أرشيف الوسم : السجون

عجائب المعتقلات

مذكرات معتقل إسلامى

(سنوات الألم والأمل فى معتقلات أمن الدولة – الباستيل المصرى ) : رحلة إلى عالم المعتقلات وأقبية أمن الدولة لتوثيق معاناة المعتقلين الإسلاميين وما تعرّضوا له من أصناف وألوان التعذيب الجسدى والنفسى وكيف كانت الإعانة الإلهية وأضعف الأسباب سبيلهم للتكيّف مع هذه الظروف البالغة الصعوبة بطرق عجيبة مبتكرة ، وإطلالة على وسائل الظالمين وحيلهم المادية والمعنوية فى مكافحة الإسلام والإسلاميين وكيفية مواجهتها والتغلب عليها وما خلفته هذه الملحمة الإنسانية من قصص ودروس وعبر جديرة بالتدبر والتوثيق

عجائب المعتقلات

  • حين يقف المعتقل يناشد القاضي يترجاه ألا يحكم له بإخلاء السبيل.
  •  حين يحتضن الأب المعتقل ابنه ذي العشرة أعوام وهو يراه لأول مرة ويقول الولد لأبيه … ازيك يا عمو.
  •  حين يقف المعتقل أمام ابنته في غرفة الزيارة ينظر خلفها منتظراً ابنته وتنظر حولها تتلمس أباها.
  • حين يعلم أهل معتقل أنه حي بعد ظنهم موته بعشرة سنوات.
  •  حين يقول شخص لمبارك في الحرم اتقي الله فيشحن إلى المعتقل خمسة عشر عاماً.
  • حينما يخطب معتقل زوجته لرجل آخر بعد أن يطلقها حماية لها ولأولادهما.
  • حين يكون المعتقل لم يتجاوز الثانية عشر عاماً.
  • حين يدخل معتقلاً وعمره ثمانية عشر عاماً ليخرج وعمره 43 وأربعون عاماً.
  • حين يولد مولدك الأول وأنت في المعتقل ثم تمر السنوات ليولد مولودك الثاني وأنت لازلت معتقل.
  • حين يشتاق الأب لرؤية ولديه لم يراهما منذ عشرين عاماً حتى يصيرا شابين يافعين  ويتم اعتقالهم معه ليكون اللقاء.
  • حين تكون علبة التونة الصفيحية فارغة هي السكن والبوتاجاز والسخان والغسالة.
  • حين يكون قلمك هو أنبوبة المرهم الفارغة وورقتك هي قطعة من ملابسك.
  • حين يعجز البشر عن إعانتك فتأتيك المعونة في هيئة رفيق زنزانة من عالم الجن.
  •  حين يحصل معتقل على الثانوية فيدخل طب ويحصل عليها مرة أخرى ليدخل هندسة.
  •  حين يعتقل زوج وزوجته فلا يرى بعضهما البعض إلا بعد مرور خمسة عشر عاماً ولازال معتقلين وقت اللقاء.
  • حين تعقد قرانك فتعتقل ويتم زفافك بعدها بأربعة عشر عاماً.
  •  حين يكون الزفاف للعروسين في المعتقل.
  • حين تحصل في المعتقل على الدكتوراه في العلوم السياسية وقد مكثت ما يقرب من خمسة عشر عاماً.
  • حين يكون الإعدام أحب إلى قلب المتهم من السجن لأنه طريق إلى الشهادة ولأنه سبيله إلى حياة أبدية لا تقارن بالحياة التي من أجلها يبيع الكثيرين دينهم
  •   حين يكون رفيق زنزانتك الذي يوقظك للصلاة ويؤنس وحدة شخصاً ليس من عالم الإنس.
  • حين يكون مدرس الكيمياء للطالب الثانوية المعتقلين أحد المعتقلين الحاصلين على دكتوراه دولية في الكيمياء، ومدرس الفيزياء دكتورا في الذرة.
  •    حين يقتاد صولاً في الحبس أستاذ دكتور في الفنية العسكرية إلى زنزانته.
  • حين يعيش سجينان في زنزانتين متجاورتين ولمدة سنوات يتحدثان ويتحاوران ويتآخيان في الله ويهون كل واحد على الأخر محنته ويشاركه همومه طوال هذه السنوات ولا يعرف كل منهما شغل الآخر.

الطريق إلى المبادره..(1)

الطريق إلى المبادره..(1)

صفحات غير مطوية من السجون المصرية يرويها

في حلقات شاهد عيان

بقلم / وائل ذهب

__________________

كان أول لقاء لى بالضابط الذى اعتقلنى لعنه الله عام 2001 أثناء حصولى على إفراج قضائى قادماً من سجن دمنهور إلى مبنى إدارة أمن الدوله بلاظوغلى وكنا يومها لا نعلم إلى أين سيجددون لنا الإعتقال في  المره القادمه ،  لاظوغلى مكان  لا يُحتمل فى معيشته وكل المعتقلون  الذين يمرون من هناك يتمنون   أن لايطول وقت المكوث به   ويفضلون الرجوع سريعاً إلى السجن بسبب إكتظاظ العدد بالمعتقلين سواء الآتون من السجون أم من المقبوض عليهم مجدداً 

أكثر شىء يؤلمك هو بعض سلوكيات المقبوض عليهم حديثاً و قدرأينا الفرق بيننا وبينهم  هائلا كان فرق شاسعا فمعظمهم لم يكونوا تربية ابتلاءات ويميلون إلى حظوظ النفس والأنانيه إلا من رحم الله

ورأينا أثر تربية السجون فينا وفيهم …..

فلقد خلت الساحه الدعويه من معظم علماء الحق ومدارس التربيه الحركيه والفكريه فى مواجهة أنظمة الحكم، كان أمناء الشرطه يفرقون بيننا وبينهم فى المعامله فبرغم من أننا معتقلون لسنين لكنهم يعلمون شراستنا الفكريه ومدى تحملنا وصبرنا عليهم وكان  لنا معهم جولات ونزالات وقمنا فيها بمرمغة أنوفهم فى التراب

  اما نحن فكنا فى نظرهم يائسين من الحياه فلم نعد نبقى على شىء،  كانت معاملتهم لنا وكأن لسان حالهم  يقول دعنا نتحملهم حتى يغوروا على سجونهم  هكذا كانت بتدو من من تحت أضراسهم

 كان أقلنا إعتقالاً وقتها ست سنوات متتاليه وبعضنا زاد عن العشره فكان يوجد القليل من الإحترام لنا ، كان أصعب شىء هو دخول دورة المياه العدد أحياناً يزيد عن المائه وللأسف كانت بالحجز

وتظل محشورا بين  تلك  الجموع تتحمل الوقت حتى يأتي دورك ، والشىء الإيجابي الوحيد فيها هو معرفة الأخبار عن مايدور بالخارج ولقيا إخواننا من بقية السجون لأيام فتأنس بهم الانفس  و كنا تتسامر معهم حتى يأتى يوم الترحيله صباحاً ومطلوب منك  يومها أن تتجهز فى خمس دقائق لرحله قد تستغرق 16 ساعه سفر بسيارة ترحيلات قذره (متكلبش) مع عسكرى ويدك تكاد أن تنقطع مع كل فرمله أو مطب تتنفس فيها رائحة العرق وفضلات بشريه لجنائيين سبق ترحيلهم..

مكوثك  هناك لا يزيد عن 3 أيام يتم عمل فيش مميكن جديد لك دون علمك بأنك خرجت وأُعيد إعتقالك بسبب نشاطك المتطرف وخطورتك الأمنيه 🤔

أراد الضابط رؤيتى وإلى أى مدى وصلت معنوياتى ونفسيتى ومعى أخ من إخوة طلائع الفتح قضية الشهيد حسام حسن وكان محكوماً عليه بخمس سنوات وقضاها وأُعيد إعتقاله ،تم استدعاءنا فى الواحده ليلاً ،صعدنا إلى الطابق الثانى جلسنا فى طرقه كبيره معصوبى العينين ووجهنا للحائط ، ثم فوجئنا بركله منه فى ظهورنا فقلنا له حسبنا الله ونعم الوكيل فيك فأخذ يسب ويلعن وينهال علينا بيده ولم نتوقف عن الدعاء عليه وكسر هيبته فى عقر داره، وقتها كانت العزيمه قويه لأقصى حد ونعلم أن مايفعله حلاوة روح قبل تفعيل المبادره لأنه يعلم أن هذا سينفذه رغم أنفه بالتوقف عن إجرامه، استدعى الأخ أولاً قبلى وسمعت الأخ يسبه فى مكتبه، وإخوة حسام حسن رحمه الله كانوا يتسمون بالشراسه واستعلاءهم بدينهم فاستلهمت منه روح النزال مع هذا النجس إذا ماجاء دورى، وقد حدث بالفعل، إراد كسرى فى السب والطعن فى شيوخ الجماعه الاسلاميه فلم يُفلح فعرض على أن أعمل مرشداً أمنيا وفشل أيضاً ، فكان آخر مافى جعبته هو أننى سأمكث فى السجن ولن أخرج مادام حيّا فتحديته وقلت له بل لو زادت السنين أكثر من هذا أضعافاً مضاعفا فسأخرج فى الوقت الذى قدره الله لى رغم أنفك وأنف أى أحد، وأن من اعتقل خمسا لن تفرق معه عشراً، ثم سبنى وأمر بخروجى وإنزالى والحمد لله فلم يأخذ من عزيمتى ورأيته صغيراً قزماً لا يمتلك من أمره شيئاً ومايفعله ماهو إلا ترهات كان يعيش فيها وهم الجاه والقوه والبطش وكل هذا سيزول عنه قريباً لأن المبادره جاءت من قادته ولا يملك لهم سوى السمع والطاعه والإنقياد ككلب الحراسه، وفى الصباح عُدت إلى سجن دمنهور لتبدأ بعدها تفعيل المبادره بشكل حقيقى وتكون التهدئه منهم رغم أنوفهم فلم يكن فى خيالهم ولو مجرد حلم أن تتوقف الجماعه الاسلاميه عن استهدافهم وبث الرعب فيهم ليل نهار.

الضابط هو المقدم (ش…ر)

(يتبع)

كيف ينام السجين؟

وقفت عند باب المنفردة رقم (4) شبه عارٍ أحمل ثيابي وحذائي في يدي، أنظر مشدوهاً إلى تلك الوجوه التي يجتمع فيها بؤس الدنيا كلّه -لن أنسى تلك اللحظة ما حييت- قال لي أحدهم: “البس ثيابك”. بينما كانت تتزاحم عليّ أسئلة الآخرين: “كم الساعة الآن؟”، “ماذا يجري في الخارج؟”، “متى اعتقلوك؟”. المنفردة في الأصل مخصصة لمعتقل واحد، ولكن لكثرة المعتقلين، وإمعاناً في الإذلال والوحشيّة انقلبت إلى زنزانة جماعيّة، وصل عدد نزلائها في يوم من أيام وجودي فيها إلى سبعة معتقلين، لك أن تتصور أنّ زنزانة طولها حوالي 200 سم وعرضها حوالي 120 سم؛ يحشر فيها هذا العدد من المعتقلين، إذا أراد أحدهم أن يستلقي أو يتمدد فلن يجد الآخرون متسعاً ليقعدوا لا ليستلقوا، فكيف ينامون، إذا نزل عدد نزلائها إلى أربعة في يوم من الأيام؛ كان كأنّه يوم عيد.

لا يوجد لمكان قضاء الحاجة في الزنزانة باب أو ستارة، يقضي المعتقل حاجته أمام الباقين الذين يغضون أبصارهم، ويتجاهلون ما يفعل، وهو يحاول أن يستر نفسه ما استطاع، ولا يوجد صابون للتنظيف، يحك المعتقل يديه ببعضهما ما استطاع وينتهي الأمر، لم أستطع أوّل الأمر تصوّر حصول هذا، ولكن مع الوقت اعتدت عليه، فكان قضاء الحاجة عقوبة بحدّ ذاته، في مكان قضاء الحاجة صنبور ماء، هو المصدر الوحيد لكلّ وجوه استعمالات الماء، منه نشرب، ومنه ننظّف أنفسنا، ومنه ننظّف الزنزانة، كانت المياه مقطوعة أغلب الوقت، وفي بعض الحالات حين تأتي لا نكاد نجد الوقت الكافي لنملأ كلّ القوارير القذرة المركونة بين القذارات (زجاجات بلاستيكيّة قديمة لمشروبات غازيّة أو مياه معدنيّة) وهي حوالي عشرة موجودة في طرف المرحاض، ولا أدري كيف وصلت إلى هنا، اختار نزلاء الزنزانة اثنتين منها، كانتا الأقلّ قذارة ليخصّصوهما للشرب، في كلّ مرّة يتمّ غسلهما بشكل جيّد.

لم أستطع في الأيام الأولى أن أكره نفسي على قبول ما يقدّم لنا على أنّه طعام، وهو عبارة عن وجبتين واحدة في الصباح والأخرى في المساء، القاسم المشترك بينهما ما شكله كشكل الخبز، ولكنّ رائحة عفونته وحموضته تسبق إلى أنف الإنسان.

الحمام مليء بالأوساخ وبقايا الأطعمة القديمة، وهو مرتع للصراصير والحشرات التي دخلت أشكالها قاموس معارفنا حديثاً، في أعلاه ربط ما يشبه الحبل -لا أدري كيف ربط- ولكنّه عبارة عن قميص قديم ملفوف على شكل حبل، وضعت عليه بعض الثياب البالية القذرة، أظنّ أنّها لمساجين سابقين، في بعض الأوقات الحرجة عندما اكتظّت الزنزانة بالنزلاء، حاول أحدهم أن ينام فيه -مكان قضاء الحاجة- وضع رأسه خارجها ومدّ رجليه داخلها ومع ذلك لم يستطع النوم.

لم أستطع في الأيام الأولى أن أكره نفسي على قبول ما يقدّم لنا على أنّه طعام، وهو عبارة عن وجبتين واحدة في الصباح والأخرى في المساء، القاسم المشترك بينهما ما شكله كشكل الخبز، ولكنّ رائحة عفونته وحموضته تسبق إلى أنف الإنسان، يخصّص لكلّ معتقل رغيف في الصباح ومثله في المساء، ويقدّم معه كطعام لوجبة الصباح -على الغالب- لبن شديد الحموضة هو أقرب إلى السائل، قدموا لنا نوعاً من أنواع المربّى مرّة أو مرّتين، ومثلهما بضع حبّات زيتون أخضر شديد المرارة، خلال فترة إقامتي في الفرع، وهي ما يقارب الشهر، ما يقدّم لا يكاد يكفي شخصين، يتمّ توزيعه على العدد الموجود في الزنزانة، وأمّا وجبة المساء فغالباً هي أرز أو برغل، يقدّم لنا في كيس نايلون – كيس خبز قديم- هو كخلطة (الإسمنت) تكاد تتّحد حبات الرز أو البرغل فيه لتكون حبّة واحدة كبيرة، ولا يقدّمون معه شيئاً أبداً، وأذكر أنّهم عندما قدموا لنا مرّة -بعد انتقالي إلى الجماعيّة- بضع حبات من الفجل كان كأنّه يوم عيد.

ومع ذلك كنّا نحمد الله تعالى على هذه النعمة، فقد مرت أيام على أهل حمص القديمة أيام حصار عصابات الأسد لهم أكلوا الحشائش وأوراق الشجر، كما أنّنا سمعنا وقرأنا عن معتقلين بالمئات بل بالآلاف قضوْا جوعاً، بل أقسم لي أحد الأطباء من معتقلي الثمانينيّات- مكث في سجن تدمر أكثر من عشر سنين- أنّ البيضة الواحدة كانت مخصّصة لثمانية معتقلين، وكانوا يقطّعونها بالخيط إلى ثمانية أقسام.

شاء الله تعالى أن نولد في عهد حكم حزب البعث لسوريّة الذي تحوّل بعد انقلاب حافظ أسد إلى حكم الطائفة النصيرية ثمّ إلى حكم أسرة الأسد، يا الله هل يعيش أولادنا ما عشناه من الظلم والقهر؟

أمّا النوم فكأنّما قد حلف أيماناً مغلّظة بأن يجافيني فلم يقربني أيّاماً، وكانت أقسى اللحظات تلك التي ينام فيها جميع من في الزنزانة وأبقى يقظاً وحيداً. تغدو بي الفِكر وتروح، وتعصف بيَ الذكريات وتسكن، أعود إلى طفولتي، إلى أصدقاء الطفولة، إلى اللحظات الجميلة، إلى الأعياد والأفراح، إلى المآسي والأتراح، إلى أيام المدرسة إلى بعض أساتذتنا المميزين الذين فقدناهم في سجون الطاغية الأب، إلى أيام الجامعة وتسلّط الموالين على مفاصل الإدارة فيها، إلى خدمة العلم والقهر والذل والابتزاز الذي يعيشه المجندون، إلى العمل في تدريس التربية الإسلامية والخوف الدائم من التقارير، إلى السفر وابتزاز الراغبين فيه بجواز السفر والموافقات الأمنيّة، إلى أمور تكاد لا تنتهي من القهر والظلم والإذلال.

هكذا قدرنا، شاء الله تعالى أن نولد في عهد حكم حزب البعث لسوريّة الذي تحوّل بعد انقلاب حافظ أسد إلى حكم الطائفة النصيرية ثمّ إلى حكم أسرة الأسد، يا الله هل يعيش أولادنا ما عشناه من الظلم والقهر؟
ها أنا هنا الآن عاجز مقهور محروم من أبسط حقوقي الإنسانية في هذه الزنزانة القذرة بين إخوة لي، مصابهم كمصابي، ولكن لا أدري كيف ينامون؟!

عبدالكافي عرابي النجار

السردية الأدبية للتجربة السجنية في تونس: الذاتي والجمالي وسؤال الحقيقة

ينتهي السّجن في تعريفه الاصطلاحي إلى كونه “مؤسسة تنفيذ عقاب” بما يعني أنه إحدى الوسائل التي تعتمدها السلطة لممارسة جانب من العنف المنظم الذي تحتكر وحدها صلاحياته. بعيدا عن هذا التعريف، يظهر السجن في تصور علاقته بالسجين فضاء تثبيت على الأجساد حالات الانضباط والخضوع. تنتج السلطة به وداخله حكم القانون في سياق ممارسة قمعية. يستحيل هنا ما كان أداة الى سلطة أكبر من السلطة التي أنتجته كهيئة ليخدمها وتُحيلنا  المقاربة “المفهومية” للسّجن في بُعدها الإشكالي هذا إلى السؤال حول رسومه في ذّاكرة من كانوا داخله محكومين بقانونه.

تحضر سردية السّجن جانبا من حياتنا اليومية عبر بوابة أمثالنا الشعبية أو في التصنيفات الاجتماعية للسّجناء ولكنها سردية وصم اجتماعي لا تقدم صورة عن داخل السجن بقدر ما تحاكم من كان فيه. ويرسم الفن الشعبي صورا متعددة لذاكرة السّجن تكشف لحدّ ما عن نواميس الحياة اليومية لمساجين الحق العام داخله، ولكنها تخرج من محيط ذاكرته سريعا لحديث العاطفة. تكون في محامل أخرى نصوص السجناء السياسيين أكثر إلصاقا بذاكرة المكان تلازم في فصولها وقع أيامه على فكر وجسد من كتبها. تستحيل هنا الكتابة الإبداعية للسجناء السياسيين فعل رصد لارتدادات التّجربة السّجنية على نفس السّجين، كما هي إضاءة واعية على عوالم أخرى يحددها الزمان والمكان بكل ما فيهما من تفاصيل. فتكون في عمومها وثيقة تصلح أن تدرس في سياق مسارات العدالة الانتقالية للسؤال عن الحقيقة أولا وعن دور الذاكرة في علاجات جراح الماضي.

طوّرت الثورة وما ساد بفضلها من حريات عدد الأعمال الأدبية في شتى تنويعاتها الأجناسية من رواية ورواية سيرة ذاتية أو سيرة ذاتية روائية وسيرة ذاتية وتخييل ذاتي والتي تتخذ من السجن موضوعا لمتونها الحكائية. ويجيز هذا القول بكون “أدب السجون التونسي” بات يتميز بالثراء على حداثته وأن ثراءه يعود في جانب منه للحراك السياسي الذي يفرض دوما السؤال حول تاريخ الاستبداد.

يكون مدخل محاولتنا البحث عن الذاكرة كما العدالة في النص الأدبي تقديم قراءة خارجية للمشترك بين مختلف نصوصه لننتهي إلى قراءة خصوصية لنصوص نقدر أنها تصلح أن تكون عينة ممثلة لتنوعه سواء في بعده الإبداعي أو التاريخي.

1- المشترك في كتابات أدب السجون:

يظهر هذا المشترك في زمن النص كما يعاود الظهور في علاقة النص بالكاتب كما يفرض الوعاء الأدبي أن تكون التقنيات الإبداعية المتمثلة في التخيل مشتركا يقفز على الحاضر ليصل الماضي بالمستقبل.

الزمن في النص:

ترصد التّجربة السّجنية في النّص الروائي ثلاث محطات زمنية تبدو ظاهريا مستقلة عن بعضها البعض إلا أنّها في الحقيقة تتصل فيما بينها وهي:

أولا: فترة ما قبل الاعتقال، وتحوي ممارسات المناضل السياسي في معارضة السلطة الحاكمة.

ثانيا: فترة الاعتقال، وهي عمق التجربة السجنية إذ تكشف عن الوجه القمعي للنظام الاستبدادي وتعري ممارساته تحقيقا مع السّجناء وتعذيبا لهم معنويا وماديا.

ثالثا: فترة ما بعد الاعتقال وتمثل ظاهرا مرحلة استعادة السجين لحريته التي سلبها منه السجن واكتشافه أنه يحمل السجن داخله حيثما انتقل في الزمان والمكان. إذ يكتشف الراوي بمناسبته أنه خرج من سجن ضيق إلى سجن أوسع تتضخم فيه صور معاناته النفسية والجسدية.

العلاقة بالذات:

تستذكر النصوص على تعددها باعتبار ما توثق من أحداث، “التجربة” بتفاصيلها ويكون فيها انتماء الكاتب لنصه والبعد المتشنج لعلاقته بذاكرته سببا في طغيان سيرة الأنا على فهم الآخر وبما يجوز معه الحديث عن كونها نصوص ذاكرة سجنية نضالية توثّق لأشكال نضال السجين السياسي في مواجهة المستبدّ وفعل بحث عن ذاته في علاقتها بأبعادها الوجودية المتباينة. فالذّات هي صاحبة التّجربة وهي الأنا المتعددة فهي مدار الحكي وهي بؤرة السّرد والأحداث.

المحمل الإبداعي: التخيل أو التقنية الطاغية

يظهر التخيل والاستذكار من العلامات المميزة لمختلف نصوص أدب السجون. وتستجيب تلك التقنية السردية للانزياح في معناه اللغوي والجمالي والدلالي لتسم النّص بسمة الأدبية فضلا عن اقترانه بالمحسّنات اللغوية والبلاغية التي تجعل المتلقي يتأثّر لنفسية الكاتب وحالته. فالخيال المتولد يمارس تأثيره على الواقع المعطى فيتمثّله وينقله من دلالة إلى أخرى. ونلاحظ هنا أن جدلية التّعالق بين الميثاقين المرجعي والتخيلي تصنع تزاوجا متميزا بين صدقية الرواية وفعل المخيال الأدبي ثمرته وثيقة إبداعية فيها تسجيلات للحياة المنقضية في الزمان والمكان حرره الإبداع كما الذات من سطوة التاريخ وقوانينه. وتظهر هنا محاولة استكشاف لنصوص من هذه التجارب المناسبة الممكنة لبحث هذه الخصوصية.

2- سجن واحد ورواريات متعددة: الكتابة تحرر والتحرر إبداع والإبداع عدالة

يعدّ “نص برج الرومي أبواب الموت” لسمير ساسي الذي نشر سنة 2003 من النصوص المؤسسة لأدب السجون التونسي الناطق باللغة العربية، بما يفرض أن يكون ضمن العينة التي نقترح الوقوف عندها. فيما يظهر نص “الحبس كذّاب والحي يروّح: ورقات من دفاتر اليسار في الزّمن البورقيبي” لكاتبه فتحي بلحاج يحيي ونشر في 2011 من النصوص المتميزة لجهة أنه من النصوص القليلة التي توثق لتجربة “اليسار” في السجون واعتبارا لكونه من أول النصوص التي عملت على تجاوز الذاتي في الحديث عن المعاناة بحثا عن القيمة الإنسانية  الجامعة. ونقدر أيضا أن نص الثقب الأسود للشاعر عبد اللطيف العلوي الذي نشر سنة 2017 لا يمكن أن يغيب عن الرصد بالنظر لكون من صاغه يعرف كأديب قبل أن يكون سجينا سياسيا.

تمثل هذه النّصوص في المقام الأول الهوية السردية لكتّابها الذين ارتأوا أن يتقاسموا تجاربهم مع الآخر في عملية تطهّر من عبئها على ذواتهم ، وهي بالتالي  نوع من “العدالة الإبداعية  ” التّي تتحقّق داخل النّص بجعل هذه المعركة التي طرفاها الضحية والسّجان تنتصر سرديا.

بعيدا عن هذه السمة المشتركة يطرح السؤال كيف وقع تمثّل عدد من كتّاب الرواية التّونسية المعاصرة للتجربة السّجنية؟ كيف تمّت إعادة تشكيل التجربة السّجنية وتحويلها من تجربة نفس إلى تجربة نص؟ ما هي دوافع اختيارهم للكتابة الروائية السير ذاتية أو كتابة التّخييل الذّاتي؟

لا يسمح المجال لتعميق البحث عن جواب للتساؤل، لكن أهمية البحث تغري بتقديم ملاحظات حول النصوص على النحو الآتي:

فيما تعلق برواية “برج الرومي” لسمير ساسي:

كُتِبت برج الرومي زمن محنة السّجن حيث وظف كاتبها كل التّقنيات الأدبية والفنية معتمدا أسلوب التعمية كي لا يفقهها الجلاد فيصادرها. وقد أرادها منجزا أدبيا فنيّا في المقام الأول فضلا عن توظيفه للتعريف بقضية المحنة وتفاصيلها وتحسين القبيح وفظاعة التّعذيب في السّجون التّونسية. ووظف الكاتب في صياغته جملة من الإحالات الممكنة التي يؤشر انخراطها ضمن مشروع تنديدي بحجم المعاناة. وقد مثّلت مقاربة سردية سير ذاتية تعالق فيها المرجعان الواقعي والتّخييلي.

فيما تعلق برواية “الثّقب الأسود” لعبد اللطيف العلوي:

هي مقاربة روائية على قدر من الاختلاف عن نصّ المدونة الأول. فهذه السّردية منخرطة في حوارية داخلية تتخذ من مرجعية السّجن وسياقاته تعبيرا فنيا عن محنة التسعينات. وتشكّل السير الذاتية عوالم متباينة تجعل من الأنا مدارا ومدى في قوتها وهشاشتها وانتصاراتها وانكساراتها. يتجاوز الكاتب الكتابات التي اتّخذت من بيبلوغرافيا التعذيب ومراكمة الشهادات حول الذّات المعتقلة إلى مقاربة تتجاوز السجن إلى تجربة إنسانية أرحب تتوازى فيها التيمات وتتعالق فنجد حكاية عن الحب وأخرى عن الصداقة وثالثة عن المرأة ورابعة عن السجن وقمع السلطة وقتلها لمواطنيها واقعا ورمزا.

فيما تعلق بنص “الحبس كذّاب والحي يروح” لفتحي بلحاج يحيي:

هو مقاربة سير ذاتية أخرى منخرطة في حساسية إيديولوجية مختلفة ضمن مشروع تنديدي يشهر بممارسات النظام السياسي البورقيبي ضد المعارضة السياسية وتحديدا اليسار التونسي في ثمانينات القرن الماضي. فهي حوارية ذاتية أيضا تتجاوز مجال الذّات وفردانية تجربتها ومرجعيتها الفكرية إلى تجربة جماعية بمعناها المادي والفكري. وتكمن أهمية هذه الحوارية في انفتاحها على عالم السّجن من خلال ثقافته السّجنية وكيفية تمثّلها من الفرد ومعايشتها والتكيّف معها. حيث يبرز هذا النسق الثقافي الجديد بين وجوب التكيّف معه واختيارات الفرد التي يعيشها بين واقعه المرجعي وتوجهاته النضالية التي يدافع عنها.

تكشف هذه الإطلالة على أدب السجون أنه توثيق من نوع خاص “لتجربة الاستبداد”، فيها تجاوز للألم في منحى إبداعي، كما تبين أنه يصلح أن يكون عنوانا للمصالحة بين أنا الضحية وماضيها وبين القارئ الحر ومن كان سجينا. ويستدعي استثمار هذه النصوص في التأسيس لعدالة انتقالية لا ينتهي مسارها بفعل نهاية عهدة المؤسسات فعل حفر معرفي عليها يرصد الإبداع في ذات محاولته استقراء التاريخ. ويبحث في ذاكرة سلبية أليمة عن فكرة  إيجابية تحول دون تكرار الانتهاكات وترفع كل أشكال الرقابة على الكتابة لتحقيق “العدالة الإبداعية” التي يجب أن تتواصل وتتقدم في هذا الإطار. وقد تحقق الكتابة في ثناياها المساءلة والمصالحة فتقع معاقبة الجلاد داخل النص ويكون البحث عن الذات والهوية عبر مسار الكتابة لتحقيق التّطهر.

  • نشر هذا المقال في العدد 16 من مجلة المفكرة القانونية | تونس |.


 جيل دلوز المعرفة والسلطة مدخل لقراءة فوكو ترجمة سالم يفوت( ضمن الفصل الثاني) (راجع القسم الرابع الفصلان الاول والثاني للوقوف على الكيفية التي يفرض السّجن نفسه  مرحلة ثانية مرتبطة أوثق الارتباط بالقانون الجنائي من اجل انتاج الجنوح او تشكيل الجنوح موضوعا “

ص 223/249/251

يعد  نص ” كريستال”  أول ما كتب بأدب السجون التونسي عموما .  ويعد بالتالي  كاتبه جلبار النقاش  الأب المؤسس لتلك الكتابة .ذاك التأسيس الذي بين أنه لم يكن سبب قمعه بل كان قمعه وسجنه من دفعه له .  كتب جلبار حكايته  خلال محنة سجنة وكانت لفائف علب السجائر الورق الذي حفظ “النص”  الذي صاغه فسماه باسم علامتها التجارية . نشر كريستال ثمانينات القرن الماضي في صيغته الأصلية التي كانت باللغة الفرنسية ولكنه لم ينشر في ترجمة عربية إلا سنة 2018 .

       ساسي (سمير): رواية برج الرومي :أبواب الموت  ، منشورات كارم الشّريف، تونس ط1 2011   [3]

                العلوي (عبد اللطيف) : الثقب الاسود ، الثقافية للنشر و التوزيع ،تونس ط 1 2017  [4]

  بن الحاج يحيي (فتحي) : الحبس كذاب ….و الحي يروح “ورقات من دفاتر اليسار في الزمن البورقيبي ، تونس، كلمات عابرة  ،ط2 ،2009.

لأسد الله في كوبا – معتقل غوانتانامو

لأُســدِ الله

لأسد الغاب في كوبا السلام *** وإن عز التزاور والكلام
ليوث حينما وثبوا تنادت *** كلاب الغاب و انجفل النعام
تطوف بها الغداة بكل ذعر *** وتحرسها الرواح فلا تنام
تخاف تواثبا منها فتدني *** مشاعلها إذا جن الظلام
وما ضر الكريم إذا علاه *** لحسن صنيعة منه اللئام
ألا أيها الأحباب عذراً *** فقد طاشت بجعبتي السهام
نرى للمسلمين بكل أرض *** مجازر مالهم فيها قوام
نرى في قدسنا قرداً دعياً *** يئن بثقله الحرم الحرام
يغني بالسلام وإن منه *** ومن غلوائه يشكو السلام
نرى مالا يطاق إذا تمطي *** بأعراض القوارير الطغام
وسالت دمعة في خد طفل *** جريح لم يجاوزه الفطام
وشيخ مبعد تعبت خطاه *** ويطويه مع الألم الحمام
هنا قدم وذاك دم مراق *** وتلك يد تحيط بها عظام
وشيء من بقايا شبه دار *** وأنقاض وأبيات حطام
أخي إن لم تقم لله فيهم *** فحسبك فتية لله قاموا
فقالوا : ربنا إنا برئنا *** وقد خذلتهم العرب الكرام
وإنا ربنا لما سمعنا *** صريخ الدين حق الانتقام
سل الأفغان والشيشان عنهم *** سل البوشناق كيف بها أقاموا
وسل يوم الكريهة كيف كانت *** بسالتهم وقد ثار الرغام
وجلل صارخاً للحرب فيهم *** صبيٌ لم يناهزه احتلام
وسلها عن عدوهم المفدى *** وقد لاقتهم الأسد العظام
على أعقابهم نكصت وولت *** جحافلهم يعرقلها الزحام
أيا أحبابنا عذراً فإنا *** ليرهبنا الشباب إذا استقاموا
أيا أحبابنا عذراً فإنا *** يهدهدنا التغزل والغرام
يلفعنا إذا نصحوا انخذال *** ويصفعنا إذا نمسي انهزام
تعلمنا المذلة كيف ننسى *** وكيف نجيب إن وقع الملام
أيا آسادنا في القلب نارٌ *** يزيد لحبكم فيها الضرام
لكم منا الدعاء بظهر غيب *** من الأبرار ما صلوا وصاموا
لكم منا اللسان وكل حبر *** إذا ما لف في الغمد الحسام
لأسد الله في كوبا السلام *** وقل لهم إذا عثر السلام
بكم نشدوا فحيوا كل شدو *** مع الأسراب تنقله الحمام
بكم نسموا فحيو كل قطر *** على الوجنات ينزله الغمام

مبارك بن عبد الله المحيميد
2 – 8 – 1423هـ

خمس دقائق وحسب” تسع سنوات في سجون سورية الحلقة الرابعة

مسرحية التجسس !

وذات مرة أحضروا امرأة فلسطينية إلى إحدى المنفردات ولعبوا لعبة علينا قامت بها هذه المرأة التي تبين بعدها أنها مخبرة مثل منيرة التي قامت بتكملة الدور . ففي البداية قالت لنا فاديا صراحة أنهم طلبوا منها أن تجلس معها وتستدرجها على أساس أنها سجينة مثلها وتحلل لهم نفسيتها وتنقل لهم أخبارها ، وذهبت من المهجع إلى المنفردة وجلست معها اليوم الأول ثم عادت تقص علينا قصصها ، وظلت تقوم بهذا الدور الأسبوع فتأتي وتقص علينا بصراحة كيف أنها تدرس شخصية تلك السجينة وتقدم التقارير بها وتنقل أسرارها للمقدم . . حتى إذا زرعت الشفقة عليها في قلوبنا وجدناهم أحضروها إلينا من المنفردة ووضعوها معنا في المهجع بضعة أيام كنا نعاملها خلالهما أحسن المعاملة ونفتح لها قلوبنا كأية سجينة مظلومة ، وكانت من جهتها تتنقل من واحدة إلى أخرى تسمع قصتها وتستل الأسرار منها . . ثم لم يلبثوا أن نادوا عليها بالإفراج ففرحنا لها وجلسنا نودعها ، فجعلت تسالنا بكل تلقائيه إن كنا نريد إرسال أية رسائل أو معلومات لأحد لنا في الخارج ، ولا أدري ما سبب الشعور الذي تملكني والإحساس بانقباض القلب رأيتها تلح علي في طلب ولو حتى إشارة مني أو أثر تذهب بها إلى أقربائي وأهلي ، فبعد أن هممت بذلك عدت وانسحبت شاكرة وقامت أكثر البنات بإعطائها رسائل إلى أهاليهن وصلت كلها يد المقدم فاستطاع من خلال هذه المخبرة التي أجادت دورها بالتعاون مع فاديا أن يعرف الكثير عما يدور في هذا المهجع وبين نزيلاته المعتقلات ، لكن فاديا ظلت من خبثها تدعي استغرابها مما حدث ، وكان من دهائها أن شاركت حتى في الإضراب الأخير ، وكانت أكثر المتشددات في مراقبة من يهم بالتراجع أو نقض الإضراب . . وكل ذلك تمويها وتدليسا علينا لاستكمال المسرحية ! وفي نفس الفترة انضم إلى مهجعنا نزيلة جديدة اسمها ترفة لم تكن من اتجاهنا ولا من ديننا ، لكنها كانت على النقيض من فاديا هادئة الطباع سمحة الخلق لا تؤذي أحدا بقول أو فعل .

وترفة سيدة مسيحية من باب توما بدمشق في الثالثة والعشرين من عمرها ، كانت لديها – كما روت – مشكلة في الإنجاب ، فذهب بها زوجها إلى الإردن أولا ثم إلى العراق للعلاج ، لكن الزوج اعتقل بعد عودتهما بتهمة التعامل مع العراق واعتقلت معه ، ورغم أنها نفت علمها بأي شيء أو معرفتها إن كان زوجها قد فعل شيئا أم لا ، إلا أنها اقتيدت من بيتها إلى سجن كفر سوسة ، وتم تعذيبها أيضا قبل أن ينقلوها إلى المهجع معنا ، فكانت بيننا كواحدة منا . وعندما قررنا الإضراب أضربت أيضا واستمرت ثابتة حتى النهاية . . وتم نقلها عندما نقلونا إلى قطنا ، لتبقى معنا هناك إلى اخر فترة ولا يفرج عنها إلا بعدنا بشهور .


الضيف ضيف الله !

وتتابع وفود معتقلات جدد ومآس أجد . . فبعد كل من وفد أحضروا إلى مهجعنا الذي غص بنزلائه أختين من اللاذقية هما منى وأمل ف .

عمر الأولى35 أو 36 سنة وهي أم لثلاثة أبناء : بنتين وصبي ، والثانية عزباء في الثامنة أو التاسعة عشرة . وقد بدأت قصة منى التي كانت غاية في الطيب إلى درجة السذاجة بالفعل . . بدأت حينما قتل زوجها برصاصة طائشة أثناء عبوره منطقة كانت مسرحا لاشتباك بين المخابرات وعناصر مضادة في اللاذقية ، وكان – كما روت – يحمل ابنته على كتفه حينما أصابته طلقة اخترقت يده التي يمسك الطفلة بها واستقرت في قلبه فقتلته ، وظلت البنت على قيد الحياة .

وبعد مدة طرق بابها رجل من الملاحقين المشهورين في اللاذقية يسمونه أبا عنتر أو أحمد عنتر ادعى أنه بائع كاز فأرادت أن تشتري منه ، وبينما هو يؤدي عمله سالها إن كان يستطيع أن يختبئ عندها لأنه لا يجد له مأوى فوافقت على بساطتها وأدخلته فأوته . . ولكن أمره انكشف كما يبدو فداهمت المخابرات البيت ووجدوه مختبئا في إحدى الخزائن فرشوه مباشرة وأحضروها إلى السجن . . ولما ساكوها في التحقيق عن ذلك الشخص أجابت : -ضيف .

قالوا : ضيط ؟ هذا أكبر مجرم وأنت تسكنينه في بيتك !

قالت : لأن الضيف ضيف الله ! فسالها المحقق هازئا : ضيف الله ؟ قالت على طيبها وبساطتها : إي والله ! واحد أتاني يقول لا يوجد لي أحد وليس عندي مكان ويسألني الضيافة هل أرده ! وكانت قد اتفقت معه أو اتفق معها أنه إذا سالها شخص عن سبب وجوده معها تقول بأنه خطيب أختها . . فبلغهم ذلك أيضا . . وأحضروا الأخت التي لم تكن تعلم أي شيء عن أي شيء وأودعوها السجن معنا كل الفترة ، وأتوا بأبيهما وبأخيها فسجنوهما أيضا ، ثم أفرجوا عن الأخ وتركوا الأب . ولقد تبدت طيبتها من أول لحظة دخلت بها علينا وهي تبكي بحرقة وتنتحب كالأطفال . . وكالعادة التففنا حولها وحول أختها كأية قادمة جديدة خاصة وأنها محجبة وسألناهما : – من أنتما . . ولماذا أحضراكما ؟

فقصتا علينا القصة . . فسألناهما : -ولماذا تبكيان كل هذا البكاء وهم لم يعذبوكما بعد ولكما في الإعتقال مدة ؟ قالت منى : قال لي العنصر ادخلي فلما لم أدخل بسرعة سب أبي . قالت لها الحاجة : وماذا في ذلك ؟ قالت : أبي لا يسب ! ولقد ظلت منى معنا حتى عام 85 ثم نقلوها إلى اللاذقية ، وعادوا فأرجعوها بعد سنة إلى قطنا وانتقلت معنا إلى دوما حتى خرجنا جميعا ، وأما أختها فخرجت من كفر سوسة عام 1984.


عصة القبر !

ومن نزيلات مهجعنا كذلك كانت أم ياسين ساريج السيدة التي اتهم ابنها بتنفيذ حادثة الأزبكية بدمشق أواخر عام 1981 .

وكانوا في البداية قد أحضروا إلينا صورته مقتولا وقد تمزق وجهه فلا يكاد يبين منه شيء وسألونا إن كنا نعرفه فكان جوابنا النفي ، ومرروا الصورة على كل المهاجع فلم يتعرف عليه أحد ، وفي المساء أحضروا أمه وسألوها إن كانت تعرف عنه شيئا – ولم يكن الشاب ملاحقا فقالت لا أعرف . . وعندما أروها جثته ثبتها الله فلم تزد عن أن تقول : – حسبنا الله ونعم الوكيل .

وكانوا قد اعتقلوا معها زوجها وابنيهما أيضا وكان عمر أحدهما 16 والأخر 12 سنة ، فوضعوا الأب والأولاد في الجنوبي ووضعوها في المهجع معنا، وبقيت هناك فلم يفرج عنها إلا بعد نقلنا إلى سجن قطنا .

ولا أزال أذكر أنهم عندما أخرجونا إلى “المحكمة الميدا نية ” عرض علينا رئيسها النقيب سليمان حبيب صورا من الجريدة لقتلى التفجير وهو يقول: دماء هؤلاء الأبرياء هي السبب في تشكيل المحكمة . . وهذه الدماء سنخرجها والله من رقابكم أنتم وبعد انتهاء من تلك “المحكمة” المهزلة ، وبينما كان أحد العناصر يعيدنا إلى المهجع قال لنا : – شايفين الحادثة التي صارت ، هذه الإخوان فعلوها . . ولازم تتأكدوا أن كل حادثة تحدث في الخارج ستنعكس على الذين في الداخل ! وفعلا كانوا كلما ضيقوا علينا نعلم لاحقا أن أمرا ما قد حدث في الخارج . . ونحس ذلك من منع التنفس فجأة أو إغلاق الطاقة علينا لعدة أيام . . ونتأكد أكثر من صياح الشباب الذي يتعالى وهم يتلقون مزيدا من التعذيب . . وكانت الحاجة رياض ببساطتها تقول عندها : ولي على قامتكم يا اخوان . . تعالوا شوفوا إيش صايرلنا . . أنتم تفعلون ما تريدون على كيفكم ونحن عصة القبر علينا !


سجن أم دير !

واذا كانت مشاهد السجن كلها مؤلمة وحالة السجينات وقصص المعتقلات تفيض بالأسى والمرارة فإن قصة هالة ن . قد تكون من أشد المشاهد التي رأيت إيلاما وأكثر ما سمعت وعايشت في السجن من قصص مرة . . فبينما كنت أنظر من شق الطاقة يوما شد انتباهي مشهد غير طبيعي أراه أمامي ، فالتفت إلى البنات وقلت لهن: كأنهم والله أتوا بواحدة أجنبية لا تفهم العربي ! هذا حسن يكلمها ويجذبها من كتفها وهي تنظر إليه مثل “الخوتة” ولا تفهم عليه . . لكنها تبدو أجنبية مسلمة لأنها تضع حجابا على رأسها .

كانوا قد أخرجوها كما يبدو من المنفردة إلى “الخط ” حينما رأيتها أول مرة ، وانتظرت فرأيتهم حينما أعادوها ، ثم جعلت أراهم يأخذونها ويعيدونها قرابة شهر كامل على هذه الحال : كانوا يشحطونها شحطا ويدفعونها في كل خطوة لتنتقل إلى الخطوة التالية وكأن أعصابها قد أصيبت بالتشنج ، والجمود كسا سحنتها فلا تتكلم ولا تتألم ! كانوا يأخذونها إلى التحقيق ويعيدونها سحبا كالدابة أو كالميت ، ولا تزيد هي على الحملقة فيهم والنظر حولها نظرات بلا معنى ! وبعد شهر كأنما يئسوا منها فأتو بها إلى مهجعنا . . ولا أزال أذكر لحظة أن فتح السجان إبراهيم الباب علينا وهو ممسك إياها من كتفها وناداني : هبة . . قومي استلمي . . هذه وظيفتك . ودفع بنفس المرأة إلى المهجع ومضى .

نظرت فرأيتها وهي لا تزال بحجابها ترتدي بنطالا عريضا جدا يمسح الأرض . . وملابس كلها قذرة لم تنل نصيبا من النظافة منذ زمن لا يعلمه إلا الله ! انتظرنا لحظة أن تتحرك فلم تغادر المكان الذي دفعها إليه إبراهيم وظلت واقفة عنده لا تتزحزح . . تقدمنا جميعا نحوها وسألنا بلطف : ” -ما اسمك ؟ فلم يجب أحد ! – من أين أنت ؟ لم ترد ! تقدمت الحاجة وقالت : – ابتعدوا قليلا . . والله ضبعتوها . فتأخرنا جميعا وتقدمت الحاجة فسألتها من جديد : -ما اسمك يا بنتي ؟ أجابت بصوت كأنما ينبعث من بئر خرب ونظرتها الوجلة مركزة على نقطة واحدة في أفق بعيد لا نراه ولا تتزحزح عنه : من أنت ؟ ومضت قرابة الساعة والسؤال يتردد ومحاولات استنطاقها ولو كلمة واحدة إضافية دون جدوى . . فيئسنا منها وتركناها .

ظنا : لعلها خائفة . . لندعها تهدأ بعض الشيء . وقتها كانت منيرة تستمع إلى الراديو . . وكانت عندما تلتقط إذاعة القران الكريم وعلى الأض برنامج “ناشئ في رحاب القران ” ترفع الصوت أو تعطينا الجهاز لنسمع . . وغالبا ما كنا نضه على أنبوب التدفئة ليسمع الشباب في الزنزانة المجاورة أيضا ، وما أن فعلت وقتذاك وعلا صوت طفل بالتلاوة حتى وجدنا ضيفتنا الجديدة هجمت على الراديو وقالت بانفعال : -أغلقوه . . أغلقوه . . هذا يخلط بالقران . . حرام . . كل هذا كذب وافتراء ! قلنا جميعا وقد تملكتنا الدهشة : أستغفر الله . وقامت أم شيماء فأقفلت الراديو وهي تقول بجد : -يابنات هذه فيها شيء ! لكن هالة ظلت على وقفتها لا تتزحزح ولا تتحرك ولا تغير من وضعها . . صار الليل . . بعد منتصف الليل وهي كالخشبة لا تتحرك . . وعندما حاولنا تحريكها كانت كالمسمار المدقوق في الأرض ! فلم تتمالك الحاجة نفسها ودقت الباب وقالت لابراهيم لما حضر : -يا ابني هذه المخلوقة فيها شيء ؟ ما لها يبست مكانها ؟ نريد أن ننام . . نجلس . . نأكل . . نشرب . . وهي واقفة على وقفتها ! فقال ابراهيم : لا تصدقوها . . إنها تمثل . فسألته الحاجة : وهل هي كذلك منذ أن أتت هنا ؟

قال : نعم . . لكنها تمثل . . كله تمثيل بتمثيل . . تظن أنها ستتخلص من الإعتراف والتحقيق والشيء ثابت عليها . . لكن هذا شيء تحلم فيه ! تركته الحاجة وعادت إليها ثانية فسحبتها من يدها شيئا فشيئا وأجلستها بجانبها فاستجابت وجلست . . سالناهم أن يطفؤوا الضوء ففعلوا وأتينا لننام ، ولم تمض دقائق على ذلك حتى وجدتها متربعة فوق قدمي تحدق في وجهي ، فلما رأيتها كذلك لم أتمالك نفسي وصحت برعب : -حجة . . من شان الله تعالي وخذيها ! قامت البنات كلهن وقامت الحاجة يسألنني ماذا هناك . . فنظروا ورأوها . . وعادت هي فجلست منكمشة تنظر برعب وهلع إلينا ، فجاءت الحاجة وقالت لها بالإنسانية : -تعالي لعندي وانتي ابنتي . . وجعلت تحضنها وتلفها حتى أرجعتها إلى جانبها . . وعاد الهدوء شيئا فشيئا إلى المهجع . . وفي الصباح وبعد أن أدينا الصلاة وعدنا للنوم ثانية أحست وقد غفا الجميع تدفق أنفاس بالقرب مني ، فلما فتحت عيني رأيتها فوق رأسي هذه المرة تكشف الغطاء من جانبه وتتلصص بالنظرإلي ، فلما رأيتها هكذا تخيلت أنها تريد أن تخنقني فصحت صوتا بالمقلوب ولم أعد أقوى حتى على التحرك ، فيما تحركت هي بلا أدنى انفعال وجلست على جنب وكأن شيئا لم يكن ! وكانت ماجدة قد استيقظت على الصوت فسألتها : – ماذا تريدين ؟ هل تريدين شيئا ؟ فما وجدناها إلا وقد نطقت وقالت تسألها بلهجة جامدة : -ماهذا . . هل هذا بدير؟ قالت لها ماجدة : لا . . هذا ليس بدير . . هذا سجن ! فعادت إلى صمتها وظلت على جلستها لا تتحرك .


قذيفة بطاطا !

كان حجاب هالة وثيابها حينما جاءت وسخة جدا ، وبمرور الأيام وهي على حالتها تلك ازدادت نتانة واتساخا ، لكننا كلما حاولت أحدانا أن تقترب منها أو تلامس ثيابها انكمشت أكثر ومنعتها من الإقتراب! وظلت على هذه الحال ثمانية أشهر لا تحكي ولا تأكل ولا تشرب ولا تحرج إلى الحمام ! كنا نسقيها الماء بالغصب وندس لها اللقمة في فمها دسا فتبقى فيه ساعة ولا تبتلعها ! وتقوم في الليل لتدخل الحمام فنتظاهـر كلنا بالنوم ، فتبقي الستارة مكشوفة وتجعل تراقبنا دون أن تفعل شيئا ، فإذا رأت أحدا تحرك تخرج مباشرة ولم تسحب ثيابها عنها بعد وذات يوم جلست عائشة بجانبها وأعطتها حبة بطاطا مسلوقة وهي تقول لها : -خذي . . هذه بطاطا طيبة وحلوة . . وقشرتها لها وأرادت أن تطعمها إياها ، فخطفتها من يدها بسرعة وأطبقت عليها ثم عادت فرمتها . . وكنت وقتها أغسل ملابسي في الحمام فما وجدت إلا شيئا يرتطم برأسي . . نظرت فإذا بها قد قذفتني بالبطاطا فكادت أن تشجني ، فيما وقعت حبة البطاطا في التواليت !


كي. . واعتداء. . وافتراء !

وفي مرة أخرى وبعد شهر من حضورها قررنا أن نغير لها ملابسها بأي طريقة ، وكانت طوال هذه الفترة لم يمس جسدها الماء . لكنها ظلت تنفر وتزمجر كلما اقتربنا منها ، فجاءت الحاجة وأم شيماء إليها معا وقالتا لها: – انظري . . هذه ثياب جميلة وثيابك وسخة الان . . فكشت من جديد علامة الرفض ، فتقدمت أم شيماء لتخلع عنها ملابسها ، فصاحت صوتا يا لطيف ويا ساتر . . ورفضت بكل إصرار ، فلم نجد بدا إلا أن نمزق لها ثيابها تمزيقا لنلبسها الثياب النظيفة لأول مرة ، لكن جسدها ظل وسخا وطال شعرها فكانت تحكه بأظافرها الطويلة الوسخة وتظل تحكه وتحكه بشكل مقزز حتى رجحنا أن لديها قمل ، فقررنا إعادة المحاولة وجلست الحاجة والبنات يسايرنها حتى أدخلوها الحمام . . وما أن بدأن بخلع ثيابها حتى خرجت أصواتها وارتفع زعيقها ، وهرع العناصر يسألون ما الذي يجري فقالت لهم الحاجة : لا شيء . . نريد أن نحممها فقط . . نخاف أن تجرب إن تركناها مدة أكثر .

فقالوا لها : اعلموا أنها تمثل عليكم . . هي سفيهة . . فاجرة . . وظلوا حتى خروجها وانتقالنا إلى قطنا يتكلمون عنها بهدا الكلام . . وعندما حمموها وجدوا آثار ما يشبه الكي بسيخ محمى على أرجلها وفخذيها وجسمها من الأسفل . . لكن الأحجية لم تكن لتحل بعد ، وسر هذه المرأة ظل غامضا يستعصي علينا . . وفجأة وبعد خمسة أو ستة أشهر من وجودها معنا لاحظنا أن بطنها تنتفخ وتكبر وقد بدأت تتأوه وتتألمم ، ثم لم تلبث أن فقدت قدرتها على الإحتمال . . فجعلت تصيح وتستغيث ، فشككنا أنها حامل – ولم نكن قد عرفنا قصتها بعد – وقدرت الحاجة وقتها أنها ربما كانت متزوجة من أحد الشباب وكانا جالسين معا فحدثت مداهمة لقاعدتهم واستشهد الزوج أمامها فأتتها صدمة . . وهى الآن حامل .

ولما لاحظ العناصر ذلك أيضا نقلوا الخبر كما يبدو إلى رؤسائهم ، فأتى رئيس التحقيق وسأل عن الأمر وقال من ثم لعائشة : نريد أن نفحصها فربما تكون حاملا بالفعل. فقالت له عائشة : دعنا نفعل ذلك وسوف نخبركم .

وقامت بالفعل ففحصتها بين الصراخ والزعيق الذي صرع الدنيا فوجدتها قد تعرضت لاعتداء واضح لكنه لم يؤثر عليها كثيرا وليس هناك ما يشير إلى حمل ، وظلت على هذه الحال يومين كاملين حتى ظننا من شدة الألم الذي نزل بها أن منيتها قد دنت . . فجعلنا نقرع الباب عليهم وننادي : -هالة ستموت . . نريد طبيبا . . فأتى أحد العناصر يسأل ماذا حدث ، فقلنا له إنها تكاد تموت من الألم . . فأجابنا بكل برود وجلافة :- وماذا في ذلك؟ مسموح هنا حسب القانون أن يموت 7% من المساجين ! وأمام إلحاحنا الذي لم يتوقف ونحن نراها على هذه الحال أحضروا لها آخر الأمر طبيب الفرع المخصص لا لعلاج السجناء بالطبع وإنما للضباط والعناصر ، فلما كشف عليها قال لهم : -ليس لديها شيء . . مجرد إمساك. وأعطاها تحاميل ومرهما أذكر أنني وضعتهم لها بنفسي . . وبعد قليل يا لطيف دخلت الحمام فخنقتنا الرائحة حتى كدنا نموت ! وكان نهارا لا ينسى حتى طرقت الحاجة الباب وسألتهم أن يفتحوه قليلا قبل أن نختنق جميعا !فسألها مستغربا : ما هذا . . ماذا لديكم . . ماذا فعلتم ؟ فأجابته الحاجة تضحك : فعلتها المدللة !


شويط اللحم !

والذي يبدو أن مسؤولي الفرع قرروا بعد استمرار هالة بتصرفاتها تلك القيام بمحاولة جديدة لامتحانها ، فرأوا أن يخرجوا ابن خالها السجين في نفس الفرع ويجمعوهما معا ليروا رد فعلها من اللقاء ، فسألت الحاجة مديحة رئيس قسم التحقيق أبا فهد أن يسمح لها بمرافقتها علها تستأنس وتتكلم . . ففعل .

فأخرجوهم معا إلى غرفة التحقيق بالقبو وكانت هالة وقتها قد نزعت الحجاب بالمرة وما عادت تبالي بستر أو بلباس ، فخرجت منكوشة الشعر تلبس تنورة ممزقة وتحملق في المجهول ، فما أن راها ابن خالتها بهذه الحال حتى أخذ يناديها بألم : هالة . . هالة . . لماذا تفعلين هذا بنفسك ؟ أنا ابن خالك . . وأمسكها يهزها وهي لا حياة لمن تنادي . . والمسكين يبكي ويقول لها : -يا هالة . . أنا ابن خالك . . أنا فلان . . ولكنها لم تبد أي ردة فعل ولم تظهر أية حركة ، فأتى إبراهيم وفتح باب المهجع علينا ثم جرها إليه جرا ودفعها لتدخل ونحن كلنا نراقب ما جري فما دخلت ، ووضعت يديها على طرفي الباب ووقفت مكانها فاجتمع أربعة عناصر يدفعونها تارة ويسحبونها أخرى ولكنهم ما استطاعوا أن يزحزحونها قيد أنملة . . فأشعل أحدهم السيكارة وجعل يلسع لها يدها ويزيد ويكرر حتى وصلت والله رائحة شويط اللحم إلى أنوفنا وهي لا تزحزح أصبعا واحدا وكأنها لا تحس بشيء . . فلم أتمالك نفسي أمام هذا المنظر الرهيب وصرت أصرخ بلا وعي : – منشان الله . . والله حرام . . حرام . وفي آخر الأمر تعاونوا فحملوها حملا وألقوها كقطعة من خشب على أرض المهجع وأقفلوا الباب . ولم تمض فترة على ذلك اللقاء حتى وجدناهم يستدعونها ثانية لمقابلة والدتها التي علمنا من بعد أنها دفعت مبلغا كبيرا ثمن ذلك ، وكان والد هالة قد أصيب بجلطة إثر اعتقال ابنته فنقل إلى المستشفى ولكنه ما لبث أن مات هناك بعد فترة . . وحضرت الأم الملتاعة إلى السجن وهي لا تزال متشحة بالسواد ، لكن اللقاء أثر بالسلب على الأم والبنت معا ، ففيما ازدادت صدمة البنت وقد علمت بوفاة أبيها تعاظمت لوعة الأم التي هالها أن تجد ابنتها فقدت العقل وانقلبت في تصرفاتها وشكلها أسوأ من المجانين . . فأصاب الأخرى ما يشبه الإنهيار ، ولم يستطيعوا أن يخرجوها من الفرع إلا شحطا !


وتكلمت هالة !

وانتهت المقابلة ، ولكن عذاب المسكينة وتعذيبها لم ينته ، فبعد فترة من الزمان وكان قد انقض على وجودها معنا حوالي الثلاثة أشهر كان باب المهجع مفتوحا للتنفس ، فما وجدناها إلا وقد ارتدت ملابسها وحملت حقيبتها ووضعت غطاء صلاة على رأسها وركضت بلا مقدمات خارج المهجع . . فلما رآها السجان هيثم اندفع وراءها يريد الإمساك بها فزلقت قدمه ووقع على قفاه . . وركض بقية العناصر فأمسكوا بها وأعادوها !لى المهجع .

فسألتها الحاجة: إلى أين كنت ذاهبة ؟ قالت : عيد ميلاد أمي . . رايحة أحضر عيد ميلاد أمي ! ودخل ابراهيم وقد التأم منها بشكل كبير وكانت جالسة على الأرض مثلما ألقاها العناصر فصفعها على وجهها صفعة خبطت رأسها مرتين في الجدار،ثم أمسك بهاوهويصيح : تريدين أن تخدعيننا وتهربي يا . . . وبدأ يلف يدها وراء ظهرها . . ويصفعها . . ثم يدير يدها أكثر ويصفعها . . ونحن كلنا نصيح ونستغيث . . فلا هو يرحمها ولا وهى بين يديه تتلقى العذاب تنبس ببنت شفة ! وعلى هذه الحال ظلت هالة تتعذب وتعذبنا لعذابها حتى كانت أول مرة تكلمت فيها معي حينما كانت مستلقية ذات مرة ، فلاحظت أن أظافرها قد طالت جدا فقلت لنفسي : فلأحاول معها من جديد .

وسألتها: -قولي لي يا أختي . . ما اسمك ؟ ففوجئت بها تجيبني بصوت كأنما هو قادم من عالم اخر : -اسمي على كسمي . .اسمي مخبا بنسمي ! انتفضت وأنا أصيح : حجة . . حكت . . حكييت ! .

وسألتها من ثم وأنا بين مصدقة لما أسمع ومكذبة : – ما رأيك أن أقص لك أظافرك ؟ ومددت يدي أحاول أن أمسك بأصابعها فما وجدتها إلا وقد نترتهم من بين يدي نترا قطعني من الرعب ، فانكمشت على طرف وألغيت الفكرة وما عاودت الإقتراب ! وفي مرة تالية أردنا أن نحممها ثانية فقلنا لعلنا إذا أخرجناها إلى حمامات الشباب وجدت المكان أوسع فتستجيب بسهولة ، فلما أخرجناها وأخذنا معنا بقجة ثياب . . سألت : – إلى أين أنتم تأخذونني ؟ إلى التلفزيون ! ولم تلبث أن انفجرت في الصراخ والبكاء فأرجعناها! وفيما بعد وعندما بدأت تتقبل فكرة الحمام قالت للحاجة عندما: سألتها أن تتحمم : لن أفعل حتى تخلع لي هذه ثوبها.مشيرة إلى ماجدة .

فقالت لها الحاجة! – لكنها إذا فعلت فليس لديها ثوب آخر تلبسه . . أنا عندي ثوب والله أرسله أهلي لي وما مسسته أو لبسته وهو غالي علي . . : ولم تكن الحاجة قد لبسته من قبل بالفعل فأخرجته خصيصا لها لعلها تقبل به ،لكنها لم تفعل وكررت طلبها لثوب ماجدة، فخلعته ماجدة لها اخر الأمر.. وقامت الحاجة فأعطت ماجدة بدورها الثوب الجديد!


الأحمر ممنوع والماء مرفوض

وكان مما لاحظناه على هالة أنها تخاف كل شيء أحمر اللون وتنفر منه فعند ما كانت تشاهد ضوء سخان الحمام الأحمر كنا نحس بهلعها وتوترها وكأنه يثير شيئا بأعصابها لا نعلمه . . وكانت ماجدة تضع حلقا على شكل وردة فيه حجرة صغيرة حمراء ،فكانت هالة تحملق فيه أيضا وترتسم على وجهها معالم الخوف . . فقمنا وغطينا الزر بكيس ورق ، وخلعت ماجدة حلقها وأخفته . وكانت عائشة تضع نظارات طبية ،.

فكانت هالة تحملق في النظارات فترة طويلة..وتظل تدنو من وجهها وتبتعد وتعود فتدنو تنظر كما يبدو إلى صورتها المرتسمة على زجاج النظارات ولا تمل وبعد فترة وهكذا بلا مقدمات قالت إنها عطشى . . فملأنا لها كأسا ! من حنفية الحمام حيث نشرب كلنا،فنظرت إلينا هكذا جميعا وقالت بترفع.”

-هل يسقي أحد بوله للثاني ! فقالت لها الحاجة :طيب . . سنأتي لك بأحسن كأس ماء في السجن كله وطرقت الباب فجاء أبو عادل يسأل ما الأمر، فقالت له الحاجة نريد كأس ماء للست هالة . . تريد أن تشرب .

– قال مستغربا:ألايوجدلديكم ماء؟ فأجابته الحاجة : الماء الذي لدينا لا يشرب مع هالة ! فذهب وأتى لها بكأس ماء أعطتها الحاجة إياه ،فنظرت في ثم فينا وقالت: هذا وسخ وبصقت فيه فسألته الحاجة أن يأتي بآخر ففعل ،ولما قدمته لها فعلت الشيء نفسه . .وعادت الحاجة فرجته أن يجلب لها كأسا آخر فاستجاب أيضا وكأنما اندمج في هذه التجربة المثيرة ! لكن الفعل تكرر وعاد فتكرر حتى اجتمعت أمامها سبع كاسات مصفوفة بصقت فيها جميعا وماشربت ولاقطرة! ومرة أخرى وفي إحدى جلسات التسلية كنا نمثل على أننا مثل اللاجئين الفلسطينيين نرسل سلامات لأهلنا عبر الراديو . . فكانت كل واحدة منا تعبر عن مشاعرها وأشواقها بهذه الطريقة ، فكانت الحاجة رياض تقول -أهدي سلامي إلى أمي . . يا حنونتي . . إيش عم تعملي هلق .ا أى أنك جالسة تنشقي وتبكي . . وتنخرط في البكاء . . فتبدأ المناحة ويبدأ الكل في البكاء على  ! أثرها. .فسألناها مرة: – هالة . . ألا تريدين أن تشاركي معنا في الإذاعة؟ وقالت لها أم شيماء: هيا هالة . .أنشدي لنا نشيدا.

فما وجدناها إلا وقد انبلقت مرة واحدة تنشد”توحيد ربي .- ومضت بها فما توقفت حتى نهاية النشيد وجاء السجان وقال : ما هذا؟ عاملين مولد نبوي فقالت له الحاجة : دعنا الآن بحالنا . . أغلق الطاقة واذهب الآن. وكأننا بفرحتنا بكلامها قد ولد لنا أول مولود، فجلسنا نحمد الله أنها نطقت وكسرت عن نفسها حاجز الصمت آخر الأمر

خمس دقائق وحسب” تسع سنوات في سجون سورية الحلقةالثانية

الفصل الثاني : كفر سوسة : رحلة خارج الزمن (يناير 1981 – أكتوبر 1982 )

كفر سوسة : رحله خارج الزمان

عبرت السيارات الثلاث بوابة السجن العامة مضيا نحو المبنى الرئيسي الذي انتصب أمامنا بطوابقه الثلاث ، والتفط السائق حوله بين ممرات ومداخل معقدة حتى بلغ بابا كهربائيا توقف بنا عنده ، واجتذبتنا الأيادي مرة أخرى فاقتادتنا عبر ساحة المبنى الداخلية إلى باب اخر تنزل خمس درجات منه إلى القبو المعتم ، فإذا هو عالم اخر من عوالم الرعب التي قطعناها خلال اليومين الماضيين عن غير ما اختيار .

مضت الأيدي القاسية عبر ممر القبو المظلم فالتفت بنا جهة اليسار وليس في طريقنا إلا الصمت والأ بواب الحديدية الكئيبة ووحشة المكان ، ولم يلبث أن قطع لهاثنا المتدفق صوت أجش أتانا من وسط العتمة ينادي : -منيرة! فما كدنا نلمح المنادي حتى بدت من الجهة المقابلة في اخر الممر فتاة مضفورة الشعر ترتدي “جلابية” شاعت موضتها وقتذاك ، وجعلت تتقدم نحونا متمايلة يوحي مظهرها أنها سجانة أو موظفة هناك . . فلما اقتربت ومن غير أن يلتفت إلينا قال لها أبو عادل رئيس نوبة السجانين وقتذاك : – هيا فتشيهن واحدة واحدة .

ودفع بي أول الجميع إلى غرفة علمنا بعدها أنها غرفة التحقيق والتعذيب ، ودخلت منيرة هذه ورائي وسألتني ؟ – ما اسمك ؟ قلت وقد بلغ التوتر بي مبلغا : وماذا تريدين من اسمي ؟ أحسست وقتها أن بامكاني أن أقتلها من شدة توتري بيدي . . لكنها قالت ببرود : -وليش معصبة؟ .

قلت : والله لا أدري ! ماذا تريدينني أن أفعل ؟ هل يمكن للإنسان أن يكون مبسوطا هنا ! أجابت بنفس برودها ورتابة صوتها : بس لا تعصبي . . أنا سجينة مثلك. قلت بحدة : لماذا تكذبين على ؟ شكلك هذا ليس كشكل السجينات .

قالت : والله العظيم أنا سجينة وقاعدة في مهجع مملوء بنسوان من الإخوان . لم أجرؤ أن أزيد معها وظننتها سجانة تريد أن تستدرجني في الكلام خاصة وأنها تتحدث بالقاف العلوية ، لكنها عادت وقالت لي : ما صدقتيني ؟ بكره بنلتقي بالمهجع وبذكرك .

أحسست لهجة صدق في حديثها فاستأنست بعض الشيء وسألتها دون أن أغادر الحذر : – ومن معك من الإخوان هناك ؟ قالت : هناك واحدة حاجة من حلب وأخرى اسمها أم شيماء و جلست تعد لي أسماء وألقاب لا أعرفها وأضافت : وأنا الشيوعية الوحيدة في المهجع والبقية كلهن من الإخوان فتشتني منيرة بعد ذلك ، وفعلت الشيء نفسه مع ماجدة وملك بالتتابع ، وكان العنصر في انتظاري حينما انتهت ، فأخذني وأصعدني ثانية من القبو ، واقتادني عبر سلالم وممرات عديدة إلى المبنى الجنوبي للفرع ، ليبدأ التحقيق معي حسب الأصول !


بين يدي الجلاد !

كان كل ما حولي يثير الفزع والإضطراب : هذا داخل وذاك خارج . . باب يقفل واخر من أين لا أدري يفتح . . وكل قادم أو عابر يحمل بيده جهاز لاسلكي أو كبلا أو أداة أخرى للتعذيب . . وفي البداية أدخلوني على مكتب رئيس الفرع ناصيف خير بك ، فأحسست وكأنني انتقلت إلى عالم اخر . . فالغرفة واسعة دافئة أنيقة التأثيث ، يمتد السجاد الفاخر على أرضهما بمهابة وقد توزعت عليه كنبات وثيرة ومكتبة ومكتب فاخر يحتل تمثال لرأس الرئيس الأسد ركنا منه ، بينما ينتصب في زاوية الغرفة القصوى تمثال برونزي آخر لرأس الرئيس بالحجم الطبيعي .

وأما المقدم ناصيف الذي كان منهمكا بمحادثة لاسلكية وقتها فلم يعرني أكثر من نظرة ازدراء بطرف عينه ، وأومأ للعنصر أن يعيدني إلى مكاني وأكمل حديثه . . ولم ألبث أن اقتادني ذاك ثانية إلى غرفة أخرى مقابل مكتب ناصيف ، فوجدت مجموعة أشخاص مجتمعين على شاب مقيد يعذبونه ويحققون معه ، وناصيف ممسك جهاز اللاسلكي بيده يتحدث فيه مرة ومع الشاب المسكين والعناصر مرة .

ولم يلبث أن أشار بيده إلى العنصر الذي أحضرني فجذبني ذاك من منكبي وأمرني أن أنتظر خارج الغرفة من جديد ، وأنا كالنائمة لا أكاد أقدر على متابعة المشاهد المتجددة والوجوه المتعاقبة والأصوات التي تختلط الشتائم فيها بالإستغاثات والآهات ! وسرعان ما عاد العنصر فأدخلني الغرفة ذاتها لأحضر تعذيب الشاب نفسه لعلي أخاف وأتكلم ما يريدون .

كانوا أربعة أو خمسة يشتركون في التعذيب أمامي بالكابل والعصي والخيزران والكهرباء : ناصيف خير بك رئيس الفرع ، والرائد عبد العزيز ثلجة وهو رجل ضخم الجثة بالغ الجلافة ، وعناصر آخرون كان أحدهم لم يبلغ العشرين بعد مجندا من درعا كما عرفت لاحقا ينادونه حسين ، ولم أعرف من كان ذاك الشاب ولماذا يعذبونه ، لكنه كان يصيح طوال التعذيب ويستغيث مناديا : – والله العظيم موأنا . . ثم اعترف اخر الأمر لا أدري ليتخلص من مزيد من العذاب أم لسبب اخر فأقرأنه قتل أحد الضباط . . وعندما اشتد التعذيب عليه وكاد صراخه يصيبني بالإنهيار التفت إلى العنصر معي وسألته : -لماذا أتيتم بي هنا ؟ قال بسخرية : لا أعرف . . إسأليهم.

قلت بانفعال : لا أريد أن أسألهم ولكن أنا ما عندي شيء لأعترف به ويضعوني في هذا الموقف فأتفرج على تعذيب الناس . ولم يزد العنصر عن أن هز كتفيه وابتسم متهكما وهو يقول : -لا أعرف . . لا علاقة لي بأي شيء هنا ! واستمر الضرب والتعذيب حوالي نصف الساعة أنهضوا الشاب بعدها مضرجا بالدماء والكدمات فكبلوا يديه ورجليه ، وفيما اقتادني العنصر وراءه لأكمل كما يبدو رؤية المشهد ، سحب الرائد ثلجة الشاب إلى رأس الدرج ، ثم ركله برجله بكل قسوة ، فتدحرج هاويا يئن ، ونادى على أحد ما هنالك لينزله إلى المنفردة في القبو أسفل المبنى ، وعاد فأمر العنصر ليدخلني إلى الغرفة مرة أخرى ، فأوقفني في زاويتها ، وجعل ناصيف وثلجة يتحدثان باللاسلكي لا أدري مع من ، ثم خرج الجميع فجأة ، ليعود الرائد ثلجة وحده ويغلق الباب كهربائيا بضغطة زر ، فاستوى الباب بالجدار حتى لم أعد أدري من أين دخل ولا أين كان هذا الباب . . ومن غير أن يلفظ أي كلمة أو يسألنى أي سؤال لم أحس إلا وصفعة مفاجئة تأتيني على حين غرة اصطدم رأسي من عزمها بالجدار وارتد ، وصارت الدنيا تدور كلها في ، وصرت أرى الرائد أمامي أربعة أشخاص معا ، وأرى رأسي أسفل مني ورجلاي فوق الرأس وفوقي ! لم يزد عن أن قال : – انظري . . إذا ما بدك تحكي ما بتعرفي ما الذي سيحصل لك .


بساط الريح !

خروج الرائد ثلجة برهة لم أكد أتمالك فيها نفسي حتى عاد مع ناصيف ورئيس الدورية التي أحضرتنا من البيت وشخص رابع لم أعرف من كان . وابتدرني ناصيف يقول : -وليك . . شو ما بدك تحكي ؟ ما بدك تقري وتدلينا فين أخوك ؟ قلت له :أخي ليس هنا . قال : إذا أين هو ؟

قلت : لا أعرف الظاهرأنه ذهب ليكمل دراسته . وواقع الأمر فإن أخي صفوان كان قد أخبر أمي عندما زارته في الأردن وقال لهما : إذا سألك أبي أين أنا فقولي له ذهب ليكمل دراسته في الباكستان .

تذكرت ذلك بمجرد أن سألني عنه ، ولم أكن أدري وقتها بأن أمي كانت معتقلة في نفس السجن معي ، وأنه سألها قبل دقائق عن أخي فأجابت الجواب نفسه ، والتقى كلامي مع كلامها في هذه النقطة ، الأمر الذي أعفاني من التعذيب على ذلك السؤال ، ولكنه سألني بلؤم : -أنت تعرفين بأن أخاك هنا ، وسوف تأخذيننا وتدليننا عليه ، أو على رفاقه والبيت الذي يجلسون فيه .

قلت : لا أعلم أي شيء من هذا . . فنادى على أحدهم وقال له : إذهب وأحضر لها بنطالا وأعطها إياه خليها تنستر وضعها على بساط الريح .

تقدم العنصر مني وطرحني على لوح من الخشب له أحزمة طوق بها رقبتي ورسغي وبطني وركبي ومشط رجلي ، ولما تأكد من تثبيتي رفع القسم السفلي من لوح الخشب فجأة فبات كالزاوية القائمة ، ووجدتني وأنا بين الدهشة والرعب مرفوعة الرجلين في الهواء وقد سقط الجلباب عنهما ولم يعد يغطيهما إلا الجوارب والسروال الشتوي الطويل ، ولا قدره لي على تحريك أي من مفاصل جسمي . . وبكل وقاحة صاح العنصر يقول : – انظر سيدي .. أرأيت ؟ قالت إنها ليست من الإخوان . . ولكن انظر كيف أنها منهم ومجهزة نفسها للفلقة ولا حاجة لها للبنطلون ! حاولت دفع أي من القيود الجلدية عن مفاصلي فما استطعت . . وقبل أن أحاول إعادة لوح الخشب إلى استقامته طلبا للستر كانوا قد علقوه من جنزير مثبت به إلى السقف ، وتقدم رئيس الدورية التي اعتقلنا وبيده خيزرانة طويلة رفيعة وسألنى بلهجة تهديد صريح : -شوما بدك تحكي ؟

قلت :ليس لدي أي شيء لأحكيه . في نفس الوقت كان الرائد ثلجة فوق رأسي يجهز مولدا كهربائيا مربع الشكل موصولا بالفيش وله يد يدار بها وملاقط قربها مني وأطبقها فجأة على أصابع يدي . . وفيما هوى ذاك بالخيزرانة على بطن رجلي أطلق هذا شحنة من الكهرباء سرت كالنار في بدنى ، فقال دون أن يلتفت لصرختي : -هه إلسه مابدك تحكي ؟ صرخت : قلت لكم ماعندي شيء للحكي .

قال ببرود : أرأيت كم كانت الكهرباء قوية؟ هذه أخف الموجود لدينا! قلت : حتى ولو كان ، هل أعترف بأشياء أنا لم أفعلها ! قال : لا . . أنت تكذبين وتخبين علينا . . بدك تقومي الآن تأخذينا وتدلينا على البيت الذي يسكن فيه أخوك ورفاقه والا فسنأخذك إلى تدمر ! وأقبل ثلجة هنا بصورة قربها من وجهى وسألنى : – هل تعرفين هذا الشاب ؟ قلت :لا. قال : كيف ؟ ألا تعرفين رفاق أخيك ؟ قلت :لا.

قال : لكن هذا رفيق أخيك الحميم . . هذا عبد الكريم رجب . . ألا تعرفينه ؟ قلت بحزم وقد تأكدت لي الوشاية الرخيصة التي حيكت لي : لا . . لا أعرفه . تبسم الرائد ثلجة ابتسامة صفراء وشرع يقرأ من مجموعة أوراق بين يديه بعين ، وعينه الأخرى تتاج انفعالات وجهي : – هبة الدباغ : منظمة مع الإخوان وتتعامل معهم . . اشترت لهم بيتا ، وتعطي دروسا لسيد قطب في مساجد دمشق و . . صرخت بانفعال وأنا أسمع قائمة الإتهامات الكاذبة للمرة الألف : كذب . . كذب . . لا أعرف أي شيء تتحدث عنه .

دس الرائد ثلجة الأوراق بوجهي وهو يقول : -ألا تري ؟ هذا كله مكتوب هنا . . كله من اعترافات الرجب . . هو الذي تكلم عنك بهذا ، وهو من الإخوان مائة في المائة ويعرف عنك كل شيء ولا بدوأنك تعرفينه أيضا . . عدت إلى قولة كلا . . وعاد التعذيب من جديد ، وصار رئيس الدورية يضرب قدمي بكل عزمه ، حتى أصبحت الخيزرانة عندما تهوي عليهما تشق الهواء بصوت كالصفير ، وجاء عنصر آخر بخيزرانة ثانية وجعل يشارك معه الضرب ، فيما عاد عبد العزيز ثلجة فقبع فوق رأسي وجعل يكوي أصابعي بالكهرباء من جديد .

كان الألم أشد من أن يوصف . . وكنت في البداية أصيح : يا الله . . لكنني لم أعد أستطيع اخر الأمر أن أخرج صوتي ، فصرت ألوح برأسي فقط ولم أعد أحس بشيء . . ووجدتهم بعد عشر دقائق تقريبا من الضرب المتواصل يتوقفون فجأة ، ومع الشتائم والعبارات البذيئة طرق سمعي عبارة : – إلى تدمر! وسرعان ما انفكت القيود عن مفاصلي ، وسحبني عنصر من غرفة التعذيب عبر الممرات والسلالم ثانية إلى سيارة متوقفة عند الباب ، ففوجئت برفيقتي ماجدة قد سبقتني إليها بحراسة عنصر آخر . أركبانا معا ولكنني لم أجرؤأن أتحدث معها بشيء . . وانطلقت السيارة بحركة مسرحية إلى أن بلغت الباب الخارجي ، فسألنى من جديد : -لسه ما بدك تحكي ؟ أحسست وكأن أعصابي المشدودة تصيح كلها معي بصوت واحد : -ما عندي أي شيىء أحكيه . . أنا لا علاقة لي بأحد . . هل تريدون أن أكذب عليكم فقط ؟

هل تريدون ! توقفت السيارة ، ولم يلبث السائق أن عاد بنا إلى المبنى من جديد، وأعادوني مرة أخرى إلى التعذيب . . وعادت نفس الأسئلة والإتهامات تطرح علي ، لكن الضرب والتعذيب اشتد أكثر ، وزاد عدد المشاركين بتعذيبي حتى لم أعد أستطيع أن أعرف عدد من حولي أو عدد المحصي والخيزرانات التي تهوي على رجلي . . وبدأت أرى الغرفة كلها عصيا وخيزرانات . . والناس فيها من كثرة أسئلتهم كالضفادع تنق وتنق بصوت واحد غامض . . فلم أعد في النهاية أجيب على أحد ! وأتاني صوت الرائد ثلجة من جديد

يقول : – ها . . أنت إذا مسلحة . . انظروا إليها . . تدعي البراءة وتنفي أنها منظمة وهي ليست من الإخوان وحسب . . ولكنها مسلحة أيضا! أحسست أن تهمة أكبر تلفق لي هذه المرة فصرخت بعصبية : لا . .أنا لا علاقة لى بأحد . . وأنا لست مسلحة . قال : ولكن رفيقتك ماجدة هي التي قالت ذلك عنك .

قلت : لا تصدقها . . أحضرها لتقول ذلك أمامي . . ربما قالت ذلك من خوفها حتى تنجو من الضرب . قال : لا . . رفيقتك لا تكذب . . هى أصدق منك . . تكلمت عن كل شيء وما تعذبت ، وأنت أذا لم تتكلمي فستبقي تأكلي ضربا حتى تحكي .

وتقدم ثلجة من جديد نحوي وبيده بطارية كهرباء وضعها على فمي مباشرة وقال بلهجة التهديد : -الن تتكلمي ؟

قلت : ما عندي شيء أحكيه . . مهما وضعت لي الكهرباء أو أطعمتني ضربا فما عندي شيء أحكيه ولن أكذب على نفسي .

وهنا صاح ناصيف بضجر : – هيا أنهضها وأعطها ورقة لتكتب ما لديها من معلومات وسنرى بعدها . والتفت نحوي مهددا

يقول : -إذا لم تتحدثي بكل شيء هذه المرة فاعلمي أن لدينا عناصر الواحد منم كالوحش يسد الباب . وأضاف : – هل تعرفين ألشوايا الديرية كيف يكون شكلهم ؟ إذا لم تعترفي فسأدخلهم عليك وسنرى بعدها !


الموت راحة المؤمن !

أنهضوني عن “بساط الريح ” فوجدت نفسي مبللة من غير أن أشعر، وكنت كأنما أغمي علي أثناء التعذيب فدلقوا علي سطل ماء حتى أصحو . تلفت حولي كالسكرى فرأيت الغرفة خلت تقريبا من الناس ، وأدركت من خلال نافذة كانت فوق رأسي أن الدنيا قد أصبحت ليلا ، فقدرت أن ساعتين أو ثلاث انقضت علي وأنا في التعذيب ! وبينا أنا لا أزال أحاول استعادة توازني جاء أحد العناصر بورقة وقلم وجلس أمامي يقول : – انظري . . إذا حكيت فستساعدي نفسك ، وإلا فستطمسي أكثر مما أنت طامسة . قلت له : ماعندي أي شيء أحكيه . قال : لا أحد يأتون به إلى هنا وما عنده شيء . . ولا أحد يصل هنا إلا إذا كان مذنبا . قلت له : ولكن أنا ليس لدي أي شيء .

قال : أنت حرة . وأعطاني استمارة معلومات عامة عن دراستي ومدارسي ثم عن علاقتي بتنظيم الإخوان . . أجبت بما أعرف وأعطيت الورقة للعنصر فذهب بها ، ولم يلبث أن عاد الرائد ثلجة يلوح بها وملامح الغضب بادية على وجهه وهو يصرخ في : – هل هذه أجوبة تلك التي أجبت بها يا أخت ال . . . واندلقت كل الشتائم والعبارات البذيئة دفعة واحدة من لسانه وكأنها كانت تنتظر فرصتها للإفلات وفى آخر عبارة أطلقها سمعته

يقول :أنت تعرفين هذا البيت الذى يسكن فيه أخوك ورفاقه وبدك تدلينا عليه الآن لكن أنا أعرف لماذا لا تريدين ذلك . . تريدين أن تماطلى بالوقت حتى يهربوا اوسجل دون أن أرد عليه بعض الكلمات على الاوراق التى معه وخرج ولم يلبث أن عاد وقالو خرج ، ولم يلبث أن عاد وقال : – إذالم تتكلمي فسننزلك إلى القبو ،والقبو إذا نزلت إليه لا تخرجى منه حتى تموتى قلت له : أحسن. . الموت راحة المؤمن !

قال بغيظ :وتجيبين بكل وقاحة وكل عين يخرب بيتك الم تحسي كم أكلت من قتل ؟ ألا تفكري في أن ترحمى نفسك وتعترفى لتخلصى من هذا العذاب.

قلت له :لكن أنا ليس لدي أي شيء حتى أعترف به . . قلت لكم ماعندى شىء  : في تلك اللحظة دخل ناصيف خير بك من وسمعنى أقول ذلك جديد للرائد ثلجة ،فابتدرني بتكشيرة ونظرة مرعبة وقال والشتائم البذيئة تسبق كلماته- إذا الم تعترفي بكل شيء الان .. مباشرة . .فسوف أعريك من ثيابك صحت وقد هزني التهديد:لكن انا ما عندي شيء احكيه . قال بلهجة الأمر:إخلعي جلبابك .وقفت هنا ونظرت إليه والخوف الحقيقي يغمر قلبي لأول مرة . ل قال ألا تريدين أن تخلعيه؟ أنا سأخلعه لك. وتقدم مني فمد يده يريد أن يفك أزرار الجلباب فما وجد شيئا .

ففي تفصيلة ذلك الجلباب كانت الأزرار مخفية ، فحول يده وأنا أحاول مدافعته إلى رأسي لينزع حجابي فلم يستطع . . أمسكني من شعرى تحت الحجاب وكان طويلا وقتها وملفوفا للخلف أمسكني منه وبدأ يشده فينجذب رأسي كله من غير إرادة مني إليه ،ثم يعود ويخبطه بالجدار . .وسيل الشتائم البذيئة يرافق ذلك كله ،لكنه لم يتمكن رغم ذلك من نزع الحجاب لأن غطاء الصلاة كان قد نزل في أكمامي عندما لبست الجلباب فوقه ساعة الإعتقال . .

فصاح بي : وتقولي عن نفسك أنك لست من الإخوان وثيابك كلها ملتصقة ببدنك التصاقا والجلباب أزراره سرية ومخفية ومجهز اخر تجهيز! .

ومع استمرار صمتى وسيل الشتائم منه نادى أحدهم ليعطيه الكبل أو الخيزرانة ليجدد ضربي . . ووقتها كانت قدماي قد تورمتا من الضرب ولم يعد بإمكاني لبس الحذاء، فقال وهويتناول ماطلب :لا تريدين الكلام ؟ أنا سأريك ” وتقدم ليبدأ ضربي ، فركضت بعفوية منه والتجأت وراء الطاولة فركض ورائي . . وبدأت أركض وأدورحولها وهويركض ورائي ليمسك بى ويصيح : يخرب بيتك كل هذا التعذيب والضرب ولازال فيك روح لتنطي وتركضى ونادى الحاجب وقال له : أمسكها من عندك فلما تقدم العنصر وأمسكني صاح ناصيف فيه : خذها . . خذها تنقلع من وجهى . . خذها إلى المنفردة . . لا أريد أن أراها أكثر من ذلك. لم أصدق أن حفل التعذيب قد انتهى ولم أعي مامعنى أن أذهب الى المنفرده إلا عندما دفع العنصر حذائى الى وجذبنى خارج الغرفه وجعل يقودنى عبرالسلالم والممرات ثانية نزولا هذه المرة وهو يقول لى: لماذا؟ لماذا لم تتكلمي ؟ أما كان ذلك أفضل لك ؟ كنت على الأقل رأفت بحالك . . أنظري كيف انتفخ وجهك وازرقت يداك وتورمت رجلاك وأكلت قتل الدنيا حتى لم تعودي تستطيعين أن تلبسي حذائك .

قلت : ما عندي شيء أحكيه . وأضفت وقد فاض بي الأمر ولم أعد ألقي بالا لكلماتي : الله لا يعطيهم العافية هؤلاء الظلام . . لكنه وكأنما كان يؤدي دورا مرسوما لم يلتفت لعبارتي وأكمل يقول : لكن لو أنك كذبت عليهم كنت خلصت حالك.

قلت :- أنا لا أكذب وأعلم أن الذي يصدق هنا أو يكذب فنتيجته واحدة .

سألنى بدهاء: وكيف عرفت ذلك ؟

قلت : – لأنهم لم يصدقونني . . قلت لهم الحقيقة فلم يصدقوا فكيف سيفعلون إن أنا كذبت عليهم ! كنا قد وصلنا باب القبو أخيرا ، فوجدت حسين . . العنصر الذي كان يشارك قبل قليل في تعذيب الشاب في الأعلى يطل علينا بوجه مظلم وقد فتح فمه على ابتسامة سخرية تكشف سنا مقلوعة فى الوسط فكأنها نافذة في بيت خرب . . استقبلني وبيده كبل يتلوى مثلما تلوت كلمات الترحيب الساخر على فمه وهو يقول : -أهلا . . أهلا وسهلا . . والله نورت !


قن الدجاج !

أمسكني حسين من كتفي وأنزلني الدرجات الخمس إلى أسفل ، واقتادني من جديد عبر الممر المعتم إلى ثاني زنزانة منفردة في ممر آخر لا يكاد يبدو آخره ، وقال وهو يشير إلى الداخل -هذا مكانك . . غرفتك العامرة . . وان شاء الله نومة هنية ! أحسست بالنفور من الظلمة ووحشة المكان وكنت لا أزال متوترة الأعصاب جدا فقلت بلا وعي : – لا والله . . لا أدخلها أبدا ! قال وهو يدفعني إلى الزنزانة بغلظة : -إي بدك تدخلي بكسر رأسك .

التفت إلى أبواب الغرف الأخرى فلمحت صديقاتي زميلات السكن معي يطللن بوجوههن من طاقات الزنازين التي وزعوهن عليها ، فركضت نحوهن وأنا أصيح : فاطمة . . فلانة . . فجذبني بقوة وهو يقول : تعالي . . تعالي . . هل تظنين نفسك في فندق أو في زيارة ! وفجأة سمعت من آخر الزنازين (رقم 24 ) صوت أمي التي يبدو أنها سمعت صوتي أيضا فبدأت تدعو عليهم بصوت عال وتصيح : -هؤلاء حريمات تتقوون عليهن يا ظلام . . ما عندكم رحمة ! والله أنا طول عمري أسمع أنه لا رحمة في قلوبكم ولكنني أرى ذلك الآن بعيني ! بهرتني المفاجأة . . وركضت ثانية باتجاه مصدر الصوت وأنا أصيح بدوري : -أمي هنا ؟ الله يخرب بيتكم . . ماذا تفعلون بها ؟ إخوتي صغار وأبي مريض . . ولا حول جميعا لهم ولا قوة .

فناداني حسين وهو يقهقه بسخرية : -وما حاجتنا لأبيك وإخوتك ؟ نحن نريد أمك فقط ! وذهب فأغلق نوافذ المنفردات جميعا ثم عاد يدفعني إلى المنفردة وأنا أحاول المقاومة وأتكىء على زاوية الباب ، فقال لي مهددا : -إذا لم تدخلي الآن فسأحضر كل عناصر الفرع ليدخلوك.

قلت : المكان معتم جدا ! أجاب بسخرية : أنت الآن ستنورينه . . هيا ادخلي . نظرت فإذا بعلبتين من الصفيح في زاوية الزنزانة واحدة فيها خبيص من أرز أو برغل مع مرق وفي الثانية ماء . . قلت له : والله هذا مثل قن الدجاج . . وهذه والله مثل معاملة الحيوانات ! قال : هذا عشاؤك الليلة داذا كان لك نفس لتأكلي فكليه .

قلت وقد تملكني الغيظ : أنتم تعرفون أن الذي يدخل إليكم لا تعود له نفس ليأكل ! وهنا حضر عنصر اخر متقدم في السن كان يحسن معاملتي فيما بعد قدر المستطاع . . تقدم مني وقال بصوت منخفض : – يالله يا أختي ادخلي وتوكلي على الله ولا تتركي له مزيدا من الفرص ليسخر منك.

فدخلت المنفردة وصوت أمي لا يزال يبلغ مسمعي . . ثم لم يلبث صوتها أن غاب وسط قهقهات العناصر وصياحهم وهذرهم ، وعمت المكان رائحة الخمر وصيحات المجون احتفالا بليلة رأس السنة إ! فيما لفتني في وحدتي الظلمة ووحشة المكان فازدادت أعصابي توترا ولم أستطع حتى أن أغير جلستي ، خاصة وأنهم أخذوا ماجدة بعدي إلى التحقيق وكان من الممكن أنها تعذب في تلك الساعة مثلما كان محتملا أن تقول عني أي شيء . وبقيت على هذا الحال إلى ما بعد منتصف الليل ، حينما حضر أحد العناصر واقتادني إلى غرفة التحقيق من جديد .


لون الليمون !

في غرفة التحقيق وجدت الرائد ثلجة في انتظاري يستقبلني قائلا : – لست من الإخوان أليس كذلك ؟ ولم تقومي بأي عمل لهم ولا تريدين الإعتراف . . ولكن هناك من أرسله الله ليعترف عليك الليلة . هذه رفيقتك – يقصد ماجدة – قالت بأنك مسلحة وأنها رأت السلاخ معك بعينها .

قلت له بتحد : أحضرها لأفقأ لها عينها . . هيا أحضرها لتقول ذلك أمامى . قال : هي لا تكذب ،أنا قلت لك هي لا تكذب . . هي أصدق منك ، والدليل على كذبك لونك الذي أصبح أصفر مثل الليمون .

قلت له : لي ليلتان كاملتان لم أنم ولم آكل ولم أدخل الحمام مع القتل والتعذيب ولعيان القلب ، فكيف لا يصفر لوني ! هز برأسه وهو يمط شفتيه بلا معنى وصاح للحاجب كي يعيدني للمنفردة ، فعدت إلى جلستي القلقة ذاتها وعاد إلي التوتر والأرق ، حتى أنني لم أمد البطانيات خوف أن يأتي أحد العناصر فيفتح نافذة الباب أو يدخل علي وأنا نائمة . . وبينما أنا متكورة على نفسي وسط الزنزانة أرمق الصراصير في تلك الظلمة تتسلق الجدران حولي دونما اكتراث بالنزيل الجديد . . شق جدار السكون فجأة صوت مزلاج الباب الخارجي وصياح السجانين وتدافع أقدام تتخبط مهرولة فوق الدرجات وعلى الممر باتجاه منفردة قريبة .

أدركت بحدسي أن دفعة من المعتقلين الجدد قد وصلت ، وعلمت لاحقا أنهم ستة أو سبعة شباب بين الثانية عشرة والخامسة عشرة من العمر جمعوهم من مسجد واحد وحشروهم معا في هذه المنفردة التي لا تزيد بمساحتها عن متر بمتر ونصف ! والذي يبدو أن واحدا منهم أصابه إسهال من الخوف أو التعذيب فجعل يصيح طالبا الخروج إلى الحمام ، فلا يجيبه إلا صوت العناصر الغارقين في متعة الإحتفال برأس السنة : -سد حلقك ! لكن الفتى لم يكن يستطيع الصبر ، فيعيد الرجاء وينادي : -والله بطني بتوجعني . . يا عالم . . لم أعد أستطيع ضبط نفسي . . عندها جاءه عنصر منهم وفتح النافذة وتناوله بضربة بالكبل وهو يكرر-سد حلقك واخرس يا . . .

وسكت الفتى لبرهة يا حرام ، بدأنا نشم بعدها رائحة من زنزانتهم خنقتنا . . فعاد العنصر إليه يكفر ويلعن ويقول له : -فعلتها هنا يا ابن ال . . . وأخرجه إلى الممر وانهال عليه ضربا كالمجنون ، وتعالى صراخ أمي من منفردتها ثانية تدعو عليهم وتقول له : -يخرب بيتك . . مالك قلب بشر؟ سألك أن تخرجه فلم تفعل ففعلها تحته . .ماذا يفعل المسكين بنفسه ؟ وعاد الأمر بعد هذه المهزلة إلى ما يشبه الهدوء من جديد . . ومضت ساعات الليل المتبقية تمر علي أثقل من الجبال ، وعلى الرغم من أنني لم يطرق لي النوم جفنا ليلتها إلا أنني بدأت أفقد الإحساس بما حولي ، وأتخيل ربما من شدة البرد أن الثلج قد غطى المكان كله ، وأن العناصر تستعد لاقتحام الزنزانة علي ليسحبوني في هذا الثلج فيعروني ويعذبوني للمرة الأخيرة قبل أن يرشوني وأغادر الحياة ! لكن شيئا من ذلك لم يحدث ، ولم ألبث وقد دنا وقت الفجر أن أحسست بما يشبه الطرق الخافت على الجدار من الزنزانة الأخرى المجاورة حيث وضعوا ماجدة ، فعلمت أنها تنبهني إلى موعد الصلاة ، ولم نكن خلال الفترة السابقة من الإعتقال كلها قد تمكنا من الصلاة ، فتيممت وهممت أن أبدأ ، لكنني لم أستطع معرفة اتجاه القبلة فطرقت الباب ، ولم يلبث أن حضر حسين من جديد فسألته ، فقال بسخرية : – كيف وضعت رأسك على الفلقة فهذا اتجاه القبلة ! كررت عليه السؤال مع الرجاء ، فقال بتبرم : – أنا لا أصلي . . لا أعرف ، لكنني أشاهد الشباب في المنفردات يصلون بهدا الإتجاه .

فصليت إلى حيث أشار وظهري إلى الباب ، فكان قلبي ينتفض من الرعب طوال الصلاة خشية أن يفتح أحد العناصر علي فيراني وأنا أصلى! فيحدث ما لا تحمد عقباه ! وبالفعل . . وبينما أنا في صلاتي فتح السجان ابراهيم الطاقة ليعطيني الإفطار ، فلما رآني أصلي قال بما يشبه السخرية : -شو . . عم بتصلي ؟ فلم أجب ، ولكنني أحسست أن قلبي قد سقط بين يدي ، غير أن الله سلم ، ومضى إبراهيم فأكمل توزيم الفطور على الزنزانات الأخرى ثم عاد ففتح وسألنى باستهزاء : -خلصتي ؟ الله يتقبل ! هززت برأسي دون أن أجيب ، فاكتفى بدفع طبق الطعام إلي والذهاب . . ولم يكد يفعل حتى فتحت الطاقة من جديد وكان القادم هذه المرة أبو محمد . . الرجل الذي ترفق بي لأدخل الزنزانة ليلة الأمس ،

فسألني : – ألا تريدين الخروج إلى الحمام ؟ أشرت بالإيجاب ، فلما فتح باب المنفردة أطللت على الممر برأسي فما وجدت أحدا . .

سألته : – مالي لا أسمع صوتا هنا ؟ وهذه صديقتي ملك ألم تنزل من التحقيق ؟ قال : خرجوا . . كلهم خرجوا ، وما بقي إلا أنت ورفيقتك الثانية – يقصد ماجدة – . قلت بدهشة واضطراب : وأمي ؟ قال : أنت ورفيقتك وأمك فقط . . صفوكم ! أحسست أنها النهاية وأنها راحت علينا . . خرج الجميع وبقينا نحن . . إذا فهي النهاية! سألته وأنا أشهق بالبكاء : – ولماذا أخرجوهم ولم يخرجونا نحن ؟ أنا لم يثبت أي شيء علي . . أنا بريئة .

أطرق وهو يقول : والله لا أعلم . . إسأليهم ، أنا هنا مجرد موظف. ثم غير مجرى الحديث وقال : – أتريدين أن تأكلي .. ألست جائعة؟ أنا أحضرت فطوري الخاص معي : زبدة ومربى وأشياء أخرى . . أكلت منهم وزاد معي قطعة .

تذكرت وقتها أنني لم أكن قد أكلت شيئا إلى ذلك الوقت من قبل ، لكنني لم أشأ أن آكل طعام غيري أيضا ، فشكرته واعتذرت . . ثم لما اشتد علي الجوع في اليوم الثاني بدأت آكل القشرة الخارجية للصمون الذي يحضرونه لأن الداخل عجين كله . . وقطعة الجبن التي لا يحضرونها إلا نادرا بطبيعة الحال ، وعلى هذه الحال بقيت طوال فترة بياتي في المنفردة ثمانية أيام بالتمام والكمال !


“الخط “ورعاه البقر !

طلع صباح أول أيامي في سجن كفر سوسة وأنا لا أزال قابعة أترقب في زنزانتني المجهول بوجل ، وأطل على أحداث الأيام التي مضت مصدقة ومكذبة! تلفت أتأمل “مسكني ” الجديد فإذا به أشبه بالقبر منه إلى أي شيء اخر ، وعدا الصراصير التي كانت لا تزال تبحث بمجساتها المقرفة عن شيء رطب تقتات عليه لم أستطع في البداية أن أجد على الجدار القاتم شيء ، لكن تسرب بعض الضوء واعتياد عيناي على الظلمة جعلني أبصر خطوطا مميزة بعض الشيء وشعار “الله أكبر ولله الحمد” محفورة أكثر من مرة وحولها أسماء أشخاص عديدين مروا على هذا المكان التعس قبلي . . وكان ثمة نقش لمسجد كتب حوله “لا إله إلا الله محمد رسول الله ” وأسفل منه اسم الشخص الذي نقشه على الأغلب . . كذلك لمحت خريطة لفلسطين وتحتها عبارة “الله أكبر ولله الحمدا ا! لم تكن أكثر من ساعتين على صلاة الفجر قد مضتا حين بدأت دورة يوم جديد من أيام السجن تأخذ مجراها . . فكما الكلاب تفعل كان المحققون والجلادون والسجانون لا ينامون إلا إذا دنا الفجر ويستيقظون وقت الضحى! وسرعان ما بدأت الشتائم واللعنات وعبارات الكفر بالله تختلط بفرقعة الكبلات على ظهور السجناء يقتادونهم إلى الحمامات أو إلى “الخط ” بلغة السجن المتداولة .

كان (ياسين ) المجند العلوي المتطوع أحد أجهل خلق الله وأغباهم يتصدر لهذا العمل على الدوام ، فتراه يمسك بالكبل بيده ويتفرس في طابور المعتقلين المتجه نحو الحمامات لبرهة ، ثم لا يلبث أن ينقض على المساكين لطما ولسعا يسلخ جلودهم كالدواب . . والويل كل الويل لمن كان يجرؤ ويصيح من الألم . . فجزاء ذلك مضاعفة العذاب حتى لا يعيدها ثانية! وسرعان ما انطلق صوت أمي من زنزانتها تنادي عليه : يا ولدي . . هل تظن أنك لا تزال في الضيعة التي جئت منها وهؤلاء قطيع من البقر الذي كنت ترعاه ! ولم يكن ياسين ليرضى أن يقطع متعته الصباحية شيء فاستمر يجلد الشباب ويتلذذ في خلق هذا المشهد الرهيب . . وأمي تطرق الباب بأيديها وأرجلها وتبكي ألما عليهم وحسرة وليس من مجيب ! ولم تكد تنته هذه المأساة ويهدأ المكان بعض الوقت حتى كان موعد التحقيقات قد جاء ، وعاد صراخ المعذبين وصيحات العناصر وشتائم المحققين تقرع اذاننا وتذيب منا القلوب ، ثم وكما بدأت بلا مقدمات خفتت الأصوات من جديد ، ولم ألبث أن وجدت باب الزنزانة يفتح وأحد العناصر يدعوني للذهاب إلى الحمام ، فلما أصبحت هناك وحدي وبدأت الوضوء وكل ظني أنني قد أغلقت الباب بإحكام علي فوجئت بوالدتي أمامي ، فأدهشتها المفاجأة مثلما أدهشتني . . واندفعت من فورها تحيطني بذراعيها وتسألنى وهي بادية الإضطراب : – قتلوك ؟ عذ بوك ؟ قلت أريد أن أخفف المصاب عنها : لا . . أنا بخير . لكنني كنت وقتها أضع رجلي على الحوض وأغسلها للوضوء ، فأشارت مفجوعة إليها

تقول :ولكن ما هذا ؟ رجلك كلها زرقاء وأصابعك مزرقة أيضا ولا تكاد تظهر ! هل أذاك أحد؟ هل مسك أحد ؟

قلت من جديد : لا . . الحمد لله ما مسني أحد .

سألتني وكأننا في سباق مع الزمن : ولماذا أمسكوك إذا ؟

قلت : والله لا أعرف . . يريدون أخي صفوان ويريدونني أن أدلهم عليه .

فأخبرتني هنا أنها أجابت في التحقيق كما أجبت بأنه يدرس في الباكستان ، فشعرت بارتياح لتطابق كلامي مع كلامها ، ولكنني وجدتها تتركني وتخرج إلى الممر ندعو عليهم بأعلى صوتها ، فحضر حسين راكضا وهو يصيح بالعنصر الآخر : – كيف جعلتها تدخل والأخرى لا تزال هناك ؟ ألا تعلم أن اجتماع أكثر من شخص هناك ممنوع ؟ أجاب العنصر الذي أحضر أمي : لم يكن لي عالم بوجود أحد اخر . . لماذا أغلقت أنت باب المنفردة التي كانت فيها ولم تتركه مفتوحا لأعلم أنها لا تزال في الخارج ؟ واقتاد كلاهما والدتي وهي لا تكف عن إطلاق دعواتها عليهم ، ولم تتح لي رؤيتها ثانية إلا بعد أيام ، ولم تتح لي معرفة سبب وكيفية اعتقالها إلا حينما اجتمعنا في المهجع بعد انتهاء التحقيق . . فقصت علي – رحمها الله – ما جرى بالتفصيل .


الكمين !

كانت والدتي – علية الأمير – قادمة من حماة لتحضر لي بعض أغراض كنت قد نسيتها أثناء الإجازة هناك ، ولتكمل بعدها إلى الأردن حيث استقر أخي صفوان مع كثير من الشباب الملاحقين بتهمة معارضة الحكومة والإنضمام إلى تنظيم الإخوان . . ومع والدتي حضرت أسرة ال مرقة ترافقها لزيارة ابنهم المقيم في عمان لنفس السبب .

قالت والدتي – استيقظ أبوك ليلة اعتقالك على منام مزعج أولمه شرا أصاب أخاك صفوان ، فقال لي اذهبي وا نظري أحواله ، فمضيت يرافقني المرقة وقد اتفقنا على المبيت عندكم ليلتها والتحرك إلى عمان في اليوم التالي . ، ولما وصلنا قرب بيتكم في دمشق وبت على خطوات من مدخل البناية سمعت صوتا يأتيني ويقول برجاء ظاهر : يا خالتي ارجعي . . لا تدخلي ! كان أحد الجيران ينادي من جهة لا أراها ويحذرني من الصعود بعد أن تم اعتقالكم قبل ليلة ، ولكنني لم أرد وما ظننت النداء كان لي ، فما أن طرقنا الباب حتى استقبلتنا الرشاشات وأيادي جذبتنا إلى الداخل بغلظة ، ووجدنا أنفسنا بعد ساعة زمن في سجن كفرسوسة !


أحكم الأحكمين . .

كنت وأمي تحدثني عن اعتقالها لا أقل تأثرا وحزنا على حالها من تأثري وألمي على حال هؤلاء المساكين أسرة عمر مرقة الذين اعتقلوا معها ، فوالدتهم لم تكن قد أفاقت بعد من صدمة مقتل ابنها أيمن 18 سنة وأخته مجد 14 سنة حينما رشهما الخابرات في الشارع انتقاما من أهالي الملاحقين وحسب ! وكانت الأم حتى هذه الفترة فاقدة لتوازنها العقلي وقد نزعت حجابها وعصبت رأسها بعصابة تشد بها على الألم . . فلما وجدت نفسها قيد الإعتقال المفاجيء انهارت المسكينة . . وكنت وأنا في أول ليلة لي في المنفردة أسمع المحقق يصرخ في أذنها بأعلى صوته فيصل الصوت عندي وهي كالبلهاء لا تجيب . . وأما الزوج فكان أسوأ حالا وقد جاوز المسكين السبعين من عمره . . تجره والأم ابنتاهما اللتان اعتقلتا معهما وأغمي عليهما على باب المحقق ، فاضطرت والدتي أن تصفعهما لتفيقا ! وعندما لم يجدوا ما يهمهم من التحقيق مع هؤلاء البؤساء أرسلوهم للمبيت في القبو تلك الليلة ، لكن ولاغتصاص المكان ليلتها بالمعتقلين لم يجدوا مساحة يضعون العجوز فيها فتركوه بهرمه وشيخوخته ينام على أرض الممر أمام منفردتي ، فكنت أدعو الله أن يخفف عنهم المصائب التي تتوالى عليهم واحدة بعد الأخرى . . وأما والدتي فقد جابهتهم من البداية ما شاء الله بحزم . .

قال لها المحقق : -خبرينا عن ابنك المجرم . . أين هو؟ فقالت : أنا ماعندي ابن مجرم . . دير بالك ها !

قال لها : ماذا لديك إذا ؟ مجرم ومغرر بإخواته أيضا على طريق ا لإجرا م . قالت : أنا لا أعرف نفسي إلا أنني ربيت ابني من الجامع إلى البيت ومن البيت إلى الجامعة. فقال لها ساخرا : الله يعطيك العافية . . تعيشي وتربي ! إذا لا تريدي أن تحكي . . والتفت إلى أحد العناصر وقال له : ضعها على الفلقة .

فقالت له : كتر خيرك . . أنا في سن أمك وتضعني على الفلقة ؟ قال لها : ولكنك ما تكلمت . قالت : وماذا تريدني أن أقول ؟ لا الذي يصدق يسلك معكم ولا الذي يكذب ! فتركها – سبحان الله – ولم يعذبها . . وكانت لا أدري كيف تقوم طوال فترة اعتقالها فتشد معهم وتواجههم وتدعو عليهم وكانوا مع ذلك يراعونها من دون جميع السجينات والسجناء الآخرين . . وكانت لا تكاد تنام لا في الليل ولا في النهار ، وتراقب كل صغيرة تجري وكبيرة فلا يفوتها شيء ! وفي بداية اعتقالها في المنفردة كانت تنادي أبا عصام مدير السجن – وهومن درعا – وتسأله : – ماذا فعلت أنا . . ولماذا تعتقلونني ؟ فيجيبها : أنا لا علاقة لي بذلك .

فترد عليه وتقول : بل بيدك كل العلاقة . . أنا أريد أن أرفع كتابا لرئيس الفرع ، أعطني ورقة وقلما . فينهرها وهو يكرر عليها : -ممنوع . . لا تصل . . مخالفة للأوامر . . . فيصيبها القهر ويشتد بها الغيظ وتنادي داعية عليه : شكيتك لواحد أحد . . لأحكم الحاكمين . . وإن شاء الله تقعد قعدتي وما بتصبر صبري . وسبحان الله لم يمر شهر أو شهران حتى قتل هذا الرجل كما بلغنا حادث سيارة . . ودخل المقود في بطنه . . وسمعت أمي بموته قبل أن تموت


رهائن !

ولقد استمر الكمين من بعد اعتقال أمي ومرافقيها ، فاعتقلوا من زميلات السكن ومن الزائرات من غير أي تهمة أو علاقة أكثر من عشر أشخا ص : –

فاطمة : من قارة ،طالبة تسكن معنا . – سوسن س : خريجة طب أسنان من حلب كانت في سنة التدريب بعد التخرج وتسكن معنا .

أختين من ال جاموس إحداهما كانت تسمى منى فيما أذكر ، وهما طالبتا علوم من التل وتسكنان معنا أيضا . –

يسرى ح : وهي أردنية كانت تدرس في جامعة دمشق كلية العلوم الطبيعية وتسكن معنا ، وقد اعتقلوا والدتها أيضا التي كانت في زيارة لها أيام الإمتحان .

مها أ : طالبة طب في دمشق وهي فلسطينية لبنان ية . طالبة أخرى من اللاذقية من ال درويش . كذلك اعتقلوا غادة ع طالبة جامعة تسكن معنا كما اعتقلوا أخاها وصديقا له حضرا لزيارتها فاعتقلا معا . والذي حدث أنهم أخذوهم إلى التحقيق جميعا بعدما انتهوا مني ومن ماجدة واحدة بعد الأخرى ، فلما لم يجدوا فائدة من احتجازهم أطلقوهم . . لكنني ومن شدة تعبي وآلامي لم أحس ساعتها بما حدث رغم أنني كنت يقظة متنبهة طوال الليل


أمى والإضراب

لم ينته اليوم الثاني علي من غير تحقيق جديد . . كنت خلال ساعاتي التي مضت في السجن قد أدركت مجمل ما يدور حولي ، وتذوقت في أول قدومي أشد العذاب وأبشع التهديدات ، فلما نادوني للتحقيق من جديد لم يكن هناك ثمة جديد ! أعادوا طرح نفس الأسئلة وتوجيه نفس الإتهامات بنفس الطريقة ونفس الأسلوب . . وعلى مدار أسبوع كامل استمر البرنامج نفسه ، ولم يتغير فيه إلا طريقة الضرب بعض الشيء ! فمع الضرب بالخيزران والعصي أرادوا مرة أن يضعوني على الدولاب فلم يكن على مقاسي ، فصار المحقق يعوض عن ذلك بالضرب بالخيزرانة وأنا واقفة ، فطال بذلك كل جسدي ، وزاد من بقع الألم وآثار المعاناة ، ولكن شيئا في الأسئلة أو الإجابات لم يتغير ! أما في المنفردة فكانت المتغيرات مستمرة هناك . . والمشاهد المفجعة والحوادث المحزنة لم تتوقف : كانت استغاثات السجناء لا تكاد تكف ليلا أو نهارا . . والويل كل الويل لمن يضبطه العناصر وهو يصلي ! كانوا يمرون عليهم بلا ميعاد ، فإذا ضبطوا أحدهم من الطاقة يصلي أخرجوه فأوسعوه ضربا وتعذيبا بلا رحمة ، وأما الكفر بالله والشتائم البذيئة فكانت ديدنهم حتى عندما يتخاطبون فيما بينهم ، لكنهم لم يكونوا ولله الحمد يضربوننا نحن النساء على ذلك ، وكنا نتمكن من الصلاة حتى تحت مراقبتهم .

وكنت في بعض الأحيان أعطي ماجدة بعض الإشارات بالضرب على الجدار بيني وبينها ، واذا تأكدنا من خلو المكان من العناصر كنت أكلمها وتكلمني عبر الجدار ، وأذكر أن عنصرا أحس بنا مرة نتحدث في الليل فنهض بسرعة وأتى نحونا يصيح : -أنا أسمع صوتا . . من هذا الذي يتكلم ؟ وحتى لا تكون سببا في تعذيب أحد من الشباب قالت ماجدة بثقة : – أنا .

فسالها بغضب : مع من ؟ قالت : مع صديقتي . . أهو حرام؟ ومرت الحادثة ولله الحمد بسلام . وأما والدتي فلم تكن تدخر فرصة للإتصال بي إلا واغتنمتها . . حتى ولو كلفها ذلك الكثير .

كانت كلما أرادت أن تخرج إلى “الخط” توقفت عند زنزانتي وتعلقت بقفلها لا تريد أن تتزحزح حتى يفتحوا لها فتراني وتحدثني ولو كلمتين ، فإذا ملوا أحيانا من سحبها ومدافعتها فتحوا لها الطاقة وقالوا : – هيا شوفيها ولكن بلا كلمتين . . فترفض وتطلب أن يفتحوا الباب لها . . فيقولوا : ممنوع .

ولم تلبث في اليوم الثاني من اعتقالها وبعد خروج بقية البنات من دوننا أن أضربت عن الطعام وعن الخروج إلى الحمام وحتى عن النوم حتى تراني . . ولم أدر بذلك إلا عندما حضر أبو عادل رئيس النوبة يقول لي : -إذا التقيت أمك مرة ثانية فأعطيها دروسا في الدين . . قولي لها إن لجسدك عليك حقا . . ألم تدرسي ذلك في الشريعة؟ خليها تأكل .

قلت له : هي أم وأنت تعرف كيف يكون قلب الأم . . والحق معها . وفي اليوم الثاني ومع استمرارها بالإضراب أتى الأمر بالسماح لها أن تراني وأراها ، فجاء أبو عادل ثانية وأخذني إلى زنزانتها وهو يذكرني بحديث الأمس ، وقال وهو يدفعنى إليها : -مثلما اتفقنا . .قولي لها . . قلت له : ماذا أقول ؟ هي حرة . قال : ألا تريدين أن تساعدينا لتفك إضرابها ؟ قلت : ماذا يمكن أن أفعل . . ألا ترى وضعها ؟ الله يعينها ويساعدها .

فالتفت إليها بغيظ وسالها : هل رأيت ابنتك ؟ ولم تكن رفعت نظرها إلي طوال ذلك الوقت لتقهرهم . . فقالت : لا . فقال : إذا ماذا تريدين ؟ والله حيرتينا ! قالت : أنت تعرف ماذا أريد . . وحتى يأذن الله . . هو أحسن منكم جميعا وهو أحكم الحاكمين . . وهو قادر على أن يقصف رقابكم ! فلم يجد ما يفعله إلا أن يضحك بغباء ويقفل الزنزانة عليها ويعيدني أنا لزنزانتي من جديد ، لكن إضرابها كان – والله أعلم – سببا للتعجيل بإنهاء التحقيق معنا ونقلنا بعد ثمانية أيام قضيناها في المنفردة إلى المهجع ،لننضم هناك إلى بقية النساء المعتقلات .


إلى المهجع

لم نكن خلال الأيام الثمانية قد رأينا أيا من المعتقلات أو اتصلنا بهن باستثناء منيرة التي فتشتنا أول وصولنا ، لكنهن كن قد رأيننا من شق صغير في طاقة باب المهجع وعرفن بوجودنا كما أخبرننا لاحقا ، وذات مرة وأنا في طريقي إلى الحمام رأتني الحاجة مديحة إحداهن بجلبابي الأسود أعبر من أمام مهجعهن فدقت الباب تنادي أحدا من العناصر ، فلما جاءها حسين بادرته قائلة : -أريد أن أنفض البطانية . . افتح لي ! فأدخلني الحمام بسرعة ليخرجها ، فصارت تتحدث بصوت عال لنسمع صوتها ونعلم بوجود نساء وتصيح :فلانة . . هيا تعالي نظفي البطانية معي . . ثم مضت كعادتها تحاول استدراج حسين وسألته : – كأن هناك أحدا في الحمام . . أنا أسمع صوت نساء ! أجابها وقتذاك : لا . . لايوجد أحد . . لوأن هناك نساء لأتينا بهن إليكن .

لكنها استمرت تلح عليه حتى ضجر وسألها : -خبريني أنت . . ماذا على بطانيتك ؟ لك ساعة تنفضين فيها ! قالت : صرصور . . ووالله ماعرفنا وين راح ! قال لها : إي يالله ادخلي وخلصيني . . فعادت وهي تلم البطانية تسأله بصوت خافت : – هناك نسوان أليس كذلك ؟ فأجابها أخيرا : نعم . . وبكرة سيأتون إليكم فاطمئني . لكنها عادت تسأله : ألا تعرف من أين ؟ فأجابها : بكرة جايين لعندكم وستعرفي . . وتجلسوا تتحدثوا معا حتى تشبعوا حكي ! ثم أدخلها وأرجعني المنفردة ، لكنني كنت أسمعهما وأنظر بين حين واخر إليهما بدوري من شق باب الحمام ، فاستأنست بذلك بعض الشيء واطمأننت إلى أن هناك نساء غيرنا في هذا المكان الموحش . . وفي اليوم الثامن وبينما أنا في المنفردة جاء مدير السجن وأعطاني استمارة معلومات عامة عن الإسم وتاريخ الإعتقال وسببه وعدد الأيام التي أمضيت في المنفردة . . فأجبت بشكل عادي وكتبت أنني اتهمت بالإنتماء إلى تنظيم الإخوان ووقعت ، وبعد حوالي نصف الساعة حضر حسين وفتح الباب بسرعة وطلب مني القيام ، فسألته وقد ظننت أنها جولة أخرى من التحقيق والتعذيب والأ خذ والشد والإتهامات : – إلى أين ؟ إلى التحقيق ؟ قال :لا . قلت : إلى الإعدام ! قال : الان سترين .

قلت له : إذا كان الإعدام فسيكون أريح ! فأجابني ساخرا : لا . . لن نعدمك الان . قلت : واذا فمتى ؟ قال بلؤم : حتى تعترفي أنك منظمة .

قلت له : طيب . . هل تعدمونني فعلا إذا اعترفت ؟ قال : اعترفي أولا والأمر بعد ذلك بينك وبين رئيس التحقيق ! أخرجني من المنفردة وساقني عبر الممر إلى باب اخر كبير وأسود فقلت لنفسي : خلاص . . رحت فيها . . إلى التعذيب من جديد ! فلما فتح الباب ودفعني باتجاه الداخل مددت رأسي بحذر فرأيت المكان مليئا بالنساء وكلهن يضعن شاشيات صلاة بيض على رؤوسهن فارتحت قليلا وخطوت نحوهن سلمت ،ولكن الخوف كان لا يزال يتملكني ،فيما أغلق السجان الباب ورائي وعاد بعد هنيهة بأمي وماجدة فأدخلهما وعلقها إلى السقف من يديها المكبلتين خلف ظهرها ،ومضى يعذبها على ومضى، وجعلنا في البداية نتلفت حذرات خشية أن يكون بين هؤلاء النسوة جاسوسة أو مخبرة ،ولم تلبث أمي أن انفجرت بالبكاء في اللحظة التي اندفعت أنا نحوها وعانقتها ، وكأنها أحست أنهم وضعونا في المهجع ولن يخرجونا منه إلى الأبد. . فجعلت تزدادبكاء وتدعو عليهم بحرقة وتجهر بالدعاء. . في تلك اللحظة تقدمت واحدة من النساء وهي تمد إليهايدها وتقول : ابوي . . لا تبكي ولا على بالك . . حطي إيديك ورجليك بمي باردة واقعدي .. ولاراحة لمؤمن إلابلقاء ربه ! كانت هذه هي الحاجة مديحة أ.أول من دخل السجن من النساء كانت الأيام التي أمضيناها معها أكثر من كافية لنسمع منها ومن بقيه السجينات حكاية اعتقالهن وقصص تعذيبهن ومآسيهن .


تعرية . . وتعذيب . . وقص اللسان!

كانت الحاجة مديحة في الأربعينيات من عمرها ، وهي امرأة معروفه في حلب تدرس النساء درو سافي الدين على الرغم من أنها تكاد تكون أمية لاتقرأ أوتكتب وكانت قد جعلت من بيتها قاعدة سكن فيها بعض الملاحقين ،وبينما كانت ذاهبة إلى موعد خارج البيت لتسليم رسالة ألقوا القبض عليها نتيجة فسادة من سامح كيلاني – عميل المخابرات الآخر وجاسوسهم داخل تنظيم الإخوان – وحملوها مباشرة إلى فرع مخابرات أمن الدولة ، وهناك ازدادت نقمة رئيس الفرع عمرحميدة عليها حينما استطاعت رغم التعذيب الشديد أن تراوغهم فترة كافية تمكن الشباب في بيتها من الهرب بعد مضي فترة أمان كانوا متفقين عليها فيما بينهم . . ونتيجة جرأتها وصلابة ردودها ازداد حميدة غيظا منها فختم لها حفلة التعذيب بأن قص لها طرف لسانها بالمقص . . وفقدت قطعة منه بالفعل ! ولقد قصت علينا أن حميدة عراها في البداية من ملابسها وعلقها إلى السقف من يديها المكبلتين خلف ظهرها ، ومضى يعذبها على هذه الحالة ويسمعها أقذع الشتائم وأبشع العبارات . . ثم أمر بإحضار أخيها الأصغر وعرضها عليه بهذه الحالة وساله :هل عرفتها؟ قال الولد بصدق : لا . . من هذه ! أجاب حميدة بتشفي : أختك مديحة . فأغمي على الولد فورا ولم يعد يحس بشيء ، وأعادوه إلى البيت وهو لا يزال في غيبوبته . . واستمرت حفلة التعذيب ساعات عديدة تأكدت بعدها أن الشباب غادروا البيت كما يفترض فدلتهم عليه ، ولما لم يجدوا هناك إلا آثارهم وحسب عاد حميدة غاضبا يقسم أنه سيقص لها هذا اللسان الذي كذب عليهم وخدعهم.

وقصه بالفعل ! لكنها ولله الحمد شفيت بسرعة وعاد اللسان فنما بشكل طبيعي ، بل إن مدير السجن المدني بدوما المقدم عماد وكان سيىء الخلق جدا قال لها بعد ذلك بسنوات : – قطعنا لك لسانك ليقل كلامك فلا أراه إلا ازداد طولا ! وبعد اعتقالها الذي كان قد مضى عليه نحو الشهر أتوا بها إلى كفر سوسة مرورا بسجن المسلمية بحلب مع مجموعة السجينات الأخريات : أم شيماء ، وزوجة عبد العزيز سيخ ، وعائشة ق . فيما أفرجوا عن عدد اخر من البنات والنساء كانت بينهن – فيما روين لنا – سناء . . . . . ، و . . . . . . وكانت تسكن مع الحاجة مديحة وتلازمها في بيتها ، ولذلك كانت تدعوها الحاجة ابنتها ، وزوجة عبد القادر حربلي ووالدتها من بيت القطان ، وسيدة أخرى وكانت عروسا في شهرها السادس وفي السادسة عشرة من عمرها ، أمسكوا زوجها نتيجة وشاية من سامح كيالي أيضا وجعلوا يعذبونه ليعترف بمكان القاعدة التي اتهم أنه يديرها ، فلما لم يفعل أحضروا الزوجة بأمر من حميدة أيضا واعتدوا عليها أمامه قبل أن يرسلوه إلى تدمر فيقتل لاحقا هناك في المجزرة الكبيرة التي جرت . . وأفرجوا عن المرأة وقد سقطت عنها كل الإتهامات !


وترك لها جوربان

تقدمت الحاجة مديحة تخفف عن أمي وعنا ، وتبعتها بقية البنات : أم شيماء ، وعائشة ق . ومن ورائهما كانت منيرة التي فتشتني أول دخولي تنظر وتبتسم ! وأما عائشة فهي طبيبة من حلب قامت بعلاج جريح من الشباب الملاحقين فبلغ النبأ المخابرات واعتقلوها من بيتها ، وقالت لهم وقتها إن أشخاصا أتوا إليها كأي طبيب وسألوها أن تعالج جريحا ففعلت ، ولم تسألهم عن هويتهم لأن مهمتها الإنسانية خدمة الناس لا التحقيق معهم ، لكن جوابها لم يرق لهم ، واعتقدوا أنها تداوي كل جرحى الملاحقين ومصابيهم ، وقد تولى التحقيق معها مصطفى التاجر أول الأمر فسألها في البداية : -أترضي أن تبقي بلا حجاب ؟

قالت : لا طبعا . . قال : فما رأيك إذا أن تبقي بلا جلباب ؟ فانتفضت تتطلع إلى مكان تلتجئ إليه ، لكن المجرم لم يترك لها فرصة وهجم عليها كالوحش يصفعها ويضربها وهو يمزق ثيابها قطعة بعد قطعة وهي مكبلة تقاوم بكل ما أوتيت من قوة دون أن تستطيع الدفع . . فلما مزق كل شيء ووصل إلى جواربها قال لها : -سأتركهم عليك حتى لا تبردي ! وأمر فمددوها على “بساط الريح ” ومر عليها بكافة أنواع التعذيب : الخيزران والعصي والكهرباء . . علاوة على نزع نظارتها الطبية وحرمانها من استعمالها فترة من الزمن . . ثم أتى دور عمر حميدة فأجلسها على كرسي وقد كبل أيديها وأرجلها من الخلف ببعضهم البعض وجعل يطفىء أعقاب السجاير فى اعف منطقه ببدنها ليطفىء بعضا من نيران حقده الاسود ويودعها الزنزانه من ثم بضعه ايام قبل ان تنقل مع بقيه المجموعه الى كفر سوسه


فنون التعذيب !

كانت إيمان ت . “أم شيماء” راجعة إلى بيتهم مع زوجها وابنتها الرضيعة شيماء وكانت في الشهور السبعة أو الثمانية من عمرها ، وعندما بلغوا مدخل البناية لاحظوا مؤشرات غير طبيعية في المنطقة ، فتقدمت ايمان ووضعت المفتاح في القفل لتفتح ، فيما كان الزوج والطفلة معه ينتظر أسفل الدرج ، فما أن فعلت حتى أحست كما روت من بعد صوت تلقيم السلاح من الداخل ، فأعطته إشارة سريعة بالهرب ، في الوقت الذي فتح عناصر المخابرات الباب بسرعة وأمسكوا بها وسحبوها إلى الداخل ، وفي إحدى غرف البيت دخل عليها رئيس الدورية يسألها عن زوجها وعن الشباب الذين كانوا معها في البيت لأ نهم دخلوه ولم يكن فيه أحد ، وهؤلاء جميعا أبلغ عنهم سامح كيالي ، فقالت إنها لا تعرف شيئا ولا تعرف أين ذهب زوجها ولا من كان معه ، فجعل يهددها بالإعتداء عليها إن لم تبلغه المعلومات فأصرت على الإنكار ، فنفذ تهديده بالفعل وحاول فعل ذلك ، لكنها قاومته بشدة وراحت تتصارع معه فأنجاها الله وألقى في قلبه الرعب فلم يتمكن منها كما أراد . . وبعد ذلك نقلوها إلى الفرع عند عمر حميدة الذي اتبع نفس الطريقة معها ، فشبحوها في السقف بأن كبلوا أيديها خلف ظهرها وعلقوها منهما مرفوعة عن الأرض فكأنما هي الذبيحة بين يدي الجزار ، وجعلوا يضربونها ويعذبونها وهي على هذه الحالة لا حول لها ولا قوة ، ثم وضعوا لها الكهرباء في صدرها والحليب يقطر منه زيادة في التعذيب والإهانة . . وبعد انتهاء التحقيق ومن غيرأن تدان المسكينة بشيء نقلوها إلى كفر سوسة مع عائشة والحاجة مديحة ، لنجتمع واياهن في هذا المهجع المقيت !


سحل القتلى

أما رابعة نزيلات المهجع وقتها فكانت أما من إدلب لأربعة أو خمسة أولاد من إدلب اسمها فوزية ح . هذه السيدة استشهد زوجها وهو يقاوم أثناء مداهمة قاعدتهم بحلب ، وقامت السلطة بعد مقتله بسحل جثته أمامها بالدبابة في شوارع المدينة ثم اقتادوها للسجن وعذبوها أشد العذاب .

وعلى الرغم من أنها لم تتحدث عن ذلك كثيرا وكانت من النوع الذي يؤثر الصمت إلا أننا بقينا نرى اثار التعذيب على أرجلها والزرقة مكان أظافرها المقلوعة إلى حين ، وبقيت فوزية في الشهور الأولى معتدة على زوجها لا تكاد تكلم أحدا وتسارع كلما فتحوا الباب أو الطاقة فتغطي رأسها بالبطانية وتدير وجهها إلى الجدار .

تحميل كتاب السجينة رواية مليكة أوفقير

نبذة عن رواية سماء قريبة من بيتنا نبذة عن رواية يوسف يا مريم نبذة عن رواية نهاية رجل شجاع نبذة رواية مثل إيكاروس مؤلف رواية السجينة يمكن القول بأن رواية السجينة كانت ثمرة جهود مزدوجة بين كاتبتين اثنتين، صاحبة القصة الأصلية الكاتبة المغربية مليكة أوفقير ابنة الجنرال أوفقير التي ولدت عام 1953م في مراكش، وسافرت إلى فرنسا مع عائلتها بعد خروجهم من السجن بخمس سنوات في عام 1996م والتقت هناك بالكاتبة التونسية الفرنسية ميشيل فيتوسي وقصَّت عليها قصتها كاملةً، فبدأتا بالكتابة في عام 1998م، وصاغت منها ميشيل رواية باللغة الفرنسية بعنوان السجينة نُشرت في عام 1999م، وقد ترجمت إلى العربية في العام التالي، وفي هذا المقال سيتم تسليط الضوء على ملخص رواية السجينة مع إدراج بعض الاقتباسات منها.[١] ملخص رواية السجينة تعدُّ رواية السجينة إحدى الروايات الواقعية التي تروي سيرةً شخصيةً حول قصة حياة الفتاة المغربية مليكة أوفقير، فقد عاشت مليكة في القصر الملكي منذ نعومة أظفارها، ففي الخامسة من العمر ترعرعت مع أمينة ابنة الملك محمد الخامس بعد أن تبناها وتولى رعايتها فقد كانت ابنة الجنرال أوفقير، فعاست في القصر أجمل أيام حياتها،وبعد وفاة الملك محمد الخامس تبناها أيضًا الحسن الثاني وأكمل تربيتها إلى جانب أمينة، وفي عام 1969م خرجت مليكة من القصر الملكي لتلتحق بعائلتها، ولكن والدها الجنرال يقوم بمحاولة فاشلة لاغتيال للملك ينجو منها الحسن الثاني ويُقتل أوفقير نتيجة لذلك، وتتعرض عائلة مليكة للسجن تسعة عشر عامًا تقريبًا، فتقع العائلة ضحية خلافات ومشكلات سياسية رمت بها في سجن طويل جدًّا، ولم يتم الإفراج عن العائلة، إلا في عام 1991م لتتمكن بعد ذلك من الرحيل إلى فرنسا بعد خمس سنوات.[٢] وفي ملخص رواية السجينة لا بُدّ من القول إن الرواية تدور حول مشاعر عظيمة في قاموس المشاعر الإنسانية كالخوف والجوع والحنين واليتم وغير ذلك، فحاولت مليكة أن تصف حياتها في القصر الملكي وكيف يحيا الناس فيه ويمارسون أعيادهم واحتفالاتهم، وتناولت مغامراتها في صغرها وشعورها بالغربة بعيدًا عن أسرتها، وفي النهاية طرقت جدران المعاناة في السجن بكل ما أوتيت من قوة، سجن حرمهتا وحرم عائلتها من كل حرية أو خصوصية، فكانت تشعر مليكة بأنها تيتَّمت مرتين، مرةً عندما توفي والدها، ومرةً أخرى بعد أصبح من تبناها جلادًا قاسيًا.[٢] اقتباسات من رواية السجينة بعد المرور على ملخص رواية السجينة التي طغى الجانب المأساوي والمؤلم على معظمها بسبب الظلم الذي تعرضت له عائلة مليكة أوفقير، لا بدَّ للقارئ أن يلمس تلك الأوجاع في بعض كلمات الرواية وتعابيرها العميقة، وفيما يأتي بعض الاقتباسات من الرواية:[٣] كيف لأبي أن يحاول قتلَ من ربَّاني، وكيف للأخير الذي طالما كان لي أبًا آخر أن يتحول إلى جلَّاد. إني لأرثي لكلِّ هؤلاء البشر الذين يعيشون خارج قضبان السجن ولم تتسنَّ لهم الفرصة ليعرفوا القيمة الحقيقية للحياة. كانت حياتي الداخلية في السجن، أكثر ثراء ألف مرة من حياة الآخرين، وأفكاري أكثر كثافة من أفكارهم ألف مرة، كنت أشدَّ وعيًا من الناس الأحرار، تعلمت أن أفكر في معنى الحياة والموت. ما ذنب الصغار حتى يؤاخذوا بجريمة الكبار. كل شيء يمضي ويمرُّ إلا أن يكون عدوك جزءًا لا يتجزأ منك، وتلك هي المصيبة والهزيمة.

تحميل رواية السجينة

لأنهم قالوا: لا -مذكرات سجنية الحلقة الرابعة

جاسم وشيخو وأبو حميد

هذا العنوان ليس اسماً لمسلسل إذاعي أو تلفزيوني، بل هو عنوان لمسلسل التعذيب في فرع مخابرات حلب في الحقبة التي كنت فيها ضيفاً على ذلك الفرع.

جاسم هو زعيمهم. لا أعرف اسمه بالكامل. يقال إنه جاسم الطِّيط، ويقال: جاسم سلطان. ولكنه يُعرف عادة باسمه: جاسم، أو بكنيته: أبي الفوز.

لقد حَرَمَهُ الله من أي جمال في خلقته، لكنه كان صاحب ذكاء خاص في اقتناص الفرص، كما سأوضِّح.

وكان يتباهى في أنَّه تخرّج على يديه الوزير الفلاني، أو المسؤول الكبير الفلاني، بمعنى أنهم اعتُقلوا عنده قبل تولِّيهم وظائفهم، أو بعد إخراجهم منها، ونالوا من يديه القويَّتين سيلاً من الخيزرانات، وغير ذلك مما يجود به حذاؤه، ولسانه كذلك!.

ويبدو أنه أطول الجلادين مدةً في هذه المهنة الشريفة، وهو يحسّ بالحرج، بل بالخوف الحقيقي وهو يسير في الشارع، أو يدخل بيته، أو ينام فيه!، أو يتسوَّق لعياله… بل يخاف على أولاده كذلك… فأعداؤه كُثُر، وكل من تلقّى منه تعذيباً فهو عدوٌّ له، ولا يأمن جاسم أن ينتقم منه بعض الأعداء!.

ولهذا فقد اتخذ لنفسه “استراتيجية أخرى” وهي أن يمتنع عن اصطناع أعداء جدد بقدر المستطاع، فإذا لم يكن مضطراً فإنه يتهرب من ممارسة التعذيب المباشر، بل يدفع إلى هذه المهمة بعض شركائه مثل شيخو وأبي حميد ومحمد وردة (الحمصي)… وفوق ذلك فإن استراتيجيَّته تقتضي أن يمارس النهب بأسلوب آخر. فهو يعيش في حلب منذ سنوات طويلة ويعرف كثيراً من تجارها ووجهائها… فكلما جاءه أحد المعتقلين سأله ما اسمك وما اسم أبيك، وما اسم أمك؟…

ثم يسأله: ما القرابة بينك وبين فلان، وفلان، وفلانة؟!. فإذا عرف أنَّ فلاناً عمه أو خاله أو ابن أخته أو… قام بجولة عليهم في أماكن عملهم أو بيوتهم الخاصة ليأخذ منهم الرشاوي بمقابل أن يحسن التعامل مع قريبهم المعتقل!. وقد تكون الرشوة نقوداً أو تكون ساعة يد، أو قطعة أثاث، أو بعض الألبسة… حسب اختصاص كل من هؤلاء الأقرباء.

أما “شيخو” فهو كما يقول عن نفسه: “شيخو أبو الشوارب”، أسمر البشرة، طويل القامة، له شاربان كبيران جداً، أسودان لامعان، يجعلان شكله مخيفاً.

وهو كردي، من قرية كفر جنّة، متعصب لقوميته، في لهجته العربية أثر واضح لكرديته، فهو يخلط مثلاً بين المذكر والمؤنث. وعلى الرغم من حبه الشديد للتعذيب، يراعي المعتقلين الأكراد قدر استطاعته!.

في أحد الأيام كان شيخو مناوباً، ينام في الفرع، وعند شروق الشمس سمع خبطاً على باب إحدى الغرف، واستمر الخبط حتى قام شيخو من نومه غاضباً وأتى بالخيزرانة معه ليؤدِّب هذا الذي يتجرَّأ على إيقاظه في هذه الساعة المبكرة، وقبل وصوله راح يصرخ: من هذا الذي يدق الباب؟ فجاءه الجواب: “آس. آس” وهي بالكردية تعني: “أنا. أنا” إذاً فالمعتقل هو أخونا طالب كلية الطب مستو، فابتلع شيخو غضبه، وظهرت البسمة على وجهه، وفتح الباب للأخ مستو حتى يقضي حاجته.

Image processed by CodeCarvings Piczard ### FREE Community Edition ### on 2019-07-10 12:08:39Z | | ÿÿÿÿÿÿÿÿÿÿÿÿÿÅWÑGÿ

وأكثر من مرة كان يؤتى ببعض المعتقلين الأكراد، وقد يؤمر شيخو نفسه بتعذيبهم، فيقوم بذلك، إذا كان المحقق فوق رأسه، لكنه في غياب المحقق كان يحاول أن يكرمهم.

ومن المآسي الصغيرة! أن عدد الملاعق التي خصصت لنا، كانت أقل من عددنا، وبعض الطعام كالمرق، يصعب تناوله من دون الملاعق. وكان أحد إخواننا في وضع صحي خاص، فكنّا نكرمه بأن نخصّص له ملعقة!. ولما شعر شيخو بذلك، خاطبَ أخانا مستو، باللغة الكردية: لم تعطون هذا العربي ملعقة؟! وظهر الغضب المكبوت في وجه مستو، ولما ذهب شيخو قام مستو بترجمة ما سمعه!.

وشيخو هذا أمِّيّ، لكنه يضع في جيب السترة على صدره، ثلاثة أقلام أو أكثر! وإذا رفع سماعة الهاتف، وسأله الطرف الآخر: مَنْ؟ أجاب: شيخو أبو الشوارب.

وقد قرّرت إدارة الفرع إجراء دورة محو أميّة لعناصر الفرع، ومنهم شيخو هذا، فكان يحضر الدروس لكنه لا يفهم شيئاً، وإذا أعطاه المدرّس وظيفةً ليكتبها، طلب من أحد المعتقلين أن يكتبها عنه! فإذا قدّم الوظيفة للمدرّس تبيّن له أنها ليست بخط شيخو، فيطلب من إدارة الفرع معاقبته! ثم يأخذ وظيفة أخرى، ويحاول أن يكتب، وكلما كتب حرفاً أو رقماً بدأ يشتم: “يلعن أبوه هذا أربعة” أي يلعن الله الرقم 4. ما أصعب كتابته! (ونكتفي بهذا المثال عن أمثلة أخرى فاحشة).

وكان أحد إخواننا المعتقلين ينصح شيخو أحياناً فيقول له: يجب أن تترك الخمر، فالخمر وبال عليك في الآخرة، وهدم لصحتك!. فيقول: لا. أنا مرضت وذهبت إلى الطبيب فكتب لي في الوصفة: “واحد فروج، وواحد عرق”! قلت له عندئذ: وهل صرفتَ الوصفة من الصيدلية أم من الخمارة؟!. فنظر في وجهي ولم يُحِرْ جواباً!.

ويقصّ علينا هذه القصة التي تصور شخصيته، فيقول:

مرة طلب مني النقيب أن أعذِّب أحد الموقوفين، وصعد النقيب إلى غرفته في الطابق الأعلى، فوضعتُ القيد في يَدَي الموقوف (المعتقل) حتى تقلَّ حركته، وأتمكن من ضربه كما أريد. ورحت أضربه بالخيزرانة مرة، وبعصا غليظة مرةً، وبعقب الحذاء مرة ثالثة.. ولم أشعر إلا وقد انكسرت يده كسراً ظاهراً، وهو يصرخ من شدة الألم. خفت أن يعاقبني النقيب على ذلك. فاتصلت به هاتفياً: سيدي، هذا الذي قلتَ لي: عذِّبْه، لقد انكسرت يده.

(وأراد المحقق أن يطمئنه فقال له): “يلعن أبوه. خلّي تنكسر إيدُه التانية” : فلتنكسر يده الثانية.

فقال شيخو: حاضر سيدي.

وراح يضرب الضحية بقسوة بالغة حتى كسر يده الثانية. استجابة لما فهمه من كلام النقيب!.

قلت لشيخو: وكيف تفعل ذلك؟! قال: النقيب ربّي! فإذا قال لي: اكسر يده فأنا أكسرها!.

ونكتفي بهذا الحديث عن شيخو لننتقل إلى الجلاد الثالث:

أبو حميد: هو الآخر كردي، لكنه يتكلم العربية بلهجة حلبية تامة، مع احتفاظه بلغته الكردية.

وهو ضخم الجسم، جميل الهيئة، قوي البنية جداً. كان يعمل -قبل دخوله هذه الوظيفة- عتّالاً ينقل الحمولات التي يعجز عنها العتّالون الآخرون!.

وإذا أُمر بالتعذيب قام “بواجبه” على أكمل وجه، لكنه إذا غاب عن أعين المحقق بدا لطيفاً مهذباً.

كان هو الآخر أميّاً، فكنّا نكتب بعض الرسائل إلى أهلينا وأصدقائنا، ونرسلها مع أبي حميد، بمقابل خمس ليرات للرسالة الواحدة، ونشرح له العنوان فيوصلها بأمانة، وقد يأتينا برسالة جوابية بمقابل أجر آخر، يأخذه منهم.

وأحياناً يحمل رسالتين أو ثلاثاً في آنٍ واحد. وبما أنه أمّي، كنا نخاف أن يخطئ فيسلِّم الرسالة إلى غير صاحبها، فننبهه إلى ذلك فيقول: لا تخافوا. رسالة فلان هنا في هذا الجيب، ورسالة فلان في جيب القميص، والرسالة الثالثة في الجيب الخلفي. وبالفعل كان يصيب الهدف!.

ومرة اعتُقل مجموعة من عصابة تضم أطباء فمَنْ دونهم، من مستشفى حلب العسكري. وكانت هذه العصابة تأخذ الرشاوي من المواطن حتى تهيّئ له سبيل الإعفاء من الخدمة العسكرية…

في أثناء التحقيق مع أحدهم يقول المحقق حيزة: ألا تخجلون على أنفسكم تأخذون الأموال من أجل تمكين المواطن من التهرب من خدمة العلم؟!.

فيتدخل أبو حميد فيقول: سيدي. هل تظن أن كل الناس مثلي ومثلك، يعيشون على رواتبهم؟!.

وقد ذكرتُ آنفاً كيف كنا ندفع الرشاوي لأبي حميد. أما الحيزة فقد كانت رشاواه بأسعار باهظة.

فقد جيء مرة بمهرِّب حشيش على مستوى دولي (يهرِّب بين الدول)، وضبطت معه بضعة عشر كيلوغراماً من هذه المادّة. فلما وصل إلى الفرع ووضع تحت التعذيب، أشار بطرف عينه إلى المحقق، والتقط المحقق الإشارة، فصَرف الجلاد من الغرفة.

ثم كتب التحقيق بالشكل الذي يرضي المهرِّب. ثم طَلَبَ له فطوراً -على حساب المهرِّب- وهو “مامونية”، من عند المستّت!.

ووضعه المحقق في غرفتنا بضع ساعات إلى أن أُفرج عنه. وقد حدَّثنا أنه دفع للمحقق ثلاثة آلاف ليرة مقابل ذلك!.

رئيس فرع الحلبوني

عندما نُقِلنا من معتقل فرع المخابرات في حلب إلى فرع الحلبوني في دمشق، في مطالع أيلول 1973م، كان رئيس الفرع هو الرائد عارف نصر، وهو شخصية غامضة، يُدير الأمور من وراء جدار!. فقد بقينا “ضيوفاً” عليه مدة تزيد على أربعة عشر شهراً، ولم نجتمع به مطلقاً. نعم قد نراه خِلْسة، ونحن نتسلّق أعالي النوافذ، فربما صادف ذلك دخولَه إلى مبنى الفرع عبر الساحة الواسعة، فكان دخوله يقترن “بخشوع” ظاهر من السجانين والحرس.. إذ إن مِشْيته تدل على تجبّر وغطرسة.

كان يدير الفرع بشكل مباشر اثنان:

المحقق آصف يتولى أمور التحقيق والتعذيب ويُعدُّ ملفّات الموقوفين، ويرفع التوصيات بشأن التوقيف (الاعتقال) والإفراج.. وهو ضابط في مطلع الثلاثينيات من عمره، محدود الثقافة والذكاء!.

والمساعد شلحة (لا أعرف اسمه الأول)، يتابع الأمور الإدارية، من دوام للعناصر، وترتيب الحراسة، وتنظيم خدمات الطعام وغير ذلك. وهو كذلك ضعيف الثقافة والذكاء، قاسٍ جَلف. قد يتولى التحقيق في بعض المسائل الصغيرة.

وهو يعترف –بلسان حاله- أن الإخوان هم الأكثر نظافة في أخلاقهم وسلوكهم.. وفي طعامهم وثيابهم ومكان إقامتهم كذلك. فإذا جاءت توصية بأحد المعتقلين الجدد، فإن المساعد شلحة يضع هذا المعتقل الجديد في غرفة الإخوان، تكريماً له، وحفاظاً على نظافته البدنية والخلقية.

ولسنا ندري شيئاً عن العلاقة بين رئيس الفرع وبين كل من “آصف” و”شلحة” هل هي علاقة مودّة، أم علاقة إدارية وظيفية فحسب.

——————–

في أواخر العام 1974م حدث تغيير في إدارة الفرع، فقد عيّن رئيس جديد له، إنه الرائد محمد أحمد فتح الله.

كان متوسط الطول، أبيض البشرة، هادئاً ورزيناً.

وهو من منطقة يبرود -بين دمشق وحمص- وقد كان قبل ذلك “بمنصب القاضي الفرد العسكري”.

وكان مجيئه محاطاً لدينا بالغموض، فهل سيكون كسَلَفِه أم أقلّ سوءاً، أم أشد؟!.

واستمرّ الأمر نحو أسبوعين حتى بدأنا نلحظ ثمرات التغيير:

1-  أجرى رقابة على طعام الموقوفين، فعلم أن السجانين يسرقون أفضل الطعام، ويوزعون الباقي!. وأَمَر بسجن الرقيب أول أحمد سيفو (وهو ابن أخٍ للوزير شتيوي سيفو) بسبب سرقته بعض الطعام.

2- أمر بإعطاء الموقوفين حق الخروج إلى الباحة للتنفس، مدة نصف ساعة يومياً. (كنّا قبل عهده نخرج مرة واحدة في الأسبوع، لمدة عشر دقائق!).

3- اطّلع على ملفّات الموقوفين فوجد أنهم مظلومون، وليس هناك مسوّغ لاعتقالهم، فبدأ يرفع الكتب إلى إدارة المخابرات العامة يوصي بالإفراج عنهم. فاستجابت الإدارة فأفرجت عن بعض أصحاب القضايا الفردية البسيطة.

4- عندما لم تستجب الإدارة بالإفراج عن معظم المعتقلين، رفع كتاباً يقول فيه: إذا لم تستجيبوا، فلا أقلّ من أن تنقلوهم إلى سجون مدنيّة، حيث يمكن أن ينالوا بعض حقوق السجناء!. فاستجابوا لطلبه هذا، وتم نقلنا فعلاً. وكان نصيبي من سجن حلب المركزي، وخفّت بذلك وطأة السجن، فأين سجون المخابرات من السجون المدنية؟!.

لكن إدارة المخابرات العامة وجدت أنَّ هذا الرجل لا يصلح أن يكون رئيساً لفرع مخابرات، فمثل هذا المنصب يحتاج إلى ظالمٍ فظّ غليظ القلب حاقد لئيم.. فلم تمض سنة على توليه منصبه هذا حتى تم نقله إلى مكان آخر!.

الجلاد أبو طلال

إنه من أشهر جلادي فرع الحلبوني. لكن الاقتصار على وصفه جلاداً، لا يوضح حقيقة شخصيته، بل إن فيه بعض الظلم له.

بلغ من شهرته أنَّ بعض عناصر المخابرات في فروع أخرى، غير الحلبوني، يكنيّ أحدهم نفسه بأبي طلال تيمّناً بأبي طلال الحلبوني، ويطيل شاربيه ليكونا مثل شاربي أبي طلال.

والقلائل هم الذين يعرفون اسمه الحقيقي، فيكتفون بكنيته: أبي طلال.

اسمه هشام الشيخ نجيب، ويقال: إنَّ أباه شيخٌ بالفعل، لعله إمام مسجد مثلاً. وهو دمشقي.

وشخصيته غنية بالصفات المتناقضة، أو لنقل: بالخطوط ذات الألوان المختلفة.

تلمس فيه بعض الذكاء، وبعض العنف، والقدرة الكبيرة على التعذيب مع الروح الساديّة، وبعض التديّن، وبعض الوطنية، وكراهية حزب البعث الحاكم، وفيه قوة في الشخصية، وتعدد في المواهب، وفيه بعض الطِّيب، وبعض الجهل.

وحين نذكر بعض مواقفه تظهر تلك الخطوط المتباينة.

أحياناً يطلب المحقق من أبي طلال أن يقوم هو بدور المحقق في بعض القضايا الصغيرة، وعندئذ يبدو ذكاؤه، إذ يستطيع استخلاص الحقائق من دون أن يضرب المتهم صفعةً واحدة أو سوطاً واحداً. قد يهدد، وقد يمسك بيده الخيزرانة ويلوح بها ويضرب بها الأرض أو الحائط.. ويرفق ذلك باستدراج الموقوف (المتهم) حتى يستخرج منه الاعتراف المطلوب.

وإذا أصيب أبو طلال بمرض أو أصيب أحد أفراد أسرته فإنه يقول: لا شك أنَّ ذلك نتيجة دعاء أحد المظلومين الذين تولّيت تعذيبهم.

وإذا اقتضت منه مهنته أن يعذب أحد المتدينين، ولم يكن المحقق فوق رأسه، فإنه يختار أحد المسجونين غير المتدينين فينسب إليه ذنباً ما، ويفرغ فيه شحنة الغضب، حتى إذا وجد أنَّ الغضب ذهب عنه أمسك بالمتدين ليضربه ضرباً خفيفاً، أو يكتفي بتوبيخه…

وإذا جيء بموقوف من جنسيات غير سورية، وبخاصة إذا كان أوروبياً أو أمريكياً فإنه يتفنَّن في تعذيبه بمبادرة منه! وإذا سئل عن ذلك قال: إن أبناء وطننا يلقَون سوء العذاب عندنا، فهؤلاء أَولى!.

ومرة يخطر في باله أن يصلّي لله تعالى، فيقف في باحة السجن ويصلي علناً، لا يخاف أن يراه أحد!.

ومرة يعلن إفطاره في رمضان، فيضع -في باحة السجن كذلك- كرسيين متقابلين، يجلس على أحدهما، ويضع الطعام على الآخر ويأكل!.

وهو صاحب “مَقْمَرة” أي مقهى للعب القمار، يعمل فيها خارج أوقات الدوام، ويشغّل فيها بعض الشباب الأشقياء، ويستغلّ وظيفته في حماية المقمرة والعاملين عليها.

ومرة كان في أحد النوادي الليلية (الكباريهات) واشتبك مع عناصر من سرايا الدفاع، لا أعرف سبب الاشتباك، لكن عناصر المخابرات (من روّاد الكباريه) وقفوا مع أبي طلال، ضد عناصر السرايا (من روّاد ذلك المكان) وتبادلوا إطلاق النار على الخفيف فأصيب بساقه، ونقل إلى المستشفى، وبعد الشفاء بقي يعرُج عرجاً خفيفاً، ولعل هذا العرج استمرّ معه وشكّل عاهة دائمة.

وكان يمتاز بضربات معينة يعذّب بها الموقوفين. وذلك بأن يمسك الموقوف من مقدمة شعر رأسه، ويحرّكه يمنة ويسرة، فيستجيب ولا يستطيع المقاومة، ثم يشده بقوة نحوه فيرتمي إلى الأمام قليلاً، فيضربه ضربةً قوية بساعده (قرب المرفق) فيرميه أرضاً بقوةٍ قرب الجدار، وعندئذ يدوس بعقب حذائه على رأس الموقوف ويضربه عدداً من الضربات المؤلمة المهينة… ثم يخرج مزهوّاً بانتصاره!.

وهو يعبّر بطرق مختلفة عن كراهيته لحزب البعث وقيادته، وعن ضعف ولائه للسلطة التي يخدمها! فبين الحين والآخر تضبط السلطة بعض المتسللين من العراق عبر الحدود بحجة أنهم معارضون لحكم صدام حسين وطالبون للجوء السياسي في سورية، فكانت المخابرات تعتقلهم وتزجُّهم في سجن الحلبوني لتحقق معهم فتطمئن إلى وضعهم، أو تتهمهم بأنهم مدسوسون لإحداث شغب في سورية… فحين يقول أحدهم إنني قادم لطلب اللجوء السياسي كان أبو طلال يشتمه ويقول له: أعندنا تطلب اللجوء السياسي! والله نحن لا نشبع الخبز، فكيف نطعم غيرنا؟!.

ومرة اعتقل شاب عراقي يدرس في جامعة دمشق اسمه كُوسْرَتْ، يقول: إن أباه كردي وأمه عربية، وهو بعثي مرتبط بالقيادة القومية –مكتب العراق في دمشق. وحصل أن دارت شبهة حوله بأنه متعاون مع بعث العراق، فاعتقلته المخابرات، وجيء به إلى “الحلبوني” وبدأ به التعذيب، وكان الذي يعذبه أبا طلال، فيقول كوسرت: والله يا رفيق أنا بعثي، واسألوا عني القيادة القومية، فيجيبه أبو طلال: “كذا” عليك وعلى القيادة القومية.

يحدثنا كوسرت فيما بعد، وهو يروي قصة تعذيبه فيقول: ما كنت أصدّق أن تشتم القيادة القومية لحزب البعث داخل فرع المخابرات، وأن تصدر الشتيمة من أحد عناصر الفرع!.

ومن القصص الطريفة التي حدثنا بها أبو طلال قصتان:

الأولى تدل على بقايا القيم الدينية في نفسه، وهي أن شاباً اعتقلته المخابرات في الصباح الباكر من أحد الأيام، في منطلق الباصات وهو يريد السفر، وجيء به إلى الحلبوني، ووجهت إليه بعض التهم، وطُلب من أبي طلال أن يقوم بالتحقيق معه. يقول أبو طلال: حاولت معه بالحسنى، وبالتهديد، ثم بالضرب المبرّح… ولكنه لم يعترف بشيء، فوضعته في الزنزانة بانتظار جولة أخرى في اليوم التالي، وكنت يومها مناوِباً (أي عليه أن يبيت في الفرع نفسه) ومع شروق الشمس سمعت خبطاً على باب إحدى الزنازين، فاستيقظت لأستجلي الخبر، وإذا الشاب الذي أتحدّث عنه هو الذي يخبط الباب. فتحت له الباب وقلت له: ما شأنك؟! لماذا تطرق الباب في هذه الساعة المبكرة؟! قال: أريد أن تضربني، أريد أن تعذبني فإنني أستحق ذلك وأكثر!!. قلت في نفسي: هل أصيبَ الشاب بالجنون؟! قلت له: احكِ لي قصتك، فقال: أما التهم التي وجهتموها إلي فأنا منها بريء بريء. ولكنني أستحق الضرب والتعذيب لأن أمي لم تكن راضية عن سفري، وقد أرادت منعي من السفر فعصيتها وخرجت، فهذا نتيجة غضبها، وأسأل الله أن يغفر لي.

أما القصة الثانية فتدل على مدى الرعب الذي يعيشه عناصر المخابرات، إذ صار لهم في المجتمع أعداء كثر. يقول: كنت يوماً  مناوباً في الفرع. وكان علي أن أبيت هناك، لكنني كما أفعل مرات كثيرة، أبقىٰ حتى منتصف الليل ثم أذهب إلى بيتي، وهو قريب من الفرع، ويتحمل عني زملائي الأعباء إلى الصباح، وهي في الغالب أعباء شكلية.

ووصلت إلى البيت ، وبعد دقيقتين سمعت قرعاً بالباب، فقلت: لا شك أن أحد الناقمين كان يترصَّدُني، والآن يريد قتلي أو إيذائي، فلقّمتُ المسدس، وهيأت نفسي لأفتح الباب وأعاجل الواقف خلفه بضربة شديدة تجعله يتدحرج على الدرج ثم أرى إن كان هناك حاجة لإطلاق النار. وفعلاً فتحت الباب سريعاً ووجهت لكْمة قوية لهذا الطارق فتدحرج وهو يقول لي: مالَكَ يا أبا طلال؟ أنا صديقك فلان!!.

لقد كان صديقي فعلاً، وكان يعلم أني مناوب في الفرع، فجاء إلى هناك ليزورني ويسهر معي، فلما قيل له: الآن ذهب إلى البيت، لحق بي، وكان ما كان!.

الشيخ الشاعر يوسف عبيد

        كان من حظّي أن تعرَّفت إلى هذا الشيخ الشاعر في سجن حلب المركزي. فبعد فترة وجيزة من نقلي إلى هذا السجن، تم نقل اثنين من السجناء السياسيين، فصرنا ثلاثة في غرفة واحدة: أنا، والشيخ يوسف، وعبد العزيز ج، المحسوب على البعث العراقي.

        الشيخ أبو ضياء: يوسف عبيد رجل ضرير، ضخم الجسم، خفيف الظلّ، يحفظ القرآن الكريم، ويحمل إجازة (بكالوريوس) في الشريعة، وهو شاعر مجيد، ينتمي إلى حزب التحرير. ويكاد كل شعره أن يكون شعراً ملتزماً، بل إنَّ السبب المباشر في اعتقاله كان قصيدة قالها في هجاء حافظ أسد واتهامه إياه بالخيانة.

        ولا غرابة أن يكون يوسف عبيد من فحول الشعراء، فهو من قرية “عين النخيل” من أعمال منبج وما أكثر الشعراء الفحول المنبجانيين، بدءاً من البحتري، ومروراً بعمر أبي ريشة، ثم محمد منلا غزيّل وعبدالله عيسى السلامة… ولعلّ منبج قد أنجبت شعراء كُثُراً آخرين، فلست ممّن يتابع تاريخ الأدب والحركة الأدبية.

*   *   *

        بعد حرب تشرين “التحريرية”! قام وزير خارجية الولايات المتحدة هنري كسنجر، بزيارات، وُصفت بالمكّوكيّة، بين واشنطن وتل أبيب ودمشق. وفي إحدى المرات طال الفاصل بين زيارةٍ له وأخرى، فقد أمضى مدة تزيد على الشهر في الولايات المتحدة، تزوّج حينَها من “نانسي”، وعاد إلى دمشق، في استئناف لرحلاته المكّوكية.

        الشاعر يوسف عبيد نظم قصيدة بعنوان “شهر العسل”، على أنه لزيارة كسينجر هذه، بصحبة عروسه. ابتدأ الشاعر قصيدته واصفاً العروس وعروسه:

شربَ المُدامةَ وانثنى نشوانَ مغـرور  الأمــاني

واختال فوق الريح في سبّاقةٍ كالبرق  جامحةَ العِنان

وعروسُهُ الحسناء في صَلَـفٍ تتيـه بعُنفـــوانِ

والخنجر المسـموم في يـده كَنَـابِ  الأُفعــوان

وحقائبُ الدولارِ مُثقلةٌ فِصاحَ النطق،  ساحرة البيان

يُلْقَى بها ثمناً لمأجورٍ صغيرِ النفس خَوَّانٍ جبــانِ

فلتبرزِ الأوطانُ هاتفةً مُرَحِّبَةَ المرابع والمغانــي

بوزير أمريكا بِرَكْبِ عروسه الحسناءِ سيِّدةِ الغواني

وفي مقطعٍ آخر يخاطب رأس النظام:

يا مَنْ تسير وراء أمريكا ذليـل الـرأس، منقاد اللجـامِ

   وترى الوسام الأجنبي بصدرك الخاوي فتفخر بالوسـام

 وتَعَبُّ كأس الغدر خلف ستائر الإجرام، والجولان ظامي

لا تَحسَبِ الأوطان غافلةً عـن اللُّعَبِ المُدمِّرةِ الجسـامِ

وهكذا إلى آخر سبعين بيتاً.

        ويبدو أنه ألقى هذه القصيدة في عدد من السهرات والتجمعات. فاعتقلته المخابرات، وسجنته في فرع مخابرات حلب، ثم في الحلبوني، ثم كان مستقرُّه في سجن حلب المركزي.
        وفي كلِّ سجن من هذه السجون كان رؤساء هذه السجون، ومحقّقوها، وسجّانوها، وسجناؤها… يُعجبون بالقصيدة، ويلتذّون بسماعها، لكنَّهم لا يجرؤُون غالباً أن يُبْدوا إعجابهم بها وبقائلها، وشماتتهم بـ “بطل الجولان” فكانوا يحتالون لسماع القصيدة مرة تلو الأخرى.

        ففي بداية الاعتقال استمع المحقق إلى القصيدة كاملةً من الشاعر، وبعد ذلك قال كلاماً يلوم فيه ذلك الشاعر لَوْماً رسمياً!. يقصُّ أبو ضياء علينا قصة جلوسه أمام هذا المحقق:

وجلسـتُ فـي صمـتٍ وألـقى بالسـؤال: أَأَنـتَ شاعـــر؟!

ومتى نظمتَ الشعرَ، أوَ ما علمتَ بأنَّ نظم الشعر من إحدى الكبائر؟

ولـمَ الهجــاءُ المـرُّ للأسـد الهمـام، وعَدْلُه كالشمس ظاهـر؟!
وإذا تطـاول شاعـرٌ يهجـوه، فالمذيـاعُ يُخْـرس كـلَّ شاعــر.

        وهكذا في قصيدة جديدة، يردُّ فيها على المحقّق “الموظف”.

        وفي الحلبوني كذلك، كان يأتي عنصر المخابرات، من سجّانٍ أو محقّق، أو رئيس حَرَس… فيقول:  هل صحيح يا أبا ضياء أنك نظمت قصيدة في هجاء الرئيس؟! فيقول: نعم. فيقول: هل يمكن أن تسمعنا إياها؟!.. فيسمعه إياها كاملة.

        يذهب هذا “العنصر” ثم يعود ومعه عنصر آخر أو اثنان، ويطلب من أبي ضياء أن يُسمع القصيدة ثانية.

        ثم يأتي عنصر آخر فيكرر القصة. وكلهم يبدي سروره وإعجابه! فتصوّروا.

        بل إننا، في سجن حلب المركزي، شاهدنا موقفاً أعجب. ففي أمسية أحد الأيام، كان يمرّ أمام السجن قائد شرطة محافظة حلب، ومعه “النائب العام” وبدا لهما أن يزورا ذلك السجن. واستقبلهما الضابط المناوب النقيب نهاد شقيفة، وراح الثلاثة يتجولون في ردهات السجن. فلما مرّوا أمام غرفتنا توقفوا، وتعرّفوا بنا وبقضايانا, وكان منظر أبي ضياء لافتاً للانتباه، فهو سجين سياسي ضرير! سأله قائد الشرطة: ما قضيتك؟. قال: قلتُ قصيدة في هجاء الرئيس!. قال: هل تسمعنا إياها؟! قال: نعم. وبدأ ينشد قصيدته. وكنتُ أنظر في وجوه الثلاثة: النقيب والضيفين، فأرى مظاهر الفرح والإعجاب.

        وبعد ذهابهم. عاد إلينا النقيب فقال: إنَّ السيد رئيس شرطة المحافظة يطلب نسخة من القصيدة!!!.

*   *   *

        وأختم هذا الحديث عن الشاعر أبي ضياء، فأقول: لكل شاعر أبيات يقولها تندّراً وتملُّحاً، وتكون في الغالب بِنت لحظتها، وهي، وإن لم تكن في مستوى الشعر العالي الذي ينسب إليه، تعبِّر عن مشاعره العفويّة.

        مرّة كان يتناقش مع أحد البعثيين، فقال البعثي: شعارنا: أمة عربية واحدة. ذات رسالة خالدة. فسأله أبو ضياء: وما تعريف الشعار؟! فارتبك. وبعد ذهابه قلت: أتسأله عن التعريف، والتعريفات يعجز عنها من هو أكثر علماً وثقافة منه، بل لعلَّ هذا “الرفيق” لا يفرِّق بين الشعير والشعار؟! فضحك وقال:

الشِّعر والشعير والشعار         يحسبها سواءً الحمارُ

———-

        ومرة، فقد نعليه من مكانهما. وهو يسمي النعلين “كُلاشاً” فقلت له: خُذْ أيَّ كُلاش من كلاشاتنا! فقال:

إذا ذهب الكُلاش فلا كلاشٌ      يقومُ مقامهُ عند اللَّبـوس

كان شِراكَهُ لمســاتُ خَزٍّ  كأنَّ مَدَاسَهُ وجه الرئيس!.

———-

        وقد قضينا في السجن معاً ما يزيد على السنة، فكانت روح أبي ضياء الحلوة تُذهب أكدار السجن، وتضفي عليه سروراً وحبوراً.

        رحمه الله رحمةً واسعة، فقد علمت أنه توفي في صبيحة يوم الأربعاء 24/10/1427هـ- 15/11/2006م.

وهو من مواليد قريته (عين النخيل) عام 1931م.

أدب السجون يزدهر في تركيا

كتب الصحافي كريم فهيم في صحيفة “واشنطن بوست”، أنه فيما يقبع معارضون في سجون تركيا على مر تاريخها الحديث المضطرب، فإن القصائد والمذكرات والروايات الخيالية وحتى سيناريوهات الأفلام، كانت دائماً تتسلّل إلى الخارج.

وتتمتع تركيا بتاريخ طويل من أدب السجون، لكن السنوات الأخيرة كانت مثمرة بشكل خاص. فقد أدت حملة القمع التي شنتها الحكومة والتي وضعت الآلاف من الناس وراء القضبان إلى طفرة ملحوظة في النشر، إذ نشرت ثمانية كتب على الأقل من سجناء حاليين أو سابقين، خلال العامين الماضيين وحدهما

أوضح فهيم أن إحدى هذه الروايات كانت عبارة عن مذكرات كتبها الروائي أحمد ألتان بعنوان يوحي بمدة طويلة من السجن:”لن أرى العالم مرة أخرى”. كما أن صلاح الدين دميرطاش، محامي حقوق الإنسان السجين والرئيس المشارك السابق لأكبر حزب معارض، وضع كتاباً حزيناً من القصص القصيرة، التي أصبحت من أكثر الكتب مبيعاً في تركيا، وتنشرها الممثلة ساره جيسيكا باركر، التي باتت بصمة أدبية جديدة في الولايات المتحدة.

لمحة عن الاضطرابات
ومع توسع السجون في تركيا، تقدم أحدث الكتب لمحة عن الإضطرابات السياسية في البلاد خلال العامين اللذين أعقبا المحاولة الإنقلابية الفاشلة في عام 2016 ضد حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان. وسجنت السلطات عشرات الألاف من الأشخاص الذين تم اتهامهم بمساعدة الإنقلابيين أو حزب العمال الكردستاني المحظور.

6 كتب على الأقل

وطاولت أحكام السجن صحافيين وسياسيين معارضين وغيرهم من النقاد، كما تبخر تسامح الحكومة مع أصوات المعارضة. وتم تأليف ستة كتب على الأقل من قبل أعضاء في حزب سياسي مؤيد للأكراد . وكان العشرات من أنصار حزب الشعوب الديمقراطية قد سجنوا أو طردوا من مناصبهم عقب اتهامهم بالعلاقة مع حزب العمال الكردستاني، علماً أن الحزب نفى أي صلة له بالمتشددين. وفي كتاب ألفته غولتان كيساناك، الرئيسة السابقة لحزب الشعوب الديمقراطية التي أمضت 14 عاماً في السجن، عمدت إلى إرسال أسئلة لسجناء آخرين عبر محاميهم. وأبرزت شعبية بعض الأعمال الإقبال المرن على أدب السجون. ويبدو أن جميع القراء لديهم تقريباً كاتب مفضل على الأقل أمضى فترة في السجن.

تقليد القراءة
وأشار فهيم إلى أن مورين فريلي التي ترجمت كتاب دميرطاش “الفجر” إلى الإنكليزية كتبت في مقدمتها أنه “إلى جانب التقليد العظيم في تركيا لكتابة المقاومة، هناك تقليد عظيم من قراءة هذه الكتب”. واستناداً إلى ناشر الكتاب، فإن 200 ألف نسخة منه قد بيعت منه في تركيا. وقالت آيمي ماري سبانغلر، التي تمثل دميرطاش وغيره من المؤلفين في تركيا، إن الحجم الفعلي لقراء “الفجر” من المرجح أن يكون أكبر. وأضافت أنه من الصعب في بعض الأحيان العثور على المكتبات، لكن بسبب شعبية المؤلف، فقد تم تناقل نسخ من الكتاب في ما بين الأشخاص الذين لا يشترون الكتب عادة. وفي ديسمبر (كانون الأول) نشرت صورة في مجلة “فوغ” لأوف باركر وهي تحمل كتاب “الفجر” أمام منزلها في ويست فيلدج بنيويورك على وسائل التواصل الإجتماعي مما تسبب بضجة كبيرة في تركيا واتهمتها حكومة أردوغان بنشر الدعاية الإرهابية في الخارج.

الدعم الخارجي
ولفت الكاتب إلى أن الحديث عن الدعم الخارجي في تركيا ليس جديداً، إذ قام بابلو نيرودا وغيره من الفنانين العالميين بحملة لإطلاق سراح الشاعر التركي ناظم حكمت. وفي عام 1982 منحت لجنة تحكيم في مهرجان كان السينمائي التركي يلماز غوني جائزة عن فيلمه الذي أخرجه من السجن.

المصدر

24.ae