أرشيف الوسم : ادب السجون

رسالة من أسير وإليه

أتحدث إليكم اليوم عن الأسير الذي أُسِرَ في سبيل الله سواءً كان داعياً إلى الله أو مجاهداً في سبيله أو ثابتاً على مبدئه الشرعي،

الأسير الذي حلَّ في سجن الظلمة {وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد}.

كان ولا يزال السجن أسلوباً من أساليب التهديد والقمع ومنع كلمة الحق أن تصل إلى مستحقيها،ومنع الأشخاص أو الدعوات الحقة من الظهور للناس ،أسلوباً  يستخدمه الظلمة ولكن هيهات هيهات وأنّا لهم ذلك ،لأنَّ السجن على ما فيه من ضيقٍ ووحدة ووحشة، إلا أنه محبوبٌ ورحمةٌ لأهل الإيمان .

هُدِّدَ موسى عليه السلام بالسجن فقال له فرعون {قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين}

يُدعى يوسف عليه الصلاة والسلام للفاحشة وإلا السجن فيقول {رب السجن أحبُ إليَّ مما يدعونني إليه} يُسجن ويثبت على عفته ولا يلاين الظلمة ،لأنه آثر محبوب الله على محبوبه،ومحبوب الله في هذه الحالة هو السجن الذي يكون فيه العفة والبعد عن الفتن ،ولأنه من عباد الله المخلصين إستجاب الله دعاءه {فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهنَّ}

قد يقول قائل هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ،فأقول لقد كان لأئمتنا أحوالٌ وأحوالٌ في سجون الظلمة وسأذكرُ مثالين فقط :

المثال الأول :إمامُ أهل السنة والجماعة (أحمد ابن حنبل) رحمه الله وقصة هذا الإمام العلم أشهر من أن أذكرها ،ولكنه أُودِعَ السجن فخرج ذهباً خالصاً ثابتاً على مبادئه فجعله الله بهذا الثبات على الحق إماماً لأمة محمد( صلى الله عليه وسلم) من أهل السنة.

المثال الثاني:هو شيخ الإسلام (ابن تيمية) رحمه الله هو الآخر أُودعَ السجن ولم يخرج منه إلا محمولاً على الأكتاف وكان يقول ماذا يفعل بي أعدائي أنا سجني خلوة، وتلى قول الله تعالى حين أُلقيَ في السجن{فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب} عَلِمَ الله صدقه فجعله يخلو به في آخر أيام حياته وجعل هذا السجن (رحمة) فتوفي وهو يتلو كلام ربه{ إنَّ المتقين في جناتٍ ونهر في مقعدِ صدقٍ عندَ مليكٍ مُقتَدِر }توفي في السجن فكان شيخ الإسلام بحق، فإذا قيل شيخ الإسلام قال أهل السنة: (ابن تيمية)رحمه الله .

أماه لا تحزني فإني على الحق

أبتاه ارفع رأسك عالياً وافتخر بابنك الذي أُسِرَ في سبيل الله ولرفع شأن أمته

أمي أبي لا تنسوني من دعائكما لي بالثبات وسؤال الله أن يفرج عني وعن إخوتي

إيهِ يازوجتي الحبيبة الصابرة لعل صغاري يسألونك أين أبانا؟ فلا تترددي بالجواب

قولي لهم أبوكم في مدرسة يوسف عليه الصلاة السلام

ولعل الناس يسألون؟فقولي لهم إنه أُسِرَ ليحرر آلاف المسلمين

إيه أيتها الزوجة المباركة قولي لأبنائي وللناس أجمعين :

إن خرج زوجي وفك الله أسره فسيخرج كيوسف عليه السلام وكالإمام أحمد رحمه الله تعالى سيخرج مثلهم إن شاء الله ثابتاً قوياً وهذا ابتلاء وتمحيص له، ورفعة لدرجاته.

أي بُنَيَّ قل لرفاقك أبي ينتظر إحدى الحسنيين الخروج منصوراً بإذن الله ولو بعد حين كـ (يوسف) عليه السلام ، أو الموت ثابتاً على التوحيد، الموت على نصرة هذا الدين كـ (ابن تيمية) وما أشرفها من ميتة

اللهم فك أسرانا في كل مكان

اللهم اجعل لهم من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ومن كل بلاء عافية

اللهم أفرغ عليهم وعلى ذويهم صبرا

كتبه أخوكم (حمزة أسد الله)

 التعذيب بتدمير الحياة الإجتماعية للمعتقل

 التعذيب بتدمير الحياة الإجتماعية للمعتقل

كانت سياسة امن الدولة مع المعتقل هى تدمير حياته من جميع جوانبها او شلها لاطول فترة ممكنة والدراسات والدورات السيكولوجية التى كان الضباط يتلقونها تقرر ان المحضن الاجتماعى للشاب المعتقل واسرته هما اساس التوازن فى حياته فلذلك كان العمل الدؤوب من جانبهم على تدمير الحياة الاجتماعية للمعتقل وتفكيك اسرته حتى يقع تحت حالة رهيبة من الضغط والاضطراب تفقده توازنه النفسى ومن ذلك كان ما تفعله امن الدولة من الضغط على كثير من اسر زوجات المعتقلين حتى تضطر الاسرة للضغط على الزوجة وتطليقها او ان يتم اعتقال الاخ لسنوات عديدة تصل ل15 سنة وتتعداها لتصل للربع قرن من الزمان كان اعتقال الاخ لكل هذه المدة فى كثير من الاحيان كفيل بارهاق زوجته واولاده فى الخارج بمتطلبات الحياة والمعيشة فى ظل غياب عائلهم والذى قد يكون العائل الوحيد لهم فلتجا الزوجة الى الخروج للبحث عن العمل ومصدر رزق لاولادها ويمنعها فى كثير من الاحيان حجابها ونقابها والتزامها باحكام الاسلام من منع الخلوة والاختلاط الى تقليل فرص العمل وقد كان هذا الضغط فى بعض الاحيان يؤدى الى طلب الزوجة الطلاق حتى يتسنى لها بدء حياة جديدة مع شخص اخر  يحيا حياة الحرية ويتمكن مما يعجز عنه الرجل القابع وراء الاسوار وعلى الطرف الاخر كان الغاليبة العظمى من زوجات المعتقلين يضربون المثل الاروع فى الصبر والوفاء والتحمل والتضحية فكانت الزوجة ترعى الصغار وتتابع زوجها الاسير بالزيارات والاطعمه والملابس وتدور على المحامين لعمل تظلم قضائى لزوجها او تصريح زيارة وهكذا فى حركة دؤبة مستمرة لا نهائية وتدور الشهور والسنين وينصرم العقد من الزمان ويبدا العقد الذى يليه تتابع سنواته حتى تصل لل18 عاما وقد يزيد وقد دخل المعتقل الاخ شابا والزوجة فى ريعان الشباب ويخرج الاسير وقد صار الاولاد الصغار هم الشباب والاسير ورزجته قد جاوزا الاربعين من عمرهما ولم يحيا معا سوى سنوات قليلة وفى بعض الاحيان كان الاخ يعتقل وهو فقط قد عقد زواجه كتابيا على الاخت فتجلس تنظره حتى تصل مده اعتقاله الى 15 سنة وكان هذا اخى وصديقى وحبيبى فى الله محمد غنيم من عين شمس وكان شابا وسيما جميل المحيا بشوش الوجه دائم البسمة طيب القلب تتتحدث معه فتحبه من اول لقاء لا محاله تشعر حين تلقاه انك مع صديق قديم يجلس معك يحادثك يطمئن على حالك يطيب قلبك بالكلام الطيب وذكر الله وعلى الطرف الاخر زوجته اخت فاضلة مجاهدة كانت ترعى زوجها المعتقل كل تلك السنوات مع انها كان من الممكن ان تفعل مثلما كان البعض يقول لها انه مجرد عقد كتابى ولم يتم الزواج فتطلقى وابداى حياتك الا ان الاخت الصابرة المجاهدة علمت ان لها دورا فى تثبيت قلب زوجها وهو فى اسره وكما انه قد بذل نفسه فى سبيل الله فعليها هى ايضا الا تكون اقل بذلا منه ولم تكتفى الاخت بذلك بل تعدى الامر لمعاونتها للعديد من زوجات وامهات المعتقلين الاخرين فكانت الاخت تذهب لعمل تظلمات للكثير من المعتقلين وتجمع من زميلاتها التبرعات لرعاية اسر المعتقلين الفقيرة وكفالتها وكانت تقوم هى والعديد من زوجات وامهات الاسرى بعمل هيئة اغاثية مصغرة لرعاية شئون المعتقلين الماسورين فى سبيل الله واسرهم وفى هذا المئات والالاف من الامثلة الفذة الرائعة والتى ساذكر ان شاء الله فى السياق بعضا منها و لا يفوتنى فى هذا المقام ان اتوجه بجميل الشكر والثناء لزوجتى سندى ورفيقتى فى محنتى والتى تحملت الكثير والكثير طوال سنوات اعتقالى وهى صابرة محتسبة ترعى اولادى وترعانى ولقد قمت بما يتوجب على شرعا من تخيير زوجتى حينما طالت سنوات الاعتقال ولم نكن ندرى متى سنخرج ومتى سيكون اللقاء خيرتها بين ان تصبر وتتنتظر او اسرحها سراحا جميلا فما كان منها الا ان حزنت انى لمحت مجرد تلميح لهذا الامر وطالبتنى الا اتحدث بمثل هذا الكلام مرة اخرى واستمرت رسائل الحب والشوق بينى وبين زوجتى عبر المئات من الرسائل التى يعلم الله كم كنا نعانى فى كتابتها وتوصيلها فى ظل غلق الزيارات السنوات الطويلة وسافرد لهذا الموضوع فصلا مستقلا فى الصفحات القادمة ان شاء الله وكذلك الامهات الذين قد لعبوا دور البطولة والاباء الذين صبروا وانفقوا والاشقاء الذين ساعدوا وبذلوا حتى الحماوات امهات الزوجات كان لهم دور بطولىّ كبير وهذا قد حدث معى شخصيا اذ كانت ام زوجتى ام شريف لها الفضل علىّ بعض الله فى رعايتى مع زوجتى اثناء اعتقالى وكانت لا تالوا جهدا فى السفر ورائى فى كل المعتقلات التى ذهبت اليها ورغم ما كانت تعانيه من تعب السفر وسوء المعاملة من ادارات السجون والوقوف فى الشمس الساعات الطويلة وهى ترتدى النقاب الاسود  وتحمل فى يدها حقائب الزيارات المليئة بالاطعمة والملابس لى ولاخوانى وفى النفس الوقت الذى كان ابنها اخو زوجتى طالب هندسة حاسوب بالازهر شريف مطلوبا لامن الدولة حينما اعتقلونا وكان حينها يؤدى مناسك العمرة ولذلك ظل هناك ل3 سنوات تلافيا لقدومه واعتقاله وقد احجل الدراسة فى كليته وكان فى السنه النهائية وعندما عاد الى مصر بعد 3 سنوات قاموا باعتقاله معى لمدة اربع سنوات  فكان الحمل ثقيلا على ام زوجتى حملا ماديا ومعنويا ونفسيا الا ان التزامها بشرع الله والعقيدة الاسلامية التى ربتت على قلبها مكنّها من تحمل كل هذه الاعباء دون ضجر او شكوى وبكل صبر واحتساب  فجزاءها الله عنا خير الجزاء وجزا الله كل امهات الاسرى وزوجاتهم وابائهم  افضل واحسن  الجزاء.

قراءة في رواية “المسكوبية: فصول من سيرة العذاب” لأسامة العيسة

اسمي جوقة لأننا كثيرون

قراءة في رواية “المسكوبية: فصول من سيرة العذاب” لأسامة العيسة

موسى م. خوري

حمل أسامة العيسة في روايته “المسكوبية: فصول من سيرة العذاب”، الصادرة عن مركز أوغاريت 2010، همّ كنس أزقة مدينة القدس بفرشاة أسنان، ونجح في أن يحرر روايته من متلازمتين أدبيتين فلسطينيتين: البطل الشاطري، والسجن/ النفق. أقف، قبل مقاربة هذه الأطروحة الثلاثية، على ثلاث عتبات من عتبات الكتاب لها دلالات ملحوظة مخطط لها. العتبتان الأولى والثانية تلتحمان لتبسطا، بالإحالات المضمنة فيهما، جامِعَ النص، والعتبة الثالثة عتبة مشاكسة تمتلك كمونَ حيرة، ويمكن أن تخلّق دهشة من عيار ثقيل، تحسب لشكل الكتاب ومضمونه معا.

الصورة على عتبة الغلاف الأمامي، والممتدة لتتداخل مع صورة/صور عتبة الغلاف الخلفي، تنبئ بالتحول الذي طرأ على المكان المعيّن في عتبة العنوان الرئيسي “المسكوبية”، الذي صار ثيمة ضابطة لتفريعات الاعتقال والتعذيب والإكراه، وصولا إلى السجن الكبير الذي هو الاحتلال الإسرائيلي. والرواية، من صفحتها الأولى التي تغطيها صفحة الغلاف الأمامية  إلى صفحتها الأخيرة التي تغطيها صفحةُ الغلاف الخلفية، تظل سياحة في تغير المشهد/ المسكوبية، باعتباره المكان الصغير المتناهي في الكبر (مع كل دلالات الصغر والكبر)، وباعتباره أيقونة – بلغة مايكروسوفتية – تنفتح على المكان الأرحب الذي أحال العيسة في روايته على مداميكه الأصغر التي تتلاحم لتحقيق كبره –  مدينة القدس.

كان لعتبة الخطبة أثر ليس بسيطا عليّ، فقد خربطت في البدء مياهي الجوفية بالمعنى السلبي للخربطة، ثم خربطت – لاحقا- مياهي الجوفية بالمعنى الإيجابي. ما فاق حد الإزعاج عند قراءتي لعتبة الخطبة أنها قدمت مسردا لسجناء النخبة في فلسطين، وصرت أحسب – مدفوعا بلا براءتي التي يسوغها غياب براءة فعل الكتابة أصلا – أن الكاتب مهووس بالانتماء إلى طبقة خطط منذ جيل مبكر، وهو الفتى القابع في سجن المسكوبية، أن ينتمي إليها – طبقة الكتاب. صارت القدس في الخطبة قدسَ النخبة التي تقدمها كتب مقرر اللغة العربية وكتب التاريخ، وبدأت أحسب أن هذه العتبة/البوابة ستؤدي إلى خرابة. لأني طويل أناة عندما يصير الأمر متعلقا بالقراءة، ولأني أحاول أن أكون القارئ الذي اشتهيه عندما أكتب أنا نصا، تابعت القراءة واكتشفت أنني أمام كاتب مهووس بالخلخلة وينتمي إلى الرصيفيين، ويزاحمني على ذلك وأحب مزاحمته. صارت الخطبة بعد قراءة الرواية (وأي قراءة واعية هي قراءة مقارنة بالضرورة) هي النص الذي أراد الكاتب في جوانب كثيرة من روايته، التي تنتمي إلى أدب السجون، أن يخرقه وبتدبير مسبق. ما أتى في الرواية، بعد مسرد النخبة في الخطبة،  توثيق لحياة المهمشين والرصيفيين الذين، وإن ظلوا في ذاكراتنا، يظلون أرقاما أو أسماء تراكم سجلنا الوطني في خانة السجن أو النضال أو الاستشهاد، ودون احتفاء بتفاصيل اليوميات التي توثق لحقيقة أنهم كانوا، قبل أي شيء، وحتى قبل رصيفيتهم، أناسا من لحم ودم.

في قراءة له يعيد فيها اكتشاف الشاعر الفلسطيني الرصيفي طه محمد علي، استثمر الكاتب والأكاديمي والمترجم الفلسطيني أنطون شماس عبارة مجهولة السياق لشاعر يوناني (أركيلوكس) عاش في القرن السابع قبل الميلاد، والعبارة هي:  “الثعلب يعرف أمورا كثيرة، أما القنفذ فيعرف أمرا واحد كبير الشأن”. يقول أنطون شماس في اتكاء على تأويل للعبارة ورد في دراسة عن تولستوي الحرب والسلام لكاتب وأكاديمي ثعلب هو إشعيا برلين : “الكتّاب – ولا فضل لأحد على أحد إلا بالموهبة – يمكن أن يصنّفوا بين عالمين: عالم القنافذ وعالم الثعالب، بين أولئك الذين يردّون الأمور إلى منظومة واحدة تهيمن على كل شيء، إلى فكرة كبرى تنظم العالم ومن خلالها يدركون الأشياء فكريا وعاطفيا، وبين أولئك الذين يطاردون أمورا شتى قد تبدو في غالب الأحيان متناقضة للناظر، لا علاقة ظاهرة بينها ولا تنضوي تحت مبدأ أخلاقي أو جمالي واحد”. أسامة العيسه، في متتالية استثمارية للعبارة اليونانية، قنفذ مغرق في قنفذيته،  فهو يعرف في عمله هذا وفي أعماله الأخرى وفي كثير من تلفظاته التي ترد في نصوصه الموازية، يعرف شيئا واحدا عظيم الشأن، يعرف أنه صاحب مشروع روائي لتقديم الزمان والمكان الفلسطينيين سرديا.

ليس الذي شدّني في قنفذة الكاتب تركيزه  على القدس باعتبارها المكان الذي يشغل حجر الزاوية في ذاكرتنا المكانية فقط، بل باعتبارها “المكان قيد الصيرورة”، المكان الذي نسهم جميعا، البدو والأحباش والأقباط واليونان والنور والعرب المسلمون والمسيحيون، بنسج علاماته الفارقة، لكن كل بخيطه ومسلته. في نص غير بصير يرد في مقرر اللغة العربية الفلسطيني للصف السادس تصير الإحالة على كنيسة القيامة، مثلا، باعتبارها الـ (مكان) الذي يحوي تمثالا مرصعا بالجواهر للسيدة العذراء، وفيه مصابيح ثمينة. تظل الكنيسة، بما تحويه، مشلّحة من اسمها (القيامة) الذي يحيل، بكل دلالاته الميثولوجية، والوطنية، والأدبية الاستعارية، على الذي يحيل عليه. صك دولوز وجواتري، في دراستهما لأدب كافكا، التشيكي اليهودي الذي كتب بالألمانية، مصطلحَ “الماينور ليتيرتشر”، أو الأدب الذي تنتجه الأقلية بلغة الأكثرية والذي يمتاز بطابع تفكيكي لصيغ الأكثرية ومروياتها الشرعية والمشرعنة التي ترعاها الـ “سلطة؛ وكتب أسامة العيسة نصا ينتمي إلى هذا التصنيف لأنه نأى بالقدس عن مقرر اللغة العربية الذي يجعل المدينة مدينة يتعهد “مؤرخوها الجدد” للـ “أقليات” بذكر مجزوءِ مقدساتهم ومروياتهم التي أسهمت قطعا في تشكيل راقات وتراكمات ثقافة المكان.

 مشى العيسة أميالا إضافية في نص المسكوبية، وذكر الذين ذكرهم وقدم – بدفع من وعيه القائم بتنميط المكان – وعيا ممكنا أساسه رؤية لعالم المدينة باعتبارها نصا يقتات على نصوص كثيرة. قدس العيسة، التي يكنسها بفرشاة أسنان، تظل في الرواية لوحة فسيفساء شكّلها تراص مداميك حجارتها الصغيرة المتناهية في الكبر، حجارتها  المختلفة بانسجام والمنسجمة باختلاف. تذكرني قدسه بمروية القديس مرقس حين أحال على حادثة السيد المسيح الذي قبل أن يطرد الأرواح الشريرة من ساكن المقبرة سأله: ما اسمك؟ فأجاب: اسمي جوقة لأننا كثيرون. القدس في الرواية جوقة لأنها كثيرون، وفيها تبرز التفاصيل الصغيرة التي حذرنا درويش من إسقاطها في سطره البصير: “سنصير شعبا حين ننسى ما تقول لنا القبيلة، حين يعلي الفرد من شأن التفاصيل الصغيرة”.

من العلامات الفارقة الأخرى لهذه الرواية تبطيل البطل. أبطال الرواية يعرفون ولا يعرفون، أو لا يوسمون دائما بفضيلة المعرفة. ظلت فضيلة اللامعرفة سمة في مواقف كثيرة لهم، ما جعل الرواية رواية مشغولة  بالسؤال أكثر من انشغالها بالجواب. في السياق ذاته، تخلت الرواية عن الشاطرية بالمفهوم الشعبي، فالبطل فيها ليس شاطرا حسنا يوهب البطولةَ ولا يصنعها، وشخوص الرواية من المساجين ليسوا فوق الحزن والألم، وأمهم – إن ماتوا –  تنهدّ، فـ”الأم أم حين تثكل طفلها تذوي وتيبس كالعصا”.

احتفت الرواية، وهي تبطل البطل، بالحميم واليومي والرصيفي كذلك، فيها نرى العالم السفلي، وفيها – وهنا الأهم – نعيش تجربة السجن في اليومي، ولا نعيشها في عتمة النفق الذي سيفضي، وإن بعد كثير من التأبيدات، إلى النور. لم نعش في الرواية حالة الوطان التي يعيشها كثير من العرب في مهاجرهم حين يعلقون اليومي ويعلقون معه دوران أضراس الحياة والعمر لأنهم سيعودون يوما ليشربوا حليب البلاد. اعتنت الرواية بالنفق لأن التجربة التي تصير فيه لا تقل أهمية عن النور الذي في آخره؛ فهو ساعة يضج بالحياة يصير منيرا بفعل أنسنة المقيمين (السجناء والسجانين) الذين لا تصير حياتهم فيه مع وقف التنفيذ انتظارا لخلاص مفترض.

أغلب المقالات التي تناولت هذه الرواية في صحافتنا المحلية أو العربية عابت عليها محدودية حركة الحدث الدرامي، أو وسمتها بالتشظي الذي أحدثته كثافة الالتجاء إلى صيغة التحقيق الصحافي، لكن أحدا من كتاب هذه المقالات لم يشر إلى أننا يمكن أن ننظر إلى شكل الرواية، في بندوليته المراوحة بين الحيرة والمعرفة والاستباق والاسترجاع والتقريرية الصحافية والتنظير، باعتباره شكلا مماثلا لحالة اللاثبات في الواقع الفلسطيني، ليصير شكل الرواية، والحال، مضمونا. يمكن لقارئ مخلص أن يضع الرواية في زنازين كثيرة، بل يمكن أن يشبحها، بلغة السجن، ويضع على رأسها كيس خيش معشقا برائحة ما، ويمكن أن يثير أسئلة كثيرة حول مبرر بروز “حصون تارجت” في خطبة الكتاب (السجون التي بناها البريطانيون) على حساب المسكوبية – مكانا وعنوان نص، ويمكن أن يشار  إلى مواقع كثيرة يحتاج فيها النص لتحرير أسلوبي ولغوي من عيار معقول. يبقى، مع كل ذلك، أن هذه الرواية التي استحقت الجائزة العربية للإبداع الثقافي عن فئة الرواية (2013) حققت، مع غيرها من الأعمال بالضرورة، خرقا ثلاثيا: انتصرت للتفاصيل الصغيرة المتناهية في الكبر، ونزعت سمة الشاطرية عن بطل السجون وانحازت لأنسنته بطلا يصنع البطولة ولا تهبها له بنائية فلاديميرية (نسبة إلى وظائف فلاديمير بروب الدراماتيكية في كتابه مورفولجيا الحكاية الخرافية)، وأنارت النفق (الزنازين وغرف التحقيق وغرف الحبس) الذي يضج بحياة آدميين يتحدون حياةً أرادها سدنة المسكوبية، وغيرهم، حياةً مع وقف التنفيذ.


أكاديمي وكاتب فلسطيني.

أدبيات السجون جميل السلحوت

أدبيات السجون

 

 

جميل السلحوت

لا يمكن هنا القفز عن أدبيّات الأسرى الفلسطينيّين، مع أنّ الكتابة عن التّجربة الإعتقالية ليست جديدة على السّاحة الفلسطينيّة والعربيّة وحتّى العالمية، ونحن هنا ولأهمّيّة هذا الموضوع نشير إلى ما استطعنا جمعه من كتابات للأسرى في مختلف المجالات وليس في الرّواية فقط، وممّن كتبوا بهذا الخصوص: في العام 2015 صدرت رواية ” الشّتات للدكتور رأفت خليل حمدونة من قطاع غزة والذى اعتقل في 23/10/1990 وأمضى 15 عاما وتم الافراج عنه في 8/5/2005 ، وكان قد كتبها حمدونة أثناء الاعتقال في سجن بئر السبع – ايشل وطبعت في العام 2004 طبعة أولى ، وله ثلاث روايات سابقة وهى : ” قلبى والمخيم ” في سجن هداريم وطبعت في العام 2006 ، ورواية ” لن يموت الحلم ” كتبت في سجن عسقلان وطبعت في العام 2007 ، ورواية ” عاشق من جنين ” في سجن نفحة الصحراوى وطبعت في العام 2003 طبعة أولى ، و 2005 طبعة ثانية ، ومن كتابات الأسرى أيضاً ديوان “ماذا يريد الموت منا؟” لتحرير اسماعيل البرغوثي، ورواية “الأسير 1578″ للأسير هيثم جمال جابر، وروايات ” وجع بلا قرار”، “خبر عاجل” و “بشائر” للأسير كميل أبو حنيش، والتجربة الاعتقالية للدكتور عبدالستار القاسم.

وفي العام 2015 صدرت رواية “خريف الانتظار للأسير حسن فطافطة، وفي العام 2016 أيضا صدرت رواية “الحنين إلى المستقبل” لعادل سالم، ورواية “وجع بلا قرار” للكاتب الأسير “كميل أبو حنيش”، وفي العام 2018 صدرت مجموعة قصصية للأسير سائد سلامة بعنوان “عطر الإرادة” ورواية حكاية سرّ الزيت” لوليد دقّة. وفي العام 2019 “جمر خليل بيدس صاحب كتاب”أدب السجون” الذي صدر بدايات القرن العشرين، زمن الانتداب البريطاني، وكتب الشيخ سعيد الكرمي قصائد داخل السّجون العثمانيّة في أواخر العهد العثمانيّ، كما كتب ابراهيم طوقان قصيدته الشّهيرة عام 1930تخليدا للشّهداء عطا الزير، محمد جمجوم وفؤاد حجازي، وكتب الشّاعر الشّعبيّ عوض النّابلسي بنعل حذائه على جدران زنزانته ليلة إعدامه في العام 1937 قصيدته الشّهيرة” ظنّيت النا ملوك تمشي وراها رجال” وكتب الدّكتور أسعد عبد الرحمن في بداية سبعينات القرن العشرين (أوراق سجين)، كما صدرت عام 1973 رواية “المحاصرون: لفيصل حوراني، و”شهادات على جدران زنزانة” الصادر عام 1975 لغازي الخليلي ويتحدث فيه عن تجربته في السجون الأردنيّة. كما صدرت مجموعة قصص(ساعات ما قبل الفجر) للأديب محمد خليل عليان في بداية ثمانينات القرن الماضي، و”أيام مشينة خلف القضبان” لمحمد احمد ابو لبن، و”ترانيم من خلف القضبان” لعبد الفتاح حمايل ، و”رسائل لم تصل بعد” ومجموعة “سجينة” القصصية للرّاحل عزّت الغزّاوي ، وقبل”الأرض واستراح” لسامي الكيلاني، و”نداء من وراء القضبان، “و(الزنزانة رقم 706) لجبريل الرجوب، ورواية “الأسير 1578” لهيثم جابر.

وروايات “ستائر العتمة” و “مدفن الأحياء”و”أمهات في مدفن الأحياء” ورواية “الشعاع القادم من الجنوب”وحكاية(العمّ عز الدين) لوليد الهودلي، وكتبت عائشة عودة “أحلام بالحرّية” و”ثمنا للشّمس”. و(تحت السّماء الثامنة)لنمر شعبان ومحمود الصّفدي، ، و “الشّمس في معتقل النّقب” عام 1991 لهشام عبد الرّازق، وفي السّنوات القليلة الماضية صدر كتابان لراسم عبيدات عن ذكرياته في الأسر، وفي العام 2005صدر للنّائب حسام خضر كتاب”الاعتقال والمعتقلون بين الإعتراف والصّمود” وفي العام 2007 صدرت رواية “قيثارة الرّمل” لنافذ الرّفاعي، ورواية”المسكوبيّة” لأسامة العيسة، وفي العام 2010 صدرت رواية”عناق الأصابع” لعادل سالم، وفي العام 2011 صدر “ألف يوم في زنزانة العزل الانفرادي” لمروان البرغوثي” و”الأبواب المنسيّة” للمتوكل طه، ورواية “سجن السّجن” لعصمت منصور، وفي العام 2012 صدرت رواية”الشمس تولد من الجبل لموسى الشيخ ومحمد البيروتي” كما صدر قبل ذلك أكثر من كتاب لحسن عبدالله عن السجون أيضا، ومجموعة روايات لفاضل يونس، وأعمال أخرى لفلسطينيين ذاقوا مرارة السجن. وفي العام 2011 صدرت رواية”هواجس سجينة” لكفاح طافش، وفي 2013 صدر كتاب”الصّمت البليغ” لخالد رشيد الزبدة، وكتاب نصب تذكاري لحافظ أبو عباية ومحمد البيروتي” وفي العام 2014 رواية”العسف” لجميل السلحوت”، ورواية “عسل الملكات” لماجد أبو غوش، وفي العام 2015 “مرايا الأسر” قصص وحكايا من الزمن الحبيس” لحسام كناعنة، ورواية” مسك الكفاية سيرة سيّدة الظلال الحرة” و “نرجس العزلة” إضافة إلى ديواني شعر هما: “طقوس المرة الاولى”، “أنفاس قصيدة ليلية”، كما صدرت له عام 2019 عن دار الآداب في بيروت رواية “خسوف بدر الدين”، ورواية “زغرودة الفنجان” للأسير حسام شاهين، وفي العام 2015 صدرت رواية خريف الانتظار المحطات” للكاتب بسام الكعبي، وكذلك كتب”اربعون يوما على الرصيف” لصالح ابو لبن. وفي العام 2016 صدر لإبراهيم رجا سلامة “كتاب قبة السماء –”  كتاب يوثّق فيه تجربته في الأسر -، وبين العامين 2007 و2017 صدرت أربع روايات” خبر عاجل، بشائر، وجع بلا قرار، والكبسولة” لكميل سعيد أبو حنيش، وفي العام 2021 صدرت له رواية “الجهة السابعة”، و”كتاب وقفات مع الشعر الفلسطيني”. كما صدرت رواية “الشتات” للأسير المحرّر د. رأفت خليل حمدونة، كما صدر عام 2017 كتاب “صدى القيد” لأحمد سعادات. وفي العام 2018 صدر كتاب “رسائل في التجربة الاعتقالية” للكاتب الفلسطينيّ الأسير وائل نعيم أحمد الجاغوب، كما صدر كتاب””إضاءات على رواية المعتقلين الأدباء في المعتقلات الإسرائيلية” لرائد محمد الحواري”. وفي العام 2019 صدرت رواية “العنّاب المرّ”للأسير المحرّر أسامة مغربي.

وصدر كتاب”دائرة الألم” ورواية “ليس حلما” للأسير سامر عصام المحروم.

وصدرت “رسائل في التجربة الاعتقالية” للكاتب الفلسطينيّ الأسير وائل نعيم أحمد الجاغوب، و صدر للجاغوب روايتان من داخل المعتقل، الأولى بعنوان “أحلام”، والثانية بعنوان “أحلام مؤجلة”. كما صدر له كتاب بعنوان “رسائل في التجربة الاعتقالية”. كذلك صدر له عدد من الدراسات منها دراسة بعنوان “أطروحات في الوعي بالمشروع الصهيوني في فلسطين”، وأخرى بعنوان “الخارطة السياسية الإسرائيلية.”

وصدرت روايتان “تحت عين القَمَر” و”سراج عشق خالد” للأسير معتز محمد فخري عبدالله الهيموني”. وصدرت رواية” حسن اللاوعي” لإسماعيل رمضان. رمضان

وفي العام 2020 صدركتاب ثقافة الإدارة وإدارة الثقافة” للكاتب حسن عبدالله، الصدور العارية” للكاتب خالد الزبدة، و”العناب المرّ” لأسامة المغربي. وصدر كتاب”الاعتقال الإداري في فلسطين كجزء من المنظومة الاستعمارية: الجهاز القضائي في خدمة الأمن العام”، لعبد الرازق فرّاج.

وصدرت للأسير هيثم جابر خمسة كتب وهي: مجموعته القصصية “العرس الأبيض”، وروايتاه “الشهيدة” و”الأسير 1578″، وديواناه “زفرات في الحبّ والحرب” بجزئيه الأوّل والثاني. وصدرت عام 2020 رواية “تَحتَ عين القَمَر – آلة الزمن الوهمية” ورواية”سراج عشق خالد” للأسير معتز الهيموني، ورواية “عشق خالد”. وصدر كتاب نصر الطيار” للأسير إسلام صالح محمد جرار. وصدرت رواية”أنفاس امرأة مخذولة” للأسير باسم خندقجي، كما صدر للأسير حسام شاهين كتاب”رسائل إلى قمر-شظايا سيرة”. كما صدر كتاب “لماذا لا أرى الأبيض” للأسير راتب حريبات. وصدر كتاب “حسن الّلاوعي سروج خالية”للأسير المحرّر اسماعيل رمضان، ورواية “عاشق من جنين” للأسير المحرر رأفت خليل حمدونة، وفي العام 2020 أيضا رواية  ظلّ الأيّام” لبهاء رحّال.  وصدر كتاب”القديس والخطيئة” للأسير خليل أبو عرام، كما صدر كتاب “مرفأ الذكريات” لفهيمة هادية خليل، الذي كتبته عن زوجها الأسير الأمني المرحوم فتحي خليل من طرعان، وعن اتحاد الكتاب الفلسطينيين صدر  “للسّجن مذاق آخر” “للأسير أسامة الأشقر. وفي العام 2020 صدر ايضا سردية “الخرزة” للأسير منذر مفلح.

وفي العام 2021 صدرت رواية “سراج عشق خالد”  للأسير معتز الهيموني. كما صدر ” أسرى وحكايات، من فن السيرة في السجون” للأسير أيمن ربحي الشرباتي، وصدر “جدلية الزمان والمكان في الشعر العربي” لكميل أبو حنيش. وصدر كتاب” احترقت لتضئ” للكاتبة الأسيرة المحررة  نادية الخياط، وصدرت رواية” فارس وبيسان”للأسير ثائر كايد حماد. وصدر كتاب “المغيبون خلف الشمس” للدكتور عقل صلاح. وصدرت رواية “حجر الفسيفساء” للأسيرة المحررة مي الغصين، وكتاب” منارات في الظلام” للأسير المحرر حسن الفطافطة، وصدرت رواية “الطريق إلى شارع يافا” للأسير عمار الزبن. وصدر ديوان ” عن السجن وأشياء أخرى” للأسير  ناصر أبو سرور، كما صدر عن وزارة الثقافة كتاب” احترقت لتضيء” للأسيرة نادية الخياط. وصدر كتاب “ترانيم االيمامة” تأليف الأسيرات المحرّرات: مي وليد الغصين، شريفة علي ابو نجم، تغريد محمد ابراهيم سعدي،  عطاف داود عليان، أريج عروق، لينا احمد صالح جربوني، جيهان فؤاد دحادحة، نهاد عبدالله وهدان،  عهود عباس شوبكي ومنى قعدان-سُجنت ثانية، إشراف ومتابعة إبتسام أبو ميالة. وصدر ديوان “أنانهم” لأحمد العارضة، وصدرت رواية حجر الفسيفساء لمي الغصين، صدر ديوان “عن السجن وأشياء أخرى” للأسير ناصر أبو سرور.

كما صدر كتاب” الأسرى الفلسطینیون داخل السجون الصھیونیة” لمحمد محفوظ جابر. وصدر كتاب “عين الجبل” للأسير محمد الطوس. وصدر كتاب “حروف من ذهب” للأسير قتيبة مسلم، وفي العام 2021 صدر أيضا كتاب”ثورة الحب والحياة في سجون الاحتلال الإسرائيلي لعيسى قراقع. وصدر كتاب” “حسن الّلاوعي سروج خالية” لاسماعيل رمضان. وصدرت رواية “على درب الحلبي” للأسير طارق عبد الفتاح يحيى.

وأدب السجون فرض نفسه كظاهرة أدبيّة في الأدب الفلسطينيّ الحديث، أفرزتها خصوصيّة الوضع الفلسطينيّ، مع التّذكير أنّها بدأت قبل احتلال حزيران 1967، فالشّعراء الفلسطينيّون الكبار محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وغيرهم تعرضوا للاعتقال قبل ذلك، وكتبوا أشعارهم داخل السجون أيضا، والشّاعر معين بسيسو كتب”دفاتر فلسطينية” عن تجربته الاعتقالية في سجن الواحات في مصر أيضا. وفي العام 2019 صدر كتاب “جمر الكلمات” لبسام الكعبي. ورواية “الكبسولة” لكميل أبو حنيش وفي مطلع العام 2021 صدر للأسير أبو حنيش”جدلية الزمان والمكان في الشعر الهربي. وسردية “ليس حلما” للأسير سامر محروم. كما صدر كتاب جمر المحطات لبسام الكعبي. وفي العام 2020 صدرت رواية” الأسير 1578″ للأسير هيثم جابر. و”صدى القيد” للأسير القائد أحمد سعادات. وصدر أيضا  “الاعتقال الإداري في فلسطين كجزء من المنظومة الاستعمارية. الجهاز القضائي في خدمة الأمن العام.”للأسير عبدالرازق فراج، وصدرت أيضا في العام 2020 مجموعة قصصية بعنوان “لست وحيدا مثل حجر” للدكتور سامي الكيلاني، كما صدرت رواية “حين يعمى القلب”للدكتورة وداد البرغوثي. وصدرت رواية “فارس وبيسان” للأسير ثائر كايد حمّاد.

وصدر كتاب”الرواحل، الواقع والمأمول” للأسير محمود عبد الله عارضة. وصدر كتاب”بلاط الرُّعيان” للأسير أحمد إبراهيم بسيسي.

كما أن أدب السّجون والكتابة عنها وعن عذاباتها معروفة منذ القدم عربيّا وعالميّا أيضا، فقد كتب الرّوائي عبد الرحمن منيف روايتي”شرق المتوسط” والآن هنا” عن الاعتقال والتعذيب في سجون دول شرق البحر المتوسّط. وكتب فاضل الغزّاوي روايته” القلعة الخامسة” وديوان الشّاعر المصري أحمد فؤاد نجم”الفاجوجي”.ومنها ما أورده الأستاذ محمد الحسناوي في دراسته المنشورة في مجلة”أخبار الثقافة الجزائرية” والمعنونة بـ”أدب السّجون في رواية “ما لا ترونه” للشّاعر والرّوائي السّوري سليم عبد القادر، وهي (تجربة السّجن في الأدب الأندلسي- لرشا عبد الله الخطيب ) و ( السّجون وأثرها في شعر العرب.. –لأحمد ممتاز البزرة ) و( السّجون وأثرها في الآداب العربية من الجاهلية حتى العصر الأموي- لواضح الصمد ) وهي مؤلفات تهتم بأدب العصور الماضية، أمّا ما يهتم بأدب العصر الحديث ، فنذكر منها : ( أدب السّجون والمنافي في فترة الاحتلال الفرنسيّ – ليحيى الشّيخ صالح ) و( شعر السّجون في الأدب العربيّ الحديث والمعاصر – لسالم معروف المعوش ) وأحدث دراسة في ذلك كتاب “القبض على الجمر – للدّكتور محمد حُوَّر”. وفي عام 1998 صدرت رواية (حياة مسروقة: عشرون عاما في سجن الصحراء) للمغربية مليكة محمد أوفقير، وعام 2000 صدرت رواية (من الصخيرات إلى تزممارت: تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم) للمغربي محمد الرّايس، ورواية (تزممارت الزنزانة رقم 10)لأحمد المرزوقي، ورواية (تلك العتمة الباهرة) للطاهر بن جلّون. وفي العام 2021 صدرت “رواية عشق خالد” للأسير معتز الهيموني.”

أمّا النّصوص الأدبية التي عكست تجربة السّجن شعرا أو نثرا فهي ليست قليلة،: نذكر منها ( روميات أبي فراس الحمداني ) وقصائد الحطيئة وعلي ابن الجهم وأمثالهم في الأدب القديم. أما في الأدب الحديث فنذكر: ( حصاد السّجن – لأحمد الصّافي النّجفي ) و (شاعر في النّظارة : شاعر بين الجدران- لسليمان العيسى ) و ديوان (في غيابة الجبّ – لمحمد بهار : محمد الحسناوي) وديوان (تراتيل على أسوار تدمر – ليحيى البشيري) وكتاب (عندما غابت الشّمس – لعبد الحليم خفاجي) ورواية “خطوات في الليل – لمحمد الحسناوي.

وفي العام 2019 صدر كتاب” من أدب السجون العراقي” للناقد حسين سرمك حسن ، وفى العام 2020 صدر ديوان شعر باسم زفرات فى الحب والحرب 2 للأسير الشاعر هيثم جابر. )

‏‏‏‏

أدب السجون والنقد المفتقد

عبدالرحمن مطر
كاتب وروائي، شاعر من سوريا

أضحى أدب السجون – أو أدب المعتقلات – موضوعاً أثيراً اليوم، بصورة تُلفتُ الإنتباه إليه، وتدعوا إلى الاهتمام به، بصورة جدية، وليس كظاهرة عابرة في الكتابة العربية، يمكن أن تطويها رياح الزمن. لكنها تستدعي التوقف حيالها، والبحث في فضاءاتها وآفاقها، التي تبشر – إذا جاز التعبير – بالمزيد من العطاء الإبداعي، الذي يرفد الحركة الثقافية العربية، بما هو جديد، ويشكل إضافة مهمة، من حيث القيمة، أولاً والكمّ، ثانياً، وفي تأصيل هذا النوع من تيارات الكتابة الجديدة ثالثاً.
يتجلى الاهتمام بأدب السجون، في الحياة الثقافية السورية، من خلال اتجاهات رئيسة ثلاث، تتمثل بصدور مؤلفات جديدة، وظهور أسماء جديدة، واهتمام وسائل الإعلام ومراكز البحوث، ومؤسسات العمل الثقافي، بإبراز أهمية وقيمة أدب السجون، خاصة خلال الأشهر الأربعة الأخيرة. ليصبح الحديث عنه أشبه بأمر شائع، يتناول جوانب متعددة، ويغفل بالطبع جوانب أخرى، وهذا طبيعي في ظل تسليط وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي على مسألة كهذه، تحتمل التناول على أكثر من وجهة باعتبارها، أولاً ظاهرة أدبية، وثانية قضية اجتماعية، وسياسية، تتصل بالمجتمع، ومعاناته. وقد حظيت ” الظاهرة ” بعناية لافتة، غلبت فيها وجهات النظر في تناولها العام، بعيداُ عن التعمق في دراستها، كشكل تعبيري يفرض وجوده، ضمن الأجناس الادبية السائدة، في حياتنا المعاصرة.
في سوريا، وفي العالم العربي، شهدت العشريتين الأخيرتين، تطوراً ملحوظاً، في أدب السجون، تشير إليه معظم الكتابات التي تناولت ذلك، ناجماً عن الدور الكبير الذي لعبه انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، والنشر الالكتروني، والإنفراج المحدود الذي أتاح حرية تعبير محدودة، قياساً لما شهدته المنطقة من مصادرة للحريات، طوال ما يقرب من اربعين عاماً من القهر والاستبداد، كما أن انفتاح الناشرين على هذا النوع من الأدب، وظهور ناشرين جدد، أيضاً أتاح مجالاً رحبة للكتاب، خاصة اولئك الذين عايشوا تجارب مريرة في المعتقلات والسجون، كي يقدموا تجاربهم، عبر نصوص أدبية، الى القارئ العربي. وكانت الرواية – ولا تزال- هي الملاذ الأكثر انتشاراً وبروزاً، ضمن الأجناس الادبية التي لجأ إليها الكتاب للتعبير عن أفكارهم وانشغالاتهم، ويلاحظ، أن عدداً منهم، لم يكتب الرواية سابقاً، بل إنهم عرفوا كشعراء، أو قصاصين، أو صحافيين. لكنهم وجدوا في الرواية ضالتهم. فيما ظهرت أعمال لمؤلفين للمرة الأولى، لينضموا إلى عالم الكتابة، عبر عمل يتناول أدب السجون.


غير أن معظم تلك الأعمال، اتسمت – مشتركة في الغالب – بأنها أعمال روائية، يدون فيها الكاتب ما يمكن اعتباره شبه سيرة ذاتية، خاصة لمن تناول فيها تجربته السجنية. أما السمة الأخرى فهي أن تلك المؤلفات هي بمثابة شهادة على ماجرى ومايحدث في المعتقلات من قهر وتعذيب، وانتهاك لآدمية الإنسان، وتصفية وقتل تحت التعذيب، ومصادرة لجميع حقوقه، بما فيها الحق في الحياة. أما السمة الثالثة في تتجلى بالبوح بما جرى، أو الاعتراف، بما عاشه المؤلف / شخوص الرواية، في ظلال العتمة البغيضة.
ولعل هذه السمات الجامعة، لمعظم ما قُدِّم حتى الآن من أعمال أدبية، يجعل الإقبال على قراءة أدب السجون، والاهتمام به، من باب مشاركة الكاتب، في مشاعره، والتعبير عن الإحساس المجتمعي المتنامي، بقضية المعتقلين، الذين ظلت الكتابة عنهم مرتبطة بالخوف إلى وقت وقت قريب. لكن ذلك في اعتقادي، لم يتخط العتبة الأولى لإعطاء أدب السجون حقه من الإهتمام به كما يتوجب، من حيث قيمته الفنية، بشكل أساسي، خاصة في ظل انكفاء دور الرقابة، الى درجة الصفر، في كثير من الأحيان، وهذا تطور مهم جداً.
وتبدو ظاهرة النشر الميسر، والانتشار السريع، للمؤلفات الصادرة خلال السنوات العشر الأخيرة، بلا حدود، عاملاً مشجعاً لدخول عالم الكتابة، وهذا أمرٌ إيجابي جداً – في اعتقادي – على الرغم من أنه يثير قلقاً وحفيظة لدى شريحة غير قليلة من المشتغلين في الآداب والفنون. أهمية ذلك، انها تفتح المجال واسعاً أمام ممارسة حرية التعبير، وأمام ظهور كتابات جديدة، ومؤلفين جدد، ترفد عالم الكتابة الإبداعية، بما هو مختلف، ومغاير – ربما – خاصة في ظل الظروف التي تعيشها بلداننا، من ثورات وحروب، وتدمير وتهجير لم يسبق له مثيل، مترافقاً مع تبدلات وتغيرات اجتماعية على قدر كبير، من الأهمية الإحاطة بها، وأن يكون الكتّاب والكتابة، جزءاً فاعلاً ومؤثراً في سياقاتها.

الكتابة فعل حياة، مثلما هو بوحٌ، شهادة، أو اعتراف. ليكتب كل من يستطع إلى ذلك سبيلا، وليس معنى ذلك أننا ندعوا الى انتشار الأعمال الادبية التي يعوزها المستوى الفني، والقيمة الإبداعية، التي يجب أن تكون شرطاً أساسياً في أي عمل أدبي، أو فني يُقدم. ولسنا ندعوا الى الكثرة في ذلك، وإنما نشجع على الكتابة، وأن تصبح شئناً شائعاً خاصة لدى جيل الشباب، الذي يواجه تحديات ثقافية – اجتماعية فريدة اليوم، وفي مقدمها التحديات المتصلة بالهوية الثقافية، تكوينها، و/ أو إعادة صياغتها، في ظل سياسات إعادة الإندماج، والتهميش، وغير ذلك.
من ذلك، نود أن نخلص للقول، أن أشدّ ما أحوجنا إليه، هو الحركة النقدية، التي تدرس أدب السجون والمعتقلات، بوصفها أعمالاً ادبية، كما يخضع أي عمل أدبي للنقد، من حيث التفسير والتحليل والمقارنة والتقييم الأدبي والفني، عبر الجوانب المختلفة، للعمل الأدبي. وهذا ما يقدم لأدب السجون، ولغيره من الفنون والآداب الأخرى، فرصة ضرورية، لا غنى عنها، لتطوير الكتابة، ورفع مستوى الإبداع والرقي بقيمته الفنية، بعيداً عن التناول الإنطباعي الذي ينحو لإبراز موضوع الكتابة، وظروفها، وهو ما يجري اليوم على نطاق واسع. وعلى أهمية تلك القراءات الانطباعية، نحن بحاجة إلى نقد يشير الى مواطن الضعف والخلل، في النص الأدبي، والى مكامن قوته.
وعبر النقد الأدبي، يمكن تقديم الأعمال الأدبية الى الجمهور، ليساهم في تعزيز المعرفة، ورفع سوية الذائقة الفنية لديه، وبذلك تتعزز مكانة أدب السجون، وترتقي فيه الكتابة لملامسة حدود العمل الإبداعي الذي يطرح قضيته، بقيمة فنية عالية، يصبح فيها البقاء للأفضل، للنص الإبداعي الأصيل، ويختفي ما هو إنشائي، وطارئ، مع مرور الوقت، ونضوج التجربة الإبداعية، مترافقة مع نهوض المارسة النقدية الغائبة بشكل مؤثر حتى اليوم.
ككاتب صدرت لي رواية في أدب السجون، أشعر بأهمية أن يتناول النقد وبقسوة إن صح التعبير، أعمالنا الأدبية، ومنها بالطبع روايتي سراب بري، بعيداً عن الحذر والمجاملة، نتيجة الانحياز لموضوع ” تجربة السجن المريرة “. وقد آن الآوان لأن يستعيد النقد الأدبي دوره الضروري المفتقد.

هذا ما حدث لي بسجن تولال 2

#تولال_2

عندما وصلت أول مرة لسجن تولال2 استقبلني مدير السجن مصطفى حمري بالتهديد بحلق لحيتي.. تعجبت وقتها من هذا التهديد!! وأخبرته أن هذه اللحية لها أكثر من خمس عشرة سنة وكل وثائقي بها.. وأني مررت من ثلاثة سجون ولم تزعج لحيتي أحدا!! بعد يومين كتبت طلبا للمدير من أجل السماح لي بالاتصال بعائلتي من أجل إخبارهم بترحيلي لهذا السجن لكن بدل السماح لي بالاتصال بهم أرسل لي زبانيته من أجل حلق لحيتي!! وكان هذا أصعب موقف مر بي في فترة سجني.. حيث أحسست بالمعنى الحقيقي للحكرة والاستضعاف وقلة الحيلة.. عدد كبير من السجانين كل يصرخ ويهدد على طريقته، وفي الأخير تم حلق لحيتي للأسف.. أقسى إحساس شعرت به في حياتي.. لمدة أيام وأنا أبكي في عزلتي، ولا أعرف نفسي في ظلي، وعندما أتوضأ لا أجد لحيتي التي تعودت على تخليلها لعدة سنوات… فلماذا هذا السجن يفعل به المدير وزبانيته ما يحلوا لهم ويخالفون كل أعراف السجون التابعة للمندوبية العامة لإدارة السجون وكأن هذا السجن غير تابع لها، وهذا في عدة أمور، سجن تولال2 حقيقة سجن خارج التراب الوطني وقوانينه.. دعوت في صلاتي وقيامي على المدير وزبانيته ولازلت أدعوا عليهم.. اللهم انتقم من كل جبار متكبر وكل من يستضعف المستضعفين من عبادك.

#عبدالله_الحمزاوي

ذكريات الإعتقال في سجون المغرب

ذكريات الإعتقال في سجون المغرب

  الإستقبال

بعد اعتقالي وإدخالي سجن الزاكي بسلا، جاءني عباس مدير السجن وأنا في صف “الباجدا” سألني عن اسمي، ظننته “بلانطو” ولم ألتفت إليه، حتى قال لي الموظف الذي يأخذ معلوماتك عند الدخول: معك السيد المدير صراحة لم أصدقه، فلا تظهر عليه أي علامة على أنه مدير أو في مقامه، لا هندام، ولا مظهر، حتى حذاؤه يظهر عليه أنه لرجل قطع كلمترات وسط الغبار.

)

المهم أخذني من وسط الصف وأكمل معي كل الإجراءات من بصمات وصور دون انتظار دوري في الطابور، وبعدها سلمني إلى موظف التفتيش وقال له “دير خدمتك”، ففتشني بطريقة مهينة، ومستفزة حيث جردني من كل ملابسي حتى الداخلية، وأمرني بالجلوس والوقوف، وبعد إكمال التفتيش، أخذني المدير عباس، وقال لموظفيه: “جيبو ليه مزافيل من دوك جداد، وديوه لبيتو”، ثم أخدوني لعزلة بحي (ب) يسكنها أكثر من ألف “سراق الزيت” لا أبالغ في العدد، لكن لم أر في حياتي مثل ذلك العدد من الصراصير في مكان واحد، منهم الميت والحي وحتى بقاياهم المتناثرة هنا وهناك.. وأدخلت لتلك الزنزانة التي تتوسطها بركة مائية نتنة اختلطت رائحتها مع رائحة مجاري المرحاض التي بقيت مدة طويلة لم يهرق فيها ماء.. وكذلك رائحة المزافيل التي أكرمني بها عباس وهي كاشة “بيدونسية كارمة”.

قضيت أيامي الأولى في السجن بتلك الزنزانة التي لا تتوفر فيها أدنى شروط الاعتقال الإنساني، كنت أقضي في تلك الغرفة 23 ساعة وحتى ساعة الفسحة كنت أخرج فيها لساحة أكبر من الزنزانة بقليل..

هذا التضييق كله كان بسبب أنني كنت أوصل رسائل المعتقلين المقهورين من طرف عباس ومن على شاكلته.

عبد الله الحمزاوي

معتقل اسلامي سابق

سجن سلا

أدب السجون

جميل السلحوت
روائي


أدب السجون
الكتابة عن التجربة الإعتقالية ليست جديدة على الساحة الفلسطينية، والعربية وحتى العالمية، وممن كتبوا بهذا الخصوص: خليل بيدس صاحب كتاب”أدب السجون” الذي صدر بدايات القرن العشرين، زمن الانتداب البريطاني، وكتب الشيخ سعيد الكرمي قصائد داخل السجون العثمانية في أواخر العهد العثماني، كما كتب ابراهيم طوقان قصيدته الشهيرة عام 1930تخليدا للشهداء عطا الزير، محمد جمجوم وفؤاد حجازي، وكتب الشاعر الشعبي عوض النابلسي بنعل حذائه على جدران زنزانته ليلة إعدامه في العام 1937 قصيدته الشهيرة” ظنيت النا ملوك تمشي وراها رجال” وكتب الدكتور أسعد عبد الرحمن في بداية سبعينات القرن الماضي(يوميات سجين)كما صدرت مجموعة قصص(ساعات ما قبل الفجر) للأديب محمد خليل عليان في بداية ثمانينات القرن الماضي، و”أيام مشينة خلف القضبان” لمحمد احمد ابو لبن، و”ترانيم من خلف القضبان” لعبد الفتاح حمايل ، و”رسائل لم تصل بعد” لعزت الغزاوي ، وقبل”الأرض واستراح” لسامي الكيلاني، و”نداء من وراء القضبان” وعناق الأصابع” لعادل وزوز،
و(الزنزانة رقم 706) لجبريل الرجوب، وروايتا(ستائر العتمة ومدفن الأحياء)وحكاية(العمّ عز الدين) لوليد الهودلي، و”رسائل لم تصل بعد” ومجموعة”سجينة”للراحل عزت الغزاوي و(تحت السماء الثامنه)لنمر شعبان ومحمود الصفدي، و”أحلام بالحرية”لعائشة عودة، وفي السنوات القليلة الماضية صدر كتابان لراسم عبيدات عن ذكرياته في الأسر، وفي العام 2005صدر للنائب حسام خضر كتاب”الاعتقال والمعتقلون بين الإعتراف والصمود” وفي العام 2007 صدرت رواية “قيثارة الرمل” لنافذ الرفاعي، ورواية”المسكوبية” لأسامة العيسة، وفي العام 2011 صدر”الأبواب المنسية” للمتوكل طه، ورواية “سجن السجن” لعصمت منصور، كما صدر أكثر من كتاب لحسن عبدالله عن السجون ايضا. ومجموعة روايات لفاضل يونس، وأعمال أخرى لفلسطينيين ذاقوا مرارة السجن.
وأدب السجون فرض نفسه كظاهرة أدبية في الأدب الفلسطيني الحديث، أفرزتها خصوصية الوضع الفلسطيني، مع التذكير أنها بدأت قبل احتلال حزيران 1967، فالشعراء الفلسطينيون الكبار محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وغيرهم تعرضوا للاعتقال قبل ذلك، وكتبوا أشعارهم داخل السجون أيضا، والشاعر معين بسيسو كتب”دفاتر فلسطينية” عن تجربته الاعتقالية في سجن الواحات في مصر أيضا.

كما أن أدب السجون والكتابة عنها وعن عذاباتها معروفة منذ القدم عربيا وعالميا أيضا، فقد كتب الروائي عبد الرحمن منيف روايتي”شرق المتوسط” والآن هنا” عن الاعتقال والتعذيب في سجون دول شرق البحر المتوسط. وكتب فاضل الغزاوي روايته” القلعة الخامسة” وديوان الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم”الفاجوجي”.ومنها ما أورده الأستاذ محمد الحسناوي في دراسته المنشورة في مجلة”أخبار الثقافة الجزائرية” والمعنونة بـ”أدب السجون في رواية”ما لا ترونه”للشاعر والروائي السوري سليم عبد القادر
وهي (تجربة السجن في الأدب الأندلسي- لرشا عبد الله الخطيب ) و ( السجون وأثرها في شعر العرب.. –لأحمد ممتاز البزرة ) و( السجون وأثرها في الآداب العربية من الجاهلية حتى العصر الأموي- لواضح الصمد ) وهي مؤلفات تهتم بأدب العصور الماضية ، أما ما يهتم بأدب العصر الحديث ، فنذكر منها : ( أدب السجون والمنافي في فترة الاحتلال الفرنسي – ليحيى الشيخ صالح ) و( شعر السجون في الأدب العربي الحديث والمعاصر – لسالم معروف المعوش ) وأحدث دراسة في ذلك كتاب(القبض على الجمر – للدكتور محمد حُوَّر)
أما النصوص الأدبية التي عكست تجربة السجن شعراَ أو نثراً فهي ليست قليلة، لا في أدبنا القديم ولا في الأدب الحديث: نذكر منها (روميات أبي فراس الحمداني) وقصائد الحطيئة وعلي ابن الجهم وأمثالهم في الأدب القديم . أمّا في الأدب الحديث فنذكر:( حصاد السجن – لأحمد الصافي النجفي) و (شاعر في النظارة : شاعر بين الجدران- لسليمان العيسى) و ديوان (في غيابة الجب – لمحمد بهار : محمد الحسناوي) وديوان (تراتيل على أسوار تدمر – ليحيى البشيري) وكتاب (عندما غابت الشمس – لعبد الحليم خفاجي) ورواية (خطوات في الليل – لمحمد الحسناوي).
كما يجدر التنويه أن أدب السجون ليس حكرا على الفلسطينيين والعرب فقط، بل هناك آخرون مثل شاعر تركيا العظيم ناظم حكمت، وشاعر تشيلي العظيم بابلونيرودا، والروائي الروسي ديستوفسكي في روايته”منزل الأموات” فالسجون موجودة والتعذيب موجود في كل الدول منذ القديم وحتى أيامنا هذه، ولن يتوقف الى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.

“فضاء السجن في الرواية العربية”.. تقص ودراسات للكاتبة جمانة صوان

عزيزة علي

عمان- صدر عن دار فضاءات للنشر والتوزيع كتاب بعنوان “فضاء السجن في الرواية العربية” للكتابة الأردنية جمانة صوان، تتقصى فيه مواضيع أدب السجون في روايات عديدة، تنتمي لأجيال مختلفة من الكتاب، وبيئات عدة، حتى تتوصل إلى نتائج مرضية، كما اتجهت إلى الدراسات الأدبية، الى جانب دراسات علم النفس، وعلم الاجتماع، إضافة للدراسات السياسية.
الكتاب جاء في ثلاثة فصول؛ الأول وهو بعنوان “السجن السياسي: من سجن الآخر”، وتتناول فيه مراحل السجن السياسي قبل الدخول إلى السجن (الحياة في السجن الكبير)، المراقبة والاعتقال وما يتعرض له المعتقل داخل السجن من حبس احتياطي وأنواع التعذيب وشكلاه الجسدي والنفسي، والتحقيق في ظلمة الحبس الانفرادي والزنزانة الجماعية والمحاكمة والخروج من السجن والعودة إلى السجن الأكبر.
فيما يتحدث الفصل الثاني الذي جاء بعنوان “البطل السجين وإشكالية الأنا والآخر”، عن التأثير النفسي في البطل السجين وتدميره للأنا، والتحولات في شخصية البطل السجين والدفاع الذاتي للأنا في مواجهة الآخر، والتعريف بالآخر، وما علاقته بالأنا، الآخر داخل السجن، والمعتقل، وسبل التواصل معه، والموقف من سلطة الآخر السلطة، وسبل التواصل مع السلطوي خارج السجن، والزيارات والمراسلات وعلاقة السجين بالمرأة والسجينة الأم والجدة والحبيبة والزوجة والسجانة والوجه الآخر لعلاقة السجين بالمرأة.
ويتناول الفصل الثالث “البناء الفني في روايات السجون”، مثل المكان: السجن العالم الخارجي البيت القرية الريف الطلل المدين، الزمان: الزمان البيولوجي النفسي الوجودي السردية السارد السرد والزمان السردي الاسترجاعات التواتر الاستشرافات الاستباقات، السرد اللاحق، الوقفة الزمنية، الحذف والإضمار، المشاهد الحوارية والبانورامية والمفاجأة، الشخوص، البطل، السجين، بؤرة النص، الشخصيات الثانوية، والحوار “المونولوج والديالوج”، الشخصيات والحلم والحبكة واللغة والتناص والوصفية الحوارية.
صوان تشير، في مقدمتها للكتاب، إلى أن أدب السجون يشغل حيزا كبيرا في الأدب العربي، والعالمي، ولما كانت الرواية تقوم أساسا على اختراع عالم متخيل يشبه أو يكاد يشبه عالم الواقع، فالرواية تلقي الأضواء الكاشفة على ما يحيط بالسجن، والسجين، والسجان، وتتغلغل إلى ما وراء قشرة الواقع، فتلقي الضوء على ما يجري في عالم السجين الداخلي من تيارات نفسية، وما تمر به نفسية السجان من أحقاد على فريسته السجين، ومن تلذذ الجلاد بإحياء حفلات التعذيب، لافتة الى أن الروائي يلاحق السجين بمتخيلاته السردية بعد تحرره من الجدران، وما يتعرض له من ضغوط نفسية تجعل من الإحساس بالحرية ضربا من الظن.
تقول صوان إن الكتابة عن “أدب السجون”، ظهرت مع شيوع الأحزاب السياسية وتعددها في الوطن العربي، واحتلال فلسطين، وانتفاضات شعبها المتجددة، وأحداث النكسة، كل هذه العوامل لعبت دورا كبيرا في ظهور العديد من “أدب السجون”، خصوصا “الرواية” التي كتبها الأسرى في سجون الاحتلال، وفترة وجود الانتدابات على الوطن العربي الذي امتد لسنوات طويلة، وما إن تخلصت الدول العربية من الاستعمار حتى اشتغلت فيها الحروب من جديد، منها الحروب الأهلية كالحرب الأهلية اللبنانية، وحروب خارجية كالحرب على العراق، فظهر أمامنا العديد من السجون منها “غوانتانامو، أبو غريب”، وغيرهما من السجون. وتوضح المؤلفة أن “أدب السجون”، هو كل أدب يتناول السجن كقضية رئيسة، ويكون السجن هو فضاء العمل المكاني، وقد يكون خارجه لكننا نجد بقية عناصر العمل الأدبي ترتبط بالسجن بطرف ما، وقد يتطرق العمل لمواضيع عديدة من عالم السجن، أو لموضوع واحد يسلط من خلاله الكاتب الضوء عليه دون غيره ويكثفه، ولا يشترط أن يكون الكاتب قد خاض تجربة السجن بنفسه، فقد يكتب عنها دون خوضها، لافتة إلى أن أدب الأسرى يندرج تحت أدب السجون، ويكتبه فقط من خاض تجربة الأسر، وهناك من يحصره في أسرى سجون الاحتلال، على عكس أدب السجون، إذ يشمل أدب السجون ما كتب داخل السجن أو خارجه على أن يكون السجن هو فضاء هذا النص.
وتتحدث صوان عن أدب السجون من ناحية “فن مكاني”؛ أي أن “المكان” هو العنصر الأساسي في العمل -النثري خاصة- وهو المحرك والمؤثر، ونلحظ تطورا في مفهوم أدب السجون، فلم يعد هذا الأدب هو فقط ذلك الذي يكتب داخل أسوار السجن، فكثير من الأدباء صاغوا تجاربهم خارج أسوار السجن، منهم من كتب عن تجربة السجن دون أن يخوضها، على عكس ما كان موجودا في العصور السابقة، مبينة أن ظهور السجن في الأدب العربي قديم وحديث، شعره ونثره أثر كثيرا حيث كان الشعر هو الحامل الأساسي لهذه القضية، ومع ظهور الرواية، وتراجع دور الشعر، أصبحت الرواية هي المصور الأول لتجربة السجن بصفتها أكثر الفنون الأدبية انتشارا وتصويرا لمشاغل الإنسان وقضاياه وهمومه المختلفة.
وحول اختيارها الرواية لدراستها، تقول المؤلفة “إن السرد أقدر من غيره على التطرق لموضوع السجن، إذ تندرج تحت السجن مواضيع شتى”، فالرواية تستطيع عرض المواضيع جميعها، لكن القصة مثلا تكتفي بجانب واحد من هذه المواضيع، كما في قصة “يوم أشهب” لزكريا تامر التي يتحدث فيها عن تزوير الحقائق، وتلفيق التهم، بعد أن قتلت السجين شكري المبيض، ولفقت له تهما مختلفة لأفراد عائلته القريب منهم والبعيد، حتى وصل بهم الأمر للتدخل في المشاعر؛ إذ تعتقل أخته لأنها تتعمد ألا تعبر عن فرحتها أو حزنها، وفي قصة “السجن العربي” يتطرق تامر إلى الفكرة نفسها.
وتتحدث صوان عن تجارب نسائية كتبن عن أدب السجن مثل “حسبية عبد الرحمن”، وهي سجينة سابقة وروائية خاضت تجربة السجن، وهي تحدث عن السجن بأسلوب مميز في رواياتها “الشرنقة”، “تجليات الشيخ جدي”، كما كتبت “مي الحافظ”، روايتها “عينك على السفينة”، وأيضا كتبت نوال السعداوي عن تجربتها في السجن رواية “مذكراتي في سجن النساء”، وهبة الدباغ في روايتها “خمس دقائق وحسب”، كما عرضت مجموعة من الروائيات لهذه القضية دون أن يخضنها من مثل: سوزان الراسخ في روايتها “غزل الحكاية”، رضوى عاشور في “فرج”، وحميدة نعنع في روايتي “من يجرؤ على الشوق”، و”الوطن في العينين”.
وترى المؤلفة أن الكتابات عن “أدب السجون”، في العالم العربي كثيرة، حيث أفردت صوان له ملحقا في آخر الكتاب رصدت فيه ما استطعنا من روايات السجون والسيرة واليوميات، ومنهم من تطرق لتجربة السجن، ولم يخض فيها، فلم يكن السجن هو الموضوع الوحيد في الرواية، مثل: رواية “تحت شمس الضحى” لإبراهيم نصر الله، “العشاق” لرشاد أبو شاور، “إسماعيل” لأحمد حرب، وروايات تشبه روايات أدب السجون في التجربة التي تخوضها شخصياتها، مثل رواية “يوميات كاتم صوت”، لمؤنس الرزاز، التي تدور حول عائلة فرضت عليها الإقامة الجبرية في البيت، الذي تحول إلى سجن أشد إيذاء من السجن الحقيقي.
وخلصت صوان الى أن “رواية السجون”، هي التي يكون السجن موضوعها الرئيس السجن، بغض النظر عن الزاوية التي يتطرق فيها الكاتب للموضوع، فقد يكون عالم الرواية هو السجن، أو يكون خارجه، لكن يظل السجن هو المخيم على الرواية، ويلقي بظلاله على الشخوص، ويحركها، ويؤثر بها، مثال على ذلك رواية “فرج” لرضوى عاشور، التي تعد روايتها من روايات أدب السجون، مع أن الأحداث تدور خارج عالم السجن، إلا أن السجن ظل هو الثيمة المسيطرة على عوالم الشخوص والأحداث، ونستطيع القول إن رواية السجون تقتصر على “السجن السياسي”، لأن الروايات الأخرى التي تطرقت لموضوع السجن غير السياسي، لم يستغرق فيها الحديث عن السجن كل الرواية، بل نجد السجن فيها عنصرا ثانويا لا يكون هو الموضوع الرئيس في الرواية، أما الروايات التي كان موضوعها الرئيس هو السجن، فكان السجن فيها سجنا سياسيا.
وكتب د. إبراهيم خليل مقدمة للكتاب بعنوان “هذا الكتاب” يشير فيها إلى أن صوان في هذه الدراسة تسلط الضوء على تجارب تمثل أقطارا عربية مختلفة متوقفة إزاء روايات لكتاب معروفين يحتلون مواقع رفيعة في الرواية العربية من أمثال “عبد الرحمن منيف، وفاضل العزاوي، نبيل سليمان، هاشم غرايبة، سالم النحاس، محمد الماغوط، عبد الكريم غلاب، فاضل يونس، سنان أنطون، وغيرهم”، ما يضيف لهذه الدراسة أهمية على أهميتها المستمدة من الموضوع ذاته.
ويلفت خليل إلى أن المؤلفة لم تقتصر في دراستها على تتبع عالم السجين، وهمومه، بل تتبعت علاقة السجين بالسجان وعلاقته بالآخر الغريم، أو الرفيق، والآخر الأنثى أما أو جدة أو زوجة أو أختا أو حبيبة تحافظ على علاقتها بالسجين، أو تتخلى عنه لدواع معروفة مألوفة، وتضيء أيضا على وسائل الاتصال بين عالم السجين الداخلي والعالم الخارجي عن طريق الزيارة تارة، وعن طريق تبادل الرسائل تارات أخرى، وعنيت بالقضايا الفنية، والتقنيات السردية، واللغوية، التي تتجلى في الروايات التي قامت بدراستها دراسة نقدية نصية تعنى بالنص قبل أي شيء آخر.
وخلص خليل إلى أن الأسباب الموجبة لانتقاء صوان عددًا من الروايات تقيم عليها أركان الدراسة، وفصولها، واحدا تلو الآخر. كون الروايات التي تتخذ من السجن موضوعًا لها كثيرة، ومتوافرة بحيث لا يستطاع تناولها جميعًا في دراسة واحدة، تتصف بشروط في مقدمتها الإيجاز والاختصار الذي يجعل منها كتابًا مقبولا يقرأ في وقت معتدل الطول. لذلك أضافت المؤلفة، ملحقا بما وقفت عليه، وأحاطت به، من روايات تدور حول عالم السجن، والسجين السياسي. وهي قائمة نستطيع القول، في شيء من التحرز والحذر، إنها تضم تقريبا جل الروايات ذات الصلة بالموضوع.

الغد

أدب السجون والرواية البوليسية

ياسين الحاج صالح-كاتب سوري

ليس في الغرب الحديث، الذي ظهرت فيه الرواية البوليسية أدب سجون، وليس لدينا في العربية رواية بوليسية، فهل يمكن القول إنه ليس لدينا رواية بوليسية، لأن لدينا أدب سجون، والعكس بالعكس؟
لعل ما جعل أدب السجون ممكناً، هو ما تنطوي عليه تجربة السجن من إثارة وتطرف، إنها قصة تعذيب وإذلال، وربما اقتراب من الموت، مع مصير مجهول وحياة مهدورة لسنوات طويلة، لكنها تنتهي بنجاة كاتبها.
من الكاتب؟ في الغالب الأعم هو صاحب رأي، لم يرتكب جرماً يشين به، وناله عقاب غير مستحق. أدب السجون أو الكتابة عن السجن هو بهذه الصفة شهادة على هدر الحياة، وعلى الحرمان العام من العدالة والحرية في مجتمعاتنا المعاصرة. وبقدر ما إن هذا الأدب يتكلم بصورة ثابتة عن عذاب ومعاملة مهينة، فإنه شهادة على مستوى الكرامة كذلك. في المقابل لا يبدو أن هناك ضابط مخابرات واحداً أو جلاداً واحداً كتب سيرته المهنية، المتصلة باعتقال ومعاملة أصحاب الرأي. من يكتب هو «المجرم» المفترض، المعتقل أو السجين السابق، وليس محارب الجريمة المفترض. المجرم المفترض يكتب لأنه ليس مجرماً، وليقول إن الجريمة هي ما تعرض له. أما محارب الجريمة المفترض فلا يكتب، ليس فقط لخلو ما يقوم به من الخطر والمصير المجهول، وإنما أكثر لخلوه مما يشرّف، بل ولغلبة صفة الجريمة عليه.
حيال الرواية البوليسية نحن في جو مختلف، تتمايز فيه أدوار المجرم والمحقق والكاتب، وربما تمايز المحقق أو التحرِّي عن رجل الشرطة أو البوليس. ولعل أمتع الروايات البوليسية التي يكون المحقق فيها تحريّاً خاصاً. والأهم أنه لو تسنى للمحقق هنا في سعيه لمعرفة الحقيقة وكشف الجاني، القاتل أو السارق، أن يعتقل المشتبه فيهم ويعذبهم وينتزع منها اعترافات، لما كانت الرواية البوليسية ممكنة. وحتى لو كان المحقق من جهاز الشرطة الحكومي، المفوض بممارسة العنف المشروع. لماذا؟ لأن التعذيب يحل الحبكة، وبالتالي يحل الرواية نفسها، لأنه بمثابة قطع للعقدة بعنف منفر، بدل أن يفككها بأناة، فتنتظم الأشياء على نحو يرتاح له العقل، يقبل عليه ويُقِرّه. راحة العقل أو استرخاؤه هو شعورنا بعد أن نعرف حل اللغز في نهاية الرواية. ليس هناك لغز حين يكون التعذيب ممكناً، ولا راحة للعقل ما دام ما يستخرج بالتعذيب لا يمكن أن يكون إلا حقائق مشوبة وغير نقية. والرواية بالتالي غير ممكنة، أو هي تنحل في صنف آخر: رواية عن الحامي الحرامي، أو الحاكم القاتل، وأقرب شيء إلى ذلك عندنا هو «أدب السجون». الروائيون محتاجون إلى رفع الصوت ضد التعذيب من أجل حبكاتهم. الدفاع عن الرواية البوليسية هو نضال ضد بوليس لا يعذب، وضد الحكم بالتعذيب.
شرط الرواية البوليسية هو الاشتباه، ليس اشتباه المحقق بشخص أو أشخاص، بل اشتباه البنية الاجتماعية، ألغازها وتعقدها، ومراوغة الحقيقة، وصفتها غير المباشرة أو المركبة. وهو ما يقضي بوجود عاملين يتكرسون لمحاولة معرفة الحقيقة، إن بالمعنى الجنائي، أو الصحافي أو الفلسفي أو العلمي، ويطورون مناهج للاقتراب منها. المحقق ليس فيلسوفاً ينظر بروية في تعقد الشرط الإنساني، ويفكر في شروط إمكان الحقيقة، ولا صحافياً يبني بصبر القصة الكاملة، لحدث بدءاً من نتف وتفاصيل متناثرة، ولا هو عالم في مجال الإنسانيات، يجمع متئدا بين البحث الميداني في مجتمعه، والإحاطة بتراث البحث في مجاله، ويحاول توليد معرفة جديدة، ولا هو كذلك عالم طبيعيات يقضي عمره منكباً على عمله، مستعيناً بأدوات دقيقة على معرفة إضافية في شأن الأحياء والأشياء، إلا أن المحقق يشاركهم في الصدور عن لامباشرية الحقيقة، وفي وجوب التحري الدقيق والصبور للإحاطة بها، وفي عدم شرعية فرضها، أو استخراجها بالقوة. يجمع الأدوار المذكورة، الصبر والأناة واحترام المدروس، في ما يتميز التعذيب بالقسوة و«اللهْوجة» وعدم الاحترام.

ما يجعل أدب السجون ممكناً، أعني التعذيب كمنهج تحقيق، هو نفسه ما يجعل الرواية البوليسية غير ممكنة. ليس أن حضور الأول يسبب غياب الثاني، ولكن الظروف التي تحتم حضور أدب السجون ترجح غياب الرواية البوليسية.

ثم إن الكاتب هنا ليس هو الجاني، ولا المحقق ولا ضابط البوليس، إلا ربما بصورة عارضة. الكاتب هو شخص ثالث أو رابع، ليس طرفاً في القضية ولا صاحب مصلحة. ليس منشأ هذه الأدوار امتيازا أصليا أو متأصلا في مجتمعات الغرب، فهي تميل إلى فرض حقائقها في خارجها أو خوارجها، وتنزع جيوشها إلى ممارسة التعذيب للحصول على معلومات (مشوبة حتماً) ولا يندر أن يلفق بحّاثتها نظريات كبرى عن مجتمعات وثقافات، بدون أناة ولا احترام. تمايز الأدوار هذا محصلة تاريخية لصراعات ومقاومات وتوازنات اجتماعية، تبقى قلقة دوماً، وغير ممتنعة على النكوص. تعرض الأفلام الأمريكية عن «الحرب ضد الإرهاب» كل ما يميز صراعاً بين حق (هو نحن) وباطل (هو هم) من ابتذال ميلودرامي، لا يغطى عليه بغير ضخامة الإنتاج والإبهار التقني.
ولعله يمكن افتراض أن الرواية البوليسية أخذت تولد مع تراجع التعذيب بالتدريج في عصر التنوير، لكن بخاصة في القرن التاسع عشر، وأن ما نشأ في التاريخ يمكن أن ينتهي في التاريخ، سواء بعودة التعذيب، أو بتحولات في نظام المجتمع والحقيقة، إن بنفي الحقيقة واعتبار كل شيء نسخاً (سميولاكرات) فلا يحيل الاشتباه إلا إلى اشتباه آخر، أو بظهور نظام رقابة شامل، مسلحاً بتكنولوجيات كلية الانتشار على ما يبدو أنه الحال اليوم سلفاً في دبي.
في أدب السجون بالمقابل، الدولة هي المجرم الأول، هي من تعتقل وتعذب وتهين وتسيء معاملة محكومين يحصل أن ينجو بعضهم فيكتبوا عن تجاربهم. المحقق هو محقق الدولة، وهو يعتمد التعذيب تحقيقاً، فينفصل على هذا النحو التحقيق عن الحقيقة، ولا يجري الحصول إلا على حقائق مشوبة، تقترن على المستوى العام بالذل العام، مما لا يشكل بيئة صالحة لكتابة معافاة. ولعل ما يحرك التعذيب والحقائق المشوبة إرادة كشف الأفراد والمجتمع، أن يكونوا منكشفين بلا حماية ومفتوحين بلا وقاء، مقروئين وطيعين بالكامل. حقيقتهم الكاملة مدونة في «قيود» جلاديهم، وليس في نفوسهم. هنا تتلامح مفارقة. فطلب الحقيقة الكاملة لا يفضي إلى غير حقائق مختلطة، ملوثة، قد لا تعدو كونها شوائب بلا أثر من الحقيقة، ومقترنة حتماً بالكراهية والخوف والذل. بالمقابل، يتوافق القبول بالاشتباه، اشتباه المجتمع أو تعدد بطونه واشتباه الحقيقة أو خفائها ولا مباشريتها، مع الحصول على حقائق موثوقة أكبر، قابلة لأن يضاف إليها وتُغنى وتعدل. الفرق بين الإشابة والاشتباه هو بين تلويث الحقيقة عمداً، وتعذر تنقية الحقيقة تماماً. في المرة الأولى تلوث الحقيقة متولد عن منهج التحقيق الفاسد، وفي المرة الثانية متولد عن التباس الإنساني واشتباهه.
والخلاصة أن ما يجعل أدب السجون ممكناً، أعني التعذيب كمنهج تحقيق، هو نفسه ما يجعل الرواية البوليسية غير ممكنة. ليس أن حضور الأول يسبب غياب الثاني، ولكن الظروف التي تحتم حضور أدب السجون ترجح غياب الرواية البوليسية.
فهل نريد رواية بوليسية؟ ليس حتماً. المؤكد أننا لا نريد أدب سجون كالذي أخذنا نعرفه في سوريا في الحقبة الأسدية، ويشكل أبلغ شهادة عنها. أعني لا نريد عيش التجارب التي اشتبك معها أدب السجون. لهذا الأدب كصنف بداية، هي ظهور دولة التعذيب، وله نهاية هي نهايتها.

القدس العربي