أرشيف الوسم : الزنزانة

عشيرة الزنزانة-حسن برما

وسط الجبال .. أسوار المدينة تسلب عقل الوافد الجديد ، أسطورة محكومة بسلطة المنحدرات الخطيرة والمرتفعات المرعبة ، سكانها أقنعة عابسة ، شوارعها عش عنكبوت متربص ، وفي قلب اللغط الأبدي ، بالدرب المقفل على الأسرار والأحزان ، ينتصب باب السجن البلدي المعلوم .
بإصرار عنيد اهتم بمراقبة زنازن المدينة النائمة فوق براكين ميتة ، انشغل بإنجاز تقارير عن أنات وشكاوى روادها التي لا تتوقف ، تجول في المناطق الآهلة بالعصيان ، وثَّق لحماقات الغضب وتفاصيل الاستسلام ، وفي نهاية السفر ، استغفلته أنثى الأبواب المغلقة ، اصطادته الأسطورة ، وسلبت عينه الباطنية القدرة على التفاعل .
صدفة التقاها على خطى كائنات عبرت طريق الوهم ، انتفى وجوده قرب ظلال عشيرة غرست نبالها المسمومة في قلب الوقت الموبوء ، صارت خطاه دون آثار ولا رأس ولا بصمات ، رافقته أعراف وأدعية مسجوعة غارقة في الظلام ، وعاش الرحيل بالقرب منها في سجن غريب دون سجان .
لم يحتج لوقت طويل ليدرك غرابة مدينة اسمها مدينة الضباب ، أشباه الناس نيام ، يخنقون صرخة الولادة ، وبين الإناث والذكور روابط عجيبة لا تعترف بالحب ، وكما يحدث في مدائن الأشباح ، يختار الكائن المفترض زنزانته المرصودة ويعيش الحياة وسط عشيرة مسحورة بنوايا الأموات .
استحضر كهرباء البدايات الصاعقة ، تذكر جيدا أنها كانت البارعة الفاتنة في استثمار شهقته التاريخية المشهودة لدرجة الحصول على كل أنفاس نبضه دون مقاومة تذكر!!!
رآها في غيمة الغروب المنذورة للأحزان وغصات الرحيل ، راوغ حماقات الإعصار وسعار الريح المجنونة بالمحو وتدمير أعشاش اليمام الشارد .. وفي عمق الخواء ، تنفيذا لمشيئة الظلمة وإرادة الفناء ، التزم الصمت ولم يوقظ المواجع .
وتلك السجينة تحت الخيمة الحديدية أعطت للسجن سراب السؤال وخواء المصير .. أخيرا أخذت الحكاية منحى الفناء ، وصمت القطيعة حياد طاعن في المرارة ، الكل حاضر في الغياب ، وحدها خلف الستار تدمن نشيد اليمامة المذعورة من أسطورة عمرت طويلا فوق كهف المخالب الجارحة .
طال الغياب شقيق الموت ، فتحت الزنزانة فاها لاستقبال متاهات اليومي العابر ، امتلأت الكأس بما جعل الدمعة تنساب للأسفل ببطء ، للعشيرة غريزة الوأد الموروثة ، وللفاتنة شرط الإدانة .
لومقدمات الانزياح فخاخ افتراس سرية ، لم تعد صورتها بالأبيض والأسود تحرك الدم في شرايين الحكاية المؤلمة ، رأس مدلاة بإهمال ، أطراف مشلولة ، نواح متقطع يصاحب رحلة الألف جرح ، أخيرا نجح المراقب الشقي في رصد الوهم بالزنزانة المشاع ، وراوي الهزيمة خلف صدأ القضبان أقسم ألا يضيف شهقة حياة .
داهمته نوبة يأس غريبة ، اقتنع بلا جدوى انتظار الخلاص من سطوة الأَسْرِ الأسطورية ، والفاتنة مقيدة بما يراه وبما لا يراه ، وفي الأفق القريب مأساة نواح وضحايا خراب يحجب رعبه خلف يافطات تحتفي بأدعية مسجوعة ووعود جائعة مشاع .
قال : لن أقرع باب حكايتك حتى أقرأ حروف حلوى العيد .
قالت : في مدينتي طباخ الوقت معلول .
قال : أكره الجوع قرب حائط المستحيل وعسس الأبراج المتآكلة .
في قالت : لا حلوى الزنزانة ولحروف الطاعة واجب الإدانة .
قال : سَقْط الحكاية حماقة وغصة .
قالت : للأسف ، للخرافة السوداء ما أعطت وما أخذَتْ .
اختفت ملامح الوفاء للغد ، جرفها سيل الطاعة وخيانة ما ينبغي أن يكون ، وبعض الناي يبكي .. بعضه حنين يفرح الخاطر ، يسافر به في متاهات الرحيل ، والكائن المصاب بلعنة التلاشي يجهل خدر الحلم الواجب ، يعيش الضياع دون قدرة على الصراخ ، والسجينة المرصودة بين جبال الغصة الخالدة تمتهن البكاء الأبدي على نبض مات قرب أزهار الحصار .
تساءل في صمت ، أي لعنة أصابت مدينة الضباب ؟ الدروب مغلقة على جنائز لا تتوقف ، أزهار العراء ساجدة تقدم واجب الطاعة لأصنام مشاع ، وخلف صدأ الباب الكبير ، صعودا مع مرتفعات الدوخة المتاحة لمدمني العصيان المتوقع ، هبوطا مع منحدرات عاشقات الهروب المحتوم ، جدران الزنازن المتآكلة بأبوابها المفتوحة ، قصائد جريحة ، أناشيد موغلة في اليأس والغموض ، تعاليم وأعراف لأشباح مازالت تحتل كوابيس الشهقة وأحلام الحاضر، أوامر وتنبيهات ، والحب ممنوع على من اختار وصايا الموت .
عكس العشائر الضالة في صحارى التيه المرصود ، على شفا حلبات مهجورة ، للقاء دموع ، للوداع زغاريد ، وللقبلة المسروقة عقاب الخطيئة الكبرى ، وفوق رمل الذاكرة ، يترك الأحد الكئيب آثاره سريعة الزوال ، يرحل على مضض ، ولا يلتفت لحيرة الظلال الجاهلة بتفاصيل الحياة .
وقبل الندم ، استغرب بقاءه الغامض في مدينة الضباب ، عشيرة تحكمها دساتير الموت وتدعي الحياة ، لكل فكرة ألف قناع ، ولكل امرأة لون وهوية ، للعازبة حمرة الدم المغدور ، للمتزوجة سواد الكهف المحروس ، للأرامل بياض الكفن والعدم ، ولأمثالي في الغربة والاحتراق رقابة وحش لا ينام .

قيل له وهو يجوب الشوارع الضيقة ، هنا سجون بلا حراس وزنازن بلا أبواب ونظام صارم وصدى أشباح من زمن عتيق . ولا جديد في مدينة الضباب ، كل الكلام قد قيل ، وعادة الببغاوات الاسترسال في ذبح الكلمات دون إحساس ، وصمت الخلوة أصدق أنباءً من لغو الألسنة المقطوعة.
عجبا ، لم يصر كعادته على إتمام الطريق المليئة بالحفر وفخاخ الموت البطئ ، اختار الهروب والحفاظ على جلده عساه يعثر على عشه الدافئ ، أوكار الطائفة الدائخة موبوءة ترقص فيها شياطين اللعنة المرصودة والفناء المحتوم ، وهو المتعب الفاقد للمعنى ، يرمى سلاح المقاومة العبثي ، ينحاز لحكمة الصمت ، يتيه في طريق ترابية لا تحكمها أعراف ، يحنط الميت ، يركب طواحين الأسطورة ، يمضي في طريق الخواء بغباء ويشتهي الارتواء من سراب المستحيل.
حاول الخروج من ورطة المدينة العجيبة ، فكر في سحرها الذي يسلب القدرة على اتخاذ القرارات ، تخيل قسوة المكوث الإرادي في سجونها المبثوثة هنا وهناك ، قرر العودة من حيث جاء ، تجمدت قدماه عند بابها الكبير ، وفشل في الهروب من جاذبية زنازنها المسكونة بداء الحب ورقابة شيوخ تخاف خشونة الأغراب .
وعلى حواشي المدينة دروب عاهرة ، متاهات عبور مخيف ، التواءات قاتلة تقود لقبور دون شواهد ، كهوف محفورة بفؤوس تصلح للدفن وأشياء أخرى ، وتحت الظلمة أسراب من لِحَى العميان وأنفاس جواري تترصد كل كبيرة
و صغيرة لعرضها على شيخ ينادي بالعدم .
نصحوه بالاحتياط من الظلمة وحقارة الصراصير الدخيلة .. قيل له إنها تعشق مَحْو سواد الحروف المتمردة ، هرب بحرفه الجريح وارتاح .
و فاتنة الجرح تستقر بين جبلين خاشعين ، تستسلم لخدر رعشة غجرية لا تنام ، ترتضي حدائق الخواء القاسي تحت غيمات خريف جريحة وفي الأفق المحتوم عذاب حيرة وبراكين عشق واشتهاء أحمق .

كيف ينام السجين؟

وقفت عند باب المنفردة رقم (4) شبه عارٍ أحمل ثيابي وحذائي في يدي، أنظر مشدوهاً إلى تلك الوجوه التي يجتمع فيها بؤس الدنيا كلّه -لن أنسى تلك اللحظة ما حييت- قال لي أحدهم: “البس ثيابك”. بينما كانت تتزاحم عليّ أسئلة الآخرين: “كم الساعة الآن؟”، “ماذا يجري في الخارج؟”، “متى اعتقلوك؟”. المنفردة في الأصل مخصصة لمعتقل واحد، ولكن لكثرة المعتقلين، وإمعاناً في الإذلال والوحشيّة انقلبت إلى زنزانة جماعيّة، وصل عدد نزلائها في يوم من أيام وجودي فيها إلى سبعة معتقلين، لك أن تتصور أنّ زنزانة طولها حوالي 200 سم وعرضها حوالي 120 سم؛ يحشر فيها هذا العدد من المعتقلين، إذا أراد أحدهم أن يستلقي أو يتمدد فلن يجد الآخرون متسعاً ليقعدوا لا ليستلقوا، فكيف ينامون، إذا نزل عدد نزلائها إلى أربعة في يوم من الأيام؛ كان كأنّه يوم عيد.

لا يوجد لمكان قضاء الحاجة في الزنزانة باب أو ستارة، يقضي المعتقل حاجته أمام الباقين الذين يغضون أبصارهم، ويتجاهلون ما يفعل، وهو يحاول أن يستر نفسه ما استطاع، ولا يوجد صابون للتنظيف، يحك المعتقل يديه ببعضهما ما استطاع وينتهي الأمر، لم أستطع أوّل الأمر تصوّر حصول هذا، ولكن مع الوقت اعتدت عليه، فكان قضاء الحاجة عقوبة بحدّ ذاته، في مكان قضاء الحاجة صنبور ماء، هو المصدر الوحيد لكلّ وجوه استعمالات الماء، منه نشرب، ومنه ننظّف أنفسنا، ومنه ننظّف الزنزانة، كانت المياه مقطوعة أغلب الوقت، وفي بعض الحالات حين تأتي لا نكاد نجد الوقت الكافي لنملأ كلّ القوارير القذرة المركونة بين القذارات (زجاجات بلاستيكيّة قديمة لمشروبات غازيّة أو مياه معدنيّة) وهي حوالي عشرة موجودة في طرف المرحاض، ولا أدري كيف وصلت إلى هنا، اختار نزلاء الزنزانة اثنتين منها، كانتا الأقلّ قذارة ليخصّصوهما للشرب، في كلّ مرّة يتمّ غسلهما بشكل جيّد.

لم أستطع في الأيام الأولى أن أكره نفسي على قبول ما يقدّم لنا على أنّه طعام، وهو عبارة عن وجبتين واحدة في الصباح والأخرى في المساء، القاسم المشترك بينهما ما شكله كشكل الخبز، ولكنّ رائحة عفونته وحموضته تسبق إلى أنف الإنسان.

الحمام مليء بالأوساخ وبقايا الأطعمة القديمة، وهو مرتع للصراصير والحشرات التي دخلت أشكالها قاموس معارفنا حديثاً، في أعلاه ربط ما يشبه الحبل -لا أدري كيف ربط- ولكنّه عبارة عن قميص قديم ملفوف على شكل حبل، وضعت عليه بعض الثياب البالية القذرة، أظنّ أنّها لمساجين سابقين، في بعض الأوقات الحرجة عندما اكتظّت الزنزانة بالنزلاء، حاول أحدهم أن ينام فيه -مكان قضاء الحاجة- وضع رأسه خارجها ومدّ رجليه داخلها ومع ذلك لم يستطع النوم.

لم أستطع في الأيام الأولى أن أكره نفسي على قبول ما يقدّم لنا على أنّه طعام، وهو عبارة عن وجبتين واحدة في الصباح والأخرى في المساء، القاسم المشترك بينهما ما شكله كشكل الخبز، ولكنّ رائحة عفونته وحموضته تسبق إلى أنف الإنسان، يخصّص لكلّ معتقل رغيف في الصباح ومثله في المساء، ويقدّم معه كطعام لوجبة الصباح -على الغالب- لبن شديد الحموضة هو أقرب إلى السائل، قدموا لنا نوعاً من أنواع المربّى مرّة أو مرّتين، ومثلهما بضع حبّات زيتون أخضر شديد المرارة، خلال فترة إقامتي في الفرع، وهي ما يقارب الشهر، ما يقدّم لا يكاد يكفي شخصين، يتمّ توزيعه على العدد الموجود في الزنزانة، وأمّا وجبة المساء فغالباً هي أرز أو برغل، يقدّم لنا في كيس نايلون – كيس خبز قديم- هو كخلطة (الإسمنت) تكاد تتّحد حبات الرز أو البرغل فيه لتكون حبّة واحدة كبيرة، ولا يقدّمون معه شيئاً أبداً، وأذكر أنّهم عندما قدموا لنا مرّة -بعد انتقالي إلى الجماعيّة- بضع حبات من الفجل كان كأنّه يوم عيد.

ومع ذلك كنّا نحمد الله تعالى على هذه النعمة، فقد مرت أيام على أهل حمص القديمة أيام حصار عصابات الأسد لهم أكلوا الحشائش وأوراق الشجر، كما أنّنا سمعنا وقرأنا عن معتقلين بالمئات بل بالآلاف قضوْا جوعاً، بل أقسم لي أحد الأطباء من معتقلي الثمانينيّات- مكث في سجن تدمر أكثر من عشر سنين- أنّ البيضة الواحدة كانت مخصّصة لثمانية معتقلين، وكانوا يقطّعونها بالخيط إلى ثمانية أقسام.

شاء الله تعالى أن نولد في عهد حكم حزب البعث لسوريّة الذي تحوّل بعد انقلاب حافظ أسد إلى حكم الطائفة النصيرية ثمّ إلى حكم أسرة الأسد، يا الله هل يعيش أولادنا ما عشناه من الظلم والقهر؟

أمّا النوم فكأنّما قد حلف أيماناً مغلّظة بأن يجافيني فلم يقربني أيّاماً، وكانت أقسى اللحظات تلك التي ينام فيها جميع من في الزنزانة وأبقى يقظاً وحيداً. تغدو بي الفِكر وتروح، وتعصف بيَ الذكريات وتسكن، أعود إلى طفولتي، إلى أصدقاء الطفولة، إلى اللحظات الجميلة، إلى الأعياد والأفراح، إلى المآسي والأتراح، إلى أيام المدرسة إلى بعض أساتذتنا المميزين الذين فقدناهم في سجون الطاغية الأب، إلى أيام الجامعة وتسلّط الموالين على مفاصل الإدارة فيها، إلى خدمة العلم والقهر والذل والابتزاز الذي يعيشه المجندون، إلى العمل في تدريس التربية الإسلامية والخوف الدائم من التقارير، إلى السفر وابتزاز الراغبين فيه بجواز السفر والموافقات الأمنيّة، إلى أمور تكاد لا تنتهي من القهر والظلم والإذلال.

هكذا قدرنا، شاء الله تعالى أن نولد في عهد حكم حزب البعث لسوريّة الذي تحوّل بعد انقلاب حافظ أسد إلى حكم الطائفة النصيرية ثمّ إلى حكم أسرة الأسد، يا الله هل يعيش أولادنا ما عشناه من الظلم والقهر؟
ها أنا هنا الآن عاجز مقهور محروم من أبسط حقوقي الإنسانية في هذه الزنزانة القذرة بين إخوة لي، مصابهم كمصابي، ولكن لا أدري كيف ينامون؟!

عبدالكافي عرابي النجار

قصة السجين مع الصراصير

صراصير الزنزانة.. كيف يسعى المصاب برهاب الصراصير الى تقبّل وجود هذه الحشرات الدائم والمفاجئ والمتمدد على وجهه وفي فراشه: الحياة “العادية” في السجن. يستعيد الكاتب هنا بعض ما عاشه بين سجن الحضرة وسجن برج العرب.

ترحيل لسجن الحضرة”. أظن أنه كان يوم 18 كانون الأوّل/ ديسمبر 2013… نادى مخبر على اسمي من “النضّارة” (فتحة مستطيلة صغيرة في الباب الحديدي)، بمديرية أمن الإسكندرية. في سجن الحضرة، مكثت أياماً في زنزانة الإيراد، ثم وُزّعتُ على زنزانة سُكني. كانت باردة كثلاجة. فكرت أن الميزة الكبرى لتلك الثلاجة هي خلوّها من أية حشرات. لم يكن لي تاريخ مع الصراصير في الأسبوعين اللذين قضيتهما بمديرية الأمن، حيث الحياة أقرب للملكي من الميري.
في سجن الحضرة اختلف كل شيء. حتى المقشّة الصغيرة أو “اللمامة” البلاستيك ممنوعة. لا منطق أبداً في الحياة الميري. كل شيء ممنوع باستثناء الملابس الميري والطعام (ليس كله) وبعض الأدوية (ليس دائماً). حتى مطهر “الديتول” السائل كان ممنوعاً وقتها. كلما طلب أحدنا إدخال شيء من ذلك، جاءه الردّ غاضباً: “إنت فاكر نفسك في فندق ولا إيه؟!” كأن مستلزمات النظافة من شروط سُكنى الفنادق!
ثمّة نظام محكم في السجون، يتلقاه السجين من زملائه الأقدم مثلما يتعلم الصنايعي أصول المهنة من معلّمه. السجين الأحدث لا يختار مكانه في الزنزانة، بل يذهب إلى المكان المتاح.. الذي يكون الأسوأ. ومع ترحيل زملاء أقدم أو انتهاء عقوبتهم، تُتاح أماكنهم الجيدة للأقدم بعدهم، وبالتالي أماكن هؤلاء للسجناء الأحدث، الذين صارت لهم الآن بعض الأقدمية، فيتركون مواقعهم السيئة للوافدين الجدد. هكذا يتحقق نوع من “العدالة الاجتماعية”.
كان الموقع المتاح لي أول موقع في أحد أضلاع الزنزانة. عن يميني باب الزنزانة الحديدي، كلما انفتح في الصباح الباكر هاجمني تيار هواء بارد محمل بالروائح الكريهة. هناك أيضاً الرائحة الدائمة لبرميل “الزبالة” المجاور للباب من الناحية الأخرى. كان عرض الباب متراً واحداً يفصلني عن البرميل الذي لا يمكن غسله. كان وطناً للعفن والحشرات. أول ما صدمني في الأمر أن الصراصير هنا لا تعرف البيات الشتوي، ربما لأن الصراصير كالسجناء: تضطر للتكيف مع الظروف القاتلة للحياة حتى لا تفنى. كان جيراني من سكان برميل الزبالة وركن الزنزانة الذي يحتضنه متنوعين عرقياً. صراصير صغيرة جداً وكبيرة ومتوسطة. الصغيرة والمتوسطة فاتحة اللون دائماً، والكبيرة بنية غامقة كما نعرفها خارج السجن.
بدأ تاريخي مع الصراصير تدريجياً. هذا أيسر. في صباح من صباحات كانون الأول/ ديسمبر، صحوت منتعشاً بحلم لطيف بطلته إمرأة أحببتها من قبل، وانتهى حبنا نهاية بائسة. فتحت عيني فرأيت صرصاراً صغيراً فاتحاً يمشي مبتعداً عن وسادتي التي كانت حقيبة يد صغيرة. كان اتجاه الصرصار يدلّ على أنه مر غالباً على رأسي في مساره. فزعت فضربتُه بطرف البطانية ثم أمسكته بمنديل ورقي وأطبقتُ عليه جيداً، ثم احترتُ: كيف أنظف طرف البطانية؟

ذه الصراصير الصغيرة كانت هائلة العدد، لكنها تثير الشفقة لهشاشتها. مرة رأى زميل صرصاراً من هؤلاء فامتنع عن قتله رأفة بحاله! في مساء آخر، جلس صديقي إسلام حسنين بجواري وبدأ يحكي لي عن الكتاكيت التي كان يربيها في منزلهم الريفي، وظلت صراصير صغيرة تسقط علينا من أعلى حيث أغراضنا المعلقة فوق رؤوسنا: أكياس ملابسنا وطعامنا.. نعم طعامنا، لكننا لا ندري كيف تعلمنا الكثير من التسامح في السجن.
ظللت أهيّئ نفسي لأول مواجهة مباشرة مع صرصار، حيث أصحو على وقع دغدغة سريعة على وجهي مثلًا. هيأتُ نفسي كي لا يصيبني مس من الهيستيريا لأن خوفي من الصراصير تحديداً بلا حدود. لكن الحياة كانت طيبة معي، أو لنقل: لكن الصراصير كانت طيبة معي، فترفّقت بي. في صباح تالٍ أخبرني زميل أنه صحا باكراً فوجد صرصاراً على فرشته، فحاول اصطياده بمنديل، لكنه أفلت وجرى مختبئاً خلف مخدتي (حقيبتي). تسمّرتُ.. هل مشى على رأسي؟ لم أجرؤ على سؤال زميلي، ثم بدأت أطوي بطانيتي وأرفع المخدة بحذر، فلم أجد أثراً. المتسلل هرب بسلام. قلت لزميلي بأنني قد لا أجده لأنه صغير. “كان قد كده”. أوضح مشيراً بإصبعه كاملًا! ماشي يا حاج.
لا أذكر لقاءات أخرى مع صراصير سجن الحضرة.
لكن في سجن برج العرب، سمعت زميلاً قديماً يحكي لزميل جديد مثلي أن صراصير السجن هنا “عفية” لأننا في سجن صحراوي. بدا رأياً حكيماً حقًا، لكنني الآن أقوى مراساً مع الصراصير. مع قدوم الربيع، سمعت زميلاً آخر يحكي عن صرصار كبير رآه يتجول طائراً في الزنزانة قبل الفجر، ولم يرَ في الظلام أين هبط.
في إحدى ليالي ربيع 2014، قررت النوم فجراً وغطيت رأسي بالبطانية جيداً (كان الجو بارداً) لكنني شعرت بصديقي وجاري لؤي القهوجي يتحرك حركة مفاجئة غريبة، فرفعت البطانية متوجساً فرأيته يجلس ويفتش مخدته (التي كانت جزءاً من البطانية مطبقاً طبقات عدة). سألته فطمأنني أنه يرتب الفرشة فقط.
بعد قليل رفعت البطانية عن وجهي لأن زميلًا تحرك في الزنزانة لصلاة الفجر، فلمحتُ صرصاراً هائلاً يتمشى على بطانية لؤي التي كان يغطي بها وجهه. تبخّرت استعداداتي النفسية، أمسكت بطانيتي وهجمت بها على الصرصار الذي كان إزاء صدر لؤي (فوق بطانيته) فنهض صامتاً. طبعاً لم أقتل الصرصار بهذه الهجمة المذعورة، بل سمحت له بالاختباء بين البطاطين ثم قمت ونظرت إلى جسدي فلم أجده، ثم رفعت البطاطين بحذر حتى وجدته على فرشتي فدهستُه بقدمي دهساً مجنوناً، بلا تفكير أيضاً.
هنا كان لؤي يقهقه لأنه فهم كل شيء منذ شعر بالصرصار يمشي على ذراعه تحت البطانية في الظلام، فقام يبحث عنه ولم يخبرني حين سألته، لعلمه برعبي من الصراصير. ظل لؤي يتندر على هجمتي المجنونة عليه، كلما صادق زميلاً جديداً. لا أذكر كيف نظفت قدمي وفرشتي لأنها كانت ليلة صعبة. لم أنمْ حتى الصباح.
إنها بشارة بقدوم “ربيعنا”.

في ربيع 2014، اعتدتُ في المعتقل على النوم أوّل المساء لأصحو عند منتصف الليل، حين ينام الزملاء، فأضيء لمبتي الصغيرة، ملفوفة في علبة كرتون فوق رأسي، لتقتصر إضاءتها الصغيرة على كرّاستي التي كنت أكتب فيها روايتي “الحياة باللون الأبيض”.

في ربيع 2014، اعتدتُ في المعتقل على النوم أوّل المساء لأصحو عند منتصف الليل، حين ينام الزملاء، فأضيء لمبتي الصغيرة، ملفوفة في علبة كرتون فوق رأسي، لتقتصر إضاءتها الصغيرة على كرّاستي التي كنت أكتب فيها روايتي “الحياة باللون الأبيض”. صحوت يوماً كعادتي.. كل شيء هادئ، غير أن جاري الخمسيني اللئيم، كانت لديه حكاية صغيرة لي، عن مطاردة مثيرة لصرصار عظيم تسلل من باب الزنزانة، وظلّ الزملاء يطاردونه حتى أمسكوه فوق قدمي. هكذا تمّ لقائي المرتقب مع الصراصير. كان لطفاً منها أن تلاقيني وأنا نائم. حين فكرت لاحظت كم كان ذلك يسيراً، بسيطاً، لا يخلو من إثارة.
بعدها بأيام تجدّد لقاؤنا. كنت صاحياً ورأيت المطاردة تقترب مني. لا شعورياً أمسكت علبة المناديل، وفور وصول الصرصار إلى مخدتي (وهي طبقات متعددة من بطانية) هويت بعلبة المناديل فوقه. لاحظت أنها أصابتْه فلم أرفعها، بل ضغطتُها فوقه بكل قوتي. لم أحتمل فكرة هروبه من تحت العلبة واستمرار المطاردة على فرشتي. كنت حاسماً تماماً. حين رفعت العلبة كانت أمامي عجينة صرصار. المشكلة الوحيدة أنها كانت فوق مخدتي!
الذي استغربته أنني كنت قد ألصقت قطعاً من عجينة دواءٍ طارد للصراصير على الحائط فوق رأسي، فلماذا تأتيني هذه الصراصير كلها؟ أخرجت علبة العجينة لأتأكد من صلاحيتها، فقرأت مذهولًا آلية عملها: تجذب الصراصير برائحتها لتأكل منها فتقتلها مسمومة خلال 24 ساعة! العجينة تجذبها إذاً! وأنا الذي ألصقتها فوق رأسي.
في تشرين الأول/ أكتوبر 2014، صحا بعض الزملاء للسحور. كنت نائماً ليلتها. ثمّة جلسة استشكال لنا في الصباح. صحوتُ على أصوات الزملاء والنوم يغالبني. غطيت وجهي جيداً بقطعة ملابس نظيفة اعتدت لفّها على وجهي اتقاء للأصوات والإضاءة والصراصير. ظللت أقترب من النوم ببطء حتى سمعت زميلًا ريفياً طيباً: “الحق يا أحمد الصرصار اللي ماشي على الأستاذ عمر هناك ده”. أصبحت الآن أكثر دراية وحكمة: لا يصحّ أن أنتفض مذعوراً كعادتي: سيهرب الصرصار في ثنايا فرشتي.
لم أتحرّك. فقط أغلقت فمي وعينيَّ جيداً. لم أكن أعرف مدى مهارة أحمد في اصطياد الصراصير. ركزتُ طاقتي الإيجابية كلها مع أحمد ليُنهي المعركة بأقل الخسائر. شعرت بخطواته، ثم بلمسة خفيفة فوق ركبتي، ثم صوت أحمد العظيم “خلاص مسكته”. يا فرج الله.. تحركتُ، كشفت وجهي، فاعتذر أحمد الطيب، ظانًّا أنه أيقظني. شرح لي خجلاً أن صرصاراً كبيراً كان يمشي عليّ وأنه اصطاده، مادّاً يده تجاهي بالمنديل الملفوف دليلًا على صدقه!
أشرت له بإصبعي إشارة “اللايك” المشهورة، فانصرف مطمئناً. حين غطيت وجهي ثانية خطر لي أن ذلك الصرصار ربما كان بشارة بخروجنا من السجن. كانت الجميلة ماهينور قد خرجت باستشكال قبلنا في القضية ذاتها، وكانت المرة الأولى التي يمشي فيها صرصار كبير على جسدي وأنا صاحٍ. لابد أن لذلك دلالة على شيء ما. في الصباح رفض المستشار محمد الطنّيخي استشكالنا، ثم قُبِض عليه بعدها بشهور متلبساً برشوة من أحد رموز الحزب الوطني، وفقاً لتقارير صحافية كثيرة. لكنه استقال من القضاء فأخليَ سبيله وغادر البلاد. لعلها هي تلك البشارة التي لم أفهمها ليلتها.
مع ذلك، كانت لصراصير أخرى مغامرات لطيفة، إذ لم تكن تكتفي بمطاردة سريعة. لنتفق على أن الصراصير كالبشر، تتكيّف مع قسوة الظروف. وهي ترى نفسها صاحبة البيت هنا، هذا مسكنها ونحن المتطفّلون عليه، لابد من اللعب إذاً..
بعضها كنا نجده في أواني الطبيخ الميري (“التعيين”) اليومي. هذه كانت تقهرنا حقاً. في مغامرات أخرى، يهرب صرصار من مطاردة ليلية، يختفي، ثم يُطفأ النور، ونظلّ نترقبه لأننا نعلم أنه هنا، بيننا، سيظهر حين يقرّر. ما زلت أذكر مغامرتين على هذا النحو. في أولاهما أخفى الزملاء عني الخبر. ظهر الصرصار صباحاً وقُتل. لكن ما الذي فعله تحت “جنح الظلام” مثلما يقول الأدباء؟ سأترك ذلك لخيالك.
في المغامرة الأخرى انتبهت للأمر، فلم أنَم. كان الصرصار قد اختفى في الصفّ المواجه لي. كان أحدهم صاحياً أيضاً. فجأة انتفض زميلي مفزوعاً وهو يضرب قفاه بكفه، حيث أحسّ بالصرصار يتمشّى.. نعم ضرب الرجل نفسه “بالقفا”، لكن اللعين أفلت. هذه المرة شاركتُ في المطاردة. رفعنا كل شيء قطعة قطعة فلم نجده. ظللت صاحياً حتى طلع الصباح. ثم أخبرنا زميل آخر أنه رأى في الظلام بقعة سوداء كبيرة تجري نحو حمام الزنزانة. اطمأننت بعض اطمئنان: سيكون بعيداً عني إذاً. مع ذلك لم أنَم إلا صباحاً.
في ربيع 2015، قامت الصراصير بغزوة كبرى، هذه المرة في السجن كله: مرة واحدة! ألم أقل إنها مغامرات؟ حدث سدد في مواسير الصرف، فارتفع منسوب مياه المجاري في المواسير الكبيرة التي لا تمتلئ أبداً. لم تصل إلينا المياه لأن السدد كان بسيطاً، لكن منسوب المياه طرد جيوش الصراصير التي كانت تستعد لموسم الربيع في أعالي المواسير التي تكون جافة دائماً. لذلك هربتْ إلينا من جميع المنافذ حتى لا يغرقها الماء.. من فتحة المرحاض البلدي و”البلاليع” في ممرات التريّض.
.. هكذا تفتّحت الصراصير وليس الزهور في الربيع.

عمر حاذق

شاعر من مصر أمضى سنتين في الاعتقال وخرج بعفو رئاسي في أيلول/ سبتمبر 2015 شمل 100 معتقل