أرشيف الوسم : القوقعة

رواية القوقعة -الحلقة الخامسة مصطفى خليفة

يرد عليه الرقيب الأعوج :

– تسقط … تسقط .. تسقط .

– يعيش الرئيس المفدى .

– يعيش … يعيش … يعيش .

20 كانون أول

تنشأ في السجن مهاجع جديدة. يدخلها الناس سويةً أو على دفعات. بضعة أيام ويكتمل نصاب المهجع. عشرات، مائة.. مئتان… ثلاث أو يزيد!. الوجوه متشابهة. لا يعرف أحدٌ أحداً. يبدأ التعارف بعد دقائق.. ويستمر سنوات.

مع التعارف يبدأ الفرز. يبدأ الالتفاف والتلاقي. في البداية تنشأ التجمعات على الأرضية السياسية التنظيمية والتي كانت سبباً في دخولهم السجن، أبناء التنظيم الواحد، يلتقون .. سواءً كانوا يعرفون بعضهم سابقاً أم لا .. يتعارفون، يشكلون مجموعة واحدة، وحياة اجتماعية مشتركة، لهم اجتماعاتهم وأسرارهم، يتكئ بعضهم على بعض، الروح الجماعية تشكل لهم وهماً بالقوة .. وبالتالي الحماية، أن تكون محمياً بالجماعة يعطي الشعور بالأمان.

تبدأ الحالة شديدة متوترة، تصل إلى حد التعصب وعداوة الآخرين، مع الأيام .. تبدأ بالتراخي، خاصة إذا كان المهجع كله ذا لون تنظيمي واحد.

تأتي دروس عديدة، قد تكون صائبة وقد تكون خاطئة. وفي النص الذي يحتوي على كيفية التعامل مع التنظيمات المعادية .. هناك درس يبقى صائباً على الدوام: “إذا أردت لأفراد تنظيم ما أن يأكلوا بعضهم بعضاً .. اسجنهم سويةً”.

الإحباط، التباعد، النفور، الكراهية، النيل من هيبة القيادات .. وتبدأ الوشائج التنظيمية بالتراخي والتفكك، ومعها يبدأ التطلع إلى المحيط خارج إطار التنظيم الواحد.

تمر الأيام. تنشأ علاقات جديدة على أرضية جديدة : “الجغرافية”. أبناء المنطقة الواحدة. يستعيدون فيما بينهم الذكريات. يتذكرون الأماكن الأليفة بحنين بالغ، يتذكرون بعض الأحداث العامة و المشهورة، ويوماً بعد يوم تكبر التقاطعات، وتكبر معرفتهم بعضهم ببعض.

مع ازدياد المعرفة، وبأسئلة بريئة في الظاهر يُنبش ما كان محسوباً أنه من المنسيات. فلكل شخص أو عائلة أو عشيرة إيجابياتها .. ولها كذلك ما تخجل منه وتحاول نسيانه .. أو جعل الآخرين ينسونه . لكنه السجن و له قوانينه الخاصة… البسيطة… الصريحة… الوقحة !

تمر الأيام، الأسابيع، الشهور، السنوات!.

تنشأ علاقات جديدة على أرضية جديدة. الميول، الهوايات، المهن، المهتمين بالأدب، الفنانين، المعلمين، الأطباء …..

أسرة من أب وثلاثة أولاد.الأولاد جميعاً منظمون، استطاعوا التواري عن الأنظار. وعند مداهمة رجال الأمن بيتهم لم يجدوا إلا والدهم (عمره 65 سنة) فاعتقلوه رهينة ليدلهم على أبنائه الذين لا يعرف أين هم. بقي الأب معتقلاً في فروع المخابرات بضعة أشهر، ثم حولوه إلى سجن تدمر، ثم تم اعتقال الأولاد لكن لم يفرج عن الأب. وبعد مضي سبع سنوات (صار عمر الأب فوق السبعين) عقدوا جلسة محكمة، وخلال بضع دقائق تم الحكم على الأولاد الثلاثة بالإعدام، وتم تنفيذ الإعدام كالعادة، وكاد الأب أن يجن!. بل إن الحادثة أثّرت على جاري نسيم [طبيب خريج فرنسا – قليل التمسك بالدين – متأثر بالثقافة الغربية].

وذات صباح , فتح عناصر الشرطة باب المهجع , قبل أن يتموا فتحه قفز نسيم كنابض مضغوط تم إفلاته , بأقل من ثانية أصبح خارج المهجع بعد أن رفس الباب بقدمه مكملاً فتحه!.

فوجىء عناصر الشرطة, ولم يتخلصوا من وقع المفاجأة حتى فاجأهم ثانية بالهجوم عليهم..

الباب مفتوح ونحن نراقب ما يحدث بالساحة , كان نسيم يتحرك ويصرخ صراخاً وحشياً كجمل هائج, عناصر الشرطة والبلديات أقل من عشرة .. وذُهِلتُ .. ما هذه القوة الهرقلية التي أظهرها نسيم ؟.. أين تعلم هذه الحركات القتالية ؟!.. يهاجم أحدهم , يقفز أمامه عالياً ثم يهوي بسيف كفه على رقبته أو على أنفه فيلقيه أرضاً !!.. عنصران من الشرطة وواحد من البلديات ألقاهم أرضاً خلال أقل من دقيقة !! بعضهم ابتعدوا مسرعين .. فروا .. وبعضهم هجم على نسيم للإمساك به, علا الصياح في الساحة, أطل الحراس الموجودون على الأسطحة, سرعان ما وجهوا بنادقهم تجاه نسيم.. وهبط قلبي بين قدمي.. هل سيطلقون النار عليه؟.. لكنه ملتحم مع الشرطة .

أحد الرقباء هجم عليه من الخلف وأمسكه من رقبته, تشجع باقي العناصر فهجموا عليه, لكن نسيم أخذ يدور حول نفسه بسرعة والرقيب معلق برقبته من الخلف, دار عدة دورات تزداد سرعتها مع كل دورة .. ارتفعت قدما الرقيب عن الأرض وأخذ يدور مع دوران جسم نسيم , توقف نسيم فجأة وجذب الرقيب فألقاه أرضاً !! .

فُتح باب الساحة الحديدية وأخذ عناصر الشرطة يتدفقون, العشرات منهم أحاطوا بنسيم لدرجة أننا لم نعد نستطيع أن نراه, مع هدوء حركتهم تأكدنا أنهم قد تمكنوا منه.

حضر مدير السجن يحيط به المساعد وعدد من الرقباء والشرطة.

باب مهجعنا ما زال مفتوحاً, نراقب ما يحدث دون أن نلتفت برؤوسنا, طلب مدير السجن إحضار نسيم أمامه , انفض جمع الشرطة من حول نسيم وأوقفه على قدميه عنصران, وفجاة انتفض وأفلت نفسه من قبضتيهما وهو يصرخ بكلام غير مفهوم متقدماً اتجاه مدير السجن, وهجمت عليه مجموعة من الشرطة أحاطوا به جيداً وثبتوه.

أحد الرقباء أشار إلى مدير السجن اتجاه مهجعنا فتقدم المدير من الباب معه المساعد وبعض الرقباء , طلب أبو حسين وتكلم معه , طلب طبيباً من المهجع وسأله , تشاور قليلاً مع طبيب السجن , عاد وطلب طبيب المهجع سائلاً إياه عن الدواء الذي يريده, ثم ذهب بعد أن أمر بإعادة نسيم إلى المهجع دون إزعاج

كان تصرف مدير السجن أقرب إلى التفهم و الود، هذا الأمر المستغرب .. أطلق تكهنات وتحليلات وتأويلات لم تنته. بعد إغلاق الباب بقي نسيم لمدة ساعتين تقريباً يمشي مشياً سريعاً وسط المهجع جيئةً وذهاباً. يقف. يعاود المشي السريع بعدها .. لم يكن ينظر إلى أي شخص ولا إلى أي مكان!

بعد هاتين الساعتين نودي على رئيس المهجع, بحذر شديد أعطى الرقيب ثلاث علب دواء لأبي حسين قائلاً: – هدول .. دواء المجنون !.

كان نسيم لحظتها قبالة الباب تماماً , انتفض وانطلق كالسهم اتجاه الباب , شاهده الرقيب في انطلاقته فتراجع إلى الوراء عفوياً رغم الباب المغلق .. وصل نسيم إلى الباب .. أخرج يده من الطلاقة يحاول الامساك بالرقيب وهو يصرخ :

– المجنون ؟!.. انت المجنون ولك كلب !…

لأول مرة منذ ما يقارب الاثني عشر عاماً أرى الشرطة خائفين , فروا من أمام نسيم في الساحة , رأيتهم مذعورين !, لأول مرة أراهم يتلقون الشتائم ولا يطلقونها !.. يتلقونها ولا يردُّون.

رفض نسيم تناول الدواء من الطبيب , وتشاور هذا مع أبي حسين بعد أن شرح له أن أي مريض بهذه الحالة يرفض تناول الدواء ويجب إجباره على ابتلاع الحبوب , وطلب منه الاستعانة بمجموعة “البراعم” [أي العمالقة والأقوياء] لإعطائه الدواء بالقوة , فالمريض في حالات كهذه يمتلك قوة هائلة غير طبيعية ويحتاج إلى أربعة أو خمسة أشخاص حتى يستطيعوا إمساكه وإجباره على ابتلاع الحبوب!.

قبل الظهر تناول الدواء , نام على إثرها نوماً عميقاً…

نام بعدها إلى الصباح وعندما استيقظ تصرف تصرفاً طبيعياً كما لو أنه لم يمر بأية مشكلة أو ماشابه. أوكل لي الطبيب بصفتي صديقه وجاره أمر إعطائه الدواء بانتظام , مشدداً على أنه يجب أن لا أنسى أبداً مواعيده, لأن أي انقطاع سيؤدي حتماً إلى عودة حالة الهياج!.

بقيت علاقتنا الثنائية بنفس الحميمية, استأنفنا حياتنا اليومية المشتركة كالسابق, ومرت الأيام لكنه لم يتطرق بحديثه ولا مرة إلى ما حدث, حتى موضوع إعدام الإخوة الثلاثة لم يعد إلى ذكره أبداً .

25 أيلول

بعد ستة أشهر أو سبعة سأتم عامي الثاني عشر في السجن، لقد عدت إلى عد الأيام والشهور وهذا في عرف السجناء دلالة سوء، لكن ألا يحق لي أن أتساءل إلى متى؟.

البعض هنا سبقوني بسنوات.. وما زالوا! اذا كان الأطفال الذين حكمتهم المحكمة الميدانية بالبراءة .. ما زالوا يقيمون في “مهجع البراءة”، فهل يأمل شخص مثلي.. منسيّ أن يخرج من هذا الجحيم ؟ هل الطريق إلى هذا السجن ذو اتجاه واحد فقط ؟ هل العبارة التي يكررها السجناء يوميا بأن “الداخل مفقود والخارج مولود” صحيحة ؟ لم أر أي شخص دخل هذا السجن يخرج منه!.

العجاج ، أو كما يسميه البعض ” الطوز “.. يثور هنا في هذه الصحراء مرتين أو ثلاث مرات كل عام، تثور العواصف الرملية فتملأ الأجواء بالغبار ويستمر ذلك يوماً أو يومين أو ثلاثة، سواء استمر هبوب الريح أم توقف فإن الغبار يبقى معلقا في الهواء، نتنفس الغبار، الأنف.. الفم. العينان.. تمتليء كلها بالغبار، ننام والغبار ما زال معلقا. نستيقظ فنجد أن كل فتحات الانسان الموجودة في الرأس قد امتلأت بالتراب المسحوق الناعم، مياهنا غبار .. طعامنا غبار .

منذ صباح أول البارحة ابتدأ هبوب الرياح. أصبحت الرياح زوابع، هذه الزوابع قَذَفَت من الشراقة التي في السقف مزقاً من أكياس بلاستيكية والكثير من القش والعيدان.. شتى النباتات الصحراوية اليابسة.

كل من لديه قطعة ثياب زائدة حاول لف رأسه بها ، الكثير من الأشخاص لم يعد يظهر من وجوههم سوى العينين .

فجأة قذفت الريح على القضبان الحديدية للشراقة صفحة كاملة من جريدة .. علقت هذه الصفحة بين القضبان !.

أنظار جميع من في المهجع تعلقت بهذه الجريدة، تهزها الريح ويسمع الجميع صوت خشخشتها. شوق حقيقي لرؤية الأحرف المتلاصقة ، الكلمات المطبوعة!.

سمعت البعض يدعون ويبتهلون إلى الله أن يسقط الجريدة داخل المهجع وألا يجعلها تطير بعيدا !.

في الأجواء الطبيعية كنا نرى الحارس كل بضع دقائق، الآن لا أثر للحارس، يبدو أنه يلوذ بأحد زوايا السطح متقيا الرياح والغبار.

هذه جريدة ، وفي الجريدة أخبار ، ونحن منذ أكثر سنتين، تاريخ قدوم آخر نزيل إلى المهجع ، لم نسمع شيئا عما يدور خارج هذه الجدران الأربعة.

الكثير من الناس وقف منتصبا ، أزاحوا عن وجوههم الأقمشة التي تلثموا بها ، من لم يقف اعتدل في جلسته، بعض من وقف مشى بشكل عفوي إلى تحت الشراقة ، الأنظار تتابع تراقص الجريدة بين القضبان!. واحد من الواقفين تحت الشراقة ، وهو من الفرقة الفدائية ، نظر إلى الناس وقال بصوت مسموع للجميع :

– يا شباب .. هَرَم ؟.

على أثر سؤاله هذا قفز العديد وهم يقولون :

– هرم .. هرم .. هرم ! .

لم تستغرق عملية بناء الهرم البشريوإنزال الجريدة أكثر من عشر ثوان تقريبا. كان من الممكن أن تكلف العديد حياتهم ، لكنها مرت بسلام. وأصبح لدينا جريدة!.

خاطب أبو حسين الفدائي الذي أنزل الجريدة وبلهجة سريعة:

– بسرعة .. بسرعة .. عـ المراحيض، اطويها، خلي واحد يقرأها ويحكينا شو فيها أخبار . وركض الفدائي إلى المرحاض حاملا الجريدة.

الفرحة عمت الجميع , فرحة حقيقية , الكثير تصافحوا وتعانقوا مهنئين بعضهم بعض.. إنه انتصار آخر !. التفتَ نسيم إلي بعد أن عانقني .. قال :

– أنت تعرف أن أول كلمة نزلت من القرآن الكريم هي كلمة ” اقرأ ” ؟ .

– أعرف …. و أنت تعرف أن الإنجيل يبدأ بـــ ” في البدء كانت الكلمة ” ؟.

– أعرف .. بس يا مخرج السينما شو يقول لك هذا الحدث ؟

– الحدث بيقول : إن الإنسان مستعد أن يضحي بحياته في سبيل المعرفة .

محتويات الجريدة جاءت مخيبة للآمال قليلاً , الوجه الأول من الصفحة هو صفحة الإعلانات الرسمية , والوجه الثاني هو الصفحة الرياضية و بها أخبار الدوري العام لكرة القدم !. وهذه الصفحة أثارت زوبعة من النقاشات لم تنته. حتى الإعلانات الرسمية أخذ الناس يقرؤونها بعناية شديدة .. النهم إلى القراءة !

الريح هدأت تماماً اليوم , لكن الغبار لازال معلقاً بالجو , حتى داخل المهجع الغبار يملأ كل الفراغات .

في الصباح أعاد الشرطة للمهجع شخصاً كان قد عوقب منذ شهر , ضبطوه في ساحة التنفس وعيونه مفتوحة , بعد أن جلدوه ونكلوا به أمامنا فيما نحن ندور حول الساحة , أمر المساعد بوضعه بالزنزانة الإنفرادية في الساحة الخامسة .

بعد أن دخل واطمأن إلى أن الشرطة أغلقوا الباب وذهبوا تَنفّسَ الصُّعداء, أخذ يضحك, جلس على الأرض.. وروى للجميع رحلة الشهر التي قضاها في الساحة الخامسة , بدأ حديثه بالقول :

– و الله يا شباب اشتقت لكم … وقت دخلت المهجع حسيت إني راجع على بيتي .. يا اللــه .. قديش المهجع حلو !.. يا شباب جنة .. جنة .. نحن عايشين هون بالجنة …

طَفِقَ يروي .. ويحكي يروي .. ويحكي !.

المرحاض داخل الزنزانة الانفرادية، وحتى يأمن أذى الجرذان اضطر أن يسد فتحة المرحاض بالخبز بعد أن عجنه وجعل منه سدادة , أقسم أن هناك جرذاناً بحجم الخروف الصغير!

ثلاث مرات في اليوم حفلة تعذيب أشبه ما تكون بالاستقبال في أول قدوم السجين إلى السجن .

يوضع الطعام في صحن قذر على بعد عشرة أمتار من باب الزنزانة , يفتحون الباب … يجب أن يخرج السجين سائراً على أربعٍ كما تسير الكلاب .. وأن يظل ينبح في الذهاب , وفي الإياب بعد أن يحمل الصحن.. خلال كل هذا تكون الكرابيج قد أكلت قطعاً من لحم ظهره !!.

النوم على الاسمنت .. لا بطانيات ولا أغطية ولا أي شيء .

الغبار لا زال معلقاً. رموش الناس أصبحت بيضاء , الشرطة متوترون لكن الرقابة ضعفت من الأعلى “الشراقة”.

لدينا في المهجع أربعة من البدو أميون لا يعرفون القراءة أو الكتابة , مهنتهم رعي الأغنام والجمال, عاشوا طوال حياتهم في هذه الصحراء يتنقلون في أرجائها, قبض عليهم وجيء بهم إلى السجن الصحراوي بتهمة مساعدة بعض المطلوبين على الفرار إلى دولة مجاورة, وعندما يُسألون هنا عن ذلك يجيب كبيرهم المدعو ” شنيور”:

– والله يا أخوي .. تهمة باطلة .. ” أتوا ” جماعة علينا .. وعلى عادة العرب .. رحبنا بهم , ضيفناهم, بعدين سألونا عــ الدرب.. دليناهم, هاي فيها شيء يا خوي؟! وبعدين يقولون لنا.. انتو عملاء.. و انتو جواسيس! عجيبة والله يا خوي!.

اليوم بعد أن سرد شنيور هذه القصة للمرة الألف تشعب الحديث كثيراً وكان كله منصباً على البدو وحياة البدو.

قال شنيور ما معناه :

– إن للكرم البدوي أسباباً عديدة , وإن أهم الاسباب هي أن البدوي يحب ضيفه .. يعشقه !.. وهذا بسبب أن البدوي يبقى شهوراً يعيش في هذه البراري بين الكثبان الرملية في وحدة مطلقة, زوجته وأولاده يعتبرهم أقل شأناً من أن يجري حديثاً معهم. لذلك نراه يحادث أغنامه أو جماله!.. يكون في المرعى لا يسمعه أحد, ولأنه يحب أغنامه فإنه يجرى حديثاً معها, ويكون هذا دليلاً إلى أن حاجته إلى المؤانسة.. قد بلغت مداها الأقصى, في هذا الوقت إذا حضر الضيف فسيجد حتماً شخصاً متلهفاً يغدق عليه الكثير الكثير من آيات الترحيب والمحبة, يقدم له أفضل ما عنده من كل شيء. وهذا من حيث لا يدري مكافأة له على مجيئه, وإغراءً له للبقاء أطول مدة ممكنة.

17أيار

بعد منتصف الليل , نسيم نائم إلى جانبي , الدواء الذي يتناوله يجعله ينام بعمق , لم أكن قد نِمْتُ بعد .

سمعت حركة في الساحة , جلست, نويت أن أنظر من الثقب لأرى ما يفعلون, قبل أن أمد يدي لفتح الثقب سمعت أحد الشرطة يصرخ بصوت عالٍ.. لم أفهم ماذا يقول, عاد لتكرار صراخه, إنه يقول اسماً ثلاثياً, أنصتُّ أكثر .. يصرخ:

– يا مهاجع الساحة السادسة .. مين عنده هذا الاسم ؟.

وقال الاسم الثلاثي مرة ثالثة .

لأجزاء من الثانية كنت أتساءل من هو صاحب هذا الاسم ؟.. وَقْعُهُ ليس غريباً علي .. كأنني سمعت هذا الاسم يوماً ما !! .. إنه اسمي .

صاح أبو حسين وكان مستيقظاً :

– يا شباب .. في حدا عندنا بهـ الاسم ؟.

رفعت سبابتي عالياً كما يفعل التلاميذ الصغار, رفعتها في وجه أبي حسين دون أن أنطق حرفاً.

وبسرعة رمى أبو حسين جسده الثقيل اتجاه الباب , بدأ يدقه بسرعة وقوة وهو يصرخ :

– هون يا سيدي .. هون .. هذا الاسم في المهجع الجديد رقم /8/ .

بعد دقيقة أو أكثر فتح الباب , وقف الرقيب ومعه شرطيان , توجه إلى أبي حسين سائلاً :

– هذا الاسم عندك .. يا رئيس المهجع ؟

– نعم سيدي .. هذا هو .

و أشار باصبعه اتجاهي , اقترب الرقيب مني , نظر بعيني غاضباً. رفع يده عالياً وبكل قوته هوى بباطن يده على خدي الأيمن, دار جسدي كله ربع دورة, بسرعة البرق ألحقها بلطمة على خدي الأيسر بقفا يده أعادتني إلى الوضع الطبيعي, عادت النجوم لتتراقص أمام عينيّ, قال غاضباً:

– يا جحش …. يا ابن الكلب …. صار لنا ساعتين ندور عليك ونصرخ .. ليش ما عم تجاوب؟ مد يده , وبقوة سحبني من صدري ليقذف بي خارج المهجع, وأغلق الباب.

ضرباً .. ركضاً , الرقيب وعنصرا الشرطة من الخلف, يسوقوني أمامهم, أصبحت أمام السجن, حانت مني التفاتة صغيرة, لازالت المنحوتة الحجرية في مكانها : “ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب” منذ أكثر من اثنتي عشرة عاماً قرأت هذه المنحوتة، ودخلت. الآن اقرأ هذه المنحوته وأخرج , إلى أين ؟ .. لست أدري !!.

ثلاثة رجال في اللباس المدني تقدموا مني , أحدهم طويل جداً, تقدم مني وفتح ورقة كانت مطوية في يده وسأل :

– أنت فلان ؟

– نعم .

التفت إلى رفيقيه , قال :

– هات الكلبشة .

مددت يديَّ إلى الأمام, ألبسهما الكلبشة, طقطقة ناعمة , أصبحت يداي مقيدتين إلى الأمام , ثم وقّع بعض الأوراق وسحبني.

سيارة تكسي “بيجو”، السائق يجلس خلف المقود , جلس الطويل إلى جانبه , جلست بين الاثنين الآخرين في المقعد الخلفي , انطلقت السيارة في عتمة الليل , أنوارها تشق الظلام شقاً .

لم يتكلموا بشيء , تعاملوا وكأني غير موجود معهم، بعد قليل من انطلاقة السيارة سأل الطويل عن الساعة فأجأبوه: إنها الثانية والنصف بعد منتصف الليل.

بعد ساعة نام الجميع عداي والسائق الذي ينظر إليَّ بمرآة السيارة على فترات متباعدة, أغمضت عيوني لأوهمه أنني نائم , وتساءلت:

– يا هل ترى .. إلى أين ؟… مهما كان المكان الذي سيأخذوني إليه فإنه حتماً سيكون أفضل . ارتحت قليلاً، فكرت بنسيم .. ماذا سيقول , وماذا سيفعل عندما يستيقظ صباحاً فلا يجدني إلى جانبه؟!.. اشتقت إليه .

وصلنا العاصمة. هذه مدينتي .. لم أعرف شيئاً في الشوارع التي كنا نسير فيها!.. مدينتي التي ولدت فيها وترعرعت. لم أعرف في أي شارع نحن ولا إلى أين نتجه!.. لقد تغيرتْ إلى درجة يصعب على من غاب عنها هذه المدة أن يعرفها, إلى أن وصلنا إلى الساحة المركزية للمدينة, ها أنا أعود إلى مدينتي التي أعرفها, هذه النوافير.. هي.. هي.. عندما كنت طفلاً كان يطيب لي أن أقف تحت رذاذها المتطاير.. فأشعر بالانتعاش, ومن هذه الساحة عرفت أن السيارة تتجه نحو مركز المخابرات الذي حللت فيه لدى عودتي.

ترى هل مازال أبو رمزت وأيوب هناك؟ .. خيزرانة أيوب التي تبدو لي الآن كلعب الأطفال أمام ما شاهدت وذقت .. هناك!.

السيارة تتوقف عند إشارات المرور , أنظر إلى الناس , أتفحص وجوههم , ما هذه اللامبالاة .. ترى كم واحداً منهم يعرف ماذا يجري في السجن الصحراوي ؟ .. ترى كم واحداً منهم يهتم ؟ أهذا هو الشعب الذي يتكلم عنه السياسيون كثيراً ؟ .. ولكن هل من المعقول أن هذا الشعب العظيم لا يعرف ماذا يجري في بلده؟! إذا لم يكن يعرف فتلك مصيبة , وإذا كان يعرف ولم يفعل شيئاً لتغيير ذلك فالمصيبة أعظم.

انتبهت لنفسي , مالي أفكر غاضباً هكذا ! هل أصبحت سياسياً ؟ … ابتسمت رغماً عني , هل أتوقع أن يخرج هذا الشعب في مظاهرات عارمة للمطالبة بإطلاق سراحي من السجن ؟ .. من أنا ؟ ! .

يا إلهي ما أكثر الناس, أحدق في الوجوه, بيتنا قريب من المكان الذي تتجه إليه السيارة, قد يحالفني الحظ فأحظى بمشاهدة أمي أو أبي أو أحد أخوتي, لا بل يكفي أي وجه أعرفه.

انحرفت السيارة عن الطريق الذي كنت أتوقعه والذي يؤدي إلى ذلك المبنى الكئيب القريب من بيتنا , سارت باتجاه الجنوب الغربي مخترقة المدينة, مررنا بمعالم كثيرة أعرفها, أحن إليها, ها هي الجامعة والطلاب والطالبات داخلين خارجين, لا أذكر من حياتي إلا أنني كنت طالباً والآن أمشي سريعاً في العقد الخامس من عمري!.

مبنىً ضخم, حراسات مشددة, الدخول صعب ومعقد حتى على سيارات الأمن, اتصالات واستفسارات, سمحوا للسيارة بتجاوز الحاجز, دخلنا وأصبحنا أمام البناء, أنزلوني أمام باب زجاجي عريض, البلاط يلمع, كل شيء يوحي بالنظافة والنظام , ذهب الطويل حاملاً معه الأوراق, دخل أول غرفة إلى اليسار, لم يطلب مني أحد أن أغمض عيني أو أنكس رأسي, لكن رأسي نصف منكس بحكم العادة , عاد وقال للاثنين اللذين معي:

– نزلوه عــ السجن .

مباشرة قبالة المكان الذي كنا نقف فيه , نزلنا الأدراج .. أدراج .. ثم نلف ثم أدراج .. باب عبارة عن قضبان حديدية , قفل ضخم , يدقون الباب , يحضر سجان، يفتح الباب يدفعوني إلى الداخل, يغلق الباب, ينصرف الاثنان.. ثم:

– انتظر هون.. لا تتحرك.

يذهب حاملاً الأوراق إلى غرفة في صدر رواق طويل, يظهر على باب الغرفة التي دخل إليها, يناديني, أذهب إليه , يدخلني الغرفة فأرى رجلاً أشيب وراء طاولة ينظر إلي , يطلب مني أن أخرج من جيوبي جميع أغراضي .

– ما عندي شيء .

– ابداً .. أبداً ؟ ما عندك مصاري ؟ .. ما عندك أغراض ؟ .

– ما عندي شيء .

– طيب .. ما عندك هوية ؟ .. جواز سفر ؟ .

– لا لا ما عندي شيء, جواز سفري وهويتي أخذوهما مني في السجن الصحراوي.

التفت إلى السجان, طلب منه أن يأخذني إلى الحمام وبعد أن أنتهي من الحمام أن يضعني في المنفردة رقم /17/, ثم قال لي:

– الحمام ساخن , فوت عــ الحمام .. أول مرة اغسل كل ثيابك بشكل جيد, بعد غسيل الثياب تحمم أنت.. بــ تظل تتحمم وتغسل الثياب حتى تحس أنه ما ظل عندك ولا قملة.

أخذني السجان , أدخلني الحمام المليء بالبخار, قبل أن يغلق الباب علي قال:

– أعمل مثل ما قال لك المساعد , بس تخلص دق الباب .. مفهوم ؟ .

ها أنا لوحدي.. في زنزانة مطلية باللون الأخضر الفاتح, البطانيات على الأرض, الزنزانة واسعة في سقفها فتحتان اكتشفت أنهما للتهوية.

نشرت ثيابي المبللة على الأرض , جلست على البطانيات.. تغطيت بواحدة, الجو هنا حار , بعد قليل تمددت وغفوت .

استيقظت على الصوت المرعب , صوت قرقعة المفتاح الحديدي في الباب الحديدي, انفتح الباب وظهر رجلان , أحدهما كهل والآخر شاب, سألني عن سبب نومي عارياً, أجبته بأن الثياب الوحيدة التي أملكها مغسولة .. وهي لم تجف بعد.

أغلق الباب , بعد ربع ساعة عاد الشاب حاملاً صرة من الثياب , بيجاما رياضية , غيار داخلي .. ظهرتُ بمظهر جديد .

20آيار

أنتظر بقلق دون أن أعرف سبب نقلي إلى هنا, المعاملة هنا جيدة نسبياً.. باستثناء بعض الصفعات على الوجه والرقبة أثناء الخروج إلى المرحاض أو العودة منه, لم أتعرض إلى أي تعذيب مباشر, لكن أصوات التعذيب التي تصل واضحة إلى جميع المنفردات تغدو أكثر استفزازاً ومدعاة للتوتر والخوف, كل يوم من الثامنة والنصف صباحاً تبدأ صرخات الألم والتوسل, وتنتهي عند الثانية والنصف, لتعاود الأسطوانة عزفها من السادسة مساءً وحتى ساعة متأخرة من الليل.

أحاول تجاهلها.. نسيانها أو التغاضي عنها.. لا أفلح.

21أيار

اليوم مساءً فتحوا باب زنزانتي وطلب العنصر خروجي, ثم قادني إلى أحد المحققين ليطلب مني أن أكتب كل شيء. وبعد أن كتبت قال لي: هذا كله كلام فارغ. اكتب غيره باختصار مفيد. كنت مبتهجاً فقط لأنني أمسك بيدي قلماً بعد اثنتي عشرة سنة.

22 أيار

أخرجوني اليوم إلى رجل يضع نظارات طبية, يجلس وراء مكتب أسود, طرح علي أسئلة عادية. ثم أعادني إلى زنزانتي, جلست. طوال الوقت أسمع صراخ امرأة.. إنهم يعذبونها!.

23 أيار

في أول الليل فتحوا باب زنزانتي وأمروني أن أخرج.

– خذوه على بساط الريح وبس يقرر يعترف .. هاتوه لهون !.

سحبوني بعنف ، رغم كل شيء فقد ارتحت قليلا لأنني عرفت أن أهلي قد أصبحوا ورائي.

ألقوني على لوح خشبي، ربطوني من جميع أنحاء جسمي، رفعوا الجزء السفلي من اللوح الخشبي عاليا.. ثبتوه.

بدأ الضرب.. وبدأ الصراخ.

كنت أتألم بشدة، لكنني لم أكن خائفا ولا هلعا، أنا الآن “صاحب خبرة وتجربة”، كما لرجال الأمن دروسهم وقواعدهم ، فإن للسجناء أيضا قواعدهم ووصاياهم ، وهنا كان أهم وصيتين:

الأولى : مهما تألمت من التعذيب فلا تعترف بشيء لكي تتخلص من الألم ، لأن الاعتراف سيجعلهم يعرفون أنك قد ضعفت ، لذلك فان كمية التعذيب ستزيد لانتزاع المزيد.

الثانية : إذا طلبوا منك أن تتعاون معهم مقابل أن يطلقوا سراحك، فلا تقبل، لأنك تكون قد تورطت ورطة تدوم مدى الحياة.

كنت أتألم .. لكن لم أعدّ الضربات. بعد فترة أحسست أن قدميّ قد تخدرتا.

انتهت لعبة عض الأصابع لصالحي !.. إما انهم تعبوا، أو ملوا، أو اقتنعوا أنني لا أنتمي لأي تنظيم. تركوني بناء على أوامر “الصوت الذي كان في الغرفة”:

– اتركوه .. اتركوه، خذوه عـ الزنزانة، العمى ما أيبس رأسه.. مثل رأس الجحش!.

24 أيار

اليوم أخرجوني, طمشوني, قادوني… قال صوت أجش ثخين:

– ارفع الطماشة عن عيونه .. وروح أنت .

رفع العنصر الطماشة , ثلاثة رجال في منتصف العمر .. أحدهم يجلس خلف مكتبٍ فخم وأنيق, الآخران يجلسان إلى جانبي المكتب… يفحصوني من قمة رأسي إلى أخمص قدمي, مزيج من القسوة والسطوة.. من الترفع والعنجهية..

قررت أن أكون جريئاً: إذا ممكن تسمحوا لي بسؤال .. أنا ليش هون ؟ .. ما هي جريمتي حتى أبقى في السجن أكثر من /12/ سنة ؟

قال الرجل الجالس خلف المكتب , هو نفس الصوت الأجش :

– أولاً اخرس , ثانياً أنت هون اتجاوب على الأسئلة مو تطرح أسئلة.

قرأ ثلاثة أسماء لا أعرفهم , قرأ الاسم الرابع , الاسم الثلاثي لصديقي أنطوان , عندها رفعت يدي مسرعاً , وكأني أريد أن أثبت مصداقيتي .. صرخت :

– هذا يا سيدي .. أنطوان .. هو صديقي بفرنسا .

– هاه .. أنت تعرف أن هذا أنطوان من أخطر الناس ؟ .. هو شيوعي معارض للنظام , يعني مو مثل خالك , رغم أن خالك شيوعي .. خالك رجل كثير وطني ومخلص , بس أنطوان.. أنطوان عميل.

– لأ .. لأ سيدي , أنطوان ما كان يحكي معي بالسياسة .

فتح اضبارة أمامه , تفحص عدة أوراق , سحب ورقة منها , نظر إليها ملياً وطفق يقرأ .

” بتاريخ كذا .. وكذا .. دعيت إلى سهرة مع صديقتي الفرنسية , السهرة كانت في بيت أنطوان , وكان حاضراً في السهرة , فلان وفلان وفلان …… عند نهاية النقاش بقي هناك شخص لم يشارك في الحديث لم أعرف رأيه, وهو طالب من العاصمة يدرس الإخراج السينمائي هنا في فرنسا, وقد أمضى فترة النقاش ينظر إلينا مبتسماً.

توجهت إليه بالسؤال عن رأيه عما دار من حديث، ولكي أدعه يطمئن تابعت تهجمي على السلطة السياسية. ضحك وقال كلاماً جارحاً بحق الرفيق الأمين العام رئيس الجمهورية المفدى , وأنا ألآن سأورد كلامه كما ورد على لسانه مضطراً رغم أنني محرجٌ جداً , وسيادتكم تعلمون أنني على استعداد لأن أقطع لساني ولا أدعه يتلفظ بهكذا عبارات مقذعة بحق الإنسان الذي نُجِلّه ونحترمه .. لا بل نعبده .. السيد الرئيس حماه الله ونصره , ولتكن أرواحنا فداءً له.

ولكن تسجيلي لهذه العبارات إنما الهدف منه أن تكون الجهات الأمنية الساهرة على أمن الوطن على علمٍ بكل شيء , وأن تكون في صورة الموضوع, قال المدعو فلان رداً على تساؤلي.. و بالحرف الواحد:

– أنا كرجل يهوى ويعمل في مجال الفن السينمائي فإنني أهتم بالصوت والصورة، إذا كانت الرسالة تعرف من عنوانها , فإن عنوان هذا النظام هو الرئيس .. فماذا يقول الصوت ؟.. إن صوت هذا الرئيس مثل صوت التيس .. والتيس كما تعرفون هو من أنتن الحيوانات وأعندها!

أما الصورة فتقول , إن رأسه مثل رأس البغل , وأنا أكره البغال كثيراً .. لو كان حماراً لأحببته , لأنه في هذه الحالة ينتمي إلى سلالة الحمير الأصيلة والعريقة .

لهذين السببين يا أخي , فإنني لا أحب هذا الرئيس ولا أحب هذا النظام .

عند هذه العبارة توقف الصوت الأجش عن القراءة , نظر إليّ بعمق وحقد وهو يطوي الأوراق الموجودة أمامه , ثم قال بلهجة استهزاء :

– نحن قلنا لك عن سبب وجودك هون .. عن جريمتك , وانت لازم هلق تقول لنا لأي تنظيم أنت منتسب .. هذا الكلام الوارد بالتقرير كلامك وإلا لأ ؟ .. احكي .

فيما كان يقرأ التقرير كان عقلي يعمل بسرعة مذهلة , كل حواسي كانت مستنفرة , كنت أسمع بنصف عقلي و النصف الآخر كان يفكر , حاولت تذكر السهرة فلم أفلح !.. التقطت التاريخ المذكور في التقرير , أكثر من ثلاث سنوات قبل عودتي إلى بلدي, يضاف إليها أكثر من اثنتي عشر عاماً قضيتها في السجن !.. كيف لي أن أتذكر سهرة من مئات السهرات التي كنا نقيمها ؟.. حتى أشخاص السهرة لم أتذكر منهم سوى أنطوان.

– هذا التقرير الذي قرأته وعمره أكثر من خمسة عشر عاماً , لا أذكر أني حكيت هيك كلام , وعلى فرض أني حكيته .. هذه نكتة لا أكثر ولا أقل, وأنت تعرف أنه يوجد مئات النكات من هذه الشاكلة . – حتى لو كانت نكتة .. هذه النكتة عقوبتها من سنة إلى ثلاث سنوات .

– بس أنا صار لي /12/ سنة في السجن !.

– ال/12/ سنة انساهم , هدول نتيجة خطأ نحن غير مسؤولين عنه , حسابك يبدأ من هذه اللحظة , وهلق احكي لنا عن تنظيمك .. ولأي تنظيم تنتمي .

– أنا منتسب إلى تنظيم .. الإخوان المسلمين !.

يبدو أنهم كانوا قد درسوا القضية واتخذوا قراراً. ولكن مادور خالي في كل هذا ؟ .. لست أدري .

10حزيران

أكثر من نصف شهر لم يحدث خلالها شيء, أصوات التعذيب أنهكت أعصابي, أن تتعذب أنت أهون من أن تسمع أصوات الصراخ الإنساني ليلاً نهاراً, أحاول أن أتلهى بقراءة الأسماء الموجودة على حيطان الزنزانة, جميعها مكتوبة بواسطة شيء معدني.. مسمار مثلاً, أسماء ذكور وإناث, بعضهم يكتب اسم مدينته أو حزبه السياسي , أحدهم كان يخط خطوطاً متوازية إلى جانب اسمه .. يبدو أن كل خط يمثل يوماً, عددتها: ثلاثة وثلاثين خطاً.

رواية القوقعة الحلقة الأولى مصطفى خليفة

يوميات متلصص

إنها قصة الفتية الأبرار في سجون الطغيان، يكتبها سجين عاش معهم المأساة. ولعل أول ما جنى عليه أن اسمه “مصطفى” هذا الاسم الذي يوحي بأنه مسلم، وبالتالي يمكن أن يكون من الإخوان المسلمين. ولم يشفع له أنْ علم الجلاوزة أن هذه التهمة لا أصل لها.

[يقدم الكاتب نفسه على أنه “مصطفى خليفة، مسيحي كاثوليكي، ملحد، عاش في باريس ودرس فيها وتخرج باختصاص مخرج سينمائي، وأحبّ أن يعود إلى بلده سورية ليخدم هذا الوطن” وما كان يدري أن عودته تعني دخوله سجناً من أعتى سجون الدنيا.

[والكاتب فنان بارع يحسن الوصف بالكلمة والصورة، وتتدفق أحاسيسه عبر كلماته. يكتب بالعربية الفصيحة تارة، وبالعامية تارة أخرى. وقد لخصنا هذا الكتاب وتجنبنا بذلك كلمات الإلحاد، وبعض الكلمات النابية التي يتفوه بها السجانون والجلادون والمحققون… وأدخلنا بعض التصحيحات اللغوية. [وإذا كنا لا نوافق الكاتب بالضرورة على كل كلمة كتبها، فإننا نؤكد أنه أحسن في تصوير الجرائم التي يمارسها النظام الطائفي الحاقد على أبناء شعبنا المؤمن. ولعل الله تعالى يكافئه على كتابته، فيهديه للدين الحق]

هذه اليوميات كتبتُها في السجن الصحراوي. وكلمة “كتبتُ” هنا ليست دقيقة ففي السجن الصحراوي لا يوجد أقلام ولا أوراق للكتابة.في هذا السجن الضخم الذي يحتوي على سبع ساحات، إضافة إلى الساحة صفر، وعلى سبعة وثلاثين مهجعاً، وعلى العديد من المهاجع الجديدة، والغرف والزنازين الفرنسية (السيلول) في الساحة الخامسة، والذي ضم بين جدرانه في لحظة من اللحظات أكثر من عشرة آلاف سجين، في هذا السجن الذي كان يحتوي على أعلى نسبة لحملة الشهادات الجامعية في هذا البلد، لم ير السجناء – وبعضهم قضى أكثر من عشرين عاماً – أية ورقة أو قلم.

الكتابة الذهنية أسلوب طوّره الإسلاميون. ” أحدهم كان يحفظ في ذهنه أكثر من عشرة آلاف اسم، هم السجناء الذين دخلوا السجن الصحراوي، مع أسماء عائلاتهم، مدنهم أو قراهم، تاريخ اعتقالهم، أحكامهم، مصيرهم …..”.

اثنان من رجال الأمن استلما جواز السفر، وبلطف مبالغ فيه، طلبا مني مرافقتهما.

أنا وحقيبتي – التي لم أرها بعد ذلك – ورحلة في سيارة الأمن على طريق المطار الطويل، أرقب الأضواء على جانبي الطريق، أرقب أضواء مدينتي تقترب، ألتفِتُ إلى رجل الأمن الجالس إلى جواري، أساله:

– خير إن شاء الله ؟ .. لماذا هذه الإجراءات ؟!

يصالب سبابته على شفتيه، لا ينطق بأي حرف، يطلب مني السكوت، فأسكت!

أصل مع مرافقي إلى مبنى. ومن ممر إلى ممر، ثم إلى غرفة فاخرة. انسلت إلى أنفي رائحة مميزة، لا يوجد مثيلها إلا في مكاتب ضباط الأمن، هي خليط روائح، العطور المختلفة، السجائر الفاخرة، رائحة العرق الإنساني، رائحة الأرجل.

كل ذلك ممزوج برائحة التعذيب. العذاب الإنساني. رائحة القسوة.

بينما كنت مذهولاً من رؤية الكابل الأسود يرتفع ثم يهوي على قدمي الشاب المحشور في دولاب السيارة الأسود، ثم يرتفع ناثراً معه نقاط الدم ونتف اللحم الآدمي، جمّدني صوت زاعق. التفتُّ مرغماً إلى مصدره، في زاوية الغرفة رجل محتقن الوجه، محمرّه، والزبد يرغي على زاويتي فمه: طمّشْ عيونه يا حمار. وُضعت الطماشة على عيوني ثم دفعة على ظهري، صفعة على رقبتي، يداي إلى الخلف، أسيرُ مرغما، يرتطم رأسي بالجدار، أقف.

– إرفع يديك لفوق ..ولك كلب … أرفعُهما.

– إرفع رجلك اليمين ووقف على رجلك اليسار.

– أرفع رجلي، أقف.

في الخلف يستمر ما كان يجري، أسمع صوت الكابل، صوت ارتطامه بالقدمين، صوت الشاب المتألم، صوت لهاث الجلاد، أكاد اسمع صوت نتف اللحم التي رأيتها تتطاير قبل قليل.. أصوات.. أصوات.

تتخدر اليسرى، لم أعد أستطيع الاحتمال، أغامر ..أبدل !!.. لم يحصل شيء، لم ينتبه أحد، أشعر بالانتصار!.. “بعد سنين طويلة من السجن مستقبلاً، سأكتشف أنه في الصراع الأبدي بين السجين والسجان، كل انتصارات السجين ستكون من هذا العيار!!”.

سيخ من النار لسع باطن قدمي، صرخت. قبل انتهاء الصرخة كانت الخيزرانة قد لسعت مرة أخرى .. الضرب متواصل، الصراخ متواصل.

وبدأت أعد الضربات وأنا أصرخ ألما. “بعد ذلك بزمن طويل، أخبرني المتمرسون: إن عدَّ الضربات أول علامات الضعف، وإن هذا يدل على أن المجاهد أو المناضل سينهار أمام المحقق!!..وقتها قلت في نفسي: ولكنني لست مناضلاً ولا مجاهداً. وأخْبَروني أن من الأفضل في هذه الحالات أن تكون لديك قدرة كبيرة على التركيز النفسي بحيث تركز على مسألة محببة لك، وتحاول أن تنسى قدميك !!”.

منذ تلك اللحظات علموني أن أقول: ” ياسيدي”.

هذه الكلمة لاتستخدم هنا كما بين رجلين مهذبين، هذه الكلمة تُنطق هنا وهي تحمل كل معاني الذلّ والعبودية.

طوال ثلاثة عشر عاما ، لم أسمع مرة قرقعة المفتاح في الباب الحديدي إلا وأحسست أن قلبي يكاد ينخلع!! لم أستطع الاعتياد عليها.

-اليدان مقيدتان بالقيد الحديدي إلى الخلف، كاحل القدم مربوط بجنزير حديدي إلى كاحل سجين آخر، نسير بصعوبة، نتعثر، ممرات … أدراج …. وصفعة مدوية.

تنبثق آلاف النجوم البراقة أمام عيني، الفجر ربيعي، أترنح…. أسكت.

يسحبوننا إلى خارج البناء، أرى أربع سيارات شحن ذات أقفاص معدنية، السجناء يسمون هذه السيارات بـ ” سيارات اللحمة”

أمام سجن تدمر الصحراوي

عشرات من عناصر الشرطة العسكرية.. الباب صغير.. تصدم العين لوحة حجرية فوق الباب مخططة بالأسود النافر:

“ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب”.

فتح لنا رجال الأمن أبواب السيارات، هم أنفسهم الذين كانوا يعاملوننا بفظاظة وقسوة (عندما كنا عندهم في فرع المخابرات في العاصمة)، أنزلونا من السيارات برفق مشوب بالشفقة، حتى إن أحدهم قال: ” الله يفرج عنكم ! “. وفيما بينهم كانوا يتحدثون همساً، يتحاشون النظر إلى عناصر الشرطة العسكرية الذين اصطفوا حولنا بما يشبه الدائرة، لاحظت أن لهم جميعاً نفس الوقفة، الساقان منفرجتان قليلاً، الصدر مشدود إلى الوراء، اليد اليسرى تتكىء على الخصر، اليد اليمنى تحمل إما عصاً غليظة أو كبلاً مجدولاً من أشرطة الكهرباء أو شيئاً مطاطيا أسودَ يشبه الحزام. ” عرفت فيما بعد أنه قشاط مروحة محرك الدبابة “.

ينظرون إلينا وإلى عناصر الأمن نظرة فوقية تحمل استخفافاً بعناصر الأمن ووعيداً مبطنا لنا. حركاتهم تدل على نفاد الصبر من بطء إجراءات التسليم والاستلام، يهزون يدهم اليمنى بما تحمل، هزات تبرُّم وغيظ، لباسهم جميعا عسكري أنيق، أعلى رتبة بينهم مساعد أول.

أكثر من مائة عنصر من عناصر الشرطة العسكرية يحومون حولنا، جميع السجناء يتحاشون النظر مباشرة إلى أي عنصر. رأسنا منخفض قليلا، أكتافنا متهدلة. وقفة تصاغُرٍ وذل، كيف اتفق جميع السجناء على هذه الوضعية وكأننا تدربنا عليها سابقا؟! لست أدري.

حكني رأسي من القفا، وكما يفعل كل إنسان يحكه رأسه، مددت يدي عفوياً وحككت !! وسمعت صوتاً راعداً: -ولك يا جماعة … شوفوا الكلب شوفوا !! عم يحك راسه كمان …!!

وسحبتني الأيدي خارج الرتل، تقاذفتني صفعاً ولكماً، لكمة تقذفني، صفعة توقفني، النار في الرقبة والوجه …. تمنيت لو أبكي قليلاً… طلبني المساعد لتسجيلي فلم يبق غيري، سجلني وأصبحت نزيلاً رسمياً في هذا السجن.

خلفي مهجع كبير. تخرج من جانب الباب بالوعة “صرف صحي” على وجه الأرض، تسيل في هذه البالوعة مياه سوداء قذرة.

انتهى التفتيش. جرى بدقة محترفين، حتى ثنايا الثياب، جميع النقود والأوراق، أي شيء معدني، الأحزمة وأربطة الأحذية … جميعها صودرت، “أنا كنت حافيا”. ورغم كل هذه الدقة بالتفتيش فإن ساعة يدي مرت، لم أتعمد إخفاءها، فقط لم ينتبه لها أحد، وعندما صاح المساعد:

– يا كلاب … كل واحد يحمل تيابه.

حملت ثيابي ووضعتها على يدي اليسرى، وفورا فككت الساعة ودسستها في الجيب الداخلي لسترتي، وشعور آخر بالانتصار.!

البلديــــــــات

هي كلمة خاصة بالسجون هنا، هم جنود سجناء … الفارون من الخدمة العسكرية، الجنود الذين يرتكبون جرائم القتل، الاغتصاب، السرقة، مدمنو المخدرات… كل الجنود المجرمين، حثالة الجيش، يقضون فترة عقوبتهم، في مثل هذا السجن، مهمتهم التنظيف وتوزيع الطعام وغيره من الأعمال… من هنا جاء اسم البلديات، هؤلاء في السجن الصحراوي لهم مهمات أخرى.

جمعونا في أحد أطراف الساحة، تكوَّمْنا ونحن نحمل ثيابنا، صوت المساعد ارتفع كثيراً، البلديات يقفون في الطرف الآخر من الساحة. البعض منهم يحمل عصاً غليظةً مربوط بها حبل متدل يصل بين طرفيها، حبل سميك يتدلى من العصا “الفلقة”. صاح المساعد بصوت مشحون موجهاً حديثه للسجناء : -مين فيكم ضابط ؟.

خرج اثنان من بين السجناء، أحدهما في منتصف العمر، الآخر شاب.

-شو رتبتك ؟

-عميد.

-وأنت شو رتبتك؟

-ملازم أول.

التفت المساعد إلى السجناء، وبصوت أقوى:

– مين فيكم طبيب .. أو مهندس أو محامي.. يطلع لبره.

خرج من بيننا أكثر من عشرة أشخاص.

-وقفوا هون.. ثم متوجهاً للسجناء:

-كل واحد معه شهادة جامعة … يطلع لبرّات الصف.

خرج أكثر من ثلاثين شخصاً، كنت أنا بينهم.

مشى المساعد مبتعداً، وقف بجوار البالوعة، صاح بالشرطة:

– جيبولي سيادة العميد!!

انقض أكثر من عشرة عناصر على العميد، وبلحظات كان أمام المساعد!!

-كيفك سيادة العميد؟

-الحمد لله … الذي لا يحمد على مكروه سواه.

-شو سيادة العميد … مانك عطشان؟

-لا .. شكراً.

-بس لازم نشربك.. يعني نحن عرب، والعرب مشهورون بالكرم، يعني لازم نقدم لك ضيافة… منشان واجبك!!

بعد لهجة الاستهزاء والسخرية صمت الاثنان قليلاً، ثم انتفض المساعد، وقال بصوت زاعق:

-شايف البالوعة ؟ .. انبطح واشرب منها حتى ترتوي … يالله يا كلب!!

-لا … ما راح اشرب.

وكأن مساً كهربائياً أصاب المساعد، وباستغراب صادق صرخ:

– شـو ..شـو …شـو ؟؟!!! ما بتشرب!!!

عندها التفت إلى عناصر الشرطة العسكرية ولا زال وجهه ينطق بالدهشة:

– شربوه …. شربوه على طريقتكن و لا كلاب…. تحركوا لشوف.

العميد عارٍ إلا من السروال الداخلي، حافٍ، وبلحظات قليلة اصطبغ جسده بالخطوط الحمراء والزرقاء، أكثر من عشرة عناصر انقضوا عليه، تناوشوه، عصي غليظة، كوابل مجدولة، أقشطة مراوح الدبابات …. كلها تنهال عليه من جميع الجهات، من أول لحظة بدأ العميد يقاوم، يضرب بيديه العنصر الذي يراه أمامه، أصاب بعضهم بضربات يديه …. كان يلكم … يصفع … يحاول جاهداً أن يمسك بواحد منهم، ولكنهم كانوا يضربونه وبشدة على يديه اللتين يمدهما للإمساك بهم… تزداد ضراوتهم، خيوط الدم تسيل من مختلف أنحاء جسده …. تمزق السروال وانقطع المطاط، أضحى العميد عارياً تماماً، إليتاه أكثر بياضاً من سائر أنحاء جسده، خيوط الدم أكثر وضوحاً عليهما، خصيتاه تتأرجحان مع كل ضربة أو حركة، بعد قليل تدلت يداه الى جانبيه وأخذتا تتأرجحان أيضاً، سمعت صوتاً هامساً خلفي:

– تكسروا إيديه !! يا لطيف … هالعميد إما رجّال كتير .. أو مجنون!!

لم ألتفت إلى مصدر الكلام. كنت مأخوذاً بما يجري أمامي، مع الضرب بدأ العناصر يحاولون أن يبطحوه أرضاً، العميد يقاوم، يملص من بين أيديهم… تساعده دماؤه التي جعلت جسده لزجاً. تكاثروا عليه، كلما نجحوا في إحنائه قليلا … ينتفض ويتملص من قبضاتهم وبعد كل حركة تزداد ضراوة الضرب …

رأيت هراوة غليظة ترتفع من خلف العميد وتهوي بسرعة البرق !!.. سمعت صوت ارتطامها برأس العميد….! صوتأ لا يشبه أي صوت آخر….! حتى عناصر الشرطة العسكرية توقفوا عن الضرب، شُلوا لدى سماعهم الصوت لثوان….صاحب الهراوة تراجع خطوتين إلى الوراء .. جامدَ العينين …!! العميد دار بجذعه ربع دورة وكأنه يريد أن يلتفت الى الخلف لرؤية ضاربه !! خطا خطوةً واحدة، وعندما هم برفع رجله الثانية …. انهار متكوّماً على الإسفلت الخشن !!

الصمت صفحة بيضاء صقيلة تمتد في فضاءات الساحة الأولى … شقها صوت المساعد القوي: – يا لله ولا حمير … اسحبوه وخلوه يشرب!!

سحب عناصر الشرطة العميد، واحد منهم التفت الى المساعد وقال:

-يا سيدي .. هذا غايب عن الوعي، شلون بدو يشرب؟!

-حطوا رأسه بالبالوعة .. بيصحى .. بعدين شربوه.

وضعوا رأس العميد بمياه البالوعة، ولكنه لم يصح.

-يا سيدي .. يمكن أعطاك عمره!

-الله لا يرحمه … اسحبوه لنص الساحة وزتوه هونيك.

من يديه جَرُّوه على ظهره، رأسه يتأرجح، اختلطت الدماء بأشياء بيضاء وسوداء لزجة على وجهه!! مسار من خطوط حمراء قاتمة تمتد على الإسفلت الخشن من البالوعة الى منتصف الساحة حيث تمددت جثة العميد. صاح المساعد وقد توترت وبرزت حبال رقبته:

-جيبولي .. هالكرّ الحقير … الملازم.

وبعد أن أصبح الملازم أمامه:

-شو يا حقير ؟ .. بدك تشرب ولا لأ؟

-حاضر سيدي .. حاضر .. بشرب.

انبطح الملازم على الإسفلت أمام البالوعة، غطس فكيه في مياه البالوعة، وضع المساعد حذاءه العسكري على رأس الملازم المنبطح وضغطه إلى الأسفل قائلاً:

-ما بيكفي هيك. لازم تشرب وتبلع!!

ثم تابع المساعد موجهاً حديثه للشرطة:

-وهلق .. خدوا هالكلب عا التشريفة … بدي يكون الاستقبال تمام .!

الملازم الذي شرب وبلع المياه القذرة بما فيها من بصاق ومخاط وبول وقاذورات أخرى، ألقي على ظهره بسرعة مذهلة، ووضع اثنان من البلديات قدميه في حبل الفلقة، لفوا الحبل على كاحليه ورفعوا القدمين إلى أعلى.

القدمان مشرعتان في الهواء، ثلاثة عناصر من الشرطة توزعوا أمام القدمين وحولهما، بحيث كانت كرابيجهم تهوي على القدمين دون أن تعيق إحدى الكرابيج الأخرى، ارتفع صراخ الملازم عالياً، تلوى جسده يحاول خلاصاً، ولكن دون جدوى.

استفز صراخُ الملازم واستغاثاتًه العالية المساعد، مشى باتجاهه مسرعاً، وكلاعب كرة قدم وجّهَ مقدمة بوطه إلى رأس الملازم وقذف الكرة.

صرخ الملازم صرخة حيوانية، صرخةً كالعواء… استُفز المساعد أكثر فأكثر، سحق فم الملازم بأسفل البوط، عناصر الشرطة يواصلون عملهم على قدمي الملازم، المساعد يواصل عمله سحقاً، الرأس، الصدر، البطن… رفسات على الخاصرة … حركات هستيرية للمساعد وهو يصرخ:

-ولاك عرصات … ولاك حقيرين …. عم تشتغلوا ضد الرئيس !!… ولاك سوّاك زلمة … سواك ملازم بالجيش … وبتشتغل ضده ؟!!… ولاك يا عملاء… يا جواسيس !.. ولاك الرئيس خلانا نشبع خبز… وهلق جايين أنتو يا كلاب تشتغلوا ضده ؟!… يا عملاء أمريكا…. يا عملاء اسرائيل… هلق عم تترَجُّوا ؟!!… بره كنتوا عاملين حالكن رجال … يا جبناء … هلق عم تصرخ ولاك حقير !!…

على إيقاع صرخات المساعد و”دبيكه” فوق الملازم، كانت ضربات الشرطة تزداد عنفاً وشراسةً، وصرخات واستغاثات الملازم تخفت شيئاً فشيئاً.

بعد قليل تمدد الملازم أول إلى جانب العميد!!… هل كان لدى إدارة السجن أوامر بقتل الضباط أثناء الاستقبال أو التشريفة ؟”.

والآن جاء دورنا. ” إجاك الموت يا تارك الصلاة !” عبارة سمعتها فيما بعد من الإسلاميين حتى مللتها، ولكن فعلا جاء دورنا، حملة الشهادات الجامعية، ليسانس ، بكالوريوس ، دبلوم ، ماجستير .. دكتوراه .. الأطباء شربوا وبلعوا البالوعة، المهندسون شربوا وبلعوا البالوعة، المحامون .. أساتذة الجامعات .. وحتى المخرج السينمائي .. شربت وبلعت البالوعة .. الطعم .. لا يمكن وصفه !! والغريب انه ولا واحد من بين كل الشاربين تقيأ !!.

وأصبح بين هؤلاء جميعاً شيئان مشتركان، الشهادة الجامعية، وشرب البالوعة !! .

ثم أكثر من ثلاثين فلقة، كل فلقة يحملها اثنان من البلديات، أمامها ثلاثة عناصر وثلاث كرابيج…. والكثير.. الكثير.. من القسوة، الألم، الصراخ.

الألم.. الضعف.. القهر.. القسوة.. الموت.. !!

قدماي متورمتان من آثار خيزرانة أيوب (في فرع المخابرات بدمشق)، بالكاد أستطيع المشي. عندما مشيت في الساحة الأولى فوق الإسفلت الخشن ، كنت كمن يمشي على المسامير ، رفع البلديات قدمي الى الأعلى بالفلقة ، ثلاثة كرابيج تلسع قدمي المتورمتين .. موجة داخلية عارمة من الألم تتكوم وتتصاعد لتنفجر في الصدر… تنحبس الأنفاس عندما تهوي الكرابيج … الرئتان تتشنجان … تنغلقان على الهواء المحبوس وتتوقفان عن العمل … ومع الموجة الثانية للألم وانفجاره في الصدر … ينفجر الهواء المحبوس في الرئتين عن صرخة مؤلمة، أحسها تخرج من قحف الرأس … من العينين … أصرخ … وأصرخ والقدمان مسمرتان في الهواء … كل محاولاتي لتحريكهما … لإزاحتهما … فاشلة !! تنفصلان عني … مصدر للألم فقط… سلك يصل بينهما وبين أسفل البطن والصدر… موجات متلاطمة من الألم، تبدأ الموجة عندهما، تمتد وتتصاعد ثم تتكسر عند الرأس، وصرخة ألم ورعب ومهانة ناثرةً الذهولَ وعدم الفهم والتصديق، أكثر من ثلاثين صرخة متوازية… متشابكة، لأكثر من ثلاثين رجلاً، تنتشر في فضاء الساحة الأولى.

في البداية استنجدت بالله، وأنا الذي كنت طوال عمري أتباهى بإلحادي.

أكثر من ثلاثين صرخة ألم … قهر … تخرج من أفواه أكثر من ثلاثين رجلاً مثقفاً .. متعلماً !! أكثر من ثلاثين رأساً، كل منها يحوي الكثير من الطموح والأمل والأحلام، الكل كان يصرخ … عواء ثلاثين ذئباً … زئير أكثر من ثلاثين أسداً … لن يكون أعلى من صراخ هؤلاء الرجال المتحضرين … ولن يكون أكثر وحشية … وحيوانية!!

يضيع صراخي وسط هذه الغابة من الصراخ وأصوات ارتطام الكرابيج بالأقدام … وترتفع الأمواج. أستنجد برئيس الدولة .. يشتد الضرب .. وأفهم منهم أن علي ألا أدنس اسم فخامته بفمي القذر. استنجد بنبيهم:

-من شان محمد!!!

لطمة على الرأس وصوت المساعد الراعد:

-إي .. […….]!!! ليش في حدا خرب بيتنا غير محمد ؟!

تقلصات الألم تزداد، لحم الفخذين رقيق ويختلف عن لحم باطن القدمين، أختنق بصرخاتي أسكت لحظات لأتنفس وأعب الهواء الذي سأصرخه، غمامة حمراء تتأرجح أمام عيني، حد الألم لا يطاق.

-يا رب خلصني… نجني من بين أيديهم.

قلت هذا الكلام دون أن انطقه، طاف بذهني، ومنه خرج مسرعاً باتجاه السماء.

قواي تخور، قدرتي على الصراخ تخفُتْ، يصبح الألم حاداً كنصل الشفرة، أرى الكرابيج ترتفع عالياً، أتوقعها، إذا نزلت هذه الكرابيج على جسدي فأنا حتماً سأموت !! لم يبق أي طاقة لتحمل المزيد من الألم !!.. الموت… أعود إلى الله:

-يا رب دعني أموت … دعني أموت … خلصني من هذا العذاب.

يصبح الموت أمنية!! أتمنى الموت صادقا … حتى الموت لا أستطيع الحصول عليه!!.