حسن الأشرف
يقول الكثيرون في المغرب إن الأدب يبقى أدبًا رغم تقسيمه إلى أدب عربي وآخر أمازيغي، أو أدب رجالي، وآخر نسائي، لأن الكتابة شأن إبداعي وإنساني يحتفي بالتخييل أكثر من الواقع، ولا يعترف بالجنس ولا بالعرق، إلا أن ما يسميه البعض “أدب السجون”، أو “الأدب السياسي”، يأخذ تصنيفًا مغايرًا، نظرًا إلى كونه تعبيرًا إبداعيًا عن تجارب اعتقال سياسي تدور رحاها في الأقبية والمعتقلات.
وأدب السجون في المغرب لم يخرج عن هذا السياق العام، المتمثل في الكتابات التي توثّق لتجربة الاعتقال، سواء أخطّها صاحبها أم دبّجها كاتب متمرس على لسان من عاش تجربة الاعتقال السياسي، لكنه يحفل بِسمة خاصة تتمثل في “ازدهاره” في فترة رئيسية من تاريخ المغرب المعاصر.
سياق زمني
ظهرت روايات تُنسب إلى أدب السجون في المغرب، خاصة في سياق ما عرفته البلاد من محاولات التصالح مع الماضي، أو ما يسمى بـ “سنوات الرصاص”، وهي سنوات الاعتقال السياسي التي تعرّض لها العديد من السياسيين والنقابيين، في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.
وشهدت المملكة في بدايات الألفية الثالثة، وتحديدًا في عام 2004، ميلاد هيئة تدعى “هيئة الإصلاح والمناصفة”، وهي مؤسسة رسمية وضعتها الدولة لجبر الضرر الذي لحق بمعتقلين سياسيين خلال “سنوات الرصاص”، وردّ الاعتبار لهم معنويًا وماديًا، وذلك بهدف تسوية ملفات ماضي الانتهاكات لحقوق الإنسان.
وفي هذه الفترة الزمنية، وحتى قبلها بقليل وبعدها أيضًا، ظهرت تباعًا في المغرب، أعمال أدبية تمتح من “زمكان” السجن فضاءً أساسيًا لروايات تختلف في شخوصها وأمكنتها، لكنها تكاد تتشابه في مضامينها الإنسانية التي تسِمها، خاصة أن الأمر يتعلق بمعتقلات ينطبق عليها المثل القائل بأن “الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود”.
ولعلّ من أشهر ما كُتب في هذا الصدد رواية “الزنزانة رقم 10” لصاحبها الضابط المغربي السابق، أحمد المرزوقي، وهو أحد المتورطين في محاولة الانقلاب الفاشلة ضدّ الملك الراحل الحسن الثاني سنة 1971، حيث زجّ به في سجن “تازمامارت” الرهيب زهاء 18 عامًا، قبل أن يُفرج عنه سنة 1991، ليتجه إلى تدوين مأساته في روايته الشهيرة سنة 2001.
ولم تكن رواية “الزنزانة رقم 10” الوحيدة التي أسست أدب السجون بالمغرب، فقد تلتها روايات أخرى تنهل من المعين نفسه، منها رواية “من الصخيرات إلى تازمامارت؛ تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم”، لمحمد الرايس و”الساحة الشرفية” للكاتب عبد القادر الشاوي، و”يوميات سجين متوسطي” لحسن الدردابي، و”أفول الليل” للطاهر محفوظي، و”العريس” لصلاح الوديع.
تصفية حساب
ويُعرف الروائي المغربي، مصطفى لغتيري، أدب السجون بأنه “الكتابات التي حاولت ملامسة تجربة الاعتقال السياسي إبداعيًا، أي أنها اتخذت من الكتابة وسيلة لتصفية الحساب مع تجربة إنسانية ووجودية ونفسية مريرة، قد يكون المرء قد عاشها فعليًا أو سمع تفاصيلها من أحد السجناء، أو هي فقط عبارة عن تجربة متخيّلة لها ما يدعمها في الواقع، مما حدث لكثير من السجناء وتناقلته الألسنة أو وسائل الإعلام”.
وأفاد عضو اتحاد كتاب المغرب، في تصريح لـ”ملحق الثقافة”، أن هذا النوع من الكتابات نشط في المملكة، خاصّة بعد الانفراج السياسي ما بين القصر وأحزاب المعارضة التاريخية، الذي أدّى إلى إطلاق سراح المعتقلين السياسيين اليساريين على الخصوص، والعسكريين الذين تورطوا في محاولات انقلاب عسكرية فاشلة”.
وأوضح صاحب رواية “ابن السماء” أنه من خلال اطلاعه على بعض نصوص هذا الأدب، وجده بأنه ليس على وتيرة واحدة، فمنه ما يتمتع بقدر من الإبداعية الأدبية التي تجعل منه نصًا أدبيًا بامتياز، ومنه ما غلبت عليه صيغة الشهادة، فجاء كنوع من الوثيقة التاريخية، التي يمكنها أن تقدّم معلومات مهمّة عن مرحلة سنوات الرصاص في المغرب”.
وأورد لغتيري بأنه رغم عدم عيشه لتجربة الاعتقال، كتب رواية سماها “أحلام النوارس” عبارة عن رسالة طويلة وجهها معتقل سياسي سابق، أورثه السجن عللًا نفسية وجسمانية، واكتشف أن الجميع قد تخلّى عنه، بعد أن فاوضوا باسمه، واستثمروا نضاله للحصول على مكاسب سياسية واجتماعية”.
وثيقة الحقيقة
ويقف القرّاء والنقّاد إزاء تجربة أدب السجون في المغرب، على سبيل المثال، موقفين اثنين، الأوّل يؤكّد على جرعة الحقيقة والواقعية التي تمنحها الشهادات الواردة في بعض الأعمال التي تهتم بهذا الصنف من التوثيق الأدبي، خاصة صنف الرواية، باعتبارها مجالًا أدبيًا يسع لسرد المشاهدات والشهادات، بخلاف القصة القصيرة، أو الشعر، أو حتى الرسم.
وأما الموقف الثاني فذاك الذي يرفع عن أدب السجون طابعه التوثيقي والتأريخي، وينفي عنه سرد الحقيقة كما هي، بالنظر إلى أنها أعمال إبداعية تأتي من خيالات كاتبيها، الذين كانوا يسردون ما حدث لهم من منظورهم الخاص، ومن دون معرفة رأي الطرف الثاني، وأحيانًا بعد سنوات عديدة من خروجهم من تجربة الاعتقال.
ويقول أحمد المرزوقي، صاحب رواية “الزنزانة رقم 10″، التي قضى في ظلمتها حوالى 18 عامًا بتهمة مشاركته رفقة عسكريين آخرين، في محاولة اغتيال الملك الراحل، إن روايته تلك كانت نقلًا عن واقع عاشه طيلة سنوات عديدة في أقبية سجن تازمامارت المرعب، الذي فتح في أغسطس/آب 1973، وأغلق في سبتمبر/أيلول 1991.
وبالنسبة للمرزوقي، فإن ما أورده في روايته تلك لم يكن سوى قليل مما عاينه بأمّ عينه في ذلك المعتقل السياسي الذي طبقت شهرته العالم، كما استعان بشهادات رفاقه في السجن ذاته، شهادات ظلّت ذاكرته تحتفظ بها، إلى أن قرر إشراك القارئ والرأي العام تفاصيل التجربة، فاختار خط روايته باللغة الفرنسية أولً لإتقانه لها، قبل أن تُترجم إلى العربية بعد ذلك.
واعتبر الضابط السابق أن عددًا من الأعمال الأدبية التي تناولت حقبة من تاريخ المغرب، متمثلة في سنوات الرصاص التي طاولت معارضين سياسيين كما جنودًا وضباطًا عسكريين، تعتبر وثيقة تاريخية يمكن الاستئناس بها بالنسبة للأجيال الشابة، كما أنها وثيقة لحفظ الذاكرة الجماعية للبلاد، وفضح لتجاوزات الماضي من أجل تفاديها في الراهن والمستقبل”.
ويرى نقّاد أن كتابات أدب السجون، على الأقل في الحالة المغربية، ضمّت بالفعل معطيات بالأسماء، ومعلومات دقيقة عن جلادين وسجانين غلاظ شداد، وسردت أيضًا حقائق وحالات إنسانية، مثل وقوع بعض المعتقلين صرعى للمرض، أو ضحية للجنون، وأثر التعذيب، كما جاء في “الزنزانة 10” أو في روايات أخرى من الصنف ذاته.
وترتبط الشهادات الموثقة في العديد من روايات الاعتقال السياسي بالمغرب، بوقائع تاريخية لها امتدادات داخل فضاء السجن وخارجه، باعتبار أن السجين معني بتهمة غالبًا ما تكون ذات طابع سياسي، وبالتالي “تدين” نظامًا سياسيًا وقضائيًا معينًا، ما يجعلها أقرب إلى الشهادات التاريخية رغم وجودها في قالب أدبي يعتمد على التخييل الإبداعي.
حقيقة مجروحة
وبالمقابل هناك من يرى في عدد من الروايات التي تُصنّف ضمن أدب السجون أو أدب الاعتقال السياسي، بأنها انتقائية لا تروي الحقيقة بوجهيها معًا، وإنما بوجه واحد فقط يسرده الكاتب/المعتقل السياسي، فيما تغيب الحقيقة التي توجد لدى رفقائه أو لدى السجانين، والسلطة التي حاكمته وأدخلته السجون.
ويعتبر نقاد أن العديد من كتاب الروايات التي تستعرض تجاربهم داخل السجن، تعمّدوا إخفاء حقائق عاشوها في المعتقلات، من قبيل ما تعرضوا له من تصرفات أو انتهاكات لحقوقهم، وذلك من أجل عدم “صدم” أقاربهم وأفراد أسرتهم بخصوص الأحداث المرعبة التي عاشوها وتعرضوا لها داخل أقبية السجن.
ويرى البعض أن اتساع الفرق الزمني بين تجربة السجن والاعتقال السياسي وبين فترة كتابة الرواية وأحداثها، غالبًا ما تأخذ سنوات عديدة، وفي حالة أحمد المرزوقي مثلًا خرج من السجن سنة 1991، وخرجت روايته للنور بعد ذلك بعشر سنوات، وهو ما يفضي حسب البعض إلى “نقص” في دقّة التحرّي، وتذكر الأحداث والوقائع، ونسبتها لأصحابها.
وبالنسبة لأصحاب هذا الرأي، فإن أدباء السجن غالبًا ما تكون روايتهم للأحداث التي عاشوها خلف أسوار السجن، وشهاداتهم التي خطوها بين دفتي رواياتهم وأعمالهم الأدبية، يعتورها بعض النقص في نقل الواقع كما هو، لأن تجربة السجن تظلّ تجربة ذاتية وغير موضوعية مثل كل تجربة إنسانية محضة، تخضع للعاطفة حبًا وكرهًا، وللتقدير إيجابًا وسلبًا.
وبالتالي، ولكل الأسباب السابقة، يعدّ البعض أن أدب السجن لا يمكنه إلا أن يقدّم حقيقة منتقاة وجزئية، خاضعة للعامل الذاتي والانطباعي، وحتى للصنعة الأدبية، ولاعتبارات المحيط والمجتمع، وربما لغواية السوق والمردود المادي، علاوة على أنها تستند إلى ذاكرة مشروخة، أنهكها التعذيب والمكوث سنوات في الظلّ خلف الجدران الباردة.