أرشيف الوسم : ادب السجون

رواية القوقعة -الحلقة الخامسة مصطفى خليفة

يرد عليه الرقيب الأعوج :

– تسقط … تسقط .. تسقط .

– يعيش الرئيس المفدى .

– يعيش … يعيش … يعيش .

20 كانون أول

تنشأ في السجن مهاجع جديدة. يدخلها الناس سويةً أو على دفعات. بضعة أيام ويكتمل نصاب المهجع. عشرات، مائة.. مئتان… ثلاث أو يزيد!. الوجوه متشابهة. لا يعرف أحدٌ أحداً. يبدأ التعارف بعد دقائق.. ويستمر سنوات.

مع التعارف يبدأ الفرز. يبدأ الالتفاف والتلاقي. في البداية تنشأ التجمعات على الأرضية السياسية التنظيمية والتي كانت سبباً في دخولهم السجن، أبناء التنظيم الواحد، يلتقون .. سواءً كانوا يعرفون بعضهم سابقاً أم لا .. يتعارفون، يشكلون مجموعة واحدة، وحياة اجتماعية مشتركة، لهم اجتماعاتهم وأسرارهم، يتكئ بعضهم على بعض، الروح الجماعية تشكل لهم وهماً بالقوة .. وبالتالي الحماية، أن تكون محمياً بالجماعة يعطي الشعور بالأمان.

تبدأ الحالة شديدة متوترة، تصل إلى حد التعصب وعداوة الآخرين، مع الأيام .. تبدأ بالتراخي، خاصة إذا كان المهجع كله ذا لون تنظيمي واحد.

تأتي دروس عديدة، قد تكون صائبة وقد تكون خاطئة. وفي النص الذي يحتوي على كيفية التعامل مع التنظيمات المعادية .. هناك درس يبقى صائباً على الدوام: “إذا أردت لأفراد تنظيم ما أن يأكلوا بعضهم بعضاً .. اسجنهم سويةً”.

الإحباط، التباعد، النفور، الكراهية، النيل من هيبة القيادات .. وتبدأ الوشائج التنظيمية بالتراخي والتفكك، ومعها يبدأ التطلع إلى المحيط خارج إطار التنظيم الواحد.

تمر الأيام. تنشأ علاقات جديدة على أرضية جديدة : “الجغرافية”. أبناء المنطقة الواحدة. يستعيدون فيما بينهم الذكريات. يتذكرون الأماكن الأليفة بحنين بالغ، يتذكرون بعض الأحداث العامة و المشهورة، ويوماً بعد يوم تكبر التقاطعات، وتكبر معرفتهم بعضهم ببعض.

مع ازدياد المعرفة، وبأسئلة بريئة في الظاهر يُنبش ما كان محسوباً أنه من المنسيات. فلكل شخص أو عائلة أو عشيرة إيجابياتها .. ولها كذلك ما تخجل منه وتحاول نسيانه .. أو جعل الآخرين ينسونه . لكنه السجن و له قوانينه الخاصة… البسيطة… الصريحة… الوقحة !

تمر الأيام، الأسابيع، الشهور، السنوات!.

تنشأ علاقات جديدة على أرضية جديدة. الميول، الهوايات، المهن، المهتمين بالأدب، الفنانين، المعلمين، الأطباء …..

أسرة من أب وثلاثة أولاد.الأولاد جميعاً منظمون، استطاعوا التواري عن الأنظار. وعند مداهمة رجال الأمن بيتهم لم يجدوا إلا والدهم (عمره 65 سنة) فاعتقلوه رهينة ليدلهم على أبنائه الذين لا يعرف أين هم. بقي الأب معتقلاً في فروع المخابرات بضعة أشهر، ثم حولوه إلى سجن تدمر، ثم تم اعتقال الأولاد لكن لم يفرج عن الأب. وبعد مضي سبع سنوات (صار عمر الأب فوق السبعين) عقدوا جلسة محكمة، وخلال بضع دقائق تم الحكم على الأولاد الثلاثة بالإعدام، وتم تنفيذ الإعدام كالعادة، وكاد الأب أن يجن!. بل إن الحادثة أثّرت على جاري نسيم [طبيب خريج فرنسا – قليل التمسك بالدين – متأثر بالثقافة الغربية].

وذات صباح , فتح عناصر الشرطة باب المهجع , قبل أن يتموا فتحه قفز نسيم كنابض مضغوط تم إفلاته , بأقل من ثانية أصبح خارج المهجع بعد أن رفس الباب بقدمه مكملاً فتحه!.

فوجىء عناصر الشرطة, ولم يتخلصوا من وقع المفاجأة حتى فاجأهم ثانية بالهجوم عليهم..

الباب مفتوح ونحن نراقب ما يحدث بالساحة , كان نسيم يتحرك ويصرخ صراخاً وحشياً كجمل هائج, عناصر الشرطة والبلديات أقل من عشرة .. وذُهِلتُ .. ما هذه القوة الهرقلية التي أظهرها نسيم ؟.. أين تعلم هذه الحركات القتالية ؟!.. يهاجم أحدهم , يقفز أمامه عالياً ثم يهوي بسيف كفه على رقبته أو على أنفه فيلقيه أرضاً !!.. عنصران من الشرطة وواحد من البلديات ألقاهم أرضاً خلال أقل من دقيقة !! بعضهم ابتعدوا مسرعين .. فروا .. وبعضهم هجم على نسيم للإمساك به, علا الصياح في الساحة, أطل الحراس الموجودون على الأسطحة, سرعان ما وجهوا بنادقهم تجاه نسيم.. وهبط قلبي بين قدمي.. هل سيطلقون النار عليه؟.. لكنه ملتحم مع الشرطة .

أحد الرقباء هجم عليه من الخلف وأمسكه من رقبته, تشجع باقي العناصر فهجموا عليه, لكن نسيم أخذ يدور حول نفسه بسرعة والرقيب معلق برقبته من الخلف, دار عدة دورات تزداد سرعتها مع كل دورة .. ارتفعت قدما الرقيب عن الأرض وأخذ يدور مع دوران جسم نسيم , توقف نسيم فجأة وجذب الرقيب فألقاه أرضاً !! .

فُتح باب الساحة الحديدية وأخذ عناصر الشرطة يتدفقون, العشرات منهم أحاطوا بنسيم لدرجة أننا لم نعد نستطيع أن نراه, مع هدوء حركتهم تأكدنا أنهم قد تمكنوا منه.

حضر مدير السجن يحيط به المساعد وعدد من الرقباء والشرطة.

باب مهجعنا ما زال مفتوحاً, نراقب ما يحدث دون أن نلتفت برؤوسنا, طلب مدير السجن إحضار نسيم أمامه , انفض جمع الشرطة من حول نسيم وأوقفه على قدميه عنصران, وفجاة انتفض وأفلت نفسه من قبضتيهما وهو يصرخ بكلام غير مفهوم متقدماً اتجاه مدير السجن, وهجمت عليه مجموعة من الشرطة أحاطوا به جيداً وثبتوه.

أحد الرقباء أشار إلى مدير السجن اتجاه مهجعنا فتقدم المدير من الباب معه المساعد وبعض الرقباء , طلب أبو حسين وتكلم معه , طلب طبيباً من المهجع وسأله , تشاور قليلاً مع طبيب السجن , عاد وطلب طبيب المهجع سائلاً إياه عن الدواء الذي يريده, ثم ذهب بعد أن أمر بإعادة نسيم إلى المهجع دون إزعاج

كان تصرف مدير السجن أقرب إلى التفهم و الود، هذا الأمر المستغرب .. أطلق تكهنات وتحليلات وتأويلات لم تنته. بعد إغلاق الباب بقي نسيم لمدة ساعتين تقريباً يمشي مشياً سريعاً وسط المهجع جيئةً وذهاباً. يقف. يعاود المشي السريع بعدها .. لم يكن ينظر إلى أي شخص ولا إلى أي مكان!

بعد هاتين الساعتين نودي على رئيس المهجع, بحذر شديد أعطى الرقيب ثلاث علب دواء لأبي حسين قائلاً: – هدول .. دواء المجنون !.

كان نسيم لحظتها قبالة الباب تماماً , انتفض وانطلق كالسهم اتجاه الباب , شاهده الرقيب في انطلاقته فتراجع إلى الوراء عفوياً رغم الباب المغلق .. وصل نسيم إلى الباب .. أخرج يده من الطلاقة يحاول الامساك بالرقيب وهو يصرخ :

– المجنون ؟!.. انت المجنون ولك كلب !…

لأول مرة منذ ما يقارب الاثني عشر عاماً أرى الشرطة خائفين , فروا من أمام نسيم في الساحة , رأيتهم مذعورين !, لأول مرة أراهم يتلقون الشتائم ولا يطلقونها !.. يتلقونها ولا يردُّون.

رفض نسيم تناول الدواء من الطبيب , وتشاور هذا مع أبي حسين بعد أن شرح له أن أي مريض بهذه الحالة يرفض تناول الدواء ويجب إجباره على ابتلاع الحبوب , وطلب منه الاستعانة بمجموعة “البراعم” [أي العمالقة والأقوياء] لإعطائه الدواء بالقوة , فالمريض في حالات كهذه يمتلك قوة هائلة غير طبيعية ويحتاج إلى أربعة أو خمسة أشخاص حتى يستطيعوا إمساكه وإجباره على ابتلاع الحبوب!.

قبل الظهر تناول الدواء , نام على إثرها نوماً عميقاً…

نام بعدها إلى الصباح وعندما استيقظ تصرف تصرفاً طبيعياً كما لو أنه لم يمر بأية مشكلة أو ماشابه. أوكل لي الطبيب بصفتي صديقه وجاره أمر إعطائه الدواء بانتظام , مشدداً على أنه يجب أن لا أنسى أبداً مواعيده, لأن أي انقطاع سيؤدي حتماً إلى عودة حالة الهياج!.

بقيت علاقتنا الثنائية بنفس الحميمية, استأنفنا حياتنا اليومية المشتركة كالسابق, ومرت الأيام لكنه لم يتطرق بحديثه ولا مرة إلى ما حدث, حتى موضوع إعدام الإخوة الثلاثة لم يعد إلى ذكره أبداً .

25 أيلول

بعد ستة أشهر أو سبعة سأتم عامي الثاني عشر في السجن، لقد عدت إلى عد الأيام والشهور وهذا في عرف السجناء دلالة سوء، لكن ألا يحق لي أن أتساءل إلى متى؟.

البعض هنا سبقوني بسنوات.. وما زالوا! اذا كان الأطفال الذين حكمتهم المحكمة الميدانية بالبراءة .. ما زالوا يقيمون في “مهجع البراءة”، فهل يأمل شخص مثلي.. منسيّ أن يخرج من هذا الجحيم ؟ هل الطريق إلى هذا السجن ذو اتجاه واحد فقط ؟ هل العبارة التي يكررها السجناء يوميا بأن “الداخل مفقود والخارج مولود” صحيحة ؟ لم أر أي شخص دخل هذا السجن يخرج منه!.

العجاج ، أو كما يسميه البعض ” الطوز “.. يثور هنا في هذه الصحراء مرتين أو ثلاث مرات كل عام، تثور العواصف الرملية فتملأ الأجواء بالغبار ويستمر ذلك يوماً أو يومين أو ثلاثة، سواء استمر هبوب الريح أم توقف فإن الغبار يبقى معلقا في الهواء، نتنفس الغبار، الأنف.. الفم. العينان.. تمتليء كلها بالغبار، ننام والغبار ما زال معلقا. نستيقظ فنجد أن كل فتحات الانسان الموجودة في الرأس قد امتلأت بالتراب المسحوق الناعم، مياهنا غبار .. طعامنا غبار .

منذ صباح أول البارحة ابتدأ هبوب الرياح. أصبحت الرياح زوابع، هذه الزوابع قَذَفَت من الشراقة التي في السقف مزقاً من أكياس بلاستيكية والكثير من القش والعيدان.. شتى النباتات الصحراوية اليابسة.

كل من لديه قطعة ثياب زائدة حاول لف رأسه بها ، الكثير من الأشخاص لم يعد يظهر من وجوههم سوى العينين .

فجأة قذفت الريح على القضبان الحديدية للشراقة صفحة كاملة من جريدة .. علقت هذه الصفحة بين القضبان !.

أنظار جميع من في المهجع تعلقت بهذه الجريدة، تهزها الريح ويسمع الجميع صوت خشخشتها. شوق حقيقي لرؤية الأحرف المتلاصقة ، الكلمات المطبوعة!.

سمعت البعض يدعون ويبتهلون إلى الله أن يسقط الجريدة داخل المهجع وألا يجعلها تطير بعيدا !.

في الأجواء الطبيعية كنا نرى الحارس كل بضع دقائق، الآن لا أثر للحارس، يبدو أنه يلوذ بأحد زوايا السطح متقيا الرياح والغبار.

هذه جريدة ، وفي الجريدة أخبار ، ونحن منذ أكثر سنتين، تاريخ قدوم آخر نزيل إلى المهجع ، لم نسمع شيئا عما يدور خارج هذه الجدران الأربعة.

الكثير من الناس وقف منتصبا ، أزاحوا عن وجوههم الأقمشة التي تلثموا بها ، من لم يقف اعتدل في جلسته، بعض من وقف مشى بشكل عفوي إلى تحت الشراقة ، الأنظار تتابع تراقص الجريدة بين القضبان!. واحد من الواقفين تحت الشراقة ، وهو من الفرقة الفدائية ، نظر إلى الناس وقال بصوت مسموع للجميع :

– يا شباب .. هَرَم ؟.

على أثر سؤاله هذا قفز العديد وهم يقولون :

– هرم .. هرم .. هرم ! .

لم تستغرق عملية بناء الهرم البشريوإنزال الجريدة أكثر من عشر ثوان تقريبا. كان من الممكن أن تكلف العديد حياتهم ، لكنها مرت بسلام. وأصبح لدينا جريدة!.

خاطب أبو حسين الفدائي الذي أنزل الجريدة وبلهجة سريعة:

– بسرعة .. بسرعة .. عـ المراحيض، اطويها، خلي واحد يقرأها ويحكينا شو فيها أخبار . وركض الفدائي إلى المرحاض حاملا الجريدة.

الفرحة عمت الجميع , فرحة حقيقية , الكثير تصافحوا وتعانقوا مهنئين بعضهم بعض.. إنه انتصار آخر !. التفتَ نسيم إلي بعد أن عانقني .. قال :

– أنت تعرف أن أول كلمة نزلت من القرآن الكريم هي كلمة ” اقرأ ” ؟ .

– أعرف …. و أنت تعرف أن الإنجيل يبدأ بـــ ” في البدء كانت الكلمة ” ؟.

– أعرف .. بس يا مخرج السينما شو يقول لك هذا الحدث ؟

– الحدث بيقول : إن الإنسان مستعد أن يضحي بحياته في سبيل المعرفة .

محتويات الجريدة جاءت مخيبة للآمال قليلاً , الوجه الأول من الصفحة هو صفحة الإعلانات الرسمية , والوجه الثاني هو الصفحة الرياضية و بها أخبار الدوري العام لكرة القدم !. وهذه الصفحة أثارت زوبعة من النقاشات لم تنته. حتى الإعلانات الرسمية أخذ الناس يقرؤونها بعناية شديدة .. النهم إلى القراءة !

الريح هدأت تماماً اليوم , لكن الغبار لازال معلقاً بالجو , حتى داخل المهجع الغبار يملأ كل الفراغات .

في الصباح أعاد الشرطة للمهجع شخصاً كان قد عوقب منذ شهر , ضبطوه في ساحة التنفس وعيونه مفتوحة , بعد أن جلدوه ونكلوا به أمامنا فيما نحن ندور حول الساحة , أمر المساعد بوضعه بالزنزانة الإنفرادية في الساحة الخامسة .

بعد أن دخل واطمأن إلى أن الشرطة أغلقوا الباب وذهبوا تَنفّسَ الصُّعداء, أخذ يضحك, جلس على الأرض.. وروى للجميع رحلة الشهر التي قضاها في الساحة الخامسة , بدأ حديثه بالقول :

– و الله يا شباب اشتقت لكم … وقت دخلت المهجع حسيت إني راجع على بيتي .. يا اللــه .. قديش المهجع حلو !.. يا شباب جنة .. جنة .. نحن عايشين هون بالجنة …

طَفِقَ يروي .. ويحكي يروي .. ويحكي !.

المرحاض داخل الزنزانة الانفرادية، وحتى يأمن أذى الجرذان اضطر أن يسد فتحة المرحاض بالخبز بعد أن عجنه وجعل منه سدادة , أقسم أن هناك جرذاناً بحجم الخروف الصغير!

ثلاث مرات في اليوم حفلة تعذيب أشبه ما تكون بالاستقبال في أول قدوم السجين إلى السجن .

يوضع الطعام في صحن قذر على بعد عشرة أمتار من باب الزنزانة , يفتحون الباب … يجب أن يخرج السجين سائراً على أربعٍ كما تسير الكلاب .. وأن يظل ينبح في الذهاب , وفي الإياب بعد أن يحمل الصحن.. خلال كل هذا تكون الكرابيج قد أكلت قطعاً من لحم ظهره !!.

النوم على الاسمنت .. لا بطانيات ولا أغطية ولا أي شيء .

الغبار لا زال معلقاً. رموش الناس أصبحت بيضاء , الشرطة متوترون لكن الرقابة ضعفت من الأعلى “الشراقة”.

لدينا في المهجع أربعة من البدو أميون لا يعرفون القراءة أو الكتابة , مهنتهم رعي الأغنام والجمال, عاشوا طوال حياتهم في هذه الصحراء يتنقلون في أرجائها, قبض عليهم وجيء بهم إلى السجن الصحراوي بتهمة مساعدة بعض المطلوبين على الفرار إلى دولة مجاورة, وعندما يُسألون هنا عن ذلك يجيب كبيرهم المدعو ” شنيور”:

– والله يا أخوي .. تهمة باطلة .. ” أتوا ” جماعة علينا .. وعلى عادة العرب .. رحبنا بهم , ضيفناهم, بعدين سألونا عــ الدرب.. دليناهم, هاي فيها شيء يا خوي؟! وبعدين يقولون لنا.. انتو عملاء.. و انتو جواسيس! عجيبة والله يا خوي!.

اليوم بعد أن سرد شنيور هذه القصة للمرة الألف تشعب الحديث كثيراً وكان كله منصباً على البدو وحياة البدو.

قال شنيور ما معناه :

– إن للكرم البدوي أسباباً عديدة , وإن أهم الاسباب هي أن البدوي يحب ضيفه .. يعشقه !.. وهذا بسبب أن البدوي يبقى شهوراً يعيش في هذه البراري بين الكثبان الرملية في وحدة مطلقة, زوجته وأولاده يعتبرهم أقل شأناً من أن يجري حديثاً معهم. لذلك نراه يحادث أغنامه أو جماله!.. يكون في المرعى لا يسمعه أحد, ولأنه يحب أغنامه فإنه يجرى حديثاً معها, ويكون هذا دليلاً إلى أن حاجته إلى المؤانسة.. قد بلغت مداها الأقصى, في هذا الوقت إذا حضر الضيف فسيجد حتماً شخصاً متلهفاً يغدق عليه الكثير الكثير من آيات الترحيب والمحبة, يقدم له أفضل ما عنده من كل شيء. وهذا من حيث لا يدري مكافأة له على مجيئه, وإغراءً له للبقاء أطول مدة ممكنة.

17أيار

بعد منتصف الليل , نسيم نائم إلى جانبي , الدواء الذي يتناوله يجعله ينام بعمق , لم أكن قد نِمْتُ بعد .

سمعت حركة في الساحة , جلست, نويت أن أنظر من الثقب لأرى ما يفعلون, قبل أن أمد يدي لفتح الثقب سمعت أحد الشرطة يصرخ بصوت عالٍ.. لم أفهم ماذا يقول, عاد لتكرار صراخه, إنه يقول اسماً ثلاثياً, أنصتُّ أكثر .. يصرخ:

– يا مهاجع الساحة السادسة .. مين عنده هذا الاسم ؟.

وقال الاسم الثلاثي مرة ثالثة .

لأجزاء من الثانية كنت أتساءل من هو صاحب هذا الاسم ؟.. وَقْعُهُ ليس غريباً علي .. كأنني سمعت هذا الاسم يوماً ما !! .. إنه اسمي .

صاح أبو حسين وكان مستيقظاً :

– يا شباب .. في حدا عندنا بهـ الاسم ؟.

رفعت سبابتي عالياً كما يفعل التلاميذ الصغار, رفعتها في وجه أبي حسين دون أن أنطق حرفاً.

وبسرعة رمى أبو حسين جسده الثقيل اتجاه الباب , بدأ يدقه بسرعة وقوة وهو يصرخ :

– هون يا سيدي .. هون .. هذا الاسم في المهجع الجديد رقم /8/ .

بعد دقيقة أو أكثر فتح الباب , وقف الرقيب ومعه شرطيان , توجه إلى أبي حسين سائلاً :

– هذا الاسم عندك .. يا رئيس المهجع ؟

– نعم سيدي .. هذا هو .

و أشار باصبعه اتجاهي , اقترب الرقيب مني , نظر بعيني غاضباً. رفع يده عالياً وبكل قوته هوى بباطن يده على خدي الأيمن, دار جسدي كله ربع دورة, بسرعة البرق ألحقها بلطمة على خدي الأيسر بقفا يده أعادتني إلى الوضع الطبيعي, عادت النجوم لتتراقص أمام عينيّ, قال غاضباً:

– يا جحش …. يا ابن الكلب …. صار لنا ساعتين ندور عليك ونصرخ .. ليش ما عم تجاوب؟ مد يده , وبقوة سحبني من صدري ليقذف بي خارج المهجع, وأغلق الباب.

ضرباً .. ركضاً , الرقيب وعنصرا الشرطة من الخلف, يسوقوني أمامهم, أصبحت أمام السجن, حانت مني التفاتة صغيرة, لازالت المنحوتة الحجرية في مكانها : “ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب” منذ أكثر من اثنتي عشرة عاماً قرأت هذه المنحوتة، ودخلت. الآن اقرأ هذه المنحوته وأخرج , إلى أين ؟ .. لست أدري !!.

ثلاثة رجال في اللباس المدني تقدموا مني , أحدهم طويل جداً, تقدم مني وفتح ورقة كانت مطوية في يده وسأل :

– أنت فلان ؟

– نعم .

التفت إلى رفيقيه , قال :

– هات الكلبشة .

مددت يديَّ إلى الأمام, ألبسهما الكلبشة, طقطقة ناعمة , أصبحت يداي مقيدتين إلى الأمام , ثم وقّع بعض الأوراق وسحبني.

سيارة تكسي “بيجو”، السائق يجلس خلف المقود , جلس الطويل إلى جانبه , جلست بين الاثنين الآخرين في المقعد الخلفي , انطلقت السيارة في عتمة الليل , أنوارها تشق الظلام شقاً .

لم يتكلموا بشيء , تعاملوا وكأني غير موجود معهم، بعد قليل من انطلاقة السيارة سأل الطويل عن الساعة فأجأبوه: إنها الثانية والنصف بعد منتصف الليل.

بعد ساعة نام الجميع عداي والسائق الذي ينظر إليَّ بمرآة السيارة على فترات متباعدة, أغمضت عيوني لأوهمه أنني نائم , وتساءلت:

– يا هل ترى .. إلى أين ؟… مهما كان المكان الذي سيأخذوني إليه فإنه حتماً سيكون أفضل . ارتحت قليلاً، فكرت بنسيم .. ماذا سيقول , وماذا سيفعل عندما يستيقظ صباحاً فلا يجدني إلى جانبه؟!.. اشتقت إليه .

وصلنا العاصمة. هذه مدينتي .. لم أعرف شيئاً في الشوارع التي كنا نسير فيها!.. مدينتي التي ولدت فيها وترعرعت. لم أعرف في أي شارع نحن ولا إلى أين نتجه!.. لقد تغيرتْ إلى درجة يصعب على من غاب عنها هذه المدة أن يعرفها, إلى أن وصلنا إلى الساحة المركزية للمدينة, ها أنا أعود إلى مدينتي التي أعرفها, هذه النوافير.. هي.. هي.. عندما كنت طفلاً كان يطيب لي أن أقف تحت رذاذها المتطاير.. فأشعر بالانتعاش, ومن هذه الساحة عرفت أن السيارة تتجه نحو مركز المخابرات الذي حللت فيه لدى عودتي.

ترى هل مازال أبو رمزت وأيوب هناك؟ .. خيزرانة أيوب التي تبدو لي الآن كلعب الأطفال أمام ما شاهدت وذقت .. هناك!.

السيارة تتوقف عند إشارات المرور , أنظر إلى الناس , أتفحص وجوههم , ما هذه اللامبالاة .. ترى كم واحداً منهم يعرف ماذا يجري في السجن الصحراوي ؟ .. ترى كم واحداً منهم يهتم ؟ أهذا هو الشعب الذي يتكلم عنه السياسيون كثيراً ؟ .. ولكن هل من المعقول أن هذا الشعب العظيم لا يعرف ماذا يجري في بلده؟! إذا لم يكن يعرف فتلك مصيبة , وإذا كان يعرف ولم يفعل شيئاً لتغيير ذلك فالمصيبة أعظم.

انتبهت لنفسي , مالي أفكر غاضباً هكذا ! هل أصبحت سياسياً ؟ … ابتسمت رغماً عني , هل أتوقع أن يخرج هذا الشعب في مظاهرات عارمة للمطالبة بإطلاق سراحي من السجن ؟ .. من أنا ؟ ! .

يا إلهي ما أكثر الناس, أحدق في الوجوه, بيتنا قريب من المكان الذي تتجه إليه السيارة, قد يحالفني الحظ فأحظى بمشاهدة أمي أو أبي أو أحد أخوتي, لا بل يكفي أي وجه أعرفه.

انحرفت السيارة عن الطريق الذي كنت أتوقعه والذي يؤدي إلى ذلك المبنى الكئيب القريب من بيتنا , سارت باتجاه الجنوب الغربي مخترقة المدينة, مررنا بمعالم كثيرة أعرفها, أحن إليها, ها هي الجامعة والطلاب والطالبات داخلين خارجين, لا أذكر من حياتي إلا أنني كنت طالباً والآن أمشي سريعاً في العقد الخامس من عمري!.

مبنىً ضخم, حراسات مشددة, الدخول صعب ومعقد حتى على سيارات الأمن, اتصالات واستفسارات, سمحوا للسيارة بتجاوز الحاجز, دخلنا وأصبحنا أمام البناء, أنزلوني أمام باب زجاجي عريض, البلاط يلمع, كل شيء يوحي بالنظافة والنظام , ذهب الطويل حاملاً معه الأوراق, دخل أول غرفة إلى اليسار, لم يطلب مني أحد أن أغمض عيني أو أنكس رأسي, لكن رأسي نصف منكس بحكم العادة , عاد وقال للاثنين اللذين معي:

– نزلوه عــ السجن .

مباشرة قبالة المكان الذي كنا نقف فيه , نزلنا الأدراج .. أدراج .. ثم نلف ثم أدراج .. باب عبارة عن قضبان حديدية , قفل ضخم , يدقون الباب , يحضر سجان، يفتح الباب يدفعوني إلى الداخل, يغلق الباب, ينصرف الاثنان.. ثم:

– انتظر هون.. لا تتحرك.

يذهب حاملاً الأوراق إلى غرفة في صدر رواق طويل, يظهر على باب الغرفة التي دخل إليها, يناديني, أذهب إليه , يدخلني الغرفة فأرى رجلاً أشيب وراء طاولة ينظر إلي , يطلب مني أن أخرج من جيوبي جميع أغراضي .

– ما عندي شيء .

– ابداً .. أبداً ؟ ما عندك مصاري ؟ .. ما عندك أغراض ؟ .

– ما عندي شيء .

– طيب .. ما عندك هوية ؟ .. جواز سفر ؟ .

– لا لا ما عندي شيء, جواز سفري وهويتي أخذوهما مني في السجن الصحراوي.

التفت إلى السجان, طلب منه أن يأخذني إلى الحمام وبعد أن أنتهي من الحمام أن يضعني في المنفردة رقم /17/, ثم قال لي:

– الحمام ساخن , فوت عــ الحمام .. أول مرة اغسل كل ثيابك بشكل جيد, بعد غسيل الثياب تحمم أنت.. بــ تظل تتحمم وتغسل الثياب حتى تحس أنه ما ظل عندك ولا قملة.

أخذني السجان , أدخلني الحمام المليء بالبخار, قبل أن يغلق الباب علي قال:

– أعمل مثل ما قال لك المساعد , بس تخلص دق الباب .. مفهوم ؟ .

ها أنا لوحدي.. في زنزانة مطلية باللون الأخضر الفاتح, البطانيات على الأرض, الزنزانة واسعة في سقفها فتحتان اكتشفت أنهما للتهوية.

نشرت ثيابي المبللة على الأرض , جلست على البطانيات.. تغطيت بواحدة, الجو هنا حار , بعد قليل تمددت وغفوت .

استيقظت على الصوت المرعب , صوت قرقعة المفتاح الحديدي في الباب الحديدي, انفتح الباب وظهر رجلان , أحدهما كهل والآخر شاب, سألني عن سبب نومي عارياً, أجبته بأن الثياب الوحيدة التي أملكها مغسولة .. وهي لم تجف بعد.

أغلق الباب , بعد ربع ساعة عاد الشاب حاملاً صرة من الثياب , بيجاما رياضية , غيار داخلي .. ظهرتُ بمظهر جديد .

20آيار

أنتظر بقلق دون أن أعرف سبب نقلي إلى هنا, المعاملة هنا جيدة نسبياً.. باستثناء بعض الصفعات على الوجه والرقبة أثناء الخروج إلى المرحاض أو العودة منه, لم أتعرض إلى أي تعذيب مباشر, لكن أصوات التعذيب التي تصل واضحة إلى جميع المنفردات تغدو أكثر استفزازاً ومدعاة للتوتر والخوف, كل يوم من الثامنة والنصف صباحاً تبدأ صرخات الألم والتوسل, وتنتهي عند الثانية والنصف, لتعاود الأسطوانة عزفها من السادسة مساءً وحتى ساعة متأخرة من الليل.

أحاول تجاهلها.. نسيانها أو التغاضي عنها.. لا أفلح.

21أيار

اليوم مساءً فتحوا باب زنزانتي وطلب العنصر خروجي, ثم قادني إلى أحد المحققين ليطلب مني أن أكتب كل شيء. وبعد أن كتبت قال لي: هذا كله كلام فارغ. اكتب غيره باختصار مفيد. كنت مبتهجاً فقط لأنني أمسك بيدي قلماً بعد اثنتي عشرة سنة.

22 أيار

أخرجوني اليوم إلى رجل يضع نظارات طبية, يجلس وراء مكتب أسود, طرح علي أسئلة عادية. ثم أعادني إلى زنزانتي, جلست. طوال الوقت أسمع صراخ امرأة.. إنهم يعذبونها!.

23 أيار

في أول الليل فتحوا باب زنزانتي وأمروني أن أخرج.

– خذوه على بساط الريح وبس يقرر يعترف .. هاتوه لهون !.

سحبوني بعنف ، رغم كل شيء فقد ارتحت قليلا لأنني عرفت أن أهلي قد أصبحوا ورائي.

ألقوني على لوح خشبي، ربطوني من جميع أنحاء جسمي، رفعوا الجزء السفلي من اللوح الخشبي عاليا.. ثبتوه.

بدأ الضرب.. وبدأ الصراخ.

كنت أتألم بشدة، لكنني لم أكن خائفا ولا هلعا، أنا الآن “صاحب خبرة وتجربة”، كما لرجال الأمن دروسهم وقواعدهم ، فإن للسجناء أيضا قواعدهم ووصاياهم ، وهنا كان أهم وصيتين:

الأولى : مهما تألمت من التعذيب فلا تعترف بشيء لكي تتخلص من الألم ، لأن الاعتراف سيجعلهم يعرفون أنك قد ضعفت ، لذلك فان كمية التعذيب ستزيد لانتزاع المزيد.

الثانية : إذا طلبوا منك أن تتعاون معهم مقابل أن يطلقوا سراحك، فلا تقبل، لأنك تكون قد تورطت ورطة تدوم مدى الحياة.

كنت أتألم .. لكن لم أعدّ الضربات. بعد فترة أحسست أن قدميّ قد تخدرتا.

انتهت لعبة عض الأصابع لصالحي !.. إما انهم تعبوا، أو ملوا، أو اقتنعوا أنني لا أنتمي لأي تنظيم. تركوني بناء على أوامر “الصوت الذي كان في الغرفة”:

– اتركوه .. اتركوه، خذوه عـ الزنزانة، العمى ما أيبس رأسه.. مثل رأس الجحش!.

24 أيار

اليوم أخرجوني, طمشوني, قادوني… قال صوت أجش ثخين:

– ارفع الطماشة عن عيونه .. وروح أنت .

رفع العنصر الطماشة , ثلاثة رجال في منتصف العمر .. أحدهم يجلس خلف مكتبٍ فخم وأنيق, الآخران يجلسان إلى جانبي المكتب… يفحصوني من قمة رأسي إلى أخمص قدمي, مزيج من القسوة والسطوة.. من الترفع والعنجهية..

قررت أن أكون جريئاً: إذا ممكن تسمحوا لي بسؤال .. أنا ليش هون ؟ .. ما هي جريمتي حتى أبقى في السجن أكثر من /12/ سنة ؟

قال الرجل الجالس خلف المكتب , هو نفس الصوت الأجش :

– أولاً اخرس , ثانياً أنت هون اتجاوب على الأسئلة مو تطرح أسئلة.

قرأ ثلاثة أسماء لا أعرفهم , قرأ الاسم الرابع , الاسم الثلاثي لصديقي أنطوان , عندها رفعت يدي مسرعاً , وكأني أريد أن أثبت مصداقيتي .. صرخت :

– هذا يا سيدي .. أنطوان .. هو صديقي بفرنسا .

– هاه .. أنت تعرف أن هذا أنطوان من أخطر الناس ؟ .. هو شيوعي معارض للنظام , يعني مو مثل خالك , رغم أن خالك شيوعي .. خالك رجل كثير وطني ومخلص , بس أنطوان.. أنطوان عميل.

– لأ .. لأ سيدي , أنطوان ما كان يحكي معي بالسياسة .

فتح اضبارة أمامه , تفحص عدة أوراق , سحب ورقة منها , نظر إليها ملياً وطفق يقرأ .

” بتاريخ كذا .. وكذا .. دعيت إلى سهرة مع صديقتي الفرنسية , السهرة كانت في بيت أنطوان , وكان حاضراً في السهرة , فلان وفلان وفلان …… عند نهاية النقاش بقي هناك شخص لم يشارك في الحديث لم أعرف رأيه, وهو طالب من العاصمة يدرس الإخراج السينمائي هنا في فرنسا, وقد أمضى فترة النقاش ينظر إلينا مبتسماً.

توجهت إليه بالسؤال عن رأيه عما دار من حديث، ولكي أدعه يطمئن تابعت تهجمي على السلطة السياسية. ضحك وقال كلاماً جارحاً بحق الرفيق الأمين العام رئيس الجمهورية المفدى , وأنا ألآن سأورد كلامه كما ورد على لسانه مضطراً رغم أنني محرجٌ جداً , وسيادتكم تعلمون أنني على استعداد لأن أقطع لساني ولا أدعه يتلفظ بهكذا عبارات مقذعة بحق الإنسان الذي نُجِلّه ونحترمه .. لا بل نعبده .. السيد الرئيس حماه الله ونصره , ولتكن أرواحنا فداءً له.

ولكن تسجيلي لهذه العبارات إنما الهدف منه أن تكون الجهات الأمنية الساهرة على أمن الوطن على علمٍ بكل شيء , وأن تكون في صورة الموضوع, قال المدعو فلان رداً على تساؤلي.. و بالحرف الواحد:

– أنا كرجل يهوى ويعمل في مجال الفن السينمائي فإنني أهتم بالصوت والصورة، إذا كانت الرسالة تعرف من عنوانها , فإن عنوان هذا النظام هو الرئيس .. فماذا يقول الصوت ؟.. إن صوت هذا الرئيس مثل صوت التيس .. والتيس كما تعرفون هو من أنتن الحيوانات وأعندها!

أما الصورة فتقول , إن رأسه مثل رأس البغل , وأنا أكره البغال كثيراً .. لو كان حماراً لأحببته , لأنه في هذه الحالة ينتمي إلى سلالة الحمير الأصيلة والعريقة .

لهذين السببين يا أخي , فإنني لا أحب هذا الرئيس ولا أحب هذا النظام .

عند هذه العبارة توقف الصوت الأجش عن القراءة , نظر إليّ بعمق وحقد وهو يطوي الأوراق الموجودة أمامه , ثم قال بلهجة استهزاء :

– نحن قلنا لك عن سبب وجودك هون .. عن جريمتك , وانت لازم هلق تقول لنا لأي تنظيم أنت منتسب .. هذا الكلام الوارد بالتقرير كلامك وإلا لأ ؟ .. احكي .

فيما كان يقرأ التقرير كان عقلي يعمل بسرعة مذهلة , كل حواسي كانت مستنفرة , كنت أسمع بنصف عقلي و النصف الآخر كان يفكر , حاولت تذكر السهرة فلم أفلح !.. التقطت التاريخ المذكور في التقرير , أكثر من ثلاث سنوات قبل عودتي إلى بلدي, يضاف إليها أكثر من اثنتي عشر عاماً قضيتها في السجن !.. كيف لي أن أتذكر سهرة من مئات السهرات التي كنا نقيمها ؟.. حتى أشخاص السهرة لم أتذكر منهم سوى أنطوان.

– هذا التقرير الذي قرأته وعمره أكثر من خمسة عشر عاماً , لا أذكر أني حكيت هيك كلام , وعلى فرض أني حكيته .. هذه نكتة لا أكثر ولا أقل, وأنت تعرف أنه يوجد مئات النكات من هذه الشاكلة . – حتى لو كانت نكتة .. هذه النكتة عقوبتها من سنة إلى ثلاث سنوات .

– بس أنا صار لي /12/ سنة في السجن !.

– ال/12/ سنة انساهم , هدول نتيجة خطأ نحن غير مسؤولين عنه , حسابك يبدأ من هذه اللحظة , وهلق احكي لنا عن تنظيمك .. ولأي تنظيم تنتمي .

– أنا منتسب إلى تنظيم .. الإخوان المسلمين !.

يبدو أنهم كانوا قد درسوا القضية واتخذوا قراراً. ولكن مادور خالي في كل هذا ؟ .. لست أدري .

10حزيران

أكثر من نصف شهر لم يحدث خلالها شيء, أصوات التعذيب أنهكت أعصابي, أن تتعذب أنت أهون من أن تسمع أصوات الصراخ الإنساني ليلاً نهاراً, أحاول أن أتلهى بقراءة الأسماء الموجودة على حيطان الزنزانة, جميعها مكتوبة بواسطة شيء معدني.. مسمار مثلاً, أسماء ذكور وإناث, بعضهم يكتب اسم مدينته أو حزبه السياسي , أحدهم كان يخط خطوطاً متوازية إلى جانب اسمه .. يبدو أن كل خط يمثل يوماً, عددتها: ثلاثة وثلاثين خطاً.

سري وللنساء فقط

أقاصيص من أدب السجون

زكرياء بوغرارة

إندفع مجموعة من زوار الفجر إلى غرفتي المزدحمة بالأوراق والجرائد القديمة وأكوام متكدسة من الكتب المترامية في كل مكان.. بحلق بعضهم في بعض, دامت لحظة الوجوم عدة ثوان..

ضرب كبيرهم كفا بكف وهو يقول برتابة وسأم

_ هل قرأت كل هذه الكتب؟؟

تسمرت في مكاني ولم أنبس ببنت شفة, سكنت ملابسي ولذت للصمت.. بينما الرجال أصحاب سنحة سوداء كفطير محترق يفتشون جنبات الغرفة.. ينهمكون في شغلهم بإخلاص منقطع النظير

في لمح البصر قلبوا غرفتي رأسا على عقب..لعلهم يبحثون في رزنامات الأوراق عن شيء ما بينما بعضهم ينبشون كلفئرن وينقبون ويلاحقون عناوين الكتب وفهارسها ويقلبون صفحات المجلات القديمة في دأب لايفتر

تساءلت بيني وبيني

_ عما يبحثون؟؟؟

ابتسم كبيرهم بمكر وكأنما قرأ ما يجول بخاطري قال وهو يهز رأسه

_ نبحث عن السلاح

مشاعر من أحاسيس شتى تناوبتني تلك اللحظة تمعر لها وجهي

كان سلاحي بين ملابسي.. إنه في جيبي بل بمعطفي الرمادي.. تحسسته أناملي في بطئ ورتابة الى أن وضعت يدي على …

قلمي… ثم أرسلت تنهيدة حرى وأنا أرتعش من البرد إنها أيام الشتاء الصقيعية ومخيالي يسافر بي الى المنفردة ترى كيف سأقضي أيام الشتاء في المعتقل؟؟

انتهى التفتيش تجمع أصحاب الوقت في حلقة دائرية وتبادلوا بينهم الحديث همسا بينما أحدهم يحمل عشرات الكتب.. يبدوأنهم سيأخذونها معهم , إنها لحظات صامتة بلا معنى تأملتهم في سكون وهم يغاذرون الغرفة السوداء.. لمحت أحدهم يتقدم بسرعة فأر نحو قائده وهو يقول بفخر واعتداد

( نعم سيدي.. لقد عثرنا على هذا الكتاب)

بعينين جاحظتين تفحصه القائد وهو يغمغم

_ سري للغاية

ثم هز رأسه وكأنه عثر على كنز ثمين يكفي ليزج بي في العتمة ردحا من الزمن

سحبوني خارج الغرفة وقد أحكموا الطوق حولي والأصفاد في يدي

التفت نحو كبيرهم بآلية وقلت ببرودة

_ سري وللنساء فقط

هذا هو العنوان

أشاح بوجهه عني وقد اضطرب لحظتها كأموج البحر المتلاطمة على صخرة منعزلة في شاطئ مهجور

( إنها مهمة فرق البحث والدراسات)

ثم إنطلق الموكب الصامت في رحلة العتمة والمتاهة والشتاء

انتهى

المصدر رابطة ادباء الشام

مذكرات سجنية:لانهم قالوا لا الحلقة السابعة والاخيرة

يوميات السجن

نظرة عامة

        لا بد من الإشارة إلى أن الحديث عن يوميات السجن يمكن أن يتناول طيفاً واسعاً من هذه اليوميات، فهي تتفاوت كثيراً بين سجنٍ وآخر، ويومٍ وآخر. فما يجري في فرع مخابرات حلب، مثلاً، يختلف عما يجري في فرع الحلبوني، وهذا يختلف عما يجري في سجن القلعة بدمشق، أو سجن حلب المركزي. وكثيراً ما كنّا نقول: إنَّ رئيس كل فرع يتصرف كما لو كان رئيس دولة، ولكلِّ دولة نظامها!.

        وفي الفرع الواحد يختلف النظام بين أيام الاعتقال الأولى، حيث تكون أعمال التحقيق في ذروتها، وتكون وجبات التعذيب “دسمةً جداً” وقد يقتصر طعام السجين على تلك “الوجبات”، وبين الأيام الأخرى حيث تنخفض وتيرة التحقيق، وتسير الأمور نحو “التطبيع”!.

        وفي السجن الواحد كذلك يحدث بين الحين والآخر شيء ما، في السجن أو في البلد خارج السجن، فيؤدي إلى تلبّد الغيوم في سماء السجن، أقصد في قبو السجن! وتكفهرّ الوجوه، وتزداد المعاملة سوءاً، وتتخذ الإجراءات القمعية والانتقامية، من شتائم، وضرب بالخيزران، وتفتيش للأمتعة وإتلافٍ لبعض ممتلكات السجين…

        وإذا استبدل برئيس الفرع رئيس جديد، تغيّر نظام السجن على هوى الرئيس الجديد.

        وإذاً فالحديث عن يوميات السجن سيشكّل (بانوراما) تحتوي مشاهد مختلطة متجاورة ملوّنة بمختلف الألوان!.

—————

        وسأقدّم –بين يدي الموضوع- انطباعات عامة، منها ما حصلت عليه من خبرتي ومشاهداتي، ومنها ما استفدته من خبرات سجناء آخرين مرّوا بتجارب منوّعة في سجونٍ سوريّةٍ أخرى!.

من هذه الانطباعات، أن درجات القسوة والوحشية تتفاوت كثيراً بين سجنٍ وآخر، ومرحلةٍ وأخرى.

        فالسجون المدنية أقلّ قسوة من سجون المخابرات، بفارقٍ كبير.

        وفرع مخابرات الحلبوني أقل سوءاً من فروع مخابرات “أمن الدولة” الأخرى، كفرع فلسطين، والفرع الداخلي (حيث محمد ناصيف وتركي علم الدين).

        ومن أسوأ السجون سمعةً، في القسوة والحرمان والإذلال… سجن المزّة، وفرع مخابرات القوى الجوية (الآمرية).

        وهذا كله في المرحلة الزمنية التي أتحدث عنها، مرحلة 1973- 1977، أما مرحلة عام 1980 فما بعد فقد بلغ التعذيب حدوداً لا تخطر على بال إبليس، وفظائع فرع المخابرات العسكرية (السريان) في حلب، حيث مصطفى التاجر وزبانيته، قد فاقت ما كنّا نعرفه من شرور التعذيب. أما فظائع سجن تدمر فهي شيء آخر لا عهد للبشر به، فالضرب والإهانة، وتكسير الأضلاع، وفلق الرؤوس، وشق البطون، والضرب بأعقاب البنادق أو (بالكابلات) أو بمواسير المياه أو (بالبلوكات) الإسمنتية، والقتل تحت التعذيب، أو تحت الأقدام، أو بالرصاص، أو على المشنقة… جزء لا يتجزّأ من يوميات ذلك السجن الملعون. ولعلّ كتاب “تدمر، شاهد ومشهود” يحوي نماذج حيّة لممارسات الجلاوزة الحاقدين هناك.

        ولولا أني سمعت شهادات متماثلة من عدد من السجناء الإسلاميين والعلمانيين، الذين كتب الله لهم النجاة من ذلك الجحيم… لما صدّقت ما حواه ذلك الكتاب الوثيقة!.

—————

         في ظروف القهر والتعذيب، والحرمان من الحرية، والدوس على الكرامة الشخصية، وفقدان الضروريات… يضطر السجين أحياناً إلى التفكير في صغائر الأمور، بل المشاجرة في هذه الصغائر!.

        فحين يُذْكر “السجن” أمام الذين لم يذوقوه! يتبادر إلى أذهانهم منه: الحبس في غرفة جماعية، أو زنزانة فردية، وربما بعض التعذيب كذلك. لكنه قلّ أن يخطر على بالهم معاناة السجين في الحصول على الطعام المناسب (في حدّه الأدنى!) والحصول على حقّه في دخول الخلاء لقضاء حاجته! والحصول على حقّه في أن يجد مكاناً ينام فيه، أو وسيلة يقصّ بها شعره أو يشذّب لحيته، أو يقلّم أظفاره، أو حماماً يغتسل فيه، أو مسماراً يدقّه في الجدار حتى يعلّق بعض ثيابه!…

الطعام

        في بداية الاعتقال، في فرع مخابرات حلب، ولمدة شهرٍ أو تزيد، كان نظام الطعام، والخروج بعده! ثنائي الوجبات. وجبة في الصباح، وأخرى في المساء، ويلي كل وجبة سماحٌ بالخروج إلى دورة المياه والمغسلة.

        وكان الطعام في هذه المرحلة يتعاقب علينا بين أربعة أصناف ليس غير: الحلاوة والفول والحمّص والفلافل.

        وكان معنا أحد إخواننا الشعراء، فبدا له أن يصف حالة السجن بأبياتٍ ساخرة، من الشعر الذي يتفكّه به الشعراء بين الحين والآخر، فيكون كالدعابة والمُلَح، بين قصائدهم العالية الرصينة:

        وكان مما قاله، يصف طعام السجن هذا:

قد أتَونا بالحــلاوةْ                       فـاسْتَبَتْ منا العقـولْ       

فأسَفْناهــا  مُلاوةْ                        ثم صارت صحن فـولْ       

—————

يا صحون الفول غيبي                  لم أعُدْ أهوى الطعامْ

نِلْتُ منكنّ نصيبــي                      وعلى الدنيا السـلام

—————

ها هو الحمّصُ يغلي                    في البطون الهائجاتْ 

إنـه الإســمنت مــجــبــــولاً فهبُّـوا يـا بُنـاة

—————

أنقذونا يا عبـاد  اللــــــــــه من شــرّ الفلافلْ

واحفظوها للمنـايـا                        فهي في الحرب قنابلْ

—————

        وليفكّر القارئ، ليس في مستوى المعيشة الذي يصبر فيه السجناء على هذا الطعام، بل ماذا يفعلون في شأن قضاء الحاجة، وليس يسمح لأحدهم بالخروج إلا مرّتين في اليوم؟!.

—————

        وبعد مرور هذا الشهر تحسّنت الحال، فقد أصبحت الوجبات ثلاثاً، وكان الطعام يؤتى به من إحدى الثكنات العسكرية، ثكنة هنانو، أي إنه طعام المجنّدين!.

        ولا يظُنَّنَّ أحد أن الحالة أصبحت ممتازة، فلقد كنا في السجن حوالي أربعين معتقلاً، والطعام الذي يحضره السجانون من الثكنة مقبول، من حيث إنّه طعام للسجناء، ولكنْ!!

        قبل توزيع الطعام يمر على إدارة الجمارك، أقصد على هيئة السجانين، ومَنْ وراء السجانين كذلك، فيقتطعون منه ما يشاؤون، ليأكلوا حتى تنتفخ بطونهم، ويحفظوا حصة الغائبين منهم، ويرسلوا حصة إلى الضابط المناوب وإلى ذويه… ثم يوزعون الباقي.

        وبشكلٍ خاص فإن اللحم والدجاج لا يصل إلينا منهما إلا (ما اختلط بعظم)! فقد كانت قطع اللحم تنزع لتكون من حصة الجلاوزة، وتوزع العظام وما عَلِقَ بها على السجناء!.

        ومرة كان فطورنا شاياً وزيتوناً. وكنّا خمسةً في غرفة واحدة فكانت حصة هذه الغرفة 4 زيتونات!!.

—————

        لكنهم –شهادة لله- لم يكونوا يسرقون من الشاي، فهو يأتي في صفائح (تنكات) وعليه طبقة ظاهرة من الدهنيات، لأن الصفائح نفسها تكون قبل وضع الشاي فيها قد ملئت بالأرز المطبوخ، ولم تنظّف جيداً بعد ذلك!.

—————

        ولا بأس بمزيدٍ من الحديث عن هذا الشاي: فقد كان يحضّر في الثكنة ضمن حلّة كبيرة تتسع لحوالي مئة لتر، ثم يصبّ منها في الصفيحة (التنكة) التي ستنقل إلينا، فينضمّ الدهن المأخوذ من الحلّة إلى دهن الصفيحة، وتنقل الصفيحة إلى السجن، ثم يصب منها في أوعية صغيرة. فحصّة غرفتنا مثلاً كانت تأتينا بصفيحة معدنية مما كان يباع فيها الحلاوة!. ويصل إلينا الشاي دافئاً! وليس عندنا كؤوس حتى نصبّه فيه، فكنا نحمل صفيحة الحلاوة على التناوب ونتناول منها رشفات الشاي الدافئة!.

        وحين كانت تتوافر لدينا ملاعق، نفتّ الخبز في الشاي ونتناوله طعاماً وشراباً، ونقول: فطورنا اليوم “فتّة شاي”!.


        أما في الحلبوني فقد كانت هناك ثلاث وجبات يومية. يؤتى بالغداء من نادي صف الضباط، فهو طعام جيد في كمّه ونوعه، لكنه كذلك يمرُّ على مجلس الزبانية قبل توزيعه، فيصادرون منه ما يحلو لهم، ويوزّعون الباقي، وهذا الباقي كان مقبولاً كذلك. أما الفطور والعشاء، فكانا في الغالب في غاية الرداءة كمّاً ونوعاً، فقد كانت إدارة السجن قد خصّصت مبلغاً معيناً ثمناً لوجبة السجين، وكلما جاءت موجة غلاء، وما أكثر تتابع هذه الأمواج، ضعفت القيمة الشرائية لهذا المخصَّص، وصغُرت الوجبة، هذا إذا كان السجانون، وهم يشترون الطعام من بعض المحلات المجاورة، يدفعون القيمة المخصصة ولا يختلسون منها شيئاً!.

        وكان دور السجّانين أن يحضروا لنا وجبات الطعام، ثم ينظّموا الأدوار في الخروج إلى “الخطّ” أي قضاء الحاجة، والسجّان الأمهر هو الذي يستطيع إنجاز المهمة بأسرع ما يمكن أي أن يستعجلنا، ويطرق بعصاه على باب الخلاء، ويرفع عقيرته بالنداء: بْصُرعة (أي اخرُج بسُرعة)!.

        ومن طرائف ذلك أن السجين أبا راشد عبد الهادي كان بين الحين والآخر يتشاجر مع السجانين فيقول لهم: إنَّ مهمتكم تنتهي بأن تطعمونا و (………) أي تمكنونا من قضاء الحاجة. وقد نظم شاعرنا قصيدة يخاطب فيها الطاغية الكبير، فيقول فيها: إنَّ جلاوزتك لا يملكون منّا القلب والفكر والعقيدة، لا يملكون سوى هاتين الحاجتين: الطعام وإخراج الفضلات.

مطلع القصيدة:

أوعى الرواة فمُ الزمان إذا روىٰ

وهَبَ الثمار، وغيره يهب النّــوى

ويقول فيها:

لا يملكون لنـا، ولـو حكّمتهـم 

فينا سوى أمرين، إن صدقتْ “سوى”

فلقـد نزيح بإذنهـم  فضلاتنـا

ولـقد نزيـل بإذنهم شَبَحَ الطَّـوىٰ

        وما أقسى أن يكون “الخروج إلى الخلاء” مطلباً، يضطر السجين فيه إلى تقديم الرجاء، لسجان وضيع، أو تقديم رشوة، حتى يحصل عليه؟!

        وحين ننتقل إلى سجن القلعة، فإن هذه المشكلة تُحلُّ من جانب، وتعود إلى التعقيد من جانب آخر. ففي المهجع الذي كنا فيه، توجد دورة مياه. وإذاً لا حاجة لاستئذان السجان في قضاء الحاجة، ولكنْ!. كنا في بعض المراحل 56 سجيناً في ذلك المهجع، بل كنّا، في مرحلة أخرى 81 سجيناً. وكل هؤلاء يتناوبون على دورة مياه واحدة! ففي أي ساعةٍ من ليلٍ أو نهار، حتى في الساعة الثانية ليلاً أو الرابعة صباحاً… يحتاج السجين إلى تسجيل دَوْر له بين المنتظرين، ويكون أمامه في الدَّور عشرة أو خمسة عشر أو سبعة وعشرون!! وعليه أن ينتظر.

        إنها من المآسي التي يُسْتَحْيا عادةً من ذكرها، لكن السجين يعاني منها. والله في عونه.

        كل ما في السجن مأساة يصنعها الطغاة والجلاوزة، ولا يخفف منها، عندنا، إلا الشعور بأننا في محنةٍ، هي مقتضى عبوديتنا لله تعالى. بل إنّ هذا الشعور كان –في معظم الأحيان- ينسينا آلام المعاناة، ويُشعرنا بسعادة الراضين عن الله.

        وكنّا نرى بعض أصحاب الانتماءات الأخرى يعيشون ظروفنا، وليس عندهم من معاني الإيمان ما يعوّضهم، فكانوا يعانون من الاكتئاب والانطواء والغضب المكبوت، ويهملون تنظيف أجسامهم وثيابهم وأماكن نومهم وقص أظفارهم وتمشيط شعور رؤوسهم!. وقد ينقلب هذا إلى مشاجرات فيما بينهم، أو ينقلبون على المبادئ التي اعتُقلوا من أجلها. وكثيراً ما يتأثرون بنا، ويرجعون إلى الله!.

الدروس والمحاضرات

        لا يخفى على الأصدقاء والأعداء أن النسبة العالية من أبناء جماعة الإخوان المسلمين هي من الفئة المتعلمة والمثقفة، فصغارهم طلاب في المراحل الإعدادية والثانوية والجامعية، وكبارهم من علماء الشريعة والأطباء والمهندسين والأدباء والمفكرين…

        وحين تحشر مجموعة من هذه الشرائح في إحدى غرف السجن أو مهاجعه، يظهر أثر العلم والفكر في تجمعهم ولا شك. وحين يوضع واحد منهم في زنزانة انفرادية فإن أهم ما يشغل به نفسه هو حفظ القرآن الكريم، أو مراجعة محفوظاته!.

        وحين يُنقل الأخ من الزنزانة إلى “الجماعية” يتعاون مع إخوة آخرين على استماع المحفوظات المتبادل، والازدياد منها.

        ولا يقتصر الإخوان عادة على هذا، بل يقدِّمون من يرونه صاحب علمٍ فيهم، في أي مجال من العلوم الإسلامية، بل من العلوم الأخرى كذلك، لتقديم محاضراتٍ ودروس، وعقْدِ ندوات…

        وكان أكثر ما يُروج في غرف الإخوان –في السجن- وفي المهاجع، مجالس التلاوة، وما يتبعها من ضبط قواعد التجويد، والوقوف عند بعض الآيات الكريمة لشرح مفردةٍ، أو تفسير آيةٍ كريمة، أو إعراب كلمة، أو بيان أحكام فقهية أو توجيهات حركية…

        وكنا –على سبيل المثال- نجعل جلستين للتلاوة كل يوم، واحدةً وقت الضحى، وثانية في المساء، قبل طعام العشاء أو بعده.

        ونزيد على ذلك بإقامة دروسٍ منوّعة في التفسير والفقه والحديث وعلومه… وذلك حسب توافر صاحب الاختصاص، أو توافر بعض المراجع. ففي سجن القلعة مثلاً توجد مكتبةٌ زوَّدها أهل الخير بأمّهات الكتب، فكنّا نستعير منها ما نحتاج إليه.

        بل إنني أذكر أن أحد إخواننا الأطباء المختصين، ألقى فينا عدداً من المحاضرات الطبية في موضوعات شائقة، لم يكن يخطر في بالنا أن تكون شائقة، قبل أن نستمع إليها، فقد كان موضوع إحدى المحاضرات: “النوم”!. قلنا حينئذ: وماذا يحدّثنا عن النوم؟ وهل النوم أمرٌ غامض حتى يحدّثنا عنه؟! لكن ما إن بدأ محاضرته حتى بدأ يفتّق أذهاننا بسلسلة من الأسئلة.. ممّا حوّل المحاضرة إلى ندوة، وما جعلنا نطالب بمحاضرة ثانية ثم ثالثة، لاستكمال موضوع النوم!.

        وكذلك حاضَرَ فينا أحد الإخوة المختصين في موضوع “الثلاجة”. وكان من العجيب أنه بدأ كلامه في أنه لن يتناول في محاضرته الأولى الحديث عن محرّك الثلاجة وآلية عملها وكيف يحدث التبريد، بل سيتحدث عن هيكل الثلاجة فقط، ويرجئ الحديث عن المحرك  والتبريد إلى محاضرات تالية. وهنا كذلك كانت المحاضرة غنية، وتوالت الأسئلة الغزيرة حول هيكل الثلاجة… ما دعاه إلى تخصيص محاضرة ثانية، وربما ثالثة، لاستكمال الموضوع نفسه.

        وهكذا كنا نملأ وقتنا بما يفيدنا في أمور الدين والدنيا، وما يجلب لنا المتعة كذلك.

        وكان النزلاء من غير الإخوان ينبهرون بما يرون ويسمعون!!. وكانوا كذلك يُعجبون بنا ويحبوننا ويتأثرون بنا. وكم من سجين جاءنا وهو لا يعرف الصلاة ولا تلاوة القرآن… وخرج وهو خَلقٌ آخر!. حتى إن سجيناً أقام معنا نحو شهرين، ثم أُفرج عنه، ثم اعتُقل مرة أخرى وجاءنا… قال: لقد فرحتْ زوجتي بتغير سلوكي، وبتحوّلي إلى الدين! وكانت تقول لي: لو كُنتُ أعلم أنَّ احتكاكك بالإخوان عن طريق السجن يجعلك هكذا، لدعوت لك الله بأن يهيئ لك سجناً من قبل!.

        صحيح إن نظام السجن ليس واحداً ولا ثابتاً، ولكن الأخ ينبغي أن يستفيد من وقته بأقصى ما يستطيع، وفق ما تتيحه كل مرحلة. وكم من أخٍ دخل السجن وهو لا يحفظ من القرآن إلا جزءاً أو اثنين، وخرج وهو يحفظ عشرة أجزاء أو عشرين، أو يحفظ القرآن الكريم كاملاً!.

        ونزيد هنا: إنَّ نظام فرع مخابرات حلب لم يكن يسمح باقتناء المصحف الشريف، فضلاً عن الكتب الأخرى وعن الأقلام والدفاتر… وكنّا نحصل على ما نحصل عليه عن طريق رشوة بعض السجانين. وبما أن الذي نحصل عليه قليل فكنّا نعتمد بشكلٍ أساس على رصيدنا العلمي والثقافي والفكري… الذي نحمله في صدورنا قبل دخول السجن.

        ونظام الحلبوني ليس أفضل بكثير، إلا في المرحلة التي أصبح فيها الرائد محمد أحمد فتح الله رئيساً للفرع فقد أعلن لنا – بعد حوارات معه- أن أي كتابٍ مسموحٍ به في السوق، مسموحٌ به عندكم!. لكنَّ عهد هذا الرائد لم يستمرّ، بل عزلته إدارة المخابرات العامة بعد نحو سنةٍ واحدةٍ من توليه المسؤولية.

        والسجن المدني بعكس سجون المخابرات، فإدارة السجن وعناصر الشرطة، حين تفتش الأمتعة والهدايا التي تأتي إلى السجين، تركّز على اكتشاف مخدرات أو سكاكين… في هذه الأمتعة، وبما أنَّ هذه الأمور ليست من اهتماماتنا، وليست مما يمكن أن يحضره لنا أهلونا فقد كان يسمح بإدخال كل شيء: الألبسة والأطعمة والكتب والأقلام والدفاتر… بل كان معنا رجل من أعضاء حزب التحرير، فكانت تصل إليه نشرات الحزب كذلك.

 اللعب والمرح والأدب

        كنّا كذلك نسلّي أنفسنا بما يخفف من ضغط السجن وكَرْبه. ففي أيام التحقيق والتعذيب كنا نتذكر أنَّ المحنة والابتلاء من لوازم الانتماء لهذا الدين: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُون﴾. ونتذكّر كم لقي النبي صلى الله عليه وسلم، والأنبياء من قبله، وأصحابه ومن تبعهم بإحسان… من ألوان العذاب… ونتذكر أنَّ قافلة دعوة الإخوان المسلمين قدّمت العشرات من الشهداء (قبل أن تقدِّم الآلاف، وعشرات الآلاف فيما بعد، في مجازر تدمر وحماة وحلب وجسر الشغور وغيرها) والآلاف من المعتقلين أيام عبد الناصر….

        وعندما تمضي أيام التحقيق وننعم ببعض الاستقرار، كان المرح والسرور والمزاح… هي التي تملأ مجالسنا، وقد نحوّل بعض مظاهر المأساة إلى مناسبة للفكاهة، سواء بما يتعلق بالطعام واللباس، أو بالنوم والحلاقة، أو بالسجانين والمحققين…

        وكنّا نتبادل النكات، ونقوم ببعض الألعاب، وننظم بعض التمثيليات والنشيد والمسابقات الثقافية والمسرحيات!.. وقد يشعر بنا السجانون أحياناً، فيشاركوننا مرحنا، أو يتجاهلوننا، أو ينكّلون بنا.. حسب انتماء كل سجان، ودرجة تعاطفه، أو درجة حقده ولؤمه!.

        وكان فينا الشعراء الذين ينظمون القصائد الجادّة العالية في أغلب الأحيان، أو الأبيات المرحة الساخرة في بعض الأحيان.

        ومن الطرائف أنَّ أحد الشعراء كان ينظم القصائد السياسية الملتزمة، فكنت أكتب نسخة من القصيدة، وأبدِّل بعض الألفاظ بألفاظ أخرى مع المحافظة على الوزن والقافية، مخافة أن تقع بأيدي السجانين لدى أي تفتيش… فأزيل بعض الكلمات التي تُعدُّ مستمسكاً شديداً كاسم الأسد أو الدبّاغ (مدير المخابرات العامة)، أو البعث….

        قال لي هذا الشاعر الظريف: هذه التعديلات والتغييرات في الكلمات لن تنقذك لو وقعت القصيدة في أيديهم. سيقولون لك: تتكلم عن الظلم والظالمين، ومَنِ الظالمون غيرنا؟! وتتكلم عن الخائنين للوطن والأمة: هل يوجد خائنون غيرنا؟! وتتكلم عن المتخاذلين أمام إسرائيل. ألسنا نحن المتخاذلين؟!. وتتكلم عن الجولان، أليس الرئيس هو الذي باع الجولان؟!..

        قلت له: فعلاً، إنَّ حججهم قوية!.

الاغتسال

        الاغتسال حاجة إنسانية، بما أن جسم الإنسان يتعرض للتعرق والغبار وسوى ذلك. وقد أكّده الإسلام فجعله مندوباً في أوقات عدة، كغسل الجمعة مثلاً، وجعله واجباً في أحوال معروفة.

        والأصل في المعتقلات السورية أن يُحرَم المعتقل من هذا الحقّ، أو أن يضيّق عليه فيه..!.

        ولكي نقوم بالاغتسال، المندوب منه والمفروض، كنا نحتال بشتى الحيل، وغالباً ما نفعله بالتجزئة! فعلى المغسلة نستخدم الماء والصابون في غسل وجوهنا وأيدينا إلى المرافق، وفي غسل رؤوسنا أحياناً… وكان هذا يضايق السجانين، لأن أحدنا يستهلك وقتاً زائداً لأجل أعمال النظافة هذه، والسجّان يريد أن يفرغ من مراقبتنا بأسرع وقت، ويحبسنا في غرفنا أو زنزاناتنا، ويقفل علينا الأبواب ويطمئن!.

        وكنا كذلك، عند دخول الخلاء، نغسل ما استطعنا من أجسامنا. فإذا كان أحدنا جنباً كان يهيئ نفسه قبل دخول الخلاء فيلبس الجلابية، من دون أي شيء تحتها، فيخلعها في الخلاء، ويقضي حاجته ويغسل ما أمكنه من جسده بسرعة فائقة ويخرج، ليكمل غسل رأسه على المغسلة….

        وقد لا يتمكن من استكمال الغسل إلا على ثلاث دفعات، في الصباح وفي الظهيرة، والمساء… وقد يكون الجو بارداً جداً.

        وإلى أن يكتمل غسل أحدنا كان يتيمّم ويصلي.

        وبعضنا لا يستطيع استعمال الماء البارد في الغسل، فيخاف المرض، فيمضي أياماً وهو يصلي بالتيمم.

        أما الاغتسال في الحمّام فلم يكن له نظام محدّد، فقد يكون الفاصل بين اغتسالٍ وآخر أسبوعاً واحداً، أو عشرة أيام، أو أسبوعين، أو ثلاثة… وقد يكون الماء حاراً، وقد يكون بارداً… وفي كل الأحوال يكون مقترناً بضيق الوقت، فعلى السجين أن لا يستغرق أكثر من عشر دقائق، في معظم الأحيان.

الحلاقة

        والحلاقة كذلك لم يكن لها وقت محدّد.

        ففي كل فرعٍ للمخابرات يوجد عنصرٌ حلاق، يستفيد من خدماته ضباط الفرع وعناصره. وبين حينٍ وآخر يُطلب منه أن يحلق للسجناء كذلك.

        هناك الحلاقة الإجبارية التي يقصد بها حلق رأس السجين (على النمرة صفر!) أو حلق لحيته كذلك لإزالة المظهر الإسلامي الذي يؤذي مشاعر “البعث”.

        أما الحلاقة النظامية فهي في مستويين، مستوى تجاري، يقصد به الحلاق أن ينجز مهمةً مأموراً بها، وهي حلاقة وسط بين التزيين والتشويه. ومستوى جيد أو مقبول، وتكون للمعتقل الذي يدفع أجرة للحلاق الذي يفترض أنه موظف، ويقوم بعمله على أنه من واجبات مهنته التي وظّف لأجلها.

        وفي السجون المدنية يتغير الأمر كلياً، فهناك صالونات للحلاقة متواضعة، يعمل فيها سجناء مدنيون، مهنتهم الأصلية هي الحلاقة، فهم أصحاب مهارة، ويأخذون على عملهم أجرة مناسبة.

        وكنّا أحياناً نتمكن من الحصول على أدوات للحلاقة فيقوم بعضنا بالحلاقة لبعضنا الآخر.

        (أما ما سمعناه من أحوال الحمام والحلاقة في سجن تدمر، فهو لونٌ من التعذيب، بل من أحلك أنواع التعذيب، وقد تكون ضحيةُ الحمام، أو الحلاقة شهيداً أو أكثر، وعدداً من الجرحى، حالة بعضهم خطيرة، والعياذ بالله، وقاتل الله الذين نُزعت من قلوبهم الرحمة).

النوم

        هل يجادل أحد في حق الإنسان في النوم؟ نعم، هذا الحق مجادل فيه في المعتقلات.

        أما في أيام التحقيق فإن الحرمان من النوم نوع من أنواع التعذيب يمارسه الجلاوزة حتى يؤذوا السجين ويُذلّوه ويصِلوا به إلى “الهلوسة” أو الانهيار!. وحتى يتحقّقوا من تنفيذ مهمتهم النبيلة فهم يجبرون السجين على البقاء واقفاً على قدميه، أو على قدمٍ واحدة، وقد يكون عاري البدن وفي عنقه دولاب (إطار عَجَل سيارة)!. ثم يمرُّون عليه –وهو في الزنزانة- كل بضع دقائق ليتأكدوا من حُسْن التزامه،  فيصرخون صراخاً مفاجئاً عالي الدرجة، أو يخبطون على باب الزنزانة خبطة قوية، وقد يفتحون طاقة الباب ليتأكّدوا بأمّ أعينهم. قلع الله عيونهم!.

        وحتى إذا تكرّموا عليه وسمحوا له بالاستلقاء على الأرض، فلن يفوتهم ذلك الإزعاج. إنهم يمرُّون أمام الزنزانة بين الفينة والأخرى، ويصرخون بأعلى أصواتهم، أو يضربون الأبواب بعقب الحذاء، أو بعقب البندقية، أو بالخيزرانة…

        ولكن ماذا بعد أيام التحقيق؟!.

        هناك إزعاجان مضمونان للسجين داخل الزنزانة:

        الأول هو أنَّ طول الزنزانة في الغالب لا يكفي لأن يمدَّ السجين جسمه ويرتاح. فإذا كان طول الإنسان عادة بين 160و 180سم فإن القصار فقط هم الذين يستطيعون أن يمدُّوا أجسامهم على طولها. بل إن بعض الزنازين لا تكفي لهؤلاء!.

        والثاني: وسائل الراحة والدفء لا تكفي في الحد الأدنى للكفاية. ففي البدء يوضع السجين في غرفة عارية ليس فيها أي شيء. فإذا أراد النوم فلا نوم إلا على البلاط! لا فراش ولا غطاء ولا وسادة!.

        وإذا مرّ يومان أو ثلاثة، بدأت أحوال الزنزانة تتحسن، فقد يعطى بطانية أو اثنتين… وعليه أن يتخذ من ذلك فراشاً وغطاءً ويجعل حذاءه وسادة!.

        وفي الغرف الجماعية يكون الوضع أحسن قليلاً، وهو يختلف بين سجنٍ وآخر، ومرحلة وأخرى. ففي إحدى المراحل، كنا خمسةً في غرفة واحدة، وفي هذه الغرفة أربع بطانيات ليس غير!. بينما في مرحلة أخرى –في الحلبوني- كانت حصة السجين الواحد أربع بطانيات (يتكيّف بها السجين ليجعل منها الفراش والغطاء والوسادة).

        أما مساحة المكان المتاح ففي أغلب الأحيان تكون صغيرة، بل صغيرة جداً! وكثيراً ما كان يتاح للسجين الواحد عرضٌ لا يتجاوز 40 سم! وطول ضئيل يضطر السجين معه لأن يطويَ رجليه! وقد تزدحم الغرفة (الكبيرة) فينقسم السجناء إلى قسمين، قسم تكون رؤوسهم على جهة حائط، وقسم آخر تكون رؤوسهم على الحائط المقابل. أما الأرجل فإنها تتداخل أو تتراكب!.

        وقد يزداد الزحام أكثر، فيضطر السجناء إلى النوم بالتناوب. فبعضهم ينام والباقون يقعدون في مساحة ضيقة جداً، ثم يستيقظ النائمون، أو يوقَظون، لينام زملاؤهم، ويقعدون!.

        وبعض إدارات السجون تجبر السجناء على إبقاء المصابيح مضاءة في أثناء النوم!.

        النوم راحة فعْلاً. لكن السجين محروم من هذه الراحة!.

الزيارات

        لا شكَّ أن ذوي المعتقل، من أبوين وزوج وأولاد، يرغبون في زيارة قريبهم، شوقاً إليه، واطمئناناً عليه، ومواساةً له…

        لكنَّ إدارة السجون تتفاوت في مدى ما تسمح به من هذه الزيارات، لا سيما سجون المخابرات. فهي تمنع الزيارات في فترة الاعتقال الأولى، هذه الفترة التي تمتدّ أياماً، أو أسابيع، أو شهوراً… وحين تسمح بالزيارة تقيّدها بقيودٍ كثيرة، وقد تعود إلى منعها لسببٍ أو لغير سبب!.

        وعلى سبيل المثال فإن الأشهر الخمسة التي قضيناها في فرع مخابرات حلب، لم يتمكن ذوو أي موقوف من زيارة صاحبهم أكثر من مرة واحدة، بل إن بعضهم لم يتمكن من زيارته مطلقاً!.

        والزيارة -حين تتم- تكون بحضور  واحد أو أكثر من الجلاوزة، للحيلولة دون نقل أي خبر، أو التحدث في شأن التعذيب والتحقيق، أو تحميل أي رسالة شفهية أو خطية… ولا تتجاوز الزيارة عادةً خمس عشرة دقيقة!.

        وفي الحلبوني يفرّقون بين مصطلحين: زيارة ومقابلة.

        فالزيارة عندهم هي أن يأتي بعض ذوي المعتقل إلى باب فرع الحلبوني ويسلّم بعض الهدايا للحرس حتى يوصلوها إلى المعتقل، ويبلَّغوه بوصول أهله!. وكثيراً ما تصل بعض هذه الهدايا فقط، إلى صاحبها!.

        والزيارة، بهذا المعنى متاحة في معظم الأيام، والزائر لا يلتقي صاحبه ولا يراه!.

        أما المقابلة فتعني أن يجلس الزائر وصاحبه المعتقل، بحضور بعض الزبانية، في غرفة الحرس، مدة ربع ساعة، تزيد قليلاً، أو تنقص قليلاً!.

        وهذه المقابلة قد تتاح بمعدل مرة كل أربعة أشهر!.

        وغني عن البيان فإن أي طعام أو متاع يحضره أهل الأخ المعتقل يخضع للتفتيش الدقيق، كما يخضع غالباً لشيءٍ آخر!.

ومضات

“نعم، أنا الذي بعت الجولان!”

من النكات المرّة التي كان يتناقلها الموقوفون في فروع المخابرات، هي أن يقولوا لمن يتوقعون له أن يقدَّم إلى محكمة أمن الدولة: بإمكانك أن تنكر كل شيء اعترفت عليه أمام المحقق، وذلك بأن تقول للقاضي: “لقد كانت اعترافاتي كلها تحت التعذيب! ولو أنهم طلبوا مني أن أعترف لهم بأنني أنا الذي بعت الجولان، لقلتُ لهم: نعم!”.

اشطُبوا اسمه من الملفات جميعاً

كان أحد المعتقلين من إخواننا شاباً، في الثانية والعشرين من عمره، طالباً جامعياً، وقد ثبتت عليه “الجريمة” نفسها التي ثبتت على غيره! وهي انتماؤه إلى جماعة الإخوان المسلمين!.

لكن، كان لهذا الشاب مزية خاصة هي أن له أخاً شقيقاً، تاجراً كبيراً، ولم يكن هذا التاجر متديناً، بل كانت له علاقات وثيقة بالنقيب دياب، رئيس فرع المخابرات العامة في حلب، وكانا يسهران معاً في بعض الليالي الحمراء أو الخضراء، وكان يُغرق النقيب بالهدايا، لا لوجه الله، ولا لسواد عيني النقيب، ولكن لأنه يحتاج إليه في تخليص البضائع، أو حل الإشكالات مع “ضريبة الدخل” وغير ذلك، فإن مكالمة هاتفية من النقيب الشهم كافية لحل الإشكالات جميعاً!.

كان قد مضىٰ على اعتقال الشاب يومان أو ثلاثة، واتّصل أخوه التاجر بالنقيب ليقول له: إنَّ أخي معتقل عندك، وأنت صاحب فَضْل!!.

اتصل النقيب، بدوره، بالمحقق عبد القادر حيزة، وكان يقوم بالتحقيق مع بعض إخواننا. فقال له: إنَّ فلاناً، الشاب المعتقل عندك، أَفْرِجْ عنه فوراً، ومزّق كلَّ الأوراق التي تشكل “محضر التحقيق” بشأنه، واشطب اسمه من كل الملفّات.

وكان ذلك. وتم الإفراج الفوري عن أخينا الشاب.

وكان النقيب مخلصاًَ لصديق “السهرات” فنصحه بأن يُخرج أخاه من سورية كلها، لأنه لا يأمن أن يقوم فرع آخر من فروع المخابرات باعتقاله، وتخرج القضية من يده.

وكان ذلك أيضاً، والأخ يعيش خارج سورية منذ عام 1973م.

لقد فرحنا لنجاة أخينا، وأسفنا للاعتبارات التي تتحكّم في بلدنا المنكوب!.

ما هذا التناقض؟!

حدثني زميلٌ لي مهندس، اسمه (ش.ش)، وهو بعثي، جميل الصورة، اجتماعي، حلو الحديث… قال: جاءتني سيّدة تشكو إليّ أنّ أحد فروع المخابرات قد داهم بيتها، واعتقل ابنها، وهي لا تدري أي فرع هذا، وكلما ذهبت إلى أحد الفروع تسأل عنه، أنكروا أن يكون عندهم صاحب هذا الاسم!!.

يقول السيد (ش.ش): كان ابنها من أصدقائي، ولكنه كان ينتمي إلى “بعث” آخر، هو البعث اليميني، بعث أمين الحافظ أو بعث العراق!.

ويمضي (ش.ش): توقعت أن يكون هذا الصديق معتقلاً لدى فرعٍ معيّن، وكان أحد ضباط ذلك الفرع صديقاً لي، فذهبت إليه وقلت له: إنَّ فلاناً عندكم في السجن، وإنَّ بال أمه مشغولٌ عنده، وتريد أن تطمئن عليه… قال الضابط: طمئنْها. إنه بخير. إنها مجرد تحقيقات بسيطة، وما هي إلا أيام قلائل حتى يعود إليها. وهو الآن مبسوط. وكل أسباب الراحة مهيّأة له، من طعام، و”تنفُّس” وحسن معاملة….

قال السيد (ش.ش): عرفتُ أنَّ الضابط يكذب عليّ، فقلت له: البعث العراقي التكريتي إذا اعتقل واحداً من رفاقنا يعذِّبه، ويُذلّه، ويذيقه الأمرَّين… وأنتم إذا اعتقلتم واحداً من جماعتهم تدلِّلونه؟!. قال الضابط: أتريد أن أقول لك الحقيقة: واللهِ، إنه يلقى من العذاب ما لا يطاق. إنه لا يعرف متى ينام، ومتى يفيق؟ ولا يذوق من الطعام إلا أسوأه… لقد نسي الحليب الذي رضعه من أمه!!.

فأجابه (ش.ش): العمى على الكذب!! منذ لحظات فقط، كنت تحدثني عن الدلال والرفاهية!! فكيف تريدني أن أصدِّقك؟!.

“مستو” وعلبة الحلاوة!

في بعض مراحل السجن، كنا مع مجموعة من الإخوة في “الغرفة المظلمة”. إنها إحدى الغرف الأربع المطلّة على الساحة، لكن لهذه الغرفة خصوصية! وهي أنَّ شباكها صغير، لا تتجاوز مساحته 1×1م، وهو مرتفع كثيراً، ومغطى بشبك معدني، ذي قضبان غليظة متعامدة، لا تدع لدخول الهواء والنور إلا فتحات صغيرة مربّعة 6سم×6سم.

وكأن هذه الغرفة تخصص عندهم لعتاة المجرمين، لتكون سجناً في سجن!.

مع هذا كنا مسرورين لوضعنا في هذه الغرفة، فإن شباكها العالي الصغير يمنع السجانين من المرور بنا بين الحين والآخر ومراقبتنا. وإنَّ رؤية السجّان عذابٌ فوق العذاب!.

وبما أنَّ الخروج من الغرفة إلى المغسلة لا يتم إلا في أوقات محددة، وكثيراً ما نحتاج إلى استعمال الماء، فقد احتفظنا في الغرفة بإبريق وسطل من البلاستيك، نصبُّ على أيدينا   -للوضوء وغيره- من الإبريق فوق السطل. وحين يتاح لنا الخروج نفرغ محتويات السطل في المغسلة…

وحصل أنّ عقب السطل قد انثقب، ففكّر أحد إخواننا، وهو “مستو” الكردي، طالب الطب، بأن يقوم بلحامه؟!. أتى بغطاء بلاستيكي لعلبة الحلاوة، وأشعل فيه النار، فصارت قطرات منه تنزل فوق الثقب لينسدّ. ولكن في أثناء ذلك تنبعث من الاحتراق غازات بألوان مختلفة، وروائح خانقة. وهذا ما جعل أحد الإخوة يصرخ فيه: يا مستو، لقد خنقتنا! فأجاب مستو بغضب: أتراني أتسلّىٰ، ألا تراني أقوم بذلك خدمة لكم؟!.

انتهت الخصومة عند هذا الحد. وشعر الأخ أنه أساء فعلاً إلى أخيه مستو، فقام يعتذر إليه، ويصرُّ أن يقبِّل يده، تعبيراً عن أسفه. ومستو يقول: “لقد سامحتُك، ولعلّي أنا الذي أسأت إليكم. وأنا الذي عليّ أن أقبِّل يدك، وأن أعتذر من الإخوة جميعاً”.

وكانت لحظة صفاء، وسالت دموع الإخوان تقديراً لموقف كل من الأخوين، وإعظاماً لروح الأخوّة، وحمداً لله على مشاعر الحب في الله.

ذكاء سجّان

من “تقاليد” سجن الحلبوني أنَّ المحقق يبدأ التحقيق مع “الموقوف” أي المعتقل، من غير تعذيب، إلا بعض اللكمات والتهديدات….

وبعد الجلسة الأولى يطلب من أحد السجانين أن يهيِّئ “المعتقل” لجولة جديدة من التحقيق. وهذه التهيئة تعني أن يعرِّضه للتعذيب الشديد، ثم يحضره إلى المحقق عند الطلب.

وحدث أنَّ معتقلاً أجنبياً، يحمل الجنسية الأسترالية كان نزيلاً في إحدى زنازين الحلبوني. وطلب المحقق من السجّان “خميس” أن يهيّئ ذلك المعتقل للتحقيق.

كان ذلك في الساعة الأخيرة من الدوام الصباحي.

وعند بداية الدوام المسائي، استدعى المحققُ السجّانَ وسأله: هل قمت بتعذيب الأجنبي الذي طلبتُ منك تعذيبه؟! قال: نعم يا سيدي. والله عذَّبته عذاباً شديداً حتى “صار يحكي عربي!”. قال المحقق: “يخرب ديارك. لقد قمت بتعذيب سجين آخر”!.

أبو طلال و”صديق المحقق”

أبو طلال، السجان الشهير، يقوم بعدد من المهمات، إحداها أنه سائق “سوبر”.

وقد حدّثنا أنه كان يقود السيارة باتجاه الحلبوني، وإلى جانبه المحقق. ووقفت السيارة عند الإشارة الضوئية، وكان ذلك أمام أحد المقاهي. قال المحقق: انظُرْ إلى ذاك الذي يجلس على تلك الطاولة، ويلبس القميص الأزرق، وبيده سيكارة… هل رأيتَه؟! قال أبو طلال: نعم. قال: متى أوصلتني إلى الفرع ارجع وأحضر لي هذا الرجل.

رجع أبو طلال، ودخل المقهى، ورَبًّتَ على كتف الرجل. نظر الرجل إليه: ماذا؟. قال: “امشِ معي. الآن تعرف. مطلوب إلى المخابرات!”.

استجاب الرجل بطبيعة الحال، فانطلق به أبو طلال، وأدخله الفرع، وحشره في إحدى الزنزانات، وهو ينتظر أن يطلبه المحقق حتى يقدِّم له تلك الفريسة.

ومرَّت أيام، وتذكّر المحقق أنه طلب ذلك الرجل، ولم يأته الجواب. وسأل أبا طلال عنه فقال: نعم يا سيدي لقد أحضرتُه كما قلت لي، وهو الآن في الزنزانة منذ خمسة أيام، ومتى أمرتني أحضرتُه إليك. قال المحقق: بئس ما صنعت!! إنه صديقي. وقد كنتُ مناوباً في الفرع يوم أن طلبتُه. وأحببتُ أن يأتي لنتسلّى معاً!.

الصحفي وليد جركس

هذا الصحفي من محافظة حمص، وكان يعمل في جريدة “النهار” اللبنانية.

وفي بعض المراحل كانت هذه الجريدة في عداء مع السلطات السورية.

وكان وليد جركس يسافر بين الحين والآخر بين دمشق وبيروت. وفي دمشق عقد صداقة مع “جورج درزي” وهو المصور الرسمي للدولة، وصاحب استوديو في شارع الصالحية. فكان كلما زار هذا الاستوديو اشترى منه بعض الصور، ليبيعها –بدوره- إلى جريدة النهار.

ومرة زاره، وسأله عما عنده من صور جديدة، فقال له: اصعد إلى السقيفة لتختار ما تريد.

وصعد وليد فوجد بالفعل عدداً كبيراً من الصور. لكنه شكّ كثيراً بأن تكون تلك الصور مجازة!. فإنَّ نشر تلك الصور تحتاج إلى إجازة من المخابرات العسكرية.

كانت تلك الصور تتعلق بجولة أحد المسؤولين الكبار في بعض المناطق، وفيها صور له بأوضاع غير لائقة، على موائد الخمر ونحو ذلك!!.

التقط وليد عدداً من هذه الصور فأخفاها في جيبه، واختار صوراً أخرى، من الصور التي يقدِّر أنها مجازة، وعرضها على صاحب الأستوديو، فباعه إياها.

أخذ وليد الصور غير المجازة، وباعها للجريدة. وراحت إدارة الجريدة تسوِّق لهذه الصور: انتظروا صوراً فاضحة لبعض المسؤولين السوريين… ثم قامت بنشر إحدى هذه الصور.

استدعت المخابرات المصور جورج درزي، ولدى الحوار معه توقعوا أن يكون وليد هو الذي سرّب تلك الصور، فقاموا باختطافه من بيروت.

تم التحقيق مع الصحفي بأسلوب “حضاري”، استخدمت فيه تكنولوجيا الكهرباء والخيزران والدولاب… فاعترف، ببيع الصورة التي نشرتها تلك الجريدة.

ولكن الجريدة عادت فأعلنت عن صورة جديدة، وتم نشر هذه الصورة كذلك، فاستدعى المحقق وليداً ليحقق معه في هذه الصورة!. فأجابه وليد: انظر، لقد بعت الجريدةَ خمساً وعشرين صورة، فإذا أردتم ضربي وتعذيبي، فالأرخص لي أن تضربوني بالجملة، والجملة أرخص من المفرّق!.

العراقيان الشقيقان (س)

        تعرّفنا في “الحلبوني” إلى أخوين شقيقين من العراق الشقيق!.

        أصغرهما محمد (س) كان طالباً في جامعة دمشق، أبيض البشرة، ضئيل الجسم. وكان محسوباً على المعارضة العراقية، مرتبطاً بمكتب العراق –القيادة القومية لحزب البعث.

        لكن هذا الشاب اتهم –فيما بعد- بالتواطؤ مع رئيس المكتب، الذي فرّ إلى العراق، وأخذ معه معظم وثائق المكتب، بعد أن كان من أقطاب المعارضة، ولو في الظاهر. وإذاً فالشبهة قوية في حقّه، أنه مدسوس لحساب النظام العراقي.

        ولمّا كان محمد (س) صديقاً لرئيس المكتب المذكور، ويتردّد عليه، فلربما كان مدسوساَ كذلك.

        وإنَّ تهمة أقلّ من هذه كافية لاعتقاله.

        تم اعتقال محمد (س)، وضغطَ عليه ضباط الحلبوني حتى اضطرّ أن يكتب رسالة إلى أخيه الأكبر عبد الوهاب (س) في بغداد، يقول له: إنه مريض وبحاجة إلى دخول المستشفى لإجراء عملية جراحية، ويرجوه أن يحضُرَ إليه.. ورسم له مخططاًَ يبيّن فيه عنوان بيته.

        تسلَّم الأخ الأكبر الرسالة، فحمل معه مبلغاً جيداً من المال، ومجموعة من الهدايا الثمينة، وجاء إلى دمشق، ووصل إلى بيت أخيه، لكن عناصر المخابرات كانوا قد احتلّوا البيت. فلما طرق الباب، خرجوا إليه واستقبلوه!. وضعوا القيود في يديه، وجرّدوه من المال ومن الهدايا كذلك، وساقوه إلى الحلبوني، ولكن في غرفة غير غرفة أخيه.

        كان من حظّنا أن عبد الوهاب (س) كان في غرفتنا. فهو رجل هادئ النفس، متّزن، رزين، دمث، ذو ثقافة سياسية وعلاقات حزبية بعيدة المدى.

        ذكر لنا أنه كان قد زار سورية سرّاً لحضور مؤتمر لحزب البعث قبل أن يصل هذا الحزب إلى السلطة، وأنَّ هذا المؤتمر كان في مدينة حمص، وكان ممّن تعرّف إليهم في ذلك المؤتمر عبد الله الأحمر!.

        وفي أثناء السجن كتب رسالة، سلّمها إلى إدارة السجن، ووجّهها إلى زميل المؤتمر القديم عبد الله الأحمر. ولكن لا نعلم أنه استفاد من ذلك شيئاً. فهل حجبت الرسالة، ولم تصل إلى غايتها، أم أنها وصلت فتنكّر السيد الأحمر لصاحبه، أم أنه أراد مساعدته فكانت “العين بصيرة واليد قصيرة!”.

        كان عبد الوهاب (س) يحدثنا عن التاريخ السياسي للعراق منذ مطلع القرن العشرين وحتى يومه هذا، فيذكر أسماء الملوك والرؤساء، وأسماء أعضاء مجالس الوزراء ووظائفهم واتجاهاتهم، وتوافقاتهم وخصوماتهم…

        ومرّة أسرّ إليّ بكلمات، لا أدري لماذا خصّني بها دون إخواني الآخرين.

        قال لي: إنَّ النظام الحاكم في بلدكم ينقم عليكم، ويحقد على الإسلام والمسلمين. وإنه لا بد أن تصطدموا به يوماً ما، وقد يكون الصدام عنيفاً، وستحتاجون إلى دعم من الحكومة العراقية… فإذا حصل ذلك فاعلموا أنَّ العراق مستعدّ لتقديم كل عون!.

نقبلُه في “الإخوان” على مضض!

أمضينا خمسة أشهر في فرع مخابرات حلب. كانت الأيام الأولى كثيفة في التحقيق وما يتبعه من تعذيب مادي ومعنوي. ثم خفّت حدّة التحقيق تدريجياً ولكن قلَّ أن يخلو أسبوع من بعض تحقيق، وذلك بغية استكمال الملفّات.

بعد هذا تمّ نقلنا إلى دمشق، حيث فرع التحقيق المركزي، في الحلبوني. وهناك بدأ المحقق يطالع تلك الملفّات، فلا يجد مجالاً للمزيد!. لكن موقعه في “فرع التحقيق المركزي” يقتضي منه القيام بأي تحقيق، ولو كان شكلياً، فراح يضع خطوطاً حمراً تحت بعض الجمل والسطور في ملفّاتنا، ثم يستدعينا واحداً واحداًَ، لمزيد من الاستيضاح والتفصيل.

وجد في أحد الملفّات اسم “الدكتور مصطفى السباعي” حين ذكر الأخ صاحب الملفّ أن الدكتور السباعي رحمه الله، هو الذي أسّس التنظيم في سورية. لكن السيد المحقق في فرع التحقيق المركزي لم يكن يعلم مَنْ صاحب هذا الاسم؟! لقد ظنّه واحداً من الإخوان الناشطين في هذه الأيام، وينبغي إصدارُ أمرٍ باعتقاله، وما درى هذا المحقق الفهمان أنَّ الأستاذ السباعي –رحمه الله- أشهر من نارٍ على علم، فهو مؤسس التنظيم في سورية، وهو قائده، أو مراقبه العام، مدة اثني عشر عاماً، وهو مؤسس كلية الشريعة وعميدها الأول…. وهو في النهاية قد توفي عام 1964، والآن –في نهاية عام 1973- يسأل عنه المحقق.

لقد طلب المحقق من أخينا صاحب الملفّ، عنوان الدكتور السباعي، فأجابه: إنه في مقبرة الدحداح!. وكانت نكتة مُرّةً لا ندري هل أخجلت المحقق، أم أنَّ مستوى ثقافته يتناسق مع هذا الجهل؟!.

*   *   *

واستدعى كذلك واحداً من إخواننا، هو الأخ عبد الله س، وكان هذا الأخ ممن ابتُلي بالتدخين، على خلاف معظم أبناء الصف الإخواني. وكان الإخوة الذين تربطهم صلة تنظيمية بالأخ عبد الله س، من طلاب المرحلة الثانوية، وقد تم الإفراج عنهم مذ كانوا في فرع مخابرات حلب. فانتهزها الأخ عبد الله فرصة كي ينكر علاقته بالتنظيم، فحين دخل على المحقق استأذنه في أن يدخّن، فأذِن له. وفي أثناء الحديث قال للمحقق: أنا لست منظماً، فالإخوان متمسكون بدينهم على نحوٍ عالٍ، أما أنا، وإن كنت مسلماً، وعلى جانب من التدين، لكنني أدخّن وأرتاد دور السينما… ومن كان مثلي لا يقبله الإخوان في صفوفهم!. قال: وما شأنُ الذين اعترفتَ أنهم كانوا مسؤوليك في التنظيم؟! قال: إنها أسماء خيالية ابتكرتُها من مخيلتي كي أتخلّص من التعذيب. ولو أنك بحثت في الدنيا كلها فلن تجد لهذه الأسماء وجوداً في عالم الواقع.

اهتزّت قناعة المحقق فعلاً: لعلَّ هذا الإنسان، كما قال، ليس من الإخوان!.

———–

كان ذلك في الدوام الصباحي. وعاد الأخ عبد الله س إلى الغرفة، وحدَّثَنا بما جرى بينه وبين المحقق.

وفي الدوام المسائي، استدعاني المحقق، فقد جاء دوري، في جولة استكمال التحقيق. وما إن دخلت عليه حتى قدَّم إليَّ سيجارة!. قلت: أنا لا أدخّن، والحمد لله!. قال لي: هل أنت فقط لا تدخّن أم أنكم لا تقبلون المدخِّن في صفوفكم؟!. قلت له: قد نقبله على مضض!. فهزَّ المحقق رأسه، وكأنه يربط بين كلامي وبين ما سمعه من الأخ عبد الله، ثم قال: وإذا كان يرتاد دور السينما هل تقبلونه؟! قلت “أبداًً”! فهزَّ رأسه ثانية.

لقد وصلت الرسالة. ويبدو أنَّ المحقق الهمام رفع توصية إلى إدارة المخابرات العامة بالإفراج عن “عبد الله” لأنه ليس من الإخوان. وفعلاً تم الإفراج عنه على رأس تسعة أشهر من اعتقاله. والحمد لله على سلامته، وقد استفدنا أحياناً من غباء بعض المحققين، ومن محدوديّة ثقافتهم، كما تضرّرنا بذلك في معظم الأحيان.

الذين اغتالوا محمد عمران

كان الثلاثي الأكثر نفوذاً في السلطة، في المرحلة الأولى من تسلّط البعث، أي في عهد أمين الحافظ، هم أعضاء اللجنة العسكرية المكوّنة من صلاح جديد وحافظ أسد ومحمد عمران.

وبترتيب هذه اللجنة كانت تُعَدّ قوائم بأسماء الضباط بالعشرات، أو بالمئات، للتسريح من الجيش، بحجة أنهم متواطئون، أو أنهم من أعداء الثورة! وكانت هذه القوائم تضم الضباط من أهل السنة، وقليلاً من أبناء الطوائف. ودفعةً من التسريحات إثر دفعة، كانت تتغير البنية الطائفية في الجيش، فإبعاد أهل السنة أولاً، ثم إبعاد عناصر من الطوائف الأخرى… والتعويض عن المسرّحين بعناصر جديدة، معظمهم من الطائفة النصيرية… كان يرفع نسبة النصيريين ونفوذهم بشكل ملحوظ (اقرأ الصراع على السلطة في سورية- نيكولاس ڤان دام).

ولكن حافظ أسد، مع هذا كله، أطاح، فيما بعد، برفيقيه. أما اللواء محمد عمران فقد أرسل إليه مجموعة تغتاله، وأما صلاح جديد فقد اعتقله، يوم قام بانقلابه الذي سمّاه حركة تصحيحية في 16 من تشرين ثاني 1970، واعتقل معه القيادة القطرية بكاملها، إلا من تمكن منهم من الفرار, وهؤلاء الذين اعتقلهم بقوا في السجن نحو عشرين سنة أو تزيد، فمنهم من مات داخل السجن، ومنهم من أفرج عنه حين جاءت التقارير أنَّ حالته الصحية متردّية، فأخرجه كي يموت بين أهله بعد أيام أو أسابيع من الإفراج عنه.

المجموعة التي كلّفها أسد باغتيال محمد عمران، أتمت عملها بنجاح! ولكنها انكشفت، وحتى لا يؤدي انكشافها إلى انكشاف من كلَّفها، فقد أمر أسد باعتقال العنصرين اللذين انكشفا، أو حامت حولهما الشبهات! وكانا رجلاً وامرأة! ووضع هذان في زنزانتين في “الحلبوني”. ولدى التحقيق معهما، تبيَّن لهما أنَّ الأوامر قد جاءت إلى المحقق بأن يجعلهما كبش فداء، ويقطع الخيوط عندهما، فلا يثبت شيء، على من كلّفهما. لذا قررت المرأة أن تنتحر، واستخدمت بعض ثيابها، وخنقت نفسها شنقاً!.

ولا أدري ماذا كان مصير زميلها بعدئذ. فقد كان نزلاء الحلبوني يتناقلون قصة المرأة التي انتحرت!

الشمَّري البدوي

من طرائف السجن أن يُسجن معنا في الحلبوني ذلك البدوي.

يقول أبو إبراهيم عن نفسه إنه من البدو الرحَّل، وإنه أمّيّ لا يقرأ ولا يكتب، وإن الحكومة العراقية قد وطّنته في بعض مضارب العشيرة في قرية قرب الحدود السورية، ونظّمته كذلك في حزب البعث!.

وقد افتتح لنفسه دكاناً في القرية، وتعلّم قيادة الدرّاجة الهوائية فصار يتنقل بها بين قريته وقرية قريبة ضمن الحدود السورية ليشتري بعض البضائع يزوّد بها دكّانه لا سيما “الناشد” أي السكاكر السورية المصنوعة في حلب في مصنع ناشد إخوان!.

إنه بذلك يتجاوز الحدود الدولية المقدّسة التي رسمها الاستعمار وفق اتفاقية (سايكس بيكو) وأمثالها!.

وفي أثناء إحدى رحلاته للتسوُّق! ضبطته المخابرات السورية واعتقلته، واعتقلت معه الدراجة كذلك، وصادرت له البضاعة المحمّلة، وتصل حمولتها إلى بضعة كيلوغرامات!.

وتم نقله إلى الحلبوني عبر عدد من المحطّات: الحسكة، دير الزور، حلب، دمشق. فكان يبيت في فرع المخابرات في كل محطة ليلةً أو أكثر، وكانت درّاجته تنتقل معه، وكانت بضاعته تتبخّر وتؤخذ منها ضريبة الجمرك! حتى إذا وصل إلى دمشق استهلك الجمرك ما بقي من البضاعة!.

كان معنا في الغرفة محلَّ إيناسٍ وألفة وتفكُّه. فهو يحمل بين جوانحه ذكاء البدوي، وصفاء الفطرة، وبراءة الضحية لشطري البعث في العراق وسورية.

كان عشاؤنا في إحدى الأمسيات تمراً! نعم: خبز وتمر. وبعد أن تعشينا وحمدنا الله، زادت كمية من التمر. وخطر في بال أحدنا أن يداعب إخوانه فيسألهم عن توقعاتهم لعدد التمرات التي أكلناها. فواحد يقدّر أنها مئة وعشرون، وآخر يقول بل هي أكثر، ربما كانت مئة وخمسين… وكانت الوسيلة التي ستحسم الأمر وتبيّن العدد الصحيح هي أن نَعُدَّ النَّوىٰ!.

وبدأ أحد الإخوة بالعدّ، فقال أبو إبراهيم: ماذا تصنعون؟! قلنا: نعرف عدد التمرات من عدد النوى!. قال: كل التمر الذي أكلتُه أكلتُه بنَواه، وكنت أعجب منكم لماذا تلفظون النوى؟! وقد استغربنا كلامه، وكدنا نكذّبه: كيف يأكل النوى؟! لكنه قطع علينا تشككنا وأخذ مجموعة من التمر فمضغها وابتلعها مع نواها، ثم أخذ مجموعة ثانية كذلك من غير تكلُّفٍ ولا صعوبة!.

—————-

بقي الرجل معنا نحو شهر قبل أن يستدعيه المحقق، وهذه العادة كانت من التقاليد العريقة في الحلبوني. لكنه لما مَثُلَ بين يديه، ورأى هيئته، وسمع كلامه تعجّب كل العجب.

قال المحقق: أنت عميل للمخابرات العراقية، وقد دخلت سورية بتكليفٍ منها!.

أجابه أبو إبراهيم: نحن من البدو الرحّل، وقد وطّننا العراقيون في قرية، وجعلونا حزبيين.

المحقق: وماذا تفعلون بالحزب؟!.

أبو إبراهيم: يأتينا كل أسبوعين رجلٌ أفندي، يقعد على الكرسي، ونقعد نحن على القاع (الأرض) وندنّج (نخفض) رؤوسنا، ويقول –ونردد خلفه- : أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة.

المحقق: هل تعرف معاني هذه الكلمات؟!.

أبو إبراهيم: يبدو أنه كانت هناك امرأة عظيمة، أمّها عربية اسمها خالدة، وكان عندها رسالة تخبّئها في مكانٍ ما!.

ضحك المحقق حتى كاد ينقلب على قفاه. وأمسك بسماعة الهاتف واتّصل برئيس الفرع: يا سيدي سأرسل إليك هذا الرفيق ليشرح لك شعار الحزب!.

ثم قال المحقق: نريد أن تتعاون معنا!.

قال: نعم. لماذا لا أتعاون؟. أنا راعي بِلّ (إبل). فإذا كان عندكم بِل، فأنا مستعدّ لأرعاها لكم، ولا آخذ منكم أجراً كبيراً.

—————-

كان المحقق منطقياً فرفع توصية بالإفراج عنه، وأفرج عنه فعلاً بعد أسبوعين.

وبقيت مشكلة: من يعوِّضه عن السكاكر التي جمركَتْها له فروع المخابرات؟! ومن يصلح له الدراجة التي أصابتها الأعطال لدى نقلها معه من فرع، إلى فرع، إلى فرع؟! ومن يعطيه أجور المواصلات ليعود أدراجه من حلب إلى الحسكة؟! وهل سيسمح له بالعودة إلى العراق ويدوس بأقدامه تلك الحدود التي رسمها الاستعمار؟!.

قال: أبوس “كذا”

في أوائل شهر حزيران من عام 1973م، وكنّا معتقلين في فرع مخابرات حلب، وكانت غرفتنا مقابل غرفة التحقيق والتعذيب، وكان الوقت بعد منتصف الليل، سمعنا جَلَبَةً تقترن عادة مع إحضار سجين جديد.

أُدخل السجين إلى غرفة التحقيق، وبدأت الأسئلة تنهال عليه، وتنهال الخيزرانات والشتائم.

كان السجين، أو الموقوف، واحداً من مجموعة من الشباب المائع الذي ربّاه الحزب القائد.. وكانت هذه المجموعة التي يبلغ عددها ثلاثة أو أكثر، يخرج أفرادها من إحدى دور السينما في الحفلة الليلية، حيث رأوا رجلاً ومعه امرأة متبرّجة، ولم يعلموا أهي زوجته أم “صاحبته”.. وراحوا يغازلونها غَزَلاً غليظاً، ويوجِّهون إليها كلمات فاحشة.

ولم يكن الرجل سوى عنصر من المخابرات العامة، برتبة مساعد، ولم تكن المرأة سوى زوجته!

وماذا يستطيع المساعد أن يفعل مع هؤلاء الأشقياء.. إنه يلبس لباساً مدنياً، وهم لا يعرفون أنه مساعد في المخابرات.

وفجأة جاء الحل. لقد رأى المساعد سيارة تحمل دورية مخابرات. وهم تابعون للفرع نفسه الذي ينتمي إليه. فأشار إليهم باتجاه إلقاء القبض على العصابة، فسارعوا للاستجابة، لكن الشباب هربوا، ولم تتمكن الدورية من القبض إلا على واحد منهم.

جيء بهذا الشقي إلى الفرع، والتفّ حوله عدد من عناصر الفرع ليحققوا معه. لكننا -نحن في الغرفة المقابلة نتابع التحقيق- لمسنا شيئاً خاصاً، وهو أن “العناصر” الذين

يحققون مع الشاب الشقي، يقصدون الانتقام من المساعد أكثر مما يقصدون التعذيب.

لقد كان التعذيب وسيلة فقط إلى فضح المساعد، فقد كان هذا المساعد مكروهاً من جميع عناصر الفرع أو من معظمهم.

المحقق: قل يا حقير ماذا قلت لامرأة المساعد؟!

الشاب: والله يا سيدي لم أقل لها شيئاً.

المحقق يغمز للجلادين لينهالوا عليه ضرباً، ويسأله: قل: ماذا قلت لها قبل أن نهلكك من التعذيب.

الشاب: يا سيدي، واللهِ ما قلت لها شيئاً.

المحقق: ما زلتَ تكذب؟! قل: ماذا قلتَ لها.

الشاب: يا سيدي قلت لها: أبوس “كذا”.

المحقق: يا حقير، أهكذا تقول لامرأة المساعد؟!.

الشاب: والله يا سيدي ما كنت أعرف أنها زوجة مساعد، بل ما كنت أعرف أنها زوجة الرجل الذي تمشي معه.

المحقق: إذاً أنت تتهمها بشرفها، وتحسبها امرأة ساقطة.

الشاب: يا سيدي وما ذنبي؟! لقد كان شكلها ولباسها يوحي بذلك.

المحقق: حسناً، سوف ترى ماذا نفعل بك أيها الساقط.

*    *    *

ويذهب المحقق والجلادون.

*    *    *

وفي الصباح تأتي مجموعة أخرى من العناصر:

قل لنا “وْلاك” ماذا قلت لامرأة المساعد.

– والله ما قلتُ لها شيئاً؟.

– لقد اعترفت سابقاً، ولا فائدة من الإنكار.

– والله ما قلتُ شيئاً.

 – إذاً نعيد عليك التعذيب حتى تعترف من جديد.

– يا سيدي لقد قلت لها: أبوس “كذا”.

–  يا رذيل، أهكذا تقول لامرأة المساعد.

*    *    *

وتخرج المجموعة وأفرادها يتضاحكون…

ثم تأتي مجموعة أخرى، وتتكرر الأسطوانة: ماذا قلتَ؟ لم أقل شيئاً، اعترفْ، قلت لها أبوس …

وتأتي مجموعة ثالثة ورابعة حتى يمرّ جميع أعضاء الفرع من محققين وسجانين وحرس ليسمعوا الكلمة البذيئة وليخرجوا ضاحكين شامتين بالمساعد.

وفي المساء يفرج عن المعتقَل العظيم، إذ إنَّ جريمته لا تشكل خطراً على القائد أو على الحزب القائد.

السجن والرواية

نعيم شريف
تطمح الروايةُ دوماً لتدوين الألم ولعلها تجهدُ لنفيه أيضاً، من طريق هذا التدوين، وفي سعيها ذاك تجوسُ أراضي وعرةً مثقلةً بنصيبها من بئر القسوة تلك. فالسجن، هذا الابتكار البشري بامتياز، هو إقصاء للحرية، نفي للديمومة الفاعلة، تقزيم للكينونة الإنسانية، وتكريس لـ (اللاّ إنساني) بالمطلق. يبدو لي مفيداً هنا القول بأن الرواية بوصفها نوعاً سردياً متقدماً، نأت بنفسها عن محايثة الألم فقط إلى التفوق عليه وتخليده في الوقت ذاته. ليس من دأب الرواية في تصديها للـ (ثيمات) المعقدة والملتبسة أن تكتفي بالرصد والتسجيل فحسب، بل عليها أن تتجاوز المعطى إلى المبتكر. سأوردُ هذه الفقرة للكاتب الروسي الكبير (تولستوي) من رسالته إلى صديقه ستراخوف: (بعد أن قرأت (ذكريات من منزل الأموات) أيقنت أن ليس في الأدب الجديد كله كتاب يفوقه، حتى ولا كتب (بوشكين).. إذا رأيت (دستويفسكي) فقل له أني أحبَّه)(1). سوف لن يجد القارئ صعوبة في فهم أن المقصود من كلام تولستوي هو رواية دستويفسكي عن فترة سجنه التي امتدت عشر سنين في مدينة (أومسك) في سيبريا. في كتابه (ذكريات من منزل الأموات) يوردُ (الكاتب السجين) تفاصيل مروّعةً عن العذاب الذي يلقاهُ السجناء، وعن ألوان الاضطهاد التي يتعرضون لها على يد سجّانيهم. فالسجين دستويفسكي، ينسحب ويُخلي المكان للروائي دستويفسكي، وهو برصده حيثيات السجن، يحاول أن يجد طريقاً سالكاً لفهم عذابات هؤلاء الأشقياء والاقتراب منهم، الكاتب هنا يسبر أغوار الشخصيات ويلجُ إلى داخلها، مستعيناً بقدرتهِ على (التماهي) مع الأمر، وتأمل ما يراهُ. عندما صدرت هذه الرواية عام 1862م، أحدثت ضجة في كل البلاد الروسية، وحين قرأها القيصر أجهش بالبكاء مرات كثيرة، وعلى أثر صدروها وبالتحديد بعد مضي عام على ظهور الرواية، صدر قانونٌ بإلغاء العقاب الجسدي إلغاءً تاماً. فالمعاناة التي تعرَّض لها الكاتب (السجين) والعذاب الذي مزَّق روحه طيلة أعوام سجنه، أسعفتها الموهبة الفذّة، فتحصَّل لنا من عذاب السجن المَهولِ كتابٌ خلَّدَ الألم ونفاه في الوقت عينه. فلنقرأ هذه الفقرة من رسالة لأخيه ميشيل، يكتب دستويفسكي: (لن أخبرك بما طرأ على نفسي ومعتقداتي، على فكري وقلبي، في غضون هذه السنوات الأربع، فالحديثُ يطولُ، لكن التأمل المستمر الذي كنت أهرب إليه من واقعي الأليم لم يكن عديم الجدوى، تحدوني الآن آمالٌ وأمانٍ، لم أكن أتبينها في ما مضى) (2). تنصهرُ معاناة الكاتب وآلامه مع سعيه الحثيث للخلاص منها، وليس في نفسه إلا (الفن – الرواية) منفذاً لينقذَ روحهُ، بعد أن أنهك السجن جسدهُ. في المقطع الذي أوردناهُ، تتوضح بجلاء معالم التجربة العميقة، وآثارها على معتقدات الكاتب وعلى أفكاره وما اعتور نفسه من تغير. لعلي ألقي بعضاً من الضوء على قيمة كتاب (ذكريات من منزل الأموات)، إذا ذكرت بعضاً مما جعل دستويفسكي يدخل السجن أسوة بالمجرمين وعتاة الأشقياء على الرغم من كونه سجيناً سياسياً، الأمر الذي شكل له صدمة أول الأمر، لكنه ما لبث أن تكيّف للحياة معهم!!. كان دستويفسكي واحداً من المواظبين على حضور ما سمي في حينه بـ(حلقة بترافشسكي)، وكانت هذه الحلقة تحاول أن تقوّض النظام الإمبراطوري وتطيح بالقيصر، لكن أعضاء الحلقة قُبضَ عليهم وحكموا بالإعدام وكان دستويفسكي من جملتهم. لنستمع إليه يقول في رسالته لأخيه ميشيل: (أرسل إليَّ القرآن، وكانْت (نقد العقل الخالص) وهيجل خاصةً تاريخ الفلسفة، إن مستقبلي متوقف على هذه الكتب). ثم يلح في الطلب في رسالة في 27 آذار 1854 ويكتب: (ثم أرسل لي القرآن وقاموساً للغة الألمانية… ). ذلك أنه بحاجة أساسية لهذا الزاد الفكري، كيما يؤسس له قاعدة مفاهيمية صلبة، تعينهُ على فهم وتقبل وتفسير ما يحدث أمامهُ، ذلك أن الرواية تغتني وتتألق حين يكون الزاد الفكري لكاتبها موازياً للجهد المبذول في كتابتها. تصور الرواية عالم السجن، تصويراً لا يغفل أدق التفاصيل، مظهرةً مقدار البشاعة التي يحيا بها هؤلاء السجناء. تحرصُ عين الكاتب على التمعن في ثنايا المأساة بدأب وصبر طويلين، فالكاتب ينقل على لسان بطله (جورنيتشيكوف) – وهو هنا الاسم الروائي لدستويفسكي – هذه الفقرة البالغة الدلالة: (رأيت رجالاً مشدودين إلى الجدران بسلاسل.. إن طول السلسلة متران، وعلى مقربة منهم مضاجع يرقدون فوقها… إنهم يُشدون إلى هذه السلاسل لجريمة ارتكبوها بعد ترحيلهم إلى سيبيريا، وهم يلبثون على هذه الحال من التنكيل بالأغلال خمس سنين أو عشر (ورغم ما يبدو عليه من رضى) فإن الرغبة في إنهاء مدة التنكيل تحرقهُ حرقاً وتأكل نفسه أكلاً… ). كانت رواية (ذكريات من منزل الأموات) مثالاً على عظمة الفن الروائي وخلوده. شكَّلت رواية الكاتب المصري صنع الله إبراهيم (تلك الرائحة) منعطفاً مهماً في أدب الكتابة عن السجون، فهذه الرواية المهمة تنحو منحىً مختلفاً عن كل ما كتب في هذا المجال. يستخدم صنع الله إبراهيم هنا – تقنية (إرنست همنغواي) – أقصدُ بها تقنية (جبل الجليد) التي تعني أن ما يظهر من جبل الجليد هو عشره، أما التسعة أعشار الباقية فإنها تختفي تحت الماء، في إشارة إلى طريقة جديدة في السرد القصصي، تبتعد عن الجمل الكثيرة المثقلة بالترهل العاطفي، والمجازات أو الإحالات والتشبيهات البلاغية، هذا الأسلوب يطمحُ إلى رشاقة في الأسلوب، تمنحُ السردَ قوةً ذاتيةً وشفافيةً عالية تنأى به عن الاستطالات الزائدة وغير الضرورية. فرواية (تلك الرائحة) تصور حالة سجين أُطلقُ سراحهُ حديثاً، ويجد نفسه في غربة روحية ثقيلة الوطء على نفسه، فلا أحد في استقباله، ويرفض أخوه تسلمه، وفي خضم هذه الفوضى من مشاعر السجين، تسيطرُ عليه حالة من اللامبالاة الغريبة التي تهيمن عليه بشكل يكاد أن يكون كلياً. فهو يسجل أدق مشاعره (بحيادية) شديدة، ويراقب ذاته والآخرين بموضوعية لا تتأتى إلا لمن أيقن يقيناً لا يرقى إليه الشك، بأن روحه أمست خراباً حقيقياً، وبأن لا سبيل إلى بعث الحياة في لحظات نأت وأخذها بعيداً تيار الزمن المنصرم. لكنه في رصده وتسجيله للوقائع اليومية لحياته، تداهمهُ ذكرياته السوداء المريرة في السجن، فتهيمن عليه حالة من السوداوية، وهو لا يتورع عن ذكر تفاصيل (خاصة جداً) وبلغة لا تحفل بالحياء أو التورية، بل إنه يُسمي الأشياء بأسمائها الأكثر بدائية والتي لا تتساوق مطلقاً مع لغة المجتمع، تعرض (تلك الرائحة) حالة السجون المصرية زمن الحكم الناصري وما فيها من تنكيل واضطهاد على يد أجهزة جمال عبد الناصر الأمنية. فهناك عالم مكتظٌ بشروره، سادرٌ في فساده وتحللّه، وصنع الله إبراهيم، يشرَّح بمبضع الجراح بنية التعفن، ويفضح الممارسات التي تحدث في السجن بذكاء وجرأة قلَّ نظيرهما. فعمليات التعذيب الوحشية والمستمرة التي تنال المناضلين، تظهر إلى أي مدى وصلت آلة القمع البوليسي في امتهانها للإنسان، لمجرد أنه يحمل رؤية مخالفة لها ولا تتفق مع نهجها الحديدي في الحكم. ثم تعرج الرواية، بأسلوب (الرؤية من الخلف) إلى رصد مجموعة من الأحداث الموضوعية التي اختيرت بمهارة وقطعت في نقل محايد للواقع. إن الأسلوب يقوم هنا على الوصف الخالي من التعليقات الذي أسمته كلودا ادموناني (عين الكاميرا): رؤية لا يتدخل فيها المؤلف حيث لا يقال فيها إلا ما يمكن أن يلحظه مصوَّر سينمائي موضوعي أو تسجله مسجلة صوت. ذلك أن هناك عمليات قتل بشع لسجناء سياسيين، وحالات اغتصاب لسجناء صغار في السن من قبل بعض المجرمين من السجناء الذين ترعاهم إدارة السجن وتتواطأ معهم. كانت رواية (تلك الرائحة) فضحاً للمسكوت عنه والمستتر من بشاعات وجرائم خلف غطاء سميك من التظليلات لمجتمع دُجّن حتى صار لا يحفل بما يلاقيه على أيدي جلاديه. هذه الرواية كانت الرائدة في (أدب القبح) ذلك النوع من الكتابة التي تشير إلى مثالب وعيوب الحياة في ظل نظام دكتاتوري شمولي. كثيرة هي الروايات التي تناولت (السجن) كثيمة رئيسية، ترصد حالات القهر ومحاولات مسخ الإنسان وقتله، ولعل الروايات التي تناولت السجن عكست جوانب مُغفلة ومهمشة، ومشت في طرق صعبة لتخليد الألم الإنساني، عَلَّ الفن يكون شكلاً من أشكال الخلاص.
المصادر:
1- أدب السجون: نزيه أبو نضال – دار الحداثة. 2- دوستويفسكي: مقالات ومحاضرات، أندريه جيه ترجمة إلياس حنا إلياس. 3- قراءات في الأدب والنقد: د. شجاع العاني، منشورات اتحاد الكتاب العرب. 4- تلك الرائحة رواية: صنع الله إبراهيم.

المصدر مجلة النبأ

أدب السجون في سورية.. أدب انعتاق

دار بخاطري تساؤل كبير عن أول سجن في التاريخ، وعن معرفة الفطرة الإنسانية بالسجون
لو أردنا الاجابة لنظرنا إلى تاريخنا الممتد وصولا إلى علاقتنا الفطرية الأولى بالخالق.
لو عرف الله السجن وشرعه لكان قد سجن الشيطان وما أطلقه ابدا… لو كان قد عرفه الدين والإنسان الصافي لكان رسولنا المصطفى صلى الله عليه وسلم قد سجن أسرى معاركه مع قريش، وما أطلق سراحهم فور تعليمهم أبناء المسلمين القراءة والكتابة..
في مسيرة التاريخ .. نجد أن الحكام هم أول من ابتكروا فكرة السجون لتقييد من يهدد عرشهم بالخطر.. ولعل العلماء والشعراء والكتاب هم ضالة السجان الأكثر خطورة..
يلجأ الكاتب غالبا إلى التخييل والرمزية في نقد حكام عصره.. وتغليف الحقيقة بزي تخييلي..للنجاة من السجن أو الملاحقة.. فترى الكاتب الذي يرصد تجربة سجن في رواية يتملص من الإشارة إلى حقيقتها.. بقوله “هذه رواية خيالية وليست سيرة ذاتية” ومع ذلك لا ينجو من العقاب وضرب الحكام على يديه حتى تتقفّع..لو أجاب هؤلاء الكتاب نعم إنها حقيقة وسيرة ذاتية أكنا احتجنا ربيعاً عربياً وثورات بعد عشرات الاعوام من الذل والإرهاق والتقييد؟!..لطالما كانت الكلمة أشد وطأة من الحسام..هذا الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم يصطحب “حسان بن ثابت” في معاركه من دون أن يتقن حسان لغة السلاح قائلا: “اهجُ قريشًا، فإنه أشد عليهم من رشْقِ النبل”
كان “ابن المقفع” ينتقد الحكام على ألسنة الحيوانات وحواراتها في كليلة ودمنة، وكذا ابن حزم لجأ إلى حوارات الحمائم، ولما انتقد المتنبي كافوراً علناً لم ينجُ من سطوته.. والقائمة تطول من شهداء الكلمة ومعتقليها في تراثنا الثقافي، تعددت الحكومات والنتيجة ذاتها، السجن والقتل، وفي الأحوال كلها لم يكن الشاعر ينشد أبياته عن السجن إلا إن كان حبيسه حقيقة..
أما أدب السجون المعاصر فهو على نوعين الأول رواده قلائل كتبوا فيه من دون أن يرتادوه، بمثل “نبيل سليمان” في كتابيه “السجن”، و”سمر الليالي”، و”خالد خليفة” في روايته “مديح الكراهية”، والنوع الثاني هم الكتاب السجناء، وهم أصدق فنيا بما يكتبوه، وإن كانت التقنيات الفنية ترقى على يد الفريق الأول أكثر، لأن السجناء من الأدباء معنيون بضرورة تسجيل الفكرة، وتفاصيل المعيش داخل السجن، محمومون بنداءت الذاكرة المحشوة بالتفاصيل والأسماء، ينزفون أرواحهم على الورق في الحروف كلها، وذاك ما يتخفف منه الكتاب غير السجناء..
قد يصح أن نزعم أن أدب السجن الحديث في سورية بدأ مطلع السبعينيات على يد “إبراهيم صموئيل” بمجموعاته القصصية الثلاث، “رائحة الخطو الثقيل”، “النحنحات” و”الوعر الأزرق”. كان صموئيل يؤرخ فيها لتجربة حقيقية وعميقة، لكن بلغة رفيعة وبحساسية خلاّقة .
انقطعت الكتابة عن أدب السجون في سوريا في ثمانينيات القرن الماضي، وهي مرحلة من أشد مراحل الحياة السورية تخبطا ووحشية، لتطالعنا حسيبة عبد الرحمن في عام 1998 بمؤلفها “الشرنقة” وهو يوميات سجينة تصور السجن بروح أنثوية خالصة، وهذه اليوميات أولى ما كتب بجرأة عن السجن على الرغم من الطوق الأمني المحيط بالكاتبة.. لكنها لم ترق إلى مستوى رواية بمثل ما اصطلحت الكاتبة على عملها.. ويكفيها من الأهمية منجزها الأدبي باكورة تأليف المرأة في أدب السجن بهذه الدقة والجرأة.
ومن ثم أصدر “مالك داغستاني” روايته “دوار الحرية”، ببناء فني متماسك، عني فيه برصد تجربة السجن بصورة غير مباشرة.. وإن لم يحظ بانتشار واحتفاء لائقين…
أما الكاتبة “هبة دباغ” فقد افتتحت تاريخاً آخر حين أصدرت كتابها “خمس دقائق فحسب: تسع سنوات في سجون سوريا” في لندن. ويبدو أنها كتبته قبل ذلك بأكثر من عشر سنين. كانت كتابات السجون حتى يومنا هذا في مجملها بأقلام معتقلين يساريين، وكتاب “هبة الدباغ” هو الأول تصدره معتقلة “إخوانية” عن تجربتها، وقد لجأت فيه إلى مقاربة الأسطورة إلى حد كادت أن تلامسها، بأن تفتق عقلها المأسور عن نمو لسان إحدى المعتقلات بعد قطعه أثناء التعذيب، و التصاق جلبابها بجسدها، كي لا يتاح للجلاد اغتصابها. لقد اجتهدت الكاتبة في تقديم وثيقة صادمة عن السجون السورية لم يتم فضحها من قبل، بلسان امرأة، على الرغم من الطوق الأمنى المرهق الذي يطال الكتاب في هذا المضمار..
وجد الكاتب “مصطفى خليفة” الحل بإصدار كتابه عن السجن،”القوقعة – يوميات متلصص”، بالفرنسية في باريس، ولعل أول ما يتبادر إلى ذهن القارئ أنه جريء للغاية، وتكمن جرأته في تخلص الكاتب من محاولات الكتّاب السابقين بالعربية، سواء بالأسماء المستعارة أو بتحوير الأماكن وما إلى ذلك. لكن الرواية، التي تفضح الواقع السياسي السوري في السجون، لم تطبع بالعربية في بداية صدورها، إلا منذ وقت قريب.
لم يمر زمن طويل على ذلك حتى نشر لؤي حسين كتابه “الفقد” سنة 2006، معنونا إياه بـ “حكايات متخيلة لسجين حقيقي”، وذلك كمحاولة ربما للهرب من سطوة الرواية، إلا أن الكتاب كان مضمخاً بلغة متماسكة، وبتفاصيل كثيرة، كانت موحية ومؤثرة.
خلال هذه السنة أيضاً أصدرت مي الحافظ كتابها “عينك على السفينة”، تضمن كثيراً من المشاهد المؤثرة والتفاصيل المثيرة، وقد اجتهدت في تحليل شخصيات المعتقلات السياسيات، اللواتي يشكلن عصب الرواية، وطابعها الانفعالي المباشر.
ارتقت هذه اللغة في رواية “يسمعون حسيسها ” 2012 للدكتور أيمن العتوم الروائي الأردني الذي استطاع ملامسة الجرح النازف بأناة..
كم يحتاج القارئ إلى لمس تجربة السجن ليحيط بذاك النزف وذاك البركان الثائر في كل حرف ، ليحيط علما بأن ذاك الظلام القابع هناك جهنم، نعيش إلى جوارها في جنة من دون أن نسمع صرخات السجناء فيها، ومن دون أن نسمع حسيس هذه النار. سماح حكواتي

المصدر زمان الوصل

مذكرات سجنية – لانهم قالوا لا الحلقة السادسة

الأمير فايز حرفوش

دخل علينا طويلَ القامة، شاحب الوجه، مهدّل الحاجبين، نحيل الجسم، طويل شعر الرأس واللحية على نحوٍ عفوي أو وحشيّ، كأن الحلاق لم يقترب منه منذ سنة، طويل الأظفار، هيئته تذكّر بالرسوم التي يَتخيّل بها الفنانون رجال الكهوف في العصور الأولى!. قسمات وجهه توحي أنه على رأس الأربعين، وضعف بنيته يوحي أنه على رأس الثمانين!.

يتكلم بتلعثم وتردُّد، وهو يتلفت يمنة ويسرة، كأنه يتوجّس من عدوٍّ غادر.

لقبُ الأمير في بداية اسمه، لقبٌ رسمي يتحلى به آل حرفوش اللبنانيون. فهو مواطن من لبنان الشقيق! ووالده –كما ذكر لنا- هو السيد فوزي حرفوش الموظف في مجلس النواب اللبناني آنذاك.

كنا في الحلبوني في خريف 1974، يوم دخل علينا الرجل. وقد حاولنا تطمينه، وإدخال الأمن إلى نفسه. ورويداً رويداً بدأ الرجل يستأنس ويندمج فيمن حوله، ويستعيد نضارة الوجه، والحيوية والروح الاجتماعية والمرح، وبدأت تظهر مواهبه. فهو يملك مهارات يدوية فائقة. وعلى سبيل المثال كان يصنع من لبّ الصمّون عجينة، ويلوّن نصفها برماد الورق المحروق، ويصنع مجموعتي أحجار شطرنج على نحوٍ متقن… يكمل ذلك كله في أقل من نصف ساعة!. كما يصنع من بعض فضلات غرفة السجن، من علب الورق المقوّى، ومن أغلفة علب السجائر.. مجسّم طائرة من الطراز الذي نريد: فانتوم أو ميغ 17 أو ميغ21 .

ويتقن صناعة الأحبار السريّة، ويحفظ عدداً كبيراً من قصص السجون والجواسيس..

وصحيحٌ أننا لم نعرف السبب الحقيقي لاعتقاله، لكنّ أجهزة المخابرات السورية عوّدتنا على وجود طيفٍ واسعٍ لديها من الأسباب الموجبة للاعتقال، وإذا كانت هناك أسباب وجيهة في أحيان قليلة، فإن وراء الاعتقالات في معظم الحالات سببين كبيرين:

الأول الإساءة لوجه سورية أمام العالم، فكم من سائحٍ بريطاني أو إسباني أو أسترالي أو ألماني… دخل البلاد بشكلٍ نظامي، ثم تحرَّشت به إحدى دوريات المخابرات في بعض شوارع دمشق، فاعتقلته احترازياً، وأطلعته على فنون التعذيب في فروع المخابرات، وأكرمته بالضيافة أياماً أو أسابيع على الطريقة البعثية، ثم أطلقت سراحه ليكون مندوباً إعلامياً يقوم بالدعاية المشرّفة لدولة المؤسسات (الأمنيّة)!.

الثاني: تحقير الإنسان الذي كرّمه الله تعالى، وهذا لا يقتصر على الإنسان السوري، بل يشمل دول الجوار، والدول القريبة والبعيدة في القارّات الخمس!.

بعد هذا لا يهمّ أن تكون التهمة الموجّهة للسيد حرفوش هي تهمة العمالة لإسرائيل، أو تهمة النيل من بطل الصمود والتصدي، أو تهمة الاعتراض على النفوذ السرّي لأجهزة الأمن السورية في لبنان (كان هذا قبل دخول القوات السورية العلني عام 1976). فأجهزة الأمن جاهزة لاصطناع التهم وإلصاقها بمن تريد، وقد أحرزت تقدماً في صنع التهمة المناسبة للرجل المناسب!.

بعد هذا أقول: أيّاً كانت التهمة الموجّهة، ومهما كانت درجة ثبوتها، فلن نجد مسّوغاً لما لقيه السيد حرفوش والظروف التي صاحبت ذلك:

1- فقد تم خطفه من الشارع في بيروت، واقتياده إلى سجنٍ سرّي للمخابرات السورية داخل لبنان، وإبقاؤه هناك نحو سنتين. وفي هذا ممارسة لأسلوب العصابات الإجرامية (التي تخطف من دون سند قانوني)، وفيه تجاوز لسيادة الدولة اللبنانية، إذ يحدث هذا على يد أجهزة غير لبنانية، ووجود سجون سرّية على أرضها تابعة لدولة أخرى (بعلمها، أو بغير علمها!).

2- وقد كان السجن في غاية الوحشية، بعيداً عن كل المعايير الإنسانية. ذكر لنا السيد حرفوش أن السجن في قبو عميق، ينزل إليه بنحو خمسين درجة، فلا يمكن تسرُّب أشعة الشمس إليه، ولا وصول الهواء النظيف. ويؤكد كلامَه هذا، الشحوبُ على وجهه، والنُحول في جسمه، والضعف الشديد في بنيته، يوم أن جاءنا.

3- وكانت معاملته كذلك في غاية السوء، يدل على ذلك هيئته المزرية (يوم انتقاله من ذلك السجن إلى الحلبوني في دمشق) وشعوره بالوحشة والخوف… فعلى الرغم من سوء المعاملة التي كنا نقاسيها في الحلبوني، شعرنا أننا في سجن (خمس نجوم) بالقياس إلى ما كان عليه هذا الرجل. ولا يزيد على سجنه سوءاً إلا ما لقيه المعتقلون في سورية في سجن تدمر بدءاً من عام 1980 فما بعد.

لقد استطاع الحزب القائد، وأجهزة أمنه المتطورة أن تختلق كل حين من أساليب القمع والسحل وتحطيم الشخصية… ما يستصغر المرء معه كل ما سبقها من أساليب!.

السجين سعيد (ك)

        كان من السجناء الذين عاشوا معنا، أو عشنا معهم، في قبو الحلبوني. شاب دمشقي اسمه سعيد (ك).

        إنه شاب مرح اجتماعي حلو الحديث.. طويل القامة، أبيض البشرة.

        استفدنا منه في التعرف على طرائق أجهزة المخابرات!

        من ذلك أن الذين تستعين بهم تلك الأجهزة على ثلاثة أصناف:

        صنف موظف في تلك الأجهزة. وهذا الصنف منه مَن يحمل رتبة عسكرية، ويكون في أصله ضابطاً في الجيش أو صف ضابط، ومنه المدني، ويعمل في الغالب في مهنة محقق أو كاتب!.

        وصنف عميل للمخابرات، يكون الواحد من هؤلاء صاحب بقالة أو مقهى، أو عاملاً في فندق، أو طالباً في الجامعة… ويرتبط مع أحد العناصر من الصنف الأول، ويتلقى منه التكليفات، ويتقاضى منه أجراً على “الإخباريات”، وقد يقِّدم إخباريات كاذبة، إما انتقاماً ممن يختلف معه في شأن من شؤون الحياة، أو ممن ينافسه في مهنته، وإما طلباً للاسترزاق فحسب!… وقد تعتقله أجهزة الأمن التي يعمل معها، لأنه ورّطها نتيجة تقاريره الكاذبة، ثم تفرج عنه بعد أن تكون أدّبته!.

        وهذان الصنفان معروفان لدى معظم الناس، بمعنى أنَّ وجود هذين الصنفين معروف، لكن الصنف الثالث هو الذي لا يعرفه معظم الناس:

        الصنف الثالث: وهو مجموعة أفراد يتعاقد أحدهم مع فرعٍ من فروع المخابرات مدة سنة أو اثنتين، ويكلَّف خلال هذه المدة بمهمات في مدينته أو قريته أو في مكانٍ آخر… أو خارج القطر. فإذا انقضت مدة العقد، فإما أن تجدد لمدة أخرى برضا الفريقين، وإما ألا تُجدد، وقد يجري التعاقد بين الفرد نفسه وبين فرعٍ أمنيٍّ أخر.

        ولقد كان سعيد (ك) من هذا الصنف، كما ذكر لنا، فعمل مدةً مع الشعبة السياسية، ومرةً أخرى مع مخابرات القوى الجوية… ولعله كذلك عمل مع أجهزة أمن أخرى.

        وكان يبدو من شخصيته أنَّ التعليم الذي تلقّاه متواضع جداً، فهو في الغالب لا يحمل شهادة الدراسة الثانوية، ولا أدري إذا كان قد اجتاز المرحلة الإعدادية. لكن ثقافته الاجتماعية جيدة، وعنده كذلك ثقافة دينية مقبولة، فهو من أبناء هذا الشعب: ينشأ في صغره في بيئةٍ متدينة، قد تكون واعية متعلمة، أو ساذجة قليلة العلم والتعليم! وفي مرحلة الشباب يتصيده بعض الفاسدين، لا سيما إذا أخفق في دراسته وترك المدرسة، ويجرّونه إما إلى لعب القمار وشرب الخمر… وإما إلى العمل في المؤسسات الحزبية أو الأمنية. ومثل هؤلاء يتردد في سلوكهم أثر التربية الدينية التي نشؤوا عليها في صغرهم، وآثار الفساد الذي لحقهم في سن المراهقة فما بعدها. وكان سعيد (ك) من هؤلاء.

        وقد حدثنا عن بعض مشاهداته لألوان التعذيب في سجن الآمرية الجوية. ففضلاً عن الأنواع المعروفة من الضرب بالكابلات وبالخيزرانة والتعذيب بالكهرباء، هناك التعذيب بالضوء الباهر!! كيف؟.

        قال: يُلقى السجين على ظهره في وسط غرفة التعذيب الكبيرة، وتربط يده اليمنى من الرسغ بسلسلة معدنية إلى حلقة في أرض الغرفة، في الزاوية الأقرب إلى هذه اليد، وتربط اليد اليسرى كذلك بسلسلة إلى الزاوية القريبة منها، وتربط كذلك كل من القدمين إلى الزاويتين المقابلتين، وبذلك يصبح الجسد ملتصقاً بالأرض، والأطراف الأربعة مشدودة إلى الزوايا الأربع!. وهذا بذاته تعذيب، ولكن التعذيب المقصود هو فوق ما ذكر، إذ تفتح عيناه ويوضع بين كل جفنين عود ثقاب حتى تبقى العينان مفتوحتين لا يمكن إغلاقهما، ويطلب من السجين أن “يعترف”! فإذا لم يعترف بما يرضي المحقق، أشعل المحقق ضوءاً باهراً (بروجكتور) وقال للسجين: ستبقى هكذا إلى الغد!. وغادر الغرفة!.

        يقول سعيد (ك): مهما كانت قدرة السجين على التحمل فإنه بعد دقيقتين، في أعلى تقدير، يبدأ بالصراخ والاستغاثة. ويكون المحقق واقفاً في غرفة مجاورة يسمع الصراخ، فهو يعلم أن السجين لن يتحمل هذا الضوء الباهر، وسيصرخ. وعندئذ يأتي إليه ويقول: اعترفْ!. فيقول السجين: أرجوك أطفئ الضوء، وأعترفُ لك بما تريد!، فيصرُّ المحقق على أن يتم الاعتراف قبل إطفاء الضوء!.

        كما حدثنا أن السلطات الأمنية قلقت من اتساع شعبية الشيخ حسن حبنكة (رحمه الله)، وازدياد عدد تلامذته، ونشوء حلقات العلم المختلفة في جماعته، فأرادت أن تحوك مؤامرة تورّط فيها بعض هؤلاء التلامذة بعملٍ (غير قانوني)، وتتخذ الذريعة لضرب جماعة الشيخ. وكانت المؤامرة أن كلفتْ بعض العناصر، ومنهم سعيد (ك) فبدؤوا يحضُرون دروس الشيخ ويُبدون تجاوباً كبيراً، ويتظاهرون بالتدين، ويشاركون في حلقات العلم… ثم راحوا يَدْعون إلى إيجاد تنظيم سرّي يحرّض على معارضة الدولة… ولقيتْ دعوتهم قبولاً لدى بعض تلامذة الشيخ. وبعد أسابيع على سير المؤامرة قامت عناصر المخابرات بمداهمة بعض هذه المجموعات، واعتقلت أفرادها، ومارست عليهم التعذيب للتعرف على أفرادٍ آخرين، ولاكتشاف حقيقة توجهاتهم…

        وكان سعيد نفسه بين المعتقلين، وتلقى تعذيباً كالآخرين. وربما لم يتم إعلام عناصر الفرع الذي يتم فيه التحقيق، بحقيقة وضع سعيد، وذلك حتى يأخذ التحقيق مجراه.

        وبعد مضي الأيام الأولى للاعتقال، وإقفال التحقيق، تم فرز المعتقلين، حسب درجة خطورة كل منهم، وجاءت التوصية أن يصنّف سعيد في المجموعة ذات التهمة الخفيفة، التي سيتم الإفراج عن أصحابها. وبذلك أفرج عنه، ودفعت له الشعبة السياسية تعويضاً مالياً مجزياً، لقاء التعذيب والسجن اللذين تعرض لهما.

        ما أخبث إبليس وجنوده!.

نقولا حنّا

        الناس يعرفون هذا الاسم على أنَّ صاحبه مذيع في إذاعة صوت أمريكا. ولا شك أنَّ أهله وأصدقاءه يعرفون عنه جوانب أخرى، لا يطّلع عليها المستمع له من الإذاعة.

        وقد كان لي مع الأستاذ نقولا معرفة في سجن الحلبوني، ذلك الصرح الذي يمثّل “الكَرَم البعثي، والسماحة الأسدية”!!.

        الأستاذ نقولا فلسطيني الأصل، أقام في سورية، وانتسب إلى حزب البعث، و”ترقّى” فيه إلى أن أصبح رئيس فرع الحزب في الحسكة.

        وعندما قام حافظ أسد بانقلابه الذي أطاح برفاق دربه، نشأت معارضةٌ له في صفوف الحزب، وكان من الذين وقفوا معارضين: الأستاذ نقولا حنّا. ولكن ما هي إلا أيام قلائل حتى استتبّ الأمر لحافظ أسد، وإذا معظم المعارضين له في الحزب يتراجعون عن معارضتهم. إنهم مبدئيون! ومبدؤهم هو المحافظة على المواقع والمكاسب والامتيازات! وما دام هذا المبدأ يتحقق بالوقوف إلى جانب المتسلّط فليكن، فأصحاب المبادئ يدورون مع مبادئهم حيث دارت.

        لكن اللئيم لم يغفر لهؤلاء أنهم عارضُوا حركته “التصحيحية” بضعة أيام. فبدأ يترصَّدُهم، ويستفيد من كُتّاب التقارير، ثم يتصيَّدهم، ويودِعهم في سجونه. وكان الأستاذ نقولا من نزلاء الحلبوني العتيد.

        شخصية الأستاذ نقولا غنيّة بالصفات التي تميِّزُه.

        لقد كان يحفظ القرآن الكريم غيباً، ويعمل دائماً على مراجعة محفوظاته وتثبيتها!. ويقول: إنه في صغره تربّى في بعض الكتاتيب التي يعلِّم فيها الشيوخُ تلامذتهم تلاوة القرآن. ولعلَّ والده قد أدخله هذه الكتاتيب، لتعاطفه مع الإسلام، أو لثقته بأنَّ جوَّ هذه الكتاتيب هو الذي يضمن للطفل النظافة الأخلاقية، أو لعلمه بأنَّ القرآن –في أقلِّ الاعتبارات- هو كتاب العربية الأول.

        وقد بقي الأستاذ نقولا –كما ذكرنا- على صلة ودِّية عميقة بكتاب الله تعالى، وكان إلى جانب ذلك يحتفظ بنسخة من ترجمة معاني القرآن الكريم ليقرأ فيها كذلك.

        وهو –بالمناسبة- يحمل شهادة بكالوريوس في الأدب العربي، وشهادة بكالوريوس أخرى في اللغة الإنكليزية.

        وثقافته العامة واسعة، واهتماماته متعددة، ومواهبه كذلك فائقة.

        وحديثه عذب، فإذا كان في مجلس فهو الذي يتصدّر الحديث في ذلك المجلس، والآخرون يستمعون إليه أكثر مما يتدخلون، ويكون معظم تدخلهم باتجاه أن يستزيدوه.

        وهو شاعر مُجيد، ولقصائده أثر كبير في حياته!.

        ففي مطلع أيام الوحدة بين مصر وسورية، أَعلنت الجمهورية العربية المتحدة الناشئة، عن مسابقة لأجمل قصيدة عن الوحدة، فكانت قصيدة نقولا هي الفائزة الأولى، فاستدعي إلى القاهرة لتسلُّمِ الجائزة، وقابل هناك الرئيس جمال عبد الناصر الذي أُعجب به، ودعاه للإقامة هناك، وأصبح مذيعاً في إذاعة صوت العرب، في زاوية يومية اسمها صوت فلسطين.

        وفي أحد الأيام قدّم تعليقاً إذاعياً تهجّم فيه على أحد الزعماء العرب، كما هو شأن إذاعة صوت العرب، فاستدعي إلى المخابرات، حيث قيل له: ماذا جَنَيْتَ على نفسك؟! إنَّ إذاعتنا، وإن كانت تهاجم ذلك الزعيم، وغيره كذلك، دائماً، فقد قرَّرت التوقف عن مهاجمته، لأنَّ زيارة مرتقبة سيقوم بها إلى مصر!.

        قال: وما يدريني بذلك؟! ألم يكن عليكم أن تخبروني مسبقاً؟!.

        المهم أنهم عزلوه من عمله في الإذاعة، ووضعوه تحت الإقامة الجبرية. وبعد حين توسط له بعض أصحابه عند أنور السادات الذي كان يومئذ رئيساً لمنظمة المؤتمر الإسلامي في القاهرة!.

        وتمكَّن السادات من رفع الحظر عن حركته، والسماح له بالسفر. وكان يحتاج إلى ثمن بطاقة طائرة ليسافر إلى سورية، فأمر السادات بصرف ثمن البطاقة من حساب منظمة المؤتمر الإسلامي! فقال له المحاسب: يا سيدي كيف نصرف من حسابنا، ونسجل في دفاترنا عَطاءً له وهو ليس بمسلم؟! قال السادات: اصرفْ، واكتب: صُرِفت “للحجّي نقولا!”.

        وتمرُّ الأيام ويصبح نقولا رئيساً لفرع حزب البعث في الحسكة، كما ذكرنا، ويقيم الفرع احتفالاً بمناسبة المولد النبوي، فيختار الشاعر نقولا أن يلقي قصيدة من شعره في هذه المناسبة.

        لقد أسمعَنا أبيات هذه القصيدة التي تبلغ نحو سبعين بيتاً.

        كانت الأبيات الخمسون الأولى إسلامية صرفة، يمتدح الشاعر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يمتدحه أي شاعر مسلم. فلما وصل إلى هذا الحد من القصيدة توقف قليلاً وقال: هنا يبدأ النفاق. وأكمل الأبيات الأخرى، وإذا هي تماماً كما يقول المنافقون من مشايخ السلطة: “رسول الله عظيم، ودينه عظيم، وأخلاقه عظيمة، وإذا أردتم أن تروا ترجمة عملية لهذه العظمة، وأردتم أن تروها متمثّلة في إنسان، فهذا الإنسان هو حافظ أسد”.

*     *     *

        إن تراجع الأستاذ نقولا عن معارضة “الحركة التصحيحية”، ومسايرته للوضع الجديد لم يشفع له، فقد بقي أسد ينتظر الفرصة المناسبة للانتقام منه فكان أن زجَّه في الحلبوني مدة سنتين. وكان من نصيبي أن أتعرَّف عليه هناك.

“الكرُّوم” و”الحسُّون”

حين نُقلنا إلى سجن حلب المركزي، أصبح بإمكاننا لقاء سجناء من نوعٍ آخر، منهم تجار المخدرات، ومنهم السارقون والقَتَلة والهاربون من خدمة العَلَم.. ومنهم من تمتزج تهمته بين “السياسي والمدني”.

وكان من هذا النوع الأخير شاب اسمه أحمد كرّوم. في أواسط العشرينيات من عمره. متوسط الطول، نحيف، تشع عيناه ذكاءً، وتمتلئ جوارحه حيوية، يتحلَّى بعدد من المواهب، مَرِحٌ، ودودٌ، حلو الحديث… ومن كان بهذه الصفات فهو يمتلك جاذبية وقدرة على إنشاء علاقات اجتماعية واسعة، وقد اصطاده البعثيون وجعلوه عضواً ناشطاً في “شبيبة الثورة”، وأصبح يعمل في تدريب الفرق المسرحية الشبيبية، وما يتصل بهذا الاختصاص.

وفي عمله ذاك كوَّن صداقات حميمة مع عددٍ كبيرٍ من “الشبيبة” من الجنسين، وصل بعضها إلى مستوى الفضائح، ومع رجالات الحزب والأمن.

وحين جرى حفل افتتاح “سد الفرات” في صيف 1973 قام بتدريب بعض الفتيات الشبيبيات، لتقديم عروض وأنشطة، من غناء وتمثيل، في ذلك الحفل الساهر!.

وأرسل مجموعة الفتيات برفقة عناصر من سرايا الدفاع شرقاً إلى “الطبقة” لإجراء تدريبات على المسرح نفسه الذي ستقام عليه العروض، قبل يوم الحفل الرسمي.

 أما كرّوم نفسه فقد ذهب بمهمة حزبية غرباً إلى اللاذقية، فإذا قضى مهمته توجّه كذلك إلى “الطبقة” ليشارك في تنظيم الحفل.

يقول كروم: كانت المفاجأة أنني نزلت في منطقة “القسطل”، بين حلب واللاذقية، لأتناول طعام الغداء هناك في بعض الاستراحات، فوجدت –يا للفضيحة- مجموعة الفتيات ذاتها التي من المفروض أنها سافرت نحو الشرق إلى الطبقة، برفقة عناصر سرايا الدفاع!!.

*   *   *

وحدَّثني السيد أحمد كرُّوم أنَّ والده رجل متديّن، وأنه من أتباع الشيخ أديب حسُّون. قلت له: إذاً أنت تعرف الشيخ أحمد بن أديب حسون! قال: نعم، وهو صديقٌ لي. قلت: ما حقيقةُ ما يشاعُ عنه بأنه مرتبط بأجهزة المخابرات؟!.. قال: “هذا الكلام غير صحيح، وقد تدخلت بنفسي قبل ثلاث سنوات من أجل الإفراج عنه، عندما اعتقلته الشعبة السياسية، بعد أن تكلّم على المنبر بكلامٍ يسيء إلى الدولة.”

كلام السيد كرُّوم لم أقتنع به، ولكنني قلت في نفسي: إنه يتكلم بما يعرف. ولعل هناك جوانب لا يدري بها.

ومضى على كلامه نحو سنة كاملة، ثم جاءني إلى غرفتي (في سجن حلب المركزي) وقال لي: لقد سألتني عن الشيخ أحمد حسون، وأجبتُكَ بكذا وكذا! قلت: نعم. قال: كان جوابي يمثِّل ما كنت أعرفُه عنه فعلاً، أما الآن فقد جاءتني معلومة مناقضة تماماً!. قلت: وما ذاك؟. قال: زارني اليوم أحد الأصدقاء الحزبيين، وحدثني أن أحمد حسُّون مرتبط بالشعبة السياسية، وذو موقع مهم فيها، وأن علاقته بها قد ابتدأت منذ أن اعتُقل عندهم قبل سنوات، فقد تمكنّوا، بقليلٍ من الضغط، وفَيضٍ من الإغراءات، أن يشتروه!. لقد أصبح عميلاً لهم، بل عضواً فيهم، يسمحون له بهامش واسع من القول والحركة، بمقابل دورٍ هدّام يقوم به، من “إخباريات” ومن بثِّ إشاعات، ومن تفريقٍ في صفوف أبناء الصحوة الإسلامية، ومن تشويهٍ لبعض المفاهيم الإسلامية أو الشخصيات.

قلت: الحمد لله. لقد كان للرأي السائد عنه في المجتمع، سند متين!.

بقايا الفطرة

في الحديث القدسي الصحيح: “إني خلقتُ عبادي حنفاء كلَّهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتْهم عن دينهم..” رواه مسلم وغيره.

لا بد أن يظهر أثر الفطرة التي فطر الله الناس عليها، الفطرة التي تتوجه إلى عبادة الله تعالى وحده، وإلى فعل الخير ونبذ الشر. وقد ظهر أثر هذه الفطرة في نفوس بعض أهل الجاهلية الأولى، فمنهم من دخل في الإسلام بعدئذ، ومنهم من بقي على كفره!.

ووجود أثر الفطرة لا يعني بالضرورة أن الإنسان خيّر، إنما يعني أن الإنسان لا يمكن أن يتمحّص للشر. وقد تجد الشرير السيء الظالم المعتدي المتغطرس… يرقّ أحياناً، ويشفّ أحياناً، ويصنع الخير أحياناً. فنُقِرُّ بأن ما ظهر منه خير، ونبقى على وصفه بأنه شرّير، حيث يكون الشرُّ هو السمة الغالبة فيه، ويكون الخيرُ كالنقاط البيض المبعثرة في ثوبٍ أسود.

وقد مرّ في الصفحات السابقة لقطاتٌ من الخير ضمن ركام الشرّ في نفوس الأشرار، نشير إلى بعضها ونذكر مزيداً:

فالجلاد أبو طلال يصلي أحياناً ويصوم أحياناً مع كل سوئه!.

 والسجّان “بدري” كان يرى قطعة من الخبز مرميّة على الأرض فتثور ثائرته، ويعنّف المعتقلين الذي لم ينتبهوا إلى قطعة الخبز هذه: “ألا تخافون الله؟! تُلقون النعمة على الأرض؟!” ولا يرى في جَلْدْ الأبرياء، وفي سرقة طعامهم، وفي القسوة عليهم… ما ينافي خوف الله!.

و”عدنان الدباغ” مدير المخابرات العامة، آنذاك يدير أعمال الظلم والطغيان والقهر والإذلال لعباد الله… ثم يرقّ قلبه في موقف خاص: لقد جاءت والدتي من حلب إلى دمشق لتزورني بعد سنة أو أكثر لم تعلم فيها شيئاً عن أخباري، لأن الداخل إلى سجون المخابرات –كما يقولون – مفقود، والخارج مولود.

جاءت وهي تحمل حقيبتين من الألبسة والأطعمة، وزن كل منهما نحو عشرة كيلو غرامات، وهي في سنّ يتجاوز الستين. وليس من شأنها أن تسافر مثل هذه الأسفار، وهي المرة الأولى التي تصل فيها إلى دمشق، وقد بذلت جهداً كبيراً في الوصول إلى “الحلبوني” لكنّ الصدمة التي لقيتها هي أنَّ عناصر الفرع لم يسمحوا لها بزيارتي، وحين كرّرت توسّلاتها، وأصرّت على الدخول: قالوا لها: هناك حلٌّ واحد هو أن تأتي بإذن من مدير المخابرات العامة!. ودَلّوها على مقرّه، فذهبت إليه، وقالت له: أيها الأفندي، تراني أمامك امرأة مسنّة، وقد جئت لزيارة ولدي فمنعوني من زيارته، وقد دفعت خمسين ليرة أجرة السفر، وعانيت الصعوبات حتى وصلت إلى الشام!.

        فرقَّ لها قلب الطاغية، وأخرج من دُرج مكتبه خمسين ليرة، ودفعها إليها، واتصل بإدارة فرع الحلبوني ليأذنوا لها بزيارتي!.

—————

        والرائد بخيتان، رئيس فرع مخابرات حلب، أبدى سروراً بالإفراج عني وعانقني وهنأني!، وهو نفسه الذي يدير شبكة الظلم!.

—————

        والحاج أحمد عاصي، هكذا كان يلقَّب، هو عنصر مخابرات في فرع حلب، برتبة مساعد، كان إذا مارس التحقيق مع أحد الموقوفين يحلو له أن يستعمل الكهرباء في التعذيب، وهو من أشد أنواع التعذيب، لكنه كان يحافظ على صلاته، كما يبدو، ويصوم رمضان، ولعله فعلاً قد حجّ البيت الحرام!، وفيه جوانب أخرى من الخير.

—————

        وجاسم الطيط، الجلاد الشهير الذي ذُقتُ وإخواني على يديه الويلات، هو نفسه أصبح عام 1980 رئيساً لدورية تقف على حاجز عند مدخل حلب الغربي، وكنت أمرّ يومياً ذهاباً وإياباً عند غُدوّي إلى عملي وعند رواحي، فكانت الدوريات تقف على حواجز عدّة، فتستوقف السيارات، وتطلب هويّات الركاب، تماماً كما تفعل دوريات الجيش الإسرائيلي في فلسطين. وكنّا نتضايق من ذلك بلا شك. وفي إحدى المرات استوقفتنا الدورية التي يرأسها جاسم، وما إن رآني حتى تذكّرني وحيّاني وابتسم، وأذِن للسيارة بالعبور من غير تفتيش!!.

—————

        وعبد القادر حيزة المحقق في فرع مخابرات حلب، ودرجة ذكائه وأخلاقه مناسبة جداً لصفات جلاد، لا صفات محقق!. مع ذلك فإنه حين جاء على رأس دورية لاعتقالي من الرقة، حيث كنت حينذاك رئيساً لورشة صوامع الحبوب هناك، وكانت معي زوجتي وطفلتي ذات الأشهر الثلاثة، أوصلنا أولاً إلى مركز انطلاق سيارات “التاكسي” المسافرة إلى حلب، وحجز في السيارة مقعدين، على حسابي، لكنه أوصى السائق بلهجة تهديد واضحة، أن يوصل زوجتي إلى بيت أهلها، وإذا مسّها سوء فسيتحمّل المسؤولية. وتأكيداً لتهديده سجّل رقم لوحة السيارة على ورقة عنده!.

        وبعد فهذه نماذج لبقايا خير في نفوس الأشرار، تضؤُل وتشحّ حتى تكون كشعرة بيضاء، في جلد ثور أسود، أو تزيد قليلاً لتكون كشعرات!.

        نسأل الله الهداية لعباده، فاهتداء هؤلاء أحب إلينا من نزول عذاب الله فيهم. ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون﴾.

كتاب ذكريات معتقل من غوانتانامو

المؤلف: المعتقل حسين عبدالقادر. هذه النسخة ليست المنتشرة في النت. فهي نسخة جديدة. قالوا له: من فضلك خمس دقائق فصارت الدقائق الخمس ستة وعشرين شهرا

مساء يوم الأحد 25/5/2002 وبينما كان يتناول العشاء مع أسرته ، اذ بجرس الباب يدق ليدخل ضابط شرطة يقوم باعتقاله ، وعندما استفسر عن الذنب الذي اقترفه ، أجابه : خمس دقائق وتعود !! .. نُقل الرجل لباجرام ثم لمعتقل جوانتانامو بكوبا ليقضي هناك ستة وعشرين شهرا ، وفي النهاية سلموه شهادة تفيد بأنه لا يمثل خطرا على القوات الأمريكية أو مصالحها في أفغانستان ، ثم أطلقوا سراحه في نفس المكان الذي اعتقل فيه.

المؤلف من مواليد الضفة الغربية سنة 1953 م ، درس المرحلتين الابتدائية والاعدادية بقرية سيلة الحارثية ، قضاء جينين ، وأكمل دراسته الثانوية في مدرسة المدينة – جنين سنة 1973 م ، ثم حصل على منحة دراسية في المملكة العربية السعودية ، وهناك أكمل دراسة البكالوريوس والماجستير في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. سافر لباكستان سنة 1985 م ، وبقي هناك حتى عام 2002م وقت اعتقاله ، حيث كان يعمل مدرسا للطلاب الأفغان والعرب وغيرهم في الجامعات والمدارس والكليات.

للتحميل

الملحمة النونية للقرضاوي كاملة (ثلاثمائة وأربعة عشر بيتًا)

أُلفتْ داخل السجن الحربي في القاهرة عام 1955م

1- ثارَ القريضُ بخاطري فدعوني = أفضي لكمْ بفجائعي وشجوني
2- فالشعرُ دمعي حينَ يعصرني الأسى = والشعرُ عودي يومَ عزفِ لحوني
3- كم قال صحبي: أين غرُّ قصائدٍ = تشجي القلوبَ بلحنها المحزونِ؟
4- وتخلّد الذكرى الأليمةَ للورَى = تُتلى على الأجيالِ بعدَ قرونِ
5- ما حيلتي والشعرُ فيضُ خواطرٍ = ما دمتُ أبغيهِ ولا يبغيني
6- واليوم عاودني الملاكُ فهزني = طربًا إلى الإنشادِ والتلحينِ
7- أُلهمتُها عصماءَ تنبُع مِن دَمِي = ويَمُدُّها قلبي وماءُ عيوني
8- نونية والنونُ تحلو في فمي = أبدًا فكدتُ يُقال لي ذو النونِ
9- صَوَّرتُ فيها ما استطعتُ بريشتي = وتركتُ للأيامِ ما يعييني
10- ما هِمْتُ فيها بالخيالِ فإنَّ لي = بغرائبِ الأحداثِ ما يُغنيني
11- أحداثِ عهدِ عصابةٍ حكموا بني = مصرٍ بلا خُلق ولا قانونِ
12- أنستْ مظالِمُهُمْ مظالمَ مَن خلَوْا = حتّى ترحمَنا على نيرونِ
13- حَسِبوا الزمانَ أصمَّ أعمى عنهمُ = قد نوَّموه بخُطبة وطنينِ
14- ويراعةُ التاريخِ تَسْخَرُ مِنهمو = وتقومُ بالتسجيلِ والتدوينِ
15- وكفى بربكَ للخليقةِ مُحْصِيًا = في لوحِهِ وكتابِهِ المكنونِ
16- يا سائلي عن قصتي اسمعْ إنها = قَصصٌ مِن الأهوالِ ذاتُ شجونِ
17- أَمْسِكْ بِقَلْبِكَ أنْ يطيرَ مُفَزَّعًا = وتولَّ عن دُنياكَ حتى حينِ
18- فالهولُ عاتٍ والحقائقُ مُرةٌ = تسمو على التصويرِ والتبيينِ
19- والخطبُ ليس بخطبِ مصرٍ وحدَها = بلْ خَطْبُ هذا المشرقِ المسكينِ
20- في ليلةٍ ليلاءَ مِن نوفمبرٍ = فُزِّعْتُ مِن نومي لصوتِ رنينِ
21- فإذا كلابُ الصيدِ تَهجمُ بغتةً = وتحوطُني عن يسرةٍ ويمينِ
22- فَتَخَطَّفوني عن ذَوِيَّ وأقبلوا = فرحًا بصيدٍ للطُّغاةِ سمينِ
23- وعُزِلتُ عن بصرِ الحياةِ وسمعِها = وقُذفتُ في قفصِ العذابِ الهونِ
24- في ساحة “الحربي” حَسْبُكَ باسمِه = مِن باعثٍ للرعبِ قدْ طرحوني
25- ما كدتُ أدخلُ بابَه حتى رأتْ = عيناي ما لم تحتسبْه ظنوني
26- في كلِّ شبرٍ للعذابِ مناظرٌ = يَندى لها -واللهِ- كلُّ جَبينِ
27- فترى العساكرَ والكلابَ مُعَدَّةً = للنهشِ طوعَ القائدِ المفتونِ
28- هذي تَعَضُّ بِنابِها وزميلُها = يَعْدُو عليكَ بِسَوْطِه المسنونِ
29- ومضتْ عليَّ دقائقٌ وكأنَّها = مما لقيتُ بِهِنَّ بِضْعُ سِنينِ
30- يا ليت شعري ما دهانِ؟! وما جرى؟ = لا زلتُ حيًّا أم لقيتُ منونِ؟
31- عجبًا! أسجن ذاك أم هو غابةٌ = برزت كواسرُها جياعِ بطون؟
32- أأرى بناءً أم أرى شقَّيْ رحًى = جبارةٍ للمؤمنين طحونِ؟
33- واهًا! أفي حُلْمٍ أنا أم يقْظةٍ = أم تلك دارُ خيالة وفتونِ؟!
34- لا.. لا أشك.. هي الحقيقة حية = أأشُكُّ في ذاتي وعينِ يقيني؟!
35- هذي مقدمة الكتاب فكيف ما = تحوي الفصولُ السودُ مِن مضمونِ؟!
36- هذا هو الحربي معقل ثورةٍ = تدعو إلى التحرير والتكوينِ
37- فيه زبانيةٌ أُعِدُّوا لِلْأَذَى = وتَخصصوا في فنِّه الملعونِ
38- متبلّدون عقولُهم بِأَكُفِّهِمْ = وَأَكُفُّهُم للشرِ ذاتُ حنينِ
39- لا فرقَ بينهمو وبين سِياطِهم = كلٌّ أداةٌ في يدي مأفونِ
40- يتلقفون القادمين كأنهم = عثروا على كَنزٍ لديك ثمينِ
41- بالرِّجل بالكرباج باليد بالعصا = وبكل أسلوب خسيس دُونِ
42- لا يقدرون مفكرًا ولو انه = في عقل سقراط وأفلاطونِ
43- لا يعبأون بصالح ولو انه = في زهد عيسى أو تقى هارونِ
44- لا يرحمون الشيخ وهو محطم = والظهر منه تراه كالعرجونِ
45- لا يشفقون على المريض وطالما = زادوا أذاه بقسوة وجنونِ
46- كم عالم ذي هيبة وعمامةٍ = وطئوا عمامته بكل مجونِ
47- لو لم تكن بيضاء ما عبثوا بها = لكنها هانت هوان الدينِ
48- وكبيرُ قومٍ زيَّنتْه لحيةٌ = أغرتهمو بالسب والتلعينِ
49- قالوا له انتفها بكل وقاحة = لم يعبأوا بسنينه الستينِ
50- فإذا تقاعس أو أبى يا ويله = مما يلاقي من أذى وفتونِ
51- أترى أولئك ينتمون لآدمٍ = أم هم ملاعين بنو ملعونِ؟
52- تالله أين الآدمية منهمو = من مثل محمود ومن ياسينِ
53- من جودة أو من دياب ومصطفى = وحمادة وعطية وأمينِ
54- لا تحسبوهم مسلمين من اسمهم = لا دين فيهم غير سب الدينِ
55- لا دين يردع لا ضمير محاسِب = لا خوف شعب لا حمى قانونِ
56- من ظن قانونًا هناك فإنما = قانوننا هو حمزة البسيوني
57- جلاد ثورتهم وسوط عذابهم = سموه زورًا قائدًا لسجونِ
58- وجه عبوس قمطرير حاقد = مستكبر القسمات والعرنينِ
59= في خده شجٌّ ترى مِن خلفه = نفسًا مُعقدةً وقلبَ لعينِ
60- متعطش للسوء، في الدم والغ = في الشر منقوع به معجونِ
61- هذا هو الحربي معقل ثورة = تدعو إلى التطوير والتحسينِ!
62- هو صورة صغرى استُعيرتْ مِن لظى = فى ضيقها وعذابها الملعونِ
63- هو مصنع للهول كم أهدى لنا = صورًا تذكرنا بيوم الدين!
64- هو فتنة في الدين لولا نفحة = من فيض إيمان وبرد يقينِ
65- قل للعواذل: إن رميتم مصرنا = بتخلف التصنيع والتعدين
66- مصر الحديثة قد علت وتقدمت = في صنعة التعذيب والتقرينِ!
67- وتفننتْ -كي لا يمل معذب- = في العرض والإخراج والتلوينِ!
68- أسمعتَ بالإنسان يُنفخ بطنه = حتى يرى في هيئة البالونِ؟!
69- أسمعتَ بالإنسان يُضغط رأسُه = بالطوق حتى ينتهي لجنونِ؟!
70- أسمعتَ بالإنسان يُشعل جسمه = نارًا وقد صبغوه بالفزلينِ؟!
71- أسمعتَ ما يَلقى البريء ويصطلي = حتى يقول أنا المسيء خذوني؟!
72- أسمعتَ بالآهاتِ تخترق الدُّجى = رباه عدلك إنهم قتلوني؟!
73- إن كنتَ لم تسمع فَسَلْ عما جرى = مثلي.. ولا ينبيك مثل سجينِ
74- واسأل ثرى الحربي أو جدرانه = كم من كسير فيه أو مطعونِ
75- وسلِ السياطَ السود كم شربتْ دمًا = حتى غدت حمرًا بلا تلوينِ
76- وسلِ العروسة قُبَّحَتْ من عاهر = كم من جريح عندها وطعينِ
77- كم فتية زُفوا إليها عنوة = سقطوا من التعذيب والتوهينِ
78- واسألْ زنازينَ الجليدِ تُجبْك عن = فن العذاب وصنعة التلقينِ
79- بالنار أو بالزمهرير..فتلك في = حين ، وهذا الزمهرير بحينِ
80- يُلقى الفتى فيه ليالي عاريًا = أو شبه عارٍ في شتا كانونِ
81- وهناك يُملى الاعتراف كما اشتهوا = أَوْ لا..فويل مخالفٍ وحرونِ
82- وسل المقطم وهو أعدل شاهد = كم من شهيد في التلال دفينِ
83- قتلته طُغمةُ مصرَ أبشع قِتلةٍ = لا بالرصاص ولا القنا المسنونِ
84- بل علقوه كالذبيحة هُيئتْ = للقطع والتمزيق بالسكينِ
85- وتهجدوا فيه ليالي كلُّها = جلدٌ، وهم في الجلد أهل فنونِ!
86- فإذا السياط عجزن عن إنطاقه = فالكي بالنيران خير ضمينِ!
87- ومضت ليالي والعذاب مسجر = لفتى بأيدي المجرمين رهينِ
88- لم يعبأوا بجراحه وصديدها = لم يسمعوا لتأوه وأنينِ
89- قالوا: اعترف أو مت فأنت مخير = فأبى الفتى إلا اختيار منونِ
90- وجرى الدم الدفاق يسطر في الثرى = يا إخوتي استُشهدتُ فاحتسبوني
91- لا تحزنوا إني لربي ذاهب = أحيا حياة الحر لا المسجونِ
92- وامضوا على درب الهدى لا تيأسوا = فاليأس أصل الضعف والتوهينِ
93- قولوا لأمي:لا تنوحي واصبري = أنا عند خالقيَ الذي يهديني
94- أنا إن حُرمت وداعكم لجنازتي = فملائك الرحمن لم يَدَعوني
95- إن لم يصلِّ عليَّ في الأرض امرؤٌ = حسبي صلاتهمو بعليينِ
96- أنا في جوار المصطفى وصحابه = أحظى بأجر ليس بالممنونِ
97- أنا في رُبا الفردوس أقفز شاديًا = جذلان كالعصفور بين غصونِ
98- ولدانها في خدمتي، وثمارها = في قبضتي، ونعيمها يدعوني
99- وإذا حُرمت العُرسَ في الدنيا فلي = ما شئت فيها من حسان عِينِ
100- أماه حَسْبُكِ أن أموت معذبًا = في الله لا في شهوة ومجونِ
101- ما خُنتُ ديني أو حماي ولم أكن = يومًا على حرماته بظنينِ
102- فليسألوا عني القناة ويسألوا = عني اليهود فطالما خبروني
103- سحقًا لجزارين كم ذبحوا فتى= مستهترين كأنه ابن لبونِ!
104- فإذا قضى ذهبوا بجثته إلى = تل المقطم وهو غير بطينِ
105- لفوه في ثوب الدجى وتسللوا = سارين بين مَغاورٍ وحزونِ
106- واروه ثم محوا معالم رَمْسِه = فغدا كسرٍّ في الثرى مكنونِ
107- أخفوه عن عين الأنام وما دروا = أن الإله يحوطهم بعيونِ
108- والليل يشهد والكواكب والثرى = وكفى بهم شهداء يوم الدينِ
109- قالوا: محاكمة، فقلت: رواية = أعطوا لمخرجها وسام فنونِ!
110- هي شر مهزلة ومأساة معًا = قد أضحكتني مثل ما تبكيني!
111- أَوَعَتْ سجلات القضاء قضية = كقضية الإخوان؟أين؟ أروني
112- الخَصم فيها مدَّعٍ ومحققٌ = وهو الذي يقضي بلا قانونِ!
113- إلا هواه وما يدور برأسه = من خلط سكير ورأي أفينِ
114- أرأيت محكمة ترأَّسَها امرؤٌ= يدعوه مَن عرفوه بالمجنونِ؟!
115- أرأيتَ أحرارًا رَمَوْا بهمو لدى = قاضٍ عديمٌ دينُه مأبونِ؟!
116- أرأيتَ إنسانًا يُدان لقوله: = الله ربي، والحنيفة ديني!
117- أو قال: يا قومِ ارجعوا لكتابكم = طوقِ النجاة لكم بكل يقينِ؟!
118- يا سوء حظ فتى رأوا بسجله = شرف الجهاد لعصبة الصهيونِ!
119- أو كان يومًا في كتيبة فتية = شهرت بنادقها على السكسونِ!
120- أو كان حافظ آل عمران فقد = ظفروا ببرهان عليه مبينِ!
121- هذي الجرائم عند محكمة الردى = هي غرة تزهو بأي جبينِ
122- والويل لامرئ استباح لنفسه = إظهار تعذيب ودفع ظنونِ
123- سيعود للحربي يأخذ حظه = وجزاءه الأوفى من البسيوني
124- أنا إن نسيت فلست أنسى ليلة = في ساحة الحربي ذات شجونِ
125- عُدنا المساءَ مِن المحاكمة التي = كانت فصول فكاهة ومجونِ
126- ما كاد يعرونا الكَرَى حتى دعا = داعي الردى ..وكفاك صوت أمينِ
127- فتجمع الإخوان ممن حوكموا = ذا اليوم من طنطا إلى بسيونِ
128- أنما الأولى سيحاكمون فأُحضروا= لِيَرَوا يقينًا ليس بالمظنونِ
129- وإذا بقائدنا المظفر حمزة! = في عسكر شاكي السلاح حصينِ
130- حشد الجنود وصفَّها بمهارة = وكأنه عمرو بأجنادينِ!
131- وأحاطنا ببنادق ومدافع = فغرت لنا فاها كَفِي التنينِ!
132-طابور “تكدير” ثقيل مرهق = في وقت أحلام وآن سكونِ
133- نعدو كما تعدو الظباء يسوقنا = لهب السياط شكت من التسخينِ
134- ومضت علينا ساعتان وكلنا = عرق تصبب مثل فيض عيونِ
135- من خر إغماءً يفق عجلًا على = ضربات صوت للعذاب مهينِ
136- ومن ارتمى في الأرض من شيخوخة = أو علة.. داسوه دوس الطينِ
137- لم يكفِ حمزة كل ما نُؤْنا به = من فرط إعياء ومن توهينِ
138- فأتى يوزع بالمفرَّق دفعه= بالسوط من عشرين للخمسينِ
139-كل ينال نصيبه بنزاهة = في العد والإتقان والتحسينِ!
140- وإذا نسيت فلست أنسى خطبة = ما زال صوت خطيبها يشجيني
141- إذ قال حمزة -وهو منتفخ- فلم = يترك لفرعون ولا قارونِ:
142- أين الألى اصطنعوا البطولة وادّعوا = أني أعذبهم هنا بسجوني؟!
143- أظننتمو هذا يخفف عنكمو = كلا، فأمركم انتهى، وسلوني
144- أم تحسبون كلام ألف منكمو = عنكم وعن تعذيبكم يثنيني؟!
145- إني هنا القانون، أعلى سلطة = من ذا يحاسب سلطة القانون؟!
146- متفرد في الحكم دون معقب = من ذا يخالفني ومن يعصيني؟!
147- فإذا أردتُ وهبتُكم حرية = أو شئتُ ذقتم من عذابي الهونِ
148- من منكمو سامحتُه فبرحمتي = وإذا أبيتُ فذاك طوع يميني
149- ومن ابتغى موتًا فها عندي له = موت بلا غسل ولا تكفينِ!
150- يا فارسَ الوادي وقائدَ سجنِه = أبنو الكنانة أم بنو صهيون؟!
151- هلا ذهبتَ إلى الحدودِ حميتَها = وأريتَنا أفكار نابليون؟!
152- اذهبْ لغزة يا هُمام وأنسنا = بجهادك الدامي صلاح الدين!
153- أفعندنا كبش النِّطاح.. ونعجة = في الحرب جماءٌ بغير قرون؟!
154- أعرفت ما قاسيت في زنزانة = كانت هي القبر الذي يئويني؟!
155- لا بل ظلمتُ القبر، فهو لذي التُّقى = روض، وتلك جحيم أهل الدينِ!
156- هي في الشتاء وبرده ثلاجة = هي في هجير الصيف مثل أتونِ
157- نُلقى ثمانيةً بها أو سبعة = متداخلين كعلبة السردينِ
158- هي منتدانا وهي غرفة نومنا = وهي البوفيه وحجرة الصالونِ
159- هي مسجد لصلاتنا ودعائنا = هي ساحة للعب والتمرينِ
160- وهي الكنيف وللضرورة حكمها = ما الذنب إلا ذنب من سجنوني
161- هي كل ما لي في الحياة فلم يعد = في الكون ما أرجوه أو يرجوني
162- الأرض كل الأرض عندي أرضها = أما السماء فسقفها يعلوني
163- فيها انقطعتُ عن الوجود فلم أعد = أعنيه في شيء ولا يعنيني
164-لا أعرف الأنباء عن دنيا الورى = إلا من الأحلام لو تأتيني!
165- يبكي الأقارب غيبة حسبوا لها = شهرين فامتدت إلى عشرينِ
166- ولَكَمْ وَفَيٌّ زار أهلي سائلًا = عني برفق علهم عرفوني!
167- والأهل لا يدرون: هل أنا ميت = فقدوه أم حي فيرتقبوني!
168- كم شاعر فقد الرجاء بعودتي= فأعد فيّ قصيدة التأبينِ
169- هذا نصيبي يا أخي من ثورة = قد كنت أحسبها أتتْ تحميني
170- حظي بها زنزانة صخرية = سوداء مثل قلوب من أسروني
171- كم من ليالٍ بتُّها أشكو الطوى = والبرد، لكن أين من يُشكيني؟
172- هم كدروني لا طعام أذوقه = لاشيء من برد الشتاء يقيني
173- فإذا انقضى التكدير جاء طعامهم = دكنًا كأفكار الألى اعتقلوني
174- ضرب من التعذيب إلا أنه =لابد منه لسد جوع بطونِ
175- ففطورنا عدس مزين بالحصى = إن الحصى فرضٌ على التعيينِ
176- قد عِفتُه حتى اسمه وحروفه = من عينه أو داله والسِّينِ!
177- وغداؤنا فاصوليةٌ ضاقتْ بها = نفسي فرؤية ُصَحْنِها تؤذيني
178- وعشاؤنا شيء يحيرك اسمه = فكأنما صنعوه من غسلينِ
179- لا طعم فيه ولا غذاء وإنما = يحلو لنا من قلة التموينِ
180- طبق يُكال لسبعة أو نصفه = وعليَّ أن أرضى وقد ظلموني
181- لو أن لي في جوفها حرية = لرضيت.. لكن أين ما يرضيني؟
182- من أجل ضبط وُرَيقة أو إبرة = ولغير شيء..طالما استاقوني
183- وتجمعوا حولي ضواري هَمُّها = نهشي .. وما لي حيلة تنجيني
184- إن نمت توقظني السياط سريعة = فالنوم ليس يباح للمسجونِ
185- وإذا تحدثنا لنذهب بالكرى= حظروا الحديث عليَّ كالأفيونِ!
186- وإذا شَغلنا بالقراءة وقتنا = أخذوا جميع الكتب للتخزينِ !
187- وإذا تلونا في المصاحف حرموا = حمل المصاحف وهي خير قرينِ
188- وإذا تسلينا بصنع مسابح = جمعوا المسابح من نوى الزيتونِ
189- هذي سياستهم وتلك عقولهم: = عيشوا بغير تحرك وسكونِ!
190- إياكمو أن تشتكوا أو تتألموا = موتوا بغير توجع وأنينِ!
191- يا ويل من قد مسه لهب الظما = فدعا بلطف للجنود:اسقوني
192- فهناك يُسقى المر من أيديهمو = كم كل مسعور عليك حرونِ
193- فالسوط حلال المشاكل، لم يضق = يومًا بطول مآرب وشئونِ
194- من راح يشكو الجوع فهو غذاؤه = ومن ابتغى رِيًّا فأيُّ مَعينِ!
195- ومن اشتكى الإسهال يجلد عشرة = هي وصفة الثوار للمبطونِ
196- ومن اشتكى وجع الصداع فمثلها = أو ضعفها بمكان الاسبرينِ
197- ومن اشتكى من سكِّر فبنحوها = يجد العليل أعزَّ أنسولينِ
198- هذا اكتشاف الثورة الفذ الذي = فخرت به مصر على برلينِ!
199- يا عصبة الباستيل دونكمو، فلن = آسى على الإغلاق والتأمينِ
200- سدوا عليَّ الباب كي أخلو إلى = كتبي، فلي في الكتب خير خَدينِ
201- وخذوا الكتاب، فإنَّ أنسي مصحفٌ = أتلوه بالترتيل والتلحينِ
202- وخذوا المصاحف، إنَّ بين جوانحي = قلبًا بنور يقينه يهديني
203- اللهُ أسعدني بظل عقيدتي = أفيستطيع الخلق أن يشقوني؟!
204- لحساب من هذا الأتون مسجر = يلقى له بالفحم والبنزينِ؟
205- لحساب من بطشوا بأطهر ثلة = روَّت دماها أرض فلسطينِ؟
206- لحساب من ضربوا بطولةَ فتيةٍ = بَعثوا صلاح الدين في حطينِ؟
207- لحساب من مكروا بإخوة غانم = وابن المنيسي والفتى شاهينِ؟
208- لحساب من شنقوا المجاهد يوسفًا = والفرغليّ محاربَ السكسونِ؟
209- لحساب من غدروا بعودة جهرة = من غير سلطان عليه مبينِ؟
210- لحساب من قتلوا وما قد شوهوا = من أوجه أو أظهر وبطونِ
211- من عذبوا، من شردوا، من جوعوا = ومن استذلوا من ليوث عرينِ؟
212- ألمصر؟ كيف ونحن صفوة جندها = في يوم حرب للعدو زَبونِ
213- أم للعروبة في قضيتها التي = أغنى بها الشهداء عن تبييني
214- أم يا تُرى لقضية الإسلام في = أوطانه من طنجة لبكينِ؟
215- ألمسلمي الأحباش أم لأرتريا = من كل مرتقب لعون معينِ
216- أم للألى يُفنَون في القوقاز أو = من ذُبِّحوا في الهند أو في الصينِ؟
217- لا لا وربي، إنني لَأقولها = بالجزم لا بالخرص والتخمينِ:
218- لحساب من هذا أتدري يا أخي؟ = لحساب الاستعمار الصهيوني
219- أرضى بنا الطاغوتُ سادتَه لكي = يَعِدوه بالتثبيت والتأمينِ
220- فالقوم يخشون انتفاضة ديننا = بعد الجمود وبعد نوم قرونِ
221- يخشون يعرُب أن تجود بخالد = وبكل سعد فاتح ميمونِ
222- يخشون أفريقيا تجود بطارق = يخشون تركيّا كنور الدينِ
223- يخشون دين الله يرجع مصدرًا = للفكر والتوجيه والتقنينِ
224- ويرون كل تكتل يدعو له = خطرًا وخصمًا ليس بالمأمونِ
225- وهنا بدا البطل الهمام منفذًا = لمخطط التبشير والماسونِ
226- ليسدد الضربات في عنف إلى = أقوى بناء للدعاة متينِ
227- ليقول للرقباء: قروا أعينا = أنا باقتلاع الأس جد قمينِ
228- وكذاك قام كمالهم في تركيا = ليطارد الإسلام كالمجنونِ
229- واليوم سار جمالهم في خطه = بتدرج وتخابث ملعونِ
230- ذاك امرؤ عار ، وهذا ماكر = متلون يحكي أبا قلمونِ
231- يا مصر حظك مثل حظي عاثر = كم قد نكبت بغاشم وخئونِ
232- قلنا انقضى عهد الظلام وأقبلت = مصر على عهد أغر مكينِ
233- يمضي بأمتنا على سنن الهدى = ويردها لتراثها الميمونِ
234-ويعيد عهد الراشدين يمده = عز الرشيد ونهضة المأمونِ
235- أمل أضاء -كلمحة- في ثورة = كنا لها في الروع خير معينِ
236- فإذا الذي ثرنا عليه تعيده = كالثور حين يدور في الطاحونِ
237- ثرنا على ملك، فجاءوا عشرة = كل يريد الملك غير رزينِ
238- وإذا رئيسهمو يرى في نفسه = ملك الملوك ووارث الفرعونِ
239- في نفسه ودمائه:أنا ربكم = لا تجعلوا ربًّا لكم من دوني
240- ثرنا على الأحزاب في تضليلها = للشعب.. في توجيهها اللا ديني
241- ما بالها رجعت لنا حزبية = عمياء ذات دعاية وطنينِ؟
242- تدع البناء يكاد يهوي ركنه = وتهيم بالتزويق والتزيينِ!
243- صحف ومذياع وسيل دعاية = متدفق النشرات جدُّ هَتُونِ
244- خطب توزع للعراة ليكتسوا = وصحافة تُهدى إلى المسكينِ
245- أكداس أرقام ولست ترى لها = أثرًا سوى عري وجوع بطونِ
246- برق ولا مطر، وأوراق ولا = ثمر، وجعجعة بغير طحينِ
247- ثورية هدامة شريرة = باسم البناء تهدُّ كل حصينِ
248- كانت على الإسلام في أوطانه = شرًّا من السكسون واللاتينِ
249- نصبت مشانقها لقتل دعاته = بغيًا، بلا شرع ولا قانونِ
250- ومضت تصب على الألوف عذابها = من كل ذي ثقة بهذا الدينِ
251- ساءت لعمري ثورة مشئومة = لم نجنِ منها غير تل ديونِ
252- يجري الخراب وراءها أنى جرت = وتقول بالتطوير والتحسينِ!
253- يا ثورة كنا حماة ظهورها = صرنا وقود وطيسها المجنونِ
254- قالوا: مباركة.. وما كانت سوى = حُمَّى على الأحرارِ أو طاعونِ
255- يا هرة أكلت بنيها غدرة = قبحت أُمًّا كنتِ غيرَ حنونِ!
256- أفهكذا يُجزى الجميل بضده؟ = أين الوفاء وأهله؟ دلوني
257- واهًا لهم، كم أسرفوا وتحيروا = في وصفنا من يسرة ليمينِ
258- قالوا ويا لضلال ما قالوا فكم = كالوا لنا تهمًا بمحض ظنونِ!
259- وعزاؤنا أن النبي فديته = بأبي وأمي كم رُمي بطعونِ!
260- من ساحر حينًا، لباغٍ، مفترٍ = أو كاهنٍ، أو شاعر مجنونِ!
261- قالوا كذابًا: دعوة رجعية = معزولة عن قرنها العشرين!
262- الناس تنظر للأمام، فما لهم = يدعوننا لنعود قبل قرون؟
263- رجعية أنا نغار لديننا = ونقوم بالمفروض والمسنون؟!
264- رجعية أنا نصون حريمنا؟! = بئس الحريم يكون غير مصونِ
265- رجعية أنا نذرنا أنفسًا = لله تحيا، لا لعيش دون؟!
266- رجعية أنا نربي جندنا = للحق، لا لتفاهة ومجونِ؟!
267- رجعية أن الرسول زعيمنا = لسنا الذيول لماركس ولنين؟!
268- رجعية أن الجهاد سبيلنا؟! = نعم، الجهاد ذريعة التمكينِ
269- رجعية أن يحكم الإسلام في = شعب يرى الإسلام أعظم دينِ!
270- أوليس شرع الله -شرع محمد- = أولى بنا من شرع نابليونِ؟!
271- يارب إن تك هذه رجعية = فاحشرنِ رجعيًّا بيوم الدينِ!
272- قل للذي جعل الكنانة كلها = سجنًا وبات الشعب شر سجينِ:
273- يا أيها المغرور في سلطانه = أمن النضار خلقت أم من طينِ؟!
274- يا من أسأت لكل من قد أحسنوا = لك دائنين فكنت شر مدينِ
275- يا ذئب غدر نصَّبوه راعيًا = والذئب لم يك ساعة بأمينِ
276- يا من زرعتَ الشر لن تجني سوى = شر وحقد في الصدور دفينِ
277- سيزول حكمك يا ظلوم كما انقضت = دول أولات عساكر وحصونِ
278- ستهب عاصفة تدك بناءه = دكا .. وركن الظلم غير ركينِ
279- ماذا كسبت وقد بذلت من القوى = والمال بالآلاف والمليونِ؟
280- أرهقت أعصاب البلاد ومالها = ورجالها في الهدم لا التكوينِ
281- وأدرتَ معركة تأجَّجَ نارُها = مع غير جون بول ولا كوهينِ
282- هل عدت إلا بالهزيمة مرة = وربحت غير خسارة المغبونِ؟!
283- وحفرت في كل القلوب مغاورًا = تهوي بها سُفْلًا إلى سجينِ
284- وبنيت من أشلائنا وعظامنا = جسرًا به نرقى لعليينِ
285- وصنعتَ باليد نعش عهدك طائعًا = ودققت إسفينًا إلى إسفينِ
286- أظننت دعوتنا تموت بضربة؟ = خابت ظنونك، فهي شر ظنونِ!
287- بَلِيَتْ سياطُك، والعزائم لم تزل = منا كحد الصارم المسنونِ
288- إنا لعمري إن صمتنا برهةً = فالنار في البركان ذات كمونِ!
289- تالله ما الطغيان يهزم دعوة = يومًا، وفي التاريخ بِرُّ يميني
290- ضع في يدي القيد، أَلْهِبْ أضلُعي = بالسوط، ضع عنقي على السكين
291- لن تستطيعَ حصار فكري ساعة = أو نزع إيماني ونور يقيني
292- – فالنور في قلبي، وقلبي في يَدَي = ربي، وربي ناصري ومعيني
293- سأعيش معتصمًا بحبل عقيدتي = وأموت مبتسمًا ليحيا ديني
294- صبرًا أخي في محنتي وعقيدتي = لا بد بعد الصبر من تمكينِ
295- ولنا بيوسف أسوة في صبره = وقد ارتمى في السجن بضع سنينِ
296- هوَّن عليك الأمر لا تعبأ به = إن الصعاب تهون بالتهوينِ
297- أمس مضى، واليوم يسهل بالرضا = وغدٌ ببطن الغيب شبه جنينِ
298- لا تيأسن من الزمان وأهله = وتقل مقالة قانط وحزينِ
299- شاة أسمنها لذئب غادر = يا ضيعة الإعداد والتسمينِ
300- فعليك بَذْرُ الحَبِّ لا قطف الجنى = والله للساعين خير معينِ
301- سنعود للدنيا نطب جراحها = سنعود للتكبير والتأذينِ
302- ستسير فُلْكُ الحق تحمل جنده = وستنتهي للشاطئ المأمونِ
303- بالله مجراها ومرساها فهل = تخشى الردى والله خير ضمينِ؟!
304- يا رب خلِّص مصر من أعدائها = وأعن على طاغوتاها الملعونِ
305- يا رب إن السيل قد بلغ الزبى = والأمر في كاف لديك ونونِ
306- باسم الفراخ الزُغْبِ هيضَ جناحُهم = فقدوا الأَبَ الحاني بغير منونِ
307- بدموع أم روَّعوها في ابنها = وبكل دمع في العيون سخينِ
308- بدعاء شيخ شردوا أبناءه = ما بين معتقل وبين سجينِ
309- بسهاد زوج غاب عنها زوجها = فدعت لفرط جوىً وفرط حنينِ:
310- رباه رُدَّ عليَّ مؤنِسَ وحشتي = وأغثْ بعودته جياع بنيني
311- يامن أجبت دعاء نوح فانتصر = وحَمَلْتَه في فلكك المشحونِ
312- يا من أحال النار حول خليله = رَوْحًا وريحانًا بقولك كونِ
313- يا من أمرت الحوت يَلْفِظُ يونسًا = وسترتَه بشُجيرة اليقطينِ
314- يا رب إنا مِثله في كُربة = فارحم عبادًا كلهم ذو النون.

حوار مع الشاعر الأديب د عبد الحق الهواس {الأدب الإسلامي هو الأصل }

أدب السجون في حوار

مع الشاعر الأديب د  عبد الحق  الهواس الجزء الاول

 الدكتور  عبد الحق هواس أستاذ جامعي من سوريا  أديب وشاعر   اشتغل زمنا مديدا  في البحث الاكاديمي   تخصص  دقيق   في الادب العربي  في مرحلة ما قبل الاسلام وهو حاصل على دكتوراه في اللغة العربية وأدابها  درس في عدة جامعات عربية في العراق والسعودية  وليبيا  واليمن

  عضو اتحاد كتاب العرب  ورابطة الادب الاسلامي وأحد مؤسسي رابطة أدباء الشام    وهو من الادباء   المعنيين بالأدب الإسلامي وقضاياه

    شاعر   فذ  له العديد من القصائد  التي تحمل النفس الإسلامي    وقضايا   الأمة الإسلامية

  كتب الشعر  والقصة   وصنف الدراسات الادبية المميزة

صدر لأديبنا

مدلولات أسماء النساء في القصيدة العربيةوالمعلقات –

الرواية والتسمية

اللوحة الضائعة في معلقة طرفة بن العبد

    قامة ادبية عالية  كان لنا معه هذا الحوار الذي  رحب به مشكورا  في تواضع جم  حلقنا معه في   سماء الأدب الإسلامي وقضاياه  المعاصرة

    الحوا ر   في  جزئين الاول عن الادب الإسلامي وبعض  شجونه

  والجزء الثاني ننكش  فيه  بعض ما   نحمله  على كاهلها من أسئلة عن أدب السجون …….

  فإلى الحوار …

خاص – شبكة واإسلاماه

حاوره :زكرياء بوغرارة

س1 كيف بدأ مشوارك الأدبي؟ ولماذا الشعر بالذات؟

وما الذي يعنيه الأدب الإسلامي بالنسبة إليك؟ وما الذي يدل عليه في رأيك؟

بدأ مشواري في المرحلة الإعدادية من خلال ميلي إلى قراءة كتب الأدب ، وكتابة موضوعات التعبير المدرسية . وكان الشعر أقرب الفنون إلى نفسي فهو  

ترجمة للذات فيما تؤمن به ، بدلالة اتساقه مع قيم الدين الإسلامي فكراً وسلوكاً .

س2 هل الأدب الإسلامي ظاهرة ثقافية عابرة؟ أم أن هذا اللون من الأدب ذو أصل ثابت، وذو جذور عتيقة وكيف ترى صفة الأديب الذي يكتب الأدب الإسلامي، هل هو أديب مسلم أم أديب إسلامي؟

الأدب الإسلامي هو الأصل ، لأنه الهوية التي تشكلت في جذور الأمة هي التي أوجدها الإسلام . فهو أديب مسلم يعبر عن الهوية تعبيرا دقيقا ملتزما التزاما واعيا وتاما بتفاصيل رسالته للآخر.

وهو إسلامي حين يلتقي من قريب أو بعيد مع قيم الإسلام ومفاهيمه وضوابطه .

س3 أثمة من صلة مميزة بين الأدب العربي والأدب الإسلامي؟

 وحسب اعتقادك هل يجسد الأدب الإسلامي جسرا ممتدا بين الأدب والإسلام؟ ثم ما جوهر العلاقة القائمة بينهما؟

هي صلة رحم بحكم التكوين الفكري اللغوي والثقافي الذي شكله الإسلام – والأدب الإسلامي لا يمثل جسراً لأنه لا توجد هوة واسعة وصفتان متباعدتان ، وإنما خروج عن الطريق الواحد القويم وإضاعة الاتجاه الصحيح ، ومن هنا تأتي مهمه الأدب الإسلامي في التوجيه والتقويم وإبانة معالم الطريق ، فالعلاقة اندماجية تنبع من مصدر واحد حين يعبر عن مشاعر واحدة .

س4 ما الذي تراه في شأن رسالة الأديب المسلم؟

وكيف تنظر اليوم إلى حال الأدب الإسلامي مقارنة بحاله في الماضي؟

للأديب المسلم رسالة يستقيها من منابع الإسلام في القرآن والسنة والتراث ، وهي روحية ونفسية وفكرية وفنية بعيدة عن المباشرة الوعظية … والأدب الإسلامي اليوم يحاول أن يعيد ماضيه بروحية العصر وأساليبه الأخاذة ، وقد قطع أشواطاً مقبولة في الطريق الطويل طموحاً وأملاً .

س5 ما هو في رأيك الجنس الأدبي الذي ينفرد بالحظ الأكبر من الأدب الإسلامي المعاصر؟

وهل ثمة من إضافات نوعية للأدب الإسلامي قصب السبق فيها؟

هناك تنافس واضح بين الشعر والرواية وقصور في المسرح … وإضافات الأدب الإسلامي تأتي في ظل الثوابت كالإيمان ، والثقة بالله عز وجل ، وسلامة التفكير ، وتهذيب الحواس ، والصبر على المكاره ، وبناء الحياة العادلة .

س6 ما حقيقة الصلة بين النقد والأدب الإسلاميين في الظرف الراهن؟

حسب اعتقادك، ما نصيب الأدب الإسلامي القديم والحديث من البحث العلمي الجامعي المعاصر؟

النقد في الوطن العربي والأمة كافة ليس بخير، لانشغال النقاد بنقد الغرب وانبهارهم به ، وابتعادهم عن تطوير النقد الذي قدمه لنا علماؤنا القدامى ، والمؤسف أن الغرب أفاد كثيراً منهم ، والأكثر اسفاً أنهم أخضعوه لمعتقدهم الديني … الأمر الذي أثر في تفعيل البحث العلمي كما نراه ماثلاً أمامنا في قلة البحوث الجامعية التي تبحث عن أدب المسلمين .

س7 ترى هل سبق أن قرأت بعض السير الذاتية الأدبية الإسلامية، نثرية كانت أم شعرية؟

السير الذاتية من أجمل السرديات في الأدب لأستيعابه تجارب إنسانية ومتعددة وحافلة بالشواهد . والباحثون العرب مقصورن في الباحث بهذا الفن كما لاحظ هذا البحث عبد الفتاح أفكوح والغرب يتهمنا بأننا نجهل أدب السيرة الذاتية ، وهذا محض افتراء بقطع النظر عن التسمية كان عهدي بالسيرة علميا في مرحلة الماجستير على يد الأستاذ الدكتور عبد الجبار المطلبي .

فقد أعادني إلى ماكتبه طه حسين ، وربما تكون اعترافات أوغسطين هي المؤسسة لهذا الفن الأدبي . وأعتقد أني شغفت بالسيرة النبوية الشريفة فكانت معيناً ثراً لي قبل أن أطلع على ماكتبه ابن سينا عن حياته أو عبد الله بن بلقين وتوفيق الحكيم في عودة الروح .

س8 لمن تقرأ من الشعراء الآن؟ وبمن مِن الشعراء تأثرت في البدايات؟ وكيف  هو رضاكم عن المشهد الشعري الذي قدَّمتموه وقدمه مجايلوكم عموماً؟ هل وصل إلى طموحاتكم؟ ثم كيف ترون المشهد الشعري الشبابي حاليًّا، هل واصل تطوير ما بدأتم به؟

لا يوجد تحديد مقصود لشاعر بعينه ، لكن أبا العلاء المعري يستهويني دائما هو والبحتري والمتنبي ، في بدايات تأثري كان بأبي القاسم الشابي وروحه المعذبة … لست راضيا عما قدمته ومازلت أبحث عن القصيدة المفقودة لا شك أن قصيدة وطن الأنبياء ونشيد لن يموت العزم فينا ، وقصيدة سلاماً أيها الوطن نالت بعضاً من رضائي .

يتبع مع الجزء الثاني من الحوار

📖 خواطر أسير الشيخ داود خيرت

خواطر أسير 🔗

📌ما أجمل ان تعيش وأنت في واقع لا يوجد فيه دافع واحد للعيش ، تعيش لتتحدى الصعاب ، تعيش لتعمر الخراب ، تعيش لتبعث الأمل الذي فقده كثيرا من الناس تعيش لأنك صاحب هدف وحامل لقضية ، إنها قضية العدالة التي افتقدها الناس ، تعيش لأن الله امرك أن تعيش عبد له ، فأنت بالعبودية تكون لحياتك قيمه ، ولوجودك فائدة .

📌تعيش على الأمل ، الذي لا يعرفه سوى من عرف الله ربا والاسلام دينا ، حياتنا لا يوجك بها يأس أو قنوط ، فإننا دائما ننتظر الخير ، وننتظر الأفضل فإذا صلينا الصبح ننتظر الظهر ثم العصر ثم المغرب والعشاء ثم ننتظر يوم الجمعه ذلك العيد الأسبوعي ثم أعياد المسلمين من فطر وأضحى ، وكذلك رمضان وغيره من مواسم الخير ، فالمؤمن دائما ينتظر الخير ويأمل في الحصول عليه ، فأحوال المؤمن كلها خير حتى عند نزول المصائب جعلنا الإسلام نعالجها بالصبر الجميل الذي يحول المصيبة إلى رحمه وخير ، حيث نأمل في أجر الصابرين الذي هو عند الله بغير حساب ، فالمؤمن إذا خسر الدنيا كلها لا ييأس ولا يقنط ، فما عند الله خير وأبقي ، والدنيا إلى زوال فلا نبالي بها لأنها احقر عند الله من جناح بعوضه.

📍لا نيأس لأننا وإن قامت القيامه مطالبون بغرس الخير كي نحصده عند الله في الآخرة .

📌كيف يفقد الأمل من يعلم أن له رب رحيم أرحم به من امه ؟! نعم أرحم بنا من امهاتنا فهو الذي خلق الرحمة في صدرها ، بل إن هذه الرحمه هي جزء من مليارات الأجزاء من رحمة الله تعالى بنا ، ………..

📌🔗.إذن لماذا يبتلينا ؟!
يجب أن نعلم جميعا أن الله تعالى غني عن تعذيب عباده ولكن لحكمه أعطى ولحكمه منع وما ابتلى عباده إلا رحمه بهم حتى نعلم حقيقة ضعفنا ونحقق تمام اليقين في الله والتوكل عليه في دفع ما يضرنا . ونحقق تمام العبودية التى تعنى تمام الذل مع تمام المحبه.

🔗كيف ييأس من يؤمن باليوم الآخر ، يوم الدين ، يوم الوقوف بين يدي الله رب العالمين ، ليعلم الصادقون صدقهم ويرى المقصرون مغبة تقصيرهم .

🔖خواطر أسير
الشيخ داود خيرت
فك الله بالعز اسره وكل المأسورين