أرشيف الوسم : التعذيب

خمس دقائق وحسب” تسع سنوات في سجون سورية الحلقة الأولى

المعتقلات السوريات في صفحات من القهر

خمس دقائق وحسب

كانت ليلة الاربعاء الحادي والثلاثين من ديسمبر عام 1985 ليلة بالغة البرودة في دمشق . . وفيما هجع أكثر أهل البيت وغبن في عالم الأحلام ، كنت وقد دنا منتصف الليل لا أزال أطارد السطور المتراقصة على كتاب الفقه وأجهد في استيعاب المعلومات استعدادا لامتحان اخر السنة صباح الغد . . والنعاس والبرد واغراءات الفراش الوثير تطاردني بدورها وتشتت قدرتي على التركيز بين الحين والحين . . لكن هواجس أشد كانت تصرفني عن ذلك كله ، ومخاوف تنبعث من أعماقي بلا وضوح تجذبني هنا وهناك . . وتدفعني لاسترجاع صور الأيام الماضية وسجل ذكرياتي بشيء من القلق والرهبة والتوتر . . كانت أموري في كلية الشريعة طوال العام على ما يرام . . أو لعلها كانت كذلك حتى أنهيت الفصل الأول وعدت إلى حماة مدينتي أزور أسرتي وأقضي فترة العطلة بين الأهل والأحباب . . فخلال ذلك فاجأتني والدتي بطلب من أخي صفوان يلح علي وعليها أن أترك الدراسة وحتى البلد وأذهب إلى عمان عاصمة الأردن حيث يقيم منذ شهور هربا من ملاحقة الحكومة له بتهمة الإنتساب إلى تنظيم الإخوان المسلمين ونقلت أمي رحمها الله عن صفوان عندما التقته بنفسها هناك في عمان مخاوف تنتابه من أن يقوم رجال الأمن باعتقالي نيابة أو رهينة عنه . . لكنني لم أجد في نفسي مبررا لإجابته ، ولا عهدت في حياتي احتمالات كتلك ، فاعتذرت لأمي . . وأكملت إجازتي كالمعتاد . . وعدت إلى دمشق ثانية مع ابتداء الفصل الثاني . . لأستأجر مع عدد من البنات نفس الشقة التي اخترناها في الفصل الأول في حي البرامكة . .

وأستأنف دوام الجامعة من جديد ، وكدت أنسى الأمر كله لولا أن التوتر الأمني بدأ يتصاعد من حولنا ، ومظاهر المسلحين وحواجز التفتيش التي اعتدنا مشاهدتها خلال الشهور الماضية في حماة بدأت تظهر في العاصمة دمشق ، لتمتد إلى محيط الحرم الجامعي نفسه . . ويفاجؤنا عناصر الأمن على باب الكلية يطلبون البطاقات ويدققون في الأسماء . . وتنتشر الهمسات وتسري الإشاعات عن اعتقال فلان وقتل اخر واشتباك وعراك . . وما لبث الأمر أن زاد إلى العلانية . . وصار سماع رشقات الرصاص وانفجارات القنابل أمرا شبه يومي في دمشق . . وبلاغات الإذاعة وواجهات الصحف الرسمية ما عادت تكف عن أحاديث القبض على ” المجرمين ” ومداهمة “أوكارهم ” وملاحقة عناصرهم هنا وهناك . . وفي زحمة ذلك كله . . وقد امتد التوتر إلى كل نخس وسرى الرعب في كل قلب . . بدأت أحس حركة غير طبيعية بالقرب مني أنا !


الله بيعين !

كنت على سبيل المثال قبل يومين قد اصطحبت صديقتي المقربة وزميلتي في الكلية ماجدة ل . إلى سوق الحميدية لنشتري هدية ملائمة لعمتي المريضة ، فشعرت وكأن ثمة من يتبعنا من محل إلى محل ومن شارع إلى آخر . . فلما ركبنا الباص إلى “الخيم ” حيث تسكن عمتي تأكدت أن الشخص نفسه قد ركب وراءنا فتملكني الخوف جدا . . وهمست وأنا لا أكاد أقدر على تحريك شفتي بمخاوفي لماجدة . . فتبسمت وقالت : أنت موهومة وحسب ! وصباح هذا اليوم . . وعندما كنت أدخل الكلية كالعادة استوقفني عناصر الأمن فأخذوا بطاقة هويتي ودققوا فيها كما يفعلون كل يوم ثم أعادوها . . لكنني ولما انتهت المحاضرات وقفلت راجعة إلى البيت مع ماجدة شعرت ثانية وكأن أحدا ما يلحق بنا . . فلما أخبرتها بما أحس عادت فأكدت لي أنني موهومة . . وأن الأمور كلها طبيعية من حولنا ولا داعي للقلق .

لكن القلق ها هو لا يزال يتملكني . . وسكون الليل البارد كأنما يزيده فيه ويؤججه . . ولم يطل الأمر بي أكثر من ذلك بعد ذاك . . فخبطة أبواب السيارات المفاجىء في الشارع أسفل منا . . والجلبة التي تميز وصول رجال المخابرات مكانا ما ، كانت كافية لتطرد كل وهم عن ذهني ، وتدفعني وقد حسبت أن مداهمة جديدة أو اعتقالا لأحد المطلوبين سوف يشهده الحي الذي نحن فيه . . تدفعني لأهرع إلى النافذة أشع الخبر وأستجلي الحقيقة ، لكنني لم أكد أبلغها حتى بلغ مسمعي طرق على باب بيتنا أشد ما يكون . .

وبينا كنت ألقي نظرة خاطفة من النافذة فألمح عددا أصعب من أن أحصيه ساعتها من سيارات المخابرات تملأ الشارع . . أتاني الصوت على باب البيت يصيح : إذا لم تفتحوا فسنكسر القفل بالرصاص ! وبحركة آلية تناولت غطاء صلاتي فوضعته على رأسي وركضت باتجاه الباب بادئ الأمر . . لكنني لم أعرف ما أفعل ! أأفتح لهم والبنات كلهن نائمات ؟ أصابني الإضطراب بالحيرة . . ثم وجدتني أهرع إلى فاطمة أكبرنا سنا وهي معلمة تشاطرنا السكن ، فأيقظتها أولا وأنا أقول لها بلا وعي : -هيا . . كأن المخابرات أتوا عليك ! ثم لمح في خيالي أن شريكة أخرى في البيت معنا اسمها سوسن س .

(خريجة كلية طب الأسنان وتكمل سنتها التدريبة في دمشق ) قد نفذوا حكم الإعدام بأخيها صباح اليوم في سجن تدمر كما بلغها وأبلغتنا ، فظننت أنهم إنما أتوا من أجلها . . خلال ذلك كان رجال المخابرات قد بدأوا بخلع الباب والضرب عليه بالبواريد ، فأسرعت فاطمة إلى حجابها فوضعته على رأسها وفتحت لهم . . ودخلوا يا لطيف ! شيء غير معقول ! قفز واحد منهم إلى السقيفة فورا يفتشها . . واندفع اخر إلى الشباك . . وثالث في المطبخ . . ورابع . . وعاشر . . ولم نجد إلا أحدهم يقتحم الغرفة علينا ، وما أن رأى مصحفا معلقا على الجدار حتى انتزعه ورماه على الأرض وصار يدوسه بقدميه كالمهووس . . فيما راح اخرون ينبشون أمتعتنا وينقبون كل زاوية في خزائننا ونحن لا نكاد نستوعب لماذا أو ما الذي كانوا عنه يبحثون ! وفي غمرة المفاجأة سمعت واحدا منهم يصيح من الصالة : -وهيبة دباغ . فتقدمت وكأنني ألج كابوسا مرعبا بالرغم عني وقلت له : ما عندنا هذا الإسم.

لكن قلبي انقطع من الرعب ، وتأكدت ساعتها أنهم أتوا علي . . فقال لهم رئيس المجموعة : -أرجعوا كل واحدة إلى غرفتها وفتشوا الهويات .

فامتثلنا للطلب . . ودخلنا غرفنا ونحن نرتعد . . وتقدم عنصر مني وكأنه عسكري في الخدمة – ليفحص هويتي ، فلما نظر إلى اسمي فيها ثم إلى وجهي اغرورقت عيناه بالدموع ، وقال بتأثر وهو يبكي : -أنت بنت بلدي . . والله يعين .

سألته : لماذا ؟هل هناك شيء ! أجاب : الله بيصبر . . ماذا يمكن أن تفعلي ؟ الله بيعينك . سألته وكأنني أهوي في بئر مظلم : لماذا ؟ هل أتوا من أجلي ؟ قال وهو يشيح بناظريه عني : نعم . . وذهب وأعطى الهوية لرئيس الدورية الذي كان ينادي “وهيبة دباغ ” . . فنظر هذا إلي بحنق وقال : – بتقولي بكل عين وقحة أنه لا يوجد لديكم هذا الإسم ! والتفت إلى عنصر اخر وقال له : – خذها إلى غرفة لوحدها وفتشها جيدا


قهوه . . أم شاي !

أخذني العنصر إلى غرفة ثانية وأخذ واحدة أخرى من البنات وقال لها : فتشيها.. قلت له : ماذا يمكن أن تجد معي ؟ لقد فتشوا البيت كله وفتشونا منذ أن دخلوا . . لكن صوت رئيس الدورية كان يغطي على صوتي المرتجف وهو يتحدث باللاسلكي مع شخص اخر سمعته يقول له : أحضروها . فقال لي : هيا ارتدي ملابسك. ستذهبي معنا خمس دقائق وحسب

لبست جلبابي فوق غطاء صلاتي ، وكانت معي بعض النقود فأردت أن أعطيها لصديقاتي ، فقال لي : لا . . دعيهم معك فربما تحتاجينهم .

قلت وقد بدأت أستعيد بعض توازني : لن يلزموا لي ، أنت تقول خمس دقائق فكيف سأحتاجهم ؟ لكنه عاد وأكد أنني سأحتاجهم ، فلم أكترث بما قال ، ودفعت النقود لإحدى البنات بقربي ، فيما وجدتهم يدفعونني إلى الخارج ورئيس الدورية يقول لأ حد العناصر : -أمسكها من يدها . كان الدرج معتما والكهرباء مقطوعة فما رضيت أن يمسك لي يدي . قال : هذا أمر . قلت له : كلبشني ولا تمسك يدي .

فتركني أنزل حتى باب البناية ليعود فيدفعني نحو باب سيارة كأنما هي غول فتح فاه ينتظر افتراسي ! وسمعت أحدا يسأل باللاسلكي من جديد: من معها في الغرفة ؟ أجاب : فلانة وفلانة. قال : أحضروهم معها . فصعد ثانية وأحضر شريكتي في الغرفة ماجدة وملك غ .

ولم تلبث السيارة أن تحركت وسط جمع من رجال المخابرات انتشروا على طول الشارع ، وأطلت سياراتهم المرعبة من كل زاوية ومفرق طريق . . وفي غمضة عين وجدنا أنفسنا قرب ملعب تشرين بالعباسية في فرع المنطقة المسمى “السادات “. . وهناك أدخلونا إلى غرفة مملوءة بأجهزة كهربائية فيها أضواء كثيرة حمر وخضر تشتعل وتنطفئ باستمرار كأنها أجهزة اتصالات أو لاسلكي . . وما أن جلسنا حتى سألنا أحد العناصر الموجودين فيها: -ماذا تشربون . . قهوة أم شاي ؟

ولما لم ننبس من خوفنا ببنت شفة تطوع بالإجابة عنا وقال : – ساتي لكم بقهوة مرة لتصحوا رأسكم . . وذهب فأحضر فنجانا لكل منا وجلس يراقبنا ، فلما لاحظ أننا لا ندنيها من أفواهنا سأل : – لماذا لا تشربين ؟ هيا صحي رأسك . . الساعة الآن الثانية وأنت نعسانة بالتأكيد . قلت وشفتاي ترتجفان : أنا أشرب . قال : لا . . أنا شايفك .

قلت له : وهل تراقبني ؟ لا أشتهيها الآن . قال بسخرية : لازم تشربي ليصحى رأسك وتعرفي تحكي جيدا . كففت عن الكلام . . وأدنيت الفنجان من فمي وتظاهرت بالشرب . . وكنت أعود فأدنيه ثم أعيده وجسمي كله يرتجف . . وأنا لا أدري ما الذي يمكن أن يحدث في اللحظات التالية !


إلى التحقيق !

لم يطل المقام بي في الغرفة الأولى كثيرا فما هي إلا دقائق حتى سمعت مناديا يهتف باسمي ، وسرعان ما اقتادني عنصر اخر إلى مكتب رئيس الفرع نفسه ، وهو كما علمت بعدها ابن أخت رئيس الدولة واسمه معين ناصيف .

دخلت هناك فوجدت رجلا عيناه جاحظتان وحمراوان كالدم ، يرتدي “جلابية” شفافة ورقيقة ويلف رجلا على رجل فتنكشف ساقاه من تحتها بشكل مقزز . اجلسي هنا . قالها لي بلهجة بادية الخشونة وأضاف قبل أن أبلغ الكرسي الذي يتوسط الغرفة فيكشفني من كل جانب : أنت منظمة أليس كذلك ؟ قلت : لا.

قال : إذا فما علاقتك بالإخوان ؟ قلت : لا توجد لي أي علاقة بهم . قال وقد.بدأ يتململ في كرسيه : وإذا فكيف تقومين بتوزيع كل مجلات النذير ؟ ثم هذه الرسالة من أين أخرجناها ولمحت بين أصبعيه ورقة صغيرة عرفت أنها الرسالة التي كان أخي صفوان قد كتبها قبل مغادرته سورية كتوصية بأبي عندما ذهب الأخير مع شقيقي الأكبر إلى عمان للعلاج هناك بعدما أصابه مرض انحلال الدم إثر ملاحقة صفوان حزنا وخوفا عليه ، ولكن مسؤولي الحدود أعادوهم وقتها لأن أخي لم يكن قد أدى خدمته الإلزامية ، وأحببت أن أحتفظ بالرسالة كذكرى من أخي . . فلما فتشوا البيت عثروا عليها وكان مكتوب فيها “حامل هذه الرسالة هو والد أحد المجاهدين فاعتبروها شيئا كبيرا ، وجعل رئيسى الفرع يقرأ لي منها بسخرية ويقول : – والد أحد المجاهدين أليس كذلك أبوك هذا عامل نفسه إشتراكي وهو من زعماء الإخوان . . لكن أنا بعرف أفرجيه . . والله لأعمل جسده مصفاية ! وظلت هذه العبارة محفورة في ذاكرتي حتى سمعت عن أحداث حماة بعد سنوات . . وعلمت أنهم عذبوا أبي أشد العذاب قبل أن يرشوه أكثر من مرة ، حتى صار جسده كالمصفاة بالفعل !


وضاع الدليل !

أنا لست منظمة ولا من الإخوان . قلتها وقد سرت القشعريرة في جسدي خوفا على أبي وعلى نفسي . قال : وماذا عن الرسالة ؟ قلت : لا أعرف . . ربما نسيها أحد هناك أو وضعها لي أحد . وكأنما أراد أن يلج إلى غايته من مدخل اخر ، فجعل يقلب الملف الذي بين يديه وسأل : من تعرفين من أصدقاء أخيك ؟ – لا أحد . . لم أر أخي من زمن ولا علاقة لي بأصدقائه ؟ قال وقد اشعت عيناه : وماذا عن عبد الكريم رجب ؟ قلت : من هذا . . لا أعرفه . فعاد إلى الصراخ من جديد وصاح بي : إذا فلن تعترفي أنك منظمة .

قلت : لا . .أنالست منظمة فكيف أعترف بذلك ؟ فتناول “شحاطته ” من قدمه ورماني بها ، لكنني تنحيت برأسي قليلا فتجاوزتني وأصابت الكاتب ورائي . . فقال وهو يشتمني : – وتقولين أنك لست من الإخوان . . هذه التصرفات كلها تصرفات إخوان ! ثم عاد يتحدث عن الرسالة ويلوح بها أمام وجهي . . ولم يلبث أن غادر الغرفة لبرهة فظننت أنه ذهب ليأتي بجلاد أو أحد ما ليعذبني ، فلما عاد أراد كأنما أن يريني الرسالة أو يستخدمها من جديد ، فجعل يقلب بين مجموعة أوراق كانوا قد أخرجوها من سلة المهملات ببيتنا ، وقاموا بكيها وتلصيقها جميعا أملا في أن يجدوا بينها دليل إدانة ضدي ، فلما لم يجد الرسالة سأل الكاتب ورائي : – هل دخل الغرفة أحد ؟ أجاب الكاتب بانتباه : لا سيدي .

قال له : هل تحركت هذه ال . . من مكانها ؟ هل غادرت أنت الغرفة؟ أجابه ثانية : لا . فجعل يقلب وينقب أمامه وحوله وبين يديه فلم يجد شيئا . . وضاعت الرسالة أين . . لا أدري ! فازداد التآمه وعلا صراخه ، وجعل يهددني بعبارات بذيئة ويقول : – رفيقتك هنا في الملف أمامي اعترفت بأنك منظمة ، وإذا لم تعترفي بنفسك فلدينا مايجعلك تفعلين ! قلت له وقد جرحتني الكلمات البذيئة واستفزني التهديد : مهما كان لديكم من وسائل فأنا لست منظمة . . وسأبقى أقول أنا لست منظمه


سجل الاتهام

أخرجوني من غرفة التحقيق إلى غرفة كالأولى التي استقبلتنا مملوءة بأجهزة مشابهة كلها أضواء ملونة دائمة الوميض . . وأخذوا صديقتي ماجدة إلى غرفة رئيس الفرع . . ولم أكد ألتقط أنفاسي حتى عادوا فنادوني وأخذوني إليه من جديد ، لأجد قائمة بالإتهامات تنتظرني تكفي أن توزع على ثلاثة رجال أنت متهمة بأنك منظمة : توزعين مجلة النذير ، وتعطين دروسا لسيد قطب في مساجد دمشق ،وقمت بشراء بيت للتنظيم ، ونقلت سيارة ذخيرة فيها جهاز إعلامي بنفق في منطقة المهاجرين . . وهناك اعتراف ثابت من واحدة من صديقاتك بكل ذلك . . ورفيقتك هذه متأكدة تماما من كل المعلومات وهي تعرفك جيدا ودرستك وعاشرتك ولا تكذب أبدا .

هي كاذبة ، وأنا ليست لي علاقة بما قالت ولم أفعل أي شيء أو أشارك بأي مما ذكرت . قلت ذلك وقد بدأت الأمور تتضح في ذهني بعض الشيء ، واستطعت من ثنايا كلامه أن أدرك أن شخصا بعينه قد نقل هذه الوشايات لهم وملأ ملفي بكل هذه الأكاذيب . . الشخص الذي طالما كنت أسمع تحذيرات عنه رغم أن عيناي لم ترياه طوال حياتي . . إنه عبد الكريم رجب : جاسوس المخابرات والمتعامل معهم من داخل صفوف الإخوان . . أو دسيستهم داخل الصفوف ! تشجعت لهذا الذي وصلت إليه ، وأدركت أنها تهم رخيصة أراد أن يملأ بها الصفحات وحسب ، وازددت إحساسا مع كل الظروف بالثقة . . فلم أجب تهديدات المحقق رئيس الفرع وهو يكرر علي من جديد : -إذا لم تعترفي يا . . . فلدينا ما يجعلك تعترفين !


في انتظار الإعدام !

إلى الغرفة الغامضة أعادني عنصر من المخابرات بأمر من المحقق ، ولم يلبث وأن أحضر رفيقتي ملك لتنضم إلي ، وكانت المسكينة في أيامها الأولى بدمشق وفي أول سنة لها بالكلية معي ، فلم تكن تعرف لا عن البلد ولا من الأشخاص أحدا غيري . . وبعد أن أودعانا تحت رقابة العنصر في الغرفة أخذوا ماجدة وبدأوا معها التحقيق . . فلما انتهى دورها عاد فطلبني وقد مض من الليل أكثره وأعاد نفس الكلام علي : –

رفيقتك الأولى يقصد عبد الكريم رجب اعترفت عليك اعترافا أوليا ، وهذه ماجدة اعترفت الان بنفس الكلام ، وقالت بأنك منظمة ومسلحة وقمت بأعمال كثيرة للتنظيم وتوزعين مجلة النذير . . ومن غير أن ينتظر جوابا مني أمر عنصرا فأخرجني من الغرفة واقتادني إلى الممر ثم وجهني باتجاه الجدار وأمرني أن أرفع يدي وإحدى رجلي إلى أعلى . . فقلت في نفسي : خلاص . . ها هم أكملوا صياغة التهمة لي . . والان سيرشوني أو يعدموني !

وما هي إلا برهة حتى وجدت رفيقتي ملك بجانبي يأمرها العنصر أن تفعل مثلي ، فازداد إحساسي أنهم سوف يرشوننا لا ريب ، ولم أعد أحس ساعتها بنفسي . . كان كل شعوري مركزا حول النهاية التي دنت . . وكيف ستكون : رشا من الخلف أم إعداما بالمشنقة أم ماذا ؟ وكأنني وقد تملكني الشعور بتحقق المنية استجمعت بقايا جلدي والتفت “بحلاوة الروح ” إلى العنصر المكلف بمراقبتنا فسألته : – لماذا أوقفتمونا بهذا الوضع . . ما الذي فعلناه ؟ قال بلا مبالاة : أنتم تعرفون ماذا فعلتم . قلت : تقصد أنهم سيعدموننا ! أجاب هازئا : لا . . هل تظنين الإعدام يأتي بهذه السرعة والسهولة !


إلى الفلق !

مرت نصف ساعة أو ربما أكثر ، فالوقت في مثل هذا الموقف لا معنى له . . أدخلونني بعدها على غرفة الأجهزة وأمروني أن أجلس فجلست . . ولم يلبثوا أن أحضروا ملك فأجلسوها على كنبة أمامي في مواجهة الباب الذي كان مفتوحا بعض الشيء ، فما كادت المسكينة تلامس الكنبة حتى نامت . . ولم تعد تحس بشيء . . وأنا أكاد من توتري أتقطع ، وصوت ماجدة في غرفة التحقيق يبلغ أذني مرة ويغيب مرة . . فلا أدري ماذا تقول ولا أعلم أي نوع من العذاب الآن تنال . . وألتفت إلى ملك وأهمس وبودي أن أصيح لتسمع : -ملك . . ملك . . حاولي فقط أن تنظري من طرف الباب وتعلمي ما الذي يجري . . . ولكنها في غفوتها لا تجيب ! وظلت على هذه الحال حتى الصباح أراقبها وأحاول أن أحادثها ولا فائدة ، وأنا على أعصابي لا أستطيع حتى أن أستقر على الكرسي تحتي ، وقد اجتمع علي النعاس والتعب والخوف معا . . وبين كل فينة وأخرى عنصر قادم وأخر عائد . . هذا يلقي سؤالا بلا معنى واخر يكتفي بالنظر والتبسم . . حتى أطل أحدهم مع إطلالة الصباح يسأل : – هل تريدون أن تفطروا ؟ ألم تجوعوا؟ قلت له :لا. قال : ماذا تشربين ؟ أجبت : لا شيء . . شكرا .

قال : سأتي لك بكأس شاي تصحين به رأسك . وذهب فأحضر الكأس ووضعه أمامي ، ولكنني لم أستطع من توتري وتعبي أن أدنيه من شفتي . . وعندما بلغت الساعة الثامنة دخلوا من جديد فأيقظوا ملك ، وأخرجونا إلى تحقيق جديد في القبو هذه المرة ، وبينما هم ينزلوننا درجات السلم قلت هامسة لملك : – اخ . . الان سيأخذوننا إلى الفلق لا محالة ! فانتفضت المسكينة تقول : لا تقولينها ! قلت : ومن الذي قال لك أن تنامي طوال الليل ؟ لماذا لم تسمعي ماذا قالوا لماجدة ؟ كنا استفدنا بعض الشيء أو فهمنا ما الذي سيحدث .


أنا . . ضد الوطن !

عبر ممر كئيب في القبو أخذوني إلى غرفة أخرى للتحقيق وجدت في صدارتها وجها جديدا هو الرائد تركي . . أجلسني على طرف سرير عسكري في طرف الغرفة وجعل على مدى نصف ساعة تقريبا يعيد تلاوة نفس الاتهامات علي بشكل سؤال وجواب ، ويدونها في سجل معه . كنت من تعبي وإرهاقي لا أستطيع متابعة كلامه أو حتى فتح عيني . . فكنت أكبو قليلا ثم أنتبه فأشد نفسي . . وعندما كان يبلغني صوته الأجش بعربيته الثقيلة أحس وكأن أمعائي توشك أن تخرج كلها من فمي . . فلما انتهى كان أملي الوحيد في كل الدنيا وقتها أن أجد ولو بلاطة ألقي عليها جسمي المنهك وأنام . . لكن العنصر عاد واقتادني عبر الممر نفسه إلى غرفة أخرى في القبو وجدت فيها ضابطا اخر برتبة رائد استقبلني من فوره بعبارات بذيئة وكلام قذر . . واللهجة العلوية واضحة عليه . . واستمر حوالي الساعة يسمعني العبارات ذاتها : – أنت من الإخوان . . وأنت منظمة اعترف الجميع عليك . . وأنت قمت بأعمال كثيرة تضر بالوطن ولا تستحقين أقل من عقوبة اللإعدام . . كان كلامه أقرب إلى شريط تسجيل منه إلى الحديث . . يعيده بحرفيته ويكرره فلا أميز انتهاء المقطع من بداية مقطع جديد إلا من اختلاف الشتيمة أو تغير عبارات السخرية والإستفزاز . . ووجدتني وكأنما تحول رأسي إلى جرس كبير يقرع هذا الرجل عليه كل لحظة بكلماته فيرتج ولا يستقر . . وتتكرر فيه العبارات فيزداد اهتزازا وضجيجا : – الجميع اعترف عليك . . الجميع اعترف عليك . . أنت منظمة . . ضد الوطن . . إلى الإعدام . . إلى الإعدام . . إلى الإعدام ! وكأنما غبت عن الوجود اخر الأمر ، فما وجدتني إلا وعنصر اخر يدخل الغرفة وملك وماجدة في طرف اخر منها ويسأل : – ألم تجوعوا يا بنات ؟ قلناله : لا ،لم نجع . فرد بلهجة ذات مغزى : الآن سنطعمكم فروجا مشويا على أية حال ! قلت له وقد فهمت أنه يقصد التعذيب : نحن بغنى عن طعامكم .

جذبنا نحن الثلاثة ، ووجدتهم يقتادوننا عبر الممر نفسه فالسلم حتى بوابة الفرع ، ولما سألته وقد دب في القلق من جديد : – إلى أين ؟ قال : الان سترون .

أصعدونا في سيارة عسكرية نحن الثلاثة قبالة بعضنا البعض ، وصعد عنصران مسلحان وراءنا ، ولم تلبث السيارة أن انطلقت بسرعة مجنونة كأنما تريد أن تقفز فوق بقية السيارات التي كانت تخلي لها الطريق من بعيد ، وأمامنا سيارة أخرى تطلق الصفير المدوي ، وثالثة من خلفنا للحماية أو المراقبة . . ولم نكد نبدأ مع انعطافات السيارة العنيفة في الصعود والهبوط حتى تملك ملك الدوار وأخذت في الإستفراغ ، فملأت السيارة من مخلفات جوفها ، وجعلتنا ونحن في حالتنا المبكية نكاد نختنق ، فأملنا رأسها للوراء باتجاه الباب الخلفي بين العنصرين ، فجعلت تكمل تقيؤها بينهما طوال الطريق ، من فرع التحقيق العسكري بالعباسيين إلى سجن أمن الدولة بكفر سوسة.

رواية القوقعة -الحلقة الثانية مصطفى خليفة

16 تشرين الثاني

منذ الصباح يعم ضجيج مكبرات الصوت. أرجاء السجن وما حوله تبث الأناشيد الوطنية والأناشيد التي تمجد رئيس الدولة وتسبغ عليه صفات الحكمة والشجاعة، وتصفه بأوصاف عديدة، فهو المفدى، القائد العظيم، المعلم، المُلهِم… تذكر أفضاله العميمة على جميع أبناء الشعب ، فلولاه لما بزغت الشمس، وهو الذي يمنحنا الهواء لنتنفس ، والماء لنشرب …

نحن السجناء جميعاً نقف في الساحات في صفوف منتظمة، ولأول مرة منذ مجيئي الى هنا سمحوا لنا بالوقوف ضمن الساحة مفتوحي الأعين.

أعطوا واحداً من السجناء ورقة، ومما هو مكتوب عليها يهتف… فنهتف وراءه: بالروح…بالدم سنفدي رئيسنا المحبوب والمعبود!.

لازمني الدكتور زاهي (زاهي عبادي، طبيب من دير الزور، خريج جامعة حلب، معتقل معنا) بعنايته الفائقة، وبلهجة المنطقة الشرقية المحببة كان يشرح لي بما يشبه التقرير الطبي أن وضعي كان خطراً لسببين: الأول أن أذية بالغة قد أصابت إحدى الكليتين وأنني بقيت فترة أتبول دماً. أما الثاني فهو أن مساحة الجلد المتهتك في جسدي قد اقتربت من حد الخطر. وإن تفاوتت النسبة حسب المنطقة. تَهَتَّك جلد الظهر بكامله تقريبا ، قسم من البطن ، الجهة الأمامية من الفخذين، القدمان من الجهتين العلوية والسفلية. أما جلد القدم اليسرى فقد انكشط من الجهة العلوية وبانت العظام.

أخبرني زاهي أنني بقيت ستة أيام غائباً عن الوعي ومعلقاً بين الحياة والموت، كان الملح هو المادة المعقمة الوحيدة المتوفرة، بالملح عالجني الشيخ زاهي، كما كان يحب أن ينادى متنازلا عن لقب دكتور بكل طيبة خاطر وكان يشربني الماء وقليلا من المربى المذاب والمخفف بالماء.

وكما شرح لي وضعي الصحي فإنه أخبرني عن المعلومات التي وصلتهم من المهاجع الأخرى والتي تقول إن عدد أفراد دفعتنا كان / 91 / شخصاً، قتل منهم ثلاثة في الساحة الأولى أثناء الاستقبال وهؤلاء لم يدخلوهم إلى المهاجع، وخلال فترة غيابي عن الوعي مات عشرة آخرون متأثرين بجروحهم وإصاباتهم البليغة، واثنان من الدفعة أصيبا بشلل دائم نتيجة أذى كبير بالعمود الفقري، واحد فقط أصبح أعمى بعد أن تلقى ضربة كرباج فقأت عينيه، وبعد أن انتهى زاهي من سرد هذه المعلومات قال:

-والحمد لله على سلامتك .. احمد الله يا أخوي احمده.. و رغم أن الصلاة ممنوعة بس أنت تقدر تصلي سراً ركعتين لوجه الله !.

الحلاقة

وقف رئيس المهجع في الصباح وقال مخاطباً الناس في المهجع:

-يا إخوان .. اليوم دورنا بالحلاقة، اصبروا وصابروا، سيعيننا الله .. احملوا المرضى ويللي ما بيحسن يمشي على البطانيات، كل بطانية يحملها أربعة فدائيين … وقدر ما فيكم أسرعوا، السرعة أفضل.. والله يقوينا!

صفان من الشرطة على جانبي الباب، بين الشرطي والآخر حوالي المترين، كل شرطي يحمل كرباجاً، ما أن يصل السجين إلى الباب حتى يبدأ الركض، تتلقاه كرابيج الصف اليميني للشرطة من الأمام، الكرابيج اليسارية تطارده من الخلف، من يتعثر أو يقع .. قد يموت فهو يكون قد كسر التناغم وإيقاع الضرب، يقف الصف من خلفه وتجتمع عليه الكرابيج جميعاً، فإذا كان ذا بنية قوية واستطاع النهوض رغم الكرابيج المنهالة عليه فقد نجا. أما الضعيف فستبقيه الكرابيج لصيقاً بالأرض إلى الأبد.

حوالي الثلاثمائة سجين من مهجعنا ركضوا بسرعة، تلقوا الضربات السريعة والكاوية، اصطفوا في الساحة ووجوههم إلى الحائط وأعينهم مغمضة، نحن المرضى وضعونا في منتصف الساحة.

حلاقة الذقن عملية تشريح أو حراثة للوجه مصحوبة بالبصاق والشتائم، وكان بعضهم يتلذذ بافتعال السعال قبل البصق على وجه السجين كي يكون البصاق مصحوبا بالمخاط !!! وتلتصق بصقة البلديات بالوجه ! ويمنع السجين من مسحها

حلاقة الرأس .. مع كل سحبة ماكينة على الرأس، وبعد أن ينفض البلديات الشعر المحلوق، ضربة قوية بالماكينة نفسها على المكان المحلوق وهو يصر على أسنانه ويشتم.

المهجع

خلال استلقائي أكثر من شهر في هذا الركن أتيح لي أن أعاين وأفهم الكثير من الأشياء والأمور في هذا المهجع الكبير. يبلغ طول المهجع خمسة عشر متراً، وعرضه حوالي ستة أمتار. باب حديدي أسود، في أعلى الجدران نوافذ صغيرة ملاصقة للسقف ومسلحة بقضبان حديدية سميكة، لا يتجاوز عرض النافذة خمسين سنتمتراً وطولها حوالي المتر. أهم ما في المهجع هو الفتحة السقفية، وهي فتحة في منتصف السقف طولها أربعة أمتار وعرضها متران، مسلحة أيضا بقضبان حديدية متينة، هذه الفتحة ويسمونها ” الشراقة ” تتيح للحارس المسلح ببندقية والذي يقف على سطح المهجع أن يراقب ويعاين كل ما يجري داخل المهجع وعلى مدار ساعات الليل والنهار، فوق كل مهجع في السجن الصحراوي حارس مسلح من الشرطة العسكرية.

الطعام

ثلاث مرات في اليوم يفتح الباب الحديدي الأسود لإدخال الطعام، وفي كل مرة يكون الفدائيون واقفين خلف الباب، ما أن يفتح حتى يصبحوا جميعاً بلمح البصر عند الطعام، وبسرعة البرق يحملونه، فدائي واحد لكل جاط برغل، جاط المرق يحمله اثنان، الخبز يكومونه على البطانيات وكل بطانية يحملها أربعة أشخاص، طوال الوقت الذي يستغرقه إدخال الطعام تكون كرابيج الشرطة قد فعلت فعلها، يتفنن عناصر الشرطة ويبتدعون أساليب جديدة:

أمام جاط شوربة العدس الغالي، أمسك الرقيب بالفدائي الذي هَمَّ بحمل الجاط. قال:

-اترك الجاط على الأرض … ولا ….!

ترك السجين الجاط ووقف.

-وهلق … غطس إيديك بالشوربة لشوف!

وخرجت اليدان من الشوربة مسلوختين. وأجبره بعدها أن يحمل الجاط بيديه المسلوختين إلى داخل المهجع. كل بضعة أيام يقتل واحد أو أكثر أثناء إدخال الطعام إلى المهاجع.

الفدائيون

يوجد هنا أناس من كل الأعمار، رجال في الثمانين من عمرهم، فتيان لم يتجاوزوا الخامسة عشر، يوجد مرضى، ضعفاء، ذوو عاهات سواء كانت في الأصل أو حدثت جراء التعذيب.

الفدائيون مجموعة من الشباب الأقوياء ذوي الأجساد المتينة، تطوعوا من تلقاء أنفسهم للقيام بالمهام الخطرة التي تحتاج إلى قوة تحمل أو سرعة، مثل إدخال الطعام إلى المهجع، أو إذا تم ” تعليم ” أحد المرضى أو الشيوخ من قبل الحراس، فإن أحد الفدائيين ينوب عن هذا المريض في تلقي الخمسمائة جلدة، لا يعرف أحد أي مهجع في السجن كان السباق إلى ابتداع هذه الفرقة الفدائية.

سمعت أحد الفدائيين يقول إلى زميله:

-نحن مشروع شهادة.

وهم صادقون في سعيهم إلى الاستشهاد، وقد أنقذت الفرق الفدائية حياة الكثير، وعملهم يتسم بالإخلاص والاندفاع الشديدين النابعين عن إيمان عميق.

الحمّام

نحن في المهجع ستة مرضى لا نذهب إلى الحمام، أنا وزميلي في الدفعة الذي بقي غائباً عن الوعي طوال الفترة التي كنت لا أستطيع الحركة فيها، “وكان قد دخل إلى هذا المهجع من دفعتنا ثلاثة، واحد مات بعد يومين، أنا صحوت بعد ستة أيام، أما الثالث فقد بقي شهرين يتأرجح بين الموت والحياة، صحا بعدها وشفي” وأربعة مشلولون، اثنان منهم بالأصل شلل أطفال ، الثالث أثناء الاستقبال، أما الرابع فقد شل نتيجة التعذيب بـ ” المظلة “.

فتح الباب … خرجنا ركضاً، اثنين اثنين، حولنا من الجانبين الشرطة يحملون الكرابيج التي ترتفع عالياً وتهوي على من تصادفه. الكل حفاة ” كانت قدماي لما تُشْفَ جيدا بعد “، من الساحة السادسة عبرنا ثلاث ساحات أخرى حتى وصلنا الحمام، أدخلونا كل اثنين إلى مقصورة بلا باب، وزعوا الصابون العسكري ضرباً على الرأس.. صياح … شتائم …

“سوف يلغى الحمّام بعد فترة نتيجة اكتظاظ السجن وسيتم تحويله إلى مهجع يوضع فيه المعتقلون الشيوعيون .”

تابع الدكتور زاهي العناية بي وبالمرضى الآخرين، جروحي كلها على وشك الشفاء عدا الجرح على وجه القدم اليسرى، ونتيجة لأن عظام مشط القدم قد بانت بعد انكشاط الجلد عنها فقد خشي الدكتور زاهي من مضاعفات أخرى، حضر مرة ومعه شخص آخر وعرّف به على أنه طبيب أخصائي جلدية، وقد أخبرني هذا الطبيب أن بمهجعنا فقط يوجد ثلاثة وعشرون طبيباً من مختلف الاختصاصات.

الصلاة

الصلاة ممنوعة منعاً باتاً بأوامر مدير السجن. عقوبة من يقبض عليه متلبسا بجرم الصلاة هي ” الموت “، رغم ذلك فإنهم لم يكونوا يفوّتون صلاة واحدة. ولكن هنا الإنسان يصلي وهو جالس في مكانه أو في أي وضعية أخرى. إدارة السجن عرفت هذا أيضاً، ويتناقلون حديثاً لمدير السجن قاله أمام السجناء الشيوعيين، ودائماً حديث مدير السجن أشبه ما يكون بالمحاضرات أو الخطب، خاطب الشيوعيين قائلاً:

-هؤلاء الكلاب … الإخوان المسلمون، البارحة فقط أمضيت أكثر من نصف ساعة وأنا أشرح لهم وأفهمهم أن القومية أهم من الدين، ولكن هل تتصورون أنهم اليوم عادوا يصلّون !!! عجيب أمر هؤلاء الناس !!

الاتصال

جميع المهاجع ملتصقة ببعضها، من اليمين واليسار، وأحياناً من الخلف أيضاً، وهذا الأمر سهّل الاتصال بين السجناء، ويكون ذلك بالدق على الحائط حسب طريقة مورس، دقة على الحائط … دقتان … دقة قوية ودقة ضعيفة….

كل ما يجري داخل السجن: الدفعات الجديدة، من مات، عدد الذين أعدموا وأسماؤهم، الأخبار خارج السجن والتي ينقلها السجناء الذين جاؤوا حديثاً، كل هذه الأشياء كانت تنتقل عبر المهاجع وفي كل مهجع مجموعة مخصصة لتلقي وإرسال تلك الرموز، تقف خلفهم مجموعة الحفظة.

بدأ الحفظ منذ بداية “المحنة” كما يسميها الإسلاميون، كان الشيوخ الكبار يجلسون ويتلون آياتِ القرآن على مجموعة من الشباب، وهؤلاء يظلون يكررونها حتى يحفظوها، لم يبق أحد في المهجع إلا وحفظ القرآن من أول حرف إلى آخر حرف، ومع كل دفعة جديدة كانت تبدأ دورة جديدة، ولاحقاً تطور الأمر باتجاه آخر، يتم انتقاء مجموعة من الشباب صغار السن يحفظون إضافة الى القرآن وأحاديث النبي محمد … ما يمكن تسميته بسجل السجن، أسماء كل من دخل هذا السجن من الحركات الإسلامية. “في مهجعنا شاب لم يبلغ العشرين من عمره، يحفظ أكثر من ثلاثة آلاف اسم، اسم السجين، اسم مدينته أو بلدته، قريته، تاريخ دخوله السجن … مصيره!!.” بعضهم متخصص بالإعدامات والقتل، وهم يسمون كل من يقتل أو يعدم في السجن شهيداً، وهذا سجل الشهداء. أيضا يحفظون الاسم، عنوان الأهل، تاريخ الإعدام أو القتل.

شجاعتهم أسطورية في مواجهة التعذيب والموت، وخاصةً لدى فرق الفدائيين، وقد رأيت أناساً منهم كانوا يفرحون فرحاً حقيقياً وهم ذاهبون للإعدام. لاأعتقد أن مثل هذه الشجاعة يمكن أن توجد في مكان أخر أو لدى مجموعة بشرية أخرى.

وسط هذه الصحراء المترامية، لا توجد فصول أربعة، فقط فصلان، صيف وشتاء، ولا ندري أيهما أشد قسوة من الآخر.

-نحن الآن في عز الصيف. الجو لاهب. سمعت بعضهم ممن يعرف المنطقة سابقاً يقول إن درجة الحرارة قد تصل الخمسين أو حتى ستين درجة مئوية في الخارج، وفي الظل داخل المهجع لا تقل عن الخمسة وأربعين درجة مئوية.

بعض كبار السن قَضَوا اختناقا، رئيس المهجع يدق الباب ويخبر الشرطة بموت أحدهم، يفتحون الباب، ويبدو صوت الشرطي سائلاً من شدة الحرارة:

-وين هادا الفطسان ؟… يالله … زتُّوه لبرّه.

أما اليوم الشتائي فهو يوم منكمش، ثياب الجميع قد تهرأت ولا يمكن أن تقي من البرد الصحراوي الحاد الذي ينخر العظام ويجمد المفاصل. أحد القادمين الجدد إلى المهجع كان أهله أغنياء جدا، وقد استطاعوا زيارته أثناء وجوده في فرع المخابرات بعد أن دفعوا ما يوازي ثروة صغيرة كرشوة إلى الضابط المسؤول، وهناك من نصحهم بأن يأخذوا لابنهم الكثير من الثياب. “جلب معه أكثر من مائة غيار داخلي، كان نصيبي منها سروالاً داخلياً، أعطاني إياه رئيس المهجع:

-خود هذا …. مشان يكون عندك بدل!

أما مشكلة القمل فتكون أصعب في اليوم الشتائي، فلا حل للقمل المنتشر بكثافة في جميع المهاجع إلا أن تجلس وتخلع كل ثيابك وتبدأ بالتفتيش عنه في ثنايا الثياب. الجميع هنا يفعل ذلك.

جافاني النوم. مددت البطانية كالعادة وتمددت. الواحدة بعد منتصف الليل مللت الاضطجاع بعد أن آلمتني أجنابي، جلست ولففت نفسي بالبطانيات، خمس دقائق وصوت الحارس من خلال الشراقة:

-يا رئيس المهجع .. يا حمار.

-نعم سيدي.

-علّملي هالتيس القاعد جنبك.

-حاضر سيدي.

لقد علمني. تمددت فورا، غداً صباحاً سيكون فطوري خمسمائة جلدة بقشاط مروحة الدبابة على قدمي! إن قدمي التي أصيبت شفيت تماما مع ندب طويل ولكنها كانت تؤلمني دائماً في أيام البرد فألفّها أكثر من غيرها، كنت أحلم بزوج من الجوارب الصوفية! أحد أحلامي الصغيرة. ماذا سيكون مصير هذه القدم المسكينة عندما تتلقى خمسمائة جلدة؟ وعندما فتح الباب وصاح الشرطي برئيس المهجع ليخرج الأشخاص الذين تم تعليمهم، قفزت واقفاً، ولكن رئيس المهجع وبسرعة قال:

– مكانك، لا تتحرك، واحد من الشباب طلع بدلا منك.

ذهلت، واحد من الفدائيين، واحد من المتشددين الإسلاميين يفديني الآن بنفسه ويتلقى عني خمسمائة جلدة!!

التنفس

في السجون الأخرى التنفس هو حيز زمني يخرج فيه السجين من مهجعه إلى ساحة هواؤها نقي، يأخذ حاجته من الهواء والشمس والحركة.

هنا … قبل التنفس يكون السجناء في المهجع قد انتظموا في طابور، تفتح الشرطة الباب، يخرج الطابور بخطوات بطيئة، الرؤوس منكسة إلى الأسفل، العيون مغمضة، كل سجين يمسك بثياب الذي أمامه، عناصر الشرطة والبلديات يحيطون بالساحة وينتشرون بها بكثافة.

الاثنين والخميس يومان مختلفان عن بقية أيام الأسبوع هنا. في هذين اليومين تتم الإعدامات، لذلك عندما نخرج للتنفس في هذين اليومين تكون كمية التعذيب والضرب أكثر، وفي التنفس يكون الضرب غالباً على الرأس:

-يا كلب… ليش عم ترفع راسك؟!

ويهوي الكرباج على الرأس.

يصرخ الرقيب:

– يا حقير… أنت أنت يا طويل… أطول واحد بالصف، تعال هون…

يركض أحد البلديات ويجر أطول واحد بيننا، الرقيب جالس يضع رِجلاً على رجل، يقول:

– يا حقير .. أنت بني آدم ولا زرافة؟

يضحك المتجمعون حوله بصخب، يتابع الرقيب:

– وهلق … اركض حول الساحة خمس دورات وطالع صوت متل صوت الزرافة … يالله بسرعة. يركض السجين ويصدر أصواتاً، لا أحد يعرف كيف هو صوت الزرافة، أعتقد حتى ولا الرقيب نفسه، يدور السجين خمس مرات، يتوقف، يقول الرقيب:

– ولا حقير … هلق بدك تنهق متل الحمار!

ينهق السجين الطويل. تضحك الشرطة.

– ولا حقير… هلق بدك تعوي متل الكلب!

يعوي السجين الطويل. تضحك الشرطة. يضحك الرقيب وهو يهتز. ثم يلتفت إلى رتل السجناء الذي يسير منكس الرؤوس ومغمض العينين، يصيح:

– ولا حقير… أنت أنت… أقصر واحد بالصف ، تعال هون.

يركض أحد البلديات، يجر أقصر واحد بالرتل. شاب صغير لا يتجاوز الخامسة عشر، يقف أمام الرقيب الذي يضحك ويقول:

– ولا حقير… يا زْمِكّ … وقف قدام هالكلب الطويل.

يقف السجين القصير أمام السجين الطويل، يصرخ الرقيب:

– ولا حقير … يا طويل … هلق بدك تعوي وتعض هالكلب يللي قدامك وبدك تشيل قطعة من كتفه، وإذا ما شلت هـ القطعة … ألف كرباج.

– وهلق … انتوا الاثنين اشلحوا تيابكم.

يخلع الاثنان ثيابهما ويبقيان بالسراويل.

– ولا حقير قصير… نزل سرواله.

ينزل القصير سروال الطويل الى حد الركبتين.

– ونزل سروالك كمان. (ينزل القصير سرواله أيضا).

– وهلق …… اعمل فيه ….(يتلكأ القصير، يشير الرقيب إلى أحد عناصر الشرطة، يقترب هذا ويهوي بالكرباج على ظهر القصير… يجلس الرقيب ، يصيح وهو ينظر إلى الرتل الذي يسير برؤوس منكسة وعيون مغمضة):

– جيبوا لي هـ البغل … السمين.

يأتون برجل أربعيني بدين، يعرف الرقيب منه اسمه واسم مدينته، كم أمضى في السجن … وتفاصيل أخرى، ثم يسأله:

– أنت متزوج ولاّ أعزب؟

– متزوج سيدي.

– أنت بتعرف شو عم تساوي زوجتك هلق … ولا … أنا بقول لك، أنت صار لك ثلاث سنين في السجن …. وهي كل يوم مع واحد جديد.

– السجين ساكت، منكس الرأس مغمض العينين…

تمضي الأيام، يتبدل الرقباء، لكن الأساليب تبقى نفسها …

” كنت أتساءل : هل هي تسلية فقط أم أنها نهج مدروس الغاية منه تحطيم الإنسان وإذلاله من خلال المرأة باعتبارها أعلى قيم الشرف لدى المسلمين؟!…”

لأنهم قالوا: لا مذكرات سجنية الحلقة الثانية

السلام عليكم

-1-

        الاضطهاد وما يتبعه، وما قد يتبعه، جزء من نظام “حزب البعث العربي الاشتراكي” الذي ابتلي به قطرنا السوري، وانخدع به بعض الناس فترة من الزمن، ولا يزال بعضهم مخدوعاً به.

        من توابع الاضطهاد في قطرنا: الاعتقال لأهل الرأي، والتعذيب الوحشي بدنياً ونفسياً، بل الاعتقال كذلك لزائري القطر من سيّاح وغيرهم!… وانتشار الرشوة على المستويات كافّة، ونشر الرذيلة، وتكميم الأفواه، واحتكار الإعلام، ومنع تشكيل الأحزاب السياسية والجمعيات الثقافية والنوادي… إلا ما ينام على يد السلطة ويأتمر بأمرها ويسبّح بحمدها!. والتمييز والتسلط الفئويّان والطائفيان، وممارسة ألوانٍ من الظلم. منها ما يشمل الشعب كله أو معظمه، ومنها ما يخصّ فئات معينة كالإسلاميين والأكراد والتنظيمات التي لا تسير في فلك السلطة، كبعض أجنحة البعث الخارجة عن الطاعة! وكثير من التنظيمات الفلسطينية….

-2-

        الفترة التي أتحدث عنها في هذا الكتاب هي الفترة الممتدة من 6/4/1973 إلى 7/4/1977، وهذه الفترة هي جزء من الحقبة الكئيبة التي أقعى فيها حافظ أسد على صدر الشعب، بأجهزته “الأمنية” وبالأشقياء من أبناء طائفته وغيرهم، وأبعد المعارضين له والمناوئين والشرفاء، سواء أكانوا من أبناء الطائفة أم من غيرها… أي أنه مكّن جزءاً يسيراً، من الحثالات، وأقصى جماهير الشعب، وفرض وصاية التُّحوت على الوعول!.

        قضيت الفترة المذكورة في عددٍ من السجون:

1- من 6/4/1973 وحتى 6/9/1973 (تقريباً) في فرع مخابرات حلب، المعروف باسم سجن أمن الدولة، وكان رئيس الفرع آنذاك محمد خير دياب، ونائبه محمد سعيد بخيتان، والمحقق عبد القادر حيزة، وأبرز الجلادين والسجانين: جاسم وشيخو وأبو حميد…

2- ومن 6/9/1973 وحتى 6/10/1975 في فرع الحلبوني.

3- ومن 6/10/1975 وحتى 7/4/1977 في سجن حلب المركزي.

        وكان وصولي إلى سجن حلب المركزي في ليلة عيد الفطر. وفي صباح العيد تم الإفراج عن الإخوة الثلاثة الذين نقلوا معي، وكانت الإشاعات قد تحدثت عن تلك الإفراجات مسبقاً، ولا شكَّ أنَّ أهلي -كأهالي المعتقلين الآخرين- تعلقوا بهذه الإشاعات، وبنوا عليها الآمال. لكن السلطة الحاقدة خيبت أمل أهلي، فبقيت بعد هذا التاريخ ثمانية عشر شهراً أخرى!. لقد امتدت فترة السجن إلى أربع سنوات، قضيت أكثر من نصفها في فرع الحلبوني.

-3-

        كان السجن لي مدرسةً عرفت فيها نفسي، وعرفت شرائح مختلفة من البشر: من الإخوان، ومن الإسلاميين الآخرين (وبخاصة أعضاء حزب التحرير)، ومن الفلسطينيين (من فتح والجبهة الشعبية وغيرهما)، ومن البعثيين الذين انشقّ عنهم حافظ، أقصد اليمينيين جماعة أمين الحافظ، واليساريين جماعة صلاح جديد… فضلاً عن أفراد من هنا وهناك، من التنظيمات الكردية، ومن أصحاب انتماءاتٍ مختلفة، ومن أناس غير سوريين: عراقيين وأردنيين وبريطانيين وكنديين وإسبانيين…

        وعرفت فيها أزلام السلطة وأجراءها، من ضباط مخابرات، ومحققين وجلادين… وضباط شرطة وأفراد شرطة (في سجن حلب المركزي)…

-4-

        الصفة العامة لمعظم ضباط المخابرات والمحققين الذين عرفتهم، أنهم قليلو الذكاء، ضعيفو الضمير، محدودو الثقافة، جفاة الطبع، منحدرو الأخلاق… ولا تخلو القاعدة من شذوذات يسيرة، فقد تجد الذكي ولو نسبياً، ومن عنده بقية من أخلاق!.

        أما السجانون والجلادون فيتّسمون عادة بالغباء والمحدودية، وبضعف الثقافة بل الأمّية أحياناً. ويصطرع في نفوسهم أثر التربية البيتية، والانتماء إلى شعبنا الطيب، والجهل، والتوجيهات الحاقدة اللئيمة التي يتلَّقونها من رؤسائهم…

        أما المعتقلون فهم يمثّلون شرائح متباينة جداً. وكثير منهم ينحاز، بعد أن يرى الظلم والسوء، إلى دينه وفطرته، ويتوجّه إلى الله بالعبادة…

        ومعظم الأجانب الغربيين الذين كنا نلتقيهم في السجن، يُعربون عن نيّاتهم بفضح “النظام” الذي سجنهم، وشَرْح الظلم الذي شاهدوه أو طُبِّق عليهم، أمام حكوماتهم وأمام وسائل الإعلام، وأمام منظمات حقوق الإنسان!.

-5-

        وقد حاولت تحرّي الدقة والموضوعية فيما كتبت، ولم أمتنع عن ذكر إيجابية رأيتها من محقق أو سجّان، على قلّة ما رأيت… فالنفس البشرية لا تتمحَّض للشر، لكنَّ شرّها يتكاثر أحياناً ويطغى حتى يكاد يغطّي كل خير!.

        وقد تخونني الذاكرة فأهمل كثيراً من التفصيلات.

        ومع أني تحرّيت الكتابة بالعربية الفصيحة، فقد تساهلت مرّات بذكر كلماتٍ لها وقع في النفوس، عاميةٍ أو أعجمية!.

-6-

        ولا يفوتني أن أذكر أنَّ الظلم الذي لقيته، على فداحته، لا يُعَدُّ شيئاً أمام الحقبة التي كانت بعد عام 1979، لا سيما في سجن تدمر، وفي السجون المؤقتة التي أنشئت في مدرسة المدفعية بحلب، أو في حماة، في شباط 1982…

        كما أنَّ سجن المخابرات العسكرية في حلب، حي السريان، وسجن فرع فلسطين في دمشق، وسجن الآمرية الجوية… تعجّ بألوانٍ من الظلم والقهر والتعذيب البدني والنفسي لا يعرفها إبليس!.

        ومن المناسب أن نشير إلى بعض الكتب التي تتحدث عن حقبة ما بعد 1979، بما فيها حقبة ما بعد 2000م!. فمن هذه الكتب: “تدمر شاهد ومشهود”، “خمس دقائق وحسب” و”تدمر.. المجزرة المستمرّة” ومقالات الرياضي العراقي البريطاني هلال عبد الرزاق علي في جريدة القدس العربي، ومقالات الدكتور هشام الشامي على المواقع الالكترونية وغيرها.

لقطات من البداية

كانت البداية في يوم السادس من نيسان عام 1973م، في يوم جمعة وقت أذان العصر، وكنتُ وقتها في ورشة بناء صوامع الحبوب بجوار مدينة الرقة، حيث كنت المهندس المسؤول عن ذلك الموقع من جهة الدولة.

توقفت بجواري سيارة (لاندروفر) وترجّل منها ثلاثة. أحدهم هو أكبرهم سناً، في مطلع الأربعينيات من عمره، منظره مقبول، أسمر، ذو كرش، لباسه أنيق… قدّم لي نفسه أنه ضابط مخابرات. عرفتُ فيما بعد، أنه عبد القادر حيزة، المحقق. وفهمت أن الاثنين الآخرين مرافقان، وأحدهما هو سائق السيارة.

بادر المرافقان وقالا لسيدهما: سيدي، أنفتِّشُه؟ قال: “لا. لا حاجة. الإخوان المسلمون لا يحملون سلاحاً”.

إذاً جاء يعتقلني بصفتي عضواً في جماعة الإخوان المسلمين، وهو يشهد أن الإخوان المسلمين لا يحملون سلاحاًَ. وبالمناسبة فقد بقيت معتقلاً حتى يوم 7/4/1977 أي مدة أربع سنين كاملة!.

دخل إلى البيت الذي أسكنه في الورشة، ولم يكن تفتيش هذا البيت عملية معقدة، فالبيت شبه فارغ! لكنه وجد على الطاولة دفتر جيب صغيراً. وضعت قلبي على كفّي، كما يقال، حذراً من أن يسألني عن حل ألغاز ما في الدفتر، فقد كان فيه مواعيد لقاءاتي التنظيمية، مكتوبة برموز وأرقام، لا يحلّها غيري.

قلّب أوراق الدفتر ثم رماه، وقال: إنه دفتر حسابات!.

قال لي: إنك مطلوب إلى فرع المخابرات في حلب، للتحقيق معك في بعض الأمور.

قلت: لكنّ معي زوجتي وطفلتي، ولا يمكن أن أتركهما هنا، ألا يمكن أن آخذهما في السيارة إلى حلب؟ قال: لا، ولكن نوصلهما إلى منطلق سيارات “التاكسي” المسافرة إلى حلب!.

في منطلق السيارات وجدنا سيارة تحتاج إلى راكبين، دفعت أجرة راكبين حتى لا يضايق زوجتي أحد، وأوصى المحقق “حيزة” سائق السيارة: “هذه السيدة ستسافر معك إلى حلب، لسبب يهمّ الدولة. عليك أن توصلها إلى بيت أهلها. وإذا أصابها مكروه فلا تلومَنَّ إلا نفسك! أسمعت؟!”.

قال السائق: نعم سيدي. إنها أمانة في عنقي.

وتأكيداً لجدّية الأمر فقد سجّل حيزة رقم السيارة على ورقة عنده.

وقد بقيتُ في قلق وتوجُّس مع هذا كله، فليس من شأن زوجتي أن تذهب في سيارةٍ مع سائقٍ غريب ضمن مدينة حلب نفسها، فكيف بسفرها مسافة 150 كيلومتراً؟!. ولكن لم يكن أمامي خيار آخر، فأنا معتقل بيد من لا يرحمون. سلَّمتُ الأمر إلى الله، وقرأت بعض الآيات الكريمة والأدعية، رجاء أن يحفظ الله الزوجة وطفلتها.

مضت بنا السيارة إلى فرع مخابرات “الطبْقة”. بقينا هناك مدة ساعتين أو أكثر، وُضعت فيها في غرفة وحدي. أما المحقق فقد قعد في مكان آخر، وأظنّه كان يتسامر مع زملائه.

مرّة أخرى مضت بنا السيارة نحو حلب. دخلنا فرع المخابرات العامة هناك، الذي يسمى أحياناً (بناية العدّاس) أو (مدرسة نابلس) إذ يقال: إن المبنى كان يملكه أحد الأثرياء من آل العدّاس، وصادرته الدولة، وجعلته مدرسةً باسم ثانوية نابلس، ثم وجدتْ أن الأنفع للمجتمع أن يصير فرعاً للمخابرات فصار!.

يبدأ الدخول بدرج نازل إلى القبو، بنحو عشرين درجة متوالية، نصفها تقريباً يقع خارج باب القبو ونصفها الثاني بعد الباب.

ينتهي الدرج ببهو صغير فيه طاولة صغيرة، خلفها كرسي، يجلس عليه عادة أحد السجانين، وفيه كذلك سرير ينام عليه السجّان المناوب.

في هذا البهو كان في استقبالي مجموعة من “الأشخاص” بعضهم ممّن (إذا رأيتهم تُعجبك أجسامُهم) وبعضهم ليس كذلك.

كان أجملُهم هيئةً: قصيرَ القامة نسبياً، أبيض البشرة، أنيق الملبس، لكنه، كما تبيّن بعدئذ، أكثرهم حقارة وسفاهةً، وأسوؤهم أدباً… إنه رئيس الفرع م خير دياب، وكان برتبة نقيب. ولأن رئيس الفرع موجود، فطاقم الجلاوزة كله موجود، وسوف يتبارى في إثبات الجدارة أمام “المعلم”، وهو اللقب الذي يطلقونه على رئيس الفرع!.

وكان الثاني طويل القامة؛ يلبس بدلة رمادية مخططة، هيئتهُ تشير إلى أنه من أصول بدوية، وحين نظرت في وجهه بادرني بالكلام: ألا تعرفني؟! قلت: لا أدري، ربما تقابلنا مرةً ما! قال: أنا أراقبك منذ ستة أشهر، وأعرف عنك كل شيء: من زارك في هذه المدة، ومن قابلك، ومن زرتَ أنت…

تشكّكتُ في كلامه، وتبيّن لي فعلاً أنه كان يكذب عليّ، كما هو شأن هذا الصنف من الناس، ليوحي إليّ أنه لا فائدة من إنكار شيء!. فكل شيء عنك معروف لدينا.

وعرفت بعدئذ أنه الملازم أول محمد سعيد بخيتان، نائب رئيس الفرع (الذي أصبح في عهد بشار أسد عضو قيادة قطرية).

وكان في البهو “شخصان” آخران، سأتحدث عنهما في فصل آخر، إن شاء الله، وهما السجّانان: شيخو وأبو حميد.

قام أحد السجّانين بتفتيشي، صادر مني “ساعة اليد” والمفاتيح، والمشط والهوية… وسئلت عن معلوماتي الشخصية، ثم قادوني إلى غرفة التحقيق.

في الحقيقة هما غرفتان. غرفة خارجية، يُدخل إليها من ممرّ طوله نحو 6 أمتار وعرضه حوالي 1.40 م، والغرفة نفسها كبيرة نسبياً، أبعادها حوالي 4.5× 5.5م، وهي غرفة جرداء، ليس لها أي نافذة، وليس فيها أي شيء من قطع الأثاث، سوى دولاب، أي إطار سيارة ركّاب، وحزمة من الخيزرانات، وجهاز لاسلكي صغير علمتُ بعدئذ أنه يستعمل في التعذيب بالكهرباء!.

وهذه الغرفة هي غرفة التعذيب.

أما الغرفة الثانية فهي غرفة التحقيق، وهي غرفة أصغر من الأولى، يُدخل إليها من الغرفة الأولى. أبعادها حوالي 2.5×3م، ولها شباك مقابل بابها. فيها طاولة مكتب، وعلى الطاولة جهازان للهاتف.

كان النقيب دياب هو الذي باشر التحقيق، وكان يناوب بين القعود خلف الطاولة، وبين مغادرة الطاولة لأجل “القيام بالواجب”. أما الآخرون فكانوا يكملون الدور، فالجلادان بأيديهما الخيزران، فهما لا يقصّران في الضرب اللاسع، والصفع والشتم والتهديد، وبخيتان يرمي بعض الكلمات بين حين وآخر من أجل المزيد من الاستدراج.

وكان النقيب أفحشهم بذاءةً، وأكثرهم قسوة، لكنه لم يكن أكثرهم ذكاء.

وراحوا ينقّلونني بين غرفة التعذيب وغرفة التحقيق، وقد جرّدوني من ملابسي، إلا ما يستر العورة الغليظة، ويسلّطون عليّ أنواع التعذيب من لسعات الخيزران على أنحاء جسمي كافّة، وهزّات الكهرباء الفظيعة.

أما لسعات الخيزران فقد كانت تؤلمني مثل الكيّ بالنار، وقد تكسَّرت بين أيديهم مجموعة من الخيزرانات، فكانوا يستبدلون بها خيزرانات جديدة، وأشهد أنهم لم يطالبوني بثمن الخيزرانات التي تكسَّرت على جسدي.

لقد سال الدم من أماكن مختلفة، جرّاء الضرب المبرّح، وكانت بعض الضربات قوية فخلّفت خطوطاً أو بقعاً داكنة، بعضها بقي ظاهراً على ساقيّ أو على ظهري أكثر من سنة. وبعضها ما يزال ظاهراً، بعد مضيّ أكثر من ثلث قرن!!.

ولا أدري عدد الضربات التي تعرَّضت لها، لكنني، ومن خلال خبراتي التي كوّنتها فيما بعد، أقدِّر أنها لا تقل عن ثلاثمئة!.

أما الصعقات الكهربائية فهي شيء مختلف. يمسك الطاغية الكبير جهاز اللاسلكي بيده، ويساعده الجلاد بأن يلفّ مقدمة كل من السلكين المتصلين بالجهاز، حول أصابع قدميّ. وللجهاز ذراع صغيرة ومقبض، فإذا أدار الطاغية الذراع انطلق تيار كهربائي، وانطلق معه صوت الضحية بصراخ قوي، من غير شعور أو قصد.

وقد وجدت من نفسي، ومن غيري في أوقات أخرى، أنَّ الضحية قد يملك التحمل وضبط النفس وكتمان الصوت أمام لسعات الخيزران مع ألمها الشديد، أمّا عند التعرّض لهزّات الكهرباء فلا يملك أحد كتمان الصوت، فإن صراخَه قسري، لا إرادة له به.

ومعظم ما يتلقّاه الضحية من تعذيب، بالخيزرانة أو بالكهرباء، يتلقّاه وهو محشور في الدولاب، فخذاه ملتصقتان ببطنه، والدولاب هو الذي يشدّ الفخذين إلى البطن، والضحية ملقى على الأرض، وتتناوشه اللسعات والضربات والهزّات الكهربائية من كل جانب، ويتلقى الشتائم والبذاءات من أشاوس البعث القائد.

وفي حوالي الساعة الثانية ليلاً أو الثالثة غادرني فريق التحقيق، وبقيت في غرفة التحقيق عارياً كما ذكرت (أو شبه عارٍ)، لكنهم قبل أن يغادروا طلبوا مني أن أبقى واقفاً على قدمي ولا أجلس.

وكيف عرفتُ الوقت، ولو بشكل تقريبي؟! لقد سمعت أذان الفجر، الذي جاءني من أحد المساجد القريبة نسبياً، عبر نافذة غرفة التحقيق. وحين سمعته كان قد مضى على ذهاب “الفريق العتيد” نحو ساعتين.

وفي الصباح، ربما في الساعة الثامنة جاءني الجلاد أبو حميد فرآني قائماً، وآثار التعذيب تملأ جسدي، ولعله أشفق على حالي. قال لي: بعد قليل سيأتي المحقق، فإذا سألك عن حالك قل له: “إن السجّان لم يتركني. ما زال يذهب ويأتي ويضربني”. فعلمتُ أنَّ أبا حميد هذا مجرد موظف لا يهمُّه أن يعذبني، بل يريد أن يكسب رضا “أسياده” بأن يظهر أمامهم ظالماً قاسي القلب..

ومرّ النهار ولم يحققوا معي بل نقلوني إلى إحدى الزنازين، وحين طلبتُ ثيابي التي بقيت في غرفة التعذيب فأحضروها إلي.. ولكن بعد أن سرقوا بعض ما فيها من نقود، فقد كان في أحد الجيوب راتبي الذي قبضته قبل أيام قليلة!.

ولكنّ التعذيب لم يتوقف في الزنزانة، بل أخذ شكلاً آخر، إنه التعذيب النفسي: إهانات وتحطيم للكرامة. فقد أوجبوا عليّ أن أبقى واقفاً على قدمٍ واحدة! وأحمل الدولاب ذاته، أضمّه في رأسي وأسنده على كتفي. وحتى  يطمئنّ السجّان إلى حُسْن التنفيذ، ويزيد في العذاب النفسي، كان يمرّ بجانب الزنزانة بشكل غير منتظم: كل دقيقتين، أو كل ربع ساعة، فيفتح “الطاقة” ليراني في الوضع النظامي، أو يكتفي بالضرب على الباب المعدني ضربة قوية لأرتعب من مفاجأتها. يستخدم في الضرب على الباب قبضة يده، أو حذاءه، أو الخيزرانة….

لقد مضى عليّ أكثر من 24 ساعة في الاعتقال، ولم يدخل إلى جسمي لقمة طعام أو نقطة ماء، بل اكتفوا بالغذاء المذكور: الضرب والشتم والصدمات الكهربائية…

أما في المساء، فكما كان يقول أحد السجناء: جاء الليل وجاء الويل، فقد عاد النقيب والجلادان لإقامة “حفلة تعذيب” جديدة، لاستكمال التحقيق، لكن هذه الحفلة.. والحق يقال.. كانت أخفّ وأقصر من الحفلة الأولى، فقد كانت مدتها حوالي ثلثي مدة الحفلة الأولى، وكان عدد لسعات الخيزرانات، وصعقات الكهرباء كذلك حوالي ثلثي ما حوته الحفلة الأولى.

وحتى لا يظنّ أني لم أذق الطعام بعد، أذكر أنه بعد مضيّ الأربع والعشرين ساعة الأولى، كنت في الزنزانة الصغيرة، وكان موقعها استراتيجياً، فهي أمام دورة المياه تماماً! ولا يفصل بينهما سوى ممر بعرض متر واحد، فكان السجناء جميعاً يمرُّون أمامها عند قضاء الحاجة، وكان يسمح لهم بذلك مرتين يومياً، وكان السجن بكامله محجوزاً لحسابنا في تلك الأيام نحن أبناء جماعة الإخوان المسلمين، وقد تمكن أحد الإخوان من استغفال السجّان الذي يراقب الحركة، ففتح عليّ “الطاقة” ورمى إليّ برغيف وقطعة جبن.

وحين جاء دوري لقضاء الحاجة ثم استعمال المغسلة، تمكنت من شرب بعض الماء.

لقد كانت الأسئلة التي يوجهها المحقق إليّ تدور حول التنظيم: متى دخلت التنظيم؟ ما موقعكُ فيه؟ من نظّمك؟ ما بِنْيةُ التنظيم وما هيكليّته؟ ما المناهج التي تدرسونها؟!,,,

فضلاً عن عُروضٍ “للتعاون” مع أجهزة الأمن “لمصلحة الوطن”!.