعب 40 ألف سجين، وقسم من الناس نسج حوله اساطير وعن اختفاء عدد من الزوار في متاهاته المعقدة وعن أرواح المساجين القلقة التي لا تزال تسكنه وتصرخ كل ليلة داخله.

يقع بمدينة مكناس تحت الأرض في الساحة المقابلة لقبة السفراء هو واحد من أكثر السجون المغربية غموضا وإثارة للخوف.. ينزل الزائر إليه تحت الأرض عبر أدراج ضيقة، تلف الظلمة المكان إلا من خيوط رفيعة من أشعة الشمس تتسلل محتشمة عبر ثقوب في السقف لتضفي على المكان هالة من الرهبة.

هو سجن مفتوح بلا أبواب ولا زنازين، صمم على شكل يشبه المستطيل، ومقسم إلى 3 قاعات واسعة في كل واحدة منها مجموعة من الأقواس والدعامات الضخمة.

حبس قارة أو السرداب أو المطبق الإسماعيلي أو الدهليز.. كلها أسماء لهذا المكان تناسلت حكايات وإشاعات حوله، ونسجت أساطير ما زالت تلاحقه وتوصيف مرعب يلفه “الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود”.

وتحوّل السجن التاريخي إلى مزار سياحي يجذب الأجانب قبل المغاربة.

ديوان مروان حديد

مروان حديد (ت 1976م) ، قائد أول ثورة إسلامية مسلحة في سوريا ضد حزب البعث والطائفة النصيرية الحاكمة .

في مواجهة سياسات القمع الوحشي الممنهج، ظهرت حركة معارضة مسلحة بقيادة مروان حديد الذي انشق عن جماعة الإخوان المسلمين وتبنّى العمل المسلح الاسلامي ، وأطلقت هذه المجموعة على نفسها اسم “الطليعة المقاتلة”، وبدأت في تنفيذ سلسلة من الاغتيالاتو العمل الفدائي ضد رموز النظام النصيري .

وبلغ التصعيد ذروته في عملية مدرسة المدفعية في الراموسة بحلب بقيادة إبراهيم اليوسف وعدنان عقلة ، حيث قتل 250 ضابط نصيري من أصل 270 كانوا متواجدين بالمدرسة..

لم تكن السلطة البعثية الغاشمة بغافلة أو متغافلة عن تحركاته ونشاطه بل كان همها الوحيد أن تلاحقه وتراقبه في كل مكان وزمان، ومروان هو مروان لم يتوانَ لحظة واحدة عن الاستمرار في الطريق الذي نذر له روحه وحياته ودائماً ما كانَ يُردد كلمته المشهورة المقتبسة من الحديث الشريف: (لموتٌ في طاعة الله خيرٌ من حياةٍ في معصيته)، وكانت أحاديثه كلها تدورُ حول الصبر والمصابرة ومقارعة الأعداء، وأنّ من كانوا قبلنا يؤتى بأحدهم فيمشَّطُ بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه ويوضع المنشار على مفرق رأسه حتى يكون نصفين ما يصدهم ذلك عن دينهم، وكان يبشِّرُ بالنصر ويعتقدُ أن النصرَ مع الإيمان، ويستشهد بالآية الكريمة (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة)، أي بالممكن منها حتى ولو كانت عصا فقط فالله تكفَّلَ بالنصر إذا صدق العبدُ ربَّه .

اعتقلت المخابرات الجوية مروان حديد في 30 حزيران سنة 1975 بعد أن قضى عدة سنوات يتنقل في الخفاء هرباً منها .

ولم يكن هناك محاكمةٌ سريةٌ أو علنيةٌ لمروان وإنما كان التحقيق المعروف لدى رجال المباحث والمختصين بشئون التعذيب والتصفية الجسدية، ومروان قويُّ البنية والشكيمة، صعبَ المنال لا يبالي أن يقاوم حتى لو كانت يديه في القيود فاتبعوا معه أسلوباً جديداً في التعذيب النفسي والجسدي، أما النفسي فكانوا يُسمعونَه أصواتاً كصوت زوجته وهي تعذب وكأنما يُرادَ اغتصابها حتى أنهكوه .

تعرض مروان للتعذيب بالأضواء المبُهِرة وكان أعظمَ وأَشدَّ تعذيبا على نفسه، وإن أخسَّ ما اتبعوه معه من وسائل قذرة واستطاعوا أن يكبلوا به قواه ويحدوا من مقاومته هو كشف قُبُلِهِ ودبُرِه، ومروان معروف بشدة حيائه وخجله فإذا دخلوا عليه الزنزانة انكمش على نفسه ليتستر عورته التي أرادوا كشفها وأراد الله سترها، ويستغلوا هذه الحالة ليكيلوا له صنوف التعذيب، بهذه الطريقة تمكنوا من السيطرة على مروان وإلا ليكيل لهم الكلمة بكلمة والصاع بصاعين، ثم قطعوا عنه الطعام وأجاعوه حتى خارت قواه، وأحياناً كانوا يقدمون له الطعام بعد أن يمزجوه أمام ناظريه بالأقذار، فصار يأبى أن يأكل من هذا الطعام القذر .

مروان صاحب الطول الفارع والجسد الممتلئ والقبضة الحديدية ينقُلُ عنه أحد الذين شاهدوه أخيراً وهو بحالة هو فيها أقرب إلى الهيكل العظمي منه إلى الجسد العادي، ويقول مروان لهذا بعد أن سقاه لبناً بيده فتقيأه لأن معدته لم تعد تحتملُ حتى اللبن، وكان يغيب عن الوعي لفترات متقطعة ويصحو، وبعد أن صحا قليلاً من غيبوبته قال لهذا الأخ : (انقل عنّي وقل للناس أن هؤلاء الكلاب «ويعني بهم المحققين» أنهم لم يحصلوا مني على كلمة واحدة تُشفى بها صدورهم).

ثم بعد ذلك ساءت حالته الصحية إلى درجة يئست السلطة منه فأرادت أن تُخفي جريمتها، فنقلوا مروان إلى مستشفى حرستا العسكري وطلب أسد منهم أن يأتوا بأخيه الدبلوماسي كنعان ليكون كما أراد الأشرار شاهداً من أهله أنه كان مضرباً عن الطعام، وأنه حالته تردت بسبب امتناعه عن الطعام، ومروان قد أعياه الجوع وأضناه الجهد وهبط ضغطه، فكان أخوه يتوسل إليه أن يأكل ويشرب فيرفض لكثرة ما رأى من تلويث الطعام والماء بالبول والغائط وقد أخبره مروان بذلك، ومع ذلك وافق مروان على طلب أخيه بأن يأكل بشرط، فقال : – يا أخي أشرب وآكل بشرطين، أحدهما أن يكون الماء من حماه والثاني تعدني أن تصلي ، وكان كنعان لا يُصلّي .

– فقال له أخوه كنعان : كُلْ وأُصَلّي .. وأكل مروان وشرب ماء حماة، ووفّى كنعان بوعده وصار مصلياً عابداً لله بعدما رأى ما رأى من حال أخيه .

وبدأت صحة مروان في التحسن، وبدأ ضغطه يعود إلى الوضع الطبيعي، وعاد إلى الحديث مع أهله الذين استبشروا خيراً .

وفي مساء أحد الأيام عاد إليه أهله ليجدوه يجود بروحه الطاهرة وقد أشار إليهم بإصبعه إلى رقبته وأنه قد أعطي حقنة في عنقه، وإذ بالأجهزة الطبية تشير إلى أن ضغطه أخذ يهبط من جديد وأن حالته صارت تسوء وتسوء، ثم فاضت روحه طاهرة زكيه إلى بارئها لتلتقي مع ركب الشهداء باذن الله الذين سبقوه ويستبشرون بقدومه كما هو يستبشر بقدوم إخوانه من خلفه ولا حول ولا قوة إلا بالله .

لقد توفى في سجن المزة العسكري في شهر 6/1976

استشهد مروان باذن الله ولم يُسمح لأهله بدفنه في حماة، فدُفِنَ في دمشق في مقبرة الباب الصغير تحت حراسة الأمن المشددة التي أحاطت بالمكان، وبعد دفنه بقيت الحراسة على القبر شهوراً حيث كانوا يعتقلون كل من يزور القبر .

المراجع :

1. **”الثورة الإسلامية المسلحة في سوريا”**
للمؤلف: عدنان سعد الدين.
2. **”الصراع على الإسلام في سوريا”** للمؤلف: حازم صاغية.
3. **”الطليعة المقاتلة في سوريا: مذكرات أيمن الشربجي”**
4. **”حماة مأساة العصر”** للمؤلف: بسام جعارة.

الشيخ احمد الأسير وتكاليف العقيدة

الشيخ احمد الأسير وتكاليف العقيدة

عصارة وجع ترويها زوجة الشيخ احمد الاسير فك الله اسره .. عن الزيارة والحديث عن الزيارة في السجون كثير الشجون لايعرف مرارتها الآسنة الا من عاشها اسيرا يزار أو زائرا يعتصر قلبه بمرارة مما يعانيه قريب أو زوج أو ابن أسير….

تقول (كانت الزيارة فقط لشخصين ولمرة واحدة في الأسبوع ولا تتجاوز مدتها ٥دقائق ،ورغم ساعات الانتظار الطويلة غير المبررة والتفتيش المتكرر.. (وللتفتيش في الزيارة ذاكرة ألم لاتفارق مخيال كل من مر من هناك من قبل)

تقول بلسان ينطق وجعا وقلب مكلوم يطقر دما (كان أكثر ما يؤلمنا الإحساس بالظلم الشديد والعجز تجاه الشيخ

عندما كنا نسأله عبر الهاتف الداخلي ومن وراء الزجاج والحديد :

هل أنت جائع ؟فيجيب :نعم

هل تأخذ دواءك بانتظام ؟فيجيب :لا

يا له من مشهد تلخصه الآية الكريمة{وَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ وَنَقۡصٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّـٰبِرِينَ}

وهو مشهد يختزل المقت السجوني كله خوف وجوع ونقص من كل متاع او لعاعة من حياة كريمة وما يحمله السجان من حقد في صدره يغلي كالمرجل لايخبو وان طالت السنوات خاصة ان كانت عداوته للسجين عن عقيدة وبغض ولا احقر واشنع من بغض الرافضة

وهذا البلاء بالخوف والجوع ونقص من كل شيء يتحدث عنه الشيخ المعلم سيد قطب رحمه الله قائلا

(ولا بد من تربية النفوس بالبلاء ، ومن امتحان التصميم على معركة الحق بالمخاوف والشدائد، وبالجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات.. لا بد من هذا البلاء ليؤدي المؤمنون تكاليف العقيدة، كي تعز على نفوسهم بمقدار ما أدوا في سبيلها من تكاليف. والعقائد الرخيصة التي لا يؤدي أصحابها تكاليفها لا يعز عليهم التخلي عنها عند الصدمة الأولى)

ليميط اللثام بعدها عن اهم شيء في هذا الصراع الدائر وانها تكاليف العقيدة

كلما بذلت في تكاليف العقيدة أعظم الأثمان واغلاها من كل نفيس تصبح انفس ما في الحياة ويصبح الفؤاد فارغا الا منها لأنها الحياة الحقيقية حياة الروح.. من اجل ذلك هي اعز شيء على الانسان فلايبيعها بالدنيا وزخرفها

وأي زلزال عنيف مثل هذا المشهد ان يجوع(بشدة الواو) شيخ ويمنع من دواءه

تلخص زوجته الفاضلة تلك المحنة قائلة (وكأن كل هذا التنكيل لم يكفيهم ،فكانوا أحياناً يقطعون الكهرباء خلال الزيارة فلا نستطيع رؤيته ولا الكلام معه لتصبح الزيارة أقل من ٣دقائف ،ونخرج من الزيارة ونحن نعرف أنه جائع ومريض ووحيد ولا نستطيع أن نفعل له شيئاً سوى الدعاء على الظالمين …)

تأمل معي جوع ومنع من الدواء وتكدير وقطع للكهرباء وتفتيش وما خفي من الظلم اعظم انها تكاليف العقيدة

رحم الله السيد قطب وهو يمنح هؤلاء العظماء القابضين على الجمر اجمل البشارات بالثبات على الطريق ..فيقول (كي تعز على نفوسهم بمقدار ما أدوا في سبيلها من تكاليف. والعقائد الرخيصة التي لا يؤدي أصحابها تكاليفها لا يعز عليهم التخلي عنها عند الصدمة الأولى. فالتكاليف هنا هي الثمن النفسي الذي تعز به العقيدة في نفوس أهلها قبل أن تعز في نفوس الآخرين. وكلما تألموا في سبيلها، وكلما بذلوا من أجلها)

_________

قربيا ننشر حوارا جديدا مطولا شاملا مع اهل الشيخ احمد الاسير فرج الله عنه


_________
قربيا ننشر حوارا جديدا مطولا شاملا مع اهل الشيخ احمد الاسير فرج الله عنه

ملخص شامل حول سجن صيدنايا (2011-2024): حقائق موثقة وتحليل عميق

مقدمة

سجن صيدنايا، المعروف بسمعته المرعبة، أصبح رمزًا للمعاناة والوحشية في سوريا منذ بداية الأزمة في عام 2011. تشير الإحصائيات والوثائق إلى أن هذا السجن لم يكن مجرد مكان للاعتقال، بل تحول إلى مسرح لانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بما في ذلك القتل الممنهج، والإخفاء القسري، والمتاجرة بالأعضاء البشرية. فيما يلي استعراض تفصيلي للمعلومات المتوفرة حول هذا السجن وما يحيط به من شبهات وحقائق مرعبة.

الإحصائيات: أرقام تعكس مأساة إنسانية

  1. عدد المعتقلين:
    • دخل سجن صيدنايا منذ عام 2011 وحتى عام 2024 قرابة 367 ألف معتقل.
  2. عدد المفرج عنهم:
    • خرج فقط 2500 معتقل، أغلبهم من النساء والأطفال.
  3. عدد المفقودين:
    • ما زال مصير 364,500 معتقل مجهولًا حتى اليوم.

نظام المراقبة المتطور: دلالات وشبهات

  1. تقنيات المراقبة:
    • وثائق وفواتير تشير إلى تركيب منظومة مراقبة من الأغلى عالميًا.
    • هذه المنظومة تتميز بدقة عالية وبث حي عبر الإنترنت، مما يثير التساؤلات حول استخدامها.
  2. الشبكة التكنولوجية:
    • عدد كبير من الكاميرات بأعلى تكلفة، بالإضافة إلى سيرفرات ضخمة قادرة على استيعاب تحميل أفلام العالم بأسره.
    • التساؤلات تتزايد حول الغرض الحقيقي من هذا الاستثمار الضخم في المراقبة.

شهادات ووثائق تدعم الشكوك حول السجون السرية

  1. الأرقام المسجلة:
    • آخر سجين تم تسجيل دخوله هو محمد علي جمعة من حمص، قبل تسعة أيام من إعداد هذا التقرير.
    • تحليل الأرقام المسجلة يكشف أن هناك فجوة كبيرة تُقدّر بـ367 ألف رقم بين عام 2011 وآخر دخول مسجل.
  2. السجون السرية:
    • الأدلة تشير إلى وجود سجون سرية مرتبطة بشكل مباشر بسجن صيدنايا، حيث يتم نقل المعتقلين إليها.

الشبكة القذرة: بيع الأعضاء البشرية

  1. المستشفيات المتورطة:
    • هناك شبهات قوية حول تورط مستشفيي المواساة والـ601 في دمشق بعمليات بيع الأعضاء.
    • الوثائق والشهادات تربط هذه العمليات بإدارة السجن.
  2. الضحايا:
    • أغلب الضحايا من المعتقلين الذين لم يتم توثيق خروجهم، مما يزيد من احتمالية تصفيتهم لأغراض المتاجرة بأعضائهم.

الخاتمة: ضرورة المحاسبة والشفافية

تُظهر هذه المعلومات أن سجن صيدنايا ليس مجرد معتقل، بل هو محور شبكة معقدة من الانتهاكات تشمل الإخفاء القسري، والقتل، والمتاجرة بالأعضاء البشرية. إن عدم محاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم سيؤدي إلى طمس الحقيقة وإفلات الجناة من العقاب.

توصيات

  1. فتح تحقيق دولي:
    • ضرورة تشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة للوصول إلى الحقيقة ومحاسبة المسؤولين.
  2. الضغط على الحكومة السورية:
    • من خلال العقوبات والمطالبات الدولية للكشف عن مصير المعتقلين.
  3. توثيق الشهادات:
    • تشجيع الناجين وأهالي الضحايا على تقديم شهاداتهم لضمان عدم طمس الأدلة.
  4. حماية الشهود:
    • توفير الحماية اللازمة للموظفين السابقين في السجن ممن قد يمتلكون معلومات حاسمة حول الجرائم.

نداء أخير

إن مأساة سجن صيدنايا ليست مجرد أرقام أو حقائق على الورق، بل هي قصص معاناة إنسانية يجب أن تكون محفزًا للعالم أجمع للتحرك. إذا لم يتم تسليط الضوء على هذه الجرائم ومعاقبة مرتكبيها، فإن التاريخ سيحمل وصمة عار على جبين الإنسانية. السجون السرية، المدافن الجماعية، والمتاجرة بالأعضاء ليست إلا قمة الجبل الجليدي لما يحدث خلف الأسوار. يجب أن تتحد الجهود لإنهاء هذا الكابوس وكشف الحقيقة كاملة.

حبل المشنقة في صيدنايا: رمز الظلم والقهر في معتقلات الأسد

في أعماق التاريخ المعاصر لسوريا، يبرز معتقل صيدنايا كسجن يحمل في طياته قصصاً تقشعر لها الأبدان، وشهادات تحكي عن أفظع الجرائم الإنسانية التي ارتُكبت في حق معتقلين عزل، كانت جريمتهم الوحيدة في كثير من الأحيان أنهم طالبوا بالحرية أو أبدوا رأياً مغايراً لما تريده السلطات. وفي هذا المكان المشؤوم، يقف “حبل المشنقة” كرمز للرعب والتعذيب والظلم الذي لا يزال شاهداً على مأساة لا يمكن نسيانها.

صيدنايا: معقل الظلم والإبادة

يقع سجن صيدنايا العسكري على مشارف العاصمة دمشق، وقد تحول منذ اندلاع الثورة السورية في عام 2011 إلى واحد من أكثر المعتقلات رعباً في العالم. أُطلق عليه “المسلخ البشري”، ليس فقط بسبب أساليب التعذيب الوحشية التي تُمارس فيه، بل أيضاً بسبب عمليات الإعدام الجماعية التي نفذت بحق آلاف المعتقلين. تشير تقارير حقوقية موثقة إلى أن آلاف الأرواح أُزهقت تحت أيدي النظام السوري في هذا المعتقل، حيث كان حبل المشنقة أداة الموت الرئيسية.

حبل المشنقة: أداة القتل الممنهج

لم يكن حبل المشنقة في صيدنايا مجرد وسيلة لإعدام المعتقلين، بل كان جزءاً من آلة الموت التي استخدمها النظام السوري لترهيب معارضيه وكسر إرادتهم. كان المعتقلون يُقتادون ليلاً من زنازينهم، معصوبي الأعين، لا يعلمون أن لحظاتهم الأخيرة قد حانت. وعند الوصول إلى “غرف الإعدام”، كان القضاة العسكريون يصدرون أحكاماً بالإعدام خلال دقائق، دون أي محاكمة عادلة، لينتهي الأمر بحياة المعتقل على حبل مشنقة لا يعرف الرحمة.

قصص من الظلام

وراء كل حبل مشنقة في صيدنايا، توجد قصة إنسانية مأساوية. هناك من كان طالباً جامعياً، وهناك من كان طبيباً أو مدرساً، بل حتى أطفالاً وشيوخاً لم يسلموا من بطش النظام. تُروى شهادات عن أمهات فقدن أبناءهن دون أن يعرفن مصيرهم لسنوات، وعن أسر عاشت سنوات طويلة في انتظار عودة مفقوديها الذين كانوا قد رحلوا بلا عودة.

الآثار النفسية والاجتماعية

لم تقتصر آثار هذه الجرائم على الضحايا فقط، بل امتدت إلى عائلاتهم ومجتمعاتهم. تحولت صيدنايا إلى رمز للظلم الذي دمر النسيج الاجتماعي في سوريا، حيث باتت عائلات الضحايا تحمل أعباء الفقدان والصدمة. الأطفال الذين نشأوا دون آباء، والنساء اللواتي فقدن أزواجهن، والمجتمعات التي فقدت شبابها، كلها تعيش تحت وطأة هذا الحزن الذي خلفته المشنقة.

المطالبة بالعدالة والمحاسبة

رغم مرور السنوات، لا تزال مشاهد الظلم في صيدنايا عالقة في ذاكرة الناجين وأهالي الضحايا. تُطالب منظمات حقوق الإنسان والمجتمع الدولي بمحاسبة مرتكبي هذه الجرائم. وقد دعت الأمم المتحدة والعديد من الجهات الحقوقية إلى فتح تحقيقات مستقلة في الجرائم التي وقعت في صيدنايا، بما في ذلك الإعدامات الجماعية باستخدام حبل المشنقة.

نحو أمل جديد

على الرغم من السواد الذي يلف قصص صيدنايا، يظل الأمل قائماً في تحقيق العدالة يوماً ما. فكل قصة مأساوية هي شهادة حية على وحشية النظام، وكل صوت يطالب بالحرية والعدالة يمثل خطوة نحو إنهاء هذا الظلم.

ختاماً، يبقى حبل المشنقة في صيدنايا شاهداً على حقبة سوداء في تاريخ سوريا، لكنه في الوقت ذاته رمز للصمود والأمل في أن تشرق شمس العدالة يوماً ما، لتعيد للضحايا حقوقهم وللمجتمع كرامته المهدورة.