المسرح السياسى فى أمريكا
((التعريف..الوظيفة..الأصول..وصولا إلي نظرية العرض المسرحي السياسي)
المسرح السياسى، مصطلح عسير ووعر، مما تحمل عبر السنوات من جدل وشوائب وتسطيح، منه ما كان يعمد للإنتصار له، ومنه ما هو دعائى ومنه ما يسخر من هذا المصطلح ويمكننا أن نعرف المسرح السياسى.
” بأنه مسرح ذو مضمون سياسى يستهدف تعليم جمهور شعبى عريض له صبغة سياسية معينة”.
ولكن هذا التعريف يركز على مضمون المسرح فقط ولا يتطرق إلى الوسائل التى من شأنها أن تعمل على توصيل هذا المضمون السياسى، ويرى المخرج سعد أردش فى كتابة المخرج فى المسرح المعاصر أن ” المسرح السياسى الواعى الواضح، المباشر، هو الذى يسعى إلى تأثير إيجابى محدد فى الجماهير، بهدف إكتسابها فى صفوف معركة طويل نحو حياة أفضل تسودها العدالة الإجتماعية، ويرفرف عليها السلام وتمنحها الحرية، طعم العزة والكرامة الإنسانية”.
وما يدهشنا هنا فضلاً عن الطبيعة الإنشائية لهذا التعريف هو قصر دور المسرح السياسى على طبقة العمال فقط وكأن القضايا الأساسية والإقتصادية والإجتماعية وقضايا الحرب والسلم ومفهوم الحرية لا تعنى فقط إلا طبقة العمال ويرى الدكتور سمير سرحان أن المسرح السياسى يميل إلى المباشرة والخطابية نافياً عنه صفة الفن ومشاركة الجمهور وهو يقول
“أنه مسرح أفكار تلقى من فوق خشبة المسرح كما تلقى الخطابة. والمسرح السياسى هو توضيح للرؤيا الإجتماعية والسياسية فى بلد ما …. وهو بلوره العواطف الثائرة بشكل منظم”.
إلا أن المسرح السياسى لا يوضح رؤيا إجتماعية وسياسية فحسب فدوره يتمثل أولاً فى مناقشة الواقع الفعلى بتناقضاته سواء أكان واقعياً سياسياً أم اجتماعياً أم إقتصادياً بشكل حاد ومباشر لأن هذا الواقع الفعلى هو ما يهم جمهور المسرح.
وثمة من يرى أن المسرح السياسى، يتمثل دوره فى خدمة أيدلوجية معينة كأن يكون فى متناول يد النشاط السياسى لليسار مثلاً كما يرى “ماسيمو كاسترى” “أن المسرح السياسى هو ذلك المسرح الذى يرغب فى المشاركة بجميع وسائله النوعية فى الجهد العام وقضية تحول الواقع الإجتماعى، أو بشكل مطلق قضية تحول الإنسان من منظور إعادة بناء الشمول والكلية للإنسان اللتين تحطمتا فى مجتمع مقسم إلى طبقات وما تم على الإستغلال”.
ومن هنا قصر كاسترى تعريفه على المجتمع الطبقى وما يدور حوله من صراعات طبقية، وترى الدكتورة نهاد صليحة “أن المسرح السياسى ينبغى أن يقتصر على ذلك النوع من المسرح الذى لا يكتفى بأن يتخذ من فلسفة الحكم خلفية مسلماً بها للصراع بل يتخطى ذلك إلى إتخاذ فلسفة الحكم نفسها مادة للصراع أى يصبح موضوعه السلطة والفلسفة التى تساندها والقوانين التى تفرزها ومظاهر تطبيقها” ولكن هذا المصطلح وحسب رأى الدكتورة نهاد صليحة نفسها يمكن أن ينصرف إلى أعمال “شكسبير” و “بايرون” و”شيللى” و”بوشنر” و”تشيكوف” و”بيسكاتور” و”بريخت” و”سارتر” و”توللر” وهذا ما يجعل التعريف يشير فى مضمونه إلى الجوانب الإقتصادية والإجتماعية التى ترتبط وبشكل مباشر بالموضوع السياسى وتعتبر إنعكاساً له. ولكن هذا التعريف يزيد من إتساع دائرة الدراسة بما لا يجعله قادراً على التمييز بين البدايات الحديثة للمسرح السياسى وبين أصول وجذور هذا المسرح.
ويرى الدكتور عبد العزيز حموده أن “المسرحية السياسية بمفهومها الحقيقى هى إستخدام خشبة المسرح لتصدير جوانب محددة. غالباً ما تكون سياسية أو اقتصادية مع تقديم وجهة نظر محددة بغية التأثير على الجمهور وتعليمه بطريقة فنية تعتمد على كل أدوات التعبير التى تميز المسرح من كل ضروب الفنون الأخرى ومن مزايا هذا التعريف أن دكتور عبد العزيز حمودة لم يقتصر فى تعريفه على الجانب السياسى فقط بل طرح الجانب الإقتصادى أيضاً فالمسرح السياسى فى رأيه يهدف إلى إيقاظ الناس وتعليمهم فهو يعتمد إلى حد كبير على الحقائق، أو القيمة الإخبارية للواقع أى أن عملية الكتابة للمسرح السياسى هنا تسبقها مرحلة طويلة من البحث والتقصى.
وملاحظتى الوحيدة على هذا التعريف هو تركيز الدكتور عبد العزيز حمودة على إستخدام خشبة المسرح فى حين أننا سنرى أن “مسرع الشارع” و “المسرح الحى” و”المسرح العمالى” فى أمريكا أو أى من دول أوروبا لا تستخدم خشبة المسرح بالمفهوم التقليدى. ولكن هذا التعريف أنسب وأكثر اتساعاً من التعاريف السابقة وذلك فى إطار الحركات الفنية للمسرح السياسى الحديث.
ولكنى فى النهاية أتفق مع رأى الدكتور أمين العيوطى فهو يقول “عندما تتكلم عن المسرح السياسى فإن أذهاننا غالباً ما تتجه إلى ذلك النوع من المسرح الذى إزدهر فى ألمانيا فى أعقاب الحرب العالمية الأولى أو فى أمريكا إبان أزمة 1929 الإقتصادية وجاء محملاً بوعى سياسى متوسلاً بأساليب فنية جديدة سواء فى أسلوب صياغة هذه الرسالة أدبياً، أو فى أسلوب عرضها على المسرح” غير أن هذا المسرح لا يعنى أن المسرح لم يكن، منذ بدايته يحمل رسالة سياسية فى طيات رسالته الفكرية بل إننا نخطىء إذا توهمنا أن الأدب فى كل صورة وعلى إختلاف مذاهبه الفنية لم يكن يعبر فى المقام الأول عن رؤيا سياسية.
فوفق تعريف معين لمعنى كلمة سياسة يمكننا القول بأن المسرح بل والأدب كله، كان وما زال فى أحد مظاهره سياسياً. أى إننا إذا إتفقنا على تعريف السياسة بأنها مجموعة الأفكار أو الفلسفة التى تشكل نظرية الحكم التى يتم فى ضوئها تنظيم علاقات الأفراد والمجموعات فى المجتمع وفق قوانين وقيم معينة تحكم توزيع السلطة والمال وتحديد الأدوار ومناطق التحرك للأفراد والجماعات. وإذا إتفقنا على هذا التعريف لكلمة سياسة يمكننا أن نصف المسرح بأنه كان دائماً سياسياً بمعنى أن كل مسرحية نعرفها تتضمن بصورة مباشرة أو غير مباشرة أيدلوجية ونظاماً يشكلان الخلفية الفكرية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية للصراع القائم فى الدراما ويحددان مساره ونهايته حتى وإن كان هذا الصراع صراعاً نفسياً بالدرجة الأولى وعلى هذا الأساس نستطيع أن تقول أن المسرح منذ نشأته المبكرة كان دائماً مسرحاً سياسياً ولهذا فليس من الغريب أن نجد أن الدراما الأغريقية تخضع بسهولة للتحليلات التاريخية والسياسية فنجد ناقداً مثل “جورج لوكاتش” يتحدث عن ضرورة ربط ظهور التراجيديا الأغريقية بالتحول التاريخى العالمى فى تاريخ الجنس البشرى ويقول “من المؤكد أنه ليس من باب الصدفة أن تتفق فترات التراجيديا العظيمة مع المتغيرات التاريخية العظيمة والعالمية فى المجتمع الإنسانى. وقد رأى هبجل بالعقل فى الصراع الذى ينشب فى (أنتيجون) “سوفوكليس” رغم غموض ذلك الصدام الذى ينشأ بين تلك القوى الإجتماعية التى أدت إلى تحطيم الأشغال البدائية للمجتمع وإلى ظهور المدنية الأغريقية.
كما أن النظرة المتأنية لجوهر التراجيديا منذ نشأتها وحتى الآن ومفهوم البطل المأسوى بمعناه الأرسطى أو غير الأرسطى تؤكد إقتراب المسرح الدائم من دائرة السياسة فالبطل التراجيدى الذى يعانى من نقطة الضعف القاتلة وهى الكبرياء والذى يرتكب خطأ مأسوياً لا رجعة فيه… قد يكون خطأ فى حق الآلهة أو البشر يسقط معاقباً على هذا الخطأ وذلك لتطاوله على سلطة أعلى أو أقوى منه ربما تكون سلطة تدعى لنفسها شرعية أكبر من شرعيته، هكذا يسقط “إجاممنون” الذى يكون خطأه الأساسى أنه تطاول وإدعى لنفسه إحدى صفات الألهة وهى الكبرياء وهو يسقط ولكنه فى سقوطه يشير فينا الإعجاب لان إعجابنا الأبدى بالإنسان وهو يقاوم فى عناء سلطة أعلى منه سياسة كما أن بروميثيوس مغلولاً تعرض على إستحياء لإمكانية التورة الإنسانية على القدرية الدينية والتى تتمثل فى شخص الإله “زيوس” الطاغية الذى يعاقب “بروميثيوس” عقاباً مروعاً لكشفه سر النار للبشر مما يجعلهم قادرين على التحكم فى مصائرهم وهذه مسرحية يمكن إعتبارها نوع من المسرحيات السياسية التى تتعرض للنظرية السياسية السائدة فى المجتمع وأخطائها دون المساس بالنظرية نفسها وما يقال هنا فى المسرح الأغريقى ينطبق أيضاً على المسرح الإليزابيثى فى أبرز كتابه “ويليام شكسبير” فلم يكن فى أعماله إثراء للمسرح العالمى على إمتداد تاريخه فحسب بل إثراء لما يحمله من فكر سياسى وتاريخى وهو تلك العبقرية التى عاشت فى فترة تميزت بالصراع التاريخى الحاد بين المجتمع الإقطاعى وبين مجتمع الرأسمالى الذى كان يسعى إلى تأكيد ذاته وفى رأى دكتور عبد العزيز حمود أن شكسبير فى كل تراجيدياته تقريباً حينما ينطلق من بعض بقايا المجتمع الفكر الإقطاعى، وإن كانت أخطره على الإطلاق، ليؤكد أن البطل يخرج على ناموس الطبيعة حينما يهز النظام الاجتماعى والاقتصادى للجماعة محاولاً تغييره بمفرده وبيديه وهى جرأة يعاقب عليها شاعر البلاط الإنجليزى بالسقوط المعنوى والبدنى وهذه فى رأيه سياسة.
ويقول “جورج لوكاتش” أن شكسبير يبدع فى الملك لير أعظم ما عرفه الأدب العالمى من التراجيديات وأشدها أثراً فى انهيار الأسرة بصفتها مجتمعاً إنسانياً … إن شكسبير يصور فى علاقة الملك لير وبناته، وجلوستر وأبنية الحركات والإتجاهات الخلقية النمطية التى تبرز بشكل قوى إشكالية العائلة الإقطاعية وانهيارها وهذا الحس التاريخى عند شكسبير هو الذى جعله هدفاً للتحليلات السياسية المتبانية وهكذا نجد برنارد شو يصور شكسبير فى مسرحيته الكوميدية الخفيفة (السمراء فى أغانى سكسبير) على أنه فنان ينمق الكلمات ولا يقدم فكراً ويهتم بإرضاء أولى الأمر ويتملق السلطة ويقف إلى جانب الديكتاتورية فى “يوليوس قيصر” غير أن شاعراً وناقداً أخر، وهو “الجرنون سويتبرن” يرى فى شكسبير رأياً مختلفاً فهو يراه مفكراً حديثاً فى نظرته السياسية والإجتماعية ويستشهد على ذلك بمسرحية يوليوس قيصر أيضاً، فيقول أن شكسبير كان فى أعماقه جمهوريا وأنه فى “الملك لير” ديمقراطى وإشتراكى روحاً إلا أنه يمكن أن يقال أن مسرحية يوليوس قيصر تمثل نموذجاً للمسرح الفكرى السياسى الحق. فهى تثير التفكير النقدى دون أن تلزم المتفرج برأى بعينه ولقد عبر فيها شكسبير بصدق وحساسية شديدة عن الصراع الخفى فى عصره بين نظرية الحكم الموروثة من العصور الوسطى وبين رياح الثورة والتغيير التى أتى بها عصر النهضة ولكن مما يعزز وجهه نظر سويتبرن فى شكسبير أختيار “أروين بسكاتور” رائد المسرح السياسى لمسرحية الملك لير لعرضها بأسلوب مسرحه السياسى وأختيار “برتولت بريشت” لمسرحيتى (ماكبث) و(هاملت) لإعدادهما للإذاعة، ومسرحيتى (يوليوس قيصر) و (كوريولنيوس) لإعدادهما للمسرح هذا فضلاً عن إستخدامه لأسلوب مسرحيات شكسبير التاريخية فى الأم شجاعة وجاليلو بل وتأثر المسرح الملحمى عموماً بفن شكسبير المسرحى.
ويبدو أن ظاهرة إلقاء المؤلفين المسرحيين فى السجون كانت شائعة فى ذلك العصر إذ نجد “جون مارستون” و “جورج تشابمان” يلقون نفس المصير مع بن “جونسون” مرة أخرى بعد إشتراكهم جميعاً فى تأليف مسرحية (إتجهوا شرقاً) التى تسخر من نظام الهبات والألقاب الإجتماعية والرتب والعطايا الملكية ثم نجد مارستون يتعرض مرة أخرى لخطر السجن عندما كتبت مسرحية (المتذمر) وإنتقد النفاق والخداع الذى ساد البلاطات الملكية إبان عصر النهضة ولكن هؤلاء الكتاب أنفسهم كانوا من المؤمنين بفلسفة الحكم السائد ولم يحدث أن دعا أحدهم مثلاً إلى إحلال نظرية الحكم الديمقراطى محل نظرية الحكم الملكى.
وخلاصة القول أن ثمة نوعاً من المسرح الذى ينحو إلى الإصلاح لا الثورة وجد سواء فى ظل النظام الديمقراطى اليونانى الذى كان يسمح بالسخرية من الحكام الأفراد ويحرم المساس بالشعب أو فى ظل النظام الملكى الإنجليزى الذى يحرم إنتقاد البلاط ويسمح إلى حد ما بالنقد للشعب أو لمن يقومون بتطبيق النظام.
وتستطيع أن نضيف إلى هذا الإدراك المبكر لوظيفة المسرح الإجتماعية والسياسية وموقف النقد الكلاسيكى المتزمت فى إنجلترا فى القرن السادس عشر فوسط كل التأكيد على النقد الشكلى عند “فيليب سيدنى” و “بن جونسون” وغيرهم على الإلتزام بالوحدات الثلاث والمحافظة على نقاء القوالب والتقاليد الفنية بحيث لا تمتزج الكوميديا بالتراجيديا أو النثر بالشعر، نستطيع أن نتبين هدفاً سياسياً واضحاً وموقفاً سياسياً محافظاً. كان مزج الكوميديا بالتراجيديا يعنى فى التحليل النهائى. مزج أنماط سامية من الشخصيات والموضوعات التى لا يصح لها إلا القوالب الكوميدية الشعبية أو بعبارة أخرى كان مزج القالبين التراجيدى والكوميدى يعنى مزج الأشراف والعامة فى إطار واحد كذلك كانت الدعوة إلى فصل اللغة الشعرية عن الحوار النثرى واللغة الدارجة تهدف إلى فضل الأسلوبين إذ أراد الكاتب المسرحى أن يحتفظ للأبطال الذين ينتمون إلى طبقات المجتمع العليا بتميزهم وسموهم فيما ينطقون به ويعبرون عنه من عواطف نبيلة، أن يترك للعامة وعواطفهم اللغة الأكثر تدنياً. كان الإصرار على الإحتفاظ بالقوالب المسرحية والتقاليد الشعرية “نقية” يعنى فى المحصلة النهائية، المحافظة على القوالب الاجتماعية وعلى الإطار العام للمجتمع الطبقى. بحيث لا يتهدده أية مزاوجات بين الطبقات العليا والطبقات الدنيا من المجتمع بل إن أى إخلال بهذه القوالب الاجتماعية تعتبر تهديراً للنظام القائم ويرى هيوم أن الرومانسية فى رأيه دعوة إلى إعادة تنظيم المجتمع من خلال الإطاحة “بنظام غاشم” أى بالنظام الإقطاعى بطبيعة الحال وهو يرى الرومانسية ترتبط بثورة الطبقة الوسطى فى فرنسا، ووصولها إلى الحكم فى إنجلترا مما يعنى الفوضى فى نظره أما الكلاسيكية فترتبط بالكنيسة والإقطاع ولذلك تعنى النظام. وهكذا يقول “لو أنك سألت رجلاً عن مجموعة معينة ما إذا كان يفضل الكلاسيكية أو الرومانسية لاستطعت أن تستدل من ذلك على اتجاهاته السياسية”.
وبالنسبة لمسرح الثورة فهو مسرح دعوة إلى إبدال فلسفة ونظرية حكم بأخرى ولعل أول من كتب هذا النوع من المسرحيات واعياً ومن منطق عقيدة سياسية واضحة كان “شيلى” وخاصة فى مسرحية بروميثيوس طليقاً لقد كان “شيلى” مؤمنا بالحرية والعلم والعقلانية وبملكات الخير لدى الإنسان، ويعتقد أن البشرية لا ينقصها إلا الحرية لتنطلق ملكاتها الإبداعية الخيرة لتحقيق المدنية الفاضلة ويصف الكثيرون “شيلى” بأنه أول أديب إشتراكى قبل ظهور كارل ماركس وربما كان الفرق الوحيد بينهما هو إيمان “شيلى” الرومانسى بالقدرة على التغيير الإجتماعى الجذرى عن طريق الحرية والحب والتنوير، على عكس ماركس الذى رأى حتمية صراع الطبقات.
أما فى العصر الحديث فلقد إرتبط المسرح فى العصر الحديث بالجماهير وأخذ أكثر من شكل وتحولت الحياة كلها إلى المسرح بتجسيد جديد تحولت معها كثير من القضايا السياسية ذات العلاقة الوطيدة بمستقبل إنساننا فى أكثر من مكان، إلى خشبة المسرح وأصبحت الأحداث اليومية الهامة والأحداث الراهنة الأخرى، والتحولات السياسية، والإنتقاضات الوطنية وأساليب الإستعمار بكل أشكاله، وقضايا الحرب والسلم والصراع الطبقى، وقضايا الحرية أصبحت كلها سمات تميز مسرح هذا العصر وتغنيه بالجديد المتحرك الذى لا يركن إلى السكون أو الجمهور أو مجرد العرض العابر، أو النقد الساخر الخالى من كل إثارة للذهن أو تحريك الفكر، أو المشاركة الجدلية على أقل تقدير “وبهذا الإطار والمحتوى كان المسرح السياسى علامة من علامات الحياة الجديدة التى تنشدها الشعوب فى كل مكان ولقد أصبح المسرح وسيلة وقلق دائم، موثقاً صله المشاهد بكل ما يدور من حوله إن هذا التحول فى العصر الحديث يرجع أساساً إلى فلسفة ماركس فقد بلور أفكاره فى علم الفلسفة حين قال قولته المشهورة ” إنحصر جهد الفلاسفة دائماً فى تفسير العالم وذهبوا فى ذلك مذاهب شتى. ولكن القضية الأساسية ليست تفسير العالم بل تغييره ولقد حمل ماركس التيار الفلسفى الذى ينطلق بداية من فعل الإنسان اللا إرادى إلى ذروته. وتحولت الفلسفة على أيدى أتباعه من نشاط فكرى بتأمل الفعل الإنسانى إلى برنامج عمل ثورى ولقد كانت فلسفة ماركس، فلسفة فعل تهدف إلى تغيير العالم وتغيير وعى الإنسان به.
كانت الفلسفة قبل ماركس محاولة للتنظير والتقنين المطلق بعيداً عن متغيرات ونسبية الآن وهنا أى بعيداً عن الواقع الإنسانى المتغير أما عن طريق توحيد بصرها إلى ما فوق الطبيعة إلى عوالم الروح والعقل المجرد كما فعل المثاليين أو عن طريق فصل عالم التجربة والفعل الإنسانى عن عالم الروحيات والأخلاقيات مفترضة لهذا العالم المعنوى قوانين أزليه خارج نطاق التجربة الإنسانية ولا تتأثر بها وهذا ما يعنى فى الحقيقة عدم إمكانية تغيير العالم.
بدايات المسرح السياسى فى القرن العشرين أو أصول المسرح السياسى الأمريكى:
إذا إعتبرنا المسرح السياسى شكلاً حديثاً من الأشكال الأساسية فإن بدايته فى الواقع تبدأ فى العقد الثانى من هذا القرن، أو بعبارة أدق مع الثورة فى الإتحاد السوفيتى، حيث بدأت المحاولات الحقيقية الأولى لإستخدام المسرح كسلاح، كما إتفق على مدى الخمسين عاماً الأخيرة وتحديد الهدف بهذا الشكل يسهل عمليه تحديد الشكل المسرحى الذى تم اختياره، وهنا أيضاً يجب أن نسلم بأن القرار منذ عام 1919 كان فى حقيقة الأمر إستخدام المسرح كسلاح لا فى معركة تثقيف الجمهور فى الفكر السياسى الجديد فقط بل تثقيفه أو تعليمه فى مجالات الاقتصاد والنظريات الاجتماعية الجديدة وهذا ما يعيدنا مرة أخرى إلى التذكرة بأن المسرح السياسى لا يعنى فقط بفكر سياسى محدد فقط بل أيضاً الفكر الإجتماعى والإقتصادى، لقد وجد أعوان الثورة فى بداية الأمر أنفسهم فى موقف لا يحسد عليه ولا أقصد بهذا هزائم الجيوش الروسية المتتالية على الجهة الألمانية، بل فى الداخل حيث كان الحزب أقلية واضحة فى قلب مجتمع يحتاج إلى الاقتناع بالتغيرات الجذرية الجديدة فى طريقة الحياة، ولكن بمجرد إستتباب الأمر بدأت تنتشر فى الإتحاد السوفيتى عشرات الفرق المسرحية الصفوة بإسم “العاصفة” مرة و “القمصان الزرقاء” مرة أخرى وكلها فرق من العمال المتحمسين الذين أخذوا على عاتقهم مسئولية توعية السواد الأعظم من العمال وتعليمهم الفكر الجديد سواء كان فكراً سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً كانت المجموعة من هؤلاء تتسلح عن بقية العمال قبل موعد إنصرافهم بدقائق لتتلقفهم أمام المصنع وقت إنصرافهم أو فى أى مراكز أخرى للمجتمع العمالى لتقدم لهم فيما يشبه الإرتجال الكامل نصاً وإخراجاً مشاهد قصيرة تبين مزايا النظام الجديد وتهاجم النظام الرأسمالى وتجسد نقاط الضعف فيه وكانت تلك المقطوعات تندرج تحت ما أتفق على تسميته باسم مقطوعات الإثارة والدعاية. وهنا يجب أن تتوقف قليلاً عن خصائص هذا الشكل وأهدافه لأنه يمثل المرحلة المبكرة وغير الناضجة بما يمكن أن نسميه المسرح السياسى فى القرن العشرين.
لم تكن هناك أية محاولات على الإطلاق لإيهام المتلقى أو المتفرج بأن ما يراه واقعاً بل كان التركيز على تغيير فكر هذا المتلقى وعلى هذا الأساس يكفى أن يظل العمال بملابس المصنع فقد يرتدى واحد منهم قبعة مرتفعة أو يحشو نفسه قليلاً ليمثل دور الرأسمالى المنتفخ، ويكفى كرسى خشبى أو أثنين ليمثلا خشبة المسرح وتلك حقيقة يجب أن نتذكرها فى حديثنا عن المسرح فى مرحلة متطورة تالية وهى مرحلة المسرح الملحمى عند بريخت.
لم يكن الهدف من هذه العروض تقديم شكل مسرحى ناضج بل إستخدام أدوات المسرحية التقليدية والإستفادة من قدرته على التأثير لتغيير مفاهيم المتفرجين وتعليمهم أفكاراً جديدة، لهذا لم ينشأ المعنيون بهذا الشكل التوقف عند الجماليات التقليدية أو قواعد الكتابة الدرامية المألوفة، ويكفى أن نذكر شعار الفرق التى ظهرت فى ألمانيا فى نفس الفترة بإسم القمصان الحمراء والتى كانت تهدف لإستخدام المسرح كسلاح.
إن عشرات النماذج التى وصلتنا عن هذه الفترة تؤكد المقولة الأساسية التى أود تأكيدها طوال الوقت وهى أن المسرح السياسى لا يقتصر على السياسة بمعناها الأكاديمى الدقيق بل إنه يركز على كل من شأنه تغيير طريق تفكير الفرد أو طريقة حياته، وهذا ما أتبعته فرق الصحف الحية المسماه بجماعة القمصان الزرقاء.
ورغم جدية الوظيفة الجديدة للمسرح إلا أن سذاجة الشكل لا يمكن إنكارها، وهى سذاجة تتمشى مع طبيعة المتلقى البسيطة وما يهمنا هنا أن المقولة الأساسية التى تستخدم “سلاح المسرح” لتقديمها إلى الجمهور ليست مقولة أساسية بالمعنى المتعارف عليه للسياسة. ومن نفس الوقت كانت هناك عشرات الصحف الحية أو مقطوعات الإثارة والدعاية التى تتناول موضوعات شتى كمحاربة بعض العادات الإجتماعية البالية، والتشجيع على رفع معدلات الإنتاج الصناعى والزراعى وتشجيع الإقبال على الميكنة الزراعية ونبذ الوسائل البدائية إلخ. وكلها موضوعات غير سياسية يقودها ما يمكن أن نسميه بالمسرح السياسى الصرف.
وأخطر أعداء هذا المسرح السياسى هو طبيعته ذاتها، وخاصة فى تلك المرحلة المبكرة منذ فرضت طبيعة المتلقى البسيط لجوء مقدمى هذا الشكل إلى التبسيط الشديد الذى يصل إلى حد السذاجة أحياناً وإلى التضحية بالشخصية الدرامية المتكاملة الأبعاد من أجل الفكرة المباشرة والشخصية النمطية وكلما ازدادت مباشرة هذا الشكل عادة كلما زاد رفض الجمهور له.
إن كانت الثورة الروسية هى الحدث الأول الذى ساهم فى خلق المسرح السياسى بمعناه الحديث فى روسيا فإن لهزيمة ألمانيا فى 1919 أثارها المدمرة على المجتمع الألمانى، التى أدت إلى إهتزاز مؤسساته الإقتصادية والاجتماعية والثقافية جاءت ثورة 1919 الإشتراكية، التى فشلت وأغتيل كل زعمائها، تعبيراً عن السخط عما أنزلته الرأسمالية والحرب بالشعب الألمانى، وعن الفوضى الإقتصادية التى أطاحت بكل الآمال المعقودة على نهاية الحرب من إنتشار الأخوة والإنسانية والحب وعن خيبة الأمل التى تولدت عن هذا كله ولم تلبث الأزمة التى ضربت الاقتصاد الأمريكى فى 1929 أن أمتدت لتشمل آثارها العالم الرأسمالى كله بما فى ذلك ألمانيا، ولتنزل بكل فئات الشعب وعلى الأخص الطبقة العمالية التى إنتشرت بينها البطالة، مما أثار معارك فى الشوارع بين العمال والشرطة ودفع بالبرجوازية إلى أن تحكم قبضتها على الأمور فأسلمت زمام السلطة إلى هتلر ولقد تبنى المسرح السياسى فى ألمانيا فى ذلك الوقت رسالة سياسية من الرسالة التى حذوها لنفسه الأساليب الفنية التى تخدم هدفه لتوصيل رسالته.
وكانت هذه الرسالة مباشرة واضحة، ترمى إلى التأثير فى الجماهير من أجل توعيتها، وإجتذابها إلى جانب المعركة ضد المجتمع الرأسمالى الطبقى، للوصول إلى مجتمع العدالة الإجتماعية والسلام، ولم يكن الأمر مجرد طرح أفكار، بقدر ما كان إستفزازاً للجماهير، وتحريضها على الثورة وقد إرتبط بهذا الإسم المسرح إسم “إيروين بيسكاتور” وكان من رأى بيسكاتور أن الإهتمام بالشكل الفنى للعرض من الممكن أن يطمس ملامح الرسالة السياسية، كما أن النص المسرحى لا يحب أن يكتفى بتصوير أحداث شخصية، أو إنعكاسات الواقع الإجتماعى على الذات الإنسانية فلابد أن يكون العرض المسرحى بكل مقوماته تحليلاً للظروف الإجتماعية والاقتصادية والتاريخية. لهذا كان تأكيده على عرض الظروف التاريخية والإجتماعية عرضاً مباشراً لا كمجرد خلفية للأحداث الشخصية وبالنسبة إلى بيسكاتور كان المسرح برلماناً، والجمهور هيئة تشريعية وقد عرضت أمام هذا البرلمان بوضوح المسائل العامة الكثيرة التى هى بحاجة إلى إقرار. وبدلاً من خطبة النائب حول ظروف إجتماعية لا يمكن تفاديها ظهرت نسخة فنية لهذه الظروف، وطمع المسرح بدفع (البرلمان- الجمهور) إستناداً إلى الصور المسرحية والإحصائيات والشعارات إلى إتخاذ قرارات سياسية ولم يستغن مسرح بيسكاتور عن التصفيق ولكنه طمع أكثر من ذلك بالنقاش ولم يسع إلى تهيئة تجربة لمشاهدة، وإنما دفعه إلى إتخاذ قرار عملى بالتدخل فى الحياة بنشاط وفى سبيل ذلك لجأ إلى إستخدامه للأفلام السينمائية كوسيلة لتوسيع مجال الحدث وربطه بالظروف التاريخية، وإبراز دلالته السياسية إستخدامه لوسائل أخرى مثل اللافتات والشرائح الزجاجية، والأفلام التسجيلية، فإننا نتبين فى أعماله الأخرى بداية فكرة المسرح الملحمى التى قام برتولت بريشت بعد ذلك بتطويرها لخدمة نفس الهدف السياسى التعليمى الذى بدأه بيسكاتور. ومن خلال إستفادة بيسكاتور من إمكانيات التقدم التكنولوجى فى العرض المسرحى فإنه، كما يقول بريشت حول خشبة المسرح إلى قاعة آلات، وحول صالة العرض إلى قاعة إجتماعات.
كان بيسكاتور مضطراً إلى إبتكار هذه الأساليب حين فشل أن يجد مسرحيات تنطلق من موقف إشتراكى. غير أنه وجد أن الإمكانيات التكنولوجية لمثل هذه العروض التى تتلاءم مع أهداف مسرحه، كانت تتطلب تمويلاً لا يمكن للمسارح الشعبية أن تتحملها لذلك لم يكن أمامه إلا أن يعمل من خلال المسارح البرجوازية. غير أن هذه الأجهزة بدأت تفرض عليه الدخول فى مساومات أيدلوجية، وتنازلات، مما إضطره أخر الأمر إلى التخلص عن عروض مسرحية تستخدم آلات وتكاليف ضخمة، والإتجاه إلى المنظمات العمالية، وكانت هذه تتألف من فرق عمالية بسيطة وفرق هواه تعمل بإمكانيات متواضعة فى مسارح النوادى. وقد أدى إغلاق المسارح البرجوازية الكبيرة فى وجه مثل هذه العروض إلى أن يحاول فنان المسرح أن يلائم بين تقنيات العمل وبين الوسائل المتواضعة المتاحة للفرق العمالية كان هذا هو الدور الذى كان على بوتولت بريشت أن يستكمله فى مسرحه الملحمى.
إن مسرح بريشت مرتب بمقدره فائقة للحد الذى يحاول فيه أرباب الفن أن يقيموا الدليل على وجود تناقض بينه وبين المسرح السياسى والحق أن مسرح بريشت قد وصل إلى تفوقه الفنى وإستطاع أن يخرج الحقائق السياسية إلى النور، كما إنه يكرس كل ذكائه لإزالة التناقض ولبناء مجتمع رجال سياسة الكوارث.
والحقيقة أن بريخت قد وجد الشكل الدرامى عاجزاً عن توصيل أية رسالة سياسية بشكل يضمن إستفزاز المتفرج، وتحريضه على أن يكون إيجابياً فى العمل لتغير الواقع الإجتماعى. إن المسرح الملحمى يعترض على إثارة الشفقة والرهبة فى نفس المتفرج، بقصد تطهير عواطفه وعلى جذب المتفرج داخل الحدث بحيث يتوحد مع البطل وينسى ذاته نسياناً تاماً، وعلى إثارة الإيهام بواقعية الأحداث فى نفس المتفرج كوسيلة لتحقيق هذين الهدفين فهو يرى أن المتفرج فى مثل هذه الدراما التقليدية، يفقد القدرة على التفكير فيما يجرى أمامه، يسلب القدرة على مواجهة المشاكل السياسية وحلها بشكل مغال يقضى على أصل المشكلة المطروحة.
كان هدف “بريشت” الأول أن يجعل المتفرج يرمى العالم الحقيقى، ويفهمه أن يجعله يفهم كيف تدور الحياة فى المجتمع الرأسمالى المعاصر بحيث يسعى إلى تغييره. كانت هذه هى الرسالة السياسية التى كرس لها مسرحه الملحمى وهاجم “بريشت” فكرة الإيهام فى الدراما التقليدية فالمسرح لابد من أن يحاول تحطيم أى إيهام بالحقيقة. ولذلك لابد من أن يكون واضحاً لدى المتفرج أنه لا يشاهد أحداثاً واقعية تجرى أمام عينيه ذلك لأنه بصدد مسرح سياسى ينقل رسالة على المتفرج أن يستوعبها من خلال الإنفصال من الشخصيات والأحداث، لا التوحد معها، وعلى المخرج أن يحاول بكل الوسائل خلق التأثيرات التى تحافظ على إنفصال الجمهور وتغريبه عن الحدث.
المسرح الملحمى عكس المسرح التقليدى، ينقلنا إلى عالم الحكايات البعيدة، عالم السرد التاريخى الملحمى. فمن الشائع عندنا أن نتكلم عن أساليب التغريب، ونعنى بها المسرح الملحمى، أما التغريب فليس فى حقيقة الأمر سوى وسيلة لسرد ملحمه، ولتصوير الأحداث على أنها حالة تاريخية تنتمى إلى الماضى، وحتى ولو كانت معاصرة. المسرح الملحمى إذن، مسرح سرد تاريخى يحكى لنا قصة والقصة هى تتابع أحداث تكون التجربة الاجتماعية، ونصور التفاعل بين الشخصيات وهذا التفاعل هو الذى يبرز لنا مغزى التجربة الاجتماعية. ومن خلال التركيز على التعبير عن السلوك الإجتماعى لإنسان تجاه أخر. يحول بريشت الإهتمام من حياة الشخصيات الداخلية إلى الطريقة التى تسلك بها تجاه إحداهما الأخرى، أو بمعنى أخر إلى العلاقات الاجتماعية، ومغزاها السياسى.
كان “بريشت” يهدف إلى إستخدام المسرح كوسيلة لخدمة المجتمع، فلقد كان مؤمنا بأن المسرح الملحمى بتركيزه على تصوير الإنسان فى علاقته الاجتماعية، كان قادراً على إيقاظ قدرات المشاهدين لإحداث تغيير فى المجتمع، فهو لا يترك، كما فى المسرح التقليدى للمتفرج أن يستخلص النتائج الممكنة للعرض، بل إنه يزودنا بالخلفية الاجتماعية، ويعلق عليها من خلال الراوى فعن طريق إبقاء المتفرج فى حالة عقلية نقدية تمنعه من رؤية الصراع كلية من وجهه نظر الشخصيات ومن تقبل عواطفها ودوافعها على أنها محكومة بالطبيعة البشرية والمجتمع ولا يمكن تغييرها، يستطيع المسرح أن يجعل المتفرجين يرون التناقضات الموجودة ةداخل المجتمع وأن يجعلهم يسعون لتغييرها.
مع تحيات أ.د أحمد صقر- جامعة الإسكندرية