مارس 20, 2021مقالاتالتعليقات على أدب السجون في سورية.. أدب انعتاق مغلقة
دار بخاطري تساؤل كبير عن أول سجن في التاريخ، وعن معرفة الفطرة الإنسانية بالسجون لو أردنا الاجابة لنظرنا إلى تاريخنا الممتد وصولا إلى علاقتنا الفطرية الأولى بالخالق. لو عرف الله السجن وشرعه لكان قد سجن الشيطان وما أطلقه ابدا… لو كان قد عرفه الدين والإنسان الصافي لكان رسولنا المصطفى صلى الله عليه وسلم قد سجن أسرى معاركه مع قريش، وما أطلق سراحهم فور تعليمهم أبناء المسلمين القراءة والكتابة.. في مسيرة التاريخ .. نجد أن الحكام هم أول من ابتكروا فكرة السجون لتقييد من يهدد عرشهم بالخطر.. ولعل العلماء والشعراء والكتاب هم ضالة السجان الأكثر خطورة.. يلجأ الكاتب غالبا إلى التخييل والرمزية في نقد حكام عصره.. وتغليف الحقيقة بزي تخييلي..للنجاة من السجن أو الملاحقة.. فترى الكاتب الذي يرصد تجربة سجن في رواية يتملص من الإشارة إلى حقيقتها.. بقوله “هذه رواية خيالية وليست سيرة ذاتية” ومع ذلك لا ينجو من العقاب وضرب الحكام على يديه حتى تتقفّع..لو أجاب هؤلاء الكتاب نعم إنها حقيقة وسيرة ذاتية أكنا احتجنا ربيعاً عربياً وثورات بعد عشرات الاعوام من الذل والإرهاق والتقييد؟!..لطالما كانت الكلمة أشد وطأة من الحسام..هذا الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم يصطحب “حسان بن ثابت” في معاركه من دون أن يتقن حسان لغة السلاح قائلا: “اهجُ قريشًا، فإنه أشد عليهم من رشْقِ النبل” كان “ابن المقفع” ينتقد الحكام على ألسنة الحيوانات وحواراتها في كليلة ودمنة، وكذا ابن حزم لجأ إلى حوارات الحمائم، ولما انتقد المتنبي كافوراً علناً لم ينجُ من سطوته.. والقائمة تطول من شهداء الكلمة ومعتقليها في تراثنا الثقافي، تعددت الحكومات والنتيجة ذاتها، السجن والقتل، وفي الأحوال كلها لم يكن الشاعر ينشد أبياته عن السجن إلا إن كان حبيسه حقيقة.. أما أدب السجون المعاصر فهو على نوعين الأول رواده قلائل كتبوا فيه من دون أن يرتادوه، بمثل “نبيل سليمان” في كتابيه “السجن”، و”سمر الليالي”، و”خالد خليفة” في روايته “مديح الكراهية”، والنوع الثاني هم الكتاب السجناء، وهم أصدق فنيا بما يكتبوه، وإن كانت التقنيات الفنية ترقى على يد الفريق الأول أكثر، لأن السجناء من الأدباء معنيون بضرورة تسجيل الفكرة، وتفاصيل المعيش داخل السجن، محمومون بنداءت الذاكرة المحشوة بالتفاصيل والأسماء، ينزفون أرواحهم على الورق في الحروف كلها، وذاك ما يتخفف منه الكتاب غير السجناء.. قد يصح أن نزعم أن أدب السجن الحديث في سورية بدأ مطلع السبعينيات على يد “إبراهيم صموئيل” بمجموعاته القصصية الثلاث، “رائحة الخطو الثقيل”، “النحنحات” و”الوعر الأزرق”. كان صموئيل يؤرخ فيها لتجربة حقيقية وعميقة، لكن بلغة رفيعة وبحساسية خلاّقة . انقطعت الكتابة عن أدب السجون في سوريا في ثمانينيات القرن الماضي، وهي مرحلة من أشد مراحل الحياة السورية تخبطا ووحشية، لتطالعنا حسيبة عبد الرحمن في عام 1998 بمؤلفها “الشرنقة” وهو يوميات سجينة تصور السجن بروح أنثوية خالصة، وهذه اليوميات أولى ما كتب بجرأة عن السجن على الرغم من الطوق الأمني المحيط بالكاتبة.. لكنها لم ترق إلى مستوى رواية بمثل ما اصطلحت الكاتبة على عملها.. ويكفيها من الأهمية منجزها الأدبي باكورة تأليف المرأة في أدب السجن بهذه الدقة والجرأة. ومن ثم أصدر “مالك داغستاني” روايته “دوار الحرية”، ببناء فني متماسك، عني فيه برصد تجربة السجن بصورة غير مباشرة.. وإن لم يحظ بانتشار واحتفاء لائقين… أما الكاتبة “هبة دباغ” فقد افتتحت تاريخاً آخر حين أصدرت كتابها “خمس دقائق فحسب: تسع سنوات في سجون سوريا” في لندن. ويبدو أنها كتبته قبل ذلك بأكثر من عشر سنين. كانت كتابات السجون حتى يومنا هذا في مجملها بأقلام معتقلين يساريين، وكتاب “هبة الدباغ” هو الأول تصدره معتقلة “إخوانية” عن تجربتها، وقد لجأت فيه إلى مقاربة الأسطورة إلى حد كادت أن تلامسها، بأن تفتق عقلها المأسور عن نمو لسان إحدى المعتقلات بعد قطعه أثناء التعذيب، و التصاق جلبابها بجسدها، كي لا يتاح للجلاد اغتصابها. لقد اجتهدت الكاتبة في تقديم وثيقة صادمة عن السجون السورية لم يتم فضحها من قبل، بلسان امرأة، على الرغم من الطوق الأمنى المرهق الذي يطال الكتاب في هذا المضمار.. وجد الكاتب “مصطفى خليفة” الحل بإصدار كتابه عن السجن،”القوقعة – يوميات متلصص”، بالفرنسية في باريس، ولعل أول ما يتبادر إلى ذهن القارئ أنه جريء للغاية، وتكمن جرأته في تخلص الكاتب من محاولات الكتّاب السابقين بالعربية، سواء بالأسماء المستعارة أو بتحوير الأماكن وما إلى ذلك. لكن الرواية، التي تفضح الواقع السياسي السوري في السجون، لم تطبع بالعربية في بداية صدورها، إلا منذ وقت قريب. لم يمر زمن طويل على ذلك حتى نشر لؤي حسين كتابه “الفقد” سنة 2006، معنونا إياه بـ “حكايات متخيلة لسجين حقيقي”، وذلك كمحاولة ربما للهرب من سطوة الرواية، إلا أن الكتاب كان مضمخاً بلغة متماسكة، وبتفاصيل كثيرة، كانت موحية ومؤثرة. خلال هذه السنة أيضاً أصدرت مي الحافظ كتابها “عينك على السفينة”، تضمن كثيراً من المشاهد المؤثرة والتفاصيل المثيرة، وقد اجتهدت في تحليل شخصيات المعتقلات السياسيات، اللواتي يشكلن عصب الرواية، وطابعها الانفعالي المباشر. ارتقت هذه اللغة في رواية “يسمعون حسيسها ” 2012 للدكتور أيمن العتوم الروائي الأردني الذي استطاع ملامسة الجرح النازف بأناة.. كم يحتاج القارئ إلى لمس تجربة السجن ليحيط بذاك النزف وذاك البركان الثائر في كل حرف ، ليحيط علما بأن ذاك الظلام القابع هناك جهنم، نعيش إلى جوارها في جنة من دون أن نسمع صرخات السجناء فيها، ومن دون أن نسمع حسيس هذه النار. سماح حكواتي
مارس 19, 2021مذكراتالتعليقات على مذكرات سجنية – لانهم قالوا لا الحلقة السادسة مغلقة
الأمير فايز حرفوش
دخل علينا طويلَ القامة، شاحب الوجه، مهدّل الحاجبين، نحيل الجسم، طويل شعر الرأس واللحية على نحوٍ عفوي أو وحشيّ، كأن الحلاق لم يقترب منه منذ سنة، طويل الأظفار، هيئته تذكّر بالرسوم التي يَتخيّل بها الفنانون رجال الكهوف في العصور الأولى!. قسمات وجهه توحي أنه على رأس الأربعين، وضعف بنيته يوحي أنه على رأس الثمانين!.
يتكلم بتلعثم وتردُّد، وهو يتلفت يمنة ويسرة، كأنه يتوجّس من عدوٍّ غادر.
لقبُ الأمير في بداية اسمه، لقبٌ رسمي يتحلى به آل حرفوش اللبنانيون. فهو مواطن من لبنان الشقيق! ووالده –كما ذكر لنا- هو السيد فوزي حرفوش الموظف في مجلس النواب اللبناني آنذاك.
كنا في الحلبوني في خريف 1974، يوم دخل علينا الرجل. وقد حاولنا تطمينه، وإدخال الأمن إلى نفسه. ورويداً رويداً بدأ الرجل يستأنس ويندمج فيمن حوله، ويستعيد نضارة الوجه، والحيوية والروح الاجتماعية والمرح، وبدأت تظهر مواهبه. فهو يملك مهارات يدوية فائقة. وعلى سبيل المثال كان يصنع من لبّ الصمّون عجينة، ويلوّن نصفها برماد الورق المحروق، ويصنع مجموعتي أحجار شطرنج على نحوٍ متقن… يكمل ذلك كله في أقل من نصف ساعة!. كما يصنع من بعض فضلات غرفة السجن، من علب الورق المقوّى، ومن أغلفة علب السجائر.. مجسّم طائرة من الطراز الذي نريد: فانتوم أو ميغ 17 أو ميغ21 .
ويتقن صناعة الأحبار السريّة، ويحفظ عدداً كبيراً من قصص السجون والجواسيس..
وصحيحٌ أننا لم نعرف السبب الحقيقي لاعتقاله، لكنّ أجهزة المخابرات السورية عوّدتنا على وجود طيفٍ واسعٍ لديها من الأسباب الموجبة للاعتقال، وإذا كانت هناك أسباب وجيهة في أحيان قليلة، فإن وراء الاعتقالات في معظم الحالات سببين كبيرين:
الأول الإساءة لوجه سورية أمام العالم، فكم من سائحٍ بريطاني أو إسباني أو أسترالي أو ألماني… دخل البلاد بشكلٍ نظامي، ثم تحرَّشت به إحدى دوريات المخابرات في بعض شوارع دمشق، فاعتقلته احترازياً، وأطلعته على فنون التعذيب في فروع المخابرات، وأكرمته بالضيافة أياماً أو أسابيع على الطريقة البعثية، ثم أطلقت سراحه ليكون مندوباً إعلامياً يقوم بالدعاية المشرّفة لدولة المؤسسات (الأمنيّة)!.
الثاني: تحقير الإنسان الذي كرّمه الله تعالى، وهذا لا يقتصر على الإنسان السوري، بل يشمل دول الجوار، والدول القريبة والبعيدة في القارّات الخمس!.
بعد هذا لا يهمّ أن تكون التهمة الموجّهة للسيد حرفوش هي تهمة العمالة لإسرائيل، أو تهمة النيل من بطل الصمود والتصدي، أو تهمة الاعتراض على النفوذ السرّي لأجهزة الأمن السورية في لبنان (كان هذا قبل دخول القوات السورية العلني عام 1976). فأجهزة الأمن جاهزة لاصطناع التهم وإلصاقها بمن تريد، وقد أحرزت تقدماً في صنع التهمة المناسبة للرجل المناسب!.
بعد هذا أقول: أيّاً كانت التهمة الموجّهة، ومهما كانت درجة ثبوتها، فلن نجد مسّوغاً لما لقيه السيد حرفوش والظروف التي صاحبت ذلك:
1- فقد تم خطفه من الشارع في بيروت، واقتياده إلى سجنٍ سرّي للمخابرات السورية داخل لبنان، وإبقاؤه هناك نحو سنتين. وفي هذا ممارسة لأسلوب العصابات الإجرامية (التي تخطف من دون سند قانوني)، وفيه تجاوز لسيادة الدولة اللبنانية، إذ يحدث هذا على يد أجهزة غير لبنانية، ووجود سجون سرّية على أرضها تابعة لدولة أخرى (بعلمها، أو بغير علمها!).
2- وقد كان السجن في غاية الوحشية، بعيداً عن كل المعايير الإنسانية. ذكر لنا السيد حرفوش أن السجن في قبو عميق، ينزل إليه بنحو خمسين درجة، فلا يمكن تسرُّب أشعة الشمس إليه، ولا وصول الهواء النظيف. ويؤكد كلامَه هذا، الشحوبُ على وجهه، والنُحول في جسمه، والضعف الشديد في بنيته، يوم أن جاءنا.
3- وكانت معاملته كذلك في غاية السوء، يدل على ذلك هيئته المزرية (يوم انتقاله من ذلك السجن إلى الحلبوني في دمشق) وشعوره بالوحشة والخوف… فعلى الرغم من سوء المعاملة التي كنا نقاسيها في الحلبوني، شعرنا أننا في سجن (خمس نجوم) بالقياس إلى ما كان عليه هذا الرجل. ولا يزيد على سجنه سوءاً إلا ما لقيه المعتقلون في سورية في سجن تدمر بدءاً من عام 1980 فما بعد.
لقد استطاع الحزب القائد، وأجهزة أمنه المتطورة أن تختلق كل حين من أساليب القمع والسحل وتحطيم الشخصية… ما يستصغر المرء معه كل ما سبقها من أساليب!.
السجين سعيد (ك)
كان من السجناء الذين عاشوا معنا، أو عشنا معهم، في قبو الحلبوني. شاب دمشقي اسمه سعيد (ك).
إنه شاب مرح اجتماعي حلو الحديث.. طويل القامة، أبيض البشرة.
استفدنا منه في التعرف على طرائق أجهزة المخابرات!
من ذلك أن الذين تستعين بهم تلك الأجهزة على ثلاثة أصناف:
صنف موظف في تلك الأجهزة. وهذا الصنف منه مَن يحمل رتبة عسكرية، ويكون في أصله ضابطاً في الجيش أو صف ضابط، ومنه المدني، ويعمل في الغالب في مهنة محقق أو كاتب!.
وصنف عميل للمخابرات، يكون الواحد من هؤلاء صاحب بقالة أو مقهى، أو عاملاً في فندق، أو طالباً في الجامعة… ويرتبط مع أحد العناصر من الصنف الأول، ويتلقى منه التكليفات، ويتقاضى منه أجراً على “الإخباريات”، وقد يقِّدم إخباريات كاذبة، إما انتقاماً ممن يختلف معه في شأن من شؤون الحياة، أو ممن ينافسه في مهنته، وإما طلباً للاسترزاق فحسب!… وقد تعتقله أجهزة الأمن التي يعمل معها، لأنه ورّطها نتيجة تقاريره الكاذبة، ثم تفرج عنه بعد أن تكون أدّبته!.
وهذان الصنفان معروفان لدى معظم الناس، بمعنى أنَّ وجود هذين الصنفين معروف، لكن الصنف الثالث هو الذي لا يعرفه معظم الناس:
الصنف الثالث: وهو مجموعة أفراد يتعاقد أحدهم مع فرعٍ من فروع المخابرات مدة سنة أو اثنتين، ويكلَّف خلال هذه المدة بمهمات في مدينته أو قريته أو في مكانٍ آخر… أو خارج القطر. فإذا انقضت مدة العقد، فإما أن تجدد لمدة أخرى برضا الفريقين، وإما ألا تُجدد، وقد يجري التعاقد بين الفرد نفسه وبين فرعٍ أمنيٍّ أخر.
ولقد كان سعيد (ك) من هذا الصنف، كما ذكر لنا، فعمل مدةً مع الشعبة السياسية، ومرةً أخرى مع مخابرات القوى الجوية… ولعله كذلك عمل مع أجهزة أمن أخرى.
وكان يبدو من شخصيته أنَّ التعليم الذي تلقّاه متواضع جداً، فهو في الغالب لا يحمل شهادة الدراسة الثانوية، ولا أدري إذا كان قد اجتاز المرحلة الإعدادية. لكن ثقافته الاجتماعية جيدة، وعنده كذلك ثقافة دينية مقبولة، فهو من أبناء هذا الشعب: ينشأ في صغره في بيئةٍ متدينة، قد تكون واعية متعلمة، أو ساذجة قليلة العلم والتعليم! وفي مرحلة الشباب يتصيده بعض الفاسدين، لا سيما إذا أخفق في دراسته وترك المدرسة، ويجرّونه إما إلى لعب القمار وشرب الخمر… وإما إلى العمل في المؤسسات الحزبية أو الأمنية. ومثل هؤلاء يتردد في سلوكهم أثر التربية الدينية التي نشؤوا عليها في صغرهم، وآثار الفساد الذي لحقهم في سن المراهقة فما بعدها. وكان سعيد (ك) من هؤلاء.
وقد حدثنا عن بعض مشاهداته لألوان التعذيب في سجن الآمرية الجوية. ففضلاً عن الأنواع المعروفة من الضرب بالكابلات وبالخيزرانة والتعذيب بالكهرباء، هناك التعذيب بالضوء الباهر!! كيف؟.
قال: يُلقى السجين على ظهره في وسط غرفة التعذيب الكبيرة، وتربط يده اليمنى من الرسغ بسلسلة معدنية إلى حلقة في أرض الغرفة، في الزاوية الأقرب إلى هذه اليد، وتربط اليد اليسرى كذلك بسلسلة إلى الزاوية القريبة منها، وتربط كذلك كل من القدمين إلى الزاويتين المقابلتين، وبذلك يصبح الجسد ملتصقاً بالأرض، والأطراف الأربعة مشدودة إلى الزوايا الأربع!. وهذا بذاته تعذيب، ولكن التعذيب المقصود هو فوق ما ذكر، إذ تفتح عيناه ويوضع بين كل جفنين عود ثقاب حتى تبقى العينان مفتوحتين لا يمكن إغلاقهما، ويطلب من السجين أن “يعترف”! فإذا لم يعترف بما يرضي المحقق، أشعل المحقق ضوءاً باهراً (بروجكتور) وقال للسجين: ستبقى هكذا إلى الغد!. وغادر الغرفة!.
يقول سعيد (ك): مهما كانت قدرة السجين على التحمل فإنه بعد دقيقتين، في أعلى تقدير، يبدأ بالصراخ والاستغاثة. ويكون المحقق واقفاً في غرفة مجاورة يسمع الصراخ، فهو يعلم أن السجين لن يتحمل هذا الضوء الباهر، وسيصرخ. وعندئذ يأتي إليه ويقول: اعترفْ!. فيقول السجين: أرجوك أطفئ الضوء، وأعترفُ لك بما تريد!، فيصرُّ المحقق على أن يتم الاعتراف قبل إطفاء الضوء!.
كما حدثنا أن السلطات الأمنية قلقت من اتساع شعبية الشيخ حسن حبنكة (رحمه الله)، وازدياد عدد تلامذته، ونشوء حلقات العلم المختلفة في جماعته، فأرادت أن تحوك مؤامرة تورّط فيها بعض هؤلاء التلامذة بعملٍ (غير قانوني)، وتتخذ الذريعة لضرب جماعة الشيخ. وكانت المؤامرة أن كلفتْ بعض العناصر، ومنهم سعيد (ك) فبدؤوا يحضُرون دروس الشيخ ويُبدون تجاوباً كبيراً، ويتظاهرون بالتدين، ويشاركون في حلقات العلم… ثم راحوا يَدْعون إلى إيجاد تنظيم سرّي يحرّض على معارضة الدولة… ولقيتْ دعوتهم قبولاً لدى بعض تلامذة الشيخ. وبعد أسابيع على سير المؤامرة قامت عناصر المخابرات بمداهمة بعض هذه المجموعات، واعتقلت أفرادها، ومارست عليهم التعذيب للتعرف على أفرادٍ آخرين، ولاكتشاف حقيقة توجهاتهم…
وكان سعيد نفسه بين المعتقلين، وتلقى تعذيباً كالآخرين. وربما لم يتم إعلام عناصر الفرع الذي يتم فيه التحقيق، بحقيقة وضع سعيد، وذلك حتى يأخذ التحقيق مجراه.
وبعد مضي الأيام الأولى للاعتقال، وإقفال التحقيق، تم فرز المعتقلين، حسب درجة خطورة كل منهم، وجاءت التوصية أن يصنّف سعيد في المجموعة ذات التهمة الخفيفة، التي سيتم الإفراج عن أصحابها. وبذلك أفرج عنه، ودفعت له الشعبة السياسية تعويضاً مالياً مجزياً، لقاء التعذيب والسجن اللذين تعرض لهما.
ما أخبث إبليس وجنوده!.
نقولا حنّا
الناس يعرفون هذا الاسم على أنَّ صاحبه مذيع في إذاعة صوت أمريكا. ولا شك أنَّ أهله وأصدقاءه يعرفون عنه جوانب أخرى، لا يطّلع عليها المستمع له من الإذاعة.
وقد كان لي مع الأستاذ نقولا معرفة في سجن الحلبوني، ذلك الصرح الذي يمثّل “الكَرَم البعثي، والسماحة الأسدية”!!.
الأستاذ نقولا فلسطيني الأصل، أقام في سورية، وانتسب إلى حزب البعث، و”ترقّى” فيه إلى أن أصبح رئيس فرع الحزب في الحسكة.
وعندما قام حافظ أسد بانقلابه الذي أطاح برفاق دربه، نشأت معارضةٌ له في صفوف الحزب، وكان من الذين وقفوا معارضين: الأستاذ نقولا حنّا. ولكن ما هي إلا أيام قلائل حتى استتبّ الأمر لحافظ أسد، وإذا معظم المعارضين له في الحزب يتراجعون عن معارضتهم. إنهم مبدئيون! ومبدؤهم هو المحافظة على المواقع والمكاسب والامتيازات! وما دام هذا المبدأ يتحقق بالوقوف إلى جانب المتسلّط فليكن، فأصحاب المبادئ يدورون مع مبادئهم حيث دارت.
لكن اللئيم لم يغفر لهؤلاء أنهم عارضُوا حركته “التصحيحية” بضعة أيام. فبدأ يترصَّدُهم، ويستفيد من كُتّاب التقارير، ثم يتصيَّدهم، ويودِعهم في سجونه. وكان الأستاذ نقولا من نزلاء الحلبوني العتيد.
شخصية الأستاذ نقولا غنيّة بالصفات التي تميِّزُه.
لقد كان يحفظ القرآن الكريم غيباً، ويعمل دائماً على مراجعة محفوظاته وتثبيتها!. ويقول: إنه في صغره تربّى في بعض الكتاتيب التي يعلِّم فيها الشيوخُ تلامذتهم تلاوة القرآن. ولعلَّ والده قد أدخله هذه الكتاتيب، لتعاطفه مع الإسلام، أو لثقته بأنَّ جوَّ هذه الكتاتيب هو الذي يضمن للطفل النظافة الأخلاقية، أو لعلمه بأنَّ القرآن –في أقلِّ الاعتبارات- هو كتاب العربية الأول.
وقد بقي الأستاذ نقولا –كما ذكرنا- على صلة ودِّية عميقة بكتاب الله تعالى، وكان إلى جانب ذلك يحتفظ بنسخة من ترجمة معاني القرآن الكريم ليقرأ فيها كذلك.
وهو –بالمناسبة- يحمل شهادة بكالوريوس في الأدب العربي، وشهادة بكالوريوس أخرى في اللغة الإنكليزية.
وثقافته العامة واسعة، واهتماماته متعددة، ومواهبه كذلك فائقة.
وحديثه عذب، فإذا كان في مجلس فهو الذي يتصدّر الحديث في ذلك المجلس، والآخرون يستمعون إليه أكثر مما يتدخلون، ويكون معظم تدخلهم باتجاه أن يستزيدوه.
وهو شاعر مُجيد، ولقصائده أثر كبير في حياته!.
ففي مطلع أيام الوحدة بين مصر وسورية، أَعلنت الجمهورية العربية المتحدة الناشئة، عن مسابقة لأجمل قصيدة عن الوحدة، فكانت قصيدة نقولا هي الفائزة الأولى، فاستدعي إلى القاهرة لتسلُّمِ الجائزة، وقابل هناك الرئيس جمال عبد الناصر الذي أُعجب به، ودعاه للإقامة هناك، وأصبح مذيعاً في إذاعة صوت العرب، في زاوية يومية اسمها صوت فلسطين.
وفي أحد الأيام قدّم تعليقاً إذاعياً تهجّم فيه على أحد الزعماء العرب، كما هو شأن إذاعة صوت العرب، فاستدعي إلى المخابرات، حيث قيل له: ماذا جَنَيْتَ على نفسك؟! إنَّ إذاعتنا، وإن كانت تهاجم ذلك الزعيم، وغيره كذلك، دائماً، فقد قرَّرت التوقف عن مهاجمته، لأنَّ زيارة مرتقبة سيقوم بها إلى مصر!.
قال: وما يدريني بذلك؟! ألم يكن عليكم أن تخبروني مسبقاً؟!.
المهم أنهم عزلوه من عمله في الإذاعة، ووضعوه تحت الإقامة الجبرية. وبعد حين توسط له بعض أصحابه عند أنور السادات الذي كان يومئذ رئيساً لمنظمة المؤتمر الإسلامي في القاهرة!.
وتمكَّن السادات من رفع الحظر عن حركته، والسماح له بالسفر. وكان يحتاج إلى ثمن بطاقة طائرة ليسافر إلى سورية، فأمر السادات بصرف ثمن البطاقة من حساب منظمة المؤتمر الإسلامي! فقال له المحاسب: يا سيدي كيف نصرف من حسابنا، ونسجل في دفاترنا عَطاءً له وهو ليس بمسلم؟! قال السادات: اصرفْ، واكتب: صُرِفت “للحجّي نقولا!”.
وتمرُّ الأيام ويصبح نقولا رئيساً لفرع حزب البعث في الحسكة، كما ذكرنا، ويقيم الفرع احتفالاً بمناسبة المولد النبوي، فيختار الشاعر نقولا أن يلقي قصيدة من شعره في هذه المناسبة.
لقد أسمعَنا أبيات هذه القصيدة التي تبلغ نحو سبعين بيتاً.
كانت الأبيات الخمسون الأولى إسلامية صرفة، يمتدح الشاعر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يمتدحه أي شاعر مسلم. فلما وصل إلى هذا الحد من القصيدة توقف قليلاً وقال: هنا يبدأ النفاق. وأكمل الأبيات الأخرى، وإذا هي تماماً كما يقول المنافقون من مشايخ السلطة: “رسول الله عظيم، ودينه عظيم، وأخلاقه عظيمة، وإذا أردتم أن تروا ترجمة عملية لهذه العظمة، وأردتم أن تروها متمثّلة في إنسان، فهذا الإنسان هو حافظ أسد”.
* * *
إن تراجع الأستاذ نقولا عن معارضة “الحركة التصحيحية”، ومسايرته للوضع الجديد لم يشفع له، فقد بقي أسد ينتظر الفرصة المناسبة للانتقام منه فكان أن زجَّه في الحلبوني مدة سنتين. وكان من نصيبي أن أتعرَّف عليه هناك.
“الكرُّوم” و”الحسُّون”
حين نُقلنا إلى سجن حلب المركزي، أصبح بإمكاننا لقاء سجناء من نوعٍ آخر، منهم تجار المخدرات، ومنهم السارقون والقَتَلة والهاربون من خدمة العَلَم.. ومنهم من تمتزج تهمته بين “السياسي والمدني”.
وكان من هذا النوع الأخير شاب اسمه أحمد كرّوم. في أواسط العشرينيات من عمره. متوسط الطول، نحيف، تشع عيناه ذكاءً، وتمتلئ جوارحه حيوية، يتحلَّى بعدد من المواهب، مَرِحٌ، ودودٌ، حلو الحديث… ومن كان بهذه الصفات فهو يمتلك جاذبية وقدرة على إنشاء علاقات اجتماعية واسعة، وقد اصطاده البعثيون وجعلوه عضواً ناشطاً في “شبيبة الثورة”، وأصبح يعمل في تدريب الفرق المسرحية الشبيبية، وما يتصل بهذا الاختصاص.
وفي عمله ذاك كوَّن صداقات حميمة مع عددٍ كبيرٍ من “الشبيبة” من الجنسين، وصل بعضها إلى مستوى الفضائح، ومع رجالات الحزب والأمن.
وحين جرى حفل افتتاح “سد الفرات” في صيف 1973 قام بتدريب بعض الفتيات الشبيبيات، لتقديم عروض وأنشطة، من غناء وتمثيل، في ذلك الحفل الساهر!.
وأرسل مجموعة الفتيات برفقة عناصر من سرايا الدفاع شرقاً إلى “الطبقة” لإجراء تدريبات على المسرح نفسه الذي ستقام عليه العروض، قبل يوم الحفل الرسمي.
أما كرّوم نفسه فقد ذهب بمهمة حزبية غرباً إلى اللاذقية، فإذا قضى مهمته توجّه كذلك إلى “الطبقة” ليشارك في تنظيم الحفل.
يقول كروم: كانت المفاجأة أنني نزلت في منطقة “القسطل”، بين حلب واللاذقية، لأتناول طعام الغداء هناك في بعض الاستراحات، فوجدت –يا للفضيحة- مجموعة الفتيات ذاتها التي من المفروض أنها سافرت نحو الشرق إلى الطبقة، برفقة عناصر سرايا الدفاع!!.
* * *
وحدَّثني السيد أحمد كرُّوم أنَّ والده رجل متديّن، وأنه من أتباع الشيخ أديب حسُّون. قلت له: إذاً أنت تعرف الشيخ أحمد بن أديب حسون! قال: نعم، وهو صديقٌ لي. قلت: ما حقيقةُ ما يشاعُ عنه بأنه مرتبط بأجهزة المخابرات؟!.. قال: “هذا الكلام غير صحيح، وقد تدخلت بنفسي قبل ثلاث سنوات من أجل الإفراج عنه، عندما اعتقلته الشعبة السياسية، بعد أن تكلّم على المنبر بكلامٍ يسيء إلى الدولة.”
كلام السيد كرُّوم لم أقتنع به، ولكنني قلت في نفسي: إنه يتكلم بما يعرف. ولعل هناك جوانب لا يدري بها.
ومضى على كلامه نحو سنة كاملة، ثم جاءني إلى غرفتي (في سجن حلب المركزي) وقال لي: لقد سألتني عن الشيخ أحمد حسون، وأجبتُكَ بكذا وكذا! قلت: نعم. قال: كان جوابي يمثِّل ما كنت أعرفُه عنه فعلاً، أما الآن فقد جاءتني معلومة مناقضة تماماً!. قلت: وما ذاك؟. قال: زارني اليوم أحد الأصدقاء الحزبيين، وحدثني أن أحمد حسُّون مرتبط بالشعبة السياسية، وذو موقع مهم فيها، وأن علاقته بها قد ابتدأت منذ أن اعتُقل عندهم قبل سنوات، فقد تمكنّوا، بقليلٍ من الضغط، وفَيضٍ من الإغراءات، أن يشتروه!. لقد أصبح عميلاً لهم، بل عضواً فيهم، يسمحون له بهامش واسع من القول والحركة، بمقابل دورٍ هدّام يقوم به، من “إخباريات” ومن بثِّ إشاعات، ومن تفريقٍ في صفوف أبناء الصحوة الإسلامية، ومن تشويهٍ لبعض المفاهيم الإسلامية أو الشخصيات.
قلت: الحمد لله. لقد كان للرأي السائد عنه في المجتمع، سند متين!.
بقايا الفطرة
في الحديث القدسي الصحيح: “إني خلقتُ عبادي حنفاء كلَّهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتْهم عن دينهم..” رواه مسلم وغيره.
لا بد أن يظهر أثر الفطرة التي فطر الله الناس عليها، الفطرة التي تتوجه إلى عبادة الله تعالى وحده، وإلى فعل الخير ونبذ الشر. وقد ظهر أثر هذه الفطرة في نفوس بعض أهل الجاهلية الأولى، فمنهم من دخل في الإسلام بعدئذ، ومنهم من بقي على كفره!.
ووجود أثر الفطرة لا يعني بالضرورة أن الإنسان خيّر، إنما يعني أن الإنسان لا يمكن أن يتمحّص للشر. وقد تجد الشرير السيء الظالم المعتدي المتغطرس… يرقّ أحياناً، ويشفّ أحياناً، ويصنع الخير أحياناً. فنُقِرُّ بأن ما ظهر منه خير، ونبقى على وصفه بأنه شرّير، حيث يكون الشرُّ هو السمة الغالبة فيه، ويكون الخيرُ كالنقاط البيض المبعثرة في ثوبٍ أسود.
وقد مرّ في الصفحات السابقة لقطاتٌ من الخير ضمن ركام الشرّ في نفوس الأشرار، نشير إلى بعضها ونذكر مزيداً:
فالجلاد أبو طلال يصلي أحياناً ويصوم أحياناً مع كل سوئه!.
والسجّان “بدري” كان يرى قطعة من الخبز مرميّة على الأرض فتثور ثائرته، ويعنّف المعتقلين الذي لم ينتبهوا إلى قطعة الخبز هذه: “ألا تخافون الله؟! تُلقون النعمة على الأرض؟!” ولا يرى في جَلْدْ الأبرياء، وفي سرقة طعامهم، وفي القسوة عليهم… ما ينافي خوف الله!.
و”عدنان الدباغ” مدير المخابرات العامة، آنذاك يدير أعمال الظلم والطغيان والقهر والإذلال لعباد الله… ثم يرقّ قلبه في موقف خاص: لقد جاءت والدتي من حلب إلى دمشق لتزورني بعد سنة أو أكثر لم تعلم فيها شيئاً عن أخباري، لأن الداخل إلى سجون المخابرات –كما يقولون – مفقود، والخارج مولود.
جاءت وهي تحمل حقيبتين من الألبسة والأطعمة، وزن كل منهما نحو عشرة كيلو غرامات، وهي في سنّ يتجاوز الستين. وليس من شأنها أن تسافر مثل هذه الأسفار، وهي المرة الأولى التي تصل فيها إلى دمشق، وقد بذلت جهداً كبيراً في الوصول إلى “الحلبوني” لكنّ الصدمة التي لقيتها هي أنَّ عناصر الفرع لم يسمحوا لها بزيارتي، وحين كرّرت توسّلاتها، وأصرّت على الدخول: قالوا لها: هناك حلٌّ واحد هو أن تأتي بإذن من مدير المخابرات العامة!. ودَلّوها على مقرّه، فذهبت إليه، وقالت له: أيها الأفندي، تراني أمامك امرأة مسنّة، وقد جئت لزيارة ولدي فمنعوني من زيارته، وقد دفعت خمسين ليرة أجرة السفر، وعانيت الصعوبات حتى وصلت إلى الشام!.
فرقَّ لها قلب الطاغية، وأخرج من دُرج مكتبه خمسين ليرة، ودفعها إليها، واتصل بإدارة فرع الحلبوني ليأذنوا لها بزيارتي!.
—————
والرائد بخيتان، رئيس فرع مخابرات حلب، أبدى سروراً بالإفراج عني وعانقني وهنأني!، وهو نفسه الذي يدير شبكة الظلم!.
—————
والحاج أحمد عاصي، هكذا كان يلقَّب، هو عنصر مخابرات في فرع حلب، برتبة مساعد، كان إذا مارس التحقيق مع أحد الموقوفين يحلو له أن يستعمل الكهرباء في التعذيب، وهو من أشد أنواع التعذيب، لكنه كان يحافظ على صلاته، كما يبدو، ويصوم رمضان، ولعله فعلاً قد حجّ البيت الحرام!، وفيه جوانب أخرى من الخير.
—————
وجاسم الطيط، الجلاد الشهير الذي ذُقتُ وإخواني على يديه الويلات، هو نفسه أصبح عام 1980 رئيساً لدورية تقف على حاجز عند مدخل حلب الغربي، وكنت أمرّ يومياً ذهاباً وإياباً عند غُدوّي إلى عملي وعند رواحي، فكانت الدوريات تقف على حواجز عدّة، فتستوقف السيارات، وتطلب هويّات الركاب، تماماً كما تفعل دوريات الجيش الإسرائيلي في فلسطين. وكنّا نتضايق من ذلك بلا شك. وفي إحدى المرات استوقفتنا الدورية التي يرأسها جاسم، وما إن رآني حتى تذكّرني وحيّاني وابتسم، وأذِن للسيارة بالعبور من غير تفتيش!!.
—————
وعبد القادر حيزة المحقق في فرع مخابرات حلب، ودرجة ذكائه وأخلاقه مناسبة جداً لصفات جلاد، لا صفات محقق!. مع ذلك فإنه حين جاء على رأس دورية لاعتقالي من الرقة، حيث كنت حينذاك رئيساً لورشة صوامع الحبوب هناك، وكانت معي زوجتي وطفلتي ذات الأشهر الثلاثة، أوصلنا أولاً إلى مركز انطلاق سيارات “التاكسي” المسافرة إلى حلب، وحجز في السيارة مقعدين، على حسابي، لكنه أوصى السائق بلهجة تهديد واضحة، أن يوصل زوجتي إلى بيت أهلها، وإذا مسّها سوء فسيتحمّل المسؤولية. وتأكيداً لتهديده سجّل رقم لوحة السيارة على ورقة عنده!.
وبعد فهذه نماذج لبقايا خير في نفوس الأشرار، تضؤُل وتشحّ حتى تكون كشعرة بيضاء، في جلد ثور أسود، أو تزيد قليلاً لتكون كشعرات!.
نسأل الله الهداية لعباده، فاهتداء هؤلاء أحب إلينا من نزول عذاب الله فيهم. ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون﴾.
مارس 18, 2021مكتبةالتعليقات على كتاب ذكريات معتقل من غوانتانامو مغلقة
المؤلف: المعتقل حسين عبدالقادر. هذه النسخة ليست المنتشرة في النت. فهي نسخة جديدة. قالوا له: من فضلك خمس دقائق فصارت الدقائق الخمس ستة وعشرين شهرا
مساء يوم الأحد 25/5/2002 وبينما كان يتناول العشاء مع أسرته ، اذ بجرس الباب يدق ليدخل ضابط شرطة يقوم باعتقاله ، وعندما استفسر عن الذنب الذي اقترفه ، أجابه : خمس دقائق وتعود !! .. نُقل الرجل لباجرام ثم لمعتقل جوانتانامو بكوبا ليقضي هناك ستة وعشرين شهرا ، وفي النهاية سلموه شهادة تفيد بأنه لا يمثل خطرا على القوات الأمريكية أو مصالحها في أفغانستان ، ثم أطلقوا سراحه في نفس المكان الذي اعتقل فيه.
المؤلف من مواليد الضفة الغربية سنة 1953 م ، درس المرحلتين الابتدائية والاعدادية بقرية سيلة الحارثية ، قضاء جينين ، وأكمل دراسته الثانوية في مدرسة المدينة – جنين سنة 1973 م ، ثم حصل على منحة دراسية في المملكة العربية السعودية ، وهناك أكمل دراسة البكالوريوس والماجستير في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. سافر لباكستان سنة 1985 م ، وبقي هناك حتى عام 2002م وقت اعتقاله ، حيث كان يعمل مدرسا للطلاب الأفغان والعرب وغيرهم في الجامعات والمدارس والكليات.
مارس 17, 2021حواراتالتعليقات على حوار مع الشاعر الأديب د عبد الحق الهواس {الأدب الإسلامي هو الأصل } مغلقة
أدب السجون في حوار
مع الشاعر الأديب د عبد الحق الهواس الجزء الاول
الدكتور عبد الحق هواس أستاذ جامعي من سوريا أديب وشاعر اشتغل زمنا مديدا في البحث الاكاديمي تخصص دقيق في الادب العربي في مرحلة ما قبل الاسلام وهو حاصل على دكتوراه في اللغة العربية وأدابها درس في عدة جامعات عربية في العراق والسعودية وليبيا واليمن
عضو اتحاد كتاب العرب ورابطة الادب الاسلامي وأحد مؤسسي رابطة أدباء الشام وهو من الادباء المعنيين بالأدب الإسلامي وقضاياه
شاعر فذ له العديد من القصائد التي تحمل النفس الإسلامي وقضايا الأمة الإسلامية
كتب الشعر والقصة وصنف الدراسات الادبية المميزة
صدر لأديبنا
مدلولات أسماء النساء في القصيدة العربيةوالمعلقات –
الرواية والتسمية
اللوحة الضائعة في معلقة طرفة بن العبد
قامة ادبية عالية كان لنا معه هذا الحوار الذي رحب به مشكورا في تواضع جم حلقنا معه في سماء الأدب الإسلامي وقضاياه المعاصرة
الحوا ر في جزئين الاول عن الادب الإسلامي وبعض شجونه
والجزء الثاني ننكش فيه بعض ما نحمله على كاهلها من أسئلة عن أدب السجون …….
فإلى الحوار …
خاص – شبكة واإسلاماه
حاوره :زكرياء بوغرارة
س1كيف بدأ مشوارك الأدبي؟ ولماذا الشعر بالذات؟
وما الذي يعنيه الأدب الإسلامي بالنسبة إليك؟ وما الذي يدل عليه في رأيك؟
بدأ مشواري في المرحلة الإعدادية من خلال ميلي إلى قراءة كتب الأدب ، وكتابة موضوعات التعبير المدرسية . وكان الشعر أقرب الفنون إلى نفسي فهو
ترجمة للذات فيما تؤمن به ، بدلالة اتساقه مع قيم الدين الإسلامي فكراً وسلوكاً .
س2 هل الأدب الإسلامي ظاهرة ثقافية عابرة؟ أم أن هذا اللون من الأدب ذو أصل ثابت، وذو جذور عتيقة وكيف ترى صفة الأديب الذي يكتب الأدب الإسلامي، هل هو أديب مسلم أم أديب إسلامي؟
الأدب الإسلامي هو الأصل ، لأنه الهوية التي تشكلت في جذور الأمة هي التي أوجدها الإسلام . فهو أديب مسلم يعبر عن الهوية تعبيرا دقيقا ملتزما التزاما واعيا وتاما بتفاصيل رسالته للآخر.
وهو إسلامي حين يلتقي من قريب أو بعيد مع قيم الإسلام ومفاهيمه وضوابطه .
س3 أثمة من صلة مميزة بين الأدب العربي والأدب الإسلامي؟
وحسب اعتقادك هل يجسد الأدب الإسلامي جسرا ممتدا بين الأدب والإسلام؟ ثم ما جوهر العلاقة القائمة بينهما؟
هي صلة رحم بحكم التكوين الفكري اللغوي والثقافي الذي شكله الإسلام – والأدب الإسلامي لا يمثل جسراً لأنه لا توجد هوة واسعة وصفتان متباعدتان ، وإنما خروج عن الطريق الواحد القويم وإضاعة الاتجاه الصحيح ، ومن هنا تأتي مهمه الأدب الإسلامي في التوجيه والتقويم وإبانة معالم الطريق ، فالعلاقة اندماجية تنبع من مصدر واحد حين يعبر عن مشاعر واحدة .
س4 ما الذي تراه في شأن رسالة الأديب المسلم؟
وكيف تنظر اليوم إلى حال الأدب الإسلامي مقارنة بحاله في الماضي؟
للأديب المسلم رسالة يستقيها من منابع الإسلام في القرآن والسنة والتراث ، وهي روحية ونفسية وفكرية وفنية بعيدة عن المباشرة الوعظية … والأدب الإسلامي اليوم يحاول أن يعيد ماضيه بروحية العصر وأساليبه الأخاذة ، وقد قطع أشواطاً مقبولة في الطريق الطويل طموحاً وأملاً .
س5 ما هو في رأيك الجنس الأدبي الذي ينفرد بالحظ الأكبر من الأدب الإسلامي المعاصر؟
وهل ثمة من إضافات نوعية للأدب الإسلامي قصب السبق فيها؟
هناك تنافس واضح بين الشعر والرواية وقصور في المسرح … وإضافات الأدب الإسلامي تأتي في ظل الثوابت كالإيمان ، والثقة بالله عز وجل ، وسلامة التفكير ، وتهذيب الحواس ، والصبر على المكاره ، وبناء الحياة العادلة .
س6 ما حقيقة الصلة بين النقد والأدب الإسلاميين في الظرف الراهن؟
حسب اعتقادك، ما نصيب الأدب الإسلامي القديم والحديث من البحث العلمي الجامعي المعاصر؟
النقد في الوطن العربي والأمة كافة ليس بخير، لانشغال النقاد بنقد الغرب وانبهارهم به ، وابتعادهم عن تطوير النقد الذي قدمه لنا علماؤنا القدامى ، والمؤسف أن الغرب أفاد كثيراً منهم ، والأكثر اسفاً أنهم أخضعوه لمعتقدهم الديني … الأمر الذي أثر في تفعيل البحث العلمي كما نراه ماثلاً أمامنا في قلة البحوث الجامعية التي تبحث عن أدب المسلمين .
س7 ترى هل سبق أن قرأت بعض السير الذاتية الأدبية الإسلامية، نثرية كانت أم شعرية؟
السير الذاتية من أجمل السرديات في الأدب لأستيعابه تجارب إنسانية ومتعددة وحافلة بالشواهد . والباحثون العرب مقصورن في الباحث بهذا الفن كما لاحظ هذا البحث عبد الفتاح أفكوح والغرب يتهمنا بأننا نجهل أدب السيرة الذاتية ، وهذا محض افتراء بقطع النظر عن التسمية كان عهدي بالسيرة علميا في مرحلة الماجستير على يد الأستاذ الدكتور عبد الجبار المطلبي .
فقد أعادني إلى ماكتبه طه حسين ، وربما تكون اعترافات أوغسطين هي المؤسسة لهذا الفن الأدبي . وأعتقد أني شغفت بالسيرة النبوية الشريفة فكانت معيناً ثراً لي قبل أن أطلع على ماكتبه ابن سينا عن حياته أو عبد الله بن بلقين وتوفيق الحكيم في عودة الروح .
س8 لمن تقرأ من الشعراء الآن؟ وبمن مِن الشعراء تأثرت في البدايات؟ وكيف هو رضاكم عن المشهد الشعري الذي قدَّمتموه وقدمه مجايلوكم عموماً؟ هل وصل إلى طموحاتكم؟ ثم كيف ترون المشهد الشعري الشبابي حاليًّا، هل واصل تطوير ما بدأتم به؟
لا يوجد تحديد مقصود لشاعر بعينه ، لكن أبا العلاء المعري يستهويني دائما هو والبحتري والمتنبي ، في بدايات تأثري كان بأبي القاسم الشابي وروحه المعذبة … لست راضيا عما قدمته ومازلت أبحث عن القصيدة المفقودة لا شك أن قصيدة وطن الأنبياء ونشيد لن يموت العزم فينا ، وقصيدة سلاماً أيها الوطن نالت بعضاً من رضائي .
مارس 17, 2021مع الخاطرةالتعليقات على 📖 خواطر أسير الشيخ داود خيرت مغلقة
خواطر أسير 🔗
📌ما أجمل ان تعيش وأنت في واقع لا يوجد فيه دافع واحد للعيش ، تعيش لتتحدى الصعاب ، تعيش لتعمر الخراب ، تعيش لتبعث الأمل الذي فقده كثيرا من الناس تعيش لأنك صاحب هدف وحامل لقضية ، إنها قضية العدالة التي افتقدها الناس ، تعيش لأن الله امرك أن تعيش عبد له ، فأنت بالعبودية تكون لحياتك قيمه ، ولوجودك فائدة .
📌تعيش على الأمل ، الذي لا يعرفه سوى من عرف الله ربا والاسلام دينا ، حياتنا لا يوجك بها يأس أو قنوط ، فإننا دائما ننتظر الخير ، وننتظر الأفضل فإذا صلينا الصبح ننتظر الظهر ثم العصر ثم المغرب والعشاء ثم ننتظر يوم الجمعه ذلك العيد الأسبوعي ثم أعياد المسلمين من فطر وأضحى ، وكذلك رمضان وغيره من مواسم الخير ، فالمؤمن دائما ينتظر الخير ويأمل في الحصول عليه ، فأحوال المؤمن كلها خير حتى عند نزول المصائب جعلنا الإسلام نعالجها بالصبر الجميل الذي يحول المصيبة إلى رحمه وخير ، حيث نأمل في أجر الصابرين الذي هو عند الله بغير حساب ، فالمؤمن إذا خسر الدنيا كلها لا ييأس ولا يقنط ، فما عند الله خير وأبقي ، والدنيا إلى زوال فلا نبالي بها لأنها احقر عند الله من جناح بعوضه.
📍لا نيأس لأننا وإن قامت القيامه مطالبون بغرس الخير كي نحصده عند الله في الآخرة .
📌كيف يفقد الأمل من يعلم أن له رب رحيم أرحم به من امه ؟! نعم أرحم بنا من امهاتنا فهو الذي خلق الرحمة في صدرها ، بل إن هذه الرحمه هي جزء من مليارات الأجزاء من رحمة الله تعالى بنا ، ………..
📌🔗.إذن لماذا يبتلينا ؟! يجب أن نعلم جميعا أن الله تعالى غني عن تعذيب عباده ولكن لحكمه أعطى ولحكمه منع وما ابتلى عباده إلا رحمه بهم حتى نعلم حقيقة ضعفنا ونحقق تمام اليقين في الله والتوكل عليه في دفع ما يضرنا . ونحقق تمام العبودية التى تعنى تمام الذل مع تمام المحبه.
🔗كيف ييأس من يؤمن باليوم الآخر ، يوم الدين ، يوم الوقوف بين يدي الله رب العالمين ، ليعلم الصادقون صدقهم ويرى المقصرون مغبة تقصيرهم .
🔖خواطر أسير الشيخ داود خيرت فك الله بالعز اسره وكل المأسورين
مارس 16, 2021ذاكرة ضد النسيانالتعليقات على قصة إسماعيل القمري مع الإعتقالات..! مغلقة
قصة إسماعيل مع الإعتقالات..!
صاحب دار نشر القمري
إسماعيل أُعتقل لأول مرة في 2007، كان عنده وقتها 16 سنة.
تاني مرة كانت في 2009 وخرج بعد قيام ثورة يناير بشهر، تحديداً 25 فبراير 2011.
ثالث مرة كانت في 2015 وخرج في 2016.
رابع مرة كانت في 2017 وخرج في نفس السنة.
خامس مرة كانت في شهر 10 سنة 2018 اختفى قسرياً لمدة 120 يوم وظهر في النيابة شهر يناير 2019 وأخد إخلاء سبيل 3 نوفمبر 2020، أختفى بعدها قسرياً لمدة 45 يوم، وظهر في النيابة 16 ديسمبر على ذمة القضية 810 بتهمة الانضمام لداعش!
إسماعيل طول فترة حياته دخل 6 سجون ( العقرب – ليمان طرة – أبو زعبل شديد الحراسة – استقبال طرة – القناطر – سجن الجيزة المركزي) واتصنف 5 تصنيفات عكس بعض في كل مرة أعتقل فيها ( سلفي – قاعدة – إخوان – داعش – يساري)!
إسماعيل بشهادة الجميع أول واحد من مشاهير السوشيال ميديا المحسوبين على الإسلاميين اللي تصدر لأفكار الدواعش وإتحمل قذف وسب ومقاطعة كثير من مشاهير الإسلاميين وقتها.
إسماعيل باحث وناشر مستقل ليس له أي إنتماء لأي تيار موجود على الساحة؛ لكنه هاضم لأفكار جميع التيارات الموجودة على الساحة بحكم معشرته ليهم داخل السجون وخارجها.
ربنا يفك أسره ويزيل عنه ظلم الظالمين ويرده إلى أهله هو وجميع المظلومين عاجلا غير آجل، ويرحم الله عبداً قال آميناً.
مارس 16, 2021مذكراتالتعليقات على لأنهم قالوا: لا -مذكرات سجنية الحلقة الرابعة مغلقة
جاسم وشيخو وأبو حميد
هذا العنوان ليس اسماً لمسلسل إذاعي أو تلفزيوني، بل هو عنوان لمسلسل التعذيب في فرع مخابرات حلب في الحقبة التي كنت فيها ضيفاً على ذلك الفرع.
جاسم هو زعيمهم. لا أعرف اسمه بالكامل. يقال إنه جاسم الطِّيط، ويقال: جاسم سلطان. ولكنه يُعرف عادة باسمه: جاسم، أو بكنيته: أبي الفوز.
لقد حَرَمَهُ الله من أي جمال في خلقته، لكنه كان صاحب ذكاء خاص في اقتناص الفرص، كما سأوضِّح.
وكان يتباهى في أنَّه تخرّج على يديه الوزير الفلاني، أو المسؤول الكبير الفلاني، بمعنى أنهم اعتُقلوا عنده قبل تولِّيهم وظائفهم، أو بعد إخراجهم منها، ونالوا من يديه القويَّتين سيلاً من الخيزرانات، وغير ذلك مما يجود به حذاؤه، ولسانه كذلك!.
ويبدو أنه أطول الجلادين مدةً في هذه المهنة الشريفة، وهو يحسّ بالحرج، بل بالخوف الحقيقي وهو يسير في الشارع، أو يدخل بيته، أو ينام فيه!، أو يتسوَّق لعياله… بل يخاف على أولاده كذلك… فأعداؤه كُثُر، وكل من تلقّى منه تعذيباً فهو عدوٌّ له، ولا يأمن جاسم أن ينتقم منه بعض الأعداء!.
ولهذا فقد اتخذ لنفسه “استراتيجية أخرى” وهي أن يمتنع عن اصطناع أعداء جدد بقدر المستطاع، فإذا لم يكن مضطراً فإنه يتهرب من ممارسة التعذيب المباشر، بل يدفع إلى هذه المهمة بعض شركائه مثل شيخو وأبي حميد ومحمد وردة (الحمصي)… وفوق ذلك فإن استراتيجيَّته تقتضي أن يمارس النهب بأسلوب آخر. فهو يعيش في حلب منذ سنوات طويلة ويعرف كثيراً من تجارها ووجهائها… فكلما جاءه أحد المعتقلين سأله ما اسمك وما اسم أبيك، وما اسم أمك؟…
ثم يسأله: ما القرابة بينك وبين فلان، وفلان، وفلانة؟!. فإذا عرف أنَّ فلاناً عمه أو خاله أو ابن أخته أو… قام بجولة عليهم في أماكن عملهم أو بيوتهم الخاصة ليأخذ منهم الرشاوي بمقابل أن يحسن التعامل مع قريبهم المعتقل!. وقد تكون الرشوة نقوداً أو تكون ساعة يد، أو قطعة أثاث، أو بعض الألبسة… حسب اختصاص كل من هؤلاء الأقرباء.
أما “شيخو” فهو كما يقول عن نفسه: “شيخو أبو الشوارب”، أسمر البشرة، طويل القامة، له شاربان كبيران جداً، أسودان لامعان، يجعلان شكله مخيفاً.
وهو كردي، من قرية كفر جنّة، متعصب لقوميته، في لهجته العربية أثر واضح لكرديته، فهو يخلط مثلاً بين المذكر والمؤنث. وعلى الرغم من حبه الشديد للتعذيب، يراعي المعتقلين الأكراد قدر استطاعته!.
في أحد الأيام كان شيخو مناوباً، ينام في الفرع، وعند شروق الشمس سمع خبطاً على باب إحدى الغرف، واستمر الخبط حتى قام شيخو من نومه غاضباً وأتى بالخيزرانة معه ليؤدِّب هذا الذي يتجرَّأ على إيقاظه في هذه الساعة المبكرة، وقبل وصوله راح يصرخ: من هذا الذي يدق الباب؟ فجاءه الجواب: “آس. آس” وهي بالكردية تعني: “أنا. أنا” إذاً فالمعتقل هو أخونا طالب كلية الطب مستو، فابتلع شيخو غضبه، وظهرت البسمة على وجهه، وفتح الباب للأخ مستو حتى يقضي حاجته.
Image processed by CodeCarvings Piczard ### FREE Community Edition ### on 2019-07-10 12:08:39Z | | ÿÿÿÿÿÿÿÿÿÿÿÿÿÅWÑGÿ
وأكثر من مرة كان يؤتى ببعض المعتقلين الأكراد، وقد يؤمر شيخو نفسه بتعذيبهم، فيقوم بذلك، إذا كان المحقق فوق رأسه، لكنه في غياب المحقق كان يحاول أن يكرمهم.
ومن المآسي الصغيرة! أن عدد الملاعق التي خصصت لنا، كانت أقل من عددنا، وبعض الطعام كالمرق، يصعب تناوله من دون الملاعق. وكان أحد إخواننا في وضع صحي خاص، فكنّا نكرمه بأن نخصّص له ملعقة!. ولما شعر شيخو بذلك، خاطبَ أخانا مستو، باللغة الكردية: لم تعطون هذا العربي ملعقة؟! وظهر الغضب المكبوت في وجه مستو، ولما ذهب شيخو قام مستو بترجمة ما سمعه!.
وشيخو هذا أمِّيّ، لكنه يضع في جيب السترة على صدره، ثلاثة أقلام أو أكثر! وإذا رفع سماعة الهاتف، وسأله الطرف الآخر: مَنْ؟ أجاب: شيخو أبو الشوارب.
وقد قرّرت إدارة الفرع إجراء دورة محو أميّة لعناصر الفرع، ومنهم شيخو هذا، فكان يحضر الدروس لكنه لا يفهم شيئاً، وإذا أعطاه المدرّس وظيفةً ليكتبها، طلب من أحد المعتقلين أن يكتبها عنه! فإذا قدّم الوظيفة للمدرّس تبيّن له أنها ليست بخط شيخو، فيطلب من إدارة الفرع معاقبته! ثم يأخذ وظيفة أخرى، ويحاول أن يكتب، وكلما كتب حرفاً أو رقماً بدأ يشتم: “يلعن أبوه هذا أربعة” أي يلعن الله الرقم 4. ما أصعب كتابته! (ونكتفي بهذا المثال عن أمثلة أخرى فاحشة).
وكان أحد إخواننا المعتقلين ينصح شيخو أحياناً فيقول له: يجب أن تترك الخمر، فالخمر وبال عليك في الآخرة، وهدم لصحتك!. فيقول: لا. أنا مرضت وذهبت إلى الطبيب فكتب لي في الوصفة: “واحد فروج، وواحد عرق”! قلت له عندئذ: وهل صرفتَ الوصفة من الصيدلية أم من الخمارة؟!. فنظر في وجهي ولم يُحِرْ جواباً!.
ويقصّ علينا هذه القصة التي تصور شخصيته، فيقول:
مرة طلب مني النقيب أن أعذِّب أحد الموقوفين، وصعد النقيب إلى غرفته في الطابق الأعلى، فوضعتُ القيد في يَدَي الموقوف (المعتقل) حتى تقلَّ حركته، وأتمكن من ضربه كما أريد. ورحت أضربه بالخيزرانة مرة، وبعصا غليظة مرةً، وبعقب الحذاء مرة ثالثة.. ولم أشعر إلا وقد انكسرت يده كسراً ظاهراً، وهو يصرخ من شدة الألم. خفت أن يعاقبني النقيب على ذلك. فاتصلت به هاتفياً: سيدي، هذا الذي قلتَ لي: عذِّبْه، لقد انكسرت يده.
(وأراد المحقق أن يطمئنه فقال له): “يلعن أبوه. خلّي تنكسر إيدُه التانية” : فلتنكسر يده الثانية.
فقال شيخو: حاضر سيدي.
وراح يضرب الضحية بقسوة بالغة حتى كسر يده الثانية. استجابة لما فهمه من كلام النقيب!.
قلت لشيخو: وكيف تفعل ذلك؟! قال: النقيب ربّي! فإذا قال لي: اكسر يده فأنا أكسرها!.
ونكتفي بهذا الحديث عن شيخو لننتقل إلى الجلاد الثالث:
أبو حميد: هو الآخر كردي، لكنه يتكلم العربية بلهجة حلبية تامة، مع احتفاظه بلغته الكردية.
وهو ضخم الجسم، جميل الهيئة، قوي البنية جداً. كان يعمل -قبل دخوله هذه الوظيفة- عتّالاً ينقل الحمولات التي يعجز عنها العتّالون الآخرون!.
وإذا أُمر بالتعذيب قام “بواجبه” على أكمل وجه، لكنه إذا غاب عن أعين المحقق بدا لطيفاً مهذباً.
كان هو الآخر أميّاً، فكنّا نكتب بعض الرسائل إلى أهلينا وأصدقائنا، ونرسلها مع أبي حميد، بمقابل خمس ليرات للرسالة الواحدة، ونشرح له العنوان فيوصلها بأمانة، وقد يأتينا برسالة جوابية بمقابل أجر آخر، يأخذه منهم.
وأحياناً يحمل رسالتين أو ثلاثاً في آنٍ واحد. وبما أنه أمّي، كنا نخاف أن يخطئ فيسلِّم الرسالة إلى غير صاحبها، فننبهه إلى ذلك فيقول: لا تخافوا. رسالة فلان هنا في هذا الجيب، ورسالة فلان في جيب القميص، والرسالة الثالثة في الجيب الخلفي. وبالفعل كان يصيب الهدف!.
ومرة اعتُقل مجموعة من عصابة تضم أطباء فمَنْ دونهم، من مستشفى حلب العسكري. وكانت هذه العصابة تأخذ الرشاوي من المواطن حتى تهيّئ له سبيل الإعفاء من الخدمة العسكرية…
في أثناء التحقيق مع أحدهم يقول المحقق حيزة: ألا تخجلون على أنفسكم تأخذون الأموال من أجل تمكين المواطن من التهرب من خدمة العلم؟!.
فيتدخل أبو حميد فيقول: سيدي. هل تظن أن كل الناس مثلي ومثلك، يعيشون على رواتبهم؟!.
وقد ذكرتُ آنفاً كيف كنا ندفع الرشاوي لأبي حميد. أما الحيزة فقد كانت رشاواه بأسعار باهظة.
فقد جيء مرة بمهرِّب حشيش على مستوى دولي (يهرِّب بين الدول)، وضبطت معه بضعة عشر كيلوغراماً من هذه المادّة. فلما وصل إلى الفرع ووضع تحت التعذيب، أشار بطرف عينه إلى المحقق، والتقط المحقق الإشارة، فصَرف الجلاد من الغرفة.
ثم كتب التحقيق بالشكل الذي يرضي المهرِّب. ثم طَلَبَ له فطوراً -على حساب المهرِّب- وهو “مامونية”، من عند المستّت!.
ووضعه المحقق في غرفتنا بضع ساعات إلى أن أُفرج عنه. وقد حدَّثنا أنه دفع للمحقق ثلاثة آلاف ليرة مقابل ذلك!.
رئيس فرع الحلبوني
عندما نُقِلنا من معتقل فرع المخابرات في حلب إلى فرع الحلبوني في دمشق، في مطالع أيلول 1973م، كان رئيس الفرع هو الرائد عارف نصر، وهو شخصية غامضة، يُدير الأمور من وراء جدار!. فقد بقينا “ضيوفاً” عليه مدة تزيد على أربعة عشر شهراً، ولم نجتمع به مطلقاً. نعم قد نراه خِلْسة، ونحن نتسلّق أعالي النوافذ، فربما صادف ذلك دخولَه إلى مبنى الفرع عبر الساحة الواسعة، فكان دخوله يقترن “بخشوع” ظاهر من السجانين والحرس.. إذ إن مِشْيته تدل على تجبّر وغطرسة.
كان يدير الفرع بشكل مباشر اثنان:
المحقق آصف يتولى أمور التحقيق والتعذيب ويُعدُّ ملفّات الموقوفين، ويرفع التوصيات بشأن التوقيف (الاعتقال) والإفراج.. وهو ضابط في مطلع الثلاثينيات من عمره، محدود الثقافة والذكاء!.
والمساعد شلحة (لا أعرف اسمه الأول)، يتابع الأمور الإدارية، من دوام للعناصر، وترتيب الحراسة، وتنظيم خدمات الطعام وغير ذلك. وهو كذلك ضعيف الثقافة والذكاء، قاسٍ جَلف. قد يتولى التحقيق في بعض المسائل الصغيرة.
وهو يعترف –بلسان حاله- أن الإخوان هم الأكثر نظافة في أخلاقهم وسلوكهم.. وفي طعامهم وثيابهم ومكان إقامتهم كذلك. فإذا جاءت توصية بأحد المعتقلين الجدد، فإن المساعد شلحة يضع هذا المعتقل الجديد في غرفة الإخوان، تكريماً له، وحفاظاً على نظافته البدنية والخلقية.
ولسنا ندري شيئاً عن العلاقة بين رئيس الفرع وبين كل من “آصف” و”شلحة” هل هي علاقة مودّة، أم علاقة إدارية وظيفية فحسب.
——————–
في أواخر العام 1974م حدث تغيير في إدارة الفرع، فقد عيّن رئيس جديد له، إنه الرائد محمد أحمد فتح الله.
كان متوسط الطول، أبيض البشرة، هادئاً ورزيناً.
وهو من منطقة يبرود -بين دمشق وحمص- وقد كان قبل ذلك “بمنصب القاضي الفرد العسكري”.
وكان مجيئه محاطاً لدينا بالغموض، فهل سيكون كسَلَفِه أم أقلّ سوءاً، أم أشد؟!.
واستمرّ الأمر نحو أسبوعين حتى بدأنا نلحظ ثمرات التغيير:
1- أجرى رقابة على طعام الموقوفين، فعلم أن السجانين يسرقون أفضل الطعام، ويوزعون الباقي!. وأَمَر بسجن الرقيب أول أحمد سيفو (وهو ابن أخٍ للوزير شتيوي سيفو) بسبب سرقته بعض الطعام.
2- أمر بإعطاء الموقوفين حق الخروج إلى الباحة للتنفس، مدة نصف ساعة يومياً. (كنّا قبل عهده نخرج مرة واحدة في الأسبوع، لمدة عشر دقائق!).
3- اطّلع على ملفّات الموقوفين فوجد أنهم مظلومون، وليس هناك مسوّغ لاعتقالهم، فبدأ يرفع الكتب إلى إدارة المخابرات العامة يوصي بالإفراج عنهم. فاستجابت الإدارة فأفرجت عن بعض أصحاب القضايا الفردية البسيطة.
4- عندما لم تستجب الإدارة بالإفراج عن معظم المعتقلين، رفع كتاباً يقول فيه: إذا لم تستجيبوا، فلا أقلّ من أن تنقلوهم إلى سجون مدنيّة، حيث يمكن أن ينالوا بعض حقوق السجناء!. فاستجابوا لطلبه هذا، وتم نقلنا فعلاً. وكان نصيبي من سجن حلب المركزي، وخفّت بذلك وطأة السجن، فأين سجون المخابرات من السجون المدنية؟!.
لكن إدارة المخابرات العامة وجدت أنَّ هذا الرجل لا يصلح أن يكون رئيساً لفرع مخابرات، فمثل هذا المنصب يحتاج إلى ظالمٍ فظّ غليظ القلب حاقد لئيم.. فلم تمض سنة على توليه منصبه هذا حتى تم نقله إلى مكان آخر!.
الجلاد أبو طلال
إنه من أشهر جلادي فرع الحلبوني. لكن الاقتصار على وصفه جلاداً، لا يوضح حقيقة شخصيته، بل إن فيه بعض الظلم له.
بلغ من شهرته أنَّ بعض عناصر المخابرات في فروع أخرى، غير الحلبوني، يكنيّ أحدهم نفسه بأبي طلال تيمّناً بأبي طلال الحلبوني، ويطيل شاربيه ليكونا مثل شاربي أبي طلال.
والقلائل هم الذين يعرفون اسمه الحقيقي، فيكتفون بكنيته: أبي طلال.
اسمه هشام الشيخ نجيب، ويقال: إنَّ أباه شيخٌ بالفعل، لعله إمام مسجد مثلاً. وهو دمشقي.
وشخصيته غنية بالصفات المتناقضة، أو لنقل: بالخطوط ذات الألوان المختلفة.
تلمس فيه بعض الذكاء، وبعض العنف، والقدرة الكبيرة على التعذيب مع الروح الساديّة، وبعض التديّن، وبعض الوطنية، وكراهية حزب البعث الحاكم، وفيه قوة في الشخصية، وتعدد في المواهب، وفيه بعض الطِّيب، وبعض الجهل.
وحين نذكر بعض مواقفه تظهر تلك الخطوط المتباينة.
أحياناً يطلب المحقق من أبي طلال أن يقوم هو بدور المحقق في بعض القضايا الصغيرة، وعندئذ يبدو ذكاؤه، إذ يستطيع استخلاص الحقائق من دون أن يضرب المتهم صفعةً واحدة أو سوطاً واحداً. قد يهدد، وقد يمسك بيده الخيزرانة ويلوح بها ويضرب بها الأرض أو الحائط.. ويرفق ذلك باستدراج الموقوف (المتهم) حتى يستخرج منه الاعتراف المطلوب.
وإذا أصيب أبو طلال بمرض أو أصيب أحد أفراد أسرته فإنه يقول: لا شك أنَّ ذلك نتيجة دعاء أحد المظلومين الذين تولّيت تعذيبهم.
وإذا اقتضت منه مهنته أن يعذب أحد المتدينين، ولم يكن المحقق فوق رأسه، فإنه يختار أحد المسجونين غير المتدينين فينسب إليه ذنباً ما، ويفرغ فيه شحنة الغضب، حتى إذا وجد أنَّ الغضب ذهب عنه أمسك بالمتدين ليضربه ضرباً خفيفاً، أو يكتفي بتوبيخه…
وإذا جيء بموقوف من جنسيات غير سورية، وبخاصة إذا كان أوروبياً أو أمريكياً فإنه يتفنَّن في تعذيبه بمبادرة منه! وإذا سئل عن ذلك قال: إن أبناء وطننا يلقَون سوء العذاب عندنا، فهؤلاء أَولى!.
ومرة يخطر في باله أن يصلّي لله تعالى، فيقف في باحة السجن ويصلي علناً، لا يخاف أن يراه أحد!.
ومرة يعلن إفطاره في رمضان، فيضع -في باحة السجن كذلك- كرسيين متقابلين، يجلس على أحدهما، ويضع الطعام على الآخر ويأكل!.
وهو صاحب “مَقْمَرة” أي مقهى للعب القمار، يعمل فيها خارج أوقات الدوام، ويشغّل فيها بعض الشباب الأشقياء، ويستغلّ وظيفته في حماية المقمرة والعاملين عليها.
ومرة كان في أحد النوادي الليلية (الكباريهات) واشتبك مع عناصر من سرايا الدفاع، لا أعرف سبب الاشتباك، لكن عناصر المخابرات (من روّاد الكباريه) وقفوا مع أبي طلال، ضد عناصر السرايا (من روّاد ذلك المكان) وتبادلوا إطلاق النار على الخفيف فأصيب بساقه، ونقل إلى المستشفى، وبعد الشفاء بقي يعرُج عرجاً خفيفاً، ولعل هذا العرج استمرّ معه وشكّل عاهة دائمة.
وكان يمتاز بضربات معينة يعذّب بها الموقوفين. وذلك بأن يمسك الموقوف من مقدمة شعر رأسه، ويحرّكه يمنة ويسرة، فيستجيب ولا يستطيع المقاومة، ثم يشده بقوة نحوه فيرتمي إلى الأمام قليلاً، فيضربه ضربةً قوية بساعده (قرب المرفق) فيرميه أرضاً بقوةٍ قرب الجدار، وعندئذ يدوس بعقب حذائه على رأس الموقوف ويضربه عدداً من الضربات المؤلمة المهينة… ثم يخرج مزهوّاً بانتصاره!.
وهو يعبّر بطرق مختلفة عن كراهيته لحزب البعث وقيادته، وعن ضعف ولائه للسلطة التي يخدمها! فبين الحين والآخر تضبط السلطة بعض المتسللين من العراق عبر الحدود بحجة أنهم معارضون لحكم صدام حسين وطالبون للجوء السياسي في سورية، فكانت المخابرات تعتقلهم وتزجُّهم في سجن الحلبوني لتحقق معهم فتطمئن إلى وضعهم، أو تتهمهم بأنهم مدسوسون لإحداث شغب في سورية… فحين يقول أحدهم إنني قادم لطلب اللجوء السياسي كان أبو طلال يشتمه ويقول له: أعندنا تطلب اللجوء السياسي! والله نحن لا نشبع الخبز، فكيف نطعم غيرنا؟!.
ومرة اعتقل شاب عراقي يدرس في جامعة دمشق اسمه كُوسْرَتْ، يقول: إن أباه كردي وأمه عربية، وهو بعثي مرتبط بالقيادة القومية –مكتب العراق في دمشق. وحصل أن دارت شبهة حوله بأنه متعاون مع بعث العراق، فاعتقلته المخابرات، وجيء به إلى “الحلبوني” وبدأ به التعذيب، وكان الذي يعذبه أبا طلال، فيقول كوسرت: والله يا رفيق أنا بعثي، واسألوا عني القيادة القومية، فيجيبه أبو طلال: “كذا” عليك وعلى القيادة القومية.
يحدثنا كوسرت فيما بعد، وهو يروي قصة تعذيبه فيقول: ما كنت أصدّق أن تشتم القيادة القومية لحزب البعث داخل فرع المخابرات، وأن تصدر الشتيمة من أحد عناصر الفرع!.
ومن القصص الطريفة التي حدثنا بها أبو طلال قصتان:
الأولى تدل على بقايا القيم الدينية في نفسه، وهي أن شاباً اعتقلته المخابرات في الصباح الباكر من أحد الأيام، في منطلق الباصات وهو يريد السفر، وجيء به إلى الحلبوني، ووجهت إليه بعض التهم، وطُلب من أبي طلال أن يقوم بالتحقيق معه. يقول أبو طلال: حاولت معه بالحسنى، وبالتهديد، ثم بالضرب المبرّح… ولكنه لم يعترف بشيء، فوضعته في الزنزانة بانتظار جولة أخرى في اليوم التالي، وكنت يومها مناوِباً (أي عليه أن يبيت في الفرع نفسه) ومع شروق الشمس سمعت خبطاً على باب إحدى الزنازين، فاستيقظت لأستجلي الخبر، وإذا الشاب الذي أتحدّث عنه هو الذي يخبط الباب. فتحت له الباب وقلت له: ما شأنك؟! لماذا تطرق الباب في هذه الساعة المبكرة؟! قال: أريد أن تضربني، أريد أن تعذبني فإنني أستحق ذلك وأكثر!!. قلت في نفسي: هل أصيبَ الشاب بالجنون؟! قلت له: احكِ لي قصتك، فقال: أما التهم التي وجهتموها إلي فأنا منها بريء بريء. ولكنني أستحق الضرب والتعذيب لأن أمي لم تكن راضية عن سفري، وقد أرادت منعي من السفر فعصيتها وخرجت، فهذا نتيجة غضبها، وأسأل الله أن يغفر لي.
أما القصة الثانية فتدل على مدى الرعب الذي يعيشه عناصر المخابرات، إذ صار لهم في المجتمع أعداء كثر. يقول: كنت يوماً مناوباً في الفرع. وكان علي أن أبيت هناك، لكنني كما أفعل مرات كثيرة، أبقىٰ حتى منتصف الليل ثم أذهب إلى بيتي، وهو قريب من الفرع، ويتحمل عني زملائي الأعباء إلى الصباح، وهي في الغالب أعباء شكلية.
ووصلت إلى البيت ، وبعد دقيقتين سمعت قرعاً بالباب، فقلت: لا شك أن أحد الناقمين كان يترصَّدُني، والآن يريد قتلي أو إيذائي، فلقّمتُ المسدس، وهيأت نفسي لأفتح الباب وأعاجل الواقف خلفه بضربة شديدة تجعله يتدحرج على الدرج ثم أرى إن كان هناك حاجة لإطلاق النار. وفعلاً فتحت الباب سريعاً ووجهت لكْمة قوية لهذا الطارق فتدحرج وهو يقول لي: مالَكَ يا أبا طلال؟ أنا صديقك فلان!!.
لقد كان صديقي فعلاً، وكان يعلم أني مناوب في الفرع، فجاء إلى هناك ليزورني ويسهر معي، فلما قيل له: الآن ذهب إلى البيت، لحق بي، وكان ما كان!.
الشيخ الشاعر يوسف عبيد
كان من حظّي أن تعرَّفت إلى هذا الشيخ الشاعر في سجن حلب المركزي. فبعد فترة وجيزة من نقلي إلى هذا السجن، تم نقل اثنين من السجناء السياسيين، فصرنا ثلاثة في غرفة واحدة: أنا، والشيخ يوسف، وعبد العزيز ج، المحسوب على البعث العراقي.
الشيخ أبو ضياء: يوسف عبيد رجل ضرير، ضخم الجسم، خفيف الظلّ، يحفظ القرآن الكريم، ويحمل إجازة (بكالوريوس) في الشريعة، وهو شاعر مجيد، ينتمي إلى حزب التحرير. ويكاد كل شعره أن يكون شعراً ملتزماً، بل إنَّ السبب المباشر في اعتقاله كان قصيدة قالها في هجاء حافظ أسد واتهامه إياه بالخيانة.
ولا غرابة أن يكون يوسف عبيد من فحول الشعراء، فهو من قرية “عين النخيل” من أعمال منبج وما أكثر الشعراء الفحول المنبجانيين، بدءاً من البحتري، ومروراً بعمر أبي ريشة، ثم محمد منلا غزيّل وعبدالله عيسى السلامة… ولعلّ منبج قد أنجبت شعراء كُثُراً آخرين، فلست ممّن يتابع تاريخ الأدب والحركة الأدبية.
* * *
بعد حرب تشرين “التحريرية”! قام وزير خارجية الولايات المتحدة هنري كسنجر، بزيارات، وُصفت بالمكّوكيّة، بين واشنطن وتل أبيب ودمشق. وفي إحدى المرات طال الفاصل بين زيارةٍ له وأخرى، فقد أمضى مدة تزيد على الشهر في الولايات المتحدة، تزوّج حينَها من “نانسي”، وعاد إلى دمشق، في استئناف لرحلاته المكّوكية.
الشاعر يوسف عبيد نظم قصيدة بعنوان “شهر العسل”، على أنه لزيارة كسينجر هذه، بصحبة عروسه. ابتدأ الشاعر قصيدته واصفاً العروس وعروسه:
بوزير أمريكا بِرَكْبِ عروسه الحسناءِ سيِّدةِ الغواني
وفي مقطعٍ آخر يخاطب رأس النظام:
يا مَنْ تسير وراء أمريكا ذليـل الـرأس، منقاد اللجـامِ
وترى الوسام الأجنبي بصدرك الخاوي فتفخر بالوسـام
وتَعَبُّ كأس الغدر خلف ستائر الإجرام، والجولان ظامي
لا تَحسَبِ الأوطان غافلةً عـن اللُّعَبِ المُدمِّرةِ الجسـامِ
وهكذا إلى آخر سبعين بيتاً.
ويبدو أنه ألقى هذه القصيدة في عدد من السهرات والتجمعات. فاعتقلته المخابرات، وسجنته في فرع مخابرات حلب، ثم في الحلبوني، ثم كان مستقرُّه في سجن حلب المركزي. وفي كلِّ سجن من هذه السجون كان رؤساء هذه السجون، ومحقّقوها، وسجّانوها، وسجناؤها… يُعجبون بالقصيدة، ويلتذّون بسماعها، لكنَّهم لا يجرؤُون غالباً أن يُبْدوا إعجابهم بها وبقائلها، وشماتتهم بـ “بطل الجولان” فكانوا يحتالون لسماع القصيدة مرة تلو الأخرى.
ففي بداية الاعتقال استمع المحقق إلى القصيدة كاملةً من الشاعر، وبعد ذلك قال كلاماً يلوم فيه ذلك الشاعر لَوْماً رسمياً!. يقصُّ أبو ضياء علينا قصة جلوسه أمام هذا المحقق:
وهكذا في قصيدة جديدة، يردُّ فيها على المحقّق “الموظف”.
وفي الحلبوني كذلك، كان يأتي عنصر المخابرات، من سجّانٍ أو محقّق، أو رئيس حَرَس… فيقول: هل صحيح يا أبا ضياء أنك نظمت قصيدة في هجاء الرئيس؟! فيقول: نعم. فيقول: هل يمكن أن تسمعنا إياها؟!.. فيسمعه إياها كاملة.
يذهب هذا “العنصر” ثم يعود ومعه عنصر آخر أو اثنان، ويطلب من أبي ضياء أن يُسمع القصيدة ثانية.
ثم يأتي عنصر آخر فيكرر القصة. وكلهم يبدي سروره وإعجابه! فتصوّروا.
بل إننا، في سجن حلب المركزي، شاهدنا موقفاً أعجب. ففي أمسية أحد الأيام، كان يمرّ أمام السجن قائد شرطة محافظة حلب، ومعه “النائب العام” وبدا لهما أن يزورا ذلك السجن. واستقبلهما الضابط المناوب النقيب نهاد شقيفة، وراح الثلاثة يتجولون في ردهات السجن. فلما مرّوا أمام غرفتنا توقفوا، وتعرّفوا بنا وبقضايانا, وكان منظر أبي ضياء لافتاً للانتباه، فهو سجين سياسي ضرير! سأله قائد الشرطة: ما قضيتك؟. قال: قلتُ قصيدة في هجاء الرئيس!. قال: هل تسمعنا إياها؟! قال: نعم. وبدأ ينشد قصيدته. وكنتُ أنظر في وجوه الثلاثة: النقيب والضيفين، فأرى مظاهر الفرح والإعجاب.
وبعد ذهابهم. عاد إلينا النقيب فقال: إنَّ السيد رئيس شرطة المحافظة يطلب نسخة من القصيدة!!!.
* * *
وأختم هذا الحديث عن الشاعر أبي ضياء، فأقول: لكل شاعر أبيات يقولها تندّراً وتملُّحاً، وتكون في الغالب بِنت لحظتها، وهي، وإن لم تكن في مستوى الشعر العالي الذي ينسب إليه، تعبِّر عن مشاعره العفويّة.
مرّة كان يتناقش مع أحد البعثيين، فقال البعثي: شعارنا: أمة عربية واحدة. ذات رسالة خالدة. فسأله أبو ضياء: وما تعريف الشعار؟! فارتبك. وبعد ذهابه قلت: أتسأله عن التعريف، والتعريفات يعجز عنها من هو أكثر علماً وثقافة منه، بل لعلَّ هذا “الرفيق” لا يفرِّق بين الشعير والشعار؟! فضحك وقال:
الشِّعر والشعير والشعار يحسبها سواءً الحمارُ
———-
ومرة، فقد نعليه من مكانهما. وهو يسمي النعلين “كُلاشاً” فقلت له: خُذْ أيَّ كُلاش من كلاشاتنا! فقال:
إذا ذهب الكُلاش فلا كلاشٌ يقومُ مقامهُ عند اللَّبـوس
كان شِراكَهُ لمســاتُ خَزٍّ كأنَّ مَدَاسَهُ وجه الرئيس!.
———-
وقد قضينا في السجن معاً ما يزيد على السنة، فكانت روح أبي ضياء الحلوة تُذهب أكدار السجن، وتضفي عليه سروراً وحبوراً.
رحمه الله رحمةً واسعة، فقد علمت أنه توفي في صبيحة يوم الأربعاء 24/10/1427هـ- 15/11/2006م.
مارس 16, 2021حقوق الإنسانالتعليقات على معتقلات السيسي تُعيد إحياء “أدب السجون” عبر رسائل من خلف القضبان مغلقة
أعاد معتقلون مصريون إلى الصدارة نوعا من الأدب اختفي منذ سنوات مضت، لا تكاد تقترب منه أضواء النقد، إلا في حالات نادرة، وهو أدب السجون.
في 25 أكتوبر الماضي، أثارت رسالة مهربة من سجين مصري شاب، يدعى أيمن علي موسي، حالة من التعاطف الشديد على مواقع التواصل الاجتماعي.
موسى جرى فصله من كلية الهندسة في الجامعة البريطانية بالقاهرة، وحكم عليه بالسجن 15 عاما؛ بتهمة التظاهر في أكتوبر2013.
ولم يستطع هذ الشاب أن يودع والده، الذي توفي بعد عام من حبسه ولم يحضر أيضا جنازته؛ ما دعاه إلى استعادة ثلاثة أعوام قضاها سجينا، فكتب رسالة تهنئة لنفسه بعيد ميلاده.
يقول موسى: “عيد ميلاد سعيد؟! ..٢٥ أكتوبر ٢٠١٣ أتممت سن المراهقة في السجن، كان عيدُ ميلادي الواحد والعشرون هو الأول في السجن.. ٢٠١٤، كان الثاني…، ٢٠١٥، الثالث…، اليوم… ٢٠١٦… هو عيد ميلادي الثالث والعشرون… الرابع في السجن.. أُول عيدِ ميلاد بدون أبي… بدون مستقبلٍ واضح أمامي، بعدما تم إيقاف قيدي بكلية الهندسة، بعدما تم الحكم عليّ بالسجن خمسة عشر عامًا بدون سبب! أجلس في زنزانتي على الأرض، حيث أنام، أشعر بأني فأر محاصر في مصيدة بمعمل، ينتظر أن تتم عليه التجربة، ولا أعلم بأي النتائج ستنتهي، إلى أي شيء ستحوّلني!!”.
يضيف موسى: “أنا متعب من خسارة هدية في كل عيد ميلاد.. هذا العام، بدلاً من أن أرتدي قبعة التخرج والعباءة مع أصدقائي، حاصلاً على شهادة تخرجي، ارتديت بدلة سجين وأصفاد يد، منتظرًا أن يتم نقلي إلى سجن آخر هذا العام.. تغيبت عن جنازة أبي.. أنا أفتقد أبي”.
بعد حكم الرئيس المصري، جمال عبد الناصر (1956: 1970) لاقى أدب السجون اعترافا نقديا، حيث ظهرت مذكرات وكتابات روائية مختلفة،لكن في المرحلة الراهنة بمصر، ظهر أدب السجون في صورة جديدة، وهي رسائل مهربة تحمل تنقل آلاما وآهات من خلف قضبان السجون.
وتعكس هذه الرسائل أوضاعا غير إنسانية، بحسب سجناء، وهي تُكتب أحيانا على أوراق علب السجائر، وتبقى المتنفس الوحيد لآلاف الشباب المحبوسين (دون حكم قضائي)، والمسجونين على خلفية احتجاجات سياسية مختلفة.
ويعرف الشاعر والكاتب السوري، ممدوح عدوان، في كتابه “حيونة الإنسان”، أدب السجون بأنه “نوع من الأدب استطاع أن يكتبه أولئك الذين عانوا السجن والتعذيب خلال فترة سجنهم وتعذيبهم أو بعدها، أو كتبه الذين رصدوا تجارب سجناء عرفوهم أو سمعوا عنهم”.
وقبل أيام، بعث الباحث والصحفي المصري، هشام جعفر، المحبوس في سجن “العقرب” جنوبي القاهرة، برسالة إلي ابنه قال فيها: “”ابني العزيز عدنان.. اشتقت إليك وإلى أحفادي كثيرا، اشتقت إلى روجيدة وتمنيت رؤية آدم، اشتقت إلى بذور هذا الوطن”.
ورغم حبسه منذ منذ أكثر من عام دون حكم قضائي يدينه، يوصي جعفر ابنه بقوله: “إياك يا بني أن تزرع فيهم (الأحفاد) كره هذا الوطن، إياك يا بني أن تدعهم يفقدون الانتماء إليه أو يفقدون الرغبة في ذلك، إياك إياك”.
ويعاني جعفر (52 عاما) في السجن من حالة صحية متردية، تشمل ضعف البصر والتهاب البروستاتا والضغط والسكري.
وهو رغم ذلك يوصي ابنه عدنان قائلا: “ازرع بداخلهم (الأحفاد) هذا الوطن، لا تدعه يخرج من قلوبهم، إجعلهم دائما يشتاقون إليه ويشعرون بالحنين، وإن كفرت أو كفروا، فحينها سأتيقّن أن ضريبة سجني ذهبت سدى.. أنا لم ولن أكفر بالوطن فلا تدعهم يكفرون به. ودمنا إلى لقاء أتمناه قريبا”.
وفي أكتوبر 2015، اقتحمت عناصر من قوات الأمن المصرية مقر عمل جعفر في “مؤسسة مدى الإعلامية” (غير حكومية)، وألقي القبض عليه، ثم نقل إلى سجن العقرب، ولم تتم إحالته إلى القضاء حتى الآن.
ومن بين السجناء في مصر، الناشط السياسي الشاب أحمد دومة، وهو يقضي عقوبة السجن المؤبد (25 عاما) في القضية المعروفة إعلاميا بـ”حرق المجمع العلمي” وسط القاهرة في ديسمبر/ كانون الثاني 2011، إضافة حكم بالحبس ثلاث سنوات بتهمة خرق قانون تنظيم التظاهر.
ومن خلف القضبان، قال دومة (28 عاما) في رسالة مهربة: “أصبح اشتياقي للأشياء التافهة موجعا للغاية. أن تدخن سيجارة في شرفة منزلك، تتمشى ليلاً في شوارع وسط البلد (يقصد القاهرة)، تجلس مع رفاقك على القهوة، تأكل الآيس كريم المفضل وأنت تقرأ، تقف بجوار صديق يحتاجك، تتلقى العزاء حتى في صديق مات.. لا تعرف قيمة الأشياء في حياتك وإن بدت تافهة إلا بعد فقدانها”.
واشتهرت العديد من الأعمال الأدبية العربية والغربية باعتبارها تنتمي إلى أدب السجون، لكن تبقي الأعمال التي كتبها مبدعون فلسطينيون وسوريون ومصريون ومغاربة هي الأبرز في هذه المساحة من المعاناة الإنسانية.
وتعد رواية “فرج” للكاتبة والأديبة المصرية الراحلة، رضوى عاشور، والصادرة عام 2008، واحدة من أبرز هذه الأعمال، إذ تنقل تجربة أجيال متتالية مع السجن، بداية من تجربة والدها، ثم تجربتها هي، وأخيرا تجربة شقيقها الصغير.
وعبر هذه الأجزاء الثلاثة، يعرض ذلك العمل الأدبي تفاصيل الملاحقة والقمع السياسي في فترات مختلفة، وكأنها أرادت القول إن التجربة واحدة ومشتركة.
وعن السجون المصرية خلال حكم عبد الناصر، قدم الكاتب المصري الراحل أحمد رائف عام 1977 كتاب “البوابة السوداء”، الذي رصد فيه تجربته وتجربة رفاق له من جماعة الإخوان المسلمين، إضافة إلى سجناء آخرين شيوعيين وغيرهم، حيث نقل تجارب شخصية جدا له ولرفاقه في أقبية التحقيق والتعذيب.
وفي كتابها “مذكراتي في سجن النساء”، الصادرة عام 2000، تقدم الكاتبة المصرية، نوال السعداوي، عرضا للاعتقال السياسي خلال حكم الرئيس المصري الراحل، أنور السادات (1970: 1981)، الذي شنت أجهزته الأمنية حملات اعتقال كبيرة بحق مثقفين وكتاب مصريين. وتتميز رواية السعداوي لمذكراتها بجمعها بين نوعين من القمع، هما القمع السياسي وما تطلق عليه “القمع الذكوري للمرأة في المجتمع المصري”.
مارس 15, 2021مذكراتالتعليقات على لأنّهم قالوا .. لا مذكرات سجنية الحلقةالثالثة مغلقة
وسرقوا بيتي
هل فهمتم من العنوان أنهم سرقوا بعض محتويات بيتي، أو أنهم سرقوا بيتي كله واغتصبوه! كلا الفهمين صحيح. فمرّة فعلوا هذا، ومرة فعلوا هذا. ولا يخفى عليكم من هؤلاء الذين سرقوا؟ إنهم هم، وليس غيرهم!.
في شهر آذار من عام 1973 كان عملي قد استقرّ مهندساً في مؤسسة المشاريع الكبرى –مديرية صوامع الحبوب- موقع حلب، فجاء قرار بنقلي إلى الرقة لأكون مسؤولاً عن موقع الصوامع هناك، الذي هو في طور التأسيس.
وفي الأيام الأخيرة من الشهر المذكور التحقت بعملي هناك، ونقلت معي زوجتي وطفلتي ذات الأشهر الثلاثة. وحتى لا يبقى بيتي فارغاً، أعطيت مفتاحه لأحد فتية الحي، من روّاد المسجد، حتى يتردّد على البيت، أو يستخدمه في تحضير دروسه المدرسية…
وما هي إلا أيام، حتى بدأت الاعتقالات بمناسبة الاحتجاجات الشعبية على دستور حافظ أسد. ولم يكن أمام الجماهير المحتجّة إلا وسائل بسيطة، وطرق ضيّقة، للتعبير عن احتجاجها. فقام بعض الشباب بكتابة شعارات على جدران الشوارع تندّد بذلك الدستور، مثل: “لا، للدستور الظالم”. وألقي القبض على أحدهم، وتحت التعذيب اعترف على بعض من له به علاقة، وبعض هؤلاء اعترفوا على علاقة بي، ليس في شأن تلك الكتابات، ولكن بشأن التنظيم في جماعة الإخوان المسلمين!.
جاءت دورية مخابرات لاعتقالي، لكني كنت –كما ذكرت آنفاً- قد انتقلت إلى الرقة، وكان في البيت الفتى الذي سلَّمته مفتاح البيت، وبعض أصدقائه، وأستاذ لهم يعطيهم درساً خاصاً في مادة اللغة العربية.
وحتى لا تعود الدورية خائبة، فقد اعتقلت كلَّ من في البيت، وسكنت البيت نفسه، وجعلته مصيدة، تعتقل كلَّ من يطرق بابه!. واستمرَّت على ذلك أسبوعين أو يزيد.
وعلى إثر مجيء الدورية إلى بيتي شُكِّلت دورية أخرى فسافرت إلى الرقة، واعتقلتني هناك.
بعد مضيِّ نحو ثلاثة أشهر، سمحت إدارة فرع مخابرات حلب، حيث كنت معتقلاً، بأن تزورني والدتي. وفي الزيارة أخبرتني، أنَّ عناصر المخابرات الذين احتلوا البيت مدة أسبوعين سرقوا منه ما خفَّ حمله، وغلا ثمنه، ومن جملة ذلك بعض القطع الذهبية، وبدلة جديدة لي، لم أكن لبستها إلا مرة واحدة، وأشياء أخرى.
شكوتُ إلى المحقق ما فعلته الدورية، فنفى أن يكون عناصرها قد سرقوا شيئاً، وقدّم دفاعاً قوياً عنهم. قال: وماذا يفعلون بالذهب؟! وما يفعلون بالبدلة؟! وماذا يستفيدون من تلك المسروقات؟!! وانتهى التحقيق.
* * *
وفي صيف عام 1980 جاءت دورية لاعتقالي من بيتي. ولم أكن فيه! فتواريت عن الأنظار، ثمَّ تمكنت من الخروج من سورية. وبقي البيت مغلقاً، إلى أن وَضَعَ مساعد في المخابرات العسكرية يده على البيت فاحتلّه، وسكنه “مفروشاً” هو وأسرته الكريمة!.
لم يكن هناك أمرٌ بمصادرة البيت. ولكن متى كانت العصابات تنتظر الأوامر؟! إنها شريعة المافيا. فقد استباحه ذلك “العنصر” واتخذه مسكناً لأسرته.
وعَلِمَ أخي “مطيع” –رحمه الله- بالأمر، فاحتال على طريقة للسؤال عن البيت. وذهب إلى المخابرات ليقول لهم: إنَّ أخي مسافر خارج القطر، وبيته فارغ، ولكننا وجدنا حَرَكَةً في البيت، وإشعالاً للأضواء فيه، فلعلَّ بعض “الحرامية” قد فتحوا بابه واغتصبوه!.
فقالوا له: “لا. إنه في أيدٍ أمينة. إنَّ بيت أخيك هو بيتنا، ونحن نحافظ عليه. ولا حاجة لأن تسأل عنه مرة أخرى. أفهمت؟!”.
وتذكَّرتُ الأيدي الأمينة التي كانت تحتفظ بثمن النفط السوري كله مدة ثلاثين سنة كاملة، فهذه الأيدي من تلك. قطع الله هذه الأيدي وتلك!.
أبو غياث
إنه نفسه، المحقق عبد القادر حيزة، الذي كان رئيس الدورية التي جاءت لاعتقالي.
متوسط الطول، ذو كرش كبيرة، أسمر اللون، شعره أسود خفيف، يتأنق بملابسه ليبدو منظره مقبولاً.
وهو يحوز درجة متقدمة في الغباء وضعف الثقافة!!
قد يتصنّع اللطف أحياناًً، لكن طبعه سرعان ما يخونه، فتبدو فظاظته المنكرة.
وولاؤه للسلطة التي يخدمها كولاء كثيرين: متسلّق، متكسّب، مرتزق، يروقه ممارسة التعذيب على الآخرين ليستكمل التحقيق، ويرضي مشاعره الساديّة. وهو يلوّن في الأساليب، بين استعمال الخيزرانة، والصعق الكهربائي، واللكمات والشتائم…
لكنه إذا شعر أنه استكمل التحقيق وختمه، ثم ظهرت له معلومة جديدة تقتضي منه إعادة النظر في النتائج، فإنه يتقاعس، ويكتفي بأن يأخذ المعلومة لنفسه!.
في أثناء التحقيق معي في اليوم الأول، حين كان النقيب دياب يتولى رئاسة فريق التحقيق، تدخّل أبو غياث ليوجه إليّ تهمة غريبة تنمّ عن ثقافته الأمنية والدينية والأدبية! قال لي: أنت المسؤول عن توزيع الكتب في جماعة الإخوان المسلمين!. قلت له: كيف ذاك؟ ليس عندنا مثل هذه الوظيفة. نحن نشتري الكتب من السوق، أو من “السوق السوداء” وندفع ثمنها من جيوبنا… قال: إذاً لماذا عندك عشر نسخ من كتاب سيد قطب، هذا الذي يبحث في القرآن (وبدأ يتلعثم ليتذكر اسم الكتاب) فقلت له: تقصد: “في ظلال القرآن”؟ قال: نعم، هذا الكتاب عندك منه في البيت عشر نسخ، وقد فتشنا بيتك وأخذنا إحدى النسخ!. قلت له: إنها ثمانٍ وليست عشراً!. قال: لتكن ثمانياً؟ لماذا هذا العدد كله؟! قلت له: إنه كتاب واحد في ثمانية مجلدات! ألا تعلم أن هناك كتباً كبيرة تضمّ عدداً من المجلدات؟!
وفي اليوم الثالث، بعد حفلة التعذيب الثانية، قام أبو غياث هذا بجولة من التحقيق، فلم يقصّر في التعذيب والإيذاء. فعلى الرغم من أن الحفلتين قد استنفدتا معظم ما يمكن أن يأخذوه، فإن بعض الصعقات الكهربائية، وبعض الخيزرانات، وما يرافق هذه وتلك من لكمات وشتائم… هي من لوازم التحقيق!.
ولقد كنت بالفعل ناشطاً في التنظيم قبل دخولي السجن، ومعظم الإخوة المعتقلين يعرفونني، وقد كنتُ سبباً في تنظيم عددٍ منهم… وحين شاع في غرف السجن وزنزاناته أنني معتقل معهم، صار كل أخ منهم إذا سئل: من الذي نظّمك؟ أشار إليّ، سواء أكنتُ أنا الذي نظّمه أم لا، وذلك حتى لا يوقعوا إخوة آخرين ويتسببوا في اعتقالهم. وقد سرّني هذا السلوك الذكي منهم، ولكن المحقق أخذ عني فكرة -بسبب ذلك- هي أنني نظّمت عدداً هائلاً من الشباب.
كان إذا أراد أن يتثبت من إحدى المعلومات، أو يحل إحدى معضلات التحقيق يأتي إلى زنزانتي ليسألني، فأحاول أن تكون إجابتي “محسوبة”!. جاءني مرة ليسألني أتعرف فلاناً (سأسمّيه عبد الله المهندس)؟. كان السؤال صاعقاً لي. فهذا الأخ ليس من حلب. وإذاً كيف وصل الاعتقال إليه، وكيف توقّع المحقق أن يكون عندي علمٌ به. وكان لا بدّ من الإجابة سريعاً. وبما أنه سأل عن اسم حقيقي فهم يعرفونه. ولكن هل يعرفون أنه منظّم؟!..
دارت مثل هذه الأسئلة في ذهني، ربما في ثانية واحدة. قلت للمحقق: نعم أعرفه!. قال لي: هل هو من الإخوان؟! قلت: وما يدريني؟!.
اكتفى بهذا الجواب وذهب. أما أنا فقد بدأت أفكّر إلى أيّ مدى امتدّت الاعتقالات؟ وكيف تمّ الربط بين المعلومات في محافظات متعددة؟!.
بعد حوالي ساعتين، جاءني المحقق إلى زنزانتي (أمام المرحاض) هو ومحمد سعيد بخيتان، وكانا، على غير العادة منشرحين يبتسمان لأمر ما. قال: قلتَ لي إنك لا تعرف هل عبد الله المهندس منظَّمٌ أم لا؟! لقد اعترفَ أنك أنت الذي نظمتَه!. والله إن الطير الذي يطير فوقك في السماء تنظّمه! ولو أنني ترددتُ على بيتك مرتين لنظَّمتني! قلت له: لا، والله! فابتسم هو وصاحبه وذهبا، وذهبتْ مثلاً. فقد كان بعض الإخوان في الزنازين المجاورة يسمعون الحوار، فكانوا بعدئذ يصفونني بأنني أنظم الطير الذي يمرّ فوقي في السماء!.
والمحقق لم يسألني كيف نظّمته ومتى؟! ولو سألني لأحرجني. لقد نظّمته بالفعل، ولكن كيف سأذكر له مناسبة ذلك، وتكون متطابقة مع ما ذكر أخي عبد الله المهندس؟!..
بعد أيام حدث لقاء بيني وبين الأخ عبد الله وسألته عن سبب اعتقاله، وعن اعترافه بالتنظيم… فذكر أنه كان يؤدي خدمة العلم، وأن الدورة التدريبية العسكرية كانت في مدرسة المشاة وقد تعرّف إلى بعض إخواني من الحلبيين فدلّوه على بيتي، وجاء ليزورني فكان عناصر المخابرات قد احتلّوا البيت فاعتقلوه، وحين أتوا به إلى السجن وعلم بوجودي اعترف أنني نظّمته، لكنه ذكر لهم مناسبة لتعرفي عليه، وتنظيمي إياه، لا يمكن أن تخطر ببالي فيما لو سألني المحقق أن أتحدث له عن ذلك.
وبعد مضي حوالي ثلاثة أسابيع على الاعتقال، وكان التحقيق قد انتهى (نسبياً) وبدأنا نشعر بشيء من الاستقرار، جاء أمرٌ من رئيس الفرع بحلق اللحى للإخوة الملتحين، وكان معظمنا كذلك.
لم تكن هناك جدوى من المقاومة والامتناع. جاؤوا بحلاق فحلق لنا اللحى، ورحنا ينظر بعضنا في وجوه بعض، ونتذكّر قول السيدة عائشة الصديقة التي كانت تحلِف: “والذي زَيَّنَ الرجال باللحى، والنساء بالشعور”. لقد ذهبوا بهذه الزينة، قاتلهم الله.
ومرّ بنا المحقق ووجَدَنا جميعاً حليقي اللحى، فتبسّم ابتسامةً صفراء وقال: أمرُ حلق اللحى لم يصدر من عندي، لقد صدر من رئيس الفرع. لو كان الأمر إليّ لأمرتُ بحلقها منذ اليوم الأوّل!.
لقد ظننّا أن الغبي يريد أن يعتذر لنا، وإذا هو يعبِّر عن لؤمه وحقده على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم!.
كان المحقق يعود إلينا، أو يطلبنا إلى غرفة التحقيق بين الحين والآخر كلما قرأ الملف الخاص بكل منّا، ووجد فيه بعض الثغرات… لكنه، بعد هذا كله، لم يستطع أن يكمل الصورة. فهو لم يعرف، طوال خمسة أشهر، ما معنى المكتب التنفيذي، وما معنى مجلس الشورى، وإدارة المركز…. وكان إذا سألني، أستجلي من صيغة سؤاله التصور الذي عنده، فأعلم أن الصورة التي عنده -على بساطتها- مضطربة، فأعمل على تثبيت الاضطراب أو زيادته!.
[استدراك: ذُكِر لي، بعد نشر الكتاب، أن المحقق عبد القادر حيزة قد تحسّنت حاله في آخر أيامه، ومال إلى التدين، ثم توفي!]
أبو سعيد بخيتان
شاب في الثلاثينيات من عمره، طويل القامة، حنطي اللون، رتبته ملازم أول، ووظيفته: نائب رئيس فرع المخابرات العامة بحلب.
هكذا كان يوم دخلتُ المعتقل في نيسان 1973، أما حين أطلق سراحي بعد أربع سنوات فقد كانت رتبته نقيباً أو رائداً، وكانت وظيفته رئيساً للفرع المذكور. وهو الآن عضو في القيادة القطرية، ورئيس لمكتب الأمن القومي!. إنه اللواء محمد سعيد بخيتان.
من مهماته – يوم كان نائباً لرئيس الفرع- صناعة العملاء، وشراء الذمم والضمائر، يستخدم في ذلك التهديد والإغراء، وبعض الفكاهة، ويساعده في ذلك ذكاؤه. ويمارس التحقيق مع المعتقلين أحياناً.
وليس بالضرورة أن يكون حادّ الذكاء، إنما إذا قورن بمعظم من نعرف من ضباط المخابرات السورية… كان من أذكاهم.
والحقيقة إنه يصعب على الذكي أن يعمل في مثل ذلك السلك، فالمهمات المطلوبة منه تحتاج إلى ذكاء، نعم، لكنها كذلك تتناقض مع الذكاء، بل مع العقل، إذ كيف يطيق الذكي أن يَسْجِن ويُعذِّب إنساناً بتهمة أنه يفكر تفكيراً منطقياً، ويعتقد اعتقاداً سويّاً، ويعارض السلطة الغاشمة بلسانه أو بقلمه، ويرفض أن يهتف أو يصفِّق للطاغية، أَقْصِدُ: للقائد الملهم بطل الجولان!.
وصاحبنا أبو سعيد يدرك منذ الأيام الأولى، تلك البنية الطائفية للنظام وفشوّ المحسوبيات والرشاوي…
ومن خلال التحقيق الذي يمارسه أحياناً، ومن خلال الجلسات التي يحاول بها شراء الذمم.. يسرِّب كلمةً هنا، وكلمة هناك.. لتفهم أنه مخلص لمهنته، لكنه عارف بمفاسد الأوضاع القائمة في السلطة، عالمٌ بأنَّ السلطة تتربَّص بالإسلاميين لتُوجِّه إليهم ضربةً تعيدهم إلى الصفر.
لقد كانت المناسبة التي اعتُقِلتُ بسببها هي أنَّ حافظ أسد، الذي قام بانقلابه على رفاقه في 16 من تشرين الثاني عام 1970م، وبدأ يسيطر على مفاصل السلطة، ويرسي قواعد حكمه… أصدر دستوراً للبلاد عام 1973م، وأراد أن يحمل الناس على قبوله.
وحدث، نتيجة ذلك، غليان شعبي، لا سيما في أوساط المتدينين، لإظهار الاستنكار لهذا البلاء. ولكن ماذا يفعل الناس؟! ليس عندهم صحافة أو إذاعة أو منتديات… يعبِّرون فيها عن غضبهم. فكل هذا، وغيره كذلك، قد استحوذت عليه السلطة التي يقول رأسها: “سنحارب أعداء الديمقراطية بمزيد من الديمقراطية”! وعلينا أن نصدِّق!.
كان من الوسائل القليلة التي عبَّر بها بعض الشباب عن سخطهم على هذا الدستور أنهم راحوا يكتبون على جدران الشوارع عبارات السخط والتنديد، مثل: “لا، للدستور الظالم”.
وضبط بعض الشباب بـ “الجرم المشهود” واعتُقلوا وعُذِّبوا فاعترفوا على غيرهم… وكان بعضهم من الإخوان المسلمين، وتتابعت الاعتقالات بأن تُستخلص اعترافات من المعتقل تحت التعذيب، فتتّسع الدائرة ويؤتى بمعتقل جديد.
في أثناء التحقيق الثانوي معي (بعد تحقيق الليلتين الأُوليين) قلت لبخيتان: أنتم تقولون: إنكم اعتقلتمونا بسبب الشعارات التي كُتبت على الجدران استنكاراً للدستور. لكنكم لم توجِّهوا إليَّ أيَّ تهمة بهذا الخصوص، فهل يمكن أن تذكر لي: ما دوري في مسألة كتابة الشعارات؟!.
قال: لا دور لك فعلاً، ولكننا كنا نريد “ضربكم” منذ زمن بعيد، وكنا ننتظر مناسبة، فهذه كانت “المناسبة”.
إذاً فالنيّة كانت مبيَّتة، وضربُ التنظيم مقصود، إنما هو انتظار المناسبة.
ومرّةً قدّم إليّ سيجارة للتدخين، فقلت له: أنا لا أدخّن، والحمد لله. ولحظت أن باكيت السجائر، عليه اللصاقة الخاصة بالصناعة السعودية، يعني أن التبغ مهرَّب, فقلت له: كيف تدخِّن تبغاً مهرَّباً؟! (تجرَّأت عليه بهذا السؤال وبما بعده لأن الجوَّ كان مريحاً، يسمح بالحوار).
قال لي: أنزاود على بعضنا؟! إنه أرخص ثمناً من الدخان الوطني.
قلت: أنت رجل “أمن” ويجب أن تنظر إلى مصلحة الاقتصاد الوطني.
قال: كل الناس يدخنون منه فلماذا أمتنع أنا عنه؟!.
قلت: بإمكانك أن تضبط من يبيعه وتعاقبه وتمنع التهريب؟.
قال: أهذا الولد الذي يبيع في الشوارع من الصباح حتى المساء ليحصّل قوت أهله أو عياله.. نعاقبه ونحرمه من رزقه؟.
قلت: هذا الولد يدلُّكَ بسهولة على من فوقه ثم من فوقه، حتى تصل إلى المهرِّب الكبير.
قال: المهرِّب الكبير يكون مدعوماً ولا أستطيع عقوبته!
* * *
ومرة استدعاني إلى غرفته، وراح يساومني: “إذا لم تتعاون معنا فقد تبقى في السجن سنة كاملة”.
كنا نتوقع أن لا يستمر اعتقالنا سوى أيام أو أسابيع. فالتهديد بالسَّنة له معناه. وفي الواقع بقيت أربع سنين ويوماً!.
وقال: “سوف نسرِّحك من وظيفتك”.
قلت: هذا لا يهمني، فأنا مهندس، قد أحتاج إلى الوظيفة سنة أو اثنتين بعد التخرج، أما الآن وقد مضى على تخرجي ست سنوات، فالتسريح من مصلحتي.
قال: وماذا تفعل إذا سرّحناك.
قلت: يمكن أن أعمل بالتعهدات مثلاً.
قال: وهل معك رأس مال لهذا العمل؟.
قلت: لا، ولكن…
قاطعني وقال: نحن مستعدون لأن نعطيك رأس المال الذي تحتاجه، ونستطيع أن نجعل المشروع الذي ترغب بتنفيذه من نصيبك، أي نجعل المناقصة ترسو عليك.
قلت: لا حاجة لي بذلك. فهناك من يثق بأمانتي، ويستثمر أمواله عندي.
سَكَتَ قليلاً ثم قال: الوزارة الحالية توشك أن تتغيّر. وفي الوزارة الجديدة نعطيك موقع وزير الصناعة!.
قلت: وهل تتوقع أن أقبل المشاركة في وزارةٍ عندكم؟!.
وبينما هو يحدثني جاءته مكالمة هاتفية، فتكلم فيها نحو دقيقتين. وفي أثناء ذلك رحتُ أقلِّب بصري في محتويات الغرفة الأنيقة. ولفت نظري جهاز راديو ذو تصميم جميل.
قال لي: هل أعجبك هذا الجهاز.
قلت: نعم، إنه جميل.
قال: نريد أن نهديك إياه، مقابل أن تعمل معنا!.
ابتسمت وقلت: لا حاجة لي به.
قال لي: هل تعشَّيت؟.
قلت: لا.
قال: سأصحبك معي إلى العشاء في (البلو أب).
قلت: وما هذا البلو أب؟.
قال: مطعم ظريف. يقدِّم “المشروبات”. أنا أعلم أنك لا تشرب. ولكن سنقعد على الطاولة ونضع عليها بعض المشروبات، ونلتقط لك بعض الصور، ثم نعرضها على إخوانك المعتقلين ونقول لهم: انظروا، هذا معلمكم وشيخكم الذي تثقون به. إنه يقعد على مائدة الخمر.
والحقيقة إنه لم ينفذ وعده، أو تهديده هذا. إنما أراد فقط أن يعرِّفني بالأساليب الساقطة التي يستخدمونها.
ومرة كان يحقق مع أحد الإخوة المعتقلين، وكان هذا الأخ قد تلقى تعذيباً شديداً فقال: أليس دستوركم الذي تعتقلوننا بحجة اعتراضنا عليه ينصُّ على حفظ كرامة المواطن، وحُرْمة البيوت و…؟ وها أنتم هؤلاء تنتهكون ذلك كله؟! قال أبو سعيد: وهل تصدِّق شيئاً مما ينصُّ عليه الدستور؟! لقد وضعنا هذه المواد في الدستور كي نضحك عليكم فقط!.
* * *
بعد مضيِّ أربع سنوات على اعتقالي، وفي اليوم الذي ابتدأت به سنة خامسة جاءت سيارة (باص كوستر) إلى سجن حلب المركزي، حيث كنت أقضي فيه الفترة الأخيرة من سجني منذ ثمانية عشر شهراً، ونقلت مع عدد من المعتقلين إلى فرع مخابرات حلب، الفرع الذي قضيت فيه الأشهر الخمسة الأولى من الاعتقال.
دخلنا إلى بهو كبير في الطابق الأول، حيث غرفة رئيس الفرع وبعض المحققين…
اصطففنا بشكل عفوي على محيط البهو، ونحن ننتظر أن يأتي أحد المسؤولين ليلقي فينا “كلمة”! أو نستدعى واحداً واحداً إلى غرفته. ولم يطُلْ الانتظار فقد كنتُ أولَ من نودي عليه، وخرج الرائد بخيتان إلى باب الغرفة ليستقبلني!. مددت يدي لمصافحته، فمدَّ ذراعيه ليعانقني ويقبِّلني وقد بدا السرور على وجهه. قلت: إذاً ما زلت تذكرني! قال: وهل تشكُّ في ذلك؟!.
أدخلني إلى الغرفة، وأجلسني قبالته وقال: لقد رفعت بشأنك عدداً من الكتب من أجل الإفراج عنك. وضَغَطَ زرَّ الجرس، فجاء النقيب سحلول وانحنى أمامه باحترام. قال له: أحضِرْ لي ملفَّ الأستاذ لنطلعه على الكتُب التي أرسلناها بشأنه. خبط سحلول قدمه على الأرض وانحنى من جديد وانصرف ولم يعد!!.
إنها طريقة لتمرير الغشّ والكذب، فلا ملفات ولا هم يحزنون. وبالمناسبة فإن النقيب الذي ينحني ويقف باستعداد “كالقملة المفروكة” هو ذاته كان رئيس الدورية التي أحضرتنا من سجن حلب المركزي إلى فرع المخابرات، وقد رأيته عندما جاء إلى سجن حلب، كيف كان يتصرف بعجرفة واستعلاء، ولا يعبأ بضباط الشرطة ولا بغيرهم، لأنه من خِلْقَةٍ أخرى، أو لأنَّ الدم الأزرق يجري في عروقه، دم المخابرات النبلاء!.
* * *
بقيت مسألتان مما أريد الحديث عنه بشأن “أبي سعيد”:
الأولى: أنه لا يحب أن يعذِّب المعتقلين، وإذا احتاج إلى تعذيب أحدهم يأمر الجلادين بذلك ويذهب هو إلى غرفته كي لا يتمّ التعذيب أمام عينيه. ولكن هذه القاعدة ليست مطّردة، فقد يمارس التعذيب بيديه، أو يمارسه الجلادون أمامه. وقد حدثني أحد الإخوة الفضلاء أنَّ أبا سعيد قد حقق معه فصفعه على وجهه صفعات، وقام بنتف لحيته بيده.
هكذا طبيعة هذا السلك. لا يمكن لمن يعمل معه أن يحافظ على قدرٍ مناسب من الطهارة. هذا إن افترضنا أن العنصر المذكور طاهر!.
الثانية: في أواخر عام 1977، أو أوائل 1978، حَدَثَ أنَّ مدرِّبة الفتوّة في إحدى المدارس الثانوية للبنات في حي الأنصاري بحلب، أرادت إلزام الفتيات بنزع الحجاب. ويقال: إنَّ رسالة وصلت إليها بالبريد تهدِّدها (بالضرب أو القتل، لا أدري) إذا هي عادت لإلزام الفتيات بذلك.
عُرضت الرسالة على المخابرات، وكان من الصعب، أو من المستحيل، معرفة من الذي كتب الرسالة، وكان رئيس الفرع آنذاك أبا سعيد، فقام باستدعاء بعض رجالات الحي ليحقق معهم. وكان من هؤلاء أحد الأساتذة الفضلاء.
أبو سعيد: من الذي كتب الرسالة؟.
الأستاذ: وما يدريني بذلك؟!.
أبو سعيد: سأنتقل إلى موضوع آخر. أنت تعلم أنه يحدث بين الحين والآخر عملية اغتيال لبعض رموز السلطة. فمن يقوم بذلك؟.
الأستاذ: أتسألني أنا عن هذا؟! أنت رئيس فرع المخابرات، وعليك أنت أن تعلم.
أبو سعيد: الذي ينفّذ تلك العمليات أحد اثنين: إما واحد تابع لأحد مراكز القوة في السلطة، فلا أنا، ولا غيري، يستطيع أن يكشفه! وإما واحد: الله معه، ويرسل له ملائكة تحميه!.