أرشيف الوسم : المغرب

الزمن النفسي في الرواية السجنيّة العربية: رواية “تلك العتمة الباهرة” للطاهر بن جلون أنموذجًا

مقدمة
تعدّ الرواية العربية الحديثة التي تندرج تحت مسمى “الرواية الأطروحة” أو “رواية السجون” -والتي كان من أبرز روادها الروائي عبد الرحمن منيف- من النصوص السردية التي شغلت الدرس النقدي المهتم بقضايا السرد بصفة عامة، وقضايا الأيديولوجيات والحرية والواقع والخيال وغيرها من اهتمامات النقد المعاصر. بيد أن الرواية المهتمة بتصوير الصراع بين المثقف والسلطة، لها نمط تجريبيّ خاص، وخصوصية سردية تنحو منحى الاستشراف لصور سردية جديدة تفيد من الأجناس الأدبية الأخرى. من هذا المنظور، تتناول الدراسة الرواية السجنية من خلال رواية “تلك العتمة الباهرة” للروائي المغربي الطاهر بن جلون. حيث ركّزت على عنصر الزمن السردي في هذا النوع الروائي الذي يتعالق فيه الزمن النفسي والفلسفي؛ قصد الكشف عن كون هذا التعالق الزمني يساهم في بناء نوع من التشكيل البنيوي لتقنيات الزمن من حيث حركات التواتر والترتيب، من خلال تعالقها بالأزمنة النفسية والفلسفية. لتصل الدراسة إلى صوغ عام يكون فيه الزمن السردي فاعلًا في تصوير الحدث، وتصوير الانفعال وأيديولوجيا الكتابة عامة. ما مكّن من الإجابة عن الإشكالية الآتية: كيف تعامل الروائيّ الطاهر بن جلون مع بنية الزمن في روايته؟ هل كانت بنية الزمن في النص بنيةً دالةً أم اتخذت بعدًا جماليًا فقط؟
أولًا: الروية السجنيّة، وهاجس الحرية
لا شك أنّ تجربة السّجن السياسيّ تجربة إنسانيّة بالغة الرهافة والخصوصيّة. تجترح الذّات، وتحفر عميقًا في ثنايا الروح ما لا يُنسى بما تثيره من أسئلة، أو تشي به من دلالات، أو تحتمي به من قناعات. وليس السجن السياسيّ إلاّ مظهرًا من مظاهر غياب الديمقراطية، واستشراء ظاهرة القمع السلطويّ القاهرة، الذي يصادر حرية المرء، ويمتهن كرامته، ويضيّق عليه الخناق. إنه “الوجه الماديّ للقمع، أو هو القمع المعلَن. حين تمارس السلطة قمعًا آخر غير علنيّ في الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة من خلال مؤسساتها ودوائرها وشركاتها، ومن خلال بيروقراطيتها المنظورة وغير المنظورة على حد سواء”(). لهذا، سعت الرِّواية العربيّة للبحث عن معنى الحريّة وقيمتها في عالم يمور بالفوضى، ويعجّ بمختلف أصناف القهر والاستبداد. ما مكنها من تأكيد حضورها النوعيّ في مواجهة أوجه القمع المختلفة بإطلاق سراح المقموع والمسكوت عنه، و”ضبط إيقاع الصوت المائز لهموم الزّمن الخاص بالواقع وسط إيقاعات الأصوات المتنافرة لأزمنة العالم الذي تحوّل إلى قرية كونيّة فعلًا، لكنّها عبارة عن قرية يختلط فيها الحلم بالكابوس، ويمتزج فيها الوعد بالوعيد”(). حاولت رواية السّجن السياسيّ إعادة بناء عالم السّجون حياتيًا وروائيًا في أبنية سرديّة عدّة، صوّرت مراحل الملاحَقة والتّرويع، والاعتقال والاستنطاق، والتّحقيق واختلاق التُهَم، وانتزاع الاعترافات والتّعذيب حدّ الموت، حتّى غدت دلالة على قمع الدولة التّسلطيّة”().
ربما من أهمّ أسباب اهتمام الرواية العربيّة بالتّعبير عن ظاهرة أساسيّة من ظواهر الرِّواية العربيّة في تمرّدها الإبداعيّ في تجربة السجن السياسي، واتخاذها موضوعًا روائيًا: نزوع الأدب بطبيعته إلى الحريّة، ورغبة المبدع في تحدي القامع، ومجابهته مُسلحًا بالكلمة()؛ بعد أنْ غالت النُظُم المستبدّة في خرق حقوق الإنسان؛ فالأنظمة الدكتاتوريّة “مهما بدت قويةً ومسيطرةً فإنّها ذات أرجل طينيّة، وتحمل بذرة فنائها في داخلها”(). تحاول روايات السّجن السياسيّ تصوير أبرز مظاهر أزمة الحريّة المُتمثِّلة في ممارسة العنف السياسيّ، والاغتراب النفسي، والرّقابة والاستبداد والمطاردة، والتّفنن في صنوف التّعذيب اللا إنساني، وتعمد إلى إدانة أساليب القمع السلطويّ، ورسم سُبل الخروج من عتمة المعتقلات المظلمة بالكلمات التي صارت بديلًا من الموت. ولأن الرواية تجربة وسؤال متجدد إبداعًا ومادةً وتلقيًا، وفي أعماق كلّ تجربة أكثر من إشارة استفهام”()، فقد اتخذت رواية السّجن السياسيّ في مقاومة تجليات القمع صورًا تعبيريّةً شتّى توزّعت بين الطّابع السير ذاتي أو الوثائقيّ، وهي أقرب ما تكون إلى الشّهادات أو المذكرات أو اليوميات كـ (أبو زعبل) لإلهام سيف النّصر 1975 ، و(الأقدام العارية) لطاهر عبد الحكيم، وثلاثيّة شريف حتاتة: (العين ذات الجفن المعدنيّة) 1978، و(جناحان للريح) 1974، و(الهزيمة) 1978، وبين الطّابع الفنيّ التّخييليّ كـ(القلعة الخامسة) لفاضل العزاوي التي زامنت في صدورها رواية (السّجن) لنبيل سليمان 1962، و(ملف الحادثة 67) لإسماعيل فهد إسماعيل 1974، و(نجمة أغسطس) لصنع الله إبراهيم 1974، و(الكرنك) لنجيب محفوظ 1974، و(شرق المتوسط) لبعد الرحمن منيف 1975، و(الآن هنا، أو شرق المتوسط مرّة أُخرى) 1991، و(الروائيّون) لغالب هلسا 1988، وغيرها من الأعمال الروائية. لهذا، غدت رواية السّجن السياسيّ نوعًا من أنواع المقاومة، ووجهًا من وجوه الاحتجاج، وأفقًا تجريبيّ المبنى والمعنى في كشف المستور، وفضح المُغيَّب، وتحرير المقموع. فقد قوّضت بما تمارسه من سردٍ فنيٍ جدران الأقبية والزنزانات المعتمة التي تئد الفكر، وتصادر الحق، والحريات. قصد تأكيد حقّ المُهمّشين والمقموعين في الحريّة، ودورهم في تحقيقها.
ثانيًا: سنوات الجمر والرّصاص، والرواية السجنية المغربية
نهضت رواية السّجن السياسيّ المغربيّة الجديدة بعبء التّعبير عن حدّة مختلف الأزمات المصيريّة السياسيّة التي عصفت البلاد. وذلك من خلال إبراز تجليات العنف الذي يعيد نفسه من خلال صور شتّى لا تهدد الذّات الإنسانيّة إلا بالعدميّة والموت والذّوبان. فقد استحضرت جحيم الزنزانات المغلقة، وفصّلت مشاهد التّرويع والحجر والتّعذيب الراعبة، وفضحت ممارسات القمع السلطويّ المدمِّرة في انتهاكها الكليّ لأبسط القيم الإنسانيّة، وأدانت سنوات العتمة والضياع التي سامت ضحاياها الخسف، وألقت مصائرهم إلى المجهول. تعدّ سنوات الجمر والرّصاص() أقرب الشّهادات على واقع سياسيّ مهترئ البنى، كوّن القمع وأفرزه ولوّنه، ومدّه إلى أن بلغ حدّ الانفصام اللامعقول في امتهان آدمية ضحاياه. ما دفع الرِّواية المغربيّة إلى اتخاذ السّلطة محورًا من محاور اشتغالاتها. لتعكس “مُتخيلًا ثقافيًا واجتماعيًا وتاريخيًا عامًا بُني خلال قرون عديدة. ويبدأ الجزء الأساس من هذا المُتخيل منذ التربية الأولى للمواطن العربيّ، والذي بمقتضاه يعدّ الحاكم ظلّ الله على الأرض(). لهذا، ارتفعت في المغرب وتيرة نشر عدد كبير من الشّهادات والمحكيّات الروائيّة والسّير الذّاتية السّجنيّة التي تقاسمتها “عدّة خصائص جماليّة ودلاليّة تتقاطع عند المنزعَين: الأدبيّ والتّسجيليّ. أمّا النّصوص التي ظهرت بعدهما فيمكن القول إنّ الطابع الإخباريّ التقريريّ قد غلب عليها، وربما كان السبب في ذلك نُضج شروط مغايرة تسمح بقول كلّ شيء مباشرةً ومن دون مواربة”(). ولعلّ من أهمّ كتابات السّجن السياسيّ المغربيّة المليئة بالحوادث والصّور والوقائع والمواقف، والمُوزّعة بين البعد التّوثيقيّ والبعد التّخييليّ: (مجنون الأمل) لعبد اللطيف اللعبي 1983، (كان وأخواتها) لعبد القادر الشاوي 1986، (المغرب من الأسود إلى الرمادي) لأبراهام السرفاتي 1998، (العريس) لصلاح الوديع 1999، (تازمامارت، الزنزانة رقم 10) لأحمد المرزوقي 2000، (درب مولاي الشريف الغرفة السوداء) لجواد أمديدش 2000، (تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم) لمحمد الرايس 2001، (سيرة الرماد) لخديجة مروازي، و(حديث العتمة) لفاطنة البيه 2001، و(تلك العتمة الباهرة) للطاهر بن جلون 2002، وغيرها من الأعمال السردية().
معتقل تازمامارت، وسلطة الفضاء
كشفت رواية الطاهر بن جلون “تلك العتمة الباهرة” وغيرها من الأعمال السردية، عتمة مدافن تازمامارت السّريّة التي أنكرتها السُّلطات المغربية في مرحلة سابقة، وأزالت النّقاب عن أبرز صور الاستبداد والاستلاب والتّشيؤ الصارخة في أقبية التّعذيب اللاإنسانية القاتمة. وتعرّي وجه زبانية الظلمة والرقابة والمطاردة المميتة. ففضاء تازمامارت لم يكن سجنًا سياسيًّا سريًا فحسب، بل كان مَدفنًا وجحيمًا وليلًا سرمديًا طويلًا، وزنزانات ضيقةً “يبلغ طولها ثلاثة أمتار وعرضها مترًا ونصف المتر، أمّا سقفها فواطئ جدًا يتراوح ارتفاعه بين مئة وخمسين، ومئة وستين سنتمترًا”(). حيث لا حياة ولا ربيع ولا عائلة، ولا أصدقاء ولا أحلام ولا أحياء ولا أسماء، ولا شيء غير الأرقام؛ فثلاثة وعشرون سجينًا في الجناح (ب)، كلُّ سجين منهم عبارة عن رقم في قبرٍ/ زنزانة، وفي كلّ زنزانة ثقبان محفوران: واحدٌ في الأرضية لقضاء الحاجة، وآخر فوق باب الحديد لإدخال الهواء(). في تازمامارت لم تكن لديهم أَسرّة ولا حتّى رقعة من الإسفنج بمنزلة فراش، ولا حتّى كومة من القش أو ورق الحلفاء التي تربض عليها البهائم، كانت لكلّ واحدٍ بطانيتان رماديتان خفيفتان مسمومتان بمحلول مُعقم، وخمسة لترات من الماء القذر غير الصالح للشرب يوميًا()، وكذا قهوة رديئة بطعم منقوع الجوارب الكريه، وحصّة من الخبز الأبيض الشبيه بحجر الكلس الذي لا يمكن قطعه ولا حتّى كسره، وعصيدة نشويات مطبوخة بالماء بلا بهارات ولا زيت()، كما كانت لديهم الأمراض التي تتهدّدهم، والأوجاع التي تمضّهم، والعقارب السّامة التي يتعمّد الحارس إطلاقها؛ لتقتلهم بصمت عقابًا لهم فضلًا عن مختلف صنوف الأذى والتّرويع السلطويّ التي تعرضوا لها على أيدي سجّانيهم المُكلّفين بتنفيذ أوامر الضابط/ قائد المعسكر)، وشتّى طرائق الاستفزاز والإرهاب الصادمة؛ يوكّد السارد هذا بعد ما قام حارسا السّجن -بأمر من الضابط- بإدخاله في جُراب واسع مصنوع من مادة متينة، وجرجرته تجاه الباب الخارجيّ؛ ليحفر قبره بيديه، فيقول: “لقد أُعطِيَت لهم الصّلاحية المطلقة في التّصرف معنا وبنا، فما الذي يحول دون عودتهم مجددًا لاقتياد واحد آخر منّا، والتّظاهر بأنّهم يهمّون بتصفيته أو رميه في حفرة ما، أو تعريضه لعقوبة الثبات، إذ يُطمَر الجسم بأكمله مقيّد اليدين والقدمين، ما عدا الرأس الذي يبقى بارزًا سوية الأرض معرَّضًا لشمس الصيف أو مطر الشتاء، ربما كان لسجّانينا لائحة عُدّدت فيها طرائق سوء المعاملة التي ينبغي لهم أنْ يخضعونا لها بحسب أمزجتهم”(). ذلك أن السّجن هو المكان السّيد، والمُتسيّد البطل الذي “يُعيد صوغ الآخر ليس بطبوغرافيته فقط، ولكن بأنظمته وقوانينه وعالمه الكليّ الخاص؛ لأنّ الآخر هنا فاقد الحريّة وهو متلقٍ فحسب”(). إن السّجن بهذا المعنى “لا يكفّ عن كونه ذا أبعاد ومقاسات تميّز انغلاقه ومحدوديته، ويتحوّل إلى فضاء مخصوص ينهض على أنقاض العالم الخارجي المألوف().
الرواية السجنية بوصفها شهادة تاريخية
تشغل الحريّة فكر الروائيّ المغربيّ الطّاهر بن جلون(). وتلحّ عليه، وتُعبّر عن نفسها في أعماله الأدبيّة الروائيّة بوسائل فنيّة شتّى، تتمرّد شكلًا ومضمونًا على آليات القمع؛ لتصير أداةً من أدوات الفعل والتأثير، ووجهًا من وجوه المقاومة. ويوكّد بن جلون في ظلّ تنامي سطوة القهر على أهمية الدّفاع عن الحريّة المسؤولة، وليست حرية الفوضى، واحترام الشّخص بوصفه شخصًا لا كرُكْنٍ في شيءٍ مُجرّدٍ من الواقع، مؤمنًا بأنّ وظيفة الإبداع “تكمن في تجاوزه للواقع السائد الملموس، وهو شرط ضروريّ ليكون الإنسان كائنًا مُتضادًا، يقاوم الذّوبان في المؤسسات القائمة والنّظام السائد(). تستلهم رواية (تلك العتمة الباهرة) شهادة (عزيز بنبين) أحد معتقلي سجن تزمامارت() الرهيب على سنوات الظلمة والوجع، والقهر والانسحاق تحت وطأة السّلطة القامعة التي تتربّص بالإنسان، وتصادر وجوده، وتتهدّده حدّ الذّوبان. حيث تروي الرِّواية مأساة مجموعة من تلامذة مدرسة اهرمومو العسكريين، الذين تورّطوا على أيدي قادتهم العسكريين الكبار في ما سُمّي بـ (محاولة انقلاب قصر الصخيرات الملكي) عام 1971. على الرغم من أن تلك المعلومة التي خرجوا من أجلها كانت بهدف المشاركة في مناورة عسكريّة فحسب، وتقصّ رحلة عذابهم اللامتناهي بعد زجّهم أحياء في قبور تزمامارت التي كان الموت فيها رفاهيةً لا يستحقونها إلاّ مرضًا أو جوعًا أو جنونًا، أو انتحارًا.
الرواية السجنية والسارد الشاهد
يهيمن على رِواية “تلك العتمة الباهرة” الأسى والألم، وتتوشّح سوادًا على امتداد فصولها(). لترسم للقمع صورًا فجائعيّة غرائبيّة صادمة في لا إنسانيتها الطاغية؛ فالمرئيات في الحفرة غائمة، والآمال بعيدة ذاوية، والجراح فاغرة، والموت بطيء، ومسلسل العذاب طويل الحلقات هنا “في باطن الأرض الرطبة المفعمة برائحة الإنسان المُفرغ من إنسانيته بضربات معزقة تسلخ جلده، وتنتزع منه البصر والصّوت والعقل”(). تكشف الرِّواية عبر ساردها الشاهد “سليم” المعاناة النّفسيّة الرهيبة للمسجونين المدفونين أحياء في القبور/ الزنزانات الضيقة، وقد كابدوا مختلف صنوف التّعذيب والاستفزاز والإرهاب، مجرَّدين من كلّ ما قد يشي بإنسانيتهم في رحلتهم الصعبة مع الموت الذي انتزعهم وهم أحياء من حياتهم. يسرد السارد الشاهد/ السجين سليم، بعض فصول معاناتهم في رحلتهم إلى الموت معصوبي الأعين، مكبلي الأيدي، بعد أنْ قضوا الأشهر الأولى في سجن القنيطرة السياسيّ المريع، والمعروف بصرامة قوانينه وغلظة حراسه، والذي بدا لهم – في ما بعد- “سجنًا يُشبه أنْ يكون بشريًا، فهناك نور السماء وبصيص الأمل”()، إذا ما قُورِن بمعتقل تزمامارت المؤبد الذي “شُيِّد كي يبقى إلى الأبد غارقًا في الظلمات”(). تقدّم رواية “تلك العتمة الباهرة” صورة تزمامارت الجهنميّة بطريقةٍ فنيّةٍ. تجعل منه بؤرة السرد المركزيّة التي تساهم في صنع الحدث وتشكيله وتناميه، وقاعدة محوريّة تشدّ مختلف عناصر البناء الروائيّ إليها، ورمزا مهمًا من رموز البحث الدائب عن الحرية المُصادَرة في ظلّ آليات القمع الجائرة التي لا تُفضي إلاّ إلى الخيبة والخواء والصمت. بهذا، يُحمِّل السارد/ الروائي الطاهر بن جلون زنزانات تزمامارت ومدافنها أبعادًا سياسيّةً واجتماعيّةً ونفسيّةً. تمنح العمل الروائي خصوصيّته بوصفها مُكونًا من مُكونات النّص الفنيّة التي تذوب فيه الرؤية، وتتضافر مع لُحمته وسداه. والحال أنّ المكان “لا يعيش منعزلًا عن باقي عناصر السّرد، وإنما يدخل في علاقات متعدّدة مع المُكونات الحكائيّة الأخرى للسّرد (الشّخصيات والحوادث والرؤى السّرديّة)، وعدم النّظر إليه ضمن هذه العلاقات والصّلات التي يقيمها، يجعل من العسير فهم الدور النّصي الذي ينهض به داخل السرد”(). لهذا، تُبرِز الرِّواية مدى اعتناء الروائي الطاهر بن جلون بتشكيل صور المكان واقعًا وتخييلًا مستغلًا طاقاته كلها في تجسيدها وتحميلها بحمولات دلاليّة عدّة. تعكس مختلف ألوان التّشيؤ التي لا تعترف بإنسانيّة الشّخصيّة منذ تجريدها من هُويّتها الخاصّة، وانتزاع اسمها، واستبداله برقم ضائع. يجعل منها نكرة في عداد النّكرات، وحتّى موتها قهرًا وحقدًا وجنونًا؛ فالضابط الآمر الذي لم يطأ أرض المُعتقَل يومًا كان يزعق في وجوه الحراس قائلًا: إياكم أنْ تأتوا إليّ لتخبروني أنّ فلانًا مريض، لا تأتوا إلاّ لتعلموني أنّه مات، لكي تصحّ حساباتي”(). تعيد الرِّواية رسم شخصياتها وفق تشكيلها لصور المكان تلك، حيث تنقلهم من الشيء إلى نقيضه، فمن بيوتهم فوق الأرض إلى مدافنهم السّريّة تحتها ثمّة الكثير ليغيّرهم، ويعيد تكوينهم ماديًا ومعنويًا، ويباين بين مواقفهم ورؤاهم وتوجُهاتهم وطرائقهم في مواجهة الخوف الذي يشقيهم ومصارعة الموت البطيء المحكومين به إلى الأبد على النحو الذي أشرنا إليه سابقًا. فمن “خلال الشخصيات المتحركة ضمن خطوط الرواية الفنية، ومن خلال تلك العلاقات الحية التي تربط كل شخصية بأخرى، يستطيع الكاتب الإمساك بزمام عمله وتطوير الحدث من نقطة البداية حتى لحظات التنوير في العمل الروائي. لكن هذا لا يتأتى بطبيعة الحال من غير العناية وبصورة مدققة وسليمة في رسم كل شخصية وتبين أبعادها وجزئياتها”(). تستثمر رواية “تلك العتمة الباهرة” تجربة “عزيز” الذّاتية بتنوّعاتها ومكوّناتها وأمشاجها ولحظاتها الممتدّة خارج الزّمان والمكان. لتكوين عالم فنيّ مُتخيَّل، تتحكّم في تشييد معماره مُختلف البنى والأدوات الفنيّة من سرد ووصف وفضاء واسترجاع واستباق، فلا يفارق السارد مَسروده، بل يتماهى معه، فيصوغه ويسوقه، ويعيد إنتاجه في كتابة روائيّة سيريّة مُهجّنة يتقابل فيها السارد والروائيّ، ويندرجان معًا في تداخل مستمر ولا نهائي”(). حيث يُلقي الروائي مهمة السرد على عاتق “سليم”. فينهض بها لا بوصفه صوتًا مجردًا فحسب، بل شاهدًا مشاركًا، مؤثرًا ومتأثرًا؛ يشير إلى كاتب يحمل همومًا معينة، ويعيش في بيئة ثقافية وحضارية يتأثر بها ويحاول -من خلال فعل الكتابة- أن يكون له أثر فيها، وتتجه عناية السرديّة إلى هذا السارد بوصفه مُكوّنًا منتِجًا للسرد بما فيه من حوادث ووقائع، وتعنى برؤيته العالم المتخيَّل الذي يكوّنه السرد، وموقفه منه. نظرًا لاختلاف كيفيات حضوره الفنية وعلاقاته وصور تدخلاته وتشكلاته في العمل الفنيّ نفسه. حيث “تختلف طبيعة السارد وموقعه ورؤيته وصورته باختلاف الوظائف التي يقوم بها، وبالمقدار الذي تحظى به كل منها في النص. لأن هذه الوظائف هي نفسها العلامات التي تحدد نموذج السارد، وتضبط موقعه، وتصنع قوامه العقلي والجسدي والوجداني، وتتحكم في طريقة إدراكه للعالم المحيط به؛ وفي طريقة تلفظه وتعبيره عن هذا العالم”(). وتومئ الرِّواية من خلال السارد المتكلّم بضمير المتكلم/ الأنا، إلى أهمية قهر الموت بالتّشبّث بفكرة الحياة؛ فكلّما أطلّ وجه الموت المتقبِّض على السارد في استبقاء الحياة، يحدوه إحساس بالسّلام وقد تصالح مع ذاته بعد أن غمره النور الذي جابه به العتمة. لهذا، فلم تفلح ثمانية عشر عامًا مِن الشدّة في أن تنتزع منه إنسانيته. بل أفلح هو في إفراغ ذهنه من الماضي اكتفاءً باللحظة القارّة، وقمعًا لكلّ ما قد يشي بالشقاء المُرّ والوجع المقيم، مُتخطيًا مشاعر الخوف والرغبة في الثأر أو التّدمير. إذ “كلّما أمكن التّقدم في تبديد مشاعر الخوف والانتقام والغُبن بقول الحقيقة، وتسمية الأشياء توفَّر المناخ النّفسيّ والسّياسيّ الملائم أمام مُصالحة المغاربة مع أنفسهم، ومع تاريخهم، ومع بعضهم البعض”(). وهنا، تتّضح دلالات المكون اللساني (عتبة النص الرئيسة) “تلك العتمة الباهرة” السيميائيّة. فعلى الرغم من جحيم العتمة السرمديّ، ثمّة ضوء يعيد للحياة نسغها، يلوّنها بغير الأسود، ويمدّها بأسباب الخصب والنّماء مُنطلقًا من قلب عتمة القاع إلى نور روح الحريّة والانعتاق. فما زقزقات (طير ثيبيبط) أو (لفقيرة) عصفور الدُوريّ المغربيّ في كُوة تهوية زنزانة السارد “سليم”()، إلاّ بشارة من بشائر الحياة. وما تسلّل اليمامة إلى إحدى الزنزانات في غفلةٍ من الحراس()، وانتقالها بعد اتفاق السّجناء على تسمّيتها بـ”حريّة” من زنزانة إلى الأخرى، وتحميلها رسائلهم الشفويّة الممتلئة بألم البعد، والمفتوحة على الوجع تارةً، والأمل تارةً أخرى إلاّ بصيص أمل، و”مشكاة نُعمى ونور”(). فقد آنست وحدتهم، وبدّدت عتمة محنتهم العظيمة مدّة الشّهر الذي كانت بينهم قبل أنْ يُطلقوا سراحها.
ثالثًا: الزمن في الرواية الحديثة
الزمن النفسي ورواية تيار الوعي
تتباين كيفيّات حضور الزمن بوصفه “المادّة المعنويّة المجرّدة التي يتشكّل فيها إطار كلّ حياة، وحيز كلّ فعل وكلّ حركة”()، فتختلف طرائق إدراكه، وآليات بنائه وتجسيده. حيث يمثّل المكان الخليفة التي تقع فيها الحوادث في حين يمثّل الزّمن الخط الذي تسير عليه الحوادث هذه.
يرتبط الزّمن بالإدراك النّفسيّ على عكس المكان الذي يرتبط بالإدراك الحسيّ. وقد “يسقط الإدراك النّفسيّ على الأشياء المحسوسة لتوضيحها والتّعبير عنها”(). ويمثّل الزّمن محور البنية الروائيّة وجوهر تصويرها الذي يشدّ أجزاءها كما محور الحياة؛ لأنّ “الزّمن وسيط الرواية كما هو وسيط الحياة”(). حيث تستمدّ الرواية أصالتها من كفاية تعبيرها عن ذلك النمط، وإيصاله إلى القارئ، وجميع طرائق السرد وأدواته، تنتهي في التحليل الأخير إلى المعالجة التي توليها لقيم الزّمن وسلاسله، وكيف تضع الواحدة في مواجهة الأخرى”(). ويعدّ الزّمن بحركته وجريانه “المحور الأساس المميّز للنصوص السردية بشكل عام، لا بوصفها الشكل التّعبيريّ القائم على سرد حوادث تقع في الزّمن فقط، ولا لأنّها كذلك فعل تلفظيّ يُخضع الحوادث والوقائع المروية إلى توالٍ زمني، وإنّما لكونها إضافةً لهذا وذاك، تداخلًا وتفاعلًا بين مستويات زمنيّة متعددة ومختلفة. منها ما هو خارجيّ ومنها ما هو داخلي”(). لهذا، يلعب الزّمن بأبعاده: الماضية المُسترجَعة، والحاضرة القارّة، والمستقبليّة المستشرَفة دوره الوظيفيّ الفاعل في تشكيل الحوادث أو تصعيدها، ورسم أبعاد الشّخصيات وتصويرها في قلب المكان الذي ينفعل بحركة الزّمن، ويرتبط به في علائق جدليّة متشابكة توكّد دورهما في النّص، إذ لم يعد الزّمن “خيطًا وهميًا يربط الحوادث بعضها ببعض، ويؤسس لعلاقات الشّخصيات بعضها مع بعضها، ويظاهر اللغة على أن تتخذ موقعها في إطار السيرة، لكنه اغتدى أعظم من ذلك وأخطر”(). وتعني الرواية بالزمن الروائي: الطبيعي الخارجي()، والذّاتي النّفسيّ ودورهما في النّسيج الفنيّ، وأثرهما في بقية عناصر البناء، وإيقاع حركتيهما بوصفها “فنًا لشكل الزّمن بامتياز. لأنّها تستطيع أن تلتقطه وتخصّه في تجلياته المختلفة الميثولوجيّة والدائريّة والتّاريخيّة والببلوغرافية والنّفسيّة”(). يفارق الزّمن الروائيّ المُتخيّل الزّمن الواقعيّ المُتحقِّق على الرغم مما بينهما من علائق تفاعليّة(). حيث يتجاوز المُتخيّلُ الإبداعيُّ الواقعيَّ المنطقيَّ، مُنفتحًا على أزمنة عدّة “تتداخل وتتكاثف وتستغني عن استمراريّة الحركة إلى الأمام من خلال تيار الوعي ومراوحة الزمن”(). وتشكّل تقنياتُ القصّ السّرديّة، من خلال علائقها الوشيجة مع الزّمنِ، الرِّواية، وتمنحها أبعادًا فنيّة. تتجاوز الأزمنة الحقيقيّة إلى التّخييليّة، والطبيعيّة الخارجيّة إلى الذّاتية الدّاخلية، وتؤثّر المفارقات الزّمنيّة التي تنتظم النّص في حركة السّرد وإيقاعه، ودوره في العرض والتّرتيب فـ”تارة نكون إزاء سرد استذكاريّ. يتشكّل من مقاطع استرجاعيّة. تُحيل على حوادث تخرج عن حاضر النّص، لترتبط بفترة سابقة على بداية السّرد. وتارةً أخرى، نكون إزاء سرد استشرافيّ يعرض لحوادث لم يطلْها التّحقق بعد. لتغدو مجرد تطلعات سابقة لأوانها”().
يتداخل الزّمان مع المكان في رواية “تلك العتمة الباهرة”، وتتقاطع دوائرهما في كُلٍ واحدٍ “مُدرك ومُشخّص ليتكثف الزمن ويتراصّ، ويصبح شيئًا فنيًا مرئيًا، والمكان أيضًا يتكثّف فيندمج في حركة الزّمان والموضوع، بوصفه حدثًا أو جملة حوادث التاريخ”(). تتموقع رواية “تلك العتمة الباهرة” بين زمنيْن: زمن اللحظة القارّة، وزمن اللحظة الماضية التي ما زالت تحتفظ بها الذاكرة أيديولوجيًا ووجدانيًا. حيث يتغلغل الماضي في الحاضر في لحظات مُختزَلة مكثّفة موضوعيّة وذاتيّة في آنٍ، ولا سيما عندما ينقطع زمن السّرد الحاضر، لتتداعى اللحظات الماضية من خلال استخدام تقنيات تيار الوعي، أو الشعور الذي “يحاول تقديم داخلية الشّخصيّة على الورق ككلِّ فن روائيّ، والاقتراب قدر المستطاع إلى محاكاة هذه الدّاخلية اعتمادًا على ما نعرفه من علم النّفس الحديث”(). حيث تتشكّل هذه اللحظة الحاضرة السرديّة ممتدَّة الأطراف عبر الماضي وتداعياته وتستحضر الرِّواية عبر روي السّجين “سليم” تقنيات تيار الوعي بأسلوب استبطانيّ استرجاعيّ نفسيّ قوامه: التّذكر والحلم، والحوار والمناجاة. يكشف عن دواخل الشّخصيات العالقة في تزمامارت بما يضيء حاضرها، ويميط اللثام عن وجوه معاناتها وصور اصطدامها مع آليات السّلطة القامعة
هيمنة ثيمة Thema الموت والزمن النفسي في رواية “تلك العتمة الباهرة”
هيمنة ثيمة Thema الموت في رواية “تلك العتمة الباهرة”
تفوح من الرِّواية رائحة الموت على امتداد فصولها، فنقف وجهًا لوجه أمام أبشع صور الموت العدميّ التي طالت جلّ المعتقلين()؛ إذ يقدّم السارد الموت بتقنيات تصويريّة سينمائيّة في مشاهد منفصلة إن أردنا الربط بينها، “فسنخرج باشتراكها جميعًا بتجرّدها عن الإنسانيّة، وبتوظيف الجسد كمادة. كان السّجين “حميد” رقم 12 أول من غادرهم مستدعيًا موته بعد ما فقد عقله، منصرفًا إلى التمتمة بالكلمات الغامضة، جاءه الموت حين ألمّت به الرعدة، وضرب الحائط برأسه مرارًا، أطلق صرخةً متماديةً، ثم ما عاد صوته مسموعًا. أمّا السّجين “إدريس” رقم 9 فقد رفض في أيامه الأخيرة تناول الطّعام الذي كان يمضغه له السّجين “سليم” رقم 7، ويُلقِمه منه لُقيمات صغيرة متبوعة بجرعة ماء، فرقّت عظامه وعضلاته كلّها، وانغرزت أضلعه في مفاصله، وتحوّل إلى “شيءٍ غريب صغير، وفقد كلّ صفة بشريّة لشدّة ما أصابه من تشوهات”(). فإذا كان السّجين “لعربي” رقم 4 قد أعلن إضرابًا عن الطّعام، وترك نفسه بعد أنْ أصابه حرمانه من التّدخين بالجنون، حيث بلغ به نحوله في أيامه الأخيرة حدًا “ما عاد فيه يُشبه البشر، كانت عيناه جاحظتين محتقنتين، وعند ملتقى شفتيه زبد جاف، وعلى وجهه ذي العظام الناتئة سيماء الشقاء كلّه والحقد كلّه”()، فقد قضى السّجين “رشدي” رقم 23 حقدًا على الجميع بعد أنْ أفقده فضاء تزمامارت الذي دخله بلا ذنب عقله، “كان يريد أنْ يقتل الجميع: الحراس، القضاة، المحامين، الأسرة المالكة، كلّ الذين كانوا سببًا في سجنه”(). بينما مات السّجين “بابا” الصعداوي الذي أُلحِق بهم -بتهمة الخيانة وقول إنّ الصحراء ليست مغربية– مُتجمِّدًا من البرد(). أمّا السّجين “مصطفى” رقم 8 فقد مات بلدغة عقرب سامّة، فاجتمعت على جسده الميت عقارب الحفرة كلها(). في حين أنّ السّجين “موح” رقم 1 الذي كان طباخًا ماهرًا في مدرسة أهرمومو العسكريّة، بدأ يفقد رشده شيئًا فشيئًا، فيستدعي أمّه ويحادثها وقت تقديم عصيدة النّشويات والخبز اليابس، فيطعمها تخيّلًا وهو لا يأكل، إلى أنْ خارت قواه ووهن صوته مستسلمًا للموت(). وينتحر السّجين “عبد القادر” رقم 2 عندما يتوقف السارد السّجين “سليم” رقم 7 عن رواية القصص، وسرد الحكايات التي كان يقاوم بها الهلاك/ الموت؛ فقد خارت قوى “سليم” بسبب الحمى، فبُحّ صوته، وتوقف عن الحكي، فاستسلم “عبد القادر” للموت، “كان انتحارًا؛ لأنّه تقيأ دمًا، فلا بدّ مِن أنّه ابتلع أداة حادة”(). ويشنق السّجين “ماجد” رقم 6 نفسه بملابسه، وقد فقد عقله مناجيًا “موحا” الشّخصيّة التي اختلقها من وحي جنونه بداية، مُنتظِرا مَن مات من السّجناء -مِن بَع – ظنًا منه أنّهم ما ماتوا، إنما يتظاهرون بالموت، لرمي الحراس في القبور، والفرار لجلب المساعدة(). وحتّى في الموت ترصد الرواية مفارقات فجائعيّة غرائبيّة لا تدفع إلاّ إلى الشعور بالأسى والكآبة؛ فالسّجين “بوارس” رقم 13 يموت “من الإمساك بعد أن شَقّ شرجه؛ لأنه لم يستطع إخراج برازه، كان يحتبسه أو بالأحرى قوة ما في داخله كانت تمنعه من التّبرز، فيتراكم البراز يومًا بعد يوم حتّى صار صلبًا كالإسمنت”(). أمّا السّجين “عبد الله” رقم 19 فيموت من الإسهال المتواصل()، والسّجين “فلاح” رقم 14 يموت من عدم قدرته على التّبول( )، والسّجين “صبان” الذي أُلحق بهم في مطلع الثمانينيات يموت بالغرغرينة التي “انتشرت في أنحاء جسمه بسرعة كبيرة، فتتجمّع على جثته الصراصير التي كانت تتساقط كالعناقيد مجتمعة”( )، والسّجين “عبد الملك” رقم 5، يموت مسمومًا بتناوله الآلاف من بيوض الصراصير التي خالطت فُتات الخبز الذي كان يحتفظ به في جُراب بطانيته الذي خاطه بنفسه()، ويموت السّجينان “محمد” رقم1، و”عيشو” رقم 17 البربريان جراء مرض مزمن بالسّعال حتّى الاختناق(). وتظلّ رحى الموت تدور فيكتمل موت 18 سجينًا من أصل 23 واحدًا في 18 عامًا، ولا يبقى في قبور تزمامارت الأرضيّة غير خمسة سجناء هم: عاشر، وعمر، وعباس، وواكرين، والسارد سليم.
إن اللافت للانتباه في تلك العتمة الطاغية الأبديّة التّزمامارتيّة (إنْ جاز التّعبير) تسرُّب رائحة الموت إلى الأقبية من حيث يدري السجناء ولا يدرون، وتغلغل آثارها في ثنايا الروح إمحاءً وإفناءً لتطال كلّ شيء حتّى الحيوان؛ ففي صورة مضحكة مبكية في آن: يُحْكَم بالسّجن خمس سنوات على كلب عضّ جنرالًا في أثناء زيارته التّفتيشيّة للثّكنة المجاورة للمُعتَقل، ولم يكد يمضي شهر واحد حتّى جُنّ جنونه ومات، “ربما لأنّه أُصيب بداء الكَلَب، وصار نباحه مزعجًا جدًا، وما عاد أحد مِن الحراس يجرؤ على فتح باب زنزانته ليحضر له طعامه، فنفق جوعًا وإنهاكًا وتعفنت جيفته(). لكن على الرغم تكرار ثيمة Thema الموت ودورانها، إلاّ أنّ صور تمثيلها الراعبة شتّى، وتجلياتها، وطرائق تشكيلها وتجسيد حضورها كثيرة، وتشي بتباين مواقف تلك الشّخصيات الروائيّة منها؛ فالموت الأسود الفاغر فاهه، يأتي بطيئًا مُتأنيًا مُرهقًا، فيكون أقسى عليهم وأشدّ في المعاناة. لأنّ مهمّة الحراس تقضي بإطالة أَمد عذاب معتقلي الزنزانات المغلقة، وإبقائهم في حالة من الاحتضار أطول مدّة مُمكنة، لكي يتسنّى للموت أنْ “ينتشر ببُطء، وألاّ يُغفِل عضوًا أو رقعة من الجلد، أنْ يصعد من أخمص القدم حتّى أطراف الشّعر، أنْ يسري بين الثنيات، بين التّجاعيد، وأنْ ينغرز مثل إبرة بحثًا عن شريان ليودع فيه سُمّه”(). ليدرك معتقلو تزمامارت في ظل مهمة جلاديهم، أنّ الموت منحة لا يستحقونها إلاّ بعد أنْ يُساموا مختلف العذاب وقد حُكم عليهم بالموت البطيء. لهذا، يطلبونه ويستعجلونه كلّما غالى في تآمره مع جلاديهم، وتريّث في المجيء، ويستسلمون له جوعًا وحقدًا وجنونًا وهذيانًا وانتحارًا. فالسّجين “لعربي” رقم 4 -على سبيل المثال– يدعو الموت إلى الحضور بعد ما أخطأه مرارًا، وتأخر عليه؛ لأنّ فيه خلاصه، فنقرأ أنينه الخافت يهذي به، فيقول: “أريد أنْ أموت، لِمَ يُبطيء الموت في قدومه؟ مَن يوخّر مجيئه، ويمنع نزوله إليّ، وانسلاله مِن تحت باب زنزانتي؟ إنّه ذو الشاربين، الحارس الجلف، يقطع طريقه، كم هو صعب أنْ نموت حين نريد الموت، فالموت لا يبالي بي، ولكن دعوه يمر، أحسنوا وفادته؛ فهذه المرّة سوف يأخذني أنا، سوف يحررني، انتبهوا جيدًا، ولا تعيقوا حركته، إني أراه”(). ويعي السارد السّجين “سليم” رقم 7 ما يتربّص به مِن موت، ويحوم حواليه مِن خَبل، فيتجاوزه متحدّيًا العدم بقمع ذاكرته التي تذكّره بمختلف طقوس الحياة التي صُودرت منه، جزمًا منه بأنّ “مَنْ يستدعي ذكرياته يَموت”( )، متحصنًا بفكره الذي ينبغي أنْ يبقى في معزل عن جلاديه. لأنّ فيه حريته وملاذه وهروبه، فكان يقيس حجم قوته، وقدرته على المقاومة بتمرين فكره، ورياضته وحثّه على تخيّل عوالم أخرى غير ماديّة يكون فيها خلاصه وانعتاقه: بالصلاة والدعاء والتّعلّق روحانيًا بربّه تارةً، وبالقراءة واستعادة المحفوظ والمقروء الفنيّ شعرًا كان أم نثرًا تارةً أخرى. يقول: “كان العفن ينال من أجسادنا، عضوًا تلو آخر، والشيء الوحيد الذي تمكنتُ من الحفاظ عليه هو رأسي، عقلي، كنتُ أتخلى لهم عن أعضائي، ورجائي ألاّ يتمكنوا من ذهني، من حريتي، من نفحة الهواء الطلق، من البصيص الخافت في ليلي، ألوذ بدفاعاتي متغافلًا عن خطّتهم، تعلّمت أنْ أتخلى عن جسدي؛ فالجسد هو ذاك المرئي، كانوا يرونه ويستطيعون لمسه وبضْعه بنصل مُحمى بالنار، بإمكانهم تعذيبه وتجويعه وتعريضه للعقارب، للبرد المُجمِّد، غير أنّي كنتُ حريصًا على أنْ يبقى ذهني بمنأى عنهم، كان قوّتي الوحيدة، أجابه به ضراوة الجلادين بانزوائي، بعدم اكتراثي بانعدام إحساسي(). لهذا، أفلحت محاولات السجين “سليم” في إعمار فكره وإعماله، وكنس ذكريات الماضي ونفضها كلّما همّت بالاحتيال عليه، والبحث في ذاته الحاضرة عن ذاته، والخروج بهما (الفكر والذاكرة) خارج الزّمان السرمديّ والمكان اللاإنساني في تبديد مشاعر الخوف والحقد، والكراهية والرغبة في الانتقام حدّ مصالحة الموت الذي يغشى الأقبية، ويحوم حول الزنزانات إلى أن يهتدي إلى إحداها. فبعد كلّ الذين قَضوا خلال ثمانية عشر عامًا كانت قد نشأت بين “سليم” وبين ملك الموت عزرائيل ألفة من نوع خاص، “فعندما تُطلِق طيور الخَبل صياحها المشؤوم يرى “سليم” عزرائيل الذي يبعث به الله لحصاد أرواح الموتى متواضعًا، مجلببًا بالبياض، صبورًا ومطمَئنًا، كان يُخلِّف وراءه عطرًا من الجنّة، وكان ذلك أجمل بكثير من صورة الموت ذي الهيكل العظميّ حامل المنجل الكبير”(). ترسم نهاية رواية “تلك العتمة الباهرة” كيفيّة مغادرة السّجناء جحيم تزمامارت سنة 1991، بعد تسرّب خبر وجوده إلى منظمات حقوق الإنسان العالميّة، عن طريق قصاصات الورق التي وفّرها الحارس “مفاضل” لقريبه البربري السّجين “واكرين” وكتب فيها السارد شيئًا عن مكانهم: “نحن في تزمامارت، لا نور”(). فقد أفلحت منظمات حقوق الإنسان والصحافة الأجنبيّة في فضح حقيقة المُعتقَل، والضغط على السلطات المغربيّة لإطلاق سراح مَنْ تبقّى مِن السّجناء في قيد الحياة، على الرغم من تعنّت هذه السُّلطات ومغالاتها في إنكار حقيقة وجود هذا المُعتقَل السّريّ، ودفاعاتها المُستميتة في محو آثار زنزاناته وأقبيته بعد أنْ سُوّيت بالأرض وكأنّها لم تكنْ أصلًا. لعلّ في محاولات السُّلطات القامعة تشويه وجه الحقيقة السّافرة ما يوكّد أنّ “ما أفظع من الفظاعة التي مورست: نفي وقوعها”( ). لم يقتصر سارد رواية “تلك العتمة الباهرة” على عرض العوالم الداخلية للشخصية الروائية، والكشف عن مكنوناتها النفسية، وما يتصارع في ذهنها من أفكار وهواجس ورغبات على توظيف أساليب اللفظ، إنما تعدى ذلك التوظيف إلى أساليب ما دون اللفظ، شأن الأسلوب الذهني الذي يصاغ بملفوظات تقع خارج لفظ الشخصية، وصوتها ومنطوقها الخاص المباشر. وتشير أساليب ما دون اللفظ إلى مستوى وعي الشخصية ومستويَي لا وعيها وما دون وعيها، بحسب ما أشار إليه فرويد Freud في “تصويره لمستوى الوعي في مرحلة أو مستوى ما قبل الكلام بشكل يجعل مستوى الوعي يقع تحت المستويين الآخرين”. حيث يأتي توظيف أساليب (ما دون اللفظ) في الرواية الحديثة مكملًا للدور البارز الذي تقوم به (أساليب اللفظ) في البوح عن العالم الداخلي، والكشف عن المستوى الذهني والنفسي للشخصية الروائية. حيث يكون لكل منهما (اللفظ، وما دون اللفظ) وأساليبهما وجوده المستقل. ففي أساليب “ما دون اللفظ”، يبنى النص الروائي على شيء من المسحة الدرامية. يتقمص فيها السارد دور الشخصية كما هو الشأن في الأسلوب الذهني Mental Style، ويتقنع بها، ويصبح هو صاحب الصوت الوحيد الذي ينطق بأفكارها ويصوغ أحلامها وحالاتها النفسية والذهنية المضطربة من دون الرجوع إلى لفظها المباشر ونطقها الخاص. فتأتي أساليب “ما دون اللفظ” ومنها الأسلوب الذهني بوصفها “أحد أساليب تمثيل فكر الشخصية التي تبرز المحتوى غير الشفاهي أي غير اللفظي للشخصية الروائية، ولا سيما الشخصيات المتخلفة عقليًا فيصاغ الخطاب عبر مستويات لا وعيها وما دون وعيها”().
يعد الأسلوب الذهني وما يعتمده من حالات نفسية وذهنية (الأحلام، وأحلام اليقظة، والهستيريا والهذيان والذهول العقلي …إلخ) من أبرز أساليب ما دون اللفظ التي لا ترتكز على لفظ الشخصية ونطقها الخاص المباشر، ولا تؤشر في صوغها على وجود أي سمة ذاتية أو تعبيرية تدل على ذلك التلفظ كما في (المونولوج غير المباشر). ارتبط هذا الأسلوب في الدراسات النقدية الغربية الحديثة بالناقد روجيه فايول الذي وصفه أنه: “عرض لساني مميز للذات الذهنية لشخصية ما، إذ يحلل هذا الأسلوب الحياة الذهنية للشخصية، ويقف على المظاهر الأساس في محتواها الذهني، ويسعى لخلق صوغٍ دراميٍ لنظام وبنية أفكارها الواعية واللاواعية، وعرض كل ما تتأمله الشخصية، وما يضمه ذهنها من انشغالات وآراء وقيم ومنظورات خاصة تؤثر بشدة في رؤية الشخصية للعالم من حولها، قد لا تكون على وعي بها”().
إذ وجد فايول Fayolle في هذا الأسلوب صوغًا دراميًا لمحتويات ذهنية وهواجس وأفكار وتصورات، وإرهاصات فكرية قامعة في ذهن الشخصية منها ما يقع ضمن حيز مستوى الوعي، ومنها ما يتعداه إلى مستوى اللاوعي، ولقد قربه ذلك الصوغ من مصطلح آخر اعتمد الصوغ الدرامي، وارتكز عليه للنطق بفكر الشخصية، وعرض ما يعتريها من أفكار وهواجس وتأزمات الأوضاع لبناء مشاهد الموت، وهو مصطلح (دراما الذهن) الذي أوجده الناقد الإنكليزي بيرسي لوبوك().
الزّمن النّفسيّ في رواية “تلك العتمة الباهرة”
تقوم رواية “تلك العتمة الباهرة” على تشكيل فني للزّمن النّفسيّ بنائيًا ودلاليًا بما تمتاز به من خصوصيّة فنيّة إيحائيّة، توكّد مدى وعي الشّخصيّة بنفسها وزمنها الدّاخليّ الخاص بصور ماضيها، وتداعياته المُتجاوزة خطّ الزّمن المنطقيّ التراتبيّ وذلك “وفق طريقة التّكنيك الزّمنيّ والسّرديّ والحدثيّ في الرِّواية”(). ذلك أن الزّمن النّفسيّ في الرِّواية زمن ذاتيّ خاص لا تحكمه معايير الزّمن الموضوعيّة الخارجيّة؛ إذ “يسير بخطىً مختلفة تبعًا لاختلاف الأشخاص، وفي الواقع في مناسبات مختلفة للشّخص الواحد؛ لأنّ الفرد يحمل المكان والزّمان معه كطرق إدراكه الحسيّ، فهناك الذين يمشي معهم الزّمن، والذين نحبّ معهم الزّمن، والذين يعدو معهم الزّمن، والذين يقف معهم ساكنًا”(). ولا يُقاس الزّمن النّفسيّ بزمن الساعة بل يُقاس بالحالة الشعوريّة، واللحظة النّفسيّة للشخصية. إنّه “زمن نسبيّ داخليّ يُقدَّر بقيم متغيرة باستمرار بعكس الزّمن الخارجيّ الذي يُقاس بمعايير ثابتة”(). ولا توجد لحظة فيه تساوي الأخرى، “فهناك اللحظة المشرقة المليئة بالنّشوة التي تحتوي على أقدار العمر كلّه، وهناك السنوات الطويلة الخاوية التي تمرّ فارغة كأنّها عدم”(). كما يعدّ زمن الشخصية الروائيّة الذي يعكس حركة الشخصية النفسيّة وعلاقتها بحاضرها وماضيها مستوىً ثانٍ من مستويات الزّمن الروائيّ كوْن زمن السرد وعلاقته بزمن الحكاية هو المستوى الأوّل، وبهذا فإنّ لكلٍ منّا زمنًا ذاتيًا خاصًا لا يسير على وتيرة واحدة بل تتغير سرعته تبعًا لإيقاع واقعنا النّفسيّ الذي “يركض عندما يكون غنيًا حافلًا فيكرّ معه الزّمان، ويحبو عندما يكون فقيرًا مجدبًا، فيزحف معه الزّمان الذي هو حبل يتجاذب به الحزن والفرح والقلب البشريّ”(). تعتمد رواية الذّات/ رواية تيار الوعي في ترتيبها الزّمنيّ شقين، هما: السّوابق الزّمنيّة للحظة السّرد الآنية، واللواحق الزّمنيّة التي تستبق اللحظة الآنية؛ ذلك لأنّنا في حياتنا اليوميّة نكون دومًا إزاء نقطتين رئيستين: الأولى هي الآن أو اللحظة الحاليّة، وأمّا الأُخرى فهي شعورنا بجريان الزّمن، وتدفّقه من الماضي إلى المستقبل()، فيُمكن في لحظة واحدة آنية أن تمتلك الشّخصيّة عدّة أزمنة، وعدّة حيوات. ويتجلّى حضور الاسترجاع الذي يتحايل به السارد على التّسلسل الزّمنيّ التّعاقبي في الرِّواية، إذ ينقطع زمن السّرد الحاضر مرارًا لاستدعاء الماضي وتوظيفه واستثماره وفق معطيات السرد الملتفّ حول تجربة الذّات. لأنّ “الشّخصيات التي تعيش أمامنا يكوّن ماضيها حاضرها”(). لكن يغْلُب الاسترجاع الماضويّ على الاستباق الاستشرافيّ في مروي السارد المشارك “سليم”. إذ يتوسّل به في تقديم الحدث والشّخصيّة والمكان، والتّعبير عن الزّمن النّفسيّ وتمظهراته بوصفه أكثر تقنيات السّرد الزّمنية قدرةً على الكشف والاستبطان. يمثّل هذا الانزياح أو الارتداد إلى الوراء مفارقةً زمنيّةً تعيد خلق الذّات تارةً، والزّمن تارةً أُخرى. حين يتضاءل في صورته الموضوعيّة الخارجيّة، وتصغر وحداته، ويمتد نفسيًا ذاتيًا إلى ما لا نهاية وفق الحالة الشعوريّة المتدفِّقة التي تكتنف النّص أو تكوّنه. فيبدو الزّمن في رواية تيار الوعي الشعوريّة معطىً مباشرًا في وجداننا() من جهة، و”مظهرًا نفسيًا لا ماديًا، ومُجردًا لا محسوسًا يتجسّد الوعي فيه من خلال مايتسلّط عليه بتأثيره الخفي غير الظاهر، لا من خلال مظهره في حدّ ذاته، فهو وعي خفي لكنّه متسلِّط، ومُجرد يتمظهر في الأشياء المجسّدة”() من جهة ثانية.
تعنى رواية “تلك العتمة الباهرة”، بتصوير أثر الزّمن النّفسيّ في الشّخصيّة وشعورها، وتجسيد الإحساس بمروره بطيئًا ثقيلًا جامدًا متماديًا تحت وطأة فنون التّعذيب اللامتناهية في جحيم تزمامارت. حيث الفراغ والصّمت والخواء والعزلة والموت. فقد تعظّم الخوف، وتنامى الاغتراب، وتلاشى الشعور بالزّمن في زنزانات التّعذيب، وغاب الإحساس بالحياة خارج الأقبية المظلمة. لهذا، تتكئ الرؤية السّرديّة في الرِّواية على الرؤية الدّاخليّة. حيث يقوم السارد بوظيفة السرد والوصف والتّصوير متأرجحًا بين زمنَين متداخلَين: أولهما آنيّ حاضر، وثانيهما ماضٍ مسترجَع عبر تداعيات الذاكرة، والعلاقة الجدلية بين الزمنين. جاء الأول محكومًا بمنظومة الزّمن الموضوعيّ ومعاييره، والثاني مُرتَهن بداخلية الذّات السّاردة التي لا تخضع لمبدأ التّعاقب الزّمنيّ. إنها “مأثرة الفن التي تستطيع أنْ تتحكّم بقانونية الزّمن الماديّ؛ لتقديم اللحظة أو الفترة المكثّفة عبر التقاط جوهرها، لا عبر الخضوع لمنظومة تتابعها اليوميّ الذي تخضع له الحياة الخارجية للناس كلهم”(). لهذا، يبدو الزّمن في الرِّواية شخصيّةً سلطويّةً مركّبةً. تتآمر مع الجلادين، وتتواطأ مع الموت؛ فالدقائق متمادية، والليالي بلا ختام، والموت بطيء، والزّمن الضائع الواقف قرون، والعدم سقوطٌ في اللاشيء، والاحتضار طويل، والسّجن مؤبّد، والعتمة أبدية، والعقاب بالندم خاصّةً متطاول حتّى قيام الساعة(). لهذا، يفقد الزّمن في الرِّواية معناه عندما تغيب المرئيات، وتنقطع الصّلات بكلّ ما له علاقة بالحياة الطبيعية. فيتلاشى إلى اللاشيء في عتمة الصّمت الكثيف. لهذا يروي السارد “سليم” الذي عانى الاختناق بما أفرزته مرارته من المِرَّة ألمه في ظلام حفرته التي وُري فيها، قائلًا: “في الظلام لا أتمكن طبعًا من الإبصار لكنّي على الأقل أخمّن الأشياء، فقد الزّمن معناه، أراه متماديًا بإفراط، وشاغله الأوحد أن يشلّ ذراعيّ ويديّ( ). يشكّل الليل والبُطء والسأم والصّمت في الرِّواية مفردات نفسيّة زمنيّة. تلقي بظلالها الثقيلة على شّخصيات الرواية ودواخلها الذّاتيّة الشعوريّة. لتتباين في ظلّها الرؤى والمواقف والاتجاهات. فليل تزمامارت سرمديٌّ أبديٌّ لا ينتهي “رطب لزج قذر دبق تفوح منه رائحة بول الرجال والجرذان، غير مرئيٍ لكنّه محسوس”(). يكتنف بثقله الأشياء ويحيق بها، وهو “مُكوِّن السّجناء ومرتعهم وعالمهم، وكسوة مقبرتهم وملحفتهم المنسوجة من غبار مُجمِّد، وفسحتهم المشغولة من أشجار سُود”()، ووليّ “عذاباتهم الماثل دائمًا؛ ليذكرهم بهشاشتهم وانسحاقهم”()، فقد “كفّ الليل عن أنْ يكون الليل، فما عاد له نهار ولا نجوم ولا قمر ولا سماء”(). لا أثر فيه لنور أو بصيص ضياء أمّا البُطء فهو ألدُّ أعدائهم في الظلمة، ذاك الذي كان يغلّف جلودهم المقرّحة فلا تلتئم إلاّ بعد وقت طويل؛ ليجعل قلوبهم خافقةً على الإيقاع العذب للموت القليل”(). و”شُبه البُطء في الرِّواية بساعة رمل عملاقة”(). كل “حبة رمل فيها برغلة في جلود السّجناء أو قطرة من دمهم، أو جرعة أوكسجين صغيرة سرعان ما تنفد كلّما انحدر الوقت نحو الغَوْر الذي دُفنوا فيه أحياء. والبُطء بذلك صنف من أصناف الموت الذي يتمادى ويتطاول ليطال كلّ ما قد يشي بإنسانية السّجناء المقهورين وآدميتهم، فينزعها بلا هوادة وكأنّها من المُحرّمات، ومثله السأم الذي يدور حولهم بلا معنى، يقرِض أجفانهم، ويجعّد جلودهم، وينغرز في أحشائهم”(). ويؤازر “الصّمت الثقيل البُطء متعانقًا مع الليل الطويل الذي لا ينجلي، فيتعدّد ويتكاثر في أنماط شتّى”(). فهناك صمتُ الليل الذي لا بدّ منه وقد تساوت النهارات وأرق الليالي، وغابت الفواصل بينهما، وصمتُ الرفيق الذي يغادر ببطء جنونًا وهذيانًا، وانسحابًا وانهزامًا، وصمتُ الحِداد، وصمت الدم الذي يجري في العروق متباطئًا، وصمتُ توقّع وجهة سير العقارب، وصمتُ الصّور التي تلحّ على الأذهان، وصمتُ الحراس الذي يعني الكلل والروتين، وصمتُ ظلّ الذّكريات المحترقة، وصمتُ السماء الضيقة الداكنة التي لا تكاد تُرى، وصمتُ غياب الحياة الباهر، أمّا الصّمت الأشدّ قسوةً، والأشدّ وطأةً؛ فكان صمتُ إيقاع الزّمن الصّامت الرتيب، وأثره في الشّخصيات المقاومة التي تحاول مجابهته وصدّه، والتّحايل عليه كي لا تقع فريسة لبراثنه من جهة، وتأثيره في الشّخصيات المأزومة التي لا تقوى على مواجهته، فتستسلم له من جهة أخرى؛ لهذا، تباينت مواقف الشّخصيات منه، وطرائق التّعامل معه. فقد استطاع السّجين “كريم” رقم 15 –مثلًا- أنْ يُوهِم رفقاءه في جحور تزمامارت المعتمة بالزّمن في تعقّب وتائره مجزأً إلى ساعات ودقائق وأيام، فأصبح رزنامة المعتقلين وبندولهم الناطق. كأنّها كانت طريقته في التّشبث بالحياة، أن يكون غائبًا في تتبّعه وتائر زمن محظور عليهم. يقول السارد: “والمفارقة أنّ كونه أصبح عبدًا للوقت قد جعله حرًا، جعله خارج أيّ مصاب، منعزلًا تمامًا في قوقعته الشفافة، مجردًا من كلّ ما يلهيه ويفقده سياق حسابه”(). وإذا كان السّجين “كريم” قد انشغل بحساب الوقت وتحديد الزّمن أو تتبّع وتائره تشبثًا بما قد يوحي بالحياة، فإن السّجين “ماجد” رقم 7 قد “جُنّ وفقد عقله وهو يردّد المواقيت من وراء كريم في هذيانٍ فريد؛ انتظارًا لدوره في اللحاق مع الملاك “موحا” الذي اختلقه جنونه بِمَن قضوا في زنزاناتهم ظلمًا وعدوانًا”(). أمّا السّارد “سليم” فقد استشعر وطأة ما يجثم فوقهم من ليل طويل. يسدّ أيّ أفق للحياة التي خلفوها وراءهم. فأخذ يراوغه تارةً، ويحاوله أخرى، ويتحايل عليه من دون أن يسقط في عتمته، غير مكترث له. يدرك السّارد منذ البداية أنّ زمنه القار/ الحاضر يفترق لا شك عن زمنه الفائت ويغايره. فما قبل تزمامارت شيء وما بعده شيء آخر. فيأخذ على نفسه عهدًا بألاّ ينظر إلى الوراء، أو يستشرف ذاته في المستقبل؛ كي لا يصاب بالجنون أو الهذيان، ومن ثم الموت، فيقول: “أدركت أنّ الزّمن لم يكن له معنىً إلاّ في حركة الكائنات والأشياء، والحال أنّنا كنّا محكومين بالسكون، وخلود الأشياء الماديّة، كنّا في حاضر جامد، ولو قُيض لواحدنا شقاءً أن يلتفت إلى الوراء أو أن يستشرف ذاته في المستقبل فمعنى ذلك أنّه يستعجل موته، إذ لا يتسع الحاضر إلا لجري وقائعه”(). يحاول السارد أنْ يتعلّم –لذلك– في عزلته وصمته كيف يطرد ذكريات الماضي المُنثالة عليه؛ ليخلق لنفسه ذاكرةً جديدةً تجبّ ما مضى، وكيف يدرّب نفسه مرارًا وتكرارًا على محاولة الحياة بأقل ما يمكن، ولم يكن الأمر سهلًا عليه أبدًا، بل كان بحسب قوله: “شاقًا، كان دُربة، عَتهًا لا بدّ منه، اختبارًا ينبغي لي اختباره بأيّ ثمن، أن تكون هناك مِن دون أن تكون هناك، أنْ يُغلِق المرء حواسه، ويسلّطها في اتجاه آخر، ويمنحها حياةً أخرى”(). لهذا، يقرّر السارد تجنبًا لشَرَك ذاكرته بحادثة الصخيرات إعمار فكره في التّفكر في كلّ ما حوله “فيستغرق -هربًا مِن ذاته إليها- في أحلام اليقظة الخصبة التي يؤثّث فيها لنفسه حياةً أخرى، وزمنًا مثاليًا مُغايرًا مُعلقًا بين أغصان شجرة سماوية”(). يسلك السارد في “عتمة حواسه المعطّلة درب الصوفية”(). ليتحرّر “جسده محلقًا بروحه في عوالم الغيب؛ وصولًا إلى عالم منير يغاير ظلمة عالمه الكئيب، وزمن مختلف في أبعاده وأشكال تجلّيه، لا يخضع لمنطق ولا قانون، ولا يسقط في العدم الوئيد مطلقًا. ويدجّن السارد الألم، ويجعله حليفًا له؛ إذْ تحمِله أوجاعه إلى ربّه -سالكا- حتّى يفنى ويغيب؛ فمن كنف تلك العتمة، كان يتبدى له الحقّ بنوره السّاطع”(). فتصير العتمة أقل عتامةً وقتامةً؛ ليَعْبُر عالمه إلى عالم آخر ينعتق فيه من الأذى، ويتخفّف فيه من ذاكرة الزّمن والجَوْر، فـ”كلّ يوم يمضي هو يوم ميت بلا أثر، بلا صوت، بلا لون”(). ويبرع السارد في مكابدة العذاب ومقاومة فناء الموت بالحكاية المُتخيّلة، ومواجهة السأم الجامد بالفكر، فيصير بإجماع رفقائه حكواتيّ الزنزانات. حيث يقطع الوقت، ويعاند الزّمن بما تسعفه به ذاكرته من مقروءات محفوظة، وتفيض به مُخيلته من حكايات، وتجود به قريحته من محفوظات إلى حدٍ صارت فيه كلماته ملاذًا للمعتقلين، مثل السّجين “عبد القادر” الذي وجد في الحكايات المسرودة، والقصص المحكيّة، والأفلام المنقولة البُرء والرّجاء والخلاص.
تنقل الرِّواية صور اغتراب الشّخصيّة عن ذاتها بعد انسلاخها من ذاكرتها، وانتزاعها من الحياة، وسحبها إلى صحراء اللاحياة/ الموت في مشاهد وصفيّة شتّى، وبلغة شفيفة موجِعة، لعلّ من أقساها شعور السّارد بضياع وجهه منذ ليلة العاشر من تموز/ يوليو 1971، وعدم قدرته على استعادته بعد ثماني عشرة سنة من العذاب في جحيم تزمامارت. فقد سُرِق منه، أو سقط منه في العدم مثلما سقطت منه أسنانه. فما لن يُنسى أبدًا ذلك الوجه الغريب الذي رآه في عيادة طبيب الأسنان في مركز الرّعاية الطبيّة للناجين من تزمامارت. حيث يروي بأسىً بليغ فجيعته التي عليه أنْ يحمل وزرها ويحتمِلها ويعتادها مِن بَعد: “سوف يبقى ذلك اليوم يومًا تاريخيًا في حياتي، ففيما كنتُ أستلقي على كرسي طبيب الأسنان المتحرّك، أبصرتُ شخصًا ما فوقي، مَنْ كان ذلك الغريب الذي يحدقُ بي؟ كنتُ أرى وجهًا معلقًا بالسقف، يكشّر حين أكشّر، يقطب حين أقطب كان يهزأ بي، لكن مَن يكون؟ كدتُ أصرخ لكنّي تمالكتُ نفسي، فمثل تلك التهيؤات مُعتادة في المعتقل، لكنّي هناك لم أكن معتقلًا، فكان عليّ أنْ أذعن لتلك البداهة المكدرة: إنّ ذلك الوجه المثلّم، المجعوك، المخطّط بالتّجاعيد والغموض، المذعور المرعب، كان وجهي أنا. وللمرّة الأولى منذ ثمانية عشر عامًا أقف قبالة صورتي، أغمضتُ عينيّ، أحسستُ بالخوف، خفتُ مِن عينيّ الزائغتين، مِن تلك النّظرة التي أفلتت بمشقة من الموت، مِن ذلك الوجه الذي شاخ وفقد سيمياء إنسانيته. حتّى الطبيب لم يُخفِ دهشته، قال لي بلطف: أتريدني أنْ أغطي هذه المرآة؟ لا، شكرًا. سيكون عليّ أنْ أعتاد هذا الوجه الذي حملته من دون أن أدرك كيف يتغير”(). إنّ رحلة الذهاب والإياب إلى جحيم تزمامارت رحلة موجعة في اقترابها من الموت أكثر من الحياة، وسقوطها في لُجّة العتمة غير المتناهية. إنّها تاريخ الذّكرى المُرّة، والسأم المميت، والقمع اللا إنساني. ومِن المفارقة المثيرة أنّ السارد “سليم” ظلّ ينوس بين تاريخي الظلمة والنُّور؛ فالعاشر من تموز/ يوليو 1971 هو تاريخ الظلمة لا النُّور الذي جَمُد فيه الزّمن وتوقّف. ممّا حدا بالسارد إلى التّدرب جيدًا على طرد ذاكرة ما قبله، ونفض صور انثيالاته، ووقف فوران تداعياتها. فقد كان ذلك التاريخ نقطة الارتكاز، نقطة الموت، ونقطة اللاعودة. في حين أنّ التاسع والعشرين من تشرين الأوّل/ أكتوبر 1991 هو تاريخ الانعتاق، والولادة من جديد “لعجوز ضامر قد رأى النُّور لتوه”() بعد ثماني عشرة سنة من التّلف والصّمت والعتمة. ولعلّ من الطريف أنْ نقرأ إهداء الرِّواية() التي تخصّ “رضا” صغير الناجي “عزيز بنبين” بوصفه نورَ حياة أبيه الثالثة. وكأن الروائيّ يريد الإشارة إلى أنّ الحياة لا تتوقف، والموت لا بدّ مِن أنْ يُقهر بحب الحياة ولا سيما بعد أنْ واصل الشاهد نفسه على عذابات زنزانات تزمامارت حياته، فاتحًا مع نفسه والحياة صفحات أمل ونور جديدة.
تركيب واستنتاج
تنوعت طرائق توظيف الزّمن في رواية “تلك العتمة الباهرة” للروائي الطاهر بن جلون. حيث توزعت بين الزمن الطبيعيّ الخارجيّ، والذاتي الداخلي/ النفسي. كما تباينت طرائق إدراكه ماديًا ومعنويًا/ نفسيًا بوصفه مكونًا رئيسًا في الرواية السجنية بصفة عامة. يدخل في نسيج الحياة الإنسانية. بحيث يرتبط في الرواية السجنية برواية تيار الوعي الشعوريّة على مستوى الكشف عن الجانب الجواني للشّخصيات، ومحاكاتها زمانًا ومكانًا بأسلوب الاستبطان النفسي. لكن مع عدم احتكام الزّمن النّفسيّ الخاص لمعايير الزّمن الموضوعيّة الخارجيّة، وتكسّر مساراته وانحرافها حدّ تشابكها وتعالقها مع غيرها من عناصر البناء السردي الأخرى. لكن على الرغم من ذلك تباينت مواقف الشّخصيات عند الطاهر بن جلون من حيث الزمن النفسي، فمن الهروب منه إلى الهوس به حد السقوط في عتمته، والاستسلام له عند بعض الشخصيات الروائية، ومن التلاشي فيه إلى مواجهته ومجابهته، والحيلولة دون الوقوع فريسة لبراثنه عند شخصيات أخرى. كما توسل الروائي الطاهر بن جلون في بناء عوالمه السردية بتقنيات زمنية أخرى. خاصة تقنية الاسترجاع في فض مغاليق العلاقة الجدلية بين الزمن والذات (السجين). ما يساهم في ديمومة الزّمن وتدفّق جريانه، وعدم انغلاقه بوصفه مُعطىً من معطيات الوجدان الكامن في وعي الإنسان وخبرته. لأن كلّ ما يحدث في الرِّواية، لا يتم إلاّ عبر الزّمن ومن خلاله. وإذا كان الزّمن في مختلف تجلياته عنصرًا متجدّدًا ومُتحوّلًا، فإنّ الرِّواية بنية متجدّدة مُتحوّلة تلتقط التّحولات وتجلياتها كذلك. ارتبط الزمن النفسي في هذا النص الروائي بأسلوب السرد النفسي عامةً في بعده الأسلوبي والجمالي، لأن صوغه الخطابي للحياة الداخلية للشخصية الروائية لم يأتِ مرهونًا بتلفظها (ما تنطق به فحسب)، بل صاغ ما لم تتلفظ به شخصيات رواية “تلك العتمة الباهرة” من دفق مشاعرها، ونقل ومضات أفكارها الواعية واللاواعية، وصوغ وتفسير ما يدور في دواخل الشخصية بشكل قد يفوق قدرتها على صوغ تلك الدواخل ونقلها.

قائمة المراجع
أولًا: المراجع باللغة العربية
إبراهيم، عبد الله. موسوعة السّرد العربيّ، ط2 (بيروت: المؤسسة العربيّة للدراسات والنّشر، 2008).
أمنصور، محمد. محكي القراءة، ط1 (فاس: منشورات مجموعة الباحثين الشباب، 2007).
باختين، ميخائيل. أشكال الزّمان والمكان في الرِّواية، يوسف حلاق (مترجم)، ط1 (دمشق: منشورات وزارة الثقافة، 1990).
بحراوي، حسن. بنية الشكل الروائي، ط1 (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1990).
برادة، محمد. أسئلة الرِّواية: أسئلة النّقد، ط1 (الدار البيضاء، المغرب، منشورات الرابطة، 1996).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.

الرِّواية العربيّة: واقع وآفاق، ط1 (بيروت: دار ابن رشد للطباعة والنشر، 1981).
بلقزيز، عبد الإله. السّلطة والمعارضة: المجال السياسيّ العربي المعاصر، ط1 (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2007).
بن جلون، الطاهر. تلك العتمة الباهرة، بسام حجار (مترجم)، ط1 (بيروت: دار الساقي، 2002).
بوتور، ميشال. بحوث في الرواية الجديدة، فريد انطونيوس (مترجم)، ط2 (بيروت: منشورات عويدات، 1982).
حزل، عبد الرحيم. سنوات الجمر والرّصاص، ط1 (الرباط: دار جذور للنشر، 2004).
حسن، عمار علي. النّص والسّلطة والمجتمع: القيم السياسيّة في الرِّواية العربيّة، ط 1(القاهرة، مركز الدراسات السياسيّة والإستراتيجية، 2002).
ريكاردو، جان. قضايا الرواية الجديدة، صياح الجهيم (مترجم)، ط1 (دمشق: وزارة الثقافة والإرشاد القومي، 1997).
زايد، عبد الصمد. مفهوم الزّمن ودلالاته في الرِّواية العربيّة المعاصرة، ط1 (تونس: الدار العربية للكتاب، 1988).
شاهين، سمير الحاج. لحظة الأبديّة: دراسة الزّمان في أدب القرن العشرين، ط1 (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1980).
الصديقي، عبد اللطيف. الزّمان أبعاده وبنيته، ط1 (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1995).
العبد الله، يحيى. الاغتراب: دراسة تحليلية لشخصيات الطّاهر بن جلون الروائيّة، ط1 (بيروت: المؤسسة العربيّة للدراسات والنّشر، 2004).
عبد الملك، جمال. مسائل في الإبداع والتصور، ط1 (بيروت: دار الجيل، 1991).
عصفور، جابر. زمن الرِّواية، ط2 (القاهرة: الهيئة المصريّة العامة للكتاب، 2000).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.

مواجهة الإرهاب: قراءات في الأدب العربيّ المعاصر، ط1 (بيروت: دار الفارابي، 2003).
العمامي، محمد نجيب. الراوي في السرد العربي المعاصر: رواية الثمانينيات بتونس، ط1 (تونس: دار محمد الحامي للنشر، 2001).
غنايم، محمود. تيار الوعي في الرِّواية العربيّة الحديثة: دراسة أسلوبية، ط2 (بيروت: دار الجيل، 1993).
فرهود، كمال قاسم. موسوعة أعلام الأدب العربي في العصر الحديث، محمود عباس (مُراجع ومقدم)، مجلد1، ط3 (حيفا: دار المشرق للترجمة والطباعة، 1998).
الفيصل، سمر روحي. السّجن السياسيّ في الرِّواية العربيّة، ط2 (طرابلس- ليبيا: جروس بروس، 1994).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.

معجم الروائيين العرب، ط1 (طرابلس- ليبيا، جروس بروس، 1995).
قاسم، سيزا أحمد. بناء الرِّواية: دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ، ط1 (القاهرة: الهيئة العامة للكتاب، 1984).
القصراوي، مها حسن. الزّمن في الرِّواية العربيّة، ط1 (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2004).
لوبوك، بيرسي. صنعة الرواية، عبد الستار جواد (مترجم)، ط1 (الأردن: دار مجدلاوي، 2000).
الماضي، شكري عزيز. أنماط الرِّواية العربيّة الجديدة، سلسلة عالم المعرفة 355 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2008).
مبروك، مراد عبد الرحمن. بناء الزّمن في الرِّواية المعاصرة: رواية تيار الوعي نموذجًا، ط1 (القاهرة: الهيئة العامة للكتاب، 1998).
مرتاض، عبد الملك. في نظرية الرِّواية: بحث في تقنيات السرد، سلسلة عالم المعرفة 240، ط1 (الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1998).
مندلاو. الزّمن والرِّواية، بكر عباس (مترجم)، إحسان عباس (مُراجع)، ط1 (بيروت: دار صادر، 1997).
منيف، عبد الرحمن. الكاتب والمنفى، ط3 (بيروت: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، 2001).
ميرهوف، هانز. الزّمن في الأدب، أسعد رزوق (مترجم)، العوضي الوكيل (مُراجع)، ط1 (القاهرة: مؤسسة سجل العرب، 1972).
النابلسي، شاكر. جماليات المكان في الرِّواية العربيّة، ط1 (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1994).
همفري، روبرت. تيار الوعي في الرواية الحديثة، محمود الربيعي (مترجم)، ط1 (القاهرة: دار غريب، 2000).
يقطين، سعيد. انفتاح النّص الروائيّ، ط2 (الدار البيضاء: المركز الثقافيّ، 2001).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.

قضايا الرِّواية العربيّة الجديدة: الوجود والحدود، ط1 (القاهرة: دار رؤية للنشر والتوزيع، 2010).
ثانيًا: المراجع باللغة الفرنسية
Barthes, Roland. Introduction à l’analyse structurale du récits (in) Communications 8 (Paris: Seuil, 1981).
Fayolle, R. La critique (Paris: Arnold colin 1978).
Freud, S. Essais de psychanalyse appliqué (Paris: Gallimard, 1933).
Tadié, Jean- Yves. La critique littéraire au xx siècle (Paris: Belfond, 1987).
ثالثًا: المجلات والدوريات
برادة، محمد، “الرِّواية أفقًا للشكل والخطاب المتعدديْن”، فصول، مجلد11، عدد4، (1993).
بوطيب، عبد العالي، “إشكالية الزّمن في النّص السرديّ”، فصول، مجلد11، عدد2، (1993).
عيد، عبد الرزاق، “عطالة البناء وتخلخل البنية وانحطاط القيم”، الطريق، عدد3 و4، (1981).
محمد، نصر الدين، “الشخصية في العمل الروائي”، الفيصل، عدد37، (1980).


نادية بلكريش

باحثة مغربية في مجال التراث والنقد الأدبي العربي والشؤون التربوية، شهادة الدراسات الجامعية العامة (أدب حديث)، شهادة الإجازة العليا (اللغة العربية وآدابها)، عضوة في جمعية الفوانيس المسرحية، عضوة في جمعية المنار للثقافة والتربية. من مؤلفاتها: (أمسية الغرباء “قصص”، 2002، دار القرويين، المغرب)، (طائر الموت “قصص”، 2006، مطبعة الأندلس)، (عوالم الصحراء؛ التقاليد والعادات، 2008، المغرب)، (طريق قصبات الجنوب، دراسات في التراث المادي، 2011، المغرب). نشرت دراسات ومقالات نقدية عديدة في مجلات ودوريات عربية متنوعة (مجلة البحرين الثقافية، مجلة العربي، مجلة تراث الإماراتية، مجلة الكويت، مجلة العربية والترجمة، جريدة الفنون الكويتية)، وفي جرائد ومجلات مغربية.

أحمد سحنوني ضحية تعذيب رهيب في السجون الفرنسية

في أول خروج إعلامي له كشف المعتقل السابق أحمد اليعقوبي السحنوني المزدمج الجنسية فرنسي من أصل مغربي.. عن معاناته وعائلته عند اعتقاله واقتحام منزله ولاضرار التي طالتعائلته .. سرد قصة معاناته وعرى زيف الشعارات التي ترفعها فرنسا… قصة مؤلمة وموجعة بعد قضاءه عدة سنوات في السجون الفرنسية تم تجريده من جنسيته لفرنسية وترحيله للمغرب حيث اعيد اعتقاله ليقضي عدة شهور في سجون المملكة ….

قصته المؤلمة وثقتها كاميرا موقع العمق المغربي في حوار مطول

محمد مشبال.. تجربة الاعتقال والتعذيب

تجربة الاعتقال والتحقيق والتعذيب

محمد الأمين مشبال الذي اعتقل بتهمة الانتماء لمنظمة سرية تهدف القضاء على النظام الملكي القائم وإقامة بديل عنه جمهورية شعبية ماركسية لينينية.

تجربة الاعتقال والتحقيق والتعذيب
– الأوضاع في السجن

undefined

محمد الأمين مشبال- معتقل سياسي: كثيرا ما كنت داخل السجن أحلم بأنني غادرت السجن ويوقظني داخل الحلم صوت ويقول لي لا أنت تحلم، أنت في السجن وما بعد السجن كثيرا ما أحلم بأنني في السجن وبأنني مطارد من طرف الأجهزة الأمنية وبأنني أخضع للتعذيب وللتحقيق ولا أفهم لماذا لم أخرج من السجن وآخرون خرجوا هذه الكوابيس لا تنتهي.كنت أسير في الشمس الباردة عندما أمطرني حميد الدوكالي بوابل من الأسئلة كيف؟ ومتى؟ ولماذا؟ ثم مضيت بجسدي على طريق رمادي أو رصاصي اللون في قلب مدينة فاس، كنت أفكر في الغد أكثر مما يجب وقد حوّل ذلك حياتي إلى قلق مستمر، انزويت قليلا أمام جذع شجرة نخيل ممتدة أطرافها العليا إلى السماء وعندما هممت أن ألتفت خطوت خطوتين وسمعت وطء أقدام قريبة مني أحدهما طويل بدين حاد النظرات والآخر قصير أحمر الخدين قوى العضلات، أثاراني بخطواتهم المتثاقلة والتفاتاتهم العميقة إلى عيناي، حاولت أن أتجاهلهما لكن صوتا حادا تطلع إليّ متسائلا عن عنوان أحد الشوارع فأجبته بأني لا أعرفه بينما كنت مقتنعا بأنهما يريدان التثبت من ملامحي، حاولت أن أتابع سيري فإذا بأحدهما يمد يده بسرعة نحوي تراجعت خطوة وقاومت قليلا لكن الرجل الآخر كان قد وضع الأصفاد في معصمي وأحسست أنها بداية النهاية وأن الشمس المشعة توشك أن تغرب إلى الأبد وأن تهجر عيناي الحالمتين، حاولت أن أستدير بوجهي إلى الوراء لأتابع حميد وهو يجري هاربا من الجحيم لكن يد خشنة أرجعتني إلى الأمام ثم سمعت صوتا مشحونا بالاستفزاز والسخرية يقول لقد وقعت، كنت أطل من النافذة بعينين غارقتين تكسوهما أشباح الكآبة والهلع، اعتراني ذهول وشعور عارم بالخوف من المصير المجهول ومن التعذيب والطرقات مثقلة بالشمس والسيارات والبيوت والدكاكين والمقاهي والمارة، أما أنا فقد غمرت الظلمة أرجاء جسدي ودقات قلبي تتسارع وتخفق كالبركان، ظللت أتابع الطرقات والمقاهي بعيناي وأودعها بذهول الذي رافقني منذ أن وضع القيد في يدي، الذاكرة تحمل الأشياء الكثير من الاعتقال، فالاعتقال كان قد استغرق فترة زمنية طويلة، لقد امتد من شهر فبراير 1976 إلى غاية 19 نوفمبر 1986 أي ما يناهز 11 سنة وهذه المرحلة كانت مرحلة طويلة وفيها تقلبات كثيرة كما رويتها في الكتاب، بدأت بالاختطاف ومرحلة التحقيق والتعذيب. كانت محاكمة 1973 كانت فتحت.. استعملها اليسار الذي حُكِم ولا الرفاق آنذاك كمنبر لطرح مواقفهم فكانت محاكمة 1976.. 1977 تسير في اتجاه مسبق، رُسم لها خطوط التشدد وإن كان بالمقابل أكان توجه داخل معتقلين سياسيين آنذاك لتكون تشدد من طرف الآخر بإثارة قضية الصحراء المغربية وطرح من زاوية طرح آنذاك السيرفاتي مسألة الجمهورية الصحراوية وطرح قضية الصحراء في المحاكمة مما خلق ملابسات كثيرة، على أية حال السجن ثم المراجعة، التجربة، الصراعات ما بين رفاق ما بين الأمس وهو أمر ليس.. لم يكن أمرا سهلا لا من الناحية الفكرية أو من الناحية الإنسانية خصوصا بأن يجد الإنسان نفسه في وضعية التي طرحها الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر حين قال إن الجحيم هو الآخر، وقفت السيارة أمام بناية كبيرة عرفت أنها مخفر الشرطة، كانت جموع الناس كثيرة اختلط فيها الصغير بالكبير والرجل بالمرأة وكان القناصان يدفعاني بشدة حتى كدت أتعثر في حافة درج الرصيف، دخلنا بابا كبيرا ثم عبرنا ممرا ضيقا باتجاه أحد المكاتب، فتح سائق السيارة الباب ودفعني من كتفي حتى ارتطمت بالحائط الأيسر من الغرفة، أقعدني على كرسي من دون متكأ وبقيت متصلبا للحظات أتأمل لافتة صغيرة وُضعت على المكتب تحمل اسم تاشفين، لابد أنه اسم المحقق الذي سيشرف على التعذيب لكن مهما يكن فلابد أن أصمد وأراوغ وأفرغ من كلمة إلى كلمة حتى يمضي الوقت سريعا، ينبغي أن تكون كلمة لا منقوشة داخل كل خلية من جسمي المناضل، أحسست وأنا أنتظر المحقق بتوتر يسري في أوصالي وتساءلت في كل ثانية ماذا أفعل؟ عندما بلغت عامي السابع عشر بدأت نسمات سياسية طفيفة تطل على حياتي كان لأخي عبد المؤمن دور رئيسي في توجيهي وإيقاظ نوع من الوعي السياسي لديّ، جاءت سنة 1972 لتضعني في تيار حركة التلاميذ فقد شهدت تطوان مثل باقي المدن المغربية الأخرى اضطرابات ومظاهرات للاحتجاج على مشروع إصلاح البكالوريا والمطالبة بمنح الحق النقابي للتلاميذ، شاركت بدور التلاميذ في المظاهرات أو التجمعات الحماسية التي انعقدت بثانوية القاضي بن العربي، لفت انتباهي حين ذاك تدخلات تلميذ بقسم البكالوريا يدعى عبد الباري الطيار كان يوظف تعابير ماركسية ثورية في خطبه وفي خضم كل هذا لم نكن نعرف هدفنا بوضوح بل لم نكن نعرف ماذا نرغب في الوصول إليه، ما اسمك؟ أجبته بصوت خافت محمد الأمين مشبال، تابع حديثه بزهو وفخامة متعالية وقد ثبّت عينيه في عيني، مع مَن كنت تعمل في هذه السنوات؟ هززت رأسي وقلت لا أعلم، لكنه اندفع دفعة واحدة وتحول الهدوء في المكتب إلى عاصفة من الصدى المتفجر، صرخ في وجهي محتدا وهو يحدق إليّ متفرسا عندما أسألك أجب أو.. لمحت في نظراته تهديدا ووعيدا بالشر لكنه عاد إلى سخريته وهدوئه وأردف تحسب نفسك ذكيا سوف تتكلم، اعلم جيدا أنك ستتكلم كالآخرين أين تسكن؟ أجبته بنبرة مكتشفة هادئة عند خالتي.

والدة محمد الأمين مشبال: كان يدرس في مدينة العرائش قبل أن ننتقل إلى تطوان وهو في سن الثانية عشرة كنت أرسله ليدرس بالمدرسة بينما هو كان يمارس السياسة الفوضى لم أكن أعلم شيئا كان يصطحب بعض زملائه اثنان أو ثلاثة إلى المنزل وقت الظهيرة وعندما أسأله مَن هم؟ يقول لي إنهم زملاؤه في الفصل، كنت أصدقه، كنت أقدم لهم الحريرة المغربية أو القهوة أو الشاي، اجتاز امتحان الباكالوريا بنجاح وقررنا إرساله إلى مدينة فاس كي يكمل تعليمه وسافر بصحبة والده إلى فاس حيث تقيم أختي وأخي، عندما أخبرهم زوجي بأن الأمين سيكمل تعليمه في فاس، رحبا بالأمر وفي انتظار تدبير شقة له أقام مؤقتا عند خالته، ذات يوم اقتادته الشرطة إلى بيت خالته.. تخونني الذاكرة في كثير من التفاصيل.. كان يتصبب عرقا، طرقوا الباب بشدة وسألوا ابنة أختي أين غرفته؟ قالت هاهي، دخلوا الغرفة وفتشوا كل شبر فيها، كان يموت عطشا كان في الـ 18 من العمر فقط وطلب من ابنة خالته أن تحضر له ماء، جلبت له ابنة أختي نزهة كأسا من الماء لكنه لم يكد يشرب الجرعة الأولى حتى أزاح عنه أحد رجال الشرطة الكأس، قالت له ابنة أختي دعه يشبع قال كفاه وأخذ منه الكأس، لم يخبرني أحد بما جرى كتموا الأمر عني وأنا كنت هنا في تطوان.


التعذيب لا يمكن أن يُنسى لأنه بالنسبة لي  كان قاسيا وموجعا ومؤلما، بحيث يجعلك  حين تتأمل الزمن تجد الثانية من التعذيب أو الدقيقة ودون أدنى مبالغة تساوي سنة ضوئية

محمد الأمين مشبال: التعذيب لا يمكن أن يُنسى لأنه بالنسبة لي تعذيب كان قاسيا، يعني التعذيب لم يكن مجرد لم يقتصر فقط على الجانب لنقل الجانب التعذيبي الذي وصفته في الكتاب يعني الفلقة أو الطائرة والشيفون من أجل الاختناق يعني التعذيب الجسدي الذي كان قاسيا وموجعا ومؤلما والتعذيب يجعلك من بعدها حين تتأمل التعذيب تجد أن مفهوم الزمن يختلف ثانية من التعذيب أو دقيقة تحت التعذيب وبدون أدنى مبالغة تساوي سنة ضوئية. ما بعد التعذيب الجسدي هناك التعذيب النفسي، أنت تخرج وتستنشق الهواء وأن تتجول حلما بعيد المنال أن تعيش الحب بشكل طبيعي وعادي، مسألة مستحيلة، كل هذه الأشياء تؤدي إلى تعذيب نفسي لا يقل قساوة عن التعذيب الجسدي ويصبح الحلم ومع مرور السنين يصبح الحلم بمغادرة السجن وبالحورية يصبح شيئا شبه مستحيلا.

والدة محمد الأمين مشبال: مرت ستة أشهر دون أن نعرف مكانه أو حتى إن كان على قيد الحياة، والده كان رجلا عجوزا ومع ذلك ظل يبحث عنه ويربي الأمل في معرفة مكانه، أخوه الذي كان يعمل أستاذا هو أيضا بحث ولم يجد له أثرا إلى اليوم الذي ظهر فيه فجأة.. نسيت تفاصيل كثيرة لأن المدة كانت طويلة.. عندما ظهر قدم للمحاكمة أذكر أن المحكمة كانت مطوقة برجال الشرطة داخل وخارج المحكمة وعلى السلالم وكأن القضية كبيرة وكل ما في الأمر فتى في 18 من العمر، كان الولوج إلى المحكمة أمرا شاقا ومؤلما، كنت أطلب أن أرى وجهه وما أن يراني ويرى الدموع تنهمر من عيني حتى يشيح بوجهه عني ويختفي، كان رجال الشرطة هكذا أمامنا وهكذا المحامون ونحن هنا وهم هناك كان يراني فيشيح بوجهه فتشتعل النار في قلبي.

محمد الأمين مشبال: شرع الرئيس في النطق بالأحكام، سجن مؤبد لخمسة رفاق وبعض الآخر تراوحت أحكامهم ما بين ثلاثين وعشرين وعشر وخمس سنوات، سادت القاعة كلها لحظة ذهول مخيفة، أما أنا فقد سمرتني الصدمة في موضعي وشردتني، عشرون سنة إضافة إلى سنتين لإهانة الهيئة القضائية في بئر بارد مغلق تحده الأشواك، لم أعد أرى أمامي إلا النهاية المأساوية وانقلب الأمل المتبقي في ذهني إلى حزن ذابل مغمور، شعرت بثقل جسدي لأول مرة وتردد صوتا بداخلي جياش الأصداء وكنت وحدي أمضي في ذهول أتأمل الأشياء من حولي مكسور القلب والعينين وهاهي الوجوه تعاند الدموع المنجرفة وتعالت الكلمات الغربية الممتزجة.. الواقع أمامي شاحبا وصارت تطوان كالفردوس المفقود.

والدة محمد الأمين مشبال: عشرون عاما كانت صدمة قاسية بالنسبة لي تعرض زوجي لحادث وكسرت رجله على أثره كان عليّ أن أترك له طعامه جاهزا لأنه مريض بالسكر كنت أطلب من الناس اصطحابي إلى السجن كي أزوره الرجل مريض والابن مريض فلقد تكبد ابني حكما أكبر من سنه كنت امرأة عاجزة عن فعل أي شيء لم يكن بيدي ما أفعله، ما تركته لي أمي من مال وذهب بعد وفاتها كنت مستعدة لبذله لأجله لم أكن لأستخسر فيه أي شيء لو طلبوا هذه سأقدمها في سبيل أن يستعيد حريته الحمد لله كل شيء انقضى.


التهمة التي حوكمنا من أجلها كانت الانتماء لمنظمة سرية تُدعى إلى الأمام بهدف القضاء على النظام الملكي القائم وإقامة بديل عنه جمهورية شعبية ماركسية لينينية وذلك عن طريق العنف كإستراتيجية ثورية للتغيير

محمد الأمين مشبال: التهمة التي حوكمنا من أجلها هي كما ورد في محضر يعني قرار الإحالة هي كانت الانتماء لمنظمة سرية تُدعى إلى الأمام بهدف القضاء على النظام الملكي القائم وإقامة بديل عنه جمهورية شعبية ماركسية لينينية وذلك عن طريق العنف كاستراتيجية ثورية للتغيير، هذه هي التهمة التي من أجلها اعتقلنا وحوكمنا، كانت لنا تصورات وهي تصورات تستمد مشروعيتها من جهة الاحتقان السياسي اللي كان يعيش في المغرب آنذاك من حيث كان هناك صراع ما بين القوى المعارضة؛ اتحاد وطني، القوات الشعبية وحزب استقلال بدرجة أقل مع النظام وخروج المغرب من الفترة الأفقية هي التي كانت تعرف التشدد وقمع شديد وهدر للحريات العامة، إذاً كان هذا المناخ السياسي الداخلي وتشدد وبمقابل كان هناك مناخ عالمي كان المناخ العالمي يعزز هذا النموذج وهذا الطرح الاشتراكي أو الماركسي اللينيني كان يعززه ويعطيه كل الموضوعية من هنا انبثقت مجموعات صغيرة ماركسية لينينية صغيرة أساسا عمادها الطلبة ومثقفون والأساتذة وحاولت طرحت على نفسها أنها ستقوم بتغيير المجتمع، أنها ستقوم ببناء حزب يطلق عليه حزب العمال وستقود العمال والجيش من الفلاحين تحت راية حمراء نحو الثورة الشعبية.

[موجز الأنباء]

الأوضاع في السجن

محمد الأمين مشبال: بعد جئنا معتقل دارمولي، شريف خلعنا ملابسنا وارتدينا قميص وسروال كاكيين وأخذ كل منا رقمه وكان رقمي 25 ثم صففنا الحجاج صفا واحدا وأداروا وجوهنا إلى الحائط ومررنا ببطء والكرباج يهوي على رؤوسنا وظهورنا وأيدينا ننحني ونختبئ كل واحد منا في الآخر ويتمايل فيرتطم بالحائط ثم يعود لضربات ولسع السياط وُضع كل أربعة أو خمسة في زنزانة لم أرها لكن إحساسي بقتامة يبدو واضحا مرأى العين منعونا من الكلام منعا باتا شحب وجهي وصرت هزيل البنية خائر القوى أعانق ذكرياتي وأجول بخاطري في تطوان أتذكر أمي وأبي وكل العائلة التي ما ظننت يوما أني سأفارقها كل هذا الوقت، كان سجن القميطرة المركزي رهيبا وشامخا ساحة عارية متسعة وبناء ضخم ممتد ورق مرتصف متلاصق داخل البناية الضخمة يوجد ممر فسيح طويل يتوسط صفين من الزنازين خطوناه بهمومنا الثقيلة فارتج فيه صدى أحذيتنا وتسرب في الحائط ذهننا يتبع خطواتنا البطيئة.

مشارك أول: كان النشاط محدودا مظاهرات بين الفينة والأخرى منشورات لا تغني من جوع لأنها كانت تصاغ باللغة العربية وتوزع لكن هل كانت تصل إلى الناس؟ هل كانوا يقرؤونها ومع نسبة الأمية الموجودة في البلد الله أعلم وإذا قرؤوها ما مدى تأثيرها؟ مَن كان سيستفيد منها؟ إذا فقط رجال الشرطة لأنهم كانوا يأخذون المنشور ويبحثون عن مصدره، في عام 1974 بدأت الاعتقالات في طنجة على إثر توزيع منشور كان بعض الطلبة قد ذكروا اسمي لرجال الشرطة فجاؤوا إلى تطوان بحثا عني لم يكن لديهم من المعلومات عني غير الاسم وأنني طالب لذا اعتقلوا خمسة أو عشرة أشخاص يحملون الاسم نفسه من بينهم أولاد عمي وأصدقاء لهم الذين وجدوه في طريقهم اعتقلوه أما أنا فاستطعت الإفلات من قبضتهم بعد أن لذت بالفرار في 1974 في اتجاه الدار البيضاء عشت هناك حياة جديدة اسم جديد هيئة جديدة بطاقة، هوية جديدة، أهل الحي الذي كنت أسكنه كانوا يعتبروني أستاذا، قضيت عاما ونصف في فراغ مطلق، تصوروا أن شابا في العشرين من العمر يعيش فراغا مطلقا والسبب أن رفاقنا في التنظيم سامحهم الله مارسوا علينا نوعا من الكذب لأنني عندما تحولت إلى محترف ثوري تخليت عن حياتي الرسمية وعن أسرتي التي كانت في حاجة لي، تخليت عن مستقبلي واحترفت الثورة، ذهبت إلى الدار البيضاء على أساس أن المنظمة حسب ما كانت تدعيه في منشوراتها متجذرة في الطبقة العاملة وعولت إذاً على الاشتغال ضمن الطبقة العامة أو في المجال التلاميذي أو الطلابي لكني لم أجد إلا الفراغ القاتل، كنت أقضي ستة أيام في الأسبوع معتكفا في البيت أو أجوب في شوارع الدار البيضاء إلى أن أصبحت لدي صعوبات حتى في الحديث مع الناس لأنني لم أكن أخالطهم إلى أن بدأت الاعتقالات، يمكن أن أقول بأن عددا كبيرا من رفاقنا وهذا الأمر أثير في عدد من النقاشات الثنائية داخل السجن عاشوا لحظة اعتقالهم قد لا يفصحوا عن هذا يوما، هذا أمر يخصهم عاشوا لحظة اعتقالهم على قساوتها كلحظة خلاص، مصطلحات الآن عن حقوق الإنسان أمر ضروري وإيجابي ويجب أن تكون لكنها اليوم تحققت بفضل تطورات المجتمع المغربي برمته، الآن أصبح من الصعب أن تتخيل أن تقدم السلطة على اختطاف شخص ما وما وصلنا إليه حاليا هو نتيجة لوعي كل الأطراف بتجاوزاتها وأخطائها وإيجابياتها.

مشارك ثاني: عندما كنت في سيارة الاعتقال وجاءني رجال الأمن كنت وأنا ذاهب إلى السجن كنت أتصور بأن الشارع سينتفض، العالم كله سينتفض، غدا ستقع ثورة، العالم كله سينتفض معي وأنا كنت آنذاك في عمر ثماني عشر سنة داخل السجن وكنت في السيارة أمضي إلى الناس من قلب السيارة وأعتقد أن الناس سيتحركون والشارع التطواني سيتحرك سينادي بإطلاق سراح فلان وفلان وفلان، النظام ظلمنا ظلم كبير جدا، كيف يعقل ثلاث سنوات العمل السياسي تحكم على 12 سنة سجنا هذا هو الظلم الكبير اللي كنا حاسينه أنه ثلاث أعمال أولا السن مبكر يمكن يقولوا علينا يمارس العمل السياسي بشكل مبكر داخل قطاع تلاميذي محدود، إمكانياته محدودة على مستوى التغيير يحاكم 12 سنة سجنا، أنا أعتبر أن الخطأ الكبير الذي وقعت فيه منظمة الأمام أو الحركة الماركسية هو مسألة الصحراء، أعتقد أن الخطأ الكبير اللي سقطت فيه إحنا لحد هذا الوقت لم نكن واعيين به كل الوعي، أعتقد أن الخطأ الكبير لأنه هو الخطأ الاستراتيجي اللي بنيت به القاعدة الأساسية أنهم كانوا يعتقدوا بأنهم من الصحراء سيتم تغيير المغرب، هذا كان خطأ كبير وكبير جدا، كيف يعقل داخل وهذا الشيء اللي الحقيقة والتاريخ كيف يعقل أنه أكثر من 90% من المعتقل شباب عمرهم أكثرهم بين 18 وعشرين سنة حتى 21 سنة قائد من القادة الكبار يأتي المحكمة يقول عاشت الصحراء عاشت بوليساريو عاشت دوح، الحال اللي إحنا ما تصورناش إن داخل بالعكس كان سؤالنا إن هو ينقض الشباب ويدفع المحكمة حتى جاء لواء آخر ليمشوا في اتجاه اللي أراده لأنه كأن نحن نحاكم داخل المحكمة على مسألة الصحراء، بالعكس نحن لم نحاكم فقط على مسألة الصحراء بل نتحاكم على أفكارنا السياسية، على توجهنا، على الفكر الماركسي اللي آنذاك ولكن لم نحاكم فقط على مسألة الصحراء بل قادة جاؤوا لنا أو القائد أو أحد القضاة جاء قال المسألة كأنها مسألة الصحراء هي الموضوع الأساسي وتوثق الاتهام الأساسي لهذا يبين نقط الاتهام والخيانة الوطنية لدولة داخل المحكمة بشكل واضح واللي كان المحكمة تشتغل في هذا الاتجاه بتهمة الخيانة الوطنية.

محمد الأمين مشبال: الأيام الأولى من شهر أبريل 1977 تواصلت برسالة من ابنة أختي هدى أخبرتني فيها بوفاة عبد الحليم حافظ، خفق قلبي وأحسست بعيني تتسعان وأنا أتابع الكلمات بذهول ثبت وجهي في الحائط المقابل لي وكظمت ما تبقى في نفسي من الغبطة شعرت بالصدمة تكاد تأكلني، أدرت وجهي بيمنة ويسر وتمتمت كل ما هو جميل يسير نحو النهاية، مَن سيغني بعدك للحياة يا عندليب؟ وداعا يا ساحر الحياة والفن، وداعا يا مَن علمني كيف أحب. كانت القراءة وسيلة تخلصني من الملل وحلاً ينعش تفكيري لكن إدارة السجن منعتنا من قراءة الكتب ذات الطابع السياسي خصوصا الكتب التي تتجه الوجه الماركسية اللينينية، لذلك عمدنا إلى قراءة الروايات والكتب الأدبية والمجلة ذات الموضوعات المتنوعة في هذا الصيف وصلنا نبأ زيارة أنور السادات إلى إسرائيل، أحسست بمرارة تعتريني وسألت نفسي بامتعاض ما هو الثمن؟ لم نتفق مع مبادرة السادات، قد رأينا أن تسوية مصر لمشاكلها مع إسرائيل بمعزل عن سوريا والفلسطينيين سيضعف قدرة العرب على المواجهة. الشون جميلة بجبالها، ريح ريفية تطفح في كل ناحية من نواحيها، قمم عالية يتبعثر فوقها الثلج، هذا ما تراءى لي وأنا أطل من الطابق العلوي للسجن بعيني الساهمتين لم يكن سجن الشون مثل باقي السجون التي ضمتني من قبل، سجن صغير أشبه بمنزل في الأرياف نظيف وبارد لكنه دافئ بإحساس تراني وأنا أدخله مقيد اليدين، بلغ عددنا حوالي أربعين معتقلا وُزعنا في غرف ثلاث شاسعة المساحة، واصلنا إضرابنا عن الطعام في الشون رغم تشتيتنا المفاجئ وفي مساء يوم 17 من الإضراب فوجئنا بزيارة بن ذكري والفاكهاني وهما رفيقان من لجنة المفاوضات أخبرونا بأن وفدا برلمانيا اجتمع بالسرفاتي وطلب منه أن يتدخل ليقنع باقي الرفاق بتوقيف الإضراب عن الطعام لأن عواقبه الصحية ستكون وخيمة ولأنه لن يكون مجديا سياسيا، قَبِل السرفاتي العقد وكانت هذه المرة الوحيدة التي يتصرفوا فيها بحكمة وطلب من الوفد أن يجتمع بأعضاء لجنة المفاوضات وفعلا تمكن السرفاتي من إقناع أغلبية أعضاء لجنة المفاوضات موضحا لهم أن هذا الإضراب الجديد هو انتحار فقط، فقامت لجنة المفاوضات بإقناع الرفاق بضرورة توقيف الإضراب دون أن تعترف بخطأ تحليلها السياسي ومنطلقاتها لخوض غماره وبعد مناقشات صاخبة وافقت الأغلبية على قرار توقيف الإضراب أما الأقلية التي كنت من ضمنها فقد عارضت هذا القرار ورأت أن لجنة المفاوضات لم تأت بتحليل أو معطيات جديدة تستدعيه. في شهر أبريل من السنة نفسها جاء قرار وزارة العدل بإرجاعنا إلى السجن المركزي بالقميطرة أشعر بالغبطة عندما علمت بعودتنا إلى القميطرة كانت ألفتي بالشون غمرت إحساسي الحزين وبعثت فيه قليلا من الهدوء والسكينة كنت أرى فيها صور من تطوان وفي كل لحظة من لحظات الزمن المر أحس بنبضها العليل في عروقي الدفينة، سقط الليل فخيم الصمت القاتل على حي أليب ولجت زنزانتي تمددت فوق الفراش وتأملت بياض السقف شيئا أقوى مني كان يدفعني إلى التفكير والشرود. رحت أعيد شريط أحداث اليوم المرير الذي ودعت فيه عشرات الأصدقاء ضاقت بي الجدران وببياضها الذي مقتني بنظرات فاجرة فعبث بالسواد ورمى بي إلى المجهول شعرت بقطرات دموع تنزلق ببطء على خدي تتبعها أخرى حائرة تلمع تحت أشعة المصباح الشاحب ثم اجتاحتني نوبة بكاء حادة لم أعرفها من قبل رغم كل الظروف القاسية التي مررت بها منذ اليوم الأول لاعتقالي، بكيت ذات يوم على حظي السيئ في عفو سنة 1980 وها أنا ذا أبكي ثانية، كنت واعيا أن قطار الحرية لا يصفر إلا مرة واحدة كل أربع أو خمس سنوات ومَن فاته فعليه أن ينتظر ابتسم المدير في هدوء وتمتم بكلمات مضيئة هنيئا لكم لقد صدر في حقكم العفو الملكي، نظرت إلى رفاقي من حولي في ذهول، فتحت فمي شاردا وحاولت أن أقول شيئا لكني صمت،امتلكتني رغبة في أمور عديدة طالما انتظرت هذا اليوم بدم الشوق والصمت الجريح وانبعث من أعماقي صوت هائج صرخ في وجهي ماذا تنتظر؟ إذاً عانق أصدقاءك وامرح كالمجنون مثلما حلمت دائما فالحرية أجمل ما في هذه الحياة ودعت غرفتي وخطوت بثقلي في الممر يرافقني صدى حذائي اختلطت في ذهني صورة تطوان والعائلة والبحر وأنا أتمعن المكان بعين حرة فغمر نفسي إحساس حزين عبرت السيارة باب السجن الكبير ومازالت أنظر إلى بنائه المرتفع ابتعدت السيارة قليلا وكان السجن مازال يبدو كبيرا لكنه بدأ يصغر ثم يغيب حتى اختفى عن الأنظار وأنا في السجن كنت أحلم بالحرية وأن يبدأ الإنسان صفحة جديدة وأن يلحق بالزمن الهارب.

حبسيات ساكنة المقابر

بقلم محمد الشطبي

معتقل سياسي سابق

الحبسيات

يقول “كريستيان جاريت” إن الحياة خلف القضبان، إذا طالت مدتها وزادت قسوتها، قد تؤدي إلى تغيير شخصية السجناء على نحو تعيق إعادة إدماجهم في المجتمع بعد إطلاق سراحهم.

تخيل أنك حكم عليك بالعيش لسنوات في مكان لا تتاح لك فيه مساحة من الخصوصية، تعيش فيه الخوف والتوجس الدائمين، ولا تختار فيه جليسك ولا مأكلك ولا ملبسك، ولا حتى الوجهة ولا متى تنام وتستيقظ… تشعر على الدوام أنك محاط بالمخاطر والشكوك، وقلما تجد من يترفق بك، أو يربت على كتفك. وتعيش معزولا عن أهلك عمن تحب وعن أصدقائك عن بيئتك الطبيعية.

بعد سنوات من العيش في هكذا مناخ، وفجأة تجد نفسك في عالم ( الحرية) محملا بأطنان من المخلفات والرواسب التي يستغربها محيطك و قد تبدو لهم بسببها إنسانا غير سوي تختلف عنهم جذريا, تحتاج في أحسن حال عند ألطفهم لنظرة عطف ومعاملة تليق بوضعك النفسي…

رواسب مابعد المرحلة السجنية ومخلفاتها على المحبوس غريبة أحيانا. سأتحدث عن إحداها مما لم أستطع التخلص منه ليومي هذا رغم مابدلته من جهد، لا أعرف هل أنا المخطئ (لمعقد) أم الآخرون؟؟!!

كلمة سجن تعني باختصار حرمان، في السجن قد تشتهي بيضة أحيانا أو تفاحة ولا تجدها، في السجن ليس كل شيء متاح، قد تجد سلكا تافها أو خيطا أو قطعة بلاستيك أو مسمارا صغيرا أو أي شيء تافه فتدسه وتخبأه في عيونك حتى لا تطاله يد زوار التفتيشات المباغثة.وقد يحصل أن تشتري ذاك التافه الذي لا يساوي فلسا بأضعاف ثمنه ألف ضعف. أو قد تخاطر لنزعه من مكان أو مرفق ما وقد تستمر عملية نزعه تلك الشهور الطوال والمشقة والخوف والترقب الشديد…

و ( مرگد) السجين _ وهو مخبأ أشياءه الثمينة الممنوعة عنه_ تجد فيه أشياء غريبة يستحيل أن يكتنزها إنسان عادي سوي.

هذه العادة أو سمها فوبيا إن شئت، لازمتني حتى بعد خروجي لدرجة صرت أرى الناس معها كلهم مبدرون حمقى لايعرفون قيمة النعمة. ولا شك أنهم يبادلونني نفس المشاعر بدورهم، فيرونني شحيحا بخيلا أحمقا مستعد لينزل من مركبه ليلتقط مسمارا ويضعه في جيبه ليضيفه ( للخردة) التي يجمع كأي ( بوعار ) ناكش للقمامة. أعجز ولا أجد كيف أفسر لهم أنها أشياء قد نحتاجها (لدواير الزمان) في أية لحظة ولا نجدها، كما يعجزون عن إقناعي مثلا لماذا يجمعون قطع الخبز البائت ويرمونها ليستعيضوا عنها بخبز اليوم هكذا ببساطة، ولماذا يبالغون ويسرفون في إعداد أنواع الأطعمة والأشربة التي أحس بحزن شديد عليها حين يبقى أكثرها على المائدة دون أن يلتفت لها أحد. لدرجة أنني طلبت مرارا من عامل المطعم أن يلف لي مابقي منها لآخذه معي _ رغم أني لن آكله لاحقاً _أمام إحراج واستغراب من دعوني للوجبة، المهم أن لايبقى أثر لما أعتقد أنه إسراف وتبدير، ولا أستطيع تبرير صنيعي لهم. أفعله وكفى…!!!

حاولت البحث عن هذا في النت فوجدت مايطلق عليه باضطراب بالاكتناز القهري Compulsive Hoarding

يعرفونه على أنه مرض نفسي يجعلك تجمع الأشياء دون مبرر. أحاول جاهدا أن أحلل مبرراتي هل هي فعلا واهية، أم أن المشكل هو الآخرون على حد تعبير جون بول سارتر _ ملطفا_

أدب السجون بالمغرب.. للحقيقة وجهان

حسن الأشرف

يقول الكثيرون في المغرب إن الأدب يبقى أدبًا رغم تقسيمه إلى أدب عربي وآخر أمازيغي، أو أدب رجالي، وآخر نسائي، لأن الكتابة شأن إبداعي وإنساني يحتفي بالتخييل أكثر من الواقع، ولا يعترف بالجنس ولا بالعرق، إلا أن ما يسميه البعض “أدب السجون”، أو “الأدب السياسي”، يأخذ تصنيفًا مغايرًا، نظرًا إلى كونه تعبيرًا إبداعيًا عن تجارب اعتقال سياسي تدور رحاها في الأقبية والمعتقلات.
وأدب السجون في المغرب لم يخرج عن هذا السياق العام، المتمثل في الكتابات التي توثّق لتجربة الاعتقال، سواء أخطّها صاحبها أم دبّجها كاتب متمرس على لسان من عاش تجربة الاعتقال السياسي، لكنه يحفل بِسمة خاصة تتمثل في “ازدهاره” في فترة رئيسية من تاريخ المغرب المعاصر.

سياق زمني

ظهرت روايات تُنسب إلى أدب السجون في المغرب، خاصة في سياق ما عرفته البلاد من محاولات التصالح مع الماضي، أو ما يسمى بـ “سنوات الرصاص”، وهي سنوات الاعتقال السياسي التي تعرّض لها العديد من السياسيين والنقابيين، في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.
وشهدت المملكة في بدايات الألفية الثالثة، وتحديدًا في عام 2004، ميلاد هيئة تدعى “هيئة الإصلاح والمناصفة”، وهي مؤسسة رسمية وضعتها الدولة لجبر الضرر الذي لحق بمعتقلين سياسيين خلال “سنوات الرصاص”، وردّ الاعتبار لهم معنويًا وماديًا، وذلك بهدف تسوية ملفات ماضي الانتهاكات لحقوق الإنسان.
وفي هذه الفترة الزمنية، وحتى قبلها بقليل وبعدها أيضًا، ظهرت تباعًا في المغرب، أعمال أدبية تمتح من “زمكان” السجن فضاءً أساسيًا لروايات تختلف في شخوصها وأمكنتها، لكنها تكاد تتشابه في مضامينها الإنسانية التي تسِمها، خاصة أن الأمر يتعلق بمعتقلات ينطبق عليها المثل القائل بأن “الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود”.
ولعلّ من أشهر ما كُتب في هذا الصدد رواية “الزنزانة رقم 10” لصاحبها الضابط المغربي السابق، أحمد المرزوقي، وهو أحد المتورطين في محاولة الانقلاب الفاشلة ضدّ الملك الراحل الحسن الثاني سنة 1971، حيث زجّ به في سجن “تازمامارت” الرهيب زهاء 18 عامًا، قبل أن يُفرج عنه سنة 1991، ليتجه إلى تدوين مأساته في روايته الشهيرة سنة 2001.
ولم تكن رواية “الزنزانة رقم 10” الوحيدة التي أسست أدب السجون بالمغرب، فقد تلتها روايات أخرى تنهل من المعين نفسه، منها رواية “من الصخيرات إلى تازمامارت؛ تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم”، لمحمد الرايس و”الساحة الشرفية” للكاتب عبد القادر الشاوي، و”يوميات سجين متوسطي” لحسن الدردابي، و”أفول الليل” للطاهر محفوظي، و”العريس” لصلاح الوديع.

تصفية حساب

ويُعرف الروائي المغربي، مصطفى لغتيري، أدب السجون بأنه “الكتابات التي حاولت ملامسة تجربة الاعتقال السياسي إبداعيًا، أي أنها اتخذت من الكتابة وسيلة لتصفية الحساب مع تجربة إنسانية ووجودية ونفسية مريرة، قد يكون المرء قد عاشها فعليًا أو سمع تفاصيلها من أحد السجناء، أو هي فقط عبارة عن تجربة متخيّلة لها ما يدعمها في الواقع، مما حدث لكثير من السجناء وتناقلته الألسنة أو وسائل الإعلام”.
وأفاد عضو اتحاد كتاب المغرب، في تصريح لـ”ملحق الثقافة”، أن هذا النوع من الكتابات نشط في المملكة، خاصّة بعد الانفراج السياسي ما بين القصر وأحزاب المعارضة التاريخية، الذي أدّى إلى إطلاق سراح المعتقلين السياسيين اليساريين على الخصوص، والعسكريين الذين تورطوا في محاولات انقلاب عسكرية فاشلة”.
وأوضح صاحب رواية “ابن السماء” أنه من خلال اطلاعه على بعض نصوص هذا الأدب، وجده بأنه ليس على وتيرة واحدة، فمنه ما يتمتع بقدر من الإبداعية الأدبية التي تجعل منه نصًا أدبيًا بامتياز، ومنه ما غلبت عليه صيغة الشهادة، فجاء كنوع من الوثيقة التاريخية، التي يمكنها أن تقدّم معلومات مهمّة عن مرحلة سنوات الرصاص في المغرب”.
وأورد لغتيري بأنه رغم عدم عيشه لتجربة الاعتقال، كتب رواية سماها “أحلام النوارس” عبارة عن رسالة طويلة وجهها معتقل سياسي سابق، أورثه السجن عللًا نفسية وجسمانية، واكتشف أن الجميع قد تخلّى عنه، بعد أن فاوضوا باسمه، واستثمروا نضاله للحصول على مكاسب سياسية واجتماعية”.

وثيقة الحقيقة

ويقف القرّاء والنقّاد إزاء تجربة أدب السجون في المغرب، على سبيل المثال، موقفين اثنين، الأوّل يؤكّد على جرعة الحقيقة والواقعية التي تمنحها الشهادات الواردة في بعض الأعمال التي تهتم بهذا الصنف من التوثيق الأدبي، خاصة صنف الرواية، باعتبارها مجالًا أدبيًا يسع لسرد المشاهدات والشهادات، بخلاف القصة القصيرة، أو الشعر، أو حتى الرسم.
وأما الموقف الثاني فذاك الذي يرفع عن أدب السجون طابعه التوثيقي والتأريخي، وينفي عنه سرد الحقيقة كما هي، بالنظر إلى أنها أعمال إبداعية تأتي من خيالات كاتبيها، الذين كانوا يسردون ما حدث لهم من منظورهم الخاص، ومن دون معرفة رأي الطرف الثاني، وأحيانًا بعد سنوات عديدة من خروجهم من تجربة الاعتقال.
ويقول أحمد المرزوقي، صاحب رواية “الزنزانة رقم 10″، التي قضى في ظلمتها حوالى 18 عامًا بتهمة مشاركته رفقة عسكريين آخرين، في محاولة اغتيال الملك الراحل، إن روايته تلك كانت نقلًا عن واقع عاشه طيلة سنوات عديدة في أقبية سجن تازمامارت المرعب، الذي فتح في أغسطس/آب 1973، وأغلق في سبتمبر/أيلول 1991.
وبالنسبة للمرزوقي، فإن ما أورده في روايته تلك لم يكن سوى قليل مما عاينه بأمّ عينه في ذلك المعتقل السياسي الذي طبقت شهرته العالم، كما استعان بشهادات رفاقه في السجن ذاته، شهادات ظلّت ذاكرته تحتفظ بها، إلى أن قرر إشراك القارئ والرأي العام تفاصيل التجربة، فاختار خط روايته باللغة الفرنسية أولً لإتقانه لها، قبل أن تُترجم إلى العربية بعد ذلك.
واعتبر الضابط السابق أن عددًا من الأعمال الأدبية التي تناولت حقبة من تاريخ المغرب، متمثلة في سنوات الرصاص التي طاولت معارضين سياسيين كما جنودًا وضباطًا عسكريين، تعتبر وثيقة تاريخية يمكن الاستئناس بها بالنسبة للأجيال الشابة، كما أنها وثيقة لحفظ الذاكرة الجماعية للبلاد، وفضح لتجاوزات الماضي من أجل تفاديها في الراهن والمستقبل”.
ويرى نقّاد أن كتابات أدب السجون، على الأقل في الحالة المغربية، ضمّت بالفعل معطيات بالأسماء، ومعلومات دقيقة عن جلادين وسجانين غلاظ شداد، وسردت أيضًا حقائق وحالات إنسانية، مثل وقوع بعض المعتقلين صرعى للمرض، أو ضحية للجنون، وأثر التعذيب، كما جاء في “الزنزانة 10” أو في روايات أخرى من الصنف ذاته.
وترتبط الشهادات الموثقة في العديد من روايات الاعتقال السياسي بالمغرب، بوقائع تاريخية لها امتدادات داخل فضاء السجن وخارجه، باعتبار أن السجين معني بتهمة غالبًا ما تكون ذات طابع سياسي، وبالتالي “تدين” نظامًا سياسيًا وقضائيًا معينًا، ما يجعلها أقرب إلى الشهادات التاريخية رغم وجودها في قالب أدبي يعتمد على التخييل الإبداعي.

حقيقة مجروحة

وبالمقابل هناك من يرى في عدد من الروايات التي تُصنّف ضمن أدب السجون أو أدب الاعتقال السياسي، بأنها انتقائية لا تروي الحقيقة بوجهيها معًا، وإنما بوجه واحد فقط يسرده الكاتب/المعتقل السياسي، فيما تغيب الحقيقة التي توجد لدى رفقائه أو لدى السجانين، والسلطة التي حاكمته وأدخلته السجون.
ويعتبر نقاد أن العديد من كتاب الروايات التي تستعرض تجاربهم داخل السجن، تعمّدوا إخفاء حقائق عاشوها في المعتقلات، من قبيل ما تعرضوا له من تصرفات أو انتهاكات لحقوقهم، وذلك من أجل عدم “صدم” أقاربهم وأفراد أسرتهم بخصوص الأحداث المرعبة التي عاشوها وتعرضوا لها داخل أقبية السجن.
ويرى البعض أن اتساع الفرق الزمني بين تجربة السجن والاعتقال السياسي وبين فترة كتابة الرواية وأحداثها، غالبًا ما تأخذ سنوات عديدة، وفي حالة أحمد المرزوقي مثلًا خرج من السجن سنة 1991، وخرجت روايته للنور بعد ذلك بعشر سنوات، وهو ما يفضي حسب البعض إلى “نقص” في دقّة التحرّي، وتذكر الأحداث والوقائع، ونسبتها لأصحابها.
وبالنسبة لأصحاب هذا الرأي، فإن أدباء السجن غالبًا ما تكون روايتهم للأحداث التي عاشوها خلف أسوار السجن، وشهاداتهم التي خطوها بين دفتي رواياتهم وأعمالهم الأدبية، يعتورها بعض النقص في نقل الواقع كما هو، لأن تجربة السجن تظلّ تجربة ذاتية وغير موضوعية مثل كل تجربة إنسانية محضة، تخضع للعاطفة حبًا وكرهًا، وللتقدير إيجابًا وسلبًا.
وبالتالي، ولكل الأسباب السابقة، يعدّ البعض أن أدب السجن لا يمكنه إلا أن يقدّم حقيقة منتقاة وجزئية، خاضعة للعامل الذاتي والانطباعي، وحتى للصنعة الأدبية، ولاعتبارات المحيط والمجتمع، وربما لغواية السوق والمردود المادي، علاوة على أنها تستند إلى ذاكرة مشروخة، أنهكها التعذيب والمكوث سنوات في الظلّ خلف الجدران الباردة.

أدب السجون.. باب آخر للمقاومة من وراء القضبان

لماذا يصادر الاحتلال كتابات الأسرى؟

وليد الهودلي: الكتابة داخل السجون شكل من أشكال المقاومة

داوود فرج: أدب السجون يصنع عند الأجيال حالة رفض للاحتلال والتوق للحرية

الحدث- سوار عبد ربه

يظن المحتل أنه باعتقاله للمقاوم ينهي فعل المقاومة عنده، إلا أن الأسرى يظلون يبتكرون طرقا للمقاومة حتى داخل الحيز الصغير الذي يتواجدون فيه مرغمين، بالرغم من كافة الإجراءات التعسفية التي تمارسها مصلحة السجون الإسرائيلية، في محاولة منها لردع الأسير عن فعل المقاومة، وواحد من أشكال المقاومة التي يمارسها الأسير داخل سجنه هو توثيق التجربة، بالأعمال الأدبية التي تولد في عتمة الأقبية وخلف القضبان، تلك الأعمال التي تخرج من رحم المعاناة اليومية التي يعيشها الأسرى، والتي اصطلح على تسميتها بـ “أدب السجون”.

ومؤخرا، صادر الاحتلال الإسرائيلي، مخطوطة روائية للأسير باسم خندقجي المحكوم بثلاث مؤبدات، والتي كانت في مرحتلها النهائية تحضيرا لطباعتها، عقب مداهمة زنزانته والاعتداء عليه جسديا، الأمر الذي استنكره الاتحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيين في بيان طالبوا فيه باسترجاع مخطوطة الأسير الأديب باسم الخندقجي، وتأمين حرية الكتابة وحق التعبير للأسرى الفلسطينيين في معتقلات الاحتلال، كحق مسلم به، وضمان عدم التعدي على حرية الكتابة والإبداع داخل السجون.

وليس خندقجي حالة فردية، فمعظم من ذهب باتجاه كتابة عمل أدبي داخل سجون الاحتلال، يحكي فيه تجربته ورفاقه الأسرى، وظروف اعتقالهم، والحياة اليومية التي يعايشونها، تعرضوا لجملة من التضييقات أوضحها عراب أدب السجون الإسرائيلية وليد الهودلي في لقاء مع “صحيفة الحدث“، إذ قال الهودلي إن الجو العام داخل السجن، هو جو بطابع قمع وضغط نفسي، وبعيد جدا عن أن يكون مناسبا للكتابة، ناهيك عن الخوف الدائم من احتمالية قطع الطريق على الأسير ومصادرة ما أنهى كتابته، الأمر الذي يشكل كابوسا كبيرا بالنسبة للكاتب.

وبحسب الهودلي تجري مصادرة كتابات الأسرى أحيانا أثناء التفتيش الذي يصل إلى حد الملابس الداخلية للأسير، أو عند محاولة إخراج الأوراق من السجن للطباعة، وأحيانا قد لا يتوفر القلم والأوراق، وإن توفرت تكون بكميات قليلة، بالإضافة إلى التنقلات من سجن إلى آخر أو من غرفة إلى أخرى، ما يسبب للأسير نوعا من عدم الاستقرار والتوتر وهي عوامل تبقي الأسير بعيدا عن جو الكتابة والإبداع.

وبدأ الهودلي مشواره في الكتابة الإبداعية من داخل سجون الاحتلال انطلاقا من النشرات التوعوية حول قضايا السجن، ثم انتقل إلى الحوار الأدبي، فالقصة القصيرة، ثم مجموعة قصصية عن الأسرى المرضى، وصولا إلى رواية ستائر العتمة عام 2003 الصادرة عن المؤسسة الفلسطينية للإرشاد القومي وبيت الشعر، وقد لاقت الرواية قبولا كبيرا حتى أنها طبعت 11 مرة، وتم تحويلها إلى فيلم سينمائي، وروايات أخرى عن حكايا السجن والسجان.

وليد الهودلي

لماذا ظهر أدب السجون؟

يرى الأديب الهودلي أن الأسير يكتب كي يثبت ذاته الثورية، فالكتابة هنا ضرورة وشكل من أشكال المقاومة المستمرة، رغم الظروف القاسية والصعبة، كما أنها ضرورة من ضرورات الكيونية الفلسطينية الحرة، والمميز في أدب السجون أن فيه كل معاني الحرية والتوق لها وصدق المشاعر والمقاومة وكرامة الإنسان.

بينما يرى الأسير داوود فرج الذي انتزع حريته عام 1992 من معتقل الخيام الإسرائيلي في الجنوب اللبناني والذي وثق تجربة هروبه ورفيقه محمد عساف في رواية “على بوابة الوطن.. دهاليز الخيام”، أن هذا الأدب ظهر كوسيلة تعبير بالتجربة الحية المباشرة التي تعبر عن المشاعر الإنسانية التي يخوضها الأسير، بحيث يوثق تجربته بالأسر الناتجة عن القضية التي ينتمي لها.

داوود فرج

ويضيف فرج في لقاء مع “صحيفة الحدث“: يكتب الأسير أيضا ليظهر مدى أهمية القضية كشكل آخر من أشكال المقاومة، سيما وأن الهدف النفسي من الاعتقال هو تحطيم البنية المعنوية للأسير من أجل تغيير معتقداته ما يعرضه لشتى أنواع القهر والتعذيب، وعلى الأسير في هذه الحالة أن يظهر قوة وصلابة لمواجهة ممارسات السجان، وهذه العوامل كلها تدفع الأسير باتجاه التعبير عن قضيته وأفكاره كي تترسخ أكثر، وهنا تصبح الكتابة بابا آخر للمقاومة، في معادلة أوضحها فرج أن السجان يمارس العنف والإذلال والممارسات القمعية، معنويا وجسديا ونفسيا، والأسير يلتقط هذه المشاعر ليواجه آلة القمع، من خلال المعنى الذي يتلقاه من آلات التعذيب ليحوله إلى قضية إنسانية وفلسفية.

ويؤكد فرج أن المؤمنين بالقضايا النضالية يذهبون بتجاه الأدب والفلسفة وخلق نمط لحياة بديلة عن النمط القائم القمعي، وتصبح علاقات الأسير أكثر إنسانية بالتجربة الحية المباشرة.

وبالإضافة إلى ما سبق، قد يكون إلحاح الناس على معرفة خبايا السجن وكواليس التجربة، دافعا مهما للأسير لتوثيق تجربته، ففرج الذي ظل لسنوات طويلة يحكي قصة انتزاع الحرية في سهرات وندوات ولقاءات، ويرد على أسئلة الناس حول تفاصيل التفاصيل، أثار اهتمامه أن يبحث عمن يقوم بتدوين مشاعره وتجربته، لأنه لم يستسغ فكرة الكتابة عن نفسه، إلى أن التقى بالكاتبة أميرة الحسيني، التي كتبت رواية “على بوابة الوطن.. دهاليز الخيام”.

أهمية أدب السجون

وحول أهمية التوثيق يقول فرج مستدلا بتجربته الروائية، عندما كنت ألتقي بالناس، كانوا يسألونني عن تفاصيل تفاجئني، وكأنهم عاشوا التجربة معي، حتى أنني دعيت في إحدى المرات، بعد مرور زمن للحديث عن قصة الهروب، ولزيارة معتقل الخيام بعد التحرير عام 2000، وكان الناس يعرفون المكان وأحداثه من خلال الرواية، نتيجة الصورة الحقيقة التي نقلتها الرواية، والصدى الذي تركته، مبينا أن الرواية الحقيقية التي تعبر عن قصص حقيقية لها دلالات رمزية مهمة في كل الأجيال والمراحل، ومن المهم دائما إحياء التجربة، لأنها توثق الاحتلال وممارساته ومواقف المناضلين منه وما فعلوه ضده.

ويؤكد فرج أن التجربة عندما تحيا من خلال الأدب فهي تصنع عند الأجيال حالة رافضة للاحتلال وعدم القبول بالذل، والبحث الدائم عن الحرية المطلقة، مشددا على أن الحديث عن التجربة أو الكتابة عنها له عواقبه.

لماذا لا يحب المحتل أن يكتب الأسير تجربته؟

عطفا على ما سبق، يرى فرج أن الاحتلال لا يقبل بالفضيحة، وعندما يكتب الأسير ينكشف الاحتلال وتفضح ممارساته وصورته الحقيقية، ولذلك يحاول دائما أن يمارس قمعه على من يحاول الحديث عنه بطريقة لا تتناسب مع أهدافه، مستذكرا أيام اعتقاله، عندما كان يتحرر أحد الأسرى ويدلي بتصريحات إلى الإعلام كان المحتل يفرض عقوبات جماعية على الأسرى بهدف تخويفهم ومنعهم من الكلام مستقبلا، ما جعل من الأوضاع الصعبة في معتقل الخيام مغيبة، إلى حين عملية الهروب التي قام بها فرج ورفيقه عساف.

وفجر 6 أيلول 1992 نفذ المقاومون المعتقلون في معتقل الخيام داوود فرج ورفاقه الثلاثة عملية هروب من المعتقل، إلا أن واحدا منهم انفجر فيه لغم واستشهد، وآخر أصيب بجروح وأعيد اعتقاله،  في عملية صنفت على أنها من أجرأ عمليات المقاومة التي قام بها الأسرى.

يحظى باهتمام القارئ العربي

إن كتابات الأسرى التي خرجت من سجون الاحتلال لاقت تفاعلا كبيرا على الساحة الأدبية الفلسطينية والعربية وذلك لأن القارئ العربي عندما يرى رواية بأسلوب أدبي قوي، تضاف إلى الأدب العربي، وتحقق الإبداع الروائي، يقرأها من هذا الباب، إلى جانب العشق الداخلي لفلسطين التي لا تغيب عن قلوب الشعوب العربية، لذا نجد اهتماما كبيرا جدا في الرواية الفلسطينية خاصة أدب السجون، بحسب الكاتب وليد الهودلي.

ويرى الهودلي أن الكتابة في هذا الحقل، في تطور وتقدم كما ونوعا، إلا أنها ليست غنية بما يكفي ولا تتناسب مع عدد الأسرى في السجون وحجم مأساتهم.

 والعام الماضي (2021) كشفت إحصاءات هيئة شؤون الأسرى والمحررين الفلسطينيين، أن عدد حالات الاعتقال في صفوف الفلسطينيين منذ حرب النكسة بلغ نحو مليون حالة اعتقال.

وفي سؤال حول ما إذا كانت موهبة الكتابة مطلوبة لإنجاز العمل الأدبي، أم أن معاناة الأسرى في الزنازين تكفي لإنجاز العمل، قال الهودلي لـ”صحيفة الحدث“: “وجود الموهبة مهم جدا لكن إن لم تتوفر، يوجد ما هو أهم، كالتحدي والانتماء للقضية التي تشعر الأسير أنه يريد أن ينجز عمله لتحقيق نضاله من أجل قضيته، وهذه العوامل تؤدي لأن يكتب الأسير. 

ولا يعتبر أدب السجون مادة مثيرة للقراءة فقط، بل مادة دسمة للدراسة أيضا، يعنى بها طلبة الجامعات كمشاريع لأبحاثهم ورسائل الماجستير والدكتوراة، ففي لبنان على سبيل المثال لا الحصر، اختارت طالبة الدراسات العليا ساندي درويش، أدب السجون موضوعا لرسالتها، التي خلصت إلى أن هذا النوع الأدبي جاء ليكون وسيلة التعبير الأقوى عن الرفض للقمع وحبس الحريات، وأنه كان أسمى وأعظم الطرق التي استطاع الأدباء من خلالها أن يرووا أحداثا حصلت معهم في السجن، والعوامل النفسية التي فتكت فيهم، كما أن البحث في هذا النوع من الأدب يؤكد لنا أن الأدب يستطيع أن يطرق كل الأبواب حتى تلك المقفولة، وأن هذا النوع الأدبي ليس مجرد عاطفة وأحداث مأساوية إنما مليء بالبلاغة والاختزال والتركيز والتوازن والعمق والبساطة.

وفي حديثها مع “صحيفة الحدث“، قالت درويش إن عينة التجارب الأدبية للأسرى التي قامت بدراستها، تقاطعت في نفس مرارة الألم وصعوبته وشقائه، فجميع الأسرى في أعمالهم كتبوا عن الظلم والاستبداد نفسه، على الصعيدين الجسدي والنفسي، بالإضافة إلى النزعة الثورية الرافضة للخضوع إلى السلطة القمعية، والتوق إلى الحرية.

الأمر الذي أكده الأسير المحرر داوود فرج بقوله إن الأسرى في كافة سجون العالم يتشابهون كثيرا، لأن مضمون الأسر واحد، فهي قضية إنسان في وجه متغطرس، مع اختلاف الوقائع والظروف.

وحول سبب اختيار درويش لأدب السجون موضوعا لرسالتها أوضحت أن هناك عوامل شخصية وموضوعية، وذلك بهدف الغوص في نفوس هؤلاء المعتقلين وكيف تأثرت عقولهم ونفوسهم وكيف تبدلت شخصياتهم داخل السجن، من خلال معرفة القصص والمواقف التي حصلت معهم، وأيضا الاطلاع على الأسباب التي توقعهم في السجن، بالإضافة إلى رغبتها في الإضاءة على هذا العالم، من خلال استطلاع آراء بعض الأدباء الذين ذاقوا مرارة السجن ولمعرفة كيف تناول أدب السجون هذا الأمر وكيف استطاع أن يطرح هذه القضية.

وثائق السجون المغربية حوار ناذر مع الاخ محمد الشطبي رحمه الله من اقبية السجون المغربية عام 2003م

هذا حوار مع أحد المختطفين المعتقلين الذين أنكر وزير حقوق الإنسان وجود حالات عنهم، وغير وزير الاتصال صفتهم من الاختطاف إلى الاعتقال. محمد الشطبي مواطن مغربي مسلم عمرة ثلاثون سنة، أحب أفغانستان وسافر إليها ليقدم لمسلميها خدمات اجتماعية ومادية انطلاقا من واجب التضامن الإسلامي، كما يكشف في هذا الحوار الذي خص به جريدة “التجديد” عبر أجوبة من السجن بناء على أسئلة قدمت له سلفا، ويمضي المختطف المعتقل ليكشف كيف تم اختطافه بعد عودته من أفغانستان، وأساليب التعذيب الرهيبة التي مورست عليه وعلى أخيه كمال. وعلى باقي المختطفين والمعتقلين دون أي خرق للقانون بالمملكة المغربية. تهمتهم الوحيدة هي أنهم شاركوا في الجهاد الأفغاني، وصلتهم بالمجاهدين الأفغان والعرب. وكما يكشف المختطف المعتقل عن بعض المختطفين المغاربة وغير العرب الذين استقدموا من المعتقل الأمريكي السيء السمعة غوانتانامو، ويصر الرجل المختطف على أنه لم يرتكب شيئا ضد بلده ويرجو له الخير، ويناشد الجمعيات والمنظمات الحقوقية والإعلامية للوقوف إلى جانبه وجانب المختطفين في محنتهم حتى تضمن لهم على الأقل المحاكمة العادلة وأن تثبت براءتهم من التهم الملفقة
المنسوبة إليهم.
محمد الشطبي.. أنت مختطف ومعتقل الآن بسجن عكاشة بالدار البيضاء. ولكن سبق لك أن سافرت إلى أفغانستان، كيف سافرت إلى هناك ولماذا؟
لقد سمعت وقرأت عن أفغانستان الشيء الكثير وتحسست معاناة المسلمين هناك رجالا ونساءا وأطفالا، فراودتني فكرة الذهاب إلى هناك والوقوف على مأساة هذا الشعب المسلم عن قرب خاصة بعد أن حدثني بعض الأصدقاء بإسبانيا عن إمكانية الانخراط في العمل الإغاثي التطوعي الذي أحبه منذ الصغر. والذي كانت تقوم به بعض المؤسسات القليلة هناك، والأمر يتعلق بمؤسسة الوفاء الخيرية التي قصف مقرها بكابل وجمدت أرصدتها في كل مكان والتهمة طبعا معروفة ومعلومة.
وبالفعل فقد قررت الذهاب إلى أفغانستان وذلك في أواخر يوليوز 2001، وبالمناسبة فقد ارتأيت أن أصطحب معي أخي كمال (20 سنة) ليقضي العطلة الصيفية معي، خاصة وأنه كان ضعيف التدين وخفت إن أنا تركته وحده في إسبانيا أن يزيد تأثره بالبيئة الفاسدة وبرفاق السوء الذين كان يعرفهم هناك.
وصلنا إلى هيرات أوائل شهر غشت انخرطنا مباشرة في العمل التطوعي الإغاثي بمخيمات اللاجئين الأفغان على الحدود الأفغانية الإيرانية، وحقيقة كانت أوضاع الناس هناك مزرية للغاية خاصة الأطفال والنسوة. مما يجعل القلب يتفطر كمدا على هؤلاء، بحيث لا يجدون طعاما أو شرابا ولا دواءا بينما خيرات المسلمين وأموالهم تنهب نهبا وما بقي منها فمكدس في بنوك أوربا وأمريكا…

باختصار فقد مكثنا حوالي الشهر والنصف بهيرات وقندهار، وبعدها حل ما حل بأمريكا من تلك الضربات التي خدشت كبرياءها وأسقطت الكثير من ادعاءاتها بمعرفة كل شيء والتحكم في أي شيء..، فبدأت التحرشات بالإمارة الإسلامية في أفغانستان وبالمجاهدين العرب الموجودين هناك وعلى رأسهم أسامة بن لادن… فوجدنا أنفسنا ملزمين بالتحرك إلى “كابل” حيث وجود العرب على الخط الأول مواجهة مع قوات التحالف الشمالي، أخذنا مواقعنا مع المجاهدين العرب والطالبان وغيرهم على السواء. وهذا الأمر أي (وجودنا في خط المواجهة) لم يكن منه مفر لا من الناحية الشرعية امتثالا لقوله عز وجل (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر) ولا من الناحية الواقعية. فبقينا بهذه المواقع قرابة شهر ونصف تحت قصف الطيران الجبان. ننتظر الإنزالات المزعومة للأمريكان أو تقدم قوات الشمال، لكن شيئا من هذا لم يحدث، بحيث اختارت أمريكا كعادتها قتال الجبناء، أي الاعتماد على القصف العشوائي الذي تضرر منه المدنيون بشكل كبير جدا. مما دفع بالملا عمر أن يعطي أوامره بالانسحاب حفاظا على أرواح المدنيين. هذا الذي لم يتقبله كثير من المجاهدين داخل أفغانستان أو خارجها. والذي لا
يعرف العقلية الأفغانية يصعب عليه تفهم هذا التصرف (الانسحاب) ولكن الأفغان بحكم طبيعتهم الصلبة ليس عندهم مثل تقديراتنا للأمور، ففتح كابل أو سقوطها لا يشكل عندهم أمرا خطيرا كما نعتبره نحن. فتقديراتهم أنهم ماداموا في جهاد وماداموا يحملون السلاح فإنهم سينصرون وسيعاودون فتح كابل اليوم أو غدا. فالحرب سجال.

بعد سقوط كابل انتقلنا إلى جبال “خوست” (ستكاندو) غير بعيد عن جبال (شاهي كوت) حيث جرت الملحمة العظيمة والمعركة التاريخية (شاهي كوت) التي اشتشهد بها أعز الأصدقاء على قلبي الأخ هشام عنقود المكنى بأبي بكر رحمه الله 23 سنة.
لزمنا تلك الجبال طيلة شهر رمضان المبارك ونحن ننتظر مجيء الأمريكان والإنجليز في لهف وشوق، ولكن الجبناء الذين يملكون أكبر قوة في العالم عددا وعدة أخلفوا الموعد مرة أخرى والتزموا طريقتهم الخبيثة وهي الاعتماد على القصف العشوائي للمدنيين والإيعاز للمنافقين من أجل ترهيب الأهالي من وجود العرب، حتى أصبح وجود العربي في قرية من القرى معناه المسح الكلي لهذه القرية… فجاءت الأوامر مرة أخرى بإخراج كل العرب من أفغانستان مادام أنهم أصبحوا المستهدفين الرئيسيين في معركة غير متكافئة… فخرجنا إلى باكستان عبر مجموعات وبمساعدة رجال القبائل ووقفاتهم البطولية إلى جانب المجاهدين العرب. فقد خدموا المجاهدين خدمة جليلة ومؤثرة لا يمكن أن تفسر إلا بصدق انتسابهم لهذا الدين. كنا نغادر القرى والقبائل بأصوات بكاء النساء وتعلق الأطفال بنا ودعواتهم. تعلمنا من أولئك البسطاء دروسا قوية في معاني الأخوة ونصرة المسلمين وتحمل المخاطر المهلكة من أجل التيسير على المعسرين. فجزاهم الله خير الجزاء.
متى تم اختطافك وهل تحكي لنا عن ظروف ذلك وأين ذهب بك المختطفون؟ وماذا فعلوا بك؟
عدنا أدراجنا المغرب لأجد نفسي في دوامة يشيب لها الولدان أنسانا أبطالها جرم أمريكا ووحشيتها على شعب أفغانستان المسلم. ذلك أني بعد أن أمضيت عيد الأضحى لسنة 2002 بالمغرب عدت إلى إسبانيا شهر أبريل لأتدبر أموري هناك. ففوجئت بمكالمة من المغرب تخبرني بأن المخابرات اقتحموا بيت أحد الأسر بحينا وهم أصهار لأحد الإخوة (بريطاني مسلم) استشهد في أفغانستان، يبحثون عنه حينما علموا عن صداقته لي. ومنذ ذلك الحين بدؤوا في البحث عني ووضعوا بيتي وأسرتي تحت المراقبة إلى أن تم اختطافي يوم 29 شتنبر 2002 ،بعد أن عدت للمغرب لزيارة والدي المريض الذي كان طريح الفراش، حيث قاموا بمحاصرتي بأعداد هائلة من الأفراد والسيارات في أحد الأحياء الشعبية وهددوني بإطلاق النار إن أنا أبديت أية مقاومة، فأخذوني في سيارة بعد أن عصبوا عيني وأشربوني بعض الماء من قارورة كانت معهم شعرت بالدوار وفقدت توازني ولم أستيقظ إلا وأنا بإحدى الزنازين الانفرادية عرفت فيما بعد أن المكان قرب مدينة تمارة من خلال أصداء وتشجيعات الجماهير عشية نهاية كأس العرش في كرة القدم التي كانت تصل للزنازين من المركب الرياضي الأمير مولاي عبد الله بضواحي تمارة. هناك

بدأت رحلة أخرى ليس إلى أفغانستان ولا إسبانيا ولكن رحلة العذاب والمآسي بحيث سأفاجأ بصوت أخي كمال وهو يصرخ من العذاب. فعلمت أنهم اختطفوه هو الآخر، من مركز الحدود باب سبتة، حيث صرح لي بعد ذلك بأن شرطة الحدود سلمته للمخابرات فأخذوه إلى معتقل تمارة، الذي مكثنا فيه ما يقارب الشهرين، وفي الحقيقة لا أعرف كيف أصف لكم ما عانيته هناك طيلة هذه المدة من تعذيب جسدي ونفسي حيث أصبت بالهوس والجنون والهذيان إلى درجة أني حاولت الانتحار بغير شعور رغم علمي بحرمة ذلك. لكن الأمر كان فوق طاقتي بكثير. وعلى كل حال فقد تفنن أبطال معتقل تمارة “الأشاوس” في التنكيل بي فبين ضرب وركل وتجريد من الثياب وتهديد بإحضار الزوجة والأم والأخت واغتصابهن، وإيقاظ بالليل، وأصوات صراخ الإخوة واستغاثتهم، والإهانات وسب الدين والرب عز وجل حتى في شهر رمضان المبارك أمام المختطف والكلام البذيء الذي لا يتفوه به إلا السفلة والساقطون،… و..
فقد كان اليوم يمر هنا كالسنة والسنتين من جراء تلك الجرائم التي تذكرنا بما سمعناه عن محاكم التفتيش وبطش اليهود ضد الفلسطينيين.
وبعد أن مرت تلك الأيام العصيبة 50 يوما أو أزيد بقليل حملوني ذات صباح إلى سيارة معصوب العينين لأفاجأ بأخي كمال هو الآخر متواجدا بها بعد أن كنت أظن أنهم قد أطلقوا سراحه لصغر سنه وبراءته فهو لا يعرف شيئا ولم يفعل أي شيء يخالف لا القانون الأرضي أو السماوي، فأخذونا بعد ذلك إلى ولاية الأمن، لأجد نفس الصوت الذي كان يسألنا في الأيام الأخيرة بمعتقل تمارة يعيد علينا بعض الأسئلة بعدها أمروني بإمضاء بعض الأوراق كانت حالتي الصحية جد متدهورة لا تسمح لي بالامتناع عن التوقيع خاصة وأنهم هددوني بالعودة إلى تمارة. وبعد ذلك قدمونا إلى النيابة العامة التي أمرت باعتقالنا أنا وأخي كمال تحت طائلة من التهم الباطلة والتي لا أصل لها ولا فصل منها تكوين عصابة إجرامية والتزوير والهجرة السرية و… و… و…
ما نوع الأسئلة التي كانت توجه إليك وكيف كنت تجيب؟
تتعلق الأسئلة بسفري إلى أفغانستان: طريقة السفر والأعمال التي قمت بها هناك والتداريب والأفراد المغاربة الذين التقيتهم وقد كانوا يركزون على بعض الأفراد كثيرا. ثم عن الأفراد الذين أعرفهم بأوروبا وبعض الدول الخليجية، وعن بعض الأفراد الذين يسكنون بسلا خاصة المتهمين منهم ببعض الأفعال، كما عرضوا علي مئات الصور لأشخاص أغلبهم مغاربة وبعضهم أجانب. اعترفت لهم بكل ما أعرفه من معلومات لعلمي أن هذه المعلومات لا تشكل خرقا للقانون وليس فيها إيذاء لأحد. فحتى من عرفتهم بأفغانستان لا أعرفهم إلا بكناهم، ولكن المشكل كان يقع حين يسألونني عن شيء أنا لا أعرفه فيظنون أني أكذب عليهم فيكون رد فعلهم هو مزيد من الضرب والعذاب حتى أضطر لمداراتهم بأي طريقة حتى بالكذب. ولذلك فإنهم لما لم يجدوا أي دليل على ارتكاب أي عمل يخرق القانون لفقوا تلك التهم التي أشرت إليها كتبرير لاختطافي، بل صرحوا لي أنه لولا أن خبر اختطافي وأخي كمال شاع في الداخل والخارج لبادروا لإطلاق سراحنا!!
هل التقيت ببعض المعتقلين المستقدمين من معتقل غوانتانامو الأمريكي في المعتقل السري بتمارة كما أشرتم في بيان الاضراب عن الطعام؟

بخصوص الإخوة المستقدمين من غوانتانامو فقد أكد لي أحد الإخوة وهو موجود معنا هنا بعكاشة بعد أن قضى هناك بتمارة ثلاثة أشهر وأن معنوياتهم عالية وأنهم استقدموا 23 فردا منهم واحد موريطاني، وقد كان دائم الصياح والاحتجاج على تواجده هناك بتمارة. كذلك الشيخ أبو عاصم (محمد تبارك) وهو من قدماء المهاجرين لأفغانستان وكذلك محمد العلمي المكنى أبو حمزة، والأخ سعيد بجعدية. وأبو حمزة البرطاني شاب من أبوين مغربيين مولود ببريطانيا يده مبتورة جراء القصف على جبال (طورة بورة) و(أبو أحمد الشنقيطي) و(عبد الفتاح الطباخ) من بريطانيا و(عبد الرحيم الفقيه) من مواليد بلجيكا وغيرهم وقد كان أحد الإخوة يكلمهم خلسة من تحت باب الزنزانة، كما أنهم جاءوا ببعض الإخوة من سوريا في حالة صحية يرثى لها جراء ما تعرضوا له هناك على يد المخابرات السورية. منهم الشاب (أنور الجابري) 23 سنة يكنى (جليبيب) وهو مكسور اليد والأنف والأخ المكنى شعيب صاحب الجنسية الإيطالية وزوجته كذلك إيطالية. وهناك أيضا بعض الإخوة من السعودية منهم (أبو عاصم) المكنى (الدّبْ) وغيره ممن لا نعرف أسماءهم ولا كناهم، وخير استقدام هؤلاء الأسرى صرح به أيضا بعض المحققين
بحيث جعل يعرف بهذا الاستقدام في معرض حديثه عن رجولة المغاربة (يعني المخابرات) وأنهم جاؤوا بهؤلاء المغاربة من غوانتانامو حماية لهم. زعموا!!
من التهم الموجهة إليك وإلى أمثالك أنكم من سما يسمى “السلفية الجهادية”. ما حقيقة ذلك؟
أنتمي لهذا الدين العظيم انتماء من يشهد شهادة حق بأن الله رب لا رب سواه وبأن نبينا محمدا قدوتنا

إننا نظن أن الاختطاف والتعذيب وتلفيق التهم الباطلة وترويع الأهالي وبث الذعر في أوساطهم لا يخدم قطعا مقتضيات دولة الحق والقانون التي جعلها ملك البلاد أملا وهدفا على حد سواء. بقدر ما تؤسس هذه التصرفات الرعناء للمفهوم الحقيقي وليس الجديد للسلطة، هذا المفهوم الذي تجذر عبر محطات بائسة من تاريخ المغرب وأصبح من الصعب مفارقة وسائل البطش والاعتداء الصارخ في سبيل تحقيق الاستقرار المزعوم. وكأن رواد هذا المفهوم القديم/الجديد يجهلون أو يتجاهلون أن الظلم لا يولد إلا الظلم والعنف لا يؤدي إلا إلى عنف مضاد، وأن الإرهاب الحقيقي هو إرهاب الدولة ضد أبناءها ومواطنيها الذين لا تقل غيرتهم على بلدهم عن غيرة غيرهم، بل غيرتهم أشد وأعظم لأنها غيرة حقيقية لا غيرة مصالح ومناصب…
ولا نكفر أحدا من المسلمين من الذنوب الغير مكفرة ما لم يستحله، نرجو للمحسن ونخاف على المسيء.
وعليه فإن خيار الاختطاف والإخفاء القسري، والتعذيب الذي يمارس في السر والخفاء ويقابله الإنكار والتكذيب في العلن كما هو شأن الوزير المكلف بحقوق الإنسان ليس خيار العقلاء، علما بأن هذه التصرفات لا يمكن أن نعزلها عن سياق الحرب العالمية على الإسلام وأهله التي تتولى كبرها أمريكا راعية “السلام والأمن العالميين”!!!. وعليه فإن الانصياع التام لأوامرها وتوجيهاتها مقابل مصالح مزعومة ليس له حد إلا بأن يفارق كل المغاربة دينهم الذي ارتضاه الله لهم، مصداقا لقوله تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) ولا يتم ذلك إلا بالضرب على أيدي المصلحين عموما والإسلاميين خصوصا وإن اختلفت أفكارهم وتلويناتهم. وفسح المجال أمام تيار الزندقة من أهل الزيغ والانحراف عبر بعض الجرائد والمجلات والسينما وغيرها من الوسائل الهدامة. ولذا فإن دور العلماء في رد هذا العدوان الهمجي دور مهم ومحوري. ودور أصحاب المنابر الدعوية عموما موأصحاب المنابر السياسية خصوصا دور حيوي في مدافعة أهل الفساد والإفساد بكل الوسائل.
وبالمناسبة فإني أناشد باسمي واسم المعتقلين فيما يسمى “السلفية الجهادية” الذين يعتبرون أول ضحايا الحرب العالمية على “الإرهاب”/الإسلام بالمغرب. أناشد كل الشرفاء من جمعيات ومنظمات حقوقية وهيئات إنسانية وأحزاب إسلامية وعلماء وطلبة علم بأن يقفوا مع إخوانهم في هذه المحنة حتى نضمن على الأقل المحاكمة العادلة التي تقتضي بأن يتابع المرء بما عمل فقط، وليس بما لفق له من تهم باطلة نحن منها مبراء مائة في المائة.
وأشكر جريدتكم الغراء على ما تبذله من جهد لنصرة المظلومين. والسلام
حاورته خديجة عليموسى

التجديديوم 05 – 02 – 2003

https://www.maghress.com/attajdid/10622

قراءة في كتاب “عائد من المشرحة” لأحمد حو – عبد الرحيم مفكير

أحمد حو يعود من طاولة المشرحة ومخالب الموت، ليكشف بعضا من المستور عن مغرب الاعتقال وانتهاك حقوق الإنسان في مرحلة عصيبة من تاريخه، سنوات الجمر والرصاص. من حي الإعدام حيث كان يموت كل يوم، يطارده شبح المشنقة أو الطلقات النارية، نجا بقدرة إلهية، وتدرج في العقوبة من الإعدام مرورا إلى العفو الذي لم يطلبه، وألحت أمه التي واكبت أحداث الاعتقال وتعرضت هي ووالده لكل أشكال الاستفزاز والحيف، أن لا تخط أنامله رسالة العفو، لأنها بكل بساطة اعتراف بجريمة لم يقترفها أحمد الذي زج به في السجن، وهو في ريعان الشباب، ليأخذ منه زهرة عمره، 15 سنة (1983 /1998). لمجرد رفع لافتة تطالب بالعدالة الاجتماعية، وتخليدا لذكرى شهداء 81 م. ابن الشبيبة الإسلامية تأتيه الطعنة من قيادة التنظيم الذي انتمى إليه وهو يبحث عن الحقيقة حيث تدرج بين تنظيمات ذات مرجعية إسلامية، ليجد نفسه في حي الإعدام.

زيارة مفاجئة للموت:

في زوال يوم شديد الحر لمحتهم وهم يحملون “الحاج ثابت” إلى حتفه، كان من عادته كلما نودي عليه للزيارة يمشي بخيلاء وعنجهية، قاسي النظرة قوي الشكيمة لكن في يوم إعدامه كان يمشي على رجليه ويكاد يسقط رغم قوة بنيته. ولم يصدق كل ما قيل له عن أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد تنقيل روتيني، أحسست كأني أنا المساق إلى الموت لا أكاد أشم إلا رائحة الموت من حولي لم يعد بعد ذلك اليوم أمان، فقد أعدم يوم عطلة أسبوعية وهو يوم الأحد في واضحة النهار، وهو ما يعني أن الموت لم يعد زائرا منتظرا في الليل فقط، بل أيضا في عز النهار، ولم يعد الإعدام مختصا فقط بقاطني حي الإعدام بل فقط يكفي ان تكون محكوما بعقوبة الإعدام ولا يهم أي حي سجني تقطنه، وحتى في أوقات الراحة والعطل كانت الحركة تتوقف في أيام السبت والاحاد وفي العطل ومع سكون الحركة تهدأ النفوس، لكن بعد إعدام الحاج ثابت كل المعايير انقلبت، حتى مزاعم أن المغرب الذي لم يعد ينفذ عقوبة الإعدام، بعد سنة 1981م تبخرت، فعاد الموت يرفرف علينا بجوارحه بقوة وأكثر مما مضى، ليال وشهور قاسية مرت علينا بعد إعدام الكومسير المذكور، لم يعد للنوم أو للأكل طعم، فكل الآمال تبخرت وأصبح الموت قريبا منا بعد أن كان بعيدا عن حي الإعدام وعن المحكومين بالإعدام في أي سجن أو أي حي كانوا لأكثر من عقد من الزمن”.    هي أيام بلياليها خيم فيها شبح الموت على أحمد، وطيفه لم يفارقه، لا يمكن لعاقل أن يتخيل نفسية أحمد ومن معه، ممن انتظروا، حتى تمنى الواحد منهم إنهاء هذا الألم والكابوس المزعج بنزع الروح من جسد لم يعد يستنكر التعذيب لكثرة ما مورس عليه.

مسار ناج من الموت:

عائد من المشرحة لأحمد حو شهادة عن سنوات عجاف من تاريخ المغرب، سرد بكل عفوية ودون تكلف عن وقائع وتجربة وراء الشمس بآلامها وآمالها، حديث عن الطفولة والبحث عن الحقيقة والنضال السياسي، سيرة كشفت عن بعض البقع الكالحة، والقضايا الخفية والعصية عن التفكيك والتحليل، سيرة هي عصارة تجربة أليمة ستلقي به في مواجهة الموت الذي بقي كظله لا يفارقه طيلة أكثر من عقد من الزمن حيث أدين سنة 1984 بحكم الإعدام إثر تضامنه وثلة من رفاقه مع ما أسماها آنذاك وزير الداخلية ادريس البصري “انتفاضة شهداء الكوميرا”.

في “مقبرة الأحياء” أو “حي الإعدام”، كما يحلو لل”حو” أن يسميه، بدأت الرحلة الطويلة بعد الحكم عليه بالإعدام، الشاب أحمد الذي لم يتجاوز عمره ال 24 سنة، لما كان يمعن النظر في حي باء وفي ساكنته ويرى أن حي الموت هذا الذي يشبه الهلالية في تصميمه والذي يحتله صمت رهيب، كان دائما يحيره السؤال ماذا يصنع هنا؟ وهو الذي لم يسفك دما وجرمه الوحيد أنه كتب شعارات منددة بالنظام، يطيل النظر في المشرحة فلا يجد إلا جرائم الدم المشفوعة بالتشديد فمن قتل أكثر من اثنين أو قتل وأحرق الجثة أو قتل واغتصب.. إلخ.

جاور الموت وبقي في سجال جدلي معه، في كل حركة، مفتاح أو دبيب خطى حارس، وفي كل همسة وسكنة وفي دياجير الليل وفي واضحة النهار، ساحاته وزنازنه كأنها تنطق جهارا بكل الذين زاروه وسيقوا إلى ساحة السجن أو غابة المعمورة لينفذ فيهم الإعدام رميا بالرصاص.

عاشر قافلة من الشهداء والقتلة زارته من حدب وصوب، من مقاومين تظاهروا أيام الاستعمار في غشت1953م، ومن معارضين سياسيين وقوافل من الشهداء من أمثال عمر دهكون ورفاقه، وادريس الملياني وانقلابي قصر الصخيرات والطائرة الملكية كالملازم كويرة والكونولين محمد أعبابو، وذكريات مع مغتصبين للأطفال والنساء من شاكلة المتشوق والحاج ثابت، إنها بالجملة مشرحة لا تشم فيها إلا رائحة الموت الزؤوم.

أحمد قاوم الموت ولم ينهزم أمامه، كان مفروضا عليه أن يقارعه في موطنه، أن يحدق فيه بعينين حادتين، لدرجة أنه في كثير من الأحيان يستنجد بالموت لمقارعة الموت، ولذلك فلا غرابة إن كان يدخل في إضرابات مميتة لدرجة أن الأطباء المتابعين لوضعه الصحي لم يترددوا ذات مرة في الإعلان عن موته، وتسجيل شهادة وفاة له يقينا منهم أنه من المستحيل أن يعود للحياة، وكان الهجوم على الموت في عقر داره هو الذي بمنحه في كثير من الآحايين تحدي الموت والهروب من مخالبه.

أحمد المتعدد:

لا يمكنك لك أن تسجن أحمد في زاوية ضيقة بالرغم من انتسابه مبكرا للحركة الإسلامية، وتدرجه في البحث عن الحقيقة من البوتشيشية مرورا بجماعة التبليغ والشبيبة الإسلامية وانتهاء بالحركة من أجل الأمة، فالرجل عصي عن التصنيف، إنه المتعدد في الواحد، لأنه جعل من الدفاع عن حقوق الإنسان وكرامته عقديته، الذي لا تميز بين الخلائق بالنظر إلى انتماءاتهم، وإنما من منطلق آدميتهم.

ومن هنا جاءت سيرته/مذكراته “عائد من المشرحة” محاكمة لشخوص وأحداث سنوات الرصاص وما ترتب عنها فيما بعد، شملت مختلف الطيف السياسي للتيار الإسلامي ومكونات اليسار خصوصا منه الراديكالي، وقد لامس تجربته من منظوره قضايا ساخنة، وفي كثير من الأحيان صادمة طلوعا وهبوطا، وأصعبها والتي ما زال الغموض يحوم حولها قضية اغتيال الزعيم الاتحادي عمر بن جلون، الذي ما زال طيفه يراود أبناء حركة الشبيبة الإسلامية، ليؤكد ولأول مرة أن أحد المتورطين، وقد عاشوا معه في زنازن الإعدام سنين عديدة، أنهم في ليلة ما قبل ارتكاب جريمة الاغتيال، اجتمع معهم عبد الكريم مطيع رئيس جمعية الشبيبة الإسلامية. وأمرهم بقوله: اقتلوه ولا تفلتوه“. شهادة صادمة قد تميط اللثام على حقائق كثيرة.

كما تطرق” عائد من المشرحة”، إلى حركات إسلامية مغربية شغلت الساحة الوطنية وماتزال من قبيل حركة الشبيبة الإسلامية والعدل والإحسان وجمعية الجماعة الإسلامية حركة التوحيد والإصلاح حاليا، واستفاض في ذكر عبد الإله بن كيران وموقفه منه، وتحدث عن اليسار خصوصا منه الراديكالي في شقيه “23 مارس” و” إلى الامام” والمرتبط أساسا بتجربة الاعتقال، وذكر  شخوصا وأحداثا عاينها أحمد خلال تجربته المريرة سواء في فترة اعتقاله أو بعد الافراج عنه من تلك الشخوص الناجون من تازمامارت، محنة الفقيه الزيتوني، إعدام الكومسير ثابت، نفي المعارض اليساري ابراهام السرفاتي.

وماذا بعد:

” هرمنا وتعبنا وكدنا أن نموت … من أجل هذه اللحظة”

إنه يوم 5 شتنبر 2016 م افتتاح مقبرة ضحايا أحداث البيضاء 1981 م كان حدثا استثنائيا بالنسبة لأحمد فبعد 33 سنة من اعتقاله بسبب تعليق لافتات، وكتابة شعارات، احتجاجا على العنف والقتل الهمجي الذي صاحب الاحداث، ها هي قبور الذين قتلوا بغير حق ودفنوا في مقابر جماعية في جنح الليل، يتم تكريمهم وأصبح بإمكان المعذبين وعائلاتهم تأبينهم والترحم عليهم، ولم تعد قبورهم مجهولة. وتوجت مجهودات صاحب ” عائد من المشرحة” بتأسيس الهيئة المستقلة للتعويض وهيئة الانصاف والمصالحة، والمشاركة في تأسيس جمعية ضحايا سنوات الرصاص المنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف، وتم الوقوف أمام أبشع السجون السرية من بينها تازمامارت ودرب مولاي الشريف، الذي سامه جلادوه فيه سوء العذاب، وتابع أحمد عن قرب المفاوضات الممهدة لتأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة، والاشتغال بالمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان ونسخته المعدلة المجلس الوطني لحقوق الإنسان.

ينتظر أحمد العدالة الإلهية ليس من أجل التلذذ بآلام الآخرين حتى ولو كانوا من الجلادين الذين أذاقوا المعتقلين أنواعا من التعذيب والتنكيل، لأن نفوسهم الأبية لن تكون مصاصة للدماء وتحن لصنوف من الانتقام، فيكفيهم أن يعتذروا ويتخلوا عن مناصبهم السامية.

قبل القراءة:

لا بد قبل أن تقٍرأ الكتاب، ف”عائد من المشرحة ” كتاب جاء في سياق الكشف عن الحقيقة ونفض الغبار عن محطة تاريخية مؤلمة، تضمنت صورا ووقائع لم يطلع عليها الكثير من المغاربة، وتكتسي هذه المذكرة أهمية كبيرة بإمكانها أن تقطع مع مرحلة الحيف والظلم وتؤسس لمغرب العدالة والمساواة وحرية التعبير والديمقراطية، تأتي المذكرة في وقت تطالب فيه هيئات بإلغاء عقوبة الإعدام، وتحقيق المصالحة الوطنية والقطع مع الاستبداد. وتشد القارئ ل” عائد من المشرحة” صفحة الغلاف “الحمامة” التي تحلق عاليا وهي تحمل حبل المشنقة وتحاول إخراجه من سجن ظالم مظلم، توخيا للانعتاق والحرية وكسر قيود الظلم.

ولن تغني هذه الأسطر عن قراءة ” عائد من المشرحة” لأحمد حو عن دار الوطن والذي قدم له عبد النبي الشراط، والمحجوب الهيبة، ومحمد السكتاوي ويقع في 233 صفحة وتضمن مقدمة، وعشرة فصول الأول عنونه ب: قبل الاعتقال، الثاني: بدأ حملة الاعتقال، الثالث: الاستضافة وإكرام الوفادة بدار الحجاج، الرابع: الانتقال إلى مقبرة مقاومة كريان سنطرال، الخامس: محاكمة مجموعة 71، السادس: الرحلة نحو ألكاتراز المغرب، السابع: الانتقال إلى سجن عكاشة، الثامن: وأخيرا انفتح الباب الكبير للسجن، التاسع: عود على بدء، العاشر: وماذا بعد؟ كما ختمه بأربع ملاحق وصور شاهدة على مساره.

يشار إلى أن أحمد حو من مواليد المحمدية سنة 1959 م قضى أزيد من 15 سنة بداخل السجن باعتباره معتقلا سياسيا محكوم بالإعدام.

حصل على الاجازة في القانون الخاص عمل صحفيا بجريدة النبأ مختصا بحقوق الانسان، التحق بعد ذلك للعمل بالمجلس الاستشاري لحقوق الانسان، كلف بمعالجة الشكايات ثم مسؤولا عن تدبير الشؤون اللوجيستيكية، ومكلف بمهمة لدى الأمانة العامة للمجلس.

أحد مؤسسي المنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف وعضو مكتبه التنفيذي.

عمل على بلورة تصور هيئة الانصاف والمصالحة المختصة بجبر أضرار سنوات الرصاص واشتغل بها، وهو أيضا أحد مؤسسي منتدى الكرامة لحقوق الإنسان، وناشط حقوقي ينتمي إلى منظمة العفو الدولية وينشط في مجال مناهضة عقوبة الإعدام.

24 يونيو، 2021

القضاء يتابع المعتقل حسن إشعاع في قضيتين و الأخير مضرب عن الطعام و زوجته تناشد التدخل

بسم الله الرحمن الرحيم

و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين و على آله الطيبين الطاهرين و على صحبه أجمعين

أنا زوجة المعتقل حسن إشعاع المعتقل بالسجن المحلي بسلا 2 تحت رقم اعتقال 3302 ابتداء أتقدم بجزيل الشكر لجميع المسؤولين عن اللجنة المشتركة للدفاع عن المعتقلين الإسلاميين نظير المجهودات التي تبذلونها لمساندة المعتقلين الإسلاميين.

وبعد زوجي اعتقل على خلفية قضية لا علاقة لها بما يطلق عليه ” الإرهاب” و حكم بسنة قضاها و أتمها خلف القضبان إلا أننا فوجئنا بمتابعته وهو رهن الاعتقال على ذمة القضية الأولى بقضية ثانية على خلفية قانون مكافحة الإرهاب بدون أي جريرة أو ذنب! مع أنه ليس له أي تحركات في الإطار الجديد الذي توبع على خلفيته، فزوجي رجل مستقيم أحسبه كذلك و الله حسيبه غالب اهتمامه منصب على تحصيل القوت اليومي لإعالتي و عياله.

يوم 20-10-2022 عند زيارتي لزوجي بالسجن المذكور ذهلت لرؤيته في حالة صحية نفسية وجسمية صعبة و متدهورة نتيجة دخوله في إضراب مفتوح عن الطعام منذ حوالي الشهر بسبب الحكم عليه على خلفية قانون مكافحة الإرهاب ب 3 سنوات ظلما أضيفت للسنة التي حكم عليها في الملف الأول الذي اعتقل أساسا لأجله، و كذا الزج به في زنزانة العقاب الإنفرادية طيلة 24 ساعة منذ مدة طويلة جدا دون تمتيعه بحق الفسحة القانوني، ناهيك عن أن الزيارة مسموح بها فقط مرة كل 15 يوما لدقائق معدودة، هذا مع حرمانه من التوصل بملابس له لا بشكل مباشر و لا عبر الإرساليات البريدية من طرف الأسرة، مما خلف لي أزمة نفسية بسبب ما يحدث لزوجي دفعت بي للمتابعة الصحية لدى دكتورة طب نفسي و كذا تدهورت حالة والده الصحية حتى أصبح طريح الفراش

و يذكر أني خلال آخر زيارة وجدت يدا زوجي عليهما آثار الأصفاد و زرقاء اللون لا أدري لم يكبل بها علما أنه داخل السجن و لم يخرج منه لا إلى المحكمة و لا لغيرها منذ شهر غشت 2022.

و عليه أناشد السلطات المغربية التدخل عاجلا لإنقاذ حياة زوجي من هلاك محقق إذا ما استمر في إضرابه عن الطعام و إعادة النظر في ملفه الثاني الذي حكم على خلفيته ب 3 سنوات و تمتيعه بحقوقه الآدمية و إخضاعه للرعاية الصحية إلى حين إطلاق سراحه، كما أهيب بجميع الجمعيات و المنظمات الحقوقية و المؤسسات الإعلامية النزيهة مؤازرة زوجي لإيصال صوته و مظلمته.

و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

زوجة المعتقل الإسلامي

حسن إشعاع

23-10-2022

المصدر موقع اللجنة المشتركة للدفاع عن المعتقلين الاسلاميين

في الذكرى العاشرة لرحيله: قدور اليوسفي واعتقال والدي الحاج الجيلالي لعماري.الحلقة أولى

بقلم عبد الله لعماري

في الذكرى العاشرة لرحيله: قدور اليوسفي واعتقال والدي الحاج الجيلالي لعماري.حلقة أولى

مرت عشر سنوات على ارتقاء الوالد إلى الرفيق الأعلى، سريعة كسرعة الدهر الذي يجري كما تجري الشمس نحو مستقر لها، إذ افتقدناه رحمه الله سنة 2012 في متم شهر شتنبر.

وإذ أستحضر الذكرى أستحضر معها مايميز المجتمعات الإسلامية عن غيرها، في فضيلة التشبت القوي للأبناء بذكريات وآثار ومناقب الأباء والأمهات، فتبقى تلك الآثار والمناقب معالم هادية في مسار الحياة، ومظلات واقية وحامية للأصول والجذور والموروث الجمعي في الهوية والقيم والأمجاد.

ووالدي الحاج الجيلالي رحمه الله، كان هو المدرسة الأولى لي الحياة ، التي فتحت عيني على المبادئ العليا والقيم السامية والمثل النبيلة، غير أن تشربي لهذه المرجعية الصافية الراقية قادني بعيدا في الإبحار والإيغال في لجج الأمواج العالية العاتية، لما حملت في عقلي وروحي وعلى كاهلي مثل شرفاء البلاد هموم مستقبل وطن في الحرية والعدالة والكرامة.

لكنني وأنا أحلق في هذا الفضاء الحالم أرهقت معي المعلم الأول الحاج الجيلالي إرهاقا عرف فيه بسببي رعب الاعتقال، وعرف فيه أيضا ظلمات سنوات الجمر والقهر والرصاص.

ففي سنة 1981 شهر ديسمبر، شنت الأجهزة الأمنية حملة اعتقال واختطاف في عموم المدن المغربية استهدفت الصفوف القيادية للحركة الإسلامية آنذاك في الخط التنظيمي المرتبط بما عرف بالشبيبة الإسلامية، بعد أن تم تحويله إلى ماسمي بتنظيم الجماعة الإسلامية، وكنت واحدا من المجموعة القيادية السرية لتنظيم الشبيبة الإسلامية، التي باشرت هذا التحويل، وأسست وقادت التنظيم الجديد للجماعة الإسلامية.

كان ظاهر هذه الحملة من الإعتقالات هو أن تتمكن الأجهزة الأمنية من إعادة اكتشاف ورسم الخريطة التنظيمية الجديدة لهذه الحركة الإسلامية، والوصول إلى الفرز بين قياديي الجماعة الإسلامية وبين من تبقى في الشبيبة الإسلامية.

كانت هذه مهمة أمنية بسيطة تباشرها الأجهزة الأمنية السياسية الميدانية، ولكن الهدف الباطني والخفي الذي كانت تتوخاه الاستراتيجية الأمنية العليا للمهندسين الأمنيين الكبار، هي إعادة ترتيب أوضاع الحركة الإسلامية من خلال تشكيل التوجه الجديد الذي استخلف كليا الشبيبة الإسلامية، وهو تنظيم الجماعة الإسلامية، وذلك باتخاذ الاعتقال وسيلة تصفوية وتطهيرية تروم صوغ الجماعة الإسلامية بما يتلاءم مع المرحلة الجديدة وحملها على القطيعة مع الماضي بتفكيك بنيتها الفكرية السابقة وبنيتها التنظيمية السرية.

وهكذا تم تشديد الظغط داخل المعتقل على العناصر القيادية الأصيلة والرئيسيةلإقصاءها من الترتيبات المستقبلية، وكان المستهدف الأكبر من هذه العملية التطهيرية هو المرحوم الحاج علال العمراني، فقد كان العمراني هو القيادة الفعلية والميدانية للشبيبة الإسلامية، طيلة عهودها، ولما نشأت الجماعة الإسلامية سنة 1981 كان هو العقل المدبر والمفكر، وهو القائد التنظيمي المباشر، على عكس مايدعيه لنفسه الآن عبدالإله بنكيران. وكان الضغظ عليه يروم كسر معنوياته وحمله على الإنسحاب بعد الخروج من الإعتقال لإفساح المجال لمن كانت تعده هذه الإستراتيجية الأمنية ليكون مقدم هذه الجماعة وغفيرها.

أما علاقة هذا الحكي بشقاوتي وشقاوة والدي معي بسببي في هذه الحملة من الإعتقالات، هو أنني أعتقلت بالصدفة في منزل المرحوم العمراني، لما كنت قد قدمت إلى منزله لتفقد أبناءه وحاجياتهم بعد إختطافه بأيام، وصادف وجودي على باب المنزل، استقدامه من طرف الأجهزة الأمنية لتفتيش بيته، فكانت فرصة ثمينة للأمنيين لاصطيادي بدون عناء، وكانت صدمة قاسية لأخينا المرحوم علال العمراني،الذي رأى في هذا الاعتقال/ الاصطياد نكبة ستحل به وستحل بالتنظيم السري الذي كنا نقوده جميعا دون أن أكون معروفا.

حينما كان الأمنيون يسوقون المرحوم علال العمراني إلى بيته من أجل التفتيش، كنت أنا واقفا على باب بيته في الطابق الخامس والأخير، وإذ لحقوا بي دون أن أفطن، أسقط في يدي ، فلم يبق لي مجال في أن أصعد إلى أعلى لأتفادى مواجهتهم، ولم يبق لي سوى مجال المناورة، وفي ثانية قاسية من الزمن القاسي، ارتسمت في ذهني خيوط المناورة حينما التقت العيون بالعيون، في لحظة كان فيها العمراني قد اسود وجهه واربد من وقع صدمة المفاجأة.
فرح الأمنيون بضبط صيد ثمين، قد يكون لهم في نظرهم أفضل مما قد يأتي به التفتيش، وفوجئ المسكين علال العمراني وأنا أنقض عليه بعناق حار مصحوب بقبلات حارة، وأنا أناديه بصوت بدوي في المدينة ،كيف حالك آلفقيه، ثم أعرج على باقي الأمنيين بالعناق والقبلات، متظاهرا باعتباري لهم ضيوف الفقيه. وقد كان العمراني إمام الجمعة في مسجد بورنازيل.
لم ينطلي عليهم هذا التظاهر، وتوعدوني أنهم سيعرفون مني بعد حين هذه القصة ، قصة الفقيه.
في لحظة خاطفة، غافل العمراني الأمنيين الغارقين في التفتيش والجرد، ليهمس في أذني رحمه الله كلمة تهد الجبال مما كانت تطفح به من ألم المحنة والخوف، فقال لي: لاتذكرني ولو قطعوك إربا إربا، فأجبته بنفس النبرة والحمولة: لن أذكرك ولو ذوبوني وصيروني بخارا. وكنت بالفعل أهيء نفسي لصلابة العزم في معركة قادمة قاسية.
في كوميسارية لمعاريف سيئة الذكر بالرعب في ذلك الزمن، سأعرف القصة كاملة بكل فصولها الدامية، وكيف كان المرحوم العمراني في محنة شديدة، ذلك أنه كان يدفع عن نفسه كل معرفة وكل مسؤولية عن تنظيم الشباب، ويتنصل من ذلك بكل ماأوتي من قوة ومن إصرار ومن دهاء، بالرغم من أنه كان في واقع الأمر الكل في الكل، وكان الرأس الكبير في العمل كله، كان يؤكد للأمنيين بأن علاقته بالشبيبة الإسلامية كانت من خلال الجمعية، وليس من خلال الحركة، وأن الجمعية أغلقت أبوابها منذ سنة 1975 عند اغتيال عمر بن جلون، وأما الجماعة الإسلامية فلا علم له بها. لكن رفاقه الذين كان يظنهم رجالا كانوا يغدرون به وفي مواجهته بين يدي الأمنيين المحققين به، كان عبدالإله بنكيران يكشفه ويعريه وفي وجهه ويلقي عليه مسؤولية التنظيم كلها في وجهه وأمام المحققين، وكان سعد الدين العثماني يتحدث عنه بشفافية وبسخاء كبير وبكل أريحية، وكان العمراني يتشبت بالإنكار رغم الإحراج الشديد، وبينما هو كان يتخوف من التبعات في المستقبل، ومن محاكمات محتملة، كان هؤلاء في اطمئنان وهناء ضمير على المستقبل، ولكن بعض رفاقه من الدارالبيضاء كانوا رجالا أفذاذا واجهوا آلة التعذيب الرهيبة بالصمود والصمت،بالرغم من أنهم كانوا قياديين في التنظيم، أمثال محمد بيرواين وابراهيم بورجة وعبدالرحيم ريفلا وعبدالله بلكرد.
والآن جاء دوري، وقد ظن الأمنيون أنهم وضعوا أيديهم على الحجة التي ستقصم ظهر العمراني، وستحرر لسانه من عقاله، بعد أن سيتحرر لساني أنا الأول من عقاله، وسيصلون إلى الخريطة التي يبحثون عنها، رغم أن المؤلفة قلوبهم معهم الآنف ذكرهم أوضحوا لهم بعض هذه الخريطة.
لقد كنت في أيديهم غنيمة نفيسة، لذلك كان العمراني في كرب شديد من وجودي.

والدهم في الزيارات المكثفة بالليل والنهار، أنهم لا يبرحون صالة الضيوف، ولكن هؤلاء الوافدين الجدد دخلوا غرفة نوم والدهم،وبحثوا في دولاب الملابس، كنت جالسا أرقب هذا الوضع المحزن، ويجول في خاطري كم هي غالية ضريبة حمل فكرة للإصلاح والتغيير والإنبعاث، ومخالجة حلم وهم للإرتقاء بشعب ووطن وأمة.
في الطريق إلى كوميسارية لمعاريف، في السيارة التي تكدسنا فيها نحن والأمنيين، كنت مسكونا بفكرة واحدة: الهروب متى سنحت الفرصة، لأن الكلمة التي دسها العمراني في أذني لما قال لي لاتذكرني ولو قطعوك إربا إربا، تناسلت في ذهني بما تصورت به أن الأمر جلل، وأننا ماضون إلى مجزرة بما يشبه السجن الحربي وما وقع فيه للإخوان المسلمين في مصر جمال عبدالناصر، وقد كنا متأثرين بما نقرأ في الكتب التي روت فظائع ماوقع.

عبد الله لعماري


رمي بي في عنبر تتكدس فيه أجساد العشرات من موقوفي جرائم الحق العام، الروائح الكريهة للعرق ودخان السجائر والمرحاض الفائض والمغرق لمن يتمدد من حواليه، والإسفلت العاري إلا من بعض أجزاء الكارتون التي كانت من بذخ بعض المحظوظين.
كان الواحد من هؤلاء الموقوفين على ذمة جرائم السرقة أو القتل، يساق إلى مكاتب التحقيق ماشيا على قدميه، وحينما يعود، يعود محمولا في مانطا لايقوى لا على الوقوف ولا على الحراك ولا على الكلام، سوى كلمة واحدة يهمسها لرفاقه، أنه لم يعترف لهم، تلك هي لمعاريف أيام زمان.
كان هذا المنظر يمدني بإكسير الحياة ويبعث في طاقة عظمى على مواجهة ماقد يأتي، إذا كان هؤلاء يصمدون للتعذيب وهم قتلة ولصوص ورجال عصابات، فكيف بنا نحن المناضلون المثقفون النبلاء أصحاب الأفكار والدعوة إلى الله والطامحون إلى مجتمع أصلح وأفضل وأرقى، وكنت أبدأ في شحذ أسلحتي للمعركة القادمة، مع خصم يمتلك أسلحة هي وسائل التعذيب والبطش والإهانة لانتزاع الإعترافات، وأسلحتي التي أملك هي الصمود والتحمل والصمت والتحدي، هي معركة بين الآلة والإرادة، بين الفتك بالجسد وبين إستعلاء الروح وكبرياء الهمة والعزم.
ثم إن هناك هذا العهد الذي بيني وبين العمراني الذي استوثق مني واستحلفني أن لا أذكره، وهو الأعلم بما ينتظره، وقد حكى لي بحسرة، كيف أثقل عليه إخوانه وكشفوه وعاكسوا إنكاره في وجهه، دون ضغط ولا إكراه ولاحتى لطمة خد، و الأمر من ذلك، وقد حكى لي أن بنكيران والعثماني وآخرين كانوا يفعلون ذلك وهم يضاحكون القوم ويتلاطفون معهم وكأنهم في نزهة أصدقاء، وليسوا في معتقل محنة وتنكيل، بينما هو كان غارقا في هواجس الخوف والكمد وأوجاع الضغط والإكره والإحراج.
ثم إنه كان علي أن أخفي إخواني وأجنبهم محنة الاعتقال، وهم كانوا لايمارسون سوى أنبل الوظائف في توجيه الشباب وإرشادهم وتربيتهم على العقيدة الإسلامية والخلق الإسلامي والوعي السليم الذي ينهض بالأمة والبلاد في إطار تاريخها وهويتها وثوابتها الوطنية كما رسمه الكفاح الوطني ضد الإستعمار البغيض، وهم كانوا يمارسون ذلك دون تفكير عدواني أو تهديد لأمن البلاد أو المؤسسات، في إطار تنظيمي، كانت الأوضاع السابقة قد تساهلت مع وجوده حتى أصبح عرفا متعاقدا عليه بين الدولة وأجهزتها ومؤسساتها وبين الحركة الإسلامية، ثم إن هذا التنظيم السري كنا قد أعددنا له خطة في إطار ماسميناه بالجماعة الإسلامية لتحويله إلى العمل الشرعي القانوني حالما تتهيؤ الإرادة السياسية للجهات العليا في البلاد لقبول وجوده القانوني، كل ذلك كان بفعل وتخطيط الفاعلين الحقيقيين في التنظيم، وليس كما يدعي عبدالإله بنكيران الذي لم تكن له أنذاك أي قيمة تنظيمية ولاقاعدة ولانفوذ تنظيمي.
ثم إنه كان علي أن أواجه هذه المحنة، وأن أنجح في هذا الإمتحان وأنا الآن في قيادة تنظيم الجماعة الإسلامية ، بعدما كنت قد نجحت فيه عند اعتقالي سنة 1979، لما كنت حينها من قياديي الشبيبة الإسلامية .

لا زلت أواصل الحكي، حتى يعرف القارئ الملابسات والأسباب الداعية إلى اعتقال والدي رحمه الله، والذي هو موضوع هذه الحلقات، وإنما فصلت في هذه الحلقات لأمهد لهذا الحدث المؤلم، الذي كان من منهجية الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، سنوات الجمر والرصاص، إذ كانوا يسوغون مؤاخذة الأب بجريرة الإبن.
ذات صباح، وبينما أنا متكوم إلى جانب الأكوام البشرية من أبناء الشعب البؤساء، الذين تآلفت معهم في ذلك العنبر، أعد العدة النفسية والفكرية لمواجهة آلة المحقق، إذ جاء النداء المزلزل بصوت أجش من حارس العنابر: عبدالله لعماري، تكعد آلصكع.
نهضت مستجيبا للنداء، فوجدت في انتظاري رجلا لطيف المظهر لطيف الحديث، رافقته إلى مكتب غاص برجال جميلي الهندام، وقد أثارني فيهم ذلك العطر الأخاذ الفواح في أرجاء المكتب، إلى الدرجة التي رافقتني فيها رائحة ذلك العطر عشرات السنين، إذ إنغرس في أعماق ذاكرتي، فكلما شممته تذكرت التحقيق والتعذيب في مكاتب الكوميسارية سنطرال.
بدأ الحديث لطيفا مهذبا بسؤالي عن علاقتي بالمرحوم علال العمراني، فكان جوابي أن الفقيه أصلي عنده الجمعة، وجئت عنده أستفتيه في بعض مسائل الصلاة، حاولوا مرارا استدراجي للحديث غير ذلك، وتمسكت بجوابي، وسئلت هل أنا من الشبيبة أم من الجماعة، كان جوابي أنني لاأعرف هذه الأسماء.
أمام إصراري على تجاهل مايريدون، تبخر الأدب وطارت اللطافة، وفي لحظة تطاير الشرر وزمجرت الشتائم، ودخلنا في مسلسل طويل من أنواع التعلاق والجلد، وكل ما كنا نعرفه في ثقافتنا، أنه التعذيب لانتزاع الاعتراف، كل شيء تغير في أصحابي المعذبين،من الرزانة والهدوء، إلى الخطاب المرغي المزبد البذيء، والنظرات الشزراء، والوجوه المكفهرة، والحركات المتشنجة باللكم والرفس. والمعاطف وربطات العنق المنزوعة والمرمية، إلا شيئا واحدا بقي صامدا في ذلك المكتب الذي تحول إلى حلبة افتراس الإنسان لأخيه الإنسان، شيئا واحدا كان صامدا ويعاندني في صمودي وإصراري على نفس الجواب ، إنه ذلك العطر الساحر العبق الفتاك بذاكرتي، النفاذ إلى أعماق أحشائي، والذي لم تقوى على تغييره سحائب دخان سجائرهم الأمريكية، وحده ذلك العطر بقي يشعرني أنني مع بني الإنسان وليس مع قطيع ذئاب.
بقينا في نفس اللعبة جولات وأياما حتى استقر رأي أصحابي على تغيير خطة اللعب، وانتقلنا إلى حي البرنوصي لتفتيش البيت، طامعين في فك شيفرة هذا الشاب الذي يتحدث ببداوة وسذاجة ودروشة من درجة البلادة.
في الطريق وفي البيت لما ولجناه، كنت اتربص بالفرار فرصة، وكنت أعول على بنيتي القوية لأتدافع، ولكن القيود كانت مانعة.
أمام بيتنا ولمانزلت من السيارة مقيدا ومحاطا بأصحابي الأمنيين، تحلق حولنا بعض الشباب بوجوه غاضبة، أومأت لهم بحركة ارتياح ، وقد كنت متخوفا من أن يبدأ القذف بالحجارة، خاصة وأن الصغار والشباب في حي البرنوصي يكرهون البوليس، ولما تندمل بعد جراحات ماوقع في البرنوصي خلال انتفاضة 20 يونيو، في معارك شوارع مع البوليس، سقط فيها جرحى وقتلى.
كان البيت من ثلاثة طوابق، ولما سألني أصحابي عن أي الغرف أضع فيها أغراضي، أجبتهم بأني أضعها في كل الغرف، وبأسلوب التحدي بدؤوا يفتشون كل الغرف، فيما فهمت شقيقاتي الصغيرات القصد من إلهائي لهم، فصعدن إلى غرفتي في الطابق الثالث، وأفرغن مكتبتي من كل الكتب والوثائق باللغة العربية، ورمين بها في أعلى السطح إخفاء لها، ولكنهن تركن في المكتبة الكتب وبعض الجرائد باللغة الفرنسية، ظنا منهن أن الكتب العربية كانت هي الكتب الإسلامية التي قد يبحث عنها البوليس.
غير أن الطامة الكبرى كانت في تلك الكتب والجرائد الفرنسية، والتي ستحول مجرى التحقيق برمته، وظل ذلك من المصائب والطرائف المضحكة.

محامي بهيئة الدار البيضاء معتقل ّإسلامي سابق

محامي بهئة الدار البيضاء معتقل ّإسلامي سابق