أرشيف الوسم : اختفاء

عشرون عاماً في الجحيم عبدالحق حمادى الهواس


كانت فرحتي كبيرة حال سماعي بخروجه من السجن بعد اعتقال دام 20سنة من عام 1980م إلى 2000م…مااستطعت الصبر عليه حتى يستيقظ من نومه، لكن ما لفت نظري هو أسلوب نومه إذ كان يكوّر نفسه بحيث غدت ركبتاه في صدره ، فقلت لشقيقه لماذا ينام هكذا عبد الله … تنهد وهو يقول لي : أكثر من عشرين سنة في زنزانة طولها 80سم لاتتسع لغير هذا الشكل من النوم !!استيقظ عبدالله على حديثنا وسابق سروره كلامه في احتضاني وتقبيلي وسبقتنا دموعنا للتعبير عن شوقنا العميق …جلسنا ننظر إلى بعضنا نستعرض عشرين سنة مضت بما لايتخيله أكثر الأخيلة تحليقا بما حملته من عذاب وألم وقهر وإذلال وتجويع وحنين ، لكني اكتفيت من عبدالله أن يحدثني عن خروجه وشعوره في الحرية بعد هذا العذاب .لاأدري كم مرة تدخلت الدموع في توقف الحديث وانقطاعه : كان لدينا شعور تام بأن الجلادين ينوون قتلنا فقد لحظناهم ينظفون أسلحتهم ويملؤونها بالذخيرة ، وينظرون إلينا بحقد يفوق الحقد الذي عهدناه فيهم …أدركنا أن شيئا غير عادي قد حدث غير أنه ليس بوسعنا أن نعرفه حتى إذا جاء سجين جديد وقفنا على ذلك الحدث وهو موت رئيس الجمهورية حافظ الأسد ، فبدأت شيفرة الدق على جدران غرف السجن لتعميم الخبر على كل المساجين . بيد أن تسلم بشار واطمئنان جماعته على بقاء النظام قد أنقذنا من مجزرة محققة …

وبعد شهر طلب منا الجلادون أن نخرج إلى الساحة الخارجية، وما كان قد طُلب منا من قبل مثل هذا، فقلنا هو الإعدام هذه المرة لامحالة … لم تعصب عيوننا لكن علينا أنْ نسير كما علمونا؛ أيدينا على رؤوسنا وننظر على أقدامنا، وويل لمن يرفع عينيه ، فصورة زميلنا مازالت أمامنا حين نظر إلى الضابط بشكل عفوي فما كان منه إلا أن أخرج سكينا واقتلع عينا له قبل أن يرحمه بطلقة وهو يخبط بجسده على الأرض ويدور حول نفسه وصراخه يصل إلى عنان السماء … مشينا بالرتل لانرى شيئا رغم احساسنا الجميل بالفضاء لأول مرة وبالهواء الطبيعي … طلبوا منا أن نجلس فجلسنا بطريقة القرفصاء كما تعودنا ، فجاءنا صوت: ارفعوا رؤوسكم حتى نتحدث معكم… لم نصدق ولم يجرؤ أحد منا أن يرفع رأسه !! فعاد الصوت بنبرة أشد ، لكن أحدا منا لم يصدق، ولم يظن غير أنه أسلوب لتوريطنا لقلع عيوننا !! وجاءنا الصوت يقول : يا ابني ارفع رأسك ولاتخف لدينا بشرى لكم !! فلم يجرؤ أحد على الإجابة . فقال مخاطبا الجلادين : (لك يخرب بيتكم شو عاملين فيهن ) فعلت قهقاتهم، وقالوا لنا : ولك ارفعوا رؤوسكم تضربوا شو حمير ما بتفهموا ) فكنا صما بكما ، فحاول أحدهم أن يرفع رأس زميلي الذي بجانبي فأبدى مقاومة عجيبة في بقاء رأسه مطأطأ ، فعلا الضحك ، فقال واحد منا بصوت كالهمس : سأرفع رأسي وخلوهم يعدموني … وحقا فعل لكنه نسينا تماما ، وانشغل بمنظر السماء والنجوم التي لم يرها منذ 24 سنة فكان أشبه بمحموم يهذي : ياالله ما أجمل السماء والنجوم … الله ريحة هواء ..وهؤلاء ضباط يرتدون ثيابا نظيفة… فما كان منا إلا أنْ رفعنا رؤوسنا من دون تفكير لنرى مايقوله زميلنا … فبدأ الضابط وهو برتبة عميد حديثه بقوله : مات الرئيس الخالد حافظ الأسد، وتسلم السيد الرئيس بشار الرئاسة وعفا عنكم ، وسنوزع عليكم 300ليرة سورية هدية وهذه الباصات خارج السور، وعليها أسماء المحافظات كل واحد يركب بباص محافظته … رفضنا المال، ففرح به الجلادون ، وركبت الباص الذاهب إلى دير الزور وقطعنا نصف الطريق بين تدمر وديرالزور، ونحن صامتون لايجرؤ أحد على الكلام سوى السائق ومعاونه ، وبدأت الطمأنينة تدب بنا بعد هذه المسافة فرحنا نسأل بعضنا عن أسمائنا ومدة سجننا وتهمنا ، وهنا تذكرت تهمتي، وهي أني خلال عقوبة عسكرية حيث كنت في الخدمة الإجبارية لم أحتمل قسوة العقوبة فقلت : لعنة الله على الجيش السوري ومن أسسه ، فكتب بي أحدهم تقريرا يدعي به أني شتمت القائد العام للجيش وبالطبع هو رئيس الجمهورية ، وهذه عقوبتها الإعدام ، وليتني أعدمت لكان أرحم مما رأيته !!!وصلنا ساحة ديرالزور قبيل أذان الفجر ،وحين نزلت من الباص غابت معالم المدينة من مخيلتي ، فوقفت للحظات أتأمل المكان فكل شيء قد تغيّر ، فقلت لأذهب باتجاه اليمين، فإن مررت من أمام مكتب البريد فإن طريقي صحيح ، وفعلا صدق ظني وتعرفت على بيت أهلي ، فطرقت الباب وبعد لحظة سمعت صوت أمي وقد استيقظت لصلاة الفجر تقول : من ؟ قلت وقد غلبني البكاء وتحشرج صوتي أنا عبدالله . فكررت والدتي الطلب مَن مَن ؟ ثم فتحت الباب وشهقت : عبدالله هل أنا في حلم ؟ ثم سقطت مغشيا عليها ، بدأت بالصراخ أمي أمي ، فاسيقظ أخوتي وهم لايعرفونني، فقد ولدوا بعد سجني، فقالوا : من أنت ؟أخوكم عبدالله . لم يصدقوا ، واحتاروا بيني وبين العجوز وحملناها إلى الغرفة ، فقلت : أين أبي ؟ فأجهشوا بالبكاء .