أرشيف الوسم : مذكرات

الزمن النفسي في الرواية السجنيّة العربية: رواية “تلك العتمة الباهرة” للطاهر بن جلون أنموذجًا

مقدمة
تعدّ الرواية العربية الحديثة التي تندرج تحت مسمى “الرواية الأطروحة” أو “رواية السجون” -والتي كان من أبرز روادها الروائي عبد الرحمن منيف- من النصوص السردية التي شغلت الدرس النقدي المهتم بقضايا السرد بصفة عامة، وقضايا الأيديولوجيات والحرية والواقع والخيال وغيرها من اهتمامات النقد المعاصر. بيد أن الرواية المهتمة بتصوير الصراع بين المثقف والسلطة، لها نمط تجريبيّ خاص، وخصوصية سردية تنحو منحى الاستشراف لصور سردية جديدة تفيد من الأجناس الأدبية الأخرى. من هذا المنظور، تتناول الدراسة الرواية السجنية من خلال رواية “تلك العتمة الباهرة” للروائي المغربي الطاهر بن جلون. حيث ركّزت على عنصر الزمن السردي في هذا النوع الروائي الذي يتعالق فيه الزمن النفسي والفلسفي؛ قصد الكشف عن كون هذا التعالق الزمني يساهم في بناء نوع من التشكيل البنيوي لتقنيات الزمن من حيث حركات التواتر والترتيب، من خلال تعالقها بالأزمنة النفسية والفلسفية. لتصل الدراسة إلى صوغ عام يكون فيه الزمن السردي فاعلًا في تصوير الحدث، وتصوير الانفعال وأيديولوجيا الكتابة عامة. ما مكّن من الإجابة عن الإشكالية الآتية: كيف تعامل الروائيّ الطاهر بن جلون مع بنية الزمن في روايته؟ هل كانت بنية الزمن في النص بنيةً دالةً أم اتخذت بعدًا جماليًا فقط؟
أولًا: الروية السجنيّة، وهاجس الحرية
لا شك أنّ تجربة السّجن السياسيّ تجربة إنسانيّة بالغة الرهافة والخصوصيّة. تجترح الذّات، وتحفر عميقًا في ثنايا الروح ما لا يُنسى بما تثيره من أسئلة، أو تشي به من دلالات، أو تحتمي به من قناعات. وليس السجن السياسيّ إلاّ مظهرًا من مظاهر غياب الديمقراطية، واستشراء ظاهرة القمع السلطويّ القاهرة، الذي يصادر حرية المرء، ويمتهن كرامته، ويضيّق عليه الخناق. إنه “الوجه الماديّ للقمع، أو هو القمع المعلَن. حين تمارس السلطة قمعًا آخر غير علنيّ في الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة من خلال مؤسساتها ودوائرها وشركاتها، ومن خلال بيروقراطيتها المنظورة وغير المنظورة على حد سواء”(). لهذا، سعت الرِّواية العربيّة للبحث عن معنى الحريّة وقيمتها في عالم يمور بالفوضى، ويعجّ بمختلف أصناف القهر والاستبداد. ما مكنها من تأكيد حضورها النوعيّ في مواجهة أوجه القمع المختلفة بإطلاق سراح المقموع والمسكوت عنه، و”ضبط إيقاع الصوت المائز لهموم الزّمن الخاص بالواقع وسط إيقاعات الأصوات المتنافرة لأزمنة العالم الذي تحوّل إلى قرية كونيّة فعلًا، لكنّها عبارة عن قرية يختلط فيها الحلم بالكابوس، ويمتزج فيها الوعد بالوعيد”(). حاولت رواية السّجن السياسيّ إعادة بناء عالم السّجون حياتيًا وروائيًا في أبنية سرديّة عدّة، صوّرت مراحل الملاحَقة والتّرويع، والاعتقال والاستنطاق، والتّحقيق واختلاق التُهَم، وانتزاع الاعترافات والتّعذيب حدّ الموت، حتّى غدت دلالة على قمع الدولة التّسلطيّة”().
ربما من أهمّ أسباب اهتمام الرواية العربيّة بالتّعبير عن ظاهرة أساسيّة من ظواهر الرِّواية العربيّة في تمرّدها الإبداعيّ في تجربة السجن السياسي، واتخاذها موضوعًا روائيًا: نزوع الأدب بطبيعته إلى الحريّة، ورغبة المبدع في تحدي القامع، ومجابهته مُسلحًا بالكلمة()؛ بعد أنْ غالت النُظُم المستبدّة في خرق حقوق الإنسان؛ فالأنظمة الدكتاتوريّة “مهما بدت قويةً ومسيطرةً فإنّها ذات أرجل طينيّة، وتحمل بذرة فنائها في داخلها”(). تحاول روايات السّجن السياسيّ تصوير أبرز مظاهر أزمة الحريّة المُتمثِّلة في ممارسة العنف السياسيّ، والاغتراب النفسي، والرّقابة والاستبداد والمطاردة، والتّفنن في صنوف التّعذيب اللا إنساني، وتعمد إلى إدانة أساليب القمع السلطويّ، ورسم سُبل الخروج من عتمة المعتقلات المظلمة بالكلمات التي صارت بديلًا من الموت. ولأن الرواية تجربة وسؤال متجدد إبداعًا ومادةً وتلقيًا، وفي أعماق كلّ تجربة أكثر من إشارة استفهام”()، فقد اتخذت رواية السّجن السياسيّ في مقاومة تجليات القمع صورًا تعبيريّةً شتّى توزّعت بين الطّابع السير ذاتي أو الوثائقيّ، وهي أقرب ما تكون إلى الشّهادات أو المذكرات أو اليوميات كـ (أبو زعبل) لإلهام سيف النّصر 1975 ، و(الأقدام العارية) لطاهر عبد الحكيم، وثلاثيّة شريف حتاتة: (العين ذات الجفن المعدنيّة) 1978، و(جناحان للريح) 1974، و(الهزيمة) 1978، وبين الطّابع الفنيّ التّخييليّ كـ(القلعة الخامسة) لفاضل العزاوي التي زامنت في صدورها رواية (السّجن) لنبيل سليمان 1962، و(ملف الحادثة 67) لإسماعيل فهد إسماعيل 1974، و(نجمة أغسطس) لصنع الله إبراهيم 1974، و(الكرنك) لنجيب محفوظ 1974، و(شرق المتوسط) لبعد الرحمن منيف 1975، و(الآن هنا، أو شرق المتوسط مرّة أُخرى) 1991، و(الروائيّون) لغالب هلسا 1988، وغيرها من الأعمال الروائية. لهذا، غدت رواية السّجن السياسيّ نوعًا من أنواع المقاومة، ووجهًا من وجوه الاحتجاج، وأفقًا تجريبيّ المبنى والمعنى في كشف المستور، وفضح المُغيَّب، وتحرير المقموع. فقد قوّضت بما تمارسه من سردٍ فنيٍ جدران الأقبية والزنزانات المعتمة التي تئد الفكر، وتصادر الحق، والحريات. قصد تأكيد حقّ المُهمّشين والمقموعين في الحريّة، ودورهم في تحقيقها.
ثانيًا: سنوات الجمر والرّصاص، والرواية السجنية المغربية
نهضت رواية السّجن السياسيّ المغربيّة الجديدة بعبء التّعبير عن حدّة مختلف الأزمات المصيريّة السياسيّة التي عصفت البلاد. وذلك من خلال إبراز تجليات العنف الذي يعيد نفسه من خلال صور شتّى لا تهدد الذّات الإنسانيّة إلا بالعدميّة والموت والذّوبان. فقد استحضرت جحيم الزنزانات المغلقة، وفصّلت مشاهد التّرويع والحجر والتّعذيب الراعبة، وفضحت ممارسات القمع السلطويّ المدمِّرة في انتهاكها الكليّ لأبسط القيم الإنسانيّة، وأدانت سنوات العتمة والضياع التي سامت ضحاياها الخسف، وألقت مصائرهم إلى المجهول. تعدّ سنوات الجمر والرّصاص() أقرب الشّهادات على واقع سياسيّ مهترئ البنى، كوّن القمع وأفرزه ولوّنه، ومدّه إلى أن بلغ حدّ الانفصام اللامعقول في امتهان آدمية ضحاياه. ما دفع الرِّواية المغربيّة إلى اتخاذ السّلطة محورًا من محاور اشتغالاتها. لتعكس “مُتخيلًا ثقافيًا واجتماعيًا وتاريخيًا عامًا بُني خلال قرون عديدة. ويبدأ الجزء الأساس من هذا المُتخيل منذ التربية الأولى للمواطن العربيّ، والذي بمقتضاه يعدّ الحاكم ظلّ الله على الأرض(). لهذا، ارتفعت في المغرب وتيرة نشر عدد كبير من الشّهادات والمحكيّات الروائيّة والسّير الذّاتية السّجنيّة التي تقاسمتها “عدّة خصائص جماليّة ودلاليّة تتقاطع عند المنزعَين: الأدبيّ والتّسجيليّ. أمّا النّصوص التي ظهرت بعدهما فيمكن القول إنّ الطابع الإخباريّ التقريريّ قد غلب عليها، وربما كان السبب في ذلك نُضج شروط مغايرة تسمح بقول كلّ شيء مباشرةً ومن دون مواربة”(). ولعلّ من أهمّ كتابات السّجن السياسيّ المغربيّة المليئة بالحوادث والصّور والوقائع والمواقف، والمُوزّعة بين البعد التّوثيقيّ والبعد التّخييليّ: (مجنون الأمل) لعبد اللطيف اللعبي 1983، (كان وأخواتها) لعبد القادر الشاوي 1986، (المغرب من الأسود إلى الرمادي) لأبراهام السرفاتي 1998، (العريس) لصلاح الوديع 1999، (تازمامارت، الزنزانة رقم 10) لأحمد المرزوقي 2000، (درب مولاي الشريف الغرفة السوداء) لجواد أمديدش 2000، (تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم) لمحمد الرايس 2001، (سيرة الرماد) لخديجة مروازي، و(حديث العتمة) لفاطنة البيه 2001، و(تلك العتمة الباهرة) للطاهر بن جلون 2002، وغيرها من الأعمال السردية().
معتقل تازمامارت، وسلطة الفضاء
كشفت رواية الطاهر بن جلون “تلك العتمة الباهرة” وغيرها من الأعمال السردية، عتمة مدافن تازمامارت السّريّة التي أنكرتها السُّلطات المغربية في مرحلة سابقة، وأزالت النّقاب عن أبرز صور الاستبداد والاستلاب والتّشيؤ الصارخة في أقبية التّعذيب اللاإنسانية القاتمة. وتعرّي وجه زبانية الظلمة والرقابة والمطاردة المميتة. ففضاء تازمامارت لم يكن سجنًا سياسيًّا سريًا فحسب، بل كان مَدفنًا وجحيمًا وليلًا سرمديًا طويلًا، وزنزانات ضيقةً “يبلغ طولها ثلاثة أمتار وعرضها مترًا ونصف المتر، أمّا سقفها فواطئ جدًا يتراوح ارتفاعه بين مئة وخمسين، ومئة وستين سنتمترًا”(). حيث لا حياة ولا ربيع ولا عائلة، ولا أصدقاء ولا أحلام ولا أحياء ولا أسماء، ولا شيء غير الأرقام؛ فثلاثة وعشرون سجينًا في الجناح (ب)، كلُّ سجين منهم عبارة عن رقم في قبرٍ/ زنزانة، وفي كلّ زنزانة ثقبان محفوران: واحدٌ في الأرضية لقضاء الحاجة، وآخر فوق باب الحديد لإدخال الهواء(). في تازمامارت لم تكن لديهم أَسرّة ولا حتّى رقعة من الإسفنج بمنزلة فراش، ولا حتّى كومة من القش أو ورق الحلفاء التي تربض عليها البهائم، كانت لكلّ واحدٍ بطانيتان رماديتان خفيفتان مسمومتان بمحلول مُعقم، وخمسة لترات من الماء القذر غير الصالح للشرب يوميًا()، وكذا قهوة رديئة بطعم منقوع الجوارب الكريه، وحصّة من الخبز الأبيض الشبيه بحجر الكلس الذي لا يمكن قطعه ولا حتّى كسره، وعصيدة نشويات مطبوخة بالماء بلا بهارات ولا زيت()، كما كانت لديهم الأمراض التي تتهدّدهم، والأوجاع التي تمضّهم، والعقارب السّامة التي يتعمّد الحارس إطلاقها؛ لتقتلهم بصمت عقابًا لهم فضلًا عن مختلف صنوف الأذى والتّرويع السلطويّ التي تعرضوا لها على أيدي سجّانيهم المُكلّفين بتنفيذ أوامر الضابط/ قائد المعسكر)، وشتّى طرائق الاستفزاز والإرهاب الصادمة؛ يوكّد السارد هذا بعد ما قام حارسا السّجن -بأمر من الضابط- بإدخاله في جُراب واسع مصنوع من مادة متينة، وجرجرته تجاه الباب الخارجيّ؛ ليحفر قبره بيديه، فيقول: “لقد أُعطِيَت لهم الصّلاحية المطلقة في التّصرف معنا وبنا، فما الذي يحول دون عودتهم مجددًا لاقتياد واحد آخر منّا، والتّظاهر بأنّهم يهمّون بتصفيته أو رميه في حفرة ما، أو تعريضه لعقوبة الثبات، إذ يُطمَر الجسم بأكمله مقيّد اليدين والقدمين، ما عدا الرأس الذي يبقى بارزًا سوية الأرض معرَّضًا لشمس الصيف أو مطر الشتاء، ربما كان لسجّانينا لائحة عُدّدت فيها طرائق سوء المعاملة التي ينبغي لهم أنْ يخضعونا لها بحسب أمزجتهم”(). ذلك أن السّجن هو المكان السّيد، والمُتسيّد البطل الذي “يُعيد صوغ الآخر ليس بطبوغرافيته فقط، ولكن بأنظمته وقوانينه وعالمه الكليّ الخاص؛ لأنّ الآخر هنا فاقد الحريّة وهو متلقٍ فحسب”(). إن السّجن بهذا المعنى “لا يكفّ عن كونه ذا أبعاد ومقاسات تميّز انغلاقه ومحدوديته، ويتحوّل إلى فضاء مخصوص ينهض على أنقاض العالم الخارجي المألوف().
الرواية السجنية بوصفها شهادة تاريخية
تشغل الحريّة فكر الروائيّ المغربيّ الطّاهر بن جلون(). وتلحّ عليه، وتُعبّر عن نفسها في أعماله الأدبيّة الروائيّة بوسائل فنيّة شتّى، تتمرّد شكلًا ومضمونًا على آليات القمع؛ لتصير أداةً من أدوات الفعل والتأثير، ووجهًا من وجوه المقاومة. ويوكّد بن جلون في ظلّ تنامي سطوة القهر على أهمية الدّفاع عن الحريّة المسؤولة، وليست حرية الفوضى، واحترام الشّخص بوصفه شخصًا لا كرُكْنٍ في شيءٍ مُجرّدٍ من الواقع، مؤمنًا بأنّ وظيفة الإبداع “تكمن في تجاوزه للواقع السائد الملموس، وهو شرط ضروريّ ليكون الإنسان كائنًا مُتضادًا، يقاوم الذّوبان في المؤسسات القائمة والنّظام السائد(). تستلهم رواية (تلك العتمة الباهرة) شهادة (عزيز بنبين) أحد معتقلي سجن تزمامارت() الرهيب على سنوات الظلمة والوجع، والقهر والانسحاق تحت وطأة السّلطة القامعة التي تتربّص بالإنسان، وتصادر وجوده، وتتهدّده حدّ الذّوبان. حيث تروي الرِّواية مأساة مجموعة من تلامذة مدرسة اهرمومو العسكريين، الذين تورّطوا على أيدي قادتهم العسكريين الكبار في ما سُمّي بـ (محاولة انقلاب قصر الصخيرات الملكي) عام 1971. على الرغم من أن تلك المعلومة التي خرجوا من أجلها كانت بهدف المشاركة في مناورة عسكريّة فحسب، وتقصّ رحلة عذابهم اللامتناهي بعد زجّهم أحياء في قبور تزمامارت التي كان الموت فيها رفاهيةً لا يستحقونها إلاّ مرضًا أو جوعًا أو جنونًا، أو انتحارًا.
الرواية السجنية والسارد الشاهد
يهيمن على رِواية “تلك العتمة الباهرة” الأسى والألم، وتتوشّح سوادًا على امتداد فصولها(). لترسم للقمع صورًا فجائعيّة غرائبيّة صادمة في لا إنسانيتها الطاغية؛ فالمرئيات في الحفرة غائمة، والآمال بعيدة ذاوية، والجراح فاغرة، والموت بطيء، ومسلسل العذاب طويل الحلقات هنا “في باطن الأرض الرطبة المفعمة برائحة الإنسان المُفرغ من إنسانيته بضربات معزقة تسلخ جلده، وتنتزع منه البصر والصّوت والعقل”(). تكشف الرِّواية عبر ساردها الشاهد “سليم” المعاناة النّفسيّة الرهيبة للمسجونين المدفونين أحياء في القبور/ الزنزانات الضيقة، وقد كابدوا مختلف صنوف التّعذيب والاستفزاز والإرهاب، مجرَّدين من كلّ ما قد يشي بإنسانيتهم في رحلتهم الصعبة مع الموت الذي انتزعهم وهم أحياء من حياتهم. يسرد السارد الشاهد/ السجين سليم، بعض فصول معاناتهم في رحلتهم إلى الموت معصوبي الأعين، مكبلي الأيدي، بعد أنْ قضوا الأشهر الأولى في سجن القنيطرة السياسيّ المريع، والمعروف بصرامة قوانينه وغلظة حراسه، والذي بدا لهم – في ما بعد- “سجنًا يُشبه أنْ يكون بشريًا، فهناك نور السماء وبصيص الأمل”()، إذا ما قُورِن بمعتقل تزمامارت المؤبد الذي “شُيِّد كي يبقى إلى الأبد غارقًا في الظلمات”(). تقدّم رواية “تلك العتمة الباهرة” صورة تزمامارت الجهنميّة بطريقةٍ فنيّةٍ. تجعل منه بؤرة السرد المركزيّة التي تساهم في صنع الحدث وتشكيله وتناميه، وقاعدة محوريّة تشدّ مختلف عناصر البناء الروائيّ إليها، ورمزا مهمًا من رموز البحث الدائب عن الحرية المُصادَرة في ظلّ آليات القمع الجائرة التي لا تُفضي إلاّ إلى الخيبة والخواء والصمت. بهذا، يُحمِّل السارد/ الروائي الطاهر بن جلون زنزانات تزمامارت ومدافنها أبعادًا سياسيّةً واجتماعيّةً ونفسيّةً. تمنح العمل الروائي خصوصيّته بوصفها مُكونًا من مُكونات النّص الفنيّة التي تذوب فيه الرؤية، وتتضافر مع لُحمته وسداه. والحال أنّ المكان “لا يعيش منعزلًا عن باقي عناصر السّرد، وإنما يدخل في علاقات متعدّدة مع المُكونات الحكائيّة الأخرى للسّرد (الشّخصيات والحوادث والرؤى السّرديّة)، وعدم النّظر إليه ضمن هذه العلاقات والصّلات التي يقيمها، يجعل من العسير فهم الدور النّصي الذي ينهض به داخل السرد”(). لهذا، تُبرِز الرِّواية مدى اعتناء الروائي الطاهر بن جلون بتشكيل صور المكان واقعًا وتخييلًا مستغلًا طاقاته كلها في تجسيدها وتحميلها بحمولات دلاليّة عدّة. تعكس مختلف ألوان التّشيؤ التي لا تعترف بإنسانيّة الشّخصيّة منذ تجريدها من هُويّتها الخاصّة، وانتزاع اسمها، واستبداله برقم ضائع. يجعل منها نكرة في عداد النّكرات، وحتّى موتها قهرًا وحقدًا وجنونًا؛ فالضابط الآمر الذي لم يطأ أرض المُعتقَل يومًا كان يزعق في وجوه الحراس قائلًا: إياكم أنْ تأتوا إليّ لتخبروني أنّ فلانًا مريض، لا تأتوا إلاّ لتعلموني أنّه مات، لكي تصحّ حساباتي”(). تعيد الرِّواية رسم شخصياتها وفق تشكيلها لصور المكان تلك، حيث تنقلهم من الشيء إلى نقيضه، فمن بيوتهم فوق الأرض إلى مدافنهم السّريّة تحتها ثمّة الكثير ليغيّرهم، ويعيد تكوينهم ماديًا ومعنويًا، ويباين بين مواقفهم ورؤاهم وتوجُهاتهم وطرائقهم في مواجهة الخوف الذي يشقيهم ومصارعة الموت البطيء المحكومين به إلى الأبد على النحو الذي أشرنا إليه سابقًا. فمن “خلال الشخصيات المتحركة ضمن خطوط الرواية الفنية، ومن خلال تلك العلاقات الحية التي تربط كل شخصية بأخرى، يستطيع الكاتب الإمساك بزمام عمله وتطوير الحدث من نقطة البداية حتى لحظات التنوير في العمل الروائي. لكن هذا لا يتأتى بطبيعة الحال من غير العناية وبصورة مدققة وسليمة في رسم كل شخصية وتبين أبعادها وجزئياتها”(). تستثمر رواية “تلك العتمة الباهرة” تجربة “عزيز” الذّاتية بتنوّعاتها ومكوّناتها وأمشاجها ولحظاتها الممتدّة خارج الزّمان والمكان. لتكوين عالم فنيّ مُتخيَّل، تتحكّم في تشييد معماره مُختلف البنى والأدوات الفنيّة من سرد ووصف وفضاء واسترجاع واستباق، فلا يفارق السارد مَسروده، بل يتماهى معه، فيصوغه ويسوقه، ويعيد إنتاجه في كتابة روائيّة سيريّة مُهجّنة يتقابل فيها السارد والروائيّ، ويندرجان معًا في تداخل مستمر ولا نهائي”(). حيث يُلقي الروائي مهمة السرد على عاتق “سليم”. فينهض بها لا بوصفه صوتًا مجردًا فحسب، بل شاهدًا مشاركًا، مؤثرًا ومتأثرًا؛ يشير إلى كاتب يحمل همومًا معينة، ويعيش في بيئة ثقافية وحضارية يتأثر بها ويحاول -من خلال فعل الكتابة- أن يكون له أثر فيها، وتتجه عناية السرديّة إلى هذا السارد بوصفه مُكوّنًا منتِجًا للسرد بما فيه من حوادث ووقائع، وتعنى برؤيته العالم المتخيَّل الذي يكوّنه السرد، وموقفه منه. نظرًا لاختلاف كيفيات حضوره الفنية وعلاقاته وصور تدخلاته وتشكلاته في العمل الفنيّ نفسه. حيث “تختلف طبيعة السارد وموقعه ورؤيته وصورته باختلاف الوظائف التي يقوم بها، وبالمقدار الذي تحظى به كل منها في النص. لأن هذه الوظائف هي نفسها العلامات التي تحدد نموذج السارد، وتضبط موقعه، وتصنع قوامه العقلي والجسدي والوجداني، وتتحكم في طريقة إدراكه للعالم المحيط به؛ وفي طريقة تلفظه وتعبيره عن هذا العالم”(). وتومئ الرِّواية من خلال السارد المتكلّم بضمير المتكلم/ الأنا، إلى أهمية قهر الموت بالتّشبّث بفكرة الحياة؛ فكلّما أطلّ وجه الموت المتقبِّض على السارد في استبقاء الحياة، يحدوه إحساس بالسّلام وقد تصالح مع ذاته بعد أن غمره النور الذي جابه به العتمة. لهذا، فلم تفلح ثمانية عشر عامًا مِن الشدّة في أن تنتزع منه إنسانيته. بل أفلح هو في إفراغ ذهنه من الماضي اكتفاءً باللحظة القارّة، وقمعًا لكلّ ما قد يشي بالشقاء المُرّ والوجع المقيم، مُتخطيًا مشاعر الخوف والرغبة في الثأر أو التّدمير. إذ “كلّما أمكن التّقدم في تبديد مشاعر الخوف والانتقام والغُبن بقول الحقيقة، وتسمية الأشياء توفَّر المناخ النّفسيّ والسّياسيّ الملائم أمام مُصالحة المغاربة مع أنفسهم، ومع تاريخهم، ومع بعضهم البعض”(). وهنا، تتّضح دلالات المكون اللساني (عتبة النص الرئيسة) “تلك العتمة الباهرة” السيميائيّة. فعلى الرغم من جحيم العتمة السرمديّ، ثمّة ضوء يعيد للحياة نسغها، يلوّنها بغير الأسود، ويمدّها بأسباب الخصب والنّماء مُنطلقًا من قلب عتمة القاع إلى نور روح الحريّة والانعتاق. فما زقزقات (طير ثيبيبط) أو (لفقيرة) عصفور الدُوريّ المغربيّ في كُوة تهوية زنزانة السارد “سليم”()، إلاّ بشارة من بشائر الحياة. وما تسلّل اليمامة إلى إحدى الزنزانات في غفلةٍ من الحراس()، وانتقالها بعد اتفاق السّجناء على تسمّيتها بـ”حريّة” من زنزانة إلى الأخرى، وتحميلها رسائلهم الشفويّة الممتلئة بألم البعد، والمفتوحة على الوجع تارةً، والأمل تارةً أخرى إلاّ بصيص أمل، و”مشكاة نُعمى ونور”(). فقد آنست وحدتهم، وبدّدت عتمة محنتهم العظيمة مدّة الشّهر الذي كانت بينهم قبل أنْ يُطلقوا سراحها.
ثالثًا: الزمن في الرواية الحديثة
الزمن النفسي ورواية تيار الوعي
تتباين كيفيّات حضور الزمن بوصفه “المادّة المعنويّة المجرّدة التي يتشكّل فيها إطار كلّ حياة، وحيز كلّ فعل وكلّ حركة”()، فتختلف طرائق إدراكه، وآليات بنائه وتجسيده. حيث يمثّل المكان الخليفة التي تقع فيها الحوادث في حين يمثّل الزّمن الخط الذي تسير عليه الحوادث هذه.
يرتبط الزّمن بالإدراك النّفسيّ على عكس المكان الذي يرتبط بالإدراك الحسيّ. وقد “يسقط الإدراك النّفسيّ على الأشياء المحسوسة لتوضيحها والتّعبير عنها”(). ويمثّل الزّمن محور البنية الروائيّة وجوهر تصويرها الذي يشدّ أجزاءها كما محور الحياة؛ لأنّ “الزّمن وسيط الرواية كما هو وسيط الحياة”(). حيث تستمدّ الرواية أصالتها من كفاية تعبيرها عن ذلك النمط، وإيصاله إلى القارئ، وجميع طرائق السرد وأدواته، تنتهي في التحليل الأخير إلى المعالجة التي توليها لقيم الزّمن وسلاسله، وكيف تضع الواحدة في مواجهة الأخرى”(). ويعدّ الزّمن بحركته وجريانه “المحور الأساس المميّز للنصوص السردية بشكل عام، لا بوصفها الشكل التّعبيريّ القائم على سرد حوادث تقع في الزّمن فقط، ولا لأنّها كذلك فعل تلفظيّ يُخضع الحوادث والوقائع المروية إلى توالٍ زمني، وإنّما لكونها إضافةً لهذا وذاك، تداخلًا وتفاعلًا بين مستويات زمنيّة متعددة ومختلفة. منها ما هو خارجيّ ومنها ما هو داخلي”(). لهذا، يلعب الزّمن بأبعاده: الماضية المُسترجَعة، والحاضرة القارّة، والمستقبليّة المستشرَفة دوره الوظيفيّ الفاعل في تشكيل الحوادث أو تصعيدها، ورسم أبعاد الشّخصيات وتصويرها في قلب المكان الذي ينفعل بحركة الزّمن، ويرتبط به في علائق جدليّة متشابكة توكّد دورهما في النّص، إذ لم يعد الزّمن “خيطًا وهميًا يربط الحوادث بعضها ببعض، ويؤسس لعلاقات الشّخصيات بعضها مع بعضها، ويظاهر اللغة على أن تتخذ موقعها في إطار السيرة، لكنه اغتدى أعظم من ذلك وأخطر”(). وتعني الرواية بالزمن الروائي: الطبيعي الخارجي()، والذّاتي النّفسيّ ودورهما في النّسيج الفنيّ، وأثرهما في بقية عناصر البناء، وإيقاع حركتيهما بوصفها “فنًا لشكل الزّمن بامتياز. لأنّها تستطيع أن تلتقطه وتخصّه في تجلياته المختلفة الميثولوجيّة والدائريّة والتّاريخيّة والببلوغرافية والنّفسيّة”(). يفارق الزّمن الروائيّ المُتخيّل الزّمن الواقعيّ المُتحقِّق على الرغم مما بينهما من علائق تفاعليّة(). حيث يتجاوز المُتخيّلُ الإبداعيُّ الواقعيَّ المنطقيَّ، مُنفتحًا على أزمنة عدّة “تتداخل وتتكاثف وتستغني عن استمراريّة الحركة إلى الأمام من خلال تيار الوعي ومراوحة الزمن”(). وتشكّل تقنياتُ القصّ السّرديّة، من خلال علائقها الوشيجة مع الزّمنِ، الرِّواية، وتمنحها أبعادًا فنيّة. تتجاوز الأزمنة الحقيقيّة إلى التّخييليّة، والطبيعيّة الخارجيّة إلى الذّاتية الدّاخلية، وتؤثّر المفارقات الزّمنيّة التي تنتظم النّص في حركة السّرد وإيقاعه، ودوره في العرض والتّرتيب فـ”تارة نكون إزاء سرد استذكاريّ. يتشكّل من مقاطع استرجاعيّة. تُحيل على حوادث تخرج عن حاضر النّص، لترتبط بفترة سابقة على بداية السّرد. وتارةً أخرى، نكون إزاء سرد استشرافيّ يعرض لحوادث لم يطلْها التّحقق بعد. لتغدو مجرد تطلعات سابقة لأوانها”().
يتداخل الزّمان مع المكان في رواية “تلك العتمة الباهرة”، وتتقاطع دوائرهما في كُلٍ واحدٍ “مُدرك ومُشخّص ليتكثف الزمن ويتراصّ، ويصبح شيئًا فنيًا مرئيًا، والمكان أيضًا يتكثّف فيندمج في حركة الزّمان والموضوع، بوصفه حدثًا أو جملة حوادث التاريخ”(). تتموقع رواية “تلك العتمة الباهرة” بين زمنيْن: زمن اللحظة القارّة، وزمن اللحظة الماضية التي ما زالت تحتفظ بها الذاكرة أيديولوجيًا ووجدانيًا. حيث يتغلغل الماضي في الحاضر في لحظات مُختزَلة مكثّفة موضوعيّة وذاتيّة في آنٍ، ولا سيما عندما ينقطع زمن السّرد الحاضر، لتتداعى اللحظات الماضية من خلال استخدام تقنيات تيار الوعي، أو الشعور الذي “يحاول تقديم داخلية الشّخصيّة على الورق ككلِّ فن روائيّ، والاقتراب قدر المستطاع إلى محاكاة هذه الدّاخلية اعتمادًا على ما نعرفه من علم النّفس الحديث”(). حيث تتشكّل هذه اللحظة الحاضرة السرديّة ممتدَّة الأطراف عبر الماضي وتداعياته وتستحضر الرِّواية عبر روي السّجين “سليم” تقنيات تيار الوعي بأسلوب استبطانيّ استرجاعيّ نفسيّ قوامه: التّذكر والحلم، والحوار والمناجاة. يكشف عن دواخل الشّخصيات العالقة في تزمامارت بما يضيء حاضرها، ويميط اللثام عن وجوه معاناتها وصور اصطدامها مع آليات السّلطة القامعة
هيمنة ثيمة Thema الموت والزمن النفسي في رواية “تلك العتمة الباهرة”
هيمنة ثيمة Thema الموت في رواية “تلك العتمة الباهرة”
تفوح من الرِّواية رائحة الموت على امتداد فصولها، فنقف وجهًا لوجه أمام أبشع صور الموت العدميّ التي طالت جلّ المعتقلين()؛ إذ يقدّم السارد الموت بتقنيات تصويريّة سينمائيّة في مشاهد منفصلة إن أردنا الربط بينها، “فسنخرج باشتراكها جميعًا بتجرّدها عن الإنسانيّة، وبتوظيف الجسد كمادة. كان السّجين “حميد” رقم 12 أول من غادرهم مستدعيًا موته بعد ما فقد عقله، منصرفًا إلى التمتمة بالكلمات الغامضة، جاءه الموت حين ألمّت به الرعدة، وضرب الحائط برأسه مرارًا، أطلق صرخةً متماديةً، ثم ما عاد صوته مسموعًا. أمّا السّجين “إدريس” رقم 9 فقد رفض في أيامه الأخيرة تناول الطّعام الذي كان يمضغه له السّجين “سليم” رقم 7، ويُلقِمه منه لُقيمات صغيرة متبوعة بجرعة ماء، فرقّت عظامه وعضلاته كلّها، وانغرزت أضلعه في مفاصله، وتحوّل إلى “شيءٍ غريب صغير، وفقد كلّ صفة بشريّة لشدّة ما أصابه من تشوهات”(). فإذا كان السّجين “لعربي” رقم 4 قد أعلن إضرابًا عن الطّعام، وترك نفسه بعد أنْ أصابه حرمانه من التّدخين بالجنون، حيث بلغ به نحوله في أيامه الأخيرة حدًا “ما عاد فيه يُشبه البشر، كانت عيناه جاحظتين محتقنتين، وعند ملتقى شفتيه زبد جاف، وعلى وجهه ذي العظام الناتئة سيماء الشقاء كلّه والحقد كلّه”()، فقد قضى السّجين “رشدي” رقم 23 حقدًا على الجميع بعد أنْ أفقده فضاء تزمامارت الذي دخله بلا ذنب عقله، “كان يريد أنْ يقتل الجميع: الحراس، القضاة، المحامين، الأسرة المالكة، كلّ الذين كانوا سببًا في سجنه”(). بينما مات السّجين “بابا” الصعداوي الذي أُلحِق بهم -بتهمة الخيانة وقول إنّ الصحراء ليست مغربية– مُتجمِّدًا من البرد(). أمّا السّجين “مصطفى” رقم 8 فقد مات بلدغة عقرب سامّة، فاجتمعت على جسده الميت عقارب الحفرة كلها(). في حين أنّ السّجين “موح” رقم 1 الذي كان طباخًا ماهرًا في مدرسة أهرمومو العسكريّة، بدأ يفقد رشده شيئًا فشيئًا، فيستدعي أمّه ويحادثها وقت تقديم عصيدة النّشويات والخبز اليابس، فيطعمها تخيّلًا وهو لا يأكل، إلى أنْ خارت قواه ووهن صوته مستسلمًا للموت(). وينتحر السّجين “عبد القادر” رقم 2 عندما يتوقف السارد السّجين “سليم” رقم 7 عن رواية القصص، وسرد الحكايات التي كان يقاوم بها الهلاك/ الموت؛ فقد خارت قوى “سليم” بسبب الحمى، فبُحّ صوته، وتوقف عن الحكي، فاستسلم “عبد القادر” للموت، “كان انتحارًا؛ لأنّه تقيأ دمًا، فلا بدّ مِن أنّه ابتلع أداة حادة”(). ويشنق السّجين “ماجد” رقم 6 نفسه بملابسه، وقد فقد عقله مناجيًا “موحا” الشّخصيّة التي اختلقها من وحي جنونه بداية، مُنتظِرا مَن مات من السّجناء -مِن بَع – ظنًا منه أنّهم ما ماتوا، إنما يتظاهرون بالموت، لرمي الحراس في القبور، والفرار لجلب المساعدة(). وحتّى في الموت ترصد الرواية مفارقات فجائعيّة غرائبيّة لا تدفع إلاّ إلى الشعور بالأسى والكآبة؛ فالسّجين “بوارس” رقم 13 يموت “من الإمساك بعد أن شَقّ شرجه؛ لأنه لم يستطع إخراج برازه، كان يحتبسه أو بالأحرى قوة ما في داخله كانت تمنعه من التّبرز، فيتراكم البراز يومًا بعد يوم حتّى صار صلبًا كالإسمنت”(). أمّا السّجين “عبد الله” رقم 19 فيموت من الإسهال المتواصل()، والسّجين “فلاح” رقم 14 يموت من عدم قدرته على التّبول( )، والسّجين “صبان” الذي أُلحق بهم في مطلع الثمانينيات يموت بالغرغرينة التي “انتشرت في أنحاء جسمه بسرعة كبيرة، فتتجمّع على جثته الصراصير التي كانت تتساقط كالعناقيد مجتمعة”( )، والسّجين “عبد الملك” رقم 5، يموت مسمومًا بتناوله الآلاف من بيوض الصراصير التي خالطت فُتات الخبز الذي كان يحتفظ به في جُراب بطانيته الذي خاطه بنفسه()، ويموت السّجينان “محمد” رقم1، و”عيشو” رقم 17 البربريان جراء مرض مزمن بالسّعال حتّى الاختناق(). وتظلّ رحى الموت تدور فيكتمل موت 18 سجينًا من أصل 23 واحدًا في 18 عامًا، ولا يبقى في قبور تزمامارت الأرضيّة غير خمسة سجناء هم: عاشر، وعمر، وعباس، وواكرين، والسارد سليم.
إن اللافت للانتباه في تلك العتمة الطاغية الأبديّة التّزمامارتيّة (إنْ جاز التّعبير) تسرُّب رائحة الموت إلى الأقبية من حيث يدري السجناء ولا يدرون، وتغلغل آثارها في ثنايا الروح إمحاءً وإفناءً لتطال كلّ شيء حتّى الحيوان؛ ففي صورة مضحكة مبكية في آن: يُحْكَم بالسّجن خمس سنوات على كلب عضّ جنرالًا في أثناء زيارته التّفتيشيّة للثّكنة المجاورة للمُعتَقل، ولم يكد يمضي شهر واحد حتّى جُنّ جنونه ومات، “ربما لأنّه أُصيب بداء الكَلَب، وصار نباحه مزعجًا جدًا، وما عاد أحد مِن الحراس يجرؤ على فتح باب زنزانته ليحضر له طعامه، فنفق جوعًا وإنهاكًا وتعفنت جيفته(). لكن على الرغم تكرار ثيمة Thema الموت ودورانها، إلاّ أنّ صور تمثيلها الراعبة شتّى، وتجلياتها، وطرائق تشكيلها وتجسيد حضورها كثيرة، وتشي بتباين مواقف تلك الشّخصيات الروائيّة منها؛ فالموت الأسود الفاغر فاهه، يأتي بطيئًا مُتأنيًا مُرهقًا، فيكون أقسى عليهم وأشدّ في المعاناة. لأنّ مهمّة الحراس تقضي بإطالة أَمد عذاب معتقلي الزنزانات المغلقة، وإبقائهم في حالة من الاحتضار أطول مدّة مُمكنة، لكي يتسنّى للموت أنْ “ينتشر ببُطء، وألاّ يُغفِل عضوًا أو رقعة من الجلد، أنْ يصعد من أخمص القدم حتّى أطراف الشّعر، أنْ يسري بين الثنيات، بين التّجاعيد، وأنْ ينغرز مثل إبرة بحثًا عن شريان ليودع فيه سُمّه”(). ليدرك معتقلو تزمامارت في ظل مهمة جلاديهم، أنّ الموت منحة لا يستحقونها إلاّ بعد أنْ يُساموا مختلف العذاب وقد حُكم عليهم بالموت البطيء. لهذا، يطلبونه ويستعجلونه كلّما غالى في تآمره مع جلاديهم، وتريّث في المجيء، ويستسلمون له جوعًا وحقدًا وجنونًا وهذيانًا وانتحارًا. فالسّجين “لعربي” رقم 4 -على سبيل المثال– يدعو الموت إلى الحضور بعد ما أخطأه مرارًا، وتأخر عليه؛ لأنّ فيه خلاصه، فنقرأ أنينه الخافت يهذي به، فيقول: “أريد أنْ أموت، لِمَ يُبطيء الموت في قدومه؟ مَن يوخّر مجيئه، ويمنع نزوله إليّ، وانسلاله مِن تحت باب زنزانتي؟ إنّه ذو الشاربين، الحارس الجلف، يقطع طريقه، كم هو صعب أنْ نموت حين نريد الموت، فالموت لا يبالي بي، ولكن دعوه يمر، أحسنوا وفادته؛ فهذه المرّة سوف يأخذني أنا، سوف يحررني، انتبهوا جيدًا، ولا تعيقوا حركته، إني أراه”(). ويعي السارد السّجين “سليم” رقم 7 ما يتربّص به مِن موت، ويحوم حواليه مِن خَبل، فيتجاوزه متحدّيًا العدم بقمع ذاكرته التي تذكّره بمختلف طقوس الحياة التي صُودرت منه، جزمًا منه بأنّ “مَنْ يستدعي ذكرياته يَموت”( )، متحصنًا بفكره الذي ينبغي أنْ يبقى في معزل عن جلاديه. لأنّ فيه حريته وملاذه وهروبه، فكان يقيس حجم قوته، وقدرته على المقاومة بتمرين فكره، ورياضته وحثّه على تخيّل عوالم أخرى غير ماديّة يكون فيها خلاصه وانعتاقه: بالصلاة والدعاء والتّعلّق روحانيًا بربّه تارةً، وبالقراءة واستعادة المحفوظ والمقروء الفنيّ شعرًا كان أم نثرًا تارةً أخرى. يقول: “كان العفن ينال من أجسادنا، عضوًا تلو آخر، والشيء الوحيد الذي تمكنتُ من الحفاظ عليه هو رأسي، عقلي، كنتُ أتخلى لهم عن أعضائي، ورجائي ألاّ يتمكنوا من ذهني، من حريتي، من نفحة الهواء الطلق، من البصيص الخافت في ليلي، ألوذ بدفاعاتي متغافلًا عن خطّتهم، تعلّمت أنْ أتخلى عن جسدي؛ فالجسد هو ذاك المرئي، كانوا يرونه ويستطيعون لمسه وبضْعه بنصل مُحمى بالنار، بإمكانهم تعذيبه وتجويعه وتعريضه للعقارب، للبرد المُجمِّد، غير أنّي كنتُ حريصًا على أنْ يبقى ذهني بمنأى عنهم، كان قوّتي الوحيدة، أجابه به ضراوة الجلادين بانزوائي، بعدم اكتراثي بانعدام إحساسي(). لهذا، أفلحت محاولات السجين “سليم” في إعمار فكره وإعماله، وكنس ذكريات الماضي ونفضها كلّما همّت بالاحتيال عليه، والبحث في ذاته الحاضرة عن ذاته، والخروج بهما (الفكر والذاكرة) خارج الزّمان السرمديّ والمكان اللاإنساني في تبديد مشاعر الخوف والحقد، والكراهية والرغبة في الانتقام حدّ مصالحة الموت الذي يغشى الأقبية، ويحوم حول الزنزانات إلى أن يهتدي إلى إحداها. فبعد كلّ الذين قَضوا خلال ثمانية عشر عامًا كانت قد نشأت بين “سليم” وبين ملك الموت عزرائيل ألفة من نوع خاص، “فعندما تُطلِق طيور الخَبل صياحها المشؤوم يرى “سليم” عزرائيل الذي يبعث به الله لحصاد أرواح الموتى متواضعًا، مجلببًا بالبياض، صبورًا ومطمَئنًا، كان يُخلِّف وراءه عطرًا من الجنّة، وكان ذلك أجمل بكثير من صورة الموت ذي الهيكل العظميّ حامل المنجل الكبير”(). ترسم نهاية رواية “تلك العتمة الباهرة” كيفيّة مغادرة السّجناء جحيم تزمامارت سنة 1991، بعد تسرّب خبر وجوده إلى منظمات حقوق الإنسان العالميّة، عن طريق قصاصات الورق التي وفّرها الحارس “مفاضل” لقريبه البربري السّجين “واكرين” وكتب فيها السارد شيئًا عن مكانهم: “نحن في تزمامارت، لا نور”(). فقد أفلحت منظمات حقوق الإنسان والصحافة الأجنبيّة في فضح حقيقة المُعتقَل، والضغط على السلطات المغربيّة لإطلاق سراح مَنْ تبقّى مِن السّجناء في قيد الحياة، على الرغم من تعنّت هذه السُّلطات ومغالاتها في إنكار حقيقة وجود هذا المُعتقَل السّريّ، ودفاعاتها المُستميتة في محو آثار زنزاناته وأقبيته بعد أنْ سُوّيت بالأرض وكأنّها لم تكنْ أصلًا. لعلّ في محاولات السُّلطات القامعة تشويه وجه الحقيقة السّافرة ما يوكّد أنّ “ما أفظع من الفظاعة التي مورست: نفي وقوعها”( ). لم يقتصر سارد رواية “تلك العتمة الباهرة” على عرض العوالم الداخلية للشخصية الروائية، والكشف عن مكنوناتها النفسية، وما يتصارع في ذهنها من أفكار وهواجس ورغبات على توظيف أساليب اللفظ، إنما تعدى ذلك التوظيف إلى أساليب ما دون اللفظ، شأن الأسلوب الذهني الذي يصاغ بملفوظات تقع خارج لفظ الشخصية، وصوتها ومنطوقها الخاص المباشر. وتشير أساليب ما دون اللفظ إلى مستوى وعي الشخصية ومستويَي لا وعيها وما دون وعيها، بحسب ما أشار إليه فرويد Freud في “تصويره لمستوى الوعي في مرحلة أو مستوى ما قبل الكلام بشكل يجعل مستوى الوعي يقع تحت المستويين الآخرين”. حيث يأتي توظيف أساليب (ما دون اللفظ) في الرواية الحديثة مكملًا للدور البارز الذي تقوم به (أساليب اللفظ) في البوح عن العالم الداخلي، والكشف عن المستوى الذهني والنفسي للشخصية الروائية. حيث يكون لكل منهما (اللفظ، وما دون اللفظ) وأساليبهما وجوده المستقل. ففي أساليب “ما دون اللفظ”، يبنى النص الروائي على شيء من المسحة الدرامية. يتقمص فيها السارد دور الشخصية كما هو الشأن في الأسلوب الذهني Mental Style، ويتقنع بها، ويصبح هو صاحب الصوت الوحيد الذي ينطق بأفكارها ويصوغ أحلامها وحالاتها النفسية والذهنية المضطربة من دون الرجوع إلى لفظها المباشر ونطقها الخاص. فتأتي أساليب “ما دون اللفظ” ومنها الأسلوب الذهني بوصفها “أحد أساليب تمثيل فكر الشخصية التي تبرز المحتوى غير الشفاهي أي غير اللفظي للشخصية الروائية، ولا سيما الشخصيات المتخلفة عقليًا فيصاغ الخطاب عبر مستويات لا وعيها وما دون وعيها”().
يعد الأسلوب الذهني وما يعتمده من حالات نفسية وذهنية (الأحلام، وأحلام اليقظة، والهستيريا والهذيان والذهول العقلي …إلخ) من أبرز أساليب ما دون اللفظ التي لا ترتكز على لفظ الشخصية ونطقها الخاص المباشر، ولا تؤشر في صوغها على وجود أي سمة ذاتية أو تعبيرية تدل على ذلك التلفظ كما في (المونولوج غير المباشر). ارتبط هذا الأسلوب في الدراسات النقدية الغربية الحديثة بالناقد روجيه فايول الذي وصفه أنه: “عرض لساني مميز للذات الذهنية لشخصية ما، إذ يحلل هذا الأسلوب الحياة الذهنية للشخصية، ويقف على المظاهر الأساس في محتواها الذهني، ويسعى لخلق صوغٍ دراميٍ لنظام وبنية أفكارها الواعية واللاواعية، وعرض كل ما تتأمله الشخصية، وما يضمه ذهنها من انشغالات وآراء وقيم ومنظورات خاصة تؤثر بشدة في رؤية الشخصية للعالم من حولها، قد لا تكون على وعي بها”().
إذ وجد فايول Fayolle في هذا الأسلوب صوغًا دراميًا لمحتويات ذهنية وهواجس وأفكار وتصورات، وإرهاصات فكرية قامعة في ذهن الشخصية منها ما يقع ضمن حيز مستوى الوعي، ومنها ما يتعداه إلى مستوى اللاوعي، ولقد قربه ذلك الصوغ من مصطلح آخر اعتمد الصوغ الدرامي، وارتكز عليه للنطق بفكر الشخصية، وعرض ما يعتريها من أفكار وهواجس وتأزمات الأوضاع لبناء مشاهد الموت، وهو مصطلح (دراما الذهن) الذي أوجده الناقد الإنكليزي بيرسي لوبوك().
الزّمن النّفسيّ في رواية “تلك العتمة الباهرة”
تقوم رواية “تلك العتمة الباهرة” على تشكيل فني للزّمن النّفسيّ بنائيًا ودلاليًا بما تمتاز به من خصوصيّة فنيّة إيحائيّة، توكّد مدى وعي الشّخصيّة بنفسها وزمنها الدّاخليّ الخاص بصور ماضيها، وتداعياته المُتجاوزة خطّ الزّمن المنطقيّ التراتبيّ وذلك “وفق طريقة التّكنيك الزّمنيّ والسّرديّ والحدثيّ في الرِّواية”(). ذلك أن الزّمن النّفسيّ في الرِّواية زمن ذاتيّ خاص لا تحكمه معايير الزّمن الموضوعيّة الخارجيّة؛ إذ “يسير بخطىً مختلفة تبعًا لاختلاف الأشخاص، وفي الواقع في مناسبات مختلفة للشّخص الواحد؛ لأنّ الفرد يحمل المكان والزّمان معه كطرق إدراكه الحسيّ، فهناك الذين يمشي معهم الزّمن، والذين نحبّ معهم الزّمن، والذين يعدو معهم الزّمن، والذين يقف معهم ساكنًا”(). ولا يُقاس الزّمن النّفسيّ بزمن الساعة بل يُقاس بالحالة الشعوريّة، واللحظة النّفسيّة للشخصية. إنّه “زمن نسبيّ داخليّ يُقدَّر بقيم متغيرة باستمرار بعكس الزّمن الخارجيّ الذي يُقاس بمعايير ثابتة”(). ولا توجد لحظة فيه تساوي الأخرى، “فهناك اللحظة المشرقة المليئة بالنّشوة التي تحتوي على أقدار العمر كلّه، وهناك السنوات الطويلة الخاوية التي تمرّ فارغة كأنّها عدم”(). كما يعدّ زمن الشخصية الروائيّة الذي يعكس حركة الشخصية النفسيّة وعلاقتها بحاضرها وماضيها مستوىً ثانٍ من مستويات الزّمن الروائيّ كوْن زمن السرد وعلاقته بزمن الحكاية هو المستوى الأوّل، وبهذا فإنّ لكلٍ منّا زمنًا ذاتيًا خاصًا لا يسير على وتيرة واحدة بل تتغير سرعته تبعًا لإيقاع واقعنا النّفسيّ الذي “يركض عندما يكون غنيًا حافلًا فيكرّ معه الزّمان، ويحبو عندما يكون فقيرًا مجدبًا، فيزحف معه الزّمان الذي هو حبل يتجاذب به الحزن والفرح والقلب البشريّ”(). تعتمد رواية الذّات/ رواية تيار الوعي في ترتيبها الزّمنيّ شقين، هما: السّوابق الزّمنيّة للحظة السّرد الآنية، واللواحق الزّمنيّة التي تستبق اللحظة الآنية؛ ذلك لأنّنا في حياتنا اليوميّة نكون دومًا إزاء نقطتين رئيستين: الأولى هي الآن أو اللحظة الحاليّة، وأمّا الأُخرى فهي شعورنا بجريان الزّمن، وتدفّقه من الماضي إلى المستقبل()، فيُمكن في لحظة واحدة آنية أن تمتلك الشّخصيّة عدّة أزمنة، وعدّة حيوات. ويتجلّى حضور الاسترجاع الذي يتحايل به السارد على التّسلسل الزّمنيّ التّعاقبي في الرِّواية، إذ ينقطع زمن السّرد الحاضر مرارًا لاستدعاء الماضي وتوظيفه واستثماره وفق معطيات السرد الملتفّ حول تجربة الذّات. لأنّ “الشّخصيات التي تعيش أمامنا يكوّن ماضيها حاضرها”(). لكن يغْلُب الاسترجاع الماضويّ على الاستباق الاستشرافيّ في مروي السارد المشارك “سليم”. إذ يتوسّل به في تقديم الحدث والشّخصيّة والمكان، والتّعبير عن الزّمن النّفسيّ وتمظهراته بوصفه أكثر تقنيات السّرد الزّمنية قدرةً على الكشف والاستبطان. يمثّل هذا الانزياح أو الارتداد إلى الوراء مفارقةً زمنيّةً تعيد خلق الذّات تارةً، والزّمن تارةً أُخرى. حين يتضاءل في صورته الموضوعيّة الخارجيّة، وتصغر وحداته، ويمتد نفسيًا ذاتيًا إلى ما لا نهاية وفق الحالة الشعوريّة المتدفِّقة التي تكتنف النّص أو تكوّنه. فيبدو الزّمن في رواية تيار الوعي الشعوريّة معطىً مباشرًا في وجداننا() من جهة، و”مظهرًا نفسيًا لا ماديًا، ومُجردًا لا محسوسًا يتجسّد الوعي فيه من خلال مايتسلّط عليه بتأثيره الخفي غير الظاهر، لا من خلال مظهره في حدّ ذاته، فهو وعي خفي لكنّه متسلِّط، ومُجرد يتمظهر في الأشياء المجسّدة”() من جهة ثانية.
تعنى رواية “تلك العتمة الباهرة”، بتصوير أثر الزّمن النّفسيّ في الشّخصيّة وشعورها، وتجسيد الإحساس بمروره بطيئًا ثقيلًا جامدًا متماديًا تحت وطأة فنون التّعذيب اللامتناهية في جحيم تزمامارت. حيث الفراغ والصّمت والخواء والعزلة والموت. فقد تعظّم الخوف، وتنامى الاغتراب، وتلاشى الشعور بالزّمن في زنزانات التّعذيب، وغاب الإحساس بالحياة خارج الأقبية المظلمة. لهذا، تتكئ الرؤية السّرديّة في الرِّواية على الرؤية الدّاخليّة. حيث يقوم السارد بوظيفة السرد والوصف والتّصوير متأرجحًا بين زمنَين متداخلَين: أولهما آنيّ حاضر، وثانيهما ماضٍ مسترجَع عبر تداعيات الذاكرة، والعلاقة الجدلية بين الزمنين. جاء الأول محكومًا بمنظومة الزّمن الموضوعيّ ومعاييره، والثاني مُرتَهن بداخلية الذّات السّاردة التي لا تخضع لمبدأ التّعاقب الزّمنيّ. إنها “مأثرة الفن التي تستطيع أنْ تتحكّم بقانونية الزّمن الماديّ؛ لتقديم اللحظة أو الفترة المكثّفة عبر التقاط جوهرها، لا عبر الخضوع لمنظومة تتابعها اليوميّ الذي تخضع له الحياة الخارجية للناس كلهم”(). لهذا، يبدو الزّمن في الرِّواية شخصيّةً سلطويّةً مركّبةً. تتآمر مع الجلادين، وتتواطأ مع الموت؛ فالدقائق متمادية، والليالي بلا ختام، والموت بطيء، والزّمن الضائع الواقف قرون، والعدم سقوطٌ في اللاشيء، والاحتضار طويل، والسّجن مؤبّد، والعتمة أبدية، والعقاب بالندم خاصّةً متطاول حتّى قيام الساعة(). لهذا، يفقد الزّمن في الرِّواية معناه عندما تغيب المرئيات، وتنقطع الصّلات بكلّ ما له علاقة بالحياة الطبيعية. فيتلاشى إلى اللاشيء في عتمة الصّمت الكثيف. لهذا يروي السارد “سليم” الذي عانى الاختناق بما أفرزته مرارته من المِرَّة ألمه في ظلام حفرته التي وُري فيها، قائلًا: “في الظلام لا أتمكن طبعًا من الإبصار لكنّي على الأقل أخمّن الأشياء، فقد الزّمن معناه، أراه متماديًا بإفراط، وشاغله الأوحد أن يشلّ ذراعيّ ويديّ( ). يشكّل الليل والبُطء والسأم والصّمت في الرِّواية مفردات نفسيّة زمنيّة. تلقي بظلالها الثقيلة على شّخصيات الرواية ودواخلها الذّاتيّة الشعوريّة. لتتباين في ظلّها الرؤى والمواقف والاتجاهات. فليل تزمامارت سرمديٌّ أبديٌّ لا ينتهي “رطب لزج قذر دبق تفوح منه رائحة بول الرجال والجرذان، غير مرئيٍ لكنّه محسوس”(). يكتنف بثقله الأشياء ويحيق بها، وهو “مُكوِّن السّجناء ومرتعهم وعالمهم، وكسوة مقبرتهم وملحفتهم المنسوجة من غبار مُجمِّد، وفسحتهم المشغولة من أشجار سُود”()، ووليّ “عذاباتهم الماثل دائمًا؛ ليذكرهم بهشاشتهم وانسحاقهم”()، فقد “كفّ الليل عن أنْ يكون الليل، فما عاد له نهار ولا نجوم ولا قمر ولا سماء”(). لا أثر فيه لنور أو بصيص ضياء أمّا البُطء فهو ألدُّ أعدائهم في الظلمة، ذاك الذي كان يغلّف جلودهم المقرّحة فلا تلتئم إلاّ بعد وقت طويل؛ ليجعل قلوبهم خافقةً على الإيقاع العذب للموت القليل”(). و”شُبه البُطء في الرِّواية بساعة رمل عملاقة”(). كل “حبة رمل فيها برغلة في جلود السّجناء أو قطرة من دمهم، أو جرعة أوكسجين صغيرة سرعان ما تنفد كلّما انحدر الوقت نحو الغَوْر الذي دُفنوا فيه أحياء. والبُطء بذلك صنف من أصناف الموت الذي يتمادى ويتطاول ليطال كلّ ما قد يشي بإنسانية السّجناء المقهورين وآدميتهم، فينزعها بلا هوادة وكأنّها من المُحرّمات، ومثله السأم الذي يدور حولهم بلا معنى، يقرِض أجفانهم، ويجعّد جلودهم، وينغرز في أحشائهم”(). ويؤازر “الصّمت الثقيل البُطء متعانقًا مع الليل الطويل الذي لا ينجلي، فيتعدّد ويتكاثر في أنماط شتّى”(). فهناك صمتُ الليل الذي لا بدّ منه وقد تساوت النهارات وأرق الليالي، وغابت الفواصل بينهما، وصمتُ الرفيق الذي يغادر ببطء جنونًا وهذيانًا، وانسحابًا وانهزامًا، وصمتُ الحِداد، وصمت الدم الذي يجري في العروق متباطئًا، وصمتُ توقّع وجهة سير العقارب، وصمتُ الصّور التي تلحّ على الأذهان، وصمتُ الحراس الذي يعني الكلل والروتين، وصمتُ ظلّ الذّكريات المحترقة، وصمتُ السماء الضيقة الداكنة التي لا تكاد تُرى، وصمتُ غياب الحياة الباهر، أمّا الصّمت الأشدّ قسوةً، والأشدّ وطأةً؛ فكان صمتُ إيقاع الزّمن الصّامت الرتيب، وأثره في الشّخصيات المقاومة التي تحاول مجابهته وصدّه، والتّحايل عليه كي لا تقع فريسة لبراثنه من جهة، وتأثيره في الشّخصيات المأزومة التي لا تقوى على مواجهته، فتستسلم له من جهة أخرى؛ لهذا، تباينت مواقف الشّخصيات منه، وطرائق التّعامل معه. فقد استطاع السّجين “كريم” رقم 15 –مثلًا- أنْ يُوهِم رفقاءه في جحور تزمامارت المعتمة بالزّمن في تعقّب وتائره مجزأً إلى ساعات ودقائق وأيام، فأصبح رزنامة المعتقلين وبندولهم الناطق. كأنّها كانت طريقته في التّشبث بالحياة، أن يكون غائبًا في تتبّعه وتائر زمن محظور عليهم. يقول السارد: “والمفارقة أنّ كونه أصبح عبدًا للوقت قد جعله حرًا، جعله خارج أيّ مصاب، منعزلًا تمامًا في قوقعته الشفافة، مجردًا من كلّ ما يلهيه ويفقده سياق حسابه”(). وإذا كان السّجين “كريم” قد انشغل بحساب الوقت وتحديد الزّمن أو تتبّع وتائره تشبثًا بما قد يوحي بالحياة، فإن السّجين “ماجد” رقم 7 قد “جُنّ وفقد عقله وهو يردّد المواقيت من وراء كريم في هذيانٍ فريد؛ انتظارًا لدوره في اللحاق مع الملاك “موحا” الذي اختلقه جنونه بِمَن قضوا في زنزاناتهم ظلمًا وعدوانًا”(). أمّا السّارد “سليم” فقد استشعر وطأة ما يجثم فوقهم من ليل طويل. يسدّ أيّ أفق للحياة التي خلفوها وراءهم. فأخذ يراوغه تارةً، ويحاوله أخرى، ويتحايل عليه من دون أن يسقط في عتمته، غير مكترث له. يدرك السّارد منذ البداية أنّ زمنه القار/ الحاضر يفترق لا شك عن زمنه الفائت ويغايره. فما قبل تزمامارت شيء وما بعده شيء آخر. فيأخذ على نفسه عهدًا بألاّ ينظر إلى الوراء، أو يستشرف ذاته في المستقبل؛ كي لا يصاب بالجنون أو الهذيان، ومن ثم الموت، فيقول: “أدركت أنّ الزّمن لم يكن له معنىً إلاّ في حركة الكائنات والأشياء، والحال أنّنا كنّا محكومين بالسكون، وخلود الأشياء الماديّة، كنّا في حاضر جامد، ولو قُيض لواحدنا شقاءً أن يلتفت إلى الوراء أو أن يستشرف ذاته في المستقبل فمعنى ذلك أنّه يستعجل موته، إذ لا يتسع الحاضر إلا لجري وقائعه”(). يحاول السارد أنْ يتعلّم –لذلك– في عزلته وصمته كيف يطرد ذكريات الماضي المُنثالة عليه؛ ليخلق لنفسه ذاكرةً جديدةً تجبّ ما مضى، وكيف يدرّب نفسه مرارًا وتكرارًا على محاولة الحياة بأقل ما يمكن، ولم يكن الأمر سهلًا عليه أبدًا، بل كان بحسب قوله: “شاقًا، كان دُربة، عَتهًا لا بدّ منه، اختبارًا ينبغي لي اختباره بأيّ ثمن، أن تكون هناك مِن دون أن تكون هناك، أنْ يُغلِق المرء حواسه، ويسلّطها في اتجاه آخر، ويمنحها حياةً أخرى”(). لهذا، يقرّر السارد تجنبًا لشَرَك ذاكرته بحادثة الصخيرات إعمار فكره في التّفكر في كلّ ما حوله “فيستغرق -هربًا مِن ذاته إليها- في أحلام اليقظة الخصبة التي يؤثّث فيها لنفسه حياةً أخرى، وزمنًا مثاليًا مُغايرًا مُعلقًا بين أغصان شجرة سماوية”(). يسلك السارد في “عتمة حواسه المعطّلة درب الصوفية”(). ليتحرّر “جسده محلقًا بروحه في عوالم الغيب؛ وصولًا إلى عالم منير يغاير ظلمة عالمه الكئيب، وزمن مختلف في أبعاده وأشكال تجلّيه، لا يخضع لمنطق ولا قانون، ولا يسقط في العدم الوئيد مطلقًا. ويدجّن السارد الألم، ويجعله حليفًا له؛ إذْ تحمِله أوجاعه إلى ربّه -سالكا- حتّى يفنى ويغيب؛ فمن كنف تلك العتمة، كان يتبدى له الحقّ بنوره السّاطع”(). فتصير العتمة أقل عتامةً وقتامةً؛ ليَعْبُر عالمه إلى عالم آخر ينعتق فيه من الأذى، ويتخفّف فيه من ذاكرة الزّمن والجَوْر، فـ”كلّ يوم يمضي هو يوم ميت بلا أثر، بلا صوت، بلا لون”(). ويبرع السارد في مكابدة العذاب ومقاومة فناء الموت بالحكاية المُتخيّلة، ومواجهة السأم الجامد بالفكر، فيصير بإجماع رفقائه حكواتيّ الزنزانات. حيث يقطع الوقت، ويعاند الزّمن بما تسعفه به ذاكرته من مقروءات محفوظة، وتفيض به مُخيلته من حكايات، وتجود به قريحته من محفوظات إلى حدٍ صارت فيه كلماته ملاذًا للمعتقلين، مثل السّجين “عبد القادر” الذي وجد في الحكايات المسرودة، والقصص المحكيّة، والأفلام المنقولة البُرء والرّجاء والخلاص.
تنقل الرِّواية صور اغتراب الشّخصيّة عن ذاتها بعد انسلاخها من ذاكرتها، وانتزاعها من الحياة، وسحبها إلى صحراء اللاحياة/ الموت في مشاهد وصفيّة شتّى، وبلغة شفيفة موجِعة، لعلّ من أقساها شعور السّارد بضياع وجهه منذ ليلة العاشر من تموز/ يوليو 1971، وعدم قدرته على استعادته بعد ثماني عشرة سنة من العذاب في جحيم تزمامارت. فقد سُرِق منه، أو سقط منه في العدم مثلما سقطت منه أسنانه. فما لن يُنسى أبدًا ذلك الوجه الغريب الذي رآه في عيادة طبيب الأسنان في مركز الرّعاية الطبيّة للناجين من تزمامارت. حيث يروي بأسىً بليغ فجيعته التي عليه أنْ يحمل وزرها ويحتمِلها ويعتادها مِن بَعد: “سوف يبقى ذلك اليوم يومًا تاريخيًا في حياتي، ففيما كنتُ أستلقي على كرسي طبيب الأسنان المتحرّك، أبصرتُ شخصًا ما فوقي، مَنْ كان ذلك الغريب الذي يحدقُ بي؟ كنتُ أرى وجهًا معلقًا بالسقف، يكشّر حين أكشّر، يقطب حين أقطب كان يهزأ بي، لكن مَن يكون؟ كدتُ أصرخ لكنّي تمالكتُ نفسي، فمثل تلك التهيؤات مُعتادة في المعتقل، لكنّي هناك لم أكن معتقلًا، فكان عليّ أنْ أذعن لتلك البداهة المكدرة: إنّ ذلك الوجه المثلّم، المجعوك، المخطّط بالتّجاعيد والغموض، المذعور المرعب، كان وجهي أنا. وللمرّة الأولى منذ ثمانية عشر عامًا أقف قبالة صورتي، أغمضتُ عينيّ، أحسستُ بالخوف، خفتُ مِن عينيّ الزائغتين، مِن تلك النّظرة التي أفلتت بمشقة من الموت، مِن ذلك الوجه الذي شاخ وفقد سيمياء إنسانيته. حتّى الطبيب لم يُخفِ دهشته، قال لي بلطف: أتريدني أنْ أغطي هذه المرآة؟ لا، شكرًا. سيكون عليّ أنْ أعتاد هذا الوجه الذي حملته من دون أن أدرك كيف يتغير”(). إنّ رحلة الذهاب والإياب إلى جحيم تزمامارت رحلة موجعة في اقترابها من الموت أكثر من الحياة، وسقوطها في لُجّة العتمة غير المتناهية. إنّها تاريخ الذّكرى المُرّة، والسأم المميت، والقمع اللا إنساني. ومِن المفارقة المثيرة أنّ السارد “سليم” ظلّ ينوس بين تاريخي الظلمة والنُّور؛ فالعاشر من تموز/ يوليو 1971 هو تاريخ الظلمة لا النُّور الذي جَمُد فيه الزّمن وتوقّف. ممّا حدا بالسارد إلى التّدرب جيدًا على طرد ذاكرة ما قبله، ونفض صور انثيالاته، ووقف فوران تداعياتها. فقد كان ذلك التاريخ نقطة الارتكاز، نقطة الموت، ونقطة اللاعودة. في حين أنّ التاسع والعشرين من تشرين الأوّل/ أكتوبر 1991 هو تاريخ الانعتاق، والولادة من جديد “لعجوز ضامر قد رأى النُّور لتوه”() بعد ثماني عشرة سنة من التّلف والصّمت والعتمة. ولعلّ من الطريف أنْ نقرأ إهداء الرِّواية() التي تخصّ “رضا” صغير الناجي “عزيز بنبين” بوصفه نورَ حياة أبيه الثالثة. وكأن الروائيّ يريد الإشارة إلى أنّ الحياة لا تتوقف، والموت لا بدّ مِن أنْ يُقهر بحب الحياة ولا سيما بعد أنْ واصل الشاهد نفسه على عذابات زنزانات تزمامارت حياته، فاتحًا مع نفسه والحياة صفحات أمل ونور جديدة.
تركيب واستنتاج
تنوعت طرائق توظيف الزّمن في رواية “تلك العتمة الباهرة” للروائي الطاهر بن جلون. حيث توزعت بين الزمن الطبيعيّ الخارجيّ، والذاتي الداخلي/ النفسي. كما تباينت طرائق إدراكه ماديًا ومعنويًا/ نفسيًا بوصفه مكونًا رئيسًا في الرواية السجنية بصفة عامة. يدخل في نسيج الحياة الإنسانية. بحيث يرتبط في الرواية السجنية برواية تيار الوعي الشعوريّة على مستوى الكشف عن الجانب الجواني للشّخصيات، ومحاكاتها زمانًا ومكانًا بأسلوب الاستبطان النفسي. لكن مع عدم احتكام الزّمن النّفسيّ الخاص لمعايير الزّمن الموضوعيّة الخارجيّة، وتكسّر مساراته وانحرافها حدّ تشابكها وتعالقها مع غيرها من عناصر البناء السردي الأخرى. لكن على الرغم من ذلك تباينت مواقف الشّخصيات عند الطاهر بن جلون من حيث الزمن النفسي، فمن الهروب منه إلى الهوس به حد السقوط في عتمته، والاستسلام له عند بعض الشخصيات الروائية، ومن التلاشي فيه إلى مواجهته ومجابهته، والحيلولة دون الوقوع فريسة لبراثنه عند شخصيات أخرى. كما توسل الروائي الطاهر بن جلون في بناء عوالمه السردية بتقنيات زمنية أخرى. خاصة تقنية الاسترجاع في فض مغاليق العلاقة الجدلية بين الزمن والذات (السجين). ما يساهم في ديمومة الزّمن وتدفّق جريانه، وعدم انغلاقه بوصفه مُعطىً من معطيات الوجدان الكامن في وعي الإنسان وخبرته. لأن كلّ ما يحدث في الرِّواية، لا يتم إلاّ عبر الزّمن ومن خلاله. وإذا كان الزّمن في مختلف تجلياته عنصرًا متجدّدًا ومُتحوّلًا، فإنّ الرِّواية بنية متجدّدة مُتحوّلة تلتقط التّحولات وتجلياتها كذلك. ارتبط الزمن النفسي في هذا النص الروائي بأسلوب السرد النفسي عامةً في بعده الأسلوبي والجمالي، لأن صوغه الخطابي للحياة الداخلية للشخصية الروائية لم يأتِ مرهونًا بتلفظها (ما تنطق به فحسب)، بل صاغ ما لم تتلفظ به شخصيات رواية “تلك العتمة الباهرة” من دفق مشاعرها، ونقل ومضات أفكارها الواعية واللاواعية، وصوغ وتفسير ما يدور في دواخل الشخصية بشكل قد يفوق قدرتها على صوغ تلك الدواخل ونقلها.

قائمة المراجع
أولًا: المراجع باللغة العربية
إبراهيم، عبد الله. موسوعة السّرد العربيّ، ط2 (بيروت: المؤسسة العربيّة للدراسات والنّشر، 2008).
أمنصور، محمد. محكي القراءة، ط1 (فاس: منشورات مجموعة الباحثين الشباب، 2007).
باختين، ميخائيل. أشكال الزّمان والمكان في الرِّواية، يوسف حلاق (مترجم)، ط1 (دمشق: منشورات وزارة الثقافة، 1990).
بحراوي، حسن. بنية الشكل الروائي، ط1 (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1990).
برادة، محمد. أسئلة الرِّواية: أسئلة النّقد، ط1 (الدار البيضاء، المغرب، منشورات الرابطة، 1996).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.

الرِّواية العربيّة: واقع وآفاق، ط1 (بيروت: دار ابن رشد للطباعة والنشر، 1981).
بلقزيز، عبد الإله. السّلطة والمعارضة: المجال السياسيّ العربي المعاصر، ط1 (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2007).
بن جلون، الطاهر. تلك العتمة الباهرة، بسام حجار (مترجم)، ط1 (بيروت: دار الساقي، 2002).
بوتور، ميشال. بحوث في الرواية الجديدة، فريد انطونيوس (مترجم)، ط2 (بيروت: منشورات عويدات، 1982).
حزل، عبد الرحيم. سنوات الجمر والرّصاص، ط1 (الرباط: دار جذور للنشر، 2004).
حسن، عمار علي. النّص والسّلطة والمجتمع: القيم السياسيّة في الرِّواية العربيّة، ط 1(القاهرة، مركز الدراسات السياسيّة والإستراتيجية، 2002).
ريكاردو، جان. قضايا الرواية الجديدة، صياح الجهيم (مترجم)، ط1 (دمشق: وزارة الثقافة والإرشاد القومي، 1997).
زايد، عبد الصمد. مفهوم الزّمن ودلالاته في الرِّواية العربيّة المعاصرة، ط1 (تونس: الدار العربية للكتاب، 1988).
شاهين، سمير الحاج. لحظة الأبديّة: دراسة الزّمان في أدب القرن العشرين، ط1 (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1980).
الصديقي، عبد اللطيف. الزّمان أبعاده وبنيته، ط1 (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1995).
العبد الله، يحيى. الاغتراب: دراسة تحليلية لشخصيات الطّاهر بن جلون الروائيّة، ط1 (بيروت: المؤسسة العربيّة للدراسات والنّشر، 2004).
عبد الملك، جمال. مسائل في الإبداع والتصور، ط1 (بيروت: دار الجيل، 1991).
عصفور، جابر. زمن الرِّواية، ط2 (القاهرة: الهيئة المصريّة العامة للكتاب، 2000).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.

مواجهة الإرهاب: قراءات في الأدب العربيّ المعاصر، ط1 (بيروت: دار الفارابي، 2003).
العمامي، محمد نجيب. الراوي في السرد العربي المعاصر: رواية الثمانينيات بتونس، ط1 (تونس: دار محمد الحامي للنشر، 2001).
غنايم، محمود. تيار الوعي في الرِّواية العربيّة الحديثة: دراسة أسلوبية، ط2 (بيروت: دار الجيل، 1993).
فرهود، كمال قاسم. موسوعة أعلام الأدب العربي في العصر الحديث، محمود عباس (مُراجع ومقدم)، مجلد1، ط3 (حيفا: دار المشرق للترجمة والطباعة، 1998).
الفيصل، سمر روحي. السّجن السياسيّ في الرِّواية العربيّة، ط2 (طرابلس- ليبيا: جروس بروس، 1994).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.

معجم الروائيين العرب، ط1 (طرابلس- ليبيا، جروس بروس، 1995).
قاسم، سيزا أحمد. بناء الرِّواية: دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ، ط1 (القاهرة: الهيئة العامة للكتاب، 1984).
القصراوي، مها حسن. الزّمن في الرِّواية العربيّة، ط1 (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2004).
لوبوك، بيرسي. صنعة الرواية، عبد الستار جواد (مترجم)، ط1 (الأردن: دار مجدلاوي، 2000).
الماضي، شكري عزيز. أنماط الرِّواية العربيّة الجديدة، سلسلة عالم المعرفة 355 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2008).
مبروك، مراد عبد الرحمن. بناء الزّمن في الرِّواية المعاصرة: رواية تيار الوعي نموذجًا، ط1 (القاهرة: الهيئة العامة للكتاب، 1998).
مرتاض، عبد الملك. في نظرية الرِّواية: بحث في تقنيات السرد، سلسلة عالم المعرفة 240، ط1 (الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1998).
مندلاو. الزّمن والرِّواية، بكر عباس (مترجم)، إحسان عباس (مُراجع)، ط1 (بيروت: دار صادر، 1997).
منيف، عبد الرحمن. الكاتب والمنفى، ط3 (بيروت: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، 2001).
ميرهوف، هانز. الزّمن في الأدب، أسعد رزوق (مترجم)، العوضي الوكيل (مُراجع)، ط1 (القاهرة: مؤسسة سجل العرب، 1972).
النابلسي، شاكر. جماليات المكان في الرِّواية العربيّة، ط1 (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1994).
همفري، روبرت. تيار الوعي في الرواية الحديثة، محمود الربيعي (مترجم)، ط1 (القاهرة: دار غريب، 2000).
يقطين، سعيد. انفتاح النّص الروائيّ، ط2 (الدار البيضاء: المركز الثقافيّ، 2001).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.

قضايا الرِّواية العربيّة الجديدة: الوجود والحدود، ط1 (القاهرة: دار رؤية للنشر والتوزيع، 2010).
ثانيًا: المراجع باللغة الفرنسية
Barthes, Roland. Introduction à l’analyse structurale du récits (in) Communications 8 (Paris: Seuil, 1981).
Fayolle, R. La critique (Paris: Arnold colin 1978).
Freud, S. Essais de psychanalyse appliqué (Paris: Gallimard, 1933).
Tadié, Jean- Yves. La critique littéraire au xx siècle (Paris: Belfond, 1987).
ثالثًا: المجلات والدوريات
برادة، محمد، “الرِّواية أفقًا للشكل والخطاب المتعدديْن”، فصول، مجلد11، عدد4، (1993).
بوطيب، عبد العالي، “إشكالية الزّمن في النّص السرديّ”، فصول، مجلد11، عدد2، (1993).
عيد، عبد الرزاق، “عطالة البناء وتخلخل البنية وانحطاط القيم”، الطريق، عدد3 و4، (1981).
محمد، نصر الدين، “الشخصية في العمل الروائي”، الفيصل، عدد37، (1980).


نادية بلكريش

باحثة مغربية في مجال التراث والنقد الأدبي العربي والشؤون التربوية، شهادة الدراسات الجامعية العامة (أدب حديث)، شهادة الإجازة العليا (اللغة العربية وآدابها)، عضوة في جمعية الفوانيس المسرحية، عضوة في جمعية المنار للثقافة والتربية. من مؤلفاتها: (أمسية الغرباء “قصص”، 2002، دار القرويين، المغرب)، (طائر الموت “قصص”، 2006، مطبعة الأندلس)، (عوالم الصحراء؛ التقاليد والعادات، 2008، المغرب)، (طريق قصبات الجنوب، دراسات في التراث المادي، 2011، المغرب). نشرت دراسات ومقالات نقدية عديدة في مجلات ودوريات عربية متنوعة (مجلة البحرين الثقافية، مجلة العربي، مجلة تراث الإماراتية، مجلة الكويت، مجلة العربية والترجمة، جريدة الفنون الكويتية)، وفي جرائد ومجلات مغربية.

أحمد سحنوني ضحية تعذيب رهيب في السجون الفرنسية

في أول خروج إعلامي له كشف المعتقل السابق أحمد اليعقوبي السحنوني المزدمج الجنسية فرنسي من أصل مغربي.. عن معاناته وعائلته عند اعتقاله واقتحام منزله ولاضرار التي طالتعائلته .. سرد قصة معاناته وعرى زيف الشعارات التي ترفعها فرنسا… قصة مؤلمة وموجعة بعد قضاءه عدة سنوات في السجون الفرنسية تم تجريده من جنسيته لفرنسية وترحيله للمغرب حيث اعيد اعتقاله ليقضي عدة شهور في سجون المملكة ….

قصته المؤلمة وثقتها كاميرا موقع العمق المغربي في حوار مطول

حبسيات ساكنة المقابر

بقلم محمد الشطبي

معتقل سياسي سابق

الحبسيات

يقول “كريستيان جاريت” إن الحياة خلف القضبان، إذا طالت مدتها وزادت قسوتها، قد تؤدي إلى تغيير شخصية السجناء على نحو تعيق إعادة إدماجهم في المجتمع بعد إطلاق سراحهم.

تخيل أنك حكم عليك بالعيش لسنوات في مكان لا تتاح لك فيه مساحة من الخصوصية، تعيش فيه الخوف والتوجس الدائمين، ولا تختار فيه جليسك ولا مأكلك ولا ملبسك، ولا حتى الوجهة ولا متى تنام وتستيقظ… تشعر على الدوام أنك محاط بالمخاطر والشكوك، وقلما تجد من يترفق بك، أو يربت على كتفك. وتعيش معزولا عن أهلك عمن تحب وعن أصدقائك عن بيئتك الطبيعية.

بعد سنوات من العيش في هكذا مناخ، وفجأة تجد نفسك في عالم ( الحرية) محملا بأطنان من المخلفات والرواسب التي يستغربها محيطك و قد تبدو لهم بسببها إنسانا غير سوي تختلف عنهم جذريا, تحتاج في أحسن حال عند ألطفهم لنظرة عطف ومعاملة تليق بوضعك النفسي…

رواسب مابعد المرحلة السجنية ومخلفاتها على المحبوس غريبة أحيانا. سأتحدث عن إحداها مما لم أستطع التخلص منه ليومي هذا رغم مابدلته من جهد، لا أعرف هل أنا المخطئ (لمعقد) أم الآخرون؟؟!!

كلمة سجن تعني باختصار حرمان، في السجن قد تشتهي بيضة أحيانا أو تفاحة ولا تجدها، في السجن ليس كل شيء متاح، قد تجد سلكا تافها أو خيطا أو قطعة بلاستيك أو مسمارا صغيرا أو أي شيء تافه فتدسه وتخبأه في عيونك حتى لا تطاله يد زوار التفتيشات المباغثة.وقد يحصل أن تشتري ذاك التافه الذي لا يساوي فلسا بأضعاف ثمنه ألف ضعف. أو قد تخاطر لنزعه من مكان أو مرفق ما وقد تستمر عملية نزعه تلك الشهور الطوال والمشقة والخوف والترقب الشديد…

و ( مرگد) السجين _ وهو مخبأ أشياءه الثمينة الممنوعة عنه_ تجد فيه أشياء غريبة يستحيل أن يكتنزها إنسان عادي سوي.

هذه العادة أو سمها فوبيا إن شئت، لازمتني حتى بعد خروجي لدرجة صرت أرى الناس معها كلهم مبدرون حمقى لايعرفون قيمة النعمة. ولا شك أنهم يبادلونني نفس المشاعر بدورهم، فيرونني شحيحا بخيلا أحمقا مستعد لينزل من مركبه ليلتقط مسمارا ويضعه في جيبه ليضيفه ( للخردة) التي يجمع كأي ( بوعار ) ناكش للقمامة. أعجز ولا أجد كيف أفسر لهم أنها أشياء قد نحتاجها (لدواير الزمان) في أية لحظة ولا نجدها، كما يعجزون عن إقناعي مثلا لماذا يجمعون قطع الخبز البائت ويرمونها ليستعيضوا عنها بخبز اليوم هكذا ببساطة، ولماذا يبالغون ويسرفون في إعداد أنواع الأطعمة والأشربة التي أحس بحزن شديد عليها حين يبقى أكثرها على المائدة دون أن يلتفت لها أحد. لدرجة أنني طلبت مرارا من عامل المطعم أن يلف لي مابقي منها لآخذه معي _ رغم أني لن آكله لاحقاً _أمام إحراج واستغراب من دعوني للوجبة، المهم أن لايبقى أثر لما أعتقد أنه إسراف وتبدير، ولا أستطيع تبرير صنيعي لهم. أفعله وكفى…!!!

حاولت البحث عن هذا في النت فوجدت مايطلق عليه باضطراب بالاكتناز القهري Compulsive Hoarding

يعرفونه على أنه مرض نفسي يجعلك تجمع الأشياء دون مبرر. أحاول جاهدا أن أحلل مبرراتي هل هي فعلا واهية، أم أن المشكل هو الآخرون على حد تعبير جون بول سارتر _ ملطفا_

مصر رسالة استغاثة “ثالثة” مُسربة من داخل السجون

الثالثة في أقل من أسبوع..رسالة استغاثة “ثالثة” مُسربة من داخل السجون، وهذه المرة من سجن المنيا “شديد الحراسة”.رسالة قصيرة للغاية حملت إشارات مختصرة لأشكال معاناة لا تسعها الكلمات!الرسالة التي وصلت منظمة – حقهم – نسخة منها كان نصها كالتالي:(تردي الأوضاع الإنسانية)

???? التضييق وسوء المعاملة والإهمال الطبي، ومنع كافة أشكال المعرفة بمنع الكتب ومنع أبسط حقوق الإنسان وهي الهواء والشمس.

???? التعسف في التفتيش وبعثرة محتويات الزنزانة وإفسادها بالتعدي في التفتيش الذي يصل إلى حد الأذى النفسي والبدني.

???? ضيق الزنزانة التي لا تتجاوز مساحتها عن 2 × 2 ويسكنها 3 أو 4 أفراد، الذي يجعل في أوقات كثيرة النوم على نوبات متعاقبة بسبب ضيق المكان بالإضافة إلى عدم توفر إضاءة نهائي داخل الزنزانة.

#حقهم #مصر#حقهم_حرية#

TheirRight#

FreeThemAllmAll

رسالة مسربة من سجن النساء الجديد بالعاشر .. كاميرات تجسس ( مراقبة ) داخل الزنازين

رسالة مسربة من سجن النساء الجديد بالعاشر .. كاميرات تجسس ( مراقبة ) داخل الزنازين! نص الرسالة فوجئت المعتقلات السياسيات بوجود كاميرات مراقبة في سجن النساء الجديد بمنطقة سجون العاشر من رمضان، وهو الذي تم نقل المعتقلات إليه قبل 3 أسابيع دون غيرهن من باقي السجينات اللاتي مازلن في سجن النسا بالقناطر الخيرية. وقد اعترضت المعتقلات على هذا الإجراء إلا إنهن فوجئن برد إدارة السجن أن الكاميرات موجودة لرصد حركاتهن على مدار الساعة حسب تعليمات وزير الداخلية؛ وهو ما اضطر المعتقلات لإرتداء ملابسهن كاملة بالحجاب طوال اليوم!، خوفاً من تصويرهن واستغلال هذه الصور ضدهن، كما جرى مع الناشط الحقوقي علاء عبد الفتاح الذي تم تصويره من داخل زنزانته وهو يشرب مياه غازية لإثبات أنه غير مضرب عن الطعام. مع العلم أن هذه الكاميرات مراقبة من أكثر من 12 مكتب .. بدءا من رئاسة الجمهورية حتي ضابط الاتصال في السجن، مرورا بوزير الداخلية ورئيس قطاع الأمن الوطني ورئيس قطاع السجون وضباط الأمن الوطني المسئولون عن السجون، وانتهاءا بأربع جهات داخل السجن نفسه. وتؤكد المعتقلات أنهن مراقبات على مدار الساعة وأنهن يتناوبن فترات النوم حتى تقوم كل معتقلة بإيقاظ زميلتها إذا انكشف منها شئ من جسدها أثناء النوم. وتطالب المعتقلات بوقف هذه المهزلة التي تنتهك أدني حقوق الخصوصية وتمثل وسيلة ابتزاز وتحرش واضح ضد المعتقلات، كما أنهن يتوجهن بهذه الشكوي للمجلس القومي لحقوق المرأة وكل المدافعات عن المرأة في كل العالم لوقف هذه الكارثة غير الأخلاقية التي تقوم بها وزارة الداخلية ضد المعتقلات السياسيات.

#الداخلية_تتحرش_بالمعتقلات

#انقذوا_المعتقلات_من_كاميرات_الداخلية

#عشرية_القمع #مصر #FreeThemAll

رمضان وتفتيشات السجون ..

شهر رمضان هو شهر الرحمة.. رحمة للفقراء.. رحمة للمعتقلين.. رحمة للناس أجمعين.

لقد كان شهر رمضان كله رحمة على المعتقلين.. فحينما يهل الشهر الكريم تتوقف تفتيشات مصلحة السجون.. وما أقسى هذه التفتيشات وأشدها على نفوس المعتقلين.

فهو ليس تفتيشا ً بالمعنى الدقيق إذ لم يكن لدى المعتقلين الإسلاميين أي شيء سوى بطانيتين قديمتين ينام بهما على الأرض فلا يغنيانه شيئا ً من برد الشتاء فلا يدري أينام عليهما ليحول بين جسده ورطوبة البلاط أم يتغطى بهما ليتوقى البرد.

لقد كان التفتيش عبارة عن تكدير وإهانة وإهدار للكرامة الدينية والإنسانية للمعتقلين.. وفي فترة التسعينات كانت التفتيشات في كل أسبوع أو أسبوعين من المصلحة.. وبين الحين والآخر من السجن نفسه.. وكانت التفتيشات تبث الرعب في قلوب المعتقلين من الجنائيين والإسلاميين على السواء.

وكان الإخوة يمكثون كل يوم مستيقظين بعد صلاة الفجر يدعون الله ويلجأون إليه ويستجيرون بحوله وقوته سبحانه أن ينجيهم من هول التفتيشات.. وأن يمر اليوم بسلام.. ولا يغمض لهم جفن حتى تأتي الثامنة صباحا ً ويفتح الشاوشية العنابر دون تفتيش.

وكانت قوات مصلحة السجون تسبق المخبرين وضباط المباحث في التفتيش بنصف ساعة تقريبا ً تصيح خلالها صيحات مدوية داخل السجن: “هو.. هو.. هو.. هو..” في صوت واحد كالرعد يجعل دقات قلب المعتقلين تتسارع في الدق.. يصاحبها نباح فظيع من الكلاب البوليسية الخاصة بمصلحة السجون.. مع كل نبحة كلب تزداد دقات القلوب.. ويدب الرعب في النفوس.

ثم تأتي لحظة دخول القوات للعنابر وفتح الغرف.. واصطفاف المعتقلين بوجوههم إلى الحائط وهم يرفعون أيديهم كالأسرى.. وقد يضربون تنفلا ً من الجنود والمخبرين حتى لو لم يأمروا بذلك.. فهو كالكلأ المستباح.

ثم يتم بعثرة كل شيء: السكر على المنظفات.. والشاي على الرابسو.. والعسل على الدقيق.. وهكذا يتم خلط المتناقضات مع بعضها حتى لا يستفيد المعتقل من أي شيء فيها.

ويتم استلاب ما يمكن استلابه إن كان المعتقل غنيا ً أو ثريا ً.. أو تلطيش المعتقلين في نهاية التفتيش.

أما لو وجد كتاب أو قلم أو كراسة فهي المصيبة التي لا تغتفر.. وأذكر في مرة من المرات أن ضرب عنبر كامل في سجن العقرب لأنهم وجدوا في إحدى غرفه أنبوبة قلم جاف.. ومعظم الذين ضربوا في العنبر كانوا مهندسين وأطباء وعلماء وخريجي جامعات ومن أسر فاضلة.

وكانوا يصادرون كل شيء بحجة أنه ممنوع.. وكان هناك رئيس مباحث غريب الأطوار في ليمان طرة اسمه “هشام”.. وكان مولعا ً بمصادرة الحلل وأطباق الألمونيوم وأكواب الشاي الزجاجية والملاعق من المعتقلين السياسيين الإسلاميين الذين لم يستخدموا هذه الأدوات أبدا ً للإخلال بأمن السجن.

وكنا نمزح دائما ً بعد التفتيش ونقول:

إن لديه عقده من هذه الأشياء.. ولا ندري ماذا تفعل زوجته.. هل تخفي منه حلل المطبخ أم ماذا؟

وتفتيشات التسعينات هذه كانت تنتهي دوما ً بإلقاء قنبلة غاز تفاريح على العنبر بعد نهاية التفتيش.. وكان يفعل ذلك قائد القوات.. وكان اسمه “عمر بيه” وكان جبارا ً عنيدا ً.

والحمد لله ضبط متلبسا ً مع سكرتيرته في وضع مخل.. وضبط وقد استولى على المرتبات التي تعطى للجنود في نهاية خدمتهم بعد أن كان يجبرهم على التوقيع على الكشوف.. فطرد بعد ذلك من الداخلية.

وقد كان الجميع يدعو على هذا الرجل باستمرار دون انقطاع.. لأنه كان حرامي ولص.. وفي الوقت نفسه كان جبارا ً ومجرما ً.. وكنا نقول لأنفسنا:

ما دمت لصا ً وعلى رأسك بطحة.. فكن رحيما ً حتى لا تجمع بين السوأتين.

وهذه التفتيشات المستمرة أدت إلى حالات من الاكتئاب والقلق المرضي واضطراب ضربات القلب بين المعتقلين.. فآه .. ثم آه.. ثم آه من قهر الرجال الذي استعاذ منه الرسول (صلى الله عليه وسلم) في دعائه المعروف.  

حتى أن كثيرا ً من المعتقلين الجنائيين كان يعالج عندي من هذه الأمراض.. وبعضهم كان يقول لي:

“عندما اسمع ضربة المفتاح في الباب تزداد ضربات قلبي من الخوف من المجهول”.

وبعضهم أصيب بالرهاب النفسي.

فإذا جاء شهر رمضان تنفس المعتقلون الصعداء.. وقالوا جميعا ً:

جاء شهر الفرج.. لن نسمع الكلاب ونباحها.. ولا الجنود وصيحات: “هو.. هو”.. ولا: “وشك للحيط”.. ولا قنابل عمر بيه.. ولا مصادرة كل شيء حتى الحلة الصغيرة أو السخان البسيط.

ويبدأ الشعور بالأمن والأمان والسكينة وفتح الزنازين لقيام الليل وتوزيع الطعام للفقراء والمسكين وتغمر السكينة الجميع.

إنه شهر رمضان شهر الرحمة.. الرحمة لكل أحد حتى المعتقلين

السبت الموافق

27-9-1432هـ

27-8-2011

فصول من ذاكرة الاعتقال والممارسة السجنية بالمغرب في سنوات الرصاص في متن كتاب «عائد من المشرحة

مغربنا 1 المغرب

«عائد من المشرحة «عنوان كتاب للأستاذ أحمد حو، صدر عن دار الوطن للصحافة والطباعة والنشر، سنة 2021، وهو في سمته سيرة، سيرة كاتبه الأستاذ أحمد حو. والكتاب في 233 صفحة مجذذة في عشرة فصول تعقبها الملاحق، بما هي صور ووثائق.
»عائد من المشرحة» سمته سيرة، حسب إفصاح الكاتب، ويبقى كذلك، لولا أن القارئ يلفى فيه معنى آخر، صورة أخرى، قد تعكس وجها من أوجه الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في المغرب. ومن حسن حظ الذاكرة أن تصادف من يبوح بها. وما أكثر الذين لم يمكنهم الحظ ليعيشوا لحظة يمكنهم الظرف من البوح. وأحبّ أن أعتذر الأستاذ أحمد حو، فقد أزيغ وأبخس تقديره بالقول: إن كتابك لا يندرج ضمن أدب السيرة، فقط، بل هو، أيضا، كتاب في الذاكرة. وعلى المؤرخين أن يشتغلوا عليه لاستخلاص المادة التاريخية.
وجدتني منبهرا بطاقة الرجل في التحمل، وأنا أقرأ الكتاب، حتى كدت أتراجع عن إجراء هذه القراءة. وفي الحقيقة، يظل إجراء القراءة في كتاب الذاكرة عمل يسئ للكاتب وللكتاب، ولو كانت القراءة سليمة من كل شية، لأن الذاكرة ذاتية، وهي في ملك الشخص الذي طوعت له نفسه أن يبوح. وأما تقدير صناعة الذاكرة وتمييزها من حيث كونُها ذاكرةً، أو بيانها من حيث غناها، وما إذا كانت حقلا خصبا للمؤرخ، فأمر جائز. ولست أدري كيف ستدافع عن نفسك، إن قيل لك، ما الذي حملك لتمس ذاكرتي أو ذاكرة زيد أو عمرو بالقرح؟ وباختصار، فإجراء القراءة في كتاب الذاكرة مجازفة، فمعذرة مني إلى الكاتب عن هذا الفعل. سأخفف الوطء ووقع المجازفة، وستقتصر قراءتي لهذا العمل الغني على بيان بعض أوجه الذاكرة فيه، وهي كثيرة. وإني أظن أن بيانها، أو بالأحرى إعادة إبرازها مفيد مادام الكاتب أمينا في إحساسه، حسنا في سلوكه وسيرته، عفيفا لا يبتغي من آدائه جزاء ونوالا.
نعم، إن الذاكرة ذاتية لذلك أحب أن أسجل أني لا أصادر بهذا الموقف مواقف أخرى إذ يمكن أن يأخذ الكتاب معنى آخر، وبعدا آخر، إذ «لا يسجل، فقط، سيرة أحمد الحو ومحنته، وهو شاب في مخافر الأمن السرية والعلنية، وليس فقط وثيقة تاريخية تكشف عن مجاهيل سنوات الرصاص، وكيف كان الجلادون يرتقون في سلاليم الإدارة بمعيار من هو أكثر مهارة منهم في صنع الملفات وتشكيل خلايا المعارضة وتوريطها في سيناريوهات مفبركة من العنف والاعتداء على الأمن، ثو تفكيكها وتقديم الضحايا المختارين بشكل عشوائي قرابين على مذبح السلطة، وليس كتابا يعري وجه السلطة البشع حينما تصير في يد الجلادين يمارسونها خارج القانون ومراقبة المجتمع، إنما هو أيضا ينبهنا إلى أن القطع مع هذا الماضي المخزي لا يمكن أن يتحقق بدون وضع حد للإفلات من العقاب»، يقول الأستاذ محمد السكتاوي، الصفحة 19 من الكتاب.
والأستاذ أحمد حو ثقي ذو قصد سليم، لذا فكل ما أفصح عنه يعد شهادة وجب أخذها كلها، وهي، كما قال الأستاذ المحجوب الهيبة، تشكل «مصدرا غنيا للمعلومات والمعطيات المتعلقة بماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان»، الصفحة 14 من الكتاب. فلا مجال لننثني، هنا، أو هناك، أو نزاوَرُ عن مجال الذاكرة. ذلك أن الكتاب تعبير عن «مرارة الحياة داخل السجن ودهاليز التعذيب»، كما قال الأستاذ عبد النبي الشراط، وهو يقدم الكتاب، فضلا عن «أن الكاتب صاحب المذكرات أبدع في وصف حقائق الأمور التي كانت تجري أمام عينيه داخل هذه الأماكن المرعبة والمظلمة»، يضيف الأستاذ الشراط. فما كان للقارئ إلا أن يصادف أن للتجربة «ما يميزها عن غيرها مما نسميه»، أدب السجون.
» عائد من المشرحة » تجربة إنسان واجه محنة حرية الاجتهاد داخل المعتقد، محنة اعتماد نهج معين في الدين، فكان صورة تذكارية لما حصل من مصادرة للحرية منذ العصر الأموي حيث ذُبح الجعد بن درهم، يوم عيد الأضحى، واضطهد المعتزلة، وعاش ابن رشد المحنة، وقطع رأس الفقيه الزقاق في بداية الدولة السعدية في المغرب. وكادت المشرحة تتكرر مع الكاتب الذي لم يرتكب ذنبا ولم تلصق بذمته زلة عظيمة أو لميمة.
»عائد من المشرحة» مذكرات «أحد ضحايا ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ببلادنا، التي اختارت في نهاية تسعينيات القرن الماضي تسوية ملفاته وفق آلية العدالة الانتقالية»، يقول الأستاذ المحجوب الهيبة. وإنها «مساهمة أخرى فيما يعرف بمذكرات الاعتقال السياسي أو آدابه». ويضيف الأستاذ المحجوب أن هذه المذكرات شكلت «مصدرا أساسيا في التعريف بتلك الانتهاكات والاستئناس بها في عمل هيئة الإنصاف والمصالحة، إنها تساهم بما لا شك فيه في حفظ الذاكرة. وهو عنصر أساسي في تجارب العدالة الانتقالية».
ولما كانت الذاكرة صناعة مستحدثة في الخطاب المغربي المعاصر، لصاحبتها هيئة الإنصاف والمصالحة، التي لم تعمل ما ينبغي عمله لإبرازها بالوجه اللائق، إذ قدرتها عنصرا ضمن برنامج جبر الضرر الجماعي، لا يزال تصنيف الخطاب ضمن الذاكرة يواجه بعض التعثر، فيقتصر التقدير – تقدير الخطاب- أنه أدب السجون، أو مذكرات، أو خواطر. ولم يجر الاشتغال، بعد، في مدرجات الجامعات على الذاكرة، من حيث إبداعها لمادة أدبية، أو مادة سينمائية، أو مسرحية، أو مادة المؤرخ بالدرجة الأولى.
وقبل العروج إلى مواطن الذاكرة في الكتاب، جدر السؤال: لماذا العنوان، «عائد من المشرحة»؟
نعود إلى شهادة الأستاذ المحجوب الهيبة لنستشف مغزى العنوان »عائد من المشرحة». مفاد الشهادة أن السيد أحمد حو ضمن مجموعة 71 الذين اعتقلوا يوم 31 من غشت من العام 1983، وهو من الذين عذبوا بدرب مولاي الشريف، وحوكم بالإعدام يوم 30 من غشت من العام 1984، وكان نقله «إلى حي الإعدام بالسجن المركزي بالقنيطرة مباشرة بعد الحكم عليه بهذه العقوبة القاسية والقصوى، أي: في 31 من غشت 1984». وقضى السيد أحمد حو «حوالي عشر سنوات محكوما بالإعدام، قبل تحويل هذه الأخيرة إلى عقوبة المؤبد سنة 1994»، وجرى «الإفراج عنه بموجب عفو شامل سنة 1998».
ولما صدر الكتاب سنة 2021 حسن العودة إلى السياق الذي يمكن أن يبطنه، السياق الذي «عرف تطورا ملحوظا فيما يخص عقوبة الإعدام». ذلك أن «ما يزيد عن ثلثي دول العالم ألغتها، إما قانونا وإما في الممارسة. كما أن عدد المحكومين بها وتنفيذها في حقهم آخذا في التراجع سنة بعد سنة عبر العالم، وخلال العقدين الآخيرين، ما يزيد عن خمسين دولة ألغت قانونا العقوبة المذكورة. وحسب إحصائيات دولية رسمية، وصل عدد الدول التي ألغتها قانونا أو في الممارسة 163 دولة، وبالتالي، فالتوجه العام يسير بصورة متواصلة نحو الإلغاء»، يقول الأستاذ المحجوب الهيبة، في الصفحة 16 من الكتاب. فالكتاب يبطن في طياته أملا حقوقيا، إلغاء عقوبة الإعدام، ونصرة الحق في الحياة.
ما هي أوجه الذاكرة في كتاب «عائد من المشرحة»؟
نسجل، في البدء، ومع الاطلاع على الفقرة من المقدمة، أن الكتاب وجه من أوجه الذاكرة، إذ صدر و«الساحة الأدبية قد حفلت بالعديد من المذكرات، التي تؤرخ لتجربة عصيبة عانى فيها الكثير من ويلات السجون والمعتقلات السرية والمنافي. ولذلك، كانت كلمة تجربة تختص بالدرجة الأولى بذكر ما وقع فيها، لأنها تعاش فقط»، الصفحة 25 من الكتاب. والتجربة تستصحب معها سمة من سمات الذاكرة، سمة الذاتية، وقد تمتد، عبر الذات، لتمس «المعتقل والمنفى بكل قوة في جسده وفي مشاعره وفي وعيه وفي محيطه». ويراد من الكتاب الانتقال بالذاكرة من الشفاهية إلى الكتابية. وقد مكنت تلك المذكرات والتجارب «بلادنا من توثيق قسم هام لذاكرته ولتاريخه الحديث»، الصفحة 26. ومما يميز تجربة الأستاذ أحمد حو، وبالأحرى، ذاكرته أنها تخص التيار الإسلامي، في الوقت الذي طفت فيه تجارب اليسار والعسكريين على السطح. هنا وجبت الإشارة إلى أن الذاكرة لا تخص المذهب السياسي بقدر ما تخص الإحساس واستعادة الماضي وجعلها يستمر في الحاضر. لذلك رأى الكاتب أن اللحظة «فارقة لاستعادة ذاكرو يحتاج المغاربة إلى الحفاظ عليها من الاندثار والنسيان»، الصفحة 26.
نسجل في الثاني أن الكاتب وقف عند لقطة الانتهاك، والأحداث التي انجر عنها الانتهاك، وحرص على نقل الحدث، إذ سطر لقطة سنة 1981، حيث جرت «محاكمة المتهمين في قضية عمر بن جلون»، وصدور أحكام بالإعدام «في حق المتهمين باغتيال الزعيم الاتحادي»، وما صاحب ذلك من خروج مظاهرات، وقمع واعتقال. ولم يغفل الكاتب الوقوف عند وحدة الآداء في المشاركة في التظاهرات، «خصوصا في الثانويات وبتحالف مع اليسار لدرجة أن المناسبات التلاميذية التي كان يخلدها اليسار»، يدعمها تلاميذ التيار الإسلامي ويشاركون فيها «كما كان الحال في مناسبة 23 مارس 1973 الخاصة بأحداث مولاي بوعزة الأليمة، والانتهاكات الجسيمة التي صاحبتها من إعدام وقتل وتشريد ونفي، مس منطقة الأطلس المتوسط كلها»، والمغرب كله، «وكان لمخلفات الانتفاضة الاجتماعية بالدار البيضاء سنة 1981» الأثر الكبير على نفس الكاتب، الصفحة 38.
ولم يغفل الكاتب أن يخصص نبذة عن انتفاضة شهداء الكوميرا في 20 من شهر يونيو من سنة 1981 و21 منه، بما هي مكان للذاكرة، وقدرها «أحد مظاهر الاحتجاج في تاريخ المغرب الحديث»، الصفحة 38، فكان الانتهاك «بالضرب والجرح والقتل بالرصاص الحي والاختطاف والاعتقال»، و«انتهاك حرمات البيوت وترويع سكانها وسرقة ما غلا ثمنه، وخف وزنه»، وجرى أن «اسفرت تلك الأحداث عن سقوط عشرات القتلى ومئات من الجرحى، حيث بينت التحريات فيما بعد أن الإصابات مست الأجزاء الحساسة من الجسم كالرأس والصدر والقلب»، الصفحة 39 من الكتاب. إنها مكان في الذاكرة، لأنها «بمثابة النار في الهشيم لإشعال كل حس مناهض للطغيان والقتل والتنكيل، خاصة عندما يرى المرء بأم عينه كيف عبثت الدبابات والبنادق بالأجساد ولم تفرق بين صغير وكبير»، الصفحة 39.
أثناء اندلاع حريق الاعتقال انثنى الأستاذ أحمد حو بالإشارة إلى الذين استغلت الشبيبة الإسلامية «عدم معرفتهم بألاعيبها، وأولئك المرتزقة الذين سعت هذه الحركة أن تجعل منهم محرقة لأهدافها غير المعلنة». ولطفا من الأستاذ أحمد حو، أشار إلى أحد المرتزقة باسم مستعار، كان «أظهر التعاون ولم يتلق بذلك صفعة واحدة»، وأتيحت للكاتب الفرصة ليراه بين أحضان الشرطة، وقد أجلسوه «في أريكة مريحة، وبين يديه كأس قهوة معتقة، وبين الفينة والأخرى كان يتلذذ بمضغ العلك، وقد زعم ذات يوم أنه تعرض للتعذيب، للضرب عبر «الطيارة»»، وهي تقنية من تقنيات التعذيب، لذلك قال له الأستاذ أحمد حو: «صفها لي فبهت الذي كذب»، الصفحة 44 من الكتاب. واللقطة وجه آخر من أوجه الذاكرة، لنزوع الكاتب نحو إخفاء هؤلاء المرتزقة. وجدير بالذكر، أن الذاكرة لا تكون كذلك حتى تستغرق فصولا من النسيان المراد.
كانت الاعتقالات وقتها كالنار في الهشيم تمتد تدريجيا وتنتشر، فالذي نجا بعض الوقت يكون الحظ، قد أمهله قليلا، وساعده لينتظر دوره. هنالك، و«بعد اعتقالات غشت سنة 1983»، حصلت «مداهمة بيت العائلة في أوقات من الليل متأخرة، وبشكل همجي»، ولم يكن الكاتب وحدها حاضرا، فكان تبكيتها واعتقال والده. ولما حضر، وأخبر بما حصل، قال في نفسه: «أنا المعني بالأمر وأنا المسؤول عن العمل الذي قمت به، ولا يمكن أن تؤدي عائلتي ثمن قناعاتي السياسية»، فقرر تسليم نفسه، وذلك يوم 31 غشت 1983. ومن عناصر الذاكرة، بما هي الماضي في الحاضر والماضي الممتد إلى المستقبل، الإفصاح عن لحظات الوهم. فالكاتب قدر الأمر الذي يواجهه أنه «لا يعدو أن يكون مجرد شبهة كما في السابق، أو في أسوأ الأحوال غرامة من أجل جنحة العبث بطلاء جدار أو مخالفة بعدم الأشعار»، أو يصدر حكم مخفف في حقه، لأن ما فعله، «كان مجرد تعبير عن رأي، ولم يصاحبه أي عمل مقترن بجرائم الدم قولا أو فعلا»، الصفحة 45، لكن المشنقة هي التي تنتظره. وبين وهم الذاكرة والحقيقة الواقعية تأخذ صناعة الذاكرة، التي برع الأستاذ أحمد حو في إنشائها، صورتها الكاملة.
جل تجارب الذاكرة المغربية تظهر في متنها ماهية التعذيب، أدواته، دون التعريف بالتعذيب، ومن يفعل غير ذلك فقد ازاوَر عن صناعة الذاكرة. يقول الكاتب: «وقبل أن يبدؤوا جولة التعذيب عرضوا علي أحجاما مختلفة من السياط وأدوات التعذيب وأنواعا من السوائل المنظفة والقاذورات [التي] تستعمل للخنق والقارورات المخصصة للاغتصاب، وآلة الصعق الكهربائي، ولما لاحظوا أن الأمر لم يغير من نفسيتي شيئا، عمدوا إلى أول جولة من التعذيب ستتبعها جولات أخرى». ويعنينا أن الكاتب وقف عند التبكيت في صلته بانتزاع المعلومات، وذاك هو المغزى من التعذيب. والسيد أحمد حو من الذين يدرون، حق الدراية معنى التعذيب، لذلك ذكر مصطلح «التعذيب»، ونقل معناه بأسلوب أدبي يبين للقارئ ماهية التعذيب، وذاك من مظاهر الذاكرة. يقول: «وحين كنت أصرخ من شدة الألم، كانوا يقولون لي: إذا كنت تريد أن تعترف، ما عليك إلا أن ترفع أصبعك»، الصفحة 46.
وكما هو شأن جل صناعات الذاكرة، يتوجب الانعراج غلى المكان، معتقل درب مولاي الشريف بالدار البيضاء. «بناية لم يكن يعرف سرها حتى القاطنين بالقرب منها، أو الذين يسكنون في طوابقها الثلاث العليا، فهي تقع بالقرب من حي مولاي الشريف بالحي المحمدي، فهي تقع بالقرب من حي درب مولاي الشريف بالحي المحمدي بالدار البيضاء». وتحتضن البناية معتقلا سريا رهيبا، «تحال عليه أيضا، بالإضافة إلى قضايا الاعتقال السري قضايا الانفصال والتجسس وقضايا الجريمة العابرة للقارات، كالمتاجرة في الكوكايين وتزوير العملة». يمتد المعتقل بالسرية لتغشى «أزيد من ثلاثين شقة تقطن بها عائلات موظفي الأمن»، (الصفحة 49 من الكتاب)، لا يعلم قاطنيها أن بأسفلهم سجن سري رهيب. وتمتد جذور المعتقل في الزمان إلى عهد الحماية الفرنسية، واستمر نشاطه، بما هو معتقل سري في عهد الاستقلال. هنا وجب استلهام رأي الأستاذة إرسني نيدو عضو الائتلاف الدولي لحفظ أماكن الذاكرة إذ أشارت، أثناء اليوم الدراسي حول معتقل تازمامارت بالرباط، الذي نظمه المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان والمعهد الدولي للعدالة الانتقالية، يوم 20 من شهر دجنبر من العام 2008، إلى أن: «حفظ الذاكرة يستلزم من باب أولي مراعاة السياقات المحلية والخصوصيات الثقافية والاجتماعية للسكان والمناطق. فمراكز الاعتقال ليست صماء، ولكنها مواقع ينبغي أن ينظر إليها على أنها حافز للأجيال على التساؤل حول ما جرى من انتهاكات وحول شروط ضمان عدم تكرارها، حتى لا تكون مجالا لمد الجسور وخلق الروابط والحديث عن قضايا حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية».
وقف الكاتب عند الحياة في معتقل درب مولاي الشريف من الصفحة 51 من الكتاب إلى الصفحة 62، وهي مدة تداني «خمسة أشهر ونصف» من العذاب يشهد عليها الذين جرى «غسل أدمغتهم، حتى لم يبق لهم عقل يميزون به، ومنهم من حمل معه جروحا وندوبا نفسية وجسدية لن تندمل أبد الدهر». معتقل استقبل الضحايا نحو «أبرهام السرفاتي، وأمين التهاني، وسعيدة المنبهي». معتقل دبر أمره جلادون، يقول عنهم الكاتب، إن نذالتهم «أحالتنا إلى أجساد ممزقة من فرط الإدلال والجلد والانتقام والوحشية التي تجعل من الجلاد أخس وأشرس من الوحوش الضواري»، الصفحة 62. وبين مدة الاعتقال البعيدة بدون محاكمة، والتناقض بين الضيف الضحية والجلاد المستضيف توفق الأستاذ أحمد حو من رسم ذاكرة معتقل درب مولاي الشريف.
ومع تتبع الحدث، ذي الصلة بالذات التي تبوح بما حصل، وبما ينبغي أن يكون في الماضي، أو في الحاضر، كان التمهيد للقول في السجن المدني «اغبيلية» بالدار البيضاء. سمي السجن «اغبيلية» لأن «المساحة التي بني عليها السجن أيام الحماية كانت مخصصة لمقبرة». إنه «أحد السجون المخضرمة التي كانت مذبحة، تنفذ فيه الإعدامات وأبشع الممارسات في حق عناصر المقاومة، إبان فترة الحماية الفرنسية، ولم تنج منها انتفاضة «كاريان سونطرال» التي وجهت بقمع منقطع النظير من لدن المستعمر الفرنسي». وهو «اليوم معروض للبيع لمافيا العقار لطمس معالم الذاكرة». أو ليس «معلمة تحمل في طياتها تاريخا أسود للقمع السياسي، أقلها أن ساحته كانت مكانا لتنفيذ حكم الإعدام في حق عناصر المقاومة»؟ الصفحة 63 من الكتاب. بلى، وذاك ما دفع جمعية الدار البيضاء الذاكرة «casamémoire» لتنتبه إلى ذاكرة «كاريان سونطرال»، وذاك ما دفع المؤرخ المقتدر التقي نجيب ثقي ليؤلف كاتبا حول «جوانب من ذاكرة كاريان سونطرال، الحي المحمدي الدار البيضاء في القرن العشرين». ولا غرو، فأماكن الذاكرة ممتدة في الزمان. ذلك أن بساط معتقل تازمامارت هو نفسه مجال قيادة عدي وبيهي التي سامت الأبرياء سوء المعاملة. وسجن أكدز قصبة من قصبات الكلاوي. وليقس على سجن تاكونيت وقلعة مكونة. ولحسن الحظ أن سجن «اغبيلية» سجن نظامي، حسب ما أفصح به ثلاثة سجناء من الحق العام، «أخبرونا أن إدارة السجن وضعتهم لمراقبة كل حركتنا وهمساتنا، وقد أوضحوا لنا أن الكلام والحركة والنظر مسموح بها، وأننا في سجن نظامي وليس في معتقل سري، وهم الذين مكنونا من تذوق بعض الأكل والشاي الساخن…»، الصفحة 65. ولم يغفل الكاتب سرد نبذة عن السجن المركزي بالقنيطرة بين الماضي والحاضر، انظر الصفحة 116 وما بعدها.
لم يختلف وضع محكمة الجنايات بحي «الحيبوس» بالدار البيضاء يوم 13 من شهر يناير من العام 1984 من حيث الإذلال والتبكيت عن مشاهد المعاناة التي سلف للكاتب أن فصل فيها القول. ولقد كان اليوم يوما طويلا «حيث نقلونا في طابور من السيارات على الساعة الثالثة صباحا، معصوبي العينين، مقيدي اليدين. وعند وصولنا إلى باب محكمة الاستئناف أزالوا العصابة على أعيننا بعد أن وضعونا في قبو، تفوح منه رائحة البول والغائظ»، الصفحة 63. ولم تنج الحياة داخل السجن من الاكتظاظ وانعدام الشروط الإنسانية، «بها مرحاض مكشوف تتناسل فيه كل القاذورات والحشرات والجرذان والصراصير»، وانتشار الظلام الدامس، (الصفحة 66 وما بعدها). وجرت المحاكمة في أجواء متوترة، بعيد أحداث يناير 1984، لتبرير إنزال أقسى العقوبات.
يمكن قياس ما حمله القانون 23- 98 على وضع السجن في كتاب «العائد من المشرحة»، لبيان الفرق الشاسع من حيث التغذية، والمعاملة، والفسحة، والزيارة: «لم يكن لنا من حق في الفسحة سوى ربع ساعة في اليوم، وبعد أسبوع نودي علي وأخبروني أن أهلي ينتظروني في المزار، الذي كان به حواجز مشتبكة من أسلاك الحديد، وكان يفصل بيني وبين عائلتي حاجزين»، الصفحة 65 من الكتاب.
ويمكن قياس حال المحاكمة قبل الإصلاح الذي غشي قانون المسطرة الجنائية، ففتلك الأثناء كانت مصادرة الحق في التبليغ بالتهمة. فبعد التقديم أمام المحكمة جرى التبليغ «بالتهم التي أتابع من أجلها حضوريا»، الصفحة 71 من الكتاب المذكور، و«رفضت المحكمة كل الدفوعات الشكلية والجوهرية للدفاع، كتجاوز مدة الحراسة النظرية التي فاقت الستة أشهر، وغياب حالات التلبس، ولا قانونية المداهمات للبيوت وتفتيشها بدون إذن قضائي… ورفض إنجاز أية خبرة خصوصا حول حالات التعذيب التي كانت واضحة»، (الصفحة 71 من الكتاب المذكور)، وكلها مشاهد من الانتهاكات حاقت بالمحاكمة، «التي تفتقد لأي عنصر من عناصر المحاكمة العادلة، كقرينة البراءة، واحترام المساطر والقوانين الجاري بها العمل»، فكان أن أصدر القاضي الخاضع «لتعليمات فوقية حكما بالإعدام»، في حق السيد أحمد حو، وخمسة من زملائه بتاريخ 30 من شهر يوليوز من العام 1984، (الصفحة 74 من الكتاب المذكور).
لما قُضي الأمر، وجب الترحيل إلى السجن المركزي بالقنيطرة في الفاتح من شهر غشت من العام 1984، ليكون الاعتقال «في زنزانة مساحتها 4 أمتار مربعة… بداخل الزنزانة حفرة سموها مرحاضا ليس بها أي ساتر، مما يجعلها مرتعا للروائح الكريهة ومرتعا لخروج جرذان كبيرة يجب التعايش معها»، (الصفحة 82 من الكتاب)، نُصرةً للحياة، ودفاعا عن انتصار الحياة. و«الحي مصمم على شكل هلال، وبارد برود المشرحة وصامت صمت المقبرة، صمته رهيب يجعلك في خوف دائم»، (الصفحة 82 من الكتاب).
ومن حسن الحظ أن اتسعت فرص النجاة من المشرحة، إلى أن ظهرت سياقات الانفراج سنة 1990 فتحسنت ظروف الزيارة، والتغذية بالسجن وتحسن التطبيب، وسُمح بمتابعة الدراسة، وجرى التواصل بالجرائد. وأثناء مقام الكاتب بالسجن المركزي بالقنيطرة حكى عن المعتقلين، وفصل القول في انتمائهم السياسي. ففي أجواء الانفراج تحولت العقوبة من الإعدام إلى المؤبد، «وهو الأمر الذي استفاد منه كل المعتقلين السياسيين الإحدى عشر المحكومين بالإعدام، وأيضا غالبية المحكومين بالإعدام من سجناء الحق العام الذين كان عددهم يتجاوز الثمانين»، الصفحة 150 من الكتاب المذكور. وكان الانتقال إلى سجن عكاشة بالدار البيضاء، فنشأ الترافع على الملف المطلبي «الخاص بالوضعية داخل السجن»، الصفحة 159 من الكتاب المذكور.
لم تتوقف الذاكرة بعد الانفراج، وبعد العفو الذي استفاد منه السيد أحمد حو. فمن مميزات الذاكرة الديمومة، واستمرار الماضي في الحاضر، كما سلفت إليه الإشارة. «ولأنه لم يكن أحد منا يرضى أن يكون الإفراج عنا منة وعفرا ذليلا من لدن من أحالوا حياتنا إلى جحيم لا يطاق، سواء داخل السجون وخارجها، فقد بدأت فكرة جبر الضرر ورد الاعتبار تسيطر على نقاشاتنا، إلى أن قررنا تأسيس منظمة لضحايا سنوات الرصاص»، الصفحة 184 من الكتاب المذكور.
كانت خاتمة الكتاب خاتمةً لمسلسل طويل من الانتهاك والتعذيب، والنضال ضد ذلك، إلى حين معايشة الكاتب لتأسيس هيئة التحكيم المستقلة للتعويض وهيئة الإنصاف والمصالحة، و«المشاركة في تأسي جمعية ضحايا سنوات الرصاص المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف، والوقفات الاحتجاجية والقافلات أمام أبشع السجون السرية من بينها تازمامارت ودرب مولاي الشريف»، ومتابعته عن قرب «للمفاوضات الممهدة لتأسي هيئة الإنصاف والمصالحة» واشتغاله بالمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، «ونسخته المعدلة المجلس الوطني لحقوق الإنسان»، الصفحة 198 من الكتاب المذكور. وليست الخاتمة خاتمة في دينامية الفعل الحقوقي، لقد توج ذلك بدستور 2011 الذي يعد «بحق دستور حقوق الإنسان»، وهو «خلاصة للكثير من التوصيات الصادرة في التقرير الختامي لهيئة الإنصاف والمصالحة»، الصفحة 199 من الكتاب المذكور.
ولما كانت الذاكرة تقضي استخلاص الدروس من الماضي والعبر. فما هي تلك الدروس والعبر؟
هناك دروس بارزة في متن الكتاب، وهناك دروس يمكن استخلاصها.
– «لقد أصبحت بحكم تجربتي مطالبا شرسا بإلغائها»، أحمد حو، الصفحة 94 من الكتاب المذكور.
– نضال عائلات المعتقلين، بالاعتصامات «أمام وزارة العدل وإدارة السجون والمقرات الرسمية السجون، والمقرات الرسمية، وأمام مقرات الصحف والمنظمات الحقوقية…»، الصفحة 154 من الكتاب، وقد توفقت «في تنوير الرأي العام الوطني والدولي»، وإيصال الرسالة المشفرة وغيرها إلى المعنيين.
– تحسن الوضع داخل السجون بفعل نضال السجناء صحبة عائلاتهم، فعم الإصلاح نظام السجون، فكان تضمين جزء كبير من القواعد الدنيا النموذجية لمعاملة السجناء في القانون 23- 98.
– وجوب استقلال الهيئة الحقوقية عن الأحزاب السياسية.
– الممارسة الحقوقية تقضي تحفيفها بأمل مستمر.

في الذكرى العاشرة لرحيله: قدور اليوسفي واعتقال والدي الحاج الجيلالي لعماري.الحلقة أولى

بقلم عبد الله لعماري

في الذكرى العاشرة لرحيله: قدور اليوسفي واعتقال والدي الحاج الجيلالي لعماري.حلقة أولى

مرت عشر سنوات على ارتقاء الوالد إلى الرفيق الأعلى، سريعة كسرعة الدهر الذي يجري كما تجري الشمس نحو مستقر لها، إذ افتقدناه رحمه الله سنة 2012 في متم شهر شتنبر.

وإذ أستحضر الذكرى أستحضر معها مايميز المجتمعات الإسلامية عن غيرها، في فضيلة التشبت القوي للأبناء بذكريات وآثار ومناقب الأباء والأمهات، فتبقى تلك الآثار والمناقب معالم هادية في مسار الحياة، ومظلات واقية وحامية للأصول والجذور والموروث الجمعي في الهوية والقيم والأمجاد.

ووالدي الحاج الجيلالي رحمه الله، كان هو المدرسة الأولى لي الحياة ، التي فتحت عيني على المبادئ العليا والقيم السامية والمثل النبيلة، غير أن تشربي لهذه المرجعية الصافية الراقية قادني بعيدا في الإبحار والإيغال في لجج الأمواج العالية العاتية، لما حملت في عقلي وروحي وعلى كاهلي مثل شرفاء البلاد هموم مستقبل وطن في الحرية والعدالة والكرامة.

لكنني وأنا أحلق في هذا الفضاء الحالم أرهقت معي المعلم الأول الحاج الجيلالي إرهاقا عرف فيه بسببي رعب الاعتقال، وعرف فيه أيضا ظلمات سنوات الجمر والقهر والرصاص.

ففي سنة 1981 شهر ديسمبر، شنت الأجهزة الأمنية حملة اعتقال واختطاف في عموم المدن المغربية استهدفت الصفوف القيادية للحركة الإسلامية آنذاك في الخط التنظيمي المرتبط بما عرف بالشبيبة الإسلامية، بعد أن تم تحويله إلى ماسمي بتنظيم الجماعة الإسلامية، وكنت واحدا من المجموعة القيادية السرية لتنظيم الشبيبة الإسلامية، التي باشرت هذا التحويل، وأسست وقادت التنظيم الجديد للجماعة الإسلامية.

كان ظاهر هذه الحملة من الإعتقالات هو أن تتمكن الأجهزة الأمنية من إعادة اكتشاف ورسم الخريطة التنظيمية الجديدة لهذه الحركة الإسلامية، والوصول إلى الفرز بين قياديي الجماعة الإسلامية وبين من تبقى في الشبيبة الإسلامية.

كانت هذه مهمة أمنية بسيطة تباشرها الأجهزة الأمنية السياسية الميدانية، ولكن الهدف الباطني والخفي الذي كانت تتوخاه الاستراتيجية الأمنية العليا للمهندسين الأمنيين الكبار، هي إعادة ترتيب أوضاع الحركة الإسلامية من خلال تشكيل التوجه الجديد الذي استخلف كليا الشبيبة الإسلامية، وهو تنظيم الجماعة الإسلامية، وذلك باتخاذ الاعتقال وسيلة تصفوية وتطهيرية تروم صوغ الجماعة الإسلامية بما يتلاءم مع المرحلة الجديدة وحملها على القطيعة مع الماضي بتفكيك بنيتها الفكرية السابقة وبنيتها التنظيمية السرية.

وهكذا تم تشديد الظغط داخل المعتقل على العناصر القيادية الأصيلة والرئيسيةلإقصاءها من الترتيبات المستقبلية، وكان المستهدف الأكبر من هذه العملية التطهيرية هو المرحوم الحاج علال العمراني، فقد كان العمراني هو القيادة الفعلية والميدانية للشبيبة الإسلامية، طيلة عهودها، ولما نشأت الجماعة الإسلامية سنة 1981 كان هو العقل المدبر والمفكر، وهو القائد التنظيمي المباشر، على عكس مايدعيه لنفسه الآن عبدالإله بنكيران. وكان الضغظ عليه يروم كسر معنوياته وحمله على الإنسحاب بعد الخروج من الإعتقال لإفساح المجال لمن كانت تعده هذه الإستراتيجية الأمنية ليكون مقدم هذه الجماعة وغفيرها.

أما علاقة هذا الحكي بشقاوتي وشقاوة والدي معي بسببي في هذه الحملة من الإعتقالات، هو أنني أعتقلت بالصدفة في منزل المرحوم العمراني، لما كنت قد قدمت إلى منزله لتفقد أبناءه وحاجياتهم بعد إختطافه بأيام، وصادف وجودي على باب المنزل، استقدامه من طرف الأجهزة الأمنية لتفتيش بيته، فكانت فرصة ثمينة للأمنيين لاصطيادي بدون عناء، وكانت صدمة قاسية لأخينا المرحوم علال العمراني،الذي رأى في هذا الاعتقال/ الاصطياد نكبة ستحل به وستحل بالتنظيم السري الذي كنا نقوده جميعا دون أن أكون معروفا.

حينما كان الأمنيون يسوقون المرحوم علال العمراني إلى بيته من أجل التفتيش، كنت أنا واقفا على باب بيته في الطابق الخامس والأخير، وإذ لحقوا بي دون أن أفطن، أسقط في يدي ، فلم يبق لي مجال في أن أصعد إلى أعلى لأتفادى مواجهتهم، ولم يبق لي سوى مجال المناورة، وفي ثانية قاسية من الزمن القاسي، ارتسمت في ذهني خيوط المناورة حينما التقت العيون بالعيون، في لحظة كان فيها العمراني قد اسود وجهه واربد من وقع صدمة المفاجأة.
فرح الأمنيون بضبط صيد ثمين، قد يكون لهم في نظرهم أفضل مما قد يأتي به التفتيش، وفوجئ المسكين علال العمراني وأنا أنقض عليه بعناق حار مصحوب بقبلات حارة، وأنا أناديه بصوت بدوي في المدينة ،كيف حالك آلفقيه، ثم أعرج على باقي الأمنيين بالعناق والقبلات، متظاهرا باعتباري لهم ضيوف الفقيه. وقد كان العمراني إمام الجمعة في مسجد بورنازيل.
لم ينطلي عليهم هذا التظاهر، وتوعدوني أنهم سيعرفون مني بعد حين هذه القصة ، قصة الفقيه.
في لحظة خاطفة، غافل العمراني الأمنيين الغارقين في التفتيش والجرد، ليهمس في أذني رحمه الله كلمة تهد الجبال مما كانت تطفح به من ألم المحنة والخوف، فقال لي: لاتذكرني ولو قطعوك إربا إربا، فأجبته بنفس النبرة والحمولة: لن أذكرك ولو ذوبوني وصيروني بخارا. وكنت بالفعل أهيء نفسي لصلابة العزم في معركة قادمة قاسية.
في كوميسارية لمعاريف سيئة الذكر بالرعب في ذلك الزمن، سأعرف القصة كاملة بكل فصولها الدامية، وكيف كان المرحوم العمراني في محنة شديدة، ذلك أنه كان يدفع عن نفسه كل معرفة وكل مسؤولية عن تنظيم الشباب، ويتنصل من ذلك بكل ماأوتي من قوة ومن إصرار ومن دهاء، بالرغم من أنه كان في واقع الأمر الكل في الكل، وكان الرأس الكبير في العمل كله، كان يؤكد للأمنيين بأن علاقته بالشبيبة الإسلامية كانت من خلال الجمعية، وليس من خلال الحركة، وأن الجمعية أغلقت أبوابها منذ سنة 1975 عند اغتيال عمر بن جلون، وأما الجماعة الإسلامية فلا علم له بها. لكن رفاقه الذين كان يظنهم رجالا كانوا يغدرون به وفي مواجهته بين يدي الأمنيين المحققين به، كان عبدالإله بنكيران يكشفه ويعريه وفي وجهه ويلقي عليه مسؤولية التنظيم كلها في وجهه وأمام المحققين، وكان سعد الدين العثماني يتحدث عنه بشفافية وبسخاء كبير وبكل أريحية، وكان العمراني يتشبت بالإنكار رغم الإحراج الشديد، وبينما هو كان يتخوف من التبعات في المستقبل، ومن محاكمات محتملة، كان هؤلاء في اطمئنان وهناء ضمير على المستقبل، ولكن بعض رفاقه من الدارالبيضاء كانوا رجالا أفذاذا واجهوا آلة التعذيب الرهيبة بالصمود والصمت،بالرغم من أنهم كانوا قياديين في التنظيم، أمثال محمد بيرواين وابراهيم بورجة وعبدالرحيم ريفلا وعبدالله بلكرد.
والآن جاء دوري، وقد ظن الأمنيون أنهم وضعوا أيديهم على الحجة التي ستقصم ظهر العمراني، وستحرر لسانه من عقاله، بعد أن سيتحرر لساني أنا الأول من عقاله، وسيصلون إلى الخريطة التي يبحثون عنها، رغم أن المؤلفة قلوبهم معهم الآنف ذكرهم أوضحوا لهم بعض هذه الخريطة.
لقد كنت في أيديهم غنيمة نفيسة، لذلك كان العمراني في كرب شديد من وجودي.

والدهم في الزيارات المكثفة بالليل والنهار، أنهم لا يبرحون صالة الضيوف، ولكن هؤلاء الوافدين الجدد دخلوا غرفة نوم والدهم،وبحثوا في دولاب الملابس، كنت جالسا أرقب هذا الوضع المحزن، ويجول في خاطري كم هي غالية ضريبة حمل فكرة للإصلاح والتغيير والإنبعاث، ومخالجة حلم وهم للإرتقاء بشعب ووطن وأمة.
في الطريق إلى كوميسارية لمعاريف، في السيارة التي تكدسنا فيها نحن والأمنيين، كنت مسكونا بفكرة واحدة: الهروب متى سنحت الفرصة، لأن الكلمة التي دسها العمراني في أذني لما قال لي لاتذكرني ولو قطعوك إربا إربا، تناسلت في ذهني بما تصورت به أن الأمر جلل، وأننا ماضون إلى مجزرة بما يشبه السجن الحربي وما وقع فيه للإخوان المسلمين في مصر جمال عبدالناصر، وقد كنا متأثرين بما نقرأ في الكتب التي روت فظائع ماوقع.

عبد الله لعماري


رمي بي في عنبر تتكدس فيه أجساد العشرات من موقوفي جرائم الحق العام، الروائح الكريهة للعرق ودخان السجائر والمرحاض الفائض والمغرق لمن يتمدد من حواليه، والإسفلت العاري إلا من بعض أجزاء الكارتون التي كانت من بذخ بعض المحظوظين.
كان الواحد من هؤلاء الموقوفين على ذمة جرائم السرقة أو القتل، يساق إلى مكاتب التحقيق ماشيا على قدميه، وحينما يعود، يعود محمولا في مانطا لايقوى لا على الوقوف ولا على الحراك ولا على الكلام، سوى كلمة واحدة يهمسها لرفاقه، أنه لم يعترف لهم، تلك هي لمعاريف أيام زمان.
كان هذا المنظر يمدني بإكسير الحياة ويبعث في طاقة عظمى على مواجهة ماقد يأتي، إذا كان هؤلاء يصمدون للتعذيب وهم قتلة ولصوص ورجال عصابات، فكيف بنا نحن المناضلون المثقفون النبلاء أصحاب الأفكار والدعوة إلى الله والطامحون إلى مجتمع أصلح وأفضل وأرقى، وكنت أبدأ في شحذ أسلحتي للمعركة القادمة، مع خصم يمتلك أسلحة هي وسائل التعذيب والبطش والإهانة لانتزاع الإعترافات، وأسلحتي التي أملك هي الصمود والتحمل والصمت والتحدي، هي معركة بين الآلة والإرادة، بين الفتك بالجسد وبين إستعلاء الروح وكبرياء الهمة والعزم.
ثم إن هناك هذا العهد الذي بيني وبين العمراني الذي استوثق مني واستحلفني أن لا أذكره، وهو الأعلم بما ينتظره، وقد حكى لي بحسرة، كيف أثقل عليه إخوانه وكشفوه وعاكسوا إنكاره في وجهه، دون ضغط ولا إكراه ولاحتى لطمة خد، و الأمر من ذلك، وقد حكى لي أن بنكيران والعثماني وآخرين كانوا يفعلون ذلك وهم يضاحكون القوم ويتلاطفون معهم وكأنهم في نزهة أصدقاء، وليسوا في معتقل محنة وتنكيل، بينما هو كان غارقا في هواجس الخوف والكمد وأوجاع الضغط والإكره والإحراج.
ثم إنه كان علي أن أخفي إخواني وأجنبهم محنة الاعتقال، وهم كانوا لايمارسون سوى أنبل الوظائف في توجيه الشباب وإرشادهم وتربيتهم على العقيدة الإسلامية والخلق الإسلامي والوعي السليم الذي ينهض بالأمة والبلاد في إطار تاريخها وهويتها وثوابتها الوطنية كما رسمه الكفاح الوطني ضد الإستعمار البغيض، وهم كانوا يمارسون ذلك دون تفكير عدواني أو تهديد لأمن البلاد أو المؤسسات، في إطار تنظيمي، كانت الأوضاع السابقة قد تساهلت مع وجوده حتى أصبح عرفا متعاقدا عليه بين الدولة وأجهزتها ومؤسساتها وبين الحركة الإسلامية، ثم إن هذا التنظيم السري كنا قد أعددنا له خطة في إطار ماسميناه بالجماعة الإسلامية لتحويله إلى العمل الشرعي القانوني حالما تتهيؤ الإرادة السياسية للجهات العليا في البلاد لقبول وجوده القانوني، كل ذلك كان بفعل وتخطيط الفاعلين الحقيقيين في التنظيم، وليس كما يدعي عبدالإله بنكيران الذي لم تكن له أنذاك أي قيمة تنظيمية ولاقاعدة ولانفوذ تنظيمي.
ثم إنه كان علي أن أواجه هذه المحنة، وأن أنجح في هذا الإمتحان وأنا الآن في قيادة تنظيم الجماعة الإسلامية ، بعدما كنت قد نجحت فيه عند اعتقالي سنة 1979، لما كنت حينها من قياديي الشبيبة الإسلامية .

لا زلت أواصل الحكي، حتى يعرف القارئ الملابسات والأسباب الداعية إلى اعتقال والدي رحمه الله، والذي هو موضوع هذه الحلقات، وإنما فصلت في هذه الحلقات لأمهد لهذا الحدث المؤلم، الذي كان من منهجية الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، سنوات الجمر والرصاص، إذ كانوا يسوغون مؤاخذة الأب بجريرة الإبن.
ذات صباح، وبينما أنا متكوم إلى جانب الأكوام البشرية من أبناء الشعب البؤساء، الذين تآلفت معهم في ذلك العنبر، أعد العدة النفسية والفكرية لمواجهة آلة المحقق، إذ جاء النداء المزلزل بصوت أجش من حارس العنابر: عبدالله لعماري، تكعد آلصكع.
نهضت مستجيبا للنداء، فوجدت في انتظاري رجلا لطيف المظهر لطيف الحديث، رافقته إلى مكتب غاص برجال جميلي الهندام، وقد أثارني فيهم ذلك العطر الأخاذ الفواح في أرجاء المكتب، إلى الدرجة التي رافقتني فيها رائحة ذلك العطر عشرات السنين، إذ إنغرس في أعماق ذاكرتي، فكلما شممته تذكرت التحقيق والتعذيب في مكاتب الكوميسارية سنطرال.
بدأ الحديث لطيفا مهذبا بسؤالي عن علاقتي بالمرحوم علال العمراني، فكان جوابي أن الفقيه أصلي عنده الجمعة، وجئت عنده أستفتيه في بعض مسائل الصلاة، حاولوا مرارا استدراجي للحديث غير ذلك، وتمسكت بجوابي، وسئلت هل أنا من الشبيبة أم من الجماعة، كان جوابي أنني لاأعرف هذه الأسماء.
أمام إصراري على تجاهل مايريدون، تبخر الأدب وطارت اللطافة، وفي لحظة تطاير الشرر وزمجرت الشتائم، ودخلنا في مسلسل طويل من أنواع التعلاق والجلد، وكل ما كنا نعرفه في ثقافتنا، أنه التعذيب لانتزاع الاعتراف، كل شيء تغير في أصحابي المعذبين،من الرزانة والهدوء، إلى الخطاب المرغي المزبد البذيء، والنظرات الشزراء، والوجوه المكفهرة، والحركات المتشنجة باللكم والرفس. والمعاطف وربطات العنق المنزوعة والمرمية، إلا شيئا واحدا بقي صامدا في ذلك المكتب الذي تحول إلى حلبة افتراس الإنسان لأخيه الإنسان، شيئا واحدا كان صامدا ويعاندني في صمودي وإصراري على نفس الجواب ، إنه ذلك العطر الساحر العبق الفتاك بذاكرتي، النفاذ إلى أعماق أحشائي، والذي لم تقوى على تغييره سحائب دخان سجائرهم الأمريكية، وحده ذلك العطر بقي يشعرني أنني مع بني الإنسان وليس مع قطيع ذئاب.
بقينا في نفس اللعبة جولات وأياما حتى استقر رأي أصحابي على تغيير خطة اللعب، وانتقلنا إلى حي البرنوصي لتفتيش البيت، طامعين في فك شيفرة هذا الشاب الذي يتحدث ببداوة وسذاجة ودروشة من درجة البلادة.
في الطريق وفي البيت لما ولجناه، كنت اتربص بالفرار فرصة، وكنت أعول على بنيتي القوية لأتدافع، ولكن القيود كانت مانعة.
أمام بيتنا ولمانزلت من السيارة مقيدا ومحاطا بأصحابي الأمنيين، تحلق حولنا بعض الشباب بوجوه غاضبة، أومأت لهم بحركة ارتياح ، وقد كنت متخوفا من أن يبدأ القذف بالحجارة، خاصة وأن الصغار والشباب في حي البرنوصي يكرهون البوليس، ولما تندمل بعد جراحات ماوقع في البرنوصي خلال انتفاضة 20 يونيو، في معارك شوارع مع البوليس، سقط فيها جرحى وقتلى.
كان البيت من ثلاثة طوابق، ولما سألني أصحابي عن أي الغرف أضع فيها أغراضي، أجبتهم بأني أضعها في كل الغرف، وبأسلوب التحدي بدؤوا يفتشون كل الغرف، فيما فهمت شقيقاتي الصغيرات القصد من إلهائي لهم، فصعدن إلى غرفتي في الطابق الثالث، وأفرغن مكتبتي من كل الكتب والوثائق باللغة العربية، ورمين بها في أعلى السطح إخفاء لها، ولكنهن تركن في المكتبة الكتب وبعض الجرائد باللغة الفرنسية، ظنا منهن أن الكتب العربية كانت هي الكتب الإسلامية التي قد يبحث عنها البوليس.
غير أن الطامة الكبرى كانت في تلك الكتب والجرائد الفرنسية، والتي ستحول مجرى التحقيق برمته، وظل ذلك من المصائب والطرائف المضحكة.

محامي بهيئة الدار البيضاء معتقل ّإسلامي سابق

محامي بهئة الدار البيضاء معتقل ّإسلامي سابق