أرشيف الوسم : التعذيب

رسالة من أسير وإليه

أتحدث إليكم اليوم عن الأسير الذي أُسِرَ في سبيل الله سواءً كان داعياً إلى الله أو مجاهداً في سبيله أو ثابتاً على مبدئه الشرعي،

الأسير الذي حلَّ في سجن الظلمة {وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد}.

كان ولا يزال السجن أسلوباً من أساليب التهديد والقمع ومنع كلمة الحق أن تصل إلى مستحقيها،ومنع الأشخاص أو الدعوات الحقة من الظهور للناس ،أسلوباً  يستخدمه الظلمة ولكن هيهات هيهات وأنّا لهم ذلك ،لأنَّ السجن على ما فيه من ضيقٍ ووحدة ووحشة، إلا أنه محبوبٌ ورحمةٌ لأهل الإيمان .

هُدِّدَ موسى عليه السلام بالسجن فقال له فرعون {قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين}

يُدعى يوسف عليه الصلاة والسلام للفاحشة وإلا السجن فيقول {رب السجن أحبُ إليَّ مما يدعونني إليه} يُسجن ويثبت على عفته ولا يلاين الظلمة ،لأنه آثر محبوب الله على محبوبه،ومحبوب الله في هذه الحالة هو السجن الذي يكون فيه العفة والبعد عن الفتن ،ولأنه من عباد الله المخلصين إستجاب الله دعاءه {فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهنَّ}

قد يقول قائل هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ،فأقول لقد كان لأئمتنا أحوالٌ وأحوالٌ في سجون الظلمة وسأذكرُ مثالين فقط :

المثال الأول :إمامُ أهل السنة والجماعة (أحمد ابن حنبل) رحمه الله وقصة هذا الإمام العلم أشهر من أن أذكرها ،ولكنه أُودِعَ السجن فخرج ذهباً خالصاً ثابتاً على مبادئه فجعله الله بهذا الثبات على الحق إماماً لأمة محمد( صلى الله عليه وسلم) من أهل السنة.

المثال الثاني:هو شيخ الإسلام (ابن تيمية) رحمه الله هو الآخر أُودعَ السجن ولم يخرج منه إلا محمولاً على الأكتاف وكان يقول ماذا يفعل بي أعدائي أنا سجني خلوة، وتلى قول الله تعالى حين أُلقيَ في السجن{فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب} عَلِمَ الله صدقه فجعله يخلو به في آخر أيام حياته وجعل هذا السجن (رحمة) فتوفي وهو يتلو كلام ربه{ إنَّ المتقين في جناتٍ ونهر في مقعدِ صدقٍ عندَ مليكٍ مُقتَدِر }توفي في السجن فكان شيخ الإسلام بحق، فإذا قيل شيخ الإسلام قال أهل السنة: (ابن تيمية)رحمه الله .

أماه لا تحزني فإني على الحق

أبتاه ارفع رأسك عالياً وافتخر بابنك الذي أُسِرَ في سبيل الله ولرفع شأن أمته

أمي أبي لا تنسوني من دعائكما لي بالثبات وسؤال الله أن يفرج عني وعن إخوتي

إيهِ يازوجتي الحبيبة الصابرة لعل صغاري يسألونك أين أبانا؟ فلا تترددي بالجواب

قولي لهم أبوكم في مدرسة يوسف عليه الصلاة السلام

ولعل الناس يسألون؟فقولي لهم إنه أُسِرَ ليحرر آلاف المسلمين

إيه أيتها الزوجة المباركة قولي لأبنائي وللناس أجمعين :

إن خرج زوجي وفك الله أسره فسيخرج كيوسف عليه السلام وكالإمام أحمد رحمه الله تعالى سيخرج مثلهم إن شاء الله ثابتاً قوياً وهذا ابتلاء وتمحيص له، ورفعة لدرجاته.

أي بُنَيَّ قل لرفاقك أبي ينتظر إحدى الحسنيين الخروج منصوراً بإذن الله ولو بعد حين كـ (يوسف) عليه السلام ، أو الموت ثابتاً على التوحيد، الموت على نصرة هذا الدين كـ (ابن تيمية) وما أشرفها من ميتة

اللهم فك أسرانا في كل مكان

اللهم اجعل لهم من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ومن كل بلاء عافية

اللهم أفرغ عليهم وعلى ذويهم صبرا

كتبه أخوكم (حمزة أسد الله)

قراءة في رواية “المسكوبية: فصول من سيرة العذاب” لأسامة العيسة

اسمي جوقة لأننا كثيرون

قراءة في رواية “المسكوبية: فصول من سيرة العذاب” لأسامة العيسة

موسى م. خوري

حمل أسامة العيسة في روايته “المسكوبية: فصول من سيرة العذاب”، الصادرة عن مركز أوغاريت 2010، همّ كنس أزقة مدينة القدس بفرشاة أسنان، ونجح في أن يحرر روايته من متلازمتين أدبيتين فلسطينيتين: البطل الشاطري، والسجن/ النفق. أقف، قبل مقاربة هذه الأطروحة الثلاثية، على ثلاث عتبات من عتبات الكتاب لها دلالات ملحوظة مخطط لها. العتبتان الأولى والثانية تلتحمان لتبسطا، بالإحالات المضمنة فيهما، جامِعَ النص، والعتبة الثالثة عتبة مشاكسة تمتلك كمونَ حيرة، ويمكن أن تخلّق دهشة من عيار ثقيل، تحسب لشكل الكتاب ومضمونه معا.

الصورة على عتبة الغلاف الأمامي، والممتدة لتتداخل مع صورة/صور عتبة الغلاف الخلفي، تنبئ بالتحول الذي طرأ على المكان المعيّن في عتبة العنوان الرئيسي “المسكوبية”، الذي صار ثيمة ضابطة لتفريعات الاعتقال والتعذيب والإكراه، وصولا إلى السجن الكبير الذي هو الاحتلال الإسرائيلي. والرواية، من صفحتها الأولى التي تغطيها صفحة الغلاف الأمامية  إلى صفحتها الأخيرة التي تغطيها صفحةُ الغلاف الخلفية، تظل سياحة في تغير المشهد/ المسكوبية، باعتباره المكان الصغير المتناهي في الكبر (مع كل دلالات الصغر والكبر)، وباعتباره أيقونة – بلغة مايكروسوفتية – تنفتح على المكان الأرحب الذي أحال العيسة في روايته على مداميكه الأصغر التي تتلاحم لتحقيق كبره –  مدينة القدس.

كان لعتبة الخطبة أثر ليس بسيطا عليّ، فقد خربطت في البدء مياهي الجوفية بالمعنى السلبي للخربطة، ثم خربطت – لاحقا- مياهي الجوفية بالمعنى الإيجابي. ما فاق حد الإزعاج عند قراءتي لعتبة الخطبة أنها قدمت مسردا لسجناء النخبة في فلسطين، وصرت أحسب – مدفوعا بلا براءتي التي يسوغها غياب براءة فعل الكتابة أصلا – أن الكاتب مهووس بالانتماء إلى طبقة خطط منذ جيل مبكر، وهو الفتى القابع في سجن المسكوبية، أن ينتمي إليها – طبقة الكتاب. صارت القدس في الخطبة قدسَ النخبة التي تقدمها كتب مقرر اللغة العربية وكتب التاريخ، وبدأت أحسب أن هذه العتبة/البوابة ستؤدي إلى خرابة. لأني طويل أناة عندما يصير الأمر متعلقا بالقراءة، ولأني أحاول أن أكون القارئ الذي اشتهيه عندما أكتب أنا نصا، تابعت القراءة واكتشفت أنني أمام كاتب مهووس بالخلخلة وينتمي إلى الرصيفيين، ويزاحمني على ذلك وأحب مزاحمته. صارت الخطبة بعد قراءة الرواية (وأي قراءة واعية هي قراءة مقارنة بالضرورة) هي النص الذي أراد الكاتب في جوانب كثيرة من روايته، التي تنتمي إلى أدب السجون، أن يخرقه وبتدبير مسبق. ما أتى في الرواية، بعد مسرد النخبة في الخطبة،  توثيق لحياة المهمشين والرصيفيين الذين، وإن ظلوا في ذاكراتنا، يظلون أرقاما أو أسماء تراكم سجلنا الوطني في خانة السجن أو النضال أو الاستشهاد، ودون احتفاء بتفاصيل اليوميات التي توثق لحقيقة أنهم كانوا، قبل أي شيء، وحتى قبل رصيفيتهم، أناسا من لحم ودم.

في قراءة له يعيد فيها اكتشاف الشاعر الفلسطيني الرصيفي طه محمد علي، استثمر الكاتب والأكاديمي والمترجم الفلسطيني أنطون شماس عبارة مجهولة السياق لشاعر يوناني (أركيلوكس) عاش في القرن السابع قبل الميلاد، والعبارة هي:  “الثعلب يعرف أمورا كثيرة، أما القنفذ فيعرف أمرا واحد كبير الشأن”. يقول أنطون شماس في اتكاء على تأويل للعبارة ورد في دراسة عن تولستوي الحرب والسلام لكاتب وأكاديمي ثعلب هو إشعيا برلين : “الكتّاب – ولا فضل لأحد على أحد إلا بالموهبة – يمكن أن يصنّفوا بين عالمين: عالم القنافذ وعالم الثعالب، بين أولئك الذين يردّون الأمور إلى منظومة واحدة تهيمن على كل شيء، إلى فكرة كبرى تنظم العالم ومن خلالها يدركون الأشياء فكريا وعاطفيا، وبين أولئك الذين يطاردون أمورا شتى قد تبدو في غالب الأحيان متناقضة للناظر، لا علاقة ظاهرة بينها ولا تنضوي تحت مبدأ أخلاقي أو جمالي واحد”. أسامة العيسه، في متتالية استثمارية للعبارة اليونانية، قنفذ مغرق في قنفذيته،  فهو يعرف في عمله هذا وفي أعماله الأخرى وفي كثير من تلفظاته التي ترد في نصوصه الموازية، يعرف شيئا واحدا عظيم الشأن، يعرف أنه صاحب مشروع روائي لتقديم الزمان والمكان الفلسطينيين سرديا.

ليس الذي شدّني في قنفذة الكاتب تركيزه  على القدس باعتبارها المكان الذي يشغل حجر الزاوية في ذاكرتنا المكانية فقط، بل باعتبارها “المكان قيد الصيرورة”، المكان الذي نسهم جميعا، البدو والأحباش والأقباط واليونان والنور والعرب المسلمون والمسيحيون، بنسج علاماته الفارقة، لكن كل بخيطه ومسلته. في نص غير بصير يرد في مقرر اللغة العربية الفلسطيني للصف السادس تصير الإحالة على كنيسة القيامة، مثلا، باعتبارها الـ (مكان) الذي يحوي تمثالا مرصعا بالجواهر للسيدة العذراء، وفيه مصابيح ثمينة. تظل الكنيسة، بما تحويه، مشلّحة من اسمها (القيامة) الذي يحيل، بكل دلالاته الميثولوجية، والوطنية، والأدبية الاستعارية، على الذي يحيل عليه. صك دولوز وجواتري، في دراستهما لأدب كافكا، التشيكي اليهودي الذي كتب بالألمانية، مصطلحَ “الماينور ليتيرتشر”، أو الأدب الذي تنتجه الأقلية بلغة الأكثرية والذي يمتاز بطابع تفكيكي لصيغ الأكثرية ومروياتها الشرعية والمشرعنة التي ترعاها الـ “سلطة؛ وكتب أسامة العيسة نصا ينتمي إلى هذا التصنيف لأنه نأى بالقدس عن مقرر اللغة العربية الذي يجعل المدينة مدينة يتعهد “مؤرخوها الجدد” للـ “أقليات” بذكر مجزوءِ مقدساتهم ومروياتهم التي أسهمت قطعا في تشكيل راقات وتراكمات ثقافة المكان.

 مشى العيسة أميالا إضافية في نص المسكوبية، وذكر الذين ذكرهم وقدم – بدفع من وعيه القائم بتنميط المكان – وعيا ممكنا أساسه رؤية لعالم المدينة باعتبارها نصا يقتات على نصوص كثيرة. قدس العيسة، التي يكنسها بفرشاة أسنان، تظل في الرواية لوحة فسيفساء شكّلها تراص مداميك حجارتها الصغيرة المتناهية في الكبر، حجارتها  المختلفة بانسجام والمنسجمة باختلاف. تذكرني قدسه بمروية القديس مرقس حين أحال على حادثة السيد المسيح الذي قبل أن يطرد الأرواح الشريرة من ساكن المقبرة سأله: ما اسمك؟ فأجاب: اسمي جوقة لأننا كثيرون. القدس في الرواية جوقة لأنها كثيرون، وفيها تبرز التفاصيل الصغيرة التي حذرنا درويش من إسقاطها في سطره البصير: “سنصير شعبا حين ننسى ما تقول لنا القبيلة، حين يعلي الفرد من شأن التفاصيل الصغيرة”.

من العلامات الفارقة الأخرى لهذه الرواية تبطيل البطل. أبطال الرواية يعرفون ولا يعرفون، أو لا يوسمون دائما بفضيلة المعرفة. ظلت فضيلة اللامعرفة سمة في مواقف كثيرة لهم، ما جعل الرواية رواية مشغولة  بالسؤال أكثر من انشغالها بالجواب. في السياق ذاته، تخلت الرواية عن الشاطرية بالمفهوم الشعبي، فالبطل فيها ليس شاطرا حسنا يوهب البطولةَ ولا يصنعها، وشخوص الرواية من المساجين ليسوا فوق الحزن والألم، وأمهم – إن ماتوا –  تنهدّ، فـ”الأم أم حين تثكل طفلها تذوي وتيبس كالعصا”.

احتفت الرواية، وهي تبطل البطل، بالحميم واليومي والرصيفي كذلك، فيها نرى العالم السفلي، وفيها – وهنا الأهم – نعيش تجربة السجن في اليومي، ولا نعيشها في عتمة النفق الذي سيفضي، وإن بعد كثير من التأبيدات، إلى النور. لم نعش في الرواية حالة الوطان التي يعيشها كثير من العرب في مهاجرهم حين يعلقون اليومي ويعلقون معه دوران أضراس الحياة والعمر لأنهم سيعودون يوما ليشربوا حليب البلاد. اعتنت الرواية بالنفق لأن التجربة التي تصير فيه لا تقل أهمية عن النور الذي في آخره؛ فهو ساعة يضج بالحياة يصير منيرا بفعل أنسنة المقيمين (السجناء والسجانين) الذين لا تصير حياتهم فيه مع وقف التنفيذ انتظارا لخلاص مفترض.

أغلب المقالات التي تناولت هذه الرواية في صحافتنا المحلية أو العربية عابت عليها محدودية حركة الحدث الدرامي، أو وسمتها بالتشظي الذي أحدثته كثافة الالتجاء إلى صيغة التحقيق الصحافي، لكن أحدا من كتاب هذه المقالات لم يشر إلى أننا يمكن أن ننظر إلى شكل الرواية، في بندوليته المراوحة بين الحيرة والمعرفة والاستباق والاسترجاع والتقريرية الصحافية والتنظير، باعتباره شكلا مماثلا لحالة اللاثبات في الواقع الفلسطيني، ليصير شكل الرواية، والحال، مضمونا. يمكن لقارئ مخلص أن يضع الرواية في زنازين كثيرة، بل يمكن أن يشبحها، بلغة السجن، ويضع على رأسها كيس خيش معشقا برائحة ما، ويمكن أن يثير أسئلة كثيرة حول مبرر بروز “حصون تارجت” في خطبة الكتاب (السجون التي بناها البريطانيون) على حساب المسكوبية – مكانا وعنوان نص، ويمكن أن يشار  إلى مواقع كثيرة يحتاج فيها النص لتحرير أسلوبي ولغوي من عيار معقول. يبقى، مع كل ذلك، أن هذه الرواية التي استحقت الجائزة العربية للإبداع الثقافي عن فئة الرواية (2013) حققت، مع غيرها من الأعمال بالضرورة، خرقا ثلاثيا: انتصرت للتفاصيل الصغيرة المتناهية في الكبر، ونزعت سمة الشاطرية عن بطل السجون وانحازت لأنسنته بطلا يصنع البطولة ولا تهبها له بنائية فلاديميرية (نسبة إلى وظائف فلاديمير بروب الدراماتيكية في كتابه مورفولجيا الحكاية الخرافية)، وأنارت النفق (الزنازين وغرف التحقيق وغرف الحبس) الذي يضج بحياة آدميين يتحدون حياةً أرادها سدنة المسكوبية، وغيرهم، حياةً مع وقف التنفيذ.


أكاديمي وكاتب فلسطيني.

أدبيات السجون جميل السلحوت

أدبيات السجون

 

 

جميل السلحوت

لا يمكن هنا القفز عن أدبيّات الأسرى الفلسطينيّين، مع أنّ الكتابة عن التّجربة الإعتقالية ليست جديدة على السّاحة الفلسطينيّة والعربيّة وحتّى العالمية، ونحن هنا ولأهمّيّة هذا الموضوع نشير إلى ما استطعنا جمعه من كتابات للأسرى في مختلف المجالات وليس في الرّواية فقط، وممّن كتبوا بهذا الخصوص: في العام 2015 صدرت رواية ” الشّتات للدكتور رأفت خليل حمدونة من قطاع غزة والذى اعتقل في 23/10/1990 وأمضى 15 عاما وتم الافراج عنه في 8/5/2005 ، وكان قد كتبها حمدونة أثناء الاعتقال في سجن بئر السبع – ايشل وطبعت في العام 2004 طبعة أولى ، وله ثلاث روايات سابقة وهى : ” قلبى والمخيم ” في سجن هداريم وطبعت في العام 2006 ، ورواية ” لن يموت الحلم ” كتبت في سجن عسقلان وطبعت في العام 2007 ، ورواية ” عاشق من جنين ” في سجن نفحة الصحراوى وطبعت في العام 2003 طبعة أولى ، و 2005 طبعة ثانية ، ومن كتابات الأسرى أيضاً ديوان “ماذا يريد الموت منا؟” لتحرير اسماعيل البرغوثي، ورواية “الأسير 1578″ للأسير هيثم جمال جابر، وروايات ” وجع بلا قرار”، “خبر عاجل” و “بشائر” للأسير كميل أبو حنيش، والتجربة الاعتقالية للدكتور عبدالستار القاسم.

وفي العام 2015 صدرت رواية “خريف الانتظار للأسير حسن فطافطة، وفي العام 2016 أيضا صدرت رواية “الحنين إلى المستقبل” لعادل سالم، ورواية “وجع بلا قرار” للكاتب الأسير “كميل أبو حنيش”، وفي العام 2018 صدرت مجموعة قصصية للأسير سائد سلامة بعنوان “عطر الإرادة” ورواية حكاية سرّ الزيت” لوليد دقّة. وفي العام 2019 “جمر خليل بيدس صاحب كتاب”أدب السجون” الذي صدر بدايات القرن العشرين، زمن الانتداب البريطاني، وكتب الشيخ سعيد الكرمي قصائد داخل السّجون العثمانيّة في أواخر العهد العثمانيّ، كما كتب ابراهيم طوقان قصيدته الشّهيرة عام 1930تخليدا للشّهداء عطا الزير، محمد جمجوم وفؤاد حجازي، وكتب الشّاعر الشّعبيّ عوض النّابلسي بنعل حذائه على جدران زنزانته ليلة إعدامه في العام 1937 قصيدته الشّهيرة” ظنّيت النا ملوك تمشي وراها رجال” وكتب الدّكتور أسعد عبد الرحمن في بداية سبعينات القرن العشرين (أوراق سجين)، كما صدرت عام 1973 رواية “المحاصرون: لفيصل حوراني، و”شهادات على جدران زنزانة” الصادر عام 1975 لغازي الخليلي ويتحدث فيه عن تجربته في السجون الأردنيّة. كما صدرت مجموعة قصص(ساعات ما قبل الفجر) للأديب محمد خليل عليان في بداية ثمانينات القرن الماضي، و”أيام مشينة خلف القضبان” لمحمد احمد ابو لبن، و”ترانيم من خلف القضبان” لعبد الفتاح حمايل ، و”رسائل لم تصل بعد” ومجموعة “سجينة” القصصية للرّاحل عزّت الغزّاوي ، وقبل”الأرض واستراح” لسامي الكيلاني، و”نداء من وراء القضبان، “و(الزنزانة رقم 706) لجبريل الرجوب، ورواية “الأسير 1578” لهيثم جابر.

وروايات “ستائر العتمة” و “مدفن الأحياء”و”أمهات في مدفن الأحياء” ورواية “الشعاع القادم من الجنوب”وحكاية(العمّ عز الدين) لوليد الهودلي، وكتبت عائشة عودة “أحلام بالحرّية” و”ثمنا للشّمس”. و(تحت السّماء الثامنة)لنمر شعبان ومحمود الصّفدي، ، و “الشّمس في معتقل النّقب” عام 1991 لهشام عبد الرّازق، وفي السّنوات القليلة الماضية صدر كتابان لراسم عبيدات عن ذكرياته في الأسر، وفي العام 2005صدر للنّائب حسام خضر كتاب”الاعتقال والمعتقلون بين الإعتراف والصّمود” وفي العام 2007 صدرت رواية “قيثارة الرّمل” لنافذ الرّفاعي، ورواية”المسكوبيّة” لأسامة العيسة، وفي العام 2010 صدرت رواية”عناق الأصابع” لعادل سالم، وفي العام 2011 صدر “ألف يوم في زنزانة العزل الانفرادي” لمروان البرغوثي” و”الأبواب المنسيّة” للمتوكل طه، ورواية “سجن السّجن” لعصمت منصور، وفي العام 2012 صدرت رواية”الشمس تولد من الجبل لموسى الشيخ ومحمد البيروتي” كما صدر قبل ذلك أكثر من كتاب لحسن عبدالله عن السجون أيضا، ومجموعة روايات لفاضل يونس، وأعمال أخرى لفلسطينيين ذاقوا مرارة السجن. وفي العام 2011 صدرت رواية”هواجس سجينة” لكفاح طافش، وفي 2013 صدر كتاب”الصّمت البليغ” لخالد رشيد الزبدة، وكتاب نصب تذكاري لحافظ أبو عباية ومحمد البيروتي” وفي العام 2014 رواية”العسف” لجميل السلحوت”، ورواية “عسل الملكات” لماجد أبو غوش، وفي العام 2015 “مرايا الأسر” قصص وحكايا من الزمن الحبيس” لحسام كناعنة، ورواية” مسك الكفاية سيرة سيّدة الظلال الحرة” و “نرجس العزلة” إضافة إلى ديواني شعر هما: “طقوس المرة الاولى”، “أنفاس قصيدة ليلية”، كما صدرت له عام 2019 عن دار الآداب في بيروت رواية “خسوف بدر الدين”، ورواية “زغرودة الفنجان” للأسير حسام شاهين، وفي العام 2015 صدرت رواية خريف الانتظار المحطات” للكاتب بسام الكعبي، وكذلك كتب”اربعون يوما على الرصيف” لصالح ابو لبن. وفي العام 2016 صدر لإبراهيم رجا سلامة “كتاب قبة السماء –”  كتاب يوثّق فيه تجربته في الأسر -، وبين العامين 2007 و2017 صدرت أربع روايات” خبر عاجل، بشائر، وجع بلا قرار، والكبسولة” لكميل سعيد أبو حنيش، وفي العام 2021 صدرت له رواية “الجهة السابعة”، و”كتاب وقفات مع الشعر الفلسطيني”. كما صدرت رواية “الشتات” للأسير المحرّر د. رأفت خليل حمدونة، كما صدر عام 2017 كتاب “صدى القيد” لأحمد سعادات. وفي العام 2018 صدر كتاب “رسائل في التجربة الاعتقالية” للكاتب الفلسطينيّ الأسير وائل نعيم أحمد الجاغوب، كما صدر كتاب””إضاءات على رواية المعتقلين الأدباء في المعتقلات الإسرائيلية” لرائد محمد الحواري”. وفي العام 2019 صدرت رواية “العنّاب المرّ”للأسير المحرّر أسامة مغربي.

وصدر كتاب”دائرة الألم” ورواية “ليس حلما” للأسير سامر عصام المحروم.

وصدرت “رسائل في التجربة الاعتقالية” للكاتب الفلسطينيّ الأسير وائل نعيم أحمد الجاغوب، و صدر للجاغوب روايتان من داخل المعتقل، الأولى بعنوان “أحلام”، والثانية بعنوان “أحلام مؤجلة”. كما صدر له كتاب بعنوان “رسائل في التجربة الاعتقالية”. كذلك صدر له عدد من الدراسات منها دراسة بعنوان “أطروحات في الوعي بالمشروع الصهيوني في فلسطين”، وأخرى بعنوان “الخارطة السياسية الإسرائيلية.”

وصدرت روايتان “تحت عين القَمَر” و”سراج عشق خالد” للأسير معتز محمد فخري عبدالله الهيموني”. وصدرت رواية” حسن اللاوعي” لإسماعيل رمضان. رمضان

وفي العام 2020 صدركتاب ثقافة الإدارة وإدارة الثقافة” للكاتب حسن عبدالله، الصدور العارية” للكاتب خالد الزبدة، و”العناب المرّ” لأسامة المغربي. وصدر كتاب”الاعتقال الإداري في فلسطين كجزء من المنظومة الاستعمارية: الجهاز القضائي في خدمة الأمن العام”، لعبد الرازق فرّاج.

وصدرت للأسير هيثم جابر خمسة كتب وهي: مجموعته القصصية “العرس الأبيض”، وروايتاه “الشهيدة” و”الأسير 1578″، وديواناه “زفرات في الحبّ والحرب” بجزئيه الأوّل والثاني. وصدرت عام 2020 رواية “تَحتَ عين القَمَر – آلة الزمن الوهمية” ورواية”سراج عشق خالد” للأسير معتز الهيموني، ورواية “عشق خالد”. وصدر كتاب نصر الطيار” للأسير إسلام صالح محمد جرار. وصدرت رواية”أنفاس امرأة مخذولة” للأسير باسم خندقجي، كما صدر للأسير حسام شاهين كتاب”رسائل إلى قمر-شظايا سيرة”. كما صدر كتاب “لماذا لا أرى الأبيض” للأسير راتب حريبات. وصدر كتاب “حسن الّلاوعي سروج خالية”للأسير المحرّر اسماعيل رمضان، ورواية “عاشق من جنين” للأسير المحرر رأفت خليل حمدونة، وفي العام 2020 أيضا رواية  ظلّ الأيّام” لبهاء رحّال.  وصدر كتاب”القديس والخطيئة” للأسير خليل أبو عرام، كما صدر كتاب “مرفأ الذكريات” لفهيمة هادية خليل، الذي كتبته عن زوجها الأسير الأمني المرحوم فتحي خليل من طرعان، وعن اتحاد الكتاب الفلسطينيين صدر  “للسّجن مذاق آخر” “للأسير أسامة الأشقر. وفي العام 2020 صدر ايضا سردية “الخرزة” للأسير منذر مفلح.

وفي العام 2021 صدرت رواية “سراج عشق خالد”  للأسير معتز الهيموني. كما صدر ” أسرى وحكايات، من فن السيرة في السجون” للأسير أيمن ربحي الشرباتي، وصدر “جدلية الزمان والمكان في الشعر العربي” لكميل أبو حنيش. وصدر كتاب” احترقت لتضئ” للكاتبة الأسيرة المحررة  نادية الخياط، وصدرت رواية” فارس وبيسان”للأسير ثائر كايد حماد. وصدر كتاب “المغيبون خلف الشمس” للدكتور عقل صلاح. وصدرت رواية “حجر الفسيفساء” للأسيرة المحررة مي الغصين، وكتاب” منارات في الظلام” للأسير المحرر حسن الفطافطة، وصدرت رواية “الطريق إلى شارع يافا” للأسير عمار الزبن. وصدر ديوان ” عن السجن وأشياء أخرى” للأسير  ناصر أبو سرور، كما صدر عن وزارة الثقافة كتاب” احترقت لتضيء” للأسيرة نادية الخياط. وصدر كتاب “ترانيم االيمامة” تأليف الأسيرات المحرّرات: مي وليد الغصين، شريفة علي ابو نجم، تغريد محمد ابراهيم سعدي،  عطاف داود عليان، أريج عروق، لينا احمد صالح جربوني، جيهان فؤاد دحادحة، نهاد عبدالله وهدان،  عهود عباس شوبكي ومنى قعدان-سُجنت ثانية، إشراف ومتابعة إبتسام أبو ميالة. وصدر ديوان “أنانهم” لأحمد العارضة، وصدرت رواية حجر الفسيفساء لمي الغصين، صدر ديوان “عن السجن وأشياء أخرى” للأسير ناصر أبو سرور.

كما صدر كتاب” الأسرى الفلسطینیون داخل السجون الصھیونیة” لمحمد محفوظ جابر. وصدر كتاب “عين الجبل” للأسير محمد الطوس. وصدر كتاب “حروف من ذهب” للأسير قتيبة مسلم، وفي العام 2021 صدر أيضا كتاب”ثورة الحب والحياة في سجون الاحتلال الإسرائيلي لعيسى قراقع. وصدر كتاب” “حسن الّلاوعي سروج خالية” لاسماعيل رمضان. وصدرت رواية “على درب الحلبي” للأسير طارق عبد الفتاح يحيى.

وأدب السجون فرض نفسه كظاهرة أدبيّة في الأدب الفلسطينيّ الحديث، أفرزتها خصوصيّة الوضع الفلسطينيّ، مع التّذكير أنّها بدأت قبل احتلال حزيران 1967، فالشّعراء الفلسطينيّون الكبار محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وغيرهم تعرضوا للاعتقال قبل ذلك، وكتبوا أشعارهم داخل السجون أيضا، والشّاعر معين بسيسو كتب”دفاتر فلسطينية” عن تجربته الاعتقالية في سجن الواحات في مصر أيضا. وفي العام 2019 صدر كتاب “جمر الكلمات” لبسام الكعبي. ورواية “الكبسولة” لكميل أبو حنيش وفي مطلع العام 2021 صدر للأسير أبو حنيش”جدلية الزمان والمكان في الشعر الهربي. وسردية “ليس حلما” للأسير سامر محروم. كما صدر كتاب جمر المحطات لبسام الكعبي. وفي العام 2020 صدرت رواية” الأسير 1578″ للأسير هيثم جابر. و”صدى القيد” للأسير القائد أحمد سعادات. وصدر أيضا  “الاعتقال الإداري في فلسطين كجزء من المنظومة الاستعمارية. الجهاز القضائي في خدمة الأمن العام.”للأسير عبدالرازق فراج، وصدرت أيضا في العام 2020 مجموعة قصصية بعنوان “لست وحيدا مثل حجر” للدكتور سامي الكيلاني، كما صدرت رواية “حين يعمى القلب”للدكتورة وداد البرغوثي. وصدرت رواية “فارس وبيسان” للأسير ثائر كايد حمّاد.

وصدر كتاب”الرواحل، الواقع والمأمول” للأسير محمود عبد الله عارضة. وصدر كتاب”بلاط الرُّعيان” للأسير أحمد إبراهيم بسيسي.

كما أن أدب السّجون والكتابة عنها وعن عذاباتها معروفة منذ القدم عربيّا وعالميّا أيضا، فقد كتب الرّوائي عبد الرحمن منيف روايتي”شرق المتوسط” والآن هنا” عن الاعتقال والتعذيب في سجون دول شرق البحر المتوسّط. وكتب فاضل الغزّاوي روايته” القلعة الخامسة” وديوان الشّاعر المصري أحمد فؤاد نجم”الفاجوجي”.ومنها ما أورده الأستاذ محمد الحسناوي في دراسته المنشورة في مجلة”أخبار الثقافة الجزائرية” والمعنونة بـ”أدب السّجون في رواية “ما لا ترونه” للشّاعر والرّوائي السّوري سليم عبد القادر، وهي (تجربة السّجن في الأدب الأندلسي- لرشا عبد الله الخطيب ) و ( السّجون وأثرها في شعر العرب.. –لأحمد ممتاز البزرة ) و( السّجون وأثرها في الآداب العربية من الجاهلية حتى العصر الأموي- لواضح الصمد ) وهي مؤلفات تهتم بأدب العصور الماضية، أمّا ما يهتم بأدب العصر الحديث ، فنذكر منها : ( أدب السّجون والمنافي في فترة الاحتلال الفرنسيّ – ليحيى الشّيخ صالح ) و( شعر السّجون في الأدب العربيّ الحديث والمعاصر – لسالم معروف المعوش ) وأحدث دراسة في ذلك كتاب “القبض على الجمر – للدّكتور محمد حُوَّر”. وفي عام 1998 صدرت رواية (حياة مسروقة: عشرون عاما في سجن الصحراء) للمغربية مليكة محمد أوفقير، وعام 2000 صدرت رواية (من الصخيرات إلى تزممارت: تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم) للمغربي محمد الرّايس، ورواية (تزممارت الزنزانة رقم 10)لأحمد المرزوقي، ورواية (تلك العتمة الباهرة) للطاهر بن جلّون. وفي العام 2021 صدرت “رواية عشق خالد” للأسير معتز الهيموني.”

أمّا النّصوص الأدبية التي عكست تجربة السّجن شعرا أو نثرا فهي ليست قليلة،: نذكر منها ( روميات أبي فراس الحمداني ) وقصائد الحطيئة وعلي ابن الجهم وأمثالهم في الأدب القديم. أما في الأدب الحديث فنذكر: ( حصاد السّجن – لأحمد الصّافي النّجفي ) و (شاعر في النّظارة : شاعر بين الجدران- لسليمان العيسى ) و ديوان (في غيابة الجبّ – لمحمد بهار : محمد الحسناوي) وديوان (تراتيل على أسوار تدمر – ليحيى البشيري) وكتاب (عندما غابت الشّمس – لعبد الحليم خفاجي) ورواية “خطوات في الليل – لمحمد الحسناوي.

وفي العام 2019 صدر كتاب” من أدب السجون العراقي” للناقد حسين سرمك حسن ، وفى العام 2020 صدر ديوان شعر باسم زفرات فى الحب والحرب 2 للأسير الشاعر هيثم جابر. )

‏‏‏‏

التعذيب بسيارات الترحيلة

الانقلاب العسكرى ) . 

كانت سيارات الترحيلة الغير صالحة للنقل الادمى احدى وسائل التعذيب التى يعانيها المعتقلون باستمرار حيث كانت تلك السيارت الحديدية الضخمة المحكمة الغلق ذات النوافذ الصغيرة التى تتخللها قضبان الحديد وتكسوها الشباك الحديدية  من الخارج والداخل غير صالحة لنقل البضائع و الجمادات فكيف بالبشر وكيف بالمعتقلين وهم مقيدون بعضهم الى بعض بالاغلال والسيارة تكون فى حرّ الصيف كأتون مشتعل نغلى نحن فيه من الداخل خاصة حينما كانوا يتركونا لبضع ساعات تحت اشعة الشمس المكشوفة والسيارة تشوينا فى الداخل كانت السيارة الحديدية خالية من الداخل من المقاعد تماما ولم يكن فيها اى شىء نستطيع التعلق به والاستناد عليه  من مطبات الطريق والفرامل السيئة دوما لقائدى سيارات التراحيل ولم يكن لنا وسيلة تشبث الا شباك الحديد على النوافذ نتخللها باطراف اصابعنا وتكاد شباك الحديد الحادة تمزقها وكانت المعاناة الاكبر التى تقابلنا والهم الاول كيف سنقوم بالقاء الوريقات الصغيرة التى كنا نلقيها للمارة فى الطريق نكتب لهم فيها ارقام ذوينا التليفونية ونخبرهم فيها رسائل صغيرة مثل انا تم ترحيلى لمعتقل كذا او انا ذاهب الان الى لاظوغلى وساعود للمعتقل بعد عّدة ايام اذ كانت هذه هى وسيلة الاتصال الوحيدة لنا باسرنا فى ظل غلق الزيارة لسنوات   فكانت هناك بعض سيارات الترحيلة القليلة ذات النوفذ القضبانية الخاليه من الشباك نستطيع ان نخرج منها ايدينا فنلقى للمارة فى الطريق بالورقات الصغيرة وكان الغالبية العظمى من اهل مصر الطيبين يتهافتون على رسائلنا ليلتقطوها وغالبهم  كان يقوم فعلا بالاتصال باهالينا وتوصيل الرسالة اليهم واحيانا كنا نضع فى ورقة التليفون مبلغا من المال بسيطا حتى نرفع عن المتصل حرج نفقة المكالمة واذكر العديد من المرات كان بعضاالناس الطيبون يجرون وراء سيارة الترحيلة على اقدامهم ليلتقطوا الاوراق التى نلقيها وكان بعضهم فى بعض الاحيان يتعرض للاهانة  من ضابط الترحيلة واذكر فى احد المرات اوقف ضابط الترحيلة السيارة ونزل يضرب احد الشاب الذى كان يلتقط منا الرسائل ولكم كانت تخفق قلوبنا وتدمع اعيننا ونحن نرى مثل هذه المواقف وهذه الروح الطيبة لاهل مصر الطيبين وهم يشاهدون اصحاب الجلاليب البيضاء المصلون وحافظى القران ينقلون فى سيارات المجرمين ليتم حشرهم فى السجون لا لشىء الا انهم يقولوا ربنا الله

كان يتم حشرنا فى سيارة الترحيلة باعداد كبيرة تزيد كثيرا عن حمولتها القصوى اذكر فى احدى المرات كنا عائدين فى سيارة الترحيلة من لاظوغلى الى معتقل دمنهور وكنا 6 من الاخوة وكان معنا اخ من حدائق القبة حاصل على دكتوراة فى الهندسة وكان على علم بالعلوم الشرعية وعلى قدر من الفهم والوعى الراقى والاخلاق العالية وكان مرهقا جدا ونحن فى سيارة الترحيلة واذ بضابط الترحيلة يتوقف عند قسم الخليفة بالقاهرة ويدخل الى القسم وبعد نصف ساعة يخرج وهو يجر خلفه اربعين مسجونا جنائيا ويحشرهم معنا فى سيارة الترحيلة فاصبحت السيارة كعلبة السردين  فسالناهم عن وجهتهم فاذا هى سجن وادى النطرون فاسقط فى ايدينا وعلمنا اننا سنلقى العذاب طوال ساعتين حتى نصل لسجن وادى النطرون وكان الوقت صيفا والحرّ داخل سيارة الترحيلة كانه فرن مشتعل ونقف بالكاد على قدم واحدة فى سيارة الترحيلة واغلب المساجين الجنائيون من حولنا يحاولون اشعال السجائر  مرة واحدة فطلبنا منهم برفق ان لا يقوموا باشعال السجائر لاننا لن نحتمل وسنختنق لان عددنا كان 46 فى السيارة وكانت نوافذ السيارة محكمة الغلق بالقضبان والشباك لم تفلح محاولاتنا معهم فى عدم التدخين فاتفقنا معهم على ان يقوموا مجموعة تلو الاخرة ويقفوا عند نوافذ السيارة حتى يخرج الدخان معظمه للخارج ولا نختنق ولقد كانت حياة المساجين الجنائى تختلف تماما عن حياتنا رغم اشتراكنا معهم فى كوننا مساجين فلقد كانت حياتهم ومعيشتهم غالبها بلا نظافة او طهارة ويدخنون بشراهة  وتنهال من السنتهم سيول الكلمات البذيئة والالفاظ الفاحشة فكانت حياتهم بالنسبة لنا لا تطاق لان مجتمع الاسلاميين فى المعتقلات كان مجتمعا نظيفا طاهرا عفيفا تحيطه اخلاق الاسلام من كل جانب وتحفه العبادات من صلاة وصيام ونوافل وذكر وقيام وحب فى الله واخوة ايمانية وايثار وكرم وتضحية كل هذه الاجواء كانت بمثابة الهواء الذى نتنفسه ولولا تلك الاجواء ما استطعنا تحمل كل تلك السنوات فى ظروف المعتقلات الصعبة هذه.

ومن الاشياء الجميلة التى كانت تهوّن علينا الطريق فى سيارة الترحيلة اخواننا المنشدون اصحاب الاصوات العذبة والاناشيد الاسلامية الرائعة الكلمات والتى كانت ترفع روح الواحد منا حتى تكاد تناطح السحاب فاذكر اخى ابو يوسف وكان شابا فى العشرين من عمره وقد ولد وتربى فى ارض الحرمين وعاد لمصر بلده وتعرض للاعتقال بعد فترة وجيزة وكان صوته عذبا رائقا تحب سماعه وكذلك الاخ  المنشد محمد ابو نضال من حدائق القبة  وكان طالبا فى كلية الطب وتم اعتقالة لما يقارب ال12 عاما وكذلك الاخ محمد عثمائنلى من اسوان وقد مكث ما يزيد على ال14 عاما فكان الاخوة ينشدون لنا فى السيارة يهونون علينا كثيرا صعوبة الوضع وكانت هذه الاناشيد وتلك الاشعار تلامس قلوبنا بقوة وتتخللها لان الظروف التى كنا فيها كانت تطابق تماما ظروف الشعراء الذين كتبوا هذه الكلمات

فكانوا ينشدون لنا امثال هذا النشيد من كلمات الشهيد –كمانحسبه- سيد قطب والتى كتبها وهو فى سجون الطاغية عبد الناصر قبل اعدامه

أخي أنت حرٌّ وراء السدود ….. أخي أنت حرٌّ بتلك القيود

إذا كنت بالله مستعصما …. فماذا يضيرك كيد العبيد؟!!

أخي هل تُراك سئمت الكفاح ؟ …. وألقيتَ عن كاهليك السلاح

فمن للضحايا يواسي الجراح ؟….. ويرفع راياتها من جديد

أخي: إنني اليوم صلب المراس … أدكُّ صخور الجبال الرواسي

غدا سأشيحُ بفأسي الخلاص … رؤوس الأفاعي إلى أن تبيد

قد اختارنا الله ف دعوته .. و إنا سنمضي على سُنته

و لا تلتفت ههنا أو هناك .. و لا تتطلع لغير السماء

فلسنا بطير مهيض الجناح .. و لن نستذل .. و لن نستباح

أخي: إن ذرفت عليَّ الدموع … وبللت قبري بها في خشوع

فأوقد لهم من رفاتي الشموع … وسيروا بها نحو مجد تليد

أخي: إنْ نمتْ نلقَ أحبابنا …. فروضات ربي اُعدَّت لنا

وأطيارها رفرفت حولنا … فطوبى لنا في ديار الخلود

أخي إنني ما سئمتُ الكفاح … ولا أنا ألقيتُ عني السلاح

فإنْ انا متُّ فإني شهيد ….. وأنت ستمضي بنصر مجيد

ساثار ولكن لرب ودين … وأمضي على سنتي في يقينفإما إلى النصر فوق الأنام … وإما إلى الله في الخالدين

أدب السجون

جميل السلحوت
روائي


أدب السجون
الكتابة عن التجربة الإعتقالية ليست جديدة على الساحة الفلسطينية، والعربية وحتى العالمية، وممن كتبوا بهذا الخصوص: خليل بيدس صاحب كتاب”أدب السجون” الذي صدر بدايات القرن العشرين، زمن الانتداب البريطاني، وكتب الشيخ سعيد الكرمي قصائد داخل السجون العثمانية في أواخر العهد العثماني، كما كتب ابراهيم طوقان قصيدته الشهيرة عام 1930تخليدا للشهداء عطا الزير، محمد جمجوم وفؤاد حجازي، وكتب الشاعر الشعبي عوض النابلسي بنعل حذائه على جدران زنزانته ليلة إعدامه في العام 1937 قصيدته الشهيرة” ظنيت النا ملوك تمشي وراها رجال” وكتب الدكتور أسعد عبد الرحمن في بداية سبعينات القرن الماضي(يوميات سجين)كما صدرت مجموعة قصص(ساعات ما قبل الفجر) للأديب محمد خليل عليان في بداية ثمانينات القرن الماضي، و”أيام مشينة خلف القضبان” لمحمد احمد ابو لبن، و”ترانيم من خلف القضبان” لعبد الفتاح حمايل ، و”رسائل لم تصل بعد” لعزت الغزاوي ، وقبل”الأرض واستراح” لسامي الكيلاني، و”نداء من وراء القضبان” وعناق الأصابع” لعادل وزوز،
و(الزنزانة رقم 706) لجبريل الرجوب، وروايتا(ستائر العتمة ومدفن الأحياء)وحكاية(العمّ عز الدين) لوليد الهودلي، و”رسائل لم تصل بعد” ومجموعة”سجينة”للراحل عزت الغزاوي و(تحت السماء الثامنه)لنمر شعبان ومحمود الصفدي، و”أحلام بالحرية”لعائشة عودة، وفي السنوات القليلة الماضية صدر كتابان لراسم عبيدات عن ذكرياته في الأسر، وفي العام 2005صدر للنائب حسام خضر كتاب”الاعتقال والمعتقلون بين الإعتراف والصمود” وفي العام 2007 صدرت رواية “قيثارة الرمل” لنافذ الرفاعي، ورواية”المسكوبية” لأسامة العيسة، وفي العام 2011 صدر”الأبواب المنسية” للمتوكل طه، ورواية “سجن السجن” لعصمت منصور، كما صدر أكثر من كتاب لحسن عبدالله عن السجون ايضا. ومجموعة روايات لفاضل يونس، وأعمال أخرى لفلسطينيين ذاقوا مرارة السجن.
وأدب السجون فرض نفسه كظاهرة أدبية في الأدب الفلسطيني الحديث، أفرزتها خصوصية الوضع الفلسطيني، مع التذكير أنها بدأت قبل احتلال حزيران 1967، فالشعراء الفلسطينيون الكبار محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وغيرهم تعرضوا للاعتقال قبل ذلك، وكتبوا أشعارهم داخل السجون أيضا، والشاعر معين بسيسو كتب”دفاتر فلسطينية” عن تجربته الاعتقالية في سجن الواحات في مصر أيضا.

كما أن أدب السجون والكتابة عنها وعن عذاباتها معروفة منذ القدم عربيا وعالميا أيضا، فقد كتب الروائي عبد الرحمن منيف روايتي”شرق المتوسط” والآن هنا” عن الاعتقال والتعذيب في سجون دول شرق البحر المتوسط. وكتب فاضل الغزاوي روايته” القلعة الخامسة” وديوان الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم”الفاجوجي”.ومنها ما أورده الأستاذ محمد الحسناوي في دراسته المنشورة في مجلة”أخبار الثقافة الجزائرية” والمعنونة بـ”أدب السجون في رواية”ما لا ترونه”للشاعر والروائي السوري سليم عبد القادر
وهي (تجربة السجن في الأدب الأندلسي- لرشا عبد الله الخطيب ) و ( السجون وأثرها في شعر العرب.. –لأحمد ممتاز البزرة ) و( السجون وأثرها في الآداب العربية من الجاهلية حتى العصر الأموي- لواضح الصمد ) وهي مؤلفات تهتم بأدب العصور الماضية ، أما ما يهتم بأدب العصر الحديث ، فنذكر منها : ( أدب السجون والمنافي في فترة الاحتلال الفرنسي – ليحيى الشيخ صالح ) و( شعر السجون في الأدب العربي الحديث والمعاصر – لسالم معروف المعوش ) وأحدث دراسة في ذلك كتاب(القبض على الجمر – للدكتور محمد حُوَّر)
أما النصوص الأدبية التي عكست تجربة السجن شعراَ أو نثراً فهي ليست قليلة، لا في أدبنا القديم ولا في الأدب الحديث: نذكر منها (روميات أبي فراس الحمداني) وقصائد الحطيئة وعلي ابن الجهم وأمثالهم في الأدب القديم . أمّا في الأدب الحديث فنذكر:( حصاد السجن – لأحمد الصافي النجفي) و (شاعر في النظارة : شاعر بين الجدران- لسليمان العيسى) و ديوان (في غيابة الجب – لمحمد بهار : محمد الحسناوي) وديوان (تراتيل على أسوار تدمر – ليحيى البشيري) وكتاب (عندما غابت الشمس – لعبد الحليم خفاجي) ورواية (خطوات في الليل – لمحمد الحسناوي).
كما يجدر التنويه أن أدب السجون ليس حكرا على الفلسطينيين والعرب فقط، بل هناك آخرون مثل شاعر تركيا العظيم ناظم حكمت، وشاعر تشيلي العظيم بابلونيرودا، والروائي الروسي ديستوفسكي في روايته”منزل الأموات” فالسجون موجودة والتعذيب موجود في كل الدول منذ القديم وحتى أيامنا هذه، ولن يتوقف الى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.

أدب السجون والرواية البوليسية

ياسين الحاج صالح-كاتب سوري

ليس في الغرب الحديث، الذي ظهرت فيه الرواية البوليسية أدب سجون، وليس لدينا في العربية رواية بوليسية، فهل يمكن القول إنه ليس لدينا رواية بوليسية، لأن لدينا أدب سجون، والعكس بالعكس؟
لعل ما جعل أدب السجون ممكناً، هو ما تنطوي عليه تجربة السجن من إثارة وتطرف، إنها قصة تعذيب وإذلال، وربما اقتراب من الموت، مع مصير مجهول وحياة مهدورة لسنوات طويلة، لكنها تنتهي بنجاة كاتبها.
من الكاتب؟ في الغالب الأعم هو صاحب رأي، لم يرتكب جرماً يشين به، وناله عقاب غير مستحق. أدب السجون أو الكتابة عن السجن هو بهذه الصفة شهادة على هدر الحياة، وعلى الحرمان العام من العدالة والحرية في مجتمعاتنا المعاصرة. وبقدر ما إن هذا الأدب يتكلم بصورة ثابتة عن عذاب ومعاملة مهينة، فإنه شهادة على مستوى الكرامة كذلك. في المقابل لا يبدو أن هناك ضابط مخابرات واحداً أو جلاداً واحداً كتب سيرته المهنية، المتصلة باعتقال ومعاملة أصحاب الرأي. من يكتب هو «المجرم» المفترض، المعتقل أو السجين السابق، وليس محارب الجريمة المفترض. المجرم المفترض يكتب لأنه ليس مجرماً، وليقول إن الجريمة هي ما تعرض له. أما محارب الجريمة المفترض فلا يكتب، ليس فقط لخلو ما يقوم به من الخطر والمصير المجهول، وإنما أكثر لخلوه مما يشرّف، بل ولغلبة صفة الجريمة عليه.
حيال الرواية البوليسية نحن في جو مختلف، تتمايز فيه أدوار المجرم والمحقق والكاتب، وربما تمايز المحقق أو التحرِّي عن رجل الشرطة أو البوليس. ولعل أمتع الروايات البوليسية التي يكون المحقق فيها تحريّاً خاصاً. والأهم أنه لو تسنى للمحقق هنا في سعيه لمعرفة الحقيقة وكشف الجاني، القاتل أو السارق، أن يعتقل المشتبه فيهم ويعذبهم وينتزع منها اعترافات، لما كانت الرواية البوليسية ممكنة. وحتى لو كان المحقق من جهاز الشرطة الحكومي، المفوض بممارسة العنف المشروع. لماذا؟ لأن التعذيب يحل الحبكة، وبالتالي يحل الرواية نفسها، لأنه بمثابة قطع للعقدة بعنف منفر، بدل أن يفككها بأناة، فتنتظم الأشياء على نحو يرتاح له العقل، يقبل عليه ويُقِرّه. راحة العقل أو استرخاؤه هو شعورنا بعد أن نعرف حل اللغز في نهاية الرواية. ليس هناك لغز حين يكون التعذيب ممكناً، ولا راحة للعقل ما دام ما يستخرج بالتعذيب لا يمكن أن يكون إلا حقائق مشوبة وغير نقية. والرواية بالتالي غير ممكنة، أو هي تنحل في صنف آخر: رواية عن الحامي الحرامي، أو الحاكم القاتل، وأقرب شيء إلى ذلك عندنا هو «أدب السجون». الروائيون محتاجون إلى رفع الصوت ضد التعذيب من أجل حبكاتهم. الدفاع عن الرواية البوليسية هو نضال ضد بوليس لا يعذب، وضد الحكم بالتعذيب.
شرط الرواية البوليسية هو الاشتباه، ليس اشتباه المحقق بشخص أو أشخاص، بل اشتباه البنية الاجتماعية، ألغازها وتعقدها، ومراوغة الحقيقة، وصفتها غير المباشرة أو المركبة. وهو ما يقضي بوجود عاملين يتكرسون لمحاولة معرفة الحقيقة، إن بالمعنى الجنائي، أو الصحافي أو الفلسفي أو العلمي، ويطورون مناهج للاقتراب منها. المحقق ليس فيلسوفاً ينظر بروية في تعقد الشرط الإنساني، ويفكر في شروط إمكان الحقيقة، ولا صحافياً يبني بصبر القصة الكاملة، لحدث بدءاً من نتف وتفاصيل متناثرة، ولا هو عالم في مجال الإنسانيات، يجمع متئدا بين البحث الميداني في مجتمعه، والإحاطة بتراث البحث في مجاله، ويحاول توليد معرفة جديدة، ولا هو كذلك عالم طبيعيات يقضي عمره منكباً على عمله، مستعيناً بأدوات دقيقة على معرفة إضافية في شأن الأحياء والأشياء، إلا أن المحقق يشاركهم في الصدور عن لامباشرية الحقيقة، وفي وجوب التحري الدقيق والصبور للإحاطة بها، وفي عدم شرعية فرضها، أو استخراجها بالقوة. يجمع الأدوار المذكورة، الصبر والأناة واحترام المدروس، في ما يتميز التعذيب بالقسوة و«اللهْوجة» وعدم الاحترام.

ما يجعل أدب السجون ممكناً، أعني التعذيب كمنهج تحقيق، هو نفسه ما يجعل الرواية البوليسية غير ممكنة. ليس أن حضور الأول يسبب غياب الثاني، ولكن الظروف التي تحتم حضور أدب السجون ترجح غياب الرواية البوليسية.

ثم إن الكاتب هنا ليس هو الجاني، ولا المحقق ولا ضابط البوليس، إلا ربما بصورة عارضة. الكاتب هو شخص ثالث أو رابع، ليس طرفاً في القضية ولا صاحب مصلحة. ليس منشأ هذه الأدوار امتيازا أصليا أو متأصلا في مجتمعات الغرب، فهي تميل إلى فرض حقائقها في خارجها أو خوارجها، وتنزع جيوشها إلى ممارسة التعذيب للحصول على معلومات (مشوبة حتماً) ولا يندر أن يلفق بحّاثتها نظريات كبرى عن مجتمعات وثقافات، بدون أناة ولا احترام. تمايز الأدوار هذا محصلة تاريخية لصراعات ومقاومات وتوازنات اجتماعية، تبقى قلقة دوماً، وغير ممتنعة على النكوص. تعرض الأفلام الأمريكية عن «الحرب ضد الإرهاب» كل ما يميز صراعاً بين حق (هو نحن) وباطل (هو هم) من ابتذال ميلودرامي، لا يغطى عليه بغير ضخامة الإنتاج والإبهار التقني.
ولعله يمكن افتراض أن الرواية البوليسية أخذت تولد مع تراجع التعذيب بالتدريج في عصر التنوير، لكن بخاصة في القرن التاسع عشر، وأن ما نشأ في التاريخ يمكن أن ينتهي في التاريخ، سواء بعودة التعذيب، أو بتحولات في نظام المجتمع والحقيقة، إن بنفي الحقيقة واعتبار كل شيء نسخاً (سميولاكرات) فلا يحيل الاشتباه إلا إلى اشتباه آخر، أو بظهور نظام رقابة شامل، مسلحاً بتكنولوجيات كلية الانتشار على ما يبدو أنه الحال اليوم سلفاً في دبي.
في أدب السجون بالمقابل، الدولة هي المجرم الأول، هي من تعتقل وتعذب وتهين وتسيء معاملة محكومين يحصل أن ينجو بعضهم فيكتبوا عن تجاربهم. المحقق هو محقق الدولة، وهو يعتمد التعذيب تحقيقاً، فينفصل على هذا النحو التحقيق عن الحقيقة، ولا يجري الحصول إلا على حقائق مشوبة، تقترن على المستوى العام بالذل العام، مما لا يشكل بيئة صالحة لكتابة معافاة. ولعل ما يحرك التعذيب والحقائق المشوبة إرادة كشف الأفراد والمجتمع، أن يكونوا منكشفين بلا حماية ومفتوحين بلا وقاء، مقروئين وطيعين بالكامل. حقيقتهم الكاملة مدونة في «قيود» جلاديهم، وليس في نفوسهم. هنا تتلامح مفارقة. فطلب الحقيقة الكاملة لا يفضي إلى غير حقائق مختلطة، ملوثة، قد لا تعدو كونها شوائب بلا أثر من الحقيقة، ومقترنة حتماً بالكراهية والخوف والذل. بالمقابل، يتوافق القبول بالاشتباه، اشتباه المجتمع أو تعدد بطونه واشتباه الحقيقة أو خفائها ولا مباشريتها، مع الحصول على حقائق موثوقة أكبر، قابلة لأن يضاف إليها وتُغنى وتعدل. الفرق بين الإشابة والاشتباه هو بين تلويث الحقيقة عمداً، وتعذر تنقية الحقيقة تماماً. في المرة الأولى تلوث الحقيقة متولد عن منهج التحقيق الفاسد، وفي المرة الثانية متولد عن التباس الإنساني واشتباهه.
والخلاصة أن ما يجعل أدب السجون ممكناً، أعني التعذيب كمنهج تحقيق، هو نفسه ما يجعل الرواية البوليسية غير ممكنة. ليس أن حضور الأول يسبب غياب الثاني، ولكن الظروف التي تحتم حضور أدب السجون ترجح غياب الرواية البوليسية.
فهل نريد رواية بوليسية؟ ليس حتماً. المؤكد أننا لا نريد أدب سجون كالذي أخذنا نعرفه في سوريا في الحقبة الأسدية، ويشكل أبلغ شهادة عنها. أعني لا نريد عيش التجارب التي اشتبك معها أدب السجون. لهذا الأدب كصنف بداية، هي ظهور دولة التعذيب، وله نهاية هي نهايتها.

القدس العربي

(ملف خاص عن أدب السجون)… مملكة الصمت الجهنمية في عهد الأسدَين

كان للمثقفين والكتّاب السوريين، في العقود الخمسة الأخيرة من التاريخ السوري المعاصر، نصيبٌ كبيرٌ من القمع والقهر والتعذيب، في سجون وأقبية الاستبداد البعثي الأسدي، ليضاف إلى التاريخ الأسود لنظامٍ دكتاتوريٍ، ما زال يواصل فعل الإبادة للحياة السياسية والثقافية والاجتماعية ولكل صوت حرّ يهدد وجوده العنفي، تاريخٌ من العار يكلّل جباه الطغاة، وقد دفع ذلك الأمرُ كثيرًا من الذين خاضوا تلك التجربة المريرة إلى تدوينها في صيغة عمل أدبي، سواء أكان قصة أو رواية أو كتاب يوميات أو سيرة ذاتية، ومهّد ذلك لظاهرة “أدب السجون”، وهو أدبٌ صادر في معظمه عن تجارب شخصية حيّة ومشاعر إنسانية عميقة، قدمت للأدب وللحياة وللبشرية ما يُسهم في دحر الظلم والظلامية. فكان أن قرأنا رواية «القوقعة: يوميات متلصص» للكاتب مصطفى خليفة، الذي مكث في السجن 13 عامًا، في إثر عودته من باريس -مدينة والنور والجمال- إلى دمشق، ليجد نفسه في أقبية المخابرات الحربية، بتهمة الانضمام إلى (جماعة الإخوان المسلمين)، بالرغم من أنه مسيحي الديانة. وذلك بسبب تقرير كتبه فيه أحد زملائه في الغربة. وكذلك كتبت هبة الدباغ رواية «خمس دقائق وحسب! تسع سنوات في السجون السورية»، وهي التي اعتُقلت لأنّ أخاها متهمٌ بالانتماء إلى (جماعة الإخوان المسلمين)، وخرجت من السجن لتجد أن كل عائلتها قد قُتلت في حماة. وكتب سمير قنوع رواية «أنشودة البرد والحرية»، وقارب فيها عالم السجن، بالرغم من أنّ تجربته فيه لم تتجاوز ثلاثة أيام.

من أهمّ الروايات السورية رواية «أجنحة في الزنزانة»، للكاتب مفيد نجم التي يتحدث الكاتب فيها عن تجربة اعتقاله، وعن الأجنحة التي تنمو للمعتقل، بالرغم من كل القهر والتعذيب، ومن الوصول للموت أكثر من مرّة، وموت الرفاق الحقيقين من التعذيب. ورواية راتب شعبو الموسومة بـ «ماذا وراء هذه الجدران»، وهي تتميز -بحسب النقاد- بلغتها البسيطة، وتفتقر إلى اللغة الشعرية، وهي سيرة ذاتية لحياة الكاتب في السجن، وفصولها مقسمة حسب الأحداث الجارية من قتل وتعذيب، وآلام، وغربة، وانسحاق أمام الشرطة. وكذلك بالمعاملة الإنسانية داخل المهجع لكل السجناء بعيدًا عن الرأي السياسي، خاصة تعامل الشيوعيين، باعتبارهم الأكثرية أمام القوى المسماة بـ “الرجعية” من الإخوان المسلمين، وبعث العراق.

ويرى نقاد أنّ “الروايات السورية عن أدب السجون كانت من أهم الروايات العربية التي تناولت هذه المراحل من اللا حياة في حياة سجناء الرأي السوريين، والذين كانوا بعشرات الألوف منذ استلام الأسد الأب للسلطة، وقبل قيام ثورة 2011”. كما تناول العديد من شعراء سورية حالات القهر والتعذيب والفقد. ولعل أهمهم كان رياض الصالح الحسين، محمد الماغوط، بندر عبد الحميد، فرج بيرقدار صاحب كتاب «خيانات اللغة والصمت»، الذي خصص فيه فصلًا كاملًا عدّد فيه جميع وسائل التعذيب التي نسمع بها مثل “الدولاب” و”الكرسي الألماني”، شارحًا كيف يتم التعذيب في كل واحدة منها. كذلك عمل المفكر ياسين الحاج صالح، الذي قبع بسجون الطاغية الأب والابن السفاح ستة عشر عامًا، على تأليف كتاب بعنوان «بالخلاص يا شباب، 16 عامًا في السجون السوريّة»، وفي مقدمته يؤكّد صالح أنه “لم يفِ ما كُتبَ عن السجن السوري حتى اليوم التجربة حقها. سُجن آلاف، ومرّ بتجربة السجن عشرات الآلاف، ولم تكتب أو تنشر غير بضعة كتب”.

مركز حرمون للدراسات المعاصرة يستضيف في هذا الملف الخاص عن “أدب السجون” في سورية، مجموعة من الكتّاب والروائيين ممن خبروا ظروف الاعتقال فترات محدودة أو السجن في زنازين الأسد الأب ووريثه سنوات طويلة، وقد طرحْنا عليهم الأسئلة الآتية: كيف تعامل كلّ من الأب وابنه الوريث مع المثقفين والمبدعين من الكتّاب في سجون الترهيب والقمع؟  وكيف استُخدمت سلطات الرقابة السياسية في عهدهما لتكميم الأفواه وحرمان الكتّاب من حرية الإبداع وتسليط سيف المحرّم السياسي على رقابهم زمن الطغيان في (سورية الأسد)؟ وهل تعتقدون أنكم لم تخرجوا بعد من هذه السجون؟ وهل تعتقدون أنكم استطعتم تعرية السجان، وأن تكونوا شاهدين أدبيًا على مرحلة هي من أهم وأخطر مراحل التاريخ السوري المعاصر؟ ما الذي يؤلم أكثر: السجن نفسه أم الكتابة عنه؟ وهل فعلًا حين نكتب عن السجن نعيش التجربة التي نفعل ما بوسعنا لنسيانها؟ وممّ حرّركم السجن؟ وما أسوأ ما فعلتْه بكم سجون الاستبداد الأسدي: تدمر الصحراوي، وسجن صيدنايا الذي أظهر تقرير منظمة العفو الدولية (أمنستي) مدى بشاعته ومدى إجرام السجان ووحشيته؟ وماذا تتذكرون اليوم عن تلك السجون والمعتقلات؟ وماذا عن حراس الزنازين؟ كيف كان تعاملهم معكم؟ وهل يمكنكم الحديث اليوم عن “أدب السجون” في سورية؟ أسئلة حارقة وإجابات ممهورة بالدم والألم وعذابات الروح كانت زاد هذا الملف، وفيه شهادات كلّ من الكتّاب: بسام يوسف، محمد برو، راتب شعبو، مفيد نجم، محمد ديبو، وائل السوّاح، آرام كرابيت، شيار خليل شيار، وضاهر عيطة.  

بسام يوسف: المعتقلات الجحيم.. مواجهة يومية مع الموت

ليس جديدًا القول إنّ هذه البلاد المحكومة بالطغيان المتعدد الوجوه منذ زمن طويل، لا تتيح لمن يعيشون فيها وفرة كوفرة القمع، إنه رفيق لحظات عمرنا منذ صرختنا الأولى حتى تنهيدتنا الأخيرة، لكنه، على وفرته تلك، أصبح في زمن حكم عائلة الأسد أشدّ حضورًا، وأشد قسوة. فبعد انقلابه العسكري في عام 1970 اشتغل حافظ الأسد ومعه أجهزة إعلامه، ومخابراته، وحزبه، ورجال دين، وقسم كبير ممن أطلقت عليهم اعتباطًا صفة “المثقفين”، على نسف المعنى الحقيقي لمفهوم المعارضة (التي هي ركيزة الدولة الحديثة) ونقلها من معناها الحقيقي، بصفتها صراعًا بين وجهات نظر يؤدي إلى تطور المجتمعات واغتنائها، إلى اعتبارها خيانة وطنية، لا بل إلى اعتبارها كفرًا صريحًا، وبالتالي فعقوبة مرتكبها الاستتابة أو القتل. وبتغيير معنى المعارضة على هذا النحو، كان من البديهي أن تتحوّل المعتقلات السورية إلى صيغة جديدة تتناسب مع هذا المعنى الجديد، فالكافر أو الخائن المعتقل ليس له أي حق، هو مباح، ومهدور الدم، وما من أحد يجرؤ على الدفاع عنه أو المطالبة به، ومن يفعل يصبح خائنًا أيضًا وكافرًا ويجب عقابه.

لا تنحصر المعارضة في زمن حكم عائلة الأسد في من ينضوون في أحزاب سياسية معارضة، ولا حتى في من ينشطون جماعيًا في عمل ما لا يتفق مع سلطتهم، سواء أكانت نقابات أو منظمات مجتمع مدني، بل تتمدد حتى تشمل أي فرد يخالف بالرأي قداسة “الحاكم بأمر الله”، فيصبح هذا المخالف كافرًا، ويجب عقابه. عندما تُزج في المعتقلات السورية، فإنّ مواجهتك الكبرى ليست فقط في الزمن الراكد الثقيل الممتد بلا أي أفق لنهايته، وليست في انعدام شروط الحد الأدنى من الطعام والصحة، إنها أولًا، قبل كلّ شيء، مواجهة يومية مع الموت، هل يمكنك أن تتخيل العيش لزمن مفتوح بلا نهاية، وأنت كلّ صباح تخرج من كوابيسك الليلية لتواجه احتمال موتك في أي لحظة؟ لا يمكن الحديث عن تفاصيل يومك في السجن دون لازمة الرعب، رعب يستوطن تفاصيل يومك كله، فحراس الهباء الذين انتقاهم نظام يقوم على إرهاب خصومه، أو من يختلفون معه بالرأي، هم على استعداد دائم لاستباحتك، أنت المباح، العاجز، مهدور الدم، مسلوب الحقوق، الخائن، الكافر، الجاحد، وهم المختارون لحراسة الإله المقدس المتعالي فائق القوة والجبروت، القائد الخالد الأبدي.

في هذه المعادلة المجنونة، يصبح البقاء على قيد الحياة هاجسك الدائم، وتصبح أقل تفاصيل الحياة في الخارج توقًا لا يهدأ، وتصبح كلّ التفاصيل التي يراها من هم خارج المعتقلات بلا أدنى أهمية، بالغة الأهمية، كأن يعبر طائر فسحة السماء الضيقة التي تتيحها نافذة صغيرة عالية، أو قصاصة من جريدة وصلت بمصادفة ما إلى هذا الجحيم، أو أن يتناهى إلى سمعك صوت نباح كلب من بعيد، أو نهيق حمار أو صوت منبه سيارة.. كلّ هذه التفاصيل المهملة تجعل منك كتلة من حنين جارف لحياة غادرتك. كثيرًا ما أتعرّض لسؤال عن شعوري حيال السجانين الذين عايشتهم خلال فترة اعتقالي، ولا أبالغ أبدًا إن قلت إنني لا أتذكر معظمهم، ليس هذا ما يدهشني، ما يدهشني هو أنني لا أتذكر إلا من لم يستطع منهم كتم إنسانيته في لحظة ما، فتنفلت منه في كلمة، أو في نظرة، وربما في دمعة.

غلاف مذكرات بسام اليوسف

أتذكر حتى اللحظة وجه ذلك السجان الفتي المجند الذي كان قد وصل إلى السجن، كنت يومها في معتقل صيدنايا، وكنت معاقبًا بالحبس الانفرادي في زنازين ذلك المعتقل، كانت العقوبة التي فرضها مدير السجن بحقي تنص على تعرضي لفلقة “دولاب” -كما يسميه السوريون- مع كلّ وجبة طعام، يومها كانت الدورية مؤلفة من ثلاثة سجانين، وعندما طلب رئيس الدورية من ذلك السجان القادم حديثًا أن يجلدني ارتبك، كانت يده ترتجف، وكنت أشعر بخوفه عبر ضربات كرباجه المرتبكة على قدمي، وعندما صرخ به رئيس الدورية أن يضرب بقوة أكبر، بكى، وهو يقول لا أستطيع .. لا أستطيع. ثم سألت عنه، وعرفت أنهم أخرجوه من السجن إلى مكان آخر.

إذا قُيّض لك الخروج حيًا من معتقلات عائلة الأسد، فسوف يصعب عليك -ربما إلى حد الاستحالة- أن تُخرج هذه المعتقلات منك، خصوصًا إن كنت ممن مكثوا في ظلماتها مددًا طويلة، إذ تحفر هذه المعتقلات دون أن تدري ندوبًا في جسدك وروحك وعقلك لتصبح كالوشم، وشم داكن يغور عميقًا في تفاصيلك كلها، ليس في جسدك وروحك وعقلك فحسب، بل في ذاكرتك أيضًا. إن ما تحتاج إليه بعد خروجك من جحيم معتقلات عائلة الأسد هو أن تقول سجنك، أن تكتبه، أو ترويه، فلكي تتعافى روحك من فاجعتها أنت بأمس الحاجة إلى قول ما فيها من القهر، لكن ما يواجهك بعد خروجك من هذه المعتقلات هو أنك ممنوع من الحديث عنها، وليس مسموحًا لك أن تقول وجعك أو فاجعتك، وإن تحدثت عنها فهذا يعني أنك لم تتعظ وتقتنع بـ “حكمة السيد الرئيس”، وأنّ إعادتك مرّة أخرى إلى دار التأهيل لازمة.

ليس السجن حدثًا عابرًا في حياة فئة قليلة من السوريين، فالنسبة الساحقة منهم عاشت هذه التجربة خلال حكم عائلة الأسد، فمن لم يعشها بجسده عاشها عبر أحد أفراد عائلته، أو عبر قريب حميم له، ومنذ أن وصل حافظ الأسد إلى السلطة حتى اليوم، لا يزال السجن حاضرًا في حياة السوريين كالخبز. ليس قول السجن أو الكتابة عنه ممكنًا دائمًا، وعلى الرغم من أنه ما من سوري خاض غمار هذه التجربة المرّة إلا ويختزن في روحه وذاكرته ما يكفي لكتابة ملحمة عن الألم الإنساني الهائل الذي عاشه في أمكنة هي الأبشع في تاريخ المعتقلات، والمسكوت عنها مع الأسف، لكن، ولأنّ للكتابة خصوصيتها، وأدواتها، وطرقها الصعبة، فإنّ “أدب السجون” في سورية لا يزال في بداياته، وهذا لا يعني أبدًا التقليل من أهمية ما كُتب، لكن هذه التجربة المرّة سيقال عنها كثير وسيُكتب عنها كثير، وستعيش البشرية عقودًا طويلة، وهي تتهجى حروف هذه الحالة المرعبة التي عاناها شعب كامل طوال عقود.

ربما أتاحت الظروف التي ولدتها ثورة السوريين على طغاتهم ظرفًا جديدًا لقسم كبير ممن عاشوا تجربة المعتقلات أن يصرخوا بها، وهذا ما نراه عند من أفلتوا من قبضة الطغيان، لكن هناك كثير مما كُتب، وممن عاشوا التجربة أسرى هذا الطغيان، وبالتالي فإنّ علينا الانتظار حتى اقتلاع هذا الطغيان لكي نستعيد -السوريين- هذه التجربة بتفاصيلها وحقائقها ووقائعها الفاجعة، عندها يمكن الحديث عن “أدب السجون”، وعن ثقافة السجون، وعندها سيقرأ السوريون كتابات كثيرة، وسيشاهدون أعمالًا تلفزيونية وسينمائية كثيرة عنها.

محمد برو: نكتب لنفضح جرائم الجلاد وتقديمه للمساءلة

هناك من يرى أنّ الكاتب مسالم، يصح هذا الكلام، إذا افترضنا أنّ المسالم هو من لم يحمل السلاح الناري، لكن التاريخ والوقائع التي تتابع تؤكد لنا أنّ الكاتب الذي يلامس هموم المعاش اليومي للناس البسطاء، إنما يعرّي عجز السلطة وفسادها، وهو بذلك يطرح قضية إصلاحها أو استبدالها، بشكل من الأشكال، سواء بالطرح والدعوة المباشرة، أو بإثارة هذه الأفكار في ذهن القارئ. وعلى طول المسارات، نجد أنّ الطغاة يخشون من فرسان الكلمة ومن رماح الأقلام، أكثر مما يخشون من صوت المدافع ورائحة البارود، ووجدنا في بواكير الثورة السورية أنّ النظام استبسل في سبيل تحويلها من مجرد تظاهرات سلمية ومطالبات بالإصلاح، إلى ثورةٍ مسلحةٍ بات يلعب معها في ملعبه المفضل.

منذ الأسابيع الأولى لحكم البعث في سورية، كان الرقيب الأمني يجثم على صدور المثقفين وأقلامهم، ولم يَألُ جهدًا في كم أفواههم وتكسير أصابعهم، ومحاصرتهم ومنعهم -ما استطاع ذلك- من نشر ما أرادوا، لدرجة أنه أودع في عقل معظم المثقفين والكتّاب، ضابط أمن يمارس الرقابة الصارمة، فتجد الكاتب ينقِّح كتابه وكلماته مرّاتٍ ومرّات، قبل أن يقذف بها إلى الأجهزة المختصة، فتمعن في فحصها وتدقيقها، كي لا تندّ عنها زفرةٌ تعكِّر مزاج “الأخ الأكبر”، وكان خطأ تحريري واحد كفيلًا بقذف فريق التحرير كاملًا في أقبية فروع الأمن أشهرًا طويلة، كي يبقى الرقيب الذاتي عالي التأهب، دقيق المراقبة، فلا تنزلق من بين يديه جملةٌ شاردةٌ عن السياق.

من خلال سؤالي المتكرر عشرات المرّات لرفاق السجن الطويل، ومقارنة إجاباتهم بأصدائها في نفسي، بات الاعتقاد جازمًا أنّ ذاكرة السجين السجنية تستولي على كامل مساحة الذاكرة التي يحياها السجين بعد خروجه، وكل ما عداها تنويعاتٌ على مقامها أو تفريعات لجذرها العميق، أو صدى لتلك الحكايات التي تستغرق الحياة برمتها. وبالمقارنة المستمرّة التي لا تتوقف أبدًا، تتصاغر معظم التفاصيل التالية لها، حتى لتخاله كالعاشق المدنف الذي لا يرى في أي امرأة تعبر أمامه إلّا صورةً عابرةً، يقيس بها ذلك الفارق الشاسع بينها وبين محبوبته الساحرة، لعلها لديه التجربة الإنسانية الأكثر تجذرًا.

يستحيل على سجين المسافات الطويلة أن يخرج بتمامه من السجن، أو أن يخرج السجن بتأثيراته منه، وربما يحسن بنا في هذا الموضع التمييز بين موقفين متباينين بشكلٍ حاد: الأول (وهو الأقرب للطبيعي) أن يكون السجين الخارج من السجن مشروخ النفس والروح في مواضع شتى، وسيزيد خروجه ولقاءه بالأهل والمحيط الاجتماعي تلك الشروخ تشققًا، وستكون دائمًا كسكين تنكأ جروحه، كلما همَّ بتناسيها؛ والثاني هو من خرج من تجربة السجن الطويل متينًا صلبًا وقد اغتنى منها، وتكوّن في مطاوي أيامها الطويلة تكوينًا يدين بفضله لتلك السنوات، فلا يفتأ يشد عليها بكلتا يديه، ويعيد تكرار حكايات تلك الأيام أنّى تسنى له ذلك مباهيًا بها، فهي لم تسطع له ثقبًا، وهي أشبه بالعصارة التي يصطفيها الجسد من فاكهةٍ بعد أن يطرح أليافها، وهو يخاف عليها من صحراء النسيان، خوفه على ذلك العمر العزيز الذي لم يمض هباءً، وإن ساءل نفسه ذات مساء فسيجيب أنني صنيعة تلك الأيام الصعبة وحسب.

غلاف كتاب ناج من المقصلة لمحمد برو

في مقالات عديدة، تناولتُ شخصية السجان التي لا تنفصل عن طبيعة السجن القائم به، والذي سحق فيه ذاته الإنسانية، وجعله محض جلاد متعطش لرائحة الدم، محض أداة للفتك والتعذيب، يحركها سيده الأعلى أنّى شاء وكيفما شاء، وفي كتابي «ناجٍ من المقصلة»، وهو يومياتٌ عشتها بأدق تفاصيلها المصلوبة على خارطة الثواني المتعاقبة، لثماني سنوات في سجن تدمر، وثَّقت عبره وقائع وقصص وأسماء وحكايات جرت على النحو الذي أوردتها، دون أي مبالغةٍ أو حرص على التشويق أو الإثارة، مع هذا ما زلت في شك من أمري: هل استطعت فعلًا أن أنقل ذلك الهول الرهيب، وتلك المذابح المستمرّة التي حفلت بها ساحات تدمر، التي لم تكن لتستريح أو ترتوي من صراخنا ودمائنا، طوال تلك السنوات التي ما يزال رجع صداها مترددًا في روحي كلّ مساء، لكنني أرجِّح أني فعلت.

إنّ السجن هو الوجه الحقيقي للسجان والجلاد الأكبر في تاريخ سورية، وأعني النظام الأسدي المتوحش، وقد شهدت سورية في السنوات الأخيرة ما هو أشد بأسًا من السجن، كقتل طفلٍ أمام أبويه، أو انتهاك فتاة حرة واغتصابها أمام زوجها أو إخوتها، أو إذلال رجل أمام عائلته. لا يمكن مقارنة عذابات السجن بألم الكتابة عنه، فالفارق نوعي لا كمّي، ساعات السجن متزاحمةٌ، بقلق انتظار التعذيب والخوف من آلامه التي يعجز الخيال عن الإحاطة بها، إضافةً إلى ساعات القهر التي يعانيها السجين وهو يسمع صرخات التعذيب التي تنفجر من حناجر من يسبقونه في نيل حصة التعذيب اليومي، كما كان يجري يوميًا في سجن تدمر الصحراوي.

في الكتابة عن السجن، سيكون الأسى مخيمًا، وسحابات الحزن على من قضى في تلك الساحات، وعلى عمر ضاع في تلك الغيابات، وعلى فرص نادرة ضاعت وليس لها أن تتأتّى ثانيةً في حياة كانت غائبة عن حياة السجين. حين نكتب نستدعي تلك التجربة مرّةً أخرى، لكن هذا الاستدعاء نفعله عن طواعية ورغبة عنيدة في تذكر كلّ تفصيل، مهما كان دقيقًا، وهذا فعلٌ نواجه به رغبة الجلاد في طمس الحقائق، وإخفاء الجريمة. آلاف الضحايا دفنهم الجلاد في صحراء تدمر وغيرها، وتأتي الكتابة لتفضح تلك الجريمة وتقدّم الجلاد إلى المساءلة.

الذين يخرجون وقد تصدعت نفوسهم من هول السجن الطويل، “وهذا هو الطبيعي”، يجنحون ويجهدون في بلوغ حد النسيان، أو التجاهل لذكريات أليمةٍ لا تني عن تصديعهم بضجيجها كلّ حين، لكن هيهات، فمحاولة النسيان هي شكل من أشكال طغيان الذاكرة. أما الذين خرجوا أشدّ تماسكًا، “وهم كثيرون ومدهشون”، فيؤكّدون أنّ الإنسان المتمرد فيهم أقوى من أن ينكسر، وأعند من أن تمحى ذاكرته، هؤلاء يتمتعون بشفيف الحزن الذي تحمله آلاف الحكايات، عن مجازات الموت وحلبات قيصر التي عبروا بها، ويكررون ألف مرّة، وهم يسردون الحكايات تلو الحكايات، أنّ السجين دائمًا كان أقوى من السجن والسجان، ويمكنني أن أختم بالقول إنني أحزن أشدّ الحزن، إن نسيت واقعة من وقائع السجن الطويل، فهي أحجاري النفيسة التي جمعتها من تلك الصحراء، ولن يبقى للعمر من معنى إن هي ضاعت عني.

لقد سرق مني السجن بقايا طفولتي ومطلع شبابي، وليس من تعويض لتلك السنوات التي سرقها، ففي الوقت الذي كان فيه أقراني ينعمون بحياة جامعية صاخبة، ومغامرات شبابية متنوعة، قد تكون هي الأجمل في الحياة، كنت أتلقّى وأصحابي الجلد اليومي، صباح مساء، محرومًا من أبسط أسباب الحياة، مرغمًا أن أشرب، ثماني سنوات، من ماءٍ كبريتي آسن، وأن أحلم بنثرات من الملح الممنوع أنكّه بها طعامي البائس. أتذكر الآن الكثير عن سجون الموت والتعذيب، والذل والقهر، الذي كان زادنا اليومي سنوات، والذي فقدنا فيه شبابًا أحبةً عُلِّقوا على أعواد المشانق أو قُتلوا في ساحات التعذيب، أو تُركوا ليموتوا جوعًا ومرضًا. أودعت كتابي «ناج من المقصلة» توثيقًا يوميًا لتلك الفظائع التي تتجاوز حدود الممكنات، والتي تجعل من الشكِّ بجرمية هذا النظام ضربًا من ضروب المراوغة، والعبث العاري عن البراءة.  لم يكن في سجن تدمر حراس زنازين، كانوا محض جلادين، عملهم اليومي الممتد على مدار الساعات، التعذيب والقتل وتنفيذ حفلات الإعدام، حتى في مناقشتنا لمفهوم السجان، أجد الجلادين في سجن تدمر بعيدين عن هذا المعنى، والإصرار على حشرهم فيه يجلب اللبس ويصبغ المعنى بالتشويش. إذا أجملنا كلّ ما كتب عن مسألة السجون والمعتقلات، سواء عبر يوميات من نجا، أو من سمع من الناجين، أو من سمع عنهم، مع تباين الأنواع بشكلٍ واضح، فإننا بكل تأكيد نستطيع الحديث عن “أدب السجون” في سورية، مع ملاحظة أنّ معظم ما كتب في هذا الباب نشره كاتبه، بعد أن أصبح بمأمن من قبضة النظام. مع كلّ هذا فإنّ ما كتب ما هو إلا نزرٌ يسيرٌ، بالكاد يفضح جزءًا صغيرًا مما جرى، وإذا أخذنا بالاعتبار أنّ حالة كلّ سجين سياسي في سورية هي رواية كاملة مستقلّة متفردة بتفاصيلها، وإن هي تشابكت مع غيرها في المنحى العام للاعتقال والتحقيق والتعذيب، إلّا أنها مختلفة تمامًا بتفاصيلها الشخصية وزاوية الرؤية وحجم المعاناة، وتداعياتها المستقبلية، وهذا فصل كبير لم يتم التطرق اليه بعد: “ماذا حصل مع الناجين من السجون بعيد خروجهم”؟

راتب شعبو: السجن كتجربة وضريبة لمواجهة طغيان سياسي

ختمتُ كتابي عن نفق السجن الماراتوني الذي استغرق مني عبوره ست عشرة سنة وثلاثة أيام، بالعبارة التالية: “خرجتُ من السجن ولكن هل خرج السجن مني؟”. الجواب البديهي على السؤال هو النفي، السجن لا يخرج من السجين، ليس لأنه يبقى جزءًا بارزًا في ذاكرته، بوصفه تجربة قاسية، بل لأنه يبقى جزءًا من معوقات حريته، سواء في علاقته مع ذاته أو في علاقته مع الآخرين. ويكون ذلك صحيحًا أكثر حين يخرج السجين في ظل النظام السياسي نفسه الذي سجنه، أي حين يخرج مهزومًا، حين يخرج مثلًا بعفو يقول إنّ الجهة التي أجرمت بسجنه إنما تشفق عليه فتفتح له باب الخروج من السجن. ولا يختلف الأمر، حين يخرج السجين السياسي عند انتهاء مدة حكمه الظالم المسبق الصنع (هذا بعد أن “تطور” النظام السوري وصار يحيل ضحاياه إلى محاكم ليس لها من اسمها نصيب، ولا تعدو كونها واجهة “قضائية” لفروع المخابرات، حتى تكاد تشم رائحة الدم والأقبية في قاعات هذه “المحاكم”).

من جهتي، كانت حالتي مزيجًا بين الحالتين، أنهيت مدة حكمي التي هي العقوبة الأقصى للتهمة التي وجهت لي، ثمّ لم يُفرج عني إلا بعفو صدر بعد سنة وثلاثة أيام من انتهاء مدة الحكم. لك أن تتخيل كيف كان سجني حاضرًا في كلّ حياتي التالية، حتى إذا غاب قليلًا عن نفسي، أعادته لي عيون المعارف القلقة، ونبرة الموظفين الصادة حين أضطر إلى مراجعتهم لأمر ما. غير أنّ ذلك، لحسن الحظ، لم يكسرني من الداخل لقناعتي، الطفولية ربما، أنّ وراء هذه العيون القلقة، وهذا الصد العدائي تكمن ضمائر معذبة حليفة لي بعد كلّ شيء.

لا تؤلمني ذكرى السجن، ولا أسعى لنسيانه بقدر ما هو تجربة، وبقدر ما هو ضريبة لمواجهة طغيان سياسي. على العكس، يعطيني ذلك بعض الشعور بالقيمة أمام نفسي. أرتاح في الحديث عن السجن، وأحبّ أن أكتب عنه. لا يريحني أن أرى سجينًا يتهرب من الحديث عن سجنه، وإن بدا لي أنّ التصوّر العام يميل إلى اعتبار الحديث عن السجن ليس إلا “تقليب مواجع”. السجن محلّ للحرمان، ولكنه محل يتيح لك ما لا يتيحه المجال العام خارج السجن.

في السجن تعبّر عن رأيك بحريّة، ليس فقط مع رفاقك في السجن بل حتى مع عناصر الشرطة أنفسهم. وفي السجن يمكنك أن تقرأ (حين يكون الكتاب مسموحًا بالطبع، وهو مسموح في بعض السجون). القراءة والتحرر من أعباء الحياة اليومية التي يعيشها “أهل الخارج”، تسمح للسجين بتعميق ثقافته وبالتأمل وتطوير تصوره عن العالم، على هذا يمكن أن يحرر السجنُ السجينَ من ضيق الأفق ومن الأوهام، وربما من الصبيانية الملازمة للعمل السياسي المعارض. ولكن السجون المشدّدة والمديدة تثابر على تدمير النفوس والعقول معًا، فيخرج السجين محطمًا على شكل شخص مستكين مستسلم، وهو الغالب، أو على شكل شخص متوتر يتيحن لحظة انتقام أعمى.

غلاف رواية ماذا وراء هذه الجدران لراتب شعبو

الإقصاء المديد عن الحياة العادية بسبب الحبس أنزل في نفسي طعم الهزيمة. خرجت من السجن أقلّ عنفوانًا، وأصبحت أقلّ تمردًا واحتجاجًا على ما أراه خاطئًا. كان هذا يقتل تقييمي الذاتي ويرتد مرارة على نفسي، أي إنّ الهزيمة المستتبة زادت المسافة بين ضميري وبين مسلكي العام. حين دافعت عن رسالة الماجستير، مثلًا، وقعت في يد أستاذ مُشرف اختار لي موضوعًا غريبًا بلا مراجع، لا على الإنترنت ولا في المكتبات، ولم يوفّر لي مرجعًا أعتمد عليه سوى بضع مقالات قريبة من الموضوع وباللغة الروسية، من دون أن يساعد في ترجمتها، وأخّرني ستة أشهر عن بقية زملائي. كان يجعلني أنتظر في عيادته بالساعات كي أستشيره فيما عليّ فعله، وكان يعزو سبب هذا التأخير، لمن يسأله، إلى كسلي في البحث. أعتقد أنني لولا السجن لما سمحت بمرور هذا السلوك، كنتُ سأتمرد وسأغامر حتى بخسارة شهادتي انتقامًا لكرامتي، غير أني “صبرت” ولم أفعل، وكان لهذا أثر كاوٍ في وجداني. أرى أن هذا من المفاعيل السلبية للسجن عليّ.

في سورية، عدد غير قليل من الكتابات عن السجن، هذا انعكاس طبيعي لسيطرة القمع في فترة طغيان آل الأسد في سورية. من جهتي، أقدّر كلّ من كتب عن السجن، ولا سيّما أصحاب التجربة الفعلية. لكن يبقى أمامنا الكتابة عما بعد السجن، عن السجن الذي استقرّ في النفوس وعن مفاعيله التالية.

مفيد نجم: صوت الإنسان أولًا قبل الكتابة عن السجن وبعدها

  • الثقافة في زمن الاستبداد:

أُمّمتْ الثقافة في سورية على غرار تأميم السياسية والاقتصاد والمجتمع مع انقلاب 1963. احتكرت الدولة العمل الثقافي والإعلامي، وكان ذلك بداية النهاية لحرية الثقافة والإبداع، لكن المرحلة الأخطر في هذه التحوّلات كانت مع انقلاب 1970، وبدايات تكريس سلطة الاستبداد ودولته الأمنية. لقد عملت هذه السلطة على إنتاج نموذجها في مؤسسات العمل الثقافي، بغية تكريس هذه الظاهرة وتعميمها في حياة المجتمع (نجاح العطار وزيرة الثقافة حوالي اثنتي عشرة سنة، وعلي عقلة عرسان ما يزيد على عقدين من الزمن، وأحمد إسكندر أحمد حتى وفاته). لذلك كان من الطبيعي أن تتحوّل هذه المؤسسات إلى مؤسسات للارتزاق والمحسوبية وأنصاف المثقفين والكتّاب، وأن يضيق هامش الحرية حتى يختفي نهائيًا بالتوازي مع الانحدار الذي كان يشهده الواقع السوري اقتصاديًا واجتماعيًا وتربويًا، نتيجة تغوّل السلطة الأمنية وممارساتها القمعية المنهجية التي حوّلت مؤسسات الثقافة إلى مؤسسات طاردة لرموز الثقافة والفكر والأدب.

إنّ مراجعة بسيطة لواقع الثقافة السورية يكشف عن مستوى الانحدار الذي بلغته هذه الثقافة ومؤسساتها التي تحوّلت إلى مجرد هياكل ليس لها أي فاعلية أو تأثير في المجتمع، مع الاستمرار في عمليات التدجين والقمع وشراء الولاءات، لقد كان هذا الواقع جزءًا لا يتجزأ من عملية الانحدار السريع الذي كانت تشهده جوانب الحياة السورية المختلفة مع تحكّم الأجهزة البوليسية بكل مفاصل هذه الحياة، وجعل الولاء معيارًا في تبوء مواقع إدارة العمل الثقافي ومؤسساته الفاقدة لأي دور ثقافي فاعل.

  • أدب السجون

تجربة “أدب السجون” في سورية بصورة خاصة حديثة العهد، إذ كان من الصعب الكتابة عن السجن في ظل هيمنة السلطة الأمنية على الفضاء العام في سورية، على الرغم من كونها أكثر التجارب المسكوت عنها في ظل هذه السلطة المتوحشة التي حوّلت سورية إلى سجن كبير. لذلك كان من الطبيعي أن تنتظر هذه الكتابات الانتفاضة السورية حتى تبدأ بالظهور. إنّ حداثة التجربة وطغيان البعد السياسي في هذه التجربة جعلا أغلب هذه الكتابات تنوء تحت ثقل حاملها السياسي، باعتبارها محاولات للتأريخ لهذه الحقبة السوداء في تاريخ سورية الحديث من جهة، وللكشف عن الطابع العنفي المتوحش الذي كان يمارس داخل هذه المعتقلات والسجون. لذلك كان من الطبيعي أن يغلب الطابع التقريري والسردي الذاتي على هذه الكتابات، بينما افتقدت إلى العمق عبر الحفر عميقًا في الذات الإنسانية للسجين على المستوى الإنساني والوجودي والنفسي. لقد كانت هذه الذات هي محور هذه التجارب بكل فظاعاتها، ولم يكن السجين سوى ذلك الإنسان المرمي في ظلمة عالم رهيب. إن سيطرة ثنائية الجلاد والضحية على هذه الأعمال أدّت إلى نوع من التنميط، خاصة أنّ هناك عشرات الآلاف عانوا قسوة وآلام هذه التجربة التي كان من الطبيعي أن تتباين أشكال تجليها بين سجين وآخر.

غلاف رواية أجنحة في زنزانة لمفيد نجم

إنّ “أدب السجون” ليس مجرد تسجيل وقائع ومشاهدات لممارسات عنفية ومحاولات لتحطيم الذات وهزيمتها، عبر سنين طويلة من التغييب والتعذيب، للتدليل على واقع العنف الممارس داخل هذه السجون. هناك السجين الإنسان في قوته وضعفه، والتأرجح بين الحالتين يكشف عن البعد الدرامي المتوتر في هذه التجربة. لقد سكتت أغلب هذه الكتابات عن كثير مما يمكن أن يكتب ويمنح هذه الكتابات عمقها التراجيدي الدال والمعبر عن أحوالنا كما هي عارية في مهبّ هذا الطغيان المجنون.  

أسئلة كثيرة عن الجنس والمرأة في هذه العالم الذكوري الخالص، وعن التناقضات الاجتماعية والسياسية حتى على مستوى الحزب الواحد وسواها، وحالة الذاكرة التي تفتقد مع الزمن ذلك الخيط الحي المتصل مع الحياة. كلّ هذا وسواه لم تجرِ مقاربته بغية استكمال صورة هذه التجربة المخيفة بكل أبعادها ومضامينها الذاتية والعامة، من أجل استعادة صورة السجين الإنسان في العمق من هذه التجربة. كذلك لا بدّ من استكمال أدوات الكتابة الفنية، كاستخدام المنولوج والحلم والتداعي، لأنّ هذه الذات كانت تعيش تحت كابوس مرعب لا بدّ من استجلاء آثاره وتعبيراته بكل أشكالها المفزعة كما كنا نعيشها.

  • صورة السجان

لم يكن السجان في هذه التجربة الاستثنائية في تاريخ سورية الحديث إلا على صورة السلطة التي اختارته لهذا الدور الإجرامي، لذلك عندما كتبت عن التجربة حاولت أن أنتزع وجه سجان ما في لحظة إنسانية مدهشة من هذا المشهد المرعب، لكي ننصف القلة القليلة منهم كما حدث معي، عندما حاول أحدهم أن يهرّب لي تفاحة ولكي لا يشتبه به زملاؤه اضطر إلى أن يقضم منها قليلًا.

السجن لا يحرر ولا يضيف إلى تجربة السجين شيئًا مهمًا، ما لم يكن ثمّة وعي وانفتاح على التجربة في عمقها الوجودي والإنساني والسياسي. لذلك لا أعتقد أنّ السجن حررني إلا من التعصب الفكري والأيديولوجي. أما أسوأ ما فعله فهو الشعور بالخيبة، عندما اصطدمت بواقع الأحزاب السياسية المعارضة داخل هذه السجون، ما جعلني ابتعد عن أي تكوين سياسي معارض بعد الثورة.

لا أحمل كثيرًا من الذكريات الطيبة عن السجن سوى ذكرياتي عن أشخاص تشاركنا معًا الألم والأمل والمحبة والحلم بسورية الجديدة التي تستعيد الوجه الحضاري والإنساني الكبير الذي لعبته في التاريخ الإنساني. ومع الأسف، هناك من لا يزال يعدّ السجن امتيازًا خاصًا به، ولا يريد أن يخرج منه ربما لأنه لم يستطع أن يجد ذاته خارج هذه الرمزية الخاصة للتجربة. في كتابي[1] عن هذه التجربة، حاولت أن أستعيد الإنساني في عمق هذه التجربة، لكني بعد سنوات من صدوره، وجدت ثمّة ما يحتاج إلى إعادة كتابة وحفر في أبعاد هذه التجربة ومضامينها، على الرغم من فداحة استعادة ما كنت أحاول نسيانه فيها. كتابي الجديد الذي أستعد لنشره سيكون أكثر انفتاحًا وتمثلًا لهذه الرؤية واستعادة لصورتها المؤلمة جدًا في مرايا الذات وشظايا زمنها الدامي. لا أعتقد أنّ سجينًا تحرر نهائيًا من آثار السجن بعد عقود على خروجه منه. كلمات عديدة من عالم السجن ما زلت استخدمها لا شعوريًا في حديثي تجعل الشخص الآخر ينظر إليّ باستغراب، خاصة عندما لا يعرف شيئًا عن تجربتي المريرة. ويولّد هذا الأمر لديّ شعورًا بالاضطراب، لأنه يشعرني بأني ما زلت أحمل السجن في داخلي، لذلك لا أعرف ما الذي يمكن أن أقوله عن ضحايا المعتقلات السورية الرهيبة الراهنة، مع اشتداد مستوى الوحشية والتعذيب والقتل فيها. ما عشناه كان تدريبًا أوليًا على لا معقولية الإرهاب الذي سيعصف بعشرات الآلاف من الضحايا السوريين، بينما يصمت العالم كله عن هذه الجريمة التي ستظل وصمة عار في تاريخها.

محمد ديبو: لا ثقافة حرة في أزمنة الاستبداد

أتذكر جيدًا أنه أثناء نقاشاتنا في بعض الحلقات الضيقة في دمشق، بعد أن صدرت الأحكام على معتقلي “ربيع دمشق”، أن أحدهم قال تعليقًا على الحكم الجائر بحق الدكتور عارف دليلة الذي حكمته المحكمة آنذاك بعشر سنوات، في حين تراوح نصيب رفاقه بين ثلاث إلى خمس سنوات: “حتى في عهد حافظ الأسد السيئ لم يسبق أن سجن مثقف بارز، في حين يحصل هذا في عهد الابن”.

في واقع الأمر، لم يدقق أحد من الحاضرين في تلك العبارة آنذاك، لأننا كنا مذهولين من قسوة الأحكام وغارقين في خيبة الأمل التي أغلقت آخر أبواب الإصلاح الذي كانت تطالب به وتقود حراكه نخبة من سياسي البلاد ومثقفيها. الآن وأنا أقرأ سؤالك الأول: (كيف تعامل كلّ من الأب وابنه الوريث مع المثقفين والمبدعين من الكتّاب ونكلا بهم في سجون الترهيب والقمع) تعود تلك العبارة لترن في بالي، وكأني أسمعها للتو، ليس لعدم صدقيتها فحسب، وليس للخجل الذي يعتريني، لأني لم أفكر في مدلولها حينذاك ولم أرد على صاحبها فحسب أيضًا، بل لأنها تخفي بين طياتها جهلًا فظيعًا بواقع الاستبداد من جهة، وقصورًا هائلًا في تعريف معنى “المثقف”، فأي مثقف هذا الذي ترضى عنه سلطات العسف والاستبداد ولا تعتقله حقًا؟ ومن هو المثقف/ المبدع؟ وكيف يحوز صفته تلك ما لم تكن معرفته وما ينتجه فكريًا وأدبيًا، منحازًا للناس في مواجهة سلطات القمع والبطش؟ إن أسئلة كهذه تقودنا إلى محاولة معرفة معنى المثقف، وتقودنا أيضًا إلى قراءة معناه في ضوء التطور التاريخي لمعنى المثقف في سورية، لأنّ معناه يتحدد في كلّ مرحلة بشكل مختلف عن مرحلة تسبقها أو تليها. وعليه، لا يمكن نقاش عبارة الصديق التي بدأنا فيها هذه المادة، التي ترى أفضلية لاستبداد الأب على استبداد الابن، من حيث إنّ الأول لم يسجن مثقفًا، إلا على ضوء تحوّلات معنى المثقف وتطورها بين عهدي الأسدين. ولأنّ المجال لا يتسع في مشاركة سريعة كهذه، لعرض تحوّلات وتبدلات معنى المثقف منذ ولادته في العصر الحديث، فإننا سنشير إلى ما يخدم فكرتنا ويوضحها من دون الغوص في التفاصيل، ففي مرحلة ما قبل تسعينيات القرن الماضي تقريبًا، لم يكن مفهوم المثقف في سورية قد ابتعد كثيرًا عن حقله الأيديولوجي، أو بشكل أدق عن التصاقه اللصيق بالأيديولوجية، فالمثقف آنذاك، كان ذلك الفاعل -سياسيًا أو اجتماعيًا- من خلال حزب ما أو أيديولوجية يرى أنّ “الخلاص” قائم بين طياتها، وعليه كان هناك المثقف اليساري والمثقف الإسلامي والمثقف القومي والمثقف الليبرالي، تبعًا للأيديولوجية التي يؤمن بها، مع ملاحظة أنّ كلّ أيديولوجية تنقسم تحت عنوانها العريض إلى تفرعات صغيرة، وفقًا للأحزاب المنضوية تحت لواء هذه الأيديولوجية. وعليه، فإنه في عهد الأسد الأب لم يكن بعد مفهوم المثقف المنفصل عن الأيديولوجيا والأقرب للالتصاق في الحقل المعرفي قد ولد بعد، كما بدأ يحصل بعد تسعينيات القرن الماضي، حيث بدأت تتبلور شيئًا فشيئًا معاني أوضح للمثقف المعرفي الذي يركن تصوّراته ورؤاه لما تقوله المعرفة بعيدًا عن تحيزاته الأيديولوجية، حتى لو كان هذا المثقف نفسه يميل إلى موقف أيديولوجي ما على آخر، إلا أنه لا يسمح لرؤاه الأيديولوجية بالتسرّب إلى ميدان معرفته حين تتضاد معها، فالأولوية لما تقوله المعرفة لا الأيديولوجية.

غلاف كتاب كمن يشهد موته لمحمد ديبو

بهذا المعنى، فإنّ كلّ الذين عرفتهم سجون الأب هم مثقفون، بطريقة أو بأخرى، لأن المفهوم الأساس للمثقف حينها كان ذاك الذي يقارع السلطة من موقف أيديولوجي، حيث لم يكن ولد بعدها مفهوم المثقف المعرفي المستقل، وهو الأمر نفسه الذي استمر في عهد الأسد الابن، بالرغم من تغيّر وتطوّر مدلول ومعنى المثقف، لأنّ السلطة المستبدّة في نهاية المطاف لا تأبه لكل هذا “الترف الفكري”، حول تبدلات وتحوّلات معنى المثقف، بقدر ما تقيس الأمر من موقع واحد لا غير: مدى تهديد الأمر لسلطتها وقوة حضورها، فكلّ من يهدد هذه السلطة أو يعرّيها أو يشير إليها أو يشكل مصدر خطر مباشر لها، مكانه واحد من اثنين لا ثالث لهما: القتل أو الاعتقال. وهذا لا يعني أبدًا أنه لم يكن هناك مثقفون خارج المعتقلات، بل إنّ هؤلاء بنشاطهم “الثقافي” لم يكونوا يشكلون خطرًا مباشرًا وواضحًا على كرسي الحكم من جهة، كما أنّ تركهم خارجًا يتيح للاستبداد ذاته الاستثمار بهم، من خلال تجميل حكمه بأنه نظام لا يعتقل المثقفين، بل “العصاة والخارجين عن القانون”، وهو الأمر الذي تشي به عبارة الصديق أعلاه، وهي عبارة مضللة وخاطئة ومبررة للاستبداد الذي لا يفرق حقيقة بين مثقف ومثقف، إلا بدرجة الخطر عليه، فحتى ذاك الذي بقي خارج أسوار السجن هو أسير الاستبداد، وهو سجين مع وقف التنفيذ، حيث بدأ يبحث عن آليات حماية ذاته من الاعتقال والبحث عن أدوات إبداعية تسمح له بالإشارة ما أمكن إلى الاستبداد وتخطي سيوف الرقابة، الأمر الذي جعل حتى المنتج الثقافي محكومًا بهذا الشرط الاستبدادي الجائر الذي وجد المثقف نفسه بمواجهته، فلا ثقافة حرة في أزمنة الاستبداد، مهما ادّعت عكس ذلك، لأنها محكومة بشروطه الموضوعية، حتى حين كان المثقف يتجرأ ويعلن معرفته المواجهة للاستبداد، لأنّ المعرفة التي ينتجها نفسها، حتى حين تواجه النظام، هي معرفة محكومة من خلال شروط إنتاجها بالشرط الاستبدادي المعيق لولادة معرفة حرة وواعية وقادرة على فهم مجتمعها، والسلطة الاستبدادية ذاتها، وهو الأمر الذي جعل ذلك الصديق يطلق عبارته تلك، حتى وهو يعارض استبداد السلطة.

انطلاقًا مما سبق، فإنّ الاستبداد كان حاضرًا فينا في كلّ لحظة، حتى ونحن نواجهه ونسعى للانعتاق منه، والأمر نفسه ينطبق على السجن والمعتقل، ففي حقيقة الأمر، يبقى السجن حاضرًا في كلّ ما نكتب، ليس لأننا لم نخرج من المعتقل، كما يتوهم البعض، فعلى الصعيد الشخصي، تحرّرت من تلك المسألة، ولم أسمح لها بأن تعوق مسيرتي (ربما لأنّ الفترة قصيرة جدًا، ولا يمكن أن نعدّها سجنًا أو اعتقالًا قياسًا بمن قضوا عقودًا داخل تلك الزنازين)، بل لأمرين اثنين: يأتي أحدهما ليتواشج مع الثاني ويتداخل معه. يتعلق الأمر الأول بمسألة أنّ السجن لم يخرج من حياتنا أساسًا، فهو يحاصرنا من كلّ صوب، فسورية قبل عام 2011 لم تكن أكثر من سجن كبير، ممنوع أن تكتب، ممنوع أن تصرخ، ممنوع أن تنتقد، من الصعب أن تحصل على كتاب تمنعه الرقابة، لا صحافة حرة ولا صحافة ناقدة تدخل البلد… أمام هذا الشرط الذي حكم حياتنا، فنحن عمليًا كنا نعيش في المعتقل الكبير الذي اسمه “سورية الأسد”، وهو أمر استمر حتى اليوم، وإذا كنّا تحرّرنا من التجربة الشخصية بمسألة الاعتقال، فإنّ بقاء آلاف المعتقلين، ومنهم أصدقاء شخصيون حتى تلك اللحظة داخل تلك الزنازين، يجعل من مسألة تحررنا من المعتقل ترفًا لا نملكه، إذ يحتّم علينا واجبنا الأخلاق والوطني والإنساني إبقاء الصوت عاليًا، لأجل التذكير بقضيتهم ومواصلة النضال لأجل إطلاق سراح آخر معتقل في تلك المعتقلات الجهنمية. وأما الأمر الثاني فهو يأتي امتدادًا للأول، بمعنى أنه في ظل الأمر الأول وبتأثير منه، كنت قد بدأت الاهتمام بمسألة السجون والمعتقلات والمعتقلين السياسيين و”أدب السجون” قبل عام 2011، وقبل مرحلة اعتقالي القصيرة، حيث كنت كتبت عشرات المقالات عن تجارب هؤلاء المعتقلين، وكان في نيّتي دومًا العمل على كتاب حول هذا الأمر، نأمل أن يتاح لنا الوقت يومًا لكتابته، لأني خلال رصدي لكثير من الأعمال والمذكرات التي تحدثت عن السجن والاعتقال السياسي، لاحظت أن أغلبها ينوس بين السيرة الذاتية والأدب، وكان هذا يطرح عليّ دائمًا سؤالًا محددًا: أين يبدأ الأدب، وأين تنتهي السياسة في تلك الأعمال؟ هل يمكن اعتبارها أعمالًا روائية أم أنها سيرة ذاتية لأصحابها؟ وإذا كان بعضها قد حدّد جنس كتابتها من خلال تذييلها بكلمة “رواية”، فإلى أي حد تنطبق صفة الرواية حقًا على تلك الأعمال؟ وهذا أمرٌ يحتاج إلى بحث وقراءة نقدية أدبية لمجمل ما كُتب، قراءة تُخضع تلك الأعمال للشرط النقدي الأدبي، بعيدًا عن شرط “البطولة ومقاومة الاستبداد” التي غالبًا ما تطغى عند قراءة هذه الأعمال، وعلى نتيجة بحث ونقد كهذا، يمكن الإجابة معرفيًا على سؤالك المطروح: هل هناك “أدب سجون” في سورية؟ وعلى الرغم من أن الإجابة الأولى والكمية السريعة تقول: نعم هناك “أدب سجون” في سورية، نظرًا لكمّ الأعمال التي صدرت عن السجن، فإنّ الإجابة المعرفية الحقيقية والدقيقة، تحتاج إلى تحليل معرفي نقدي لكلّ الكتابة التي تناولت موضوع المعتقل وتحليلها على ضوء الشرط الأدبي، وعلى المستوى النوعي لا الكمي فقط، وهذا مع الأسف لم يحصل نقديًا حتى الآن في سورية.

أما سؤالك: “هل استطعت أن تعري السجان وأن تكون شاهدًا روائيًا أدبيًا على مرحلة هي من أهم وأخطر مراحل التاريخ السوري المعاصر؟”، فهذا أمرٌ يجيب عنه النقاد أكثر مني. إلا أنني أستطيع القول إنني حاولتُ، في مجموعتي القصصية «خطأ انتخابي»، وكتابي «كمن يشهد موته»، وهو سيرة عن تجربة الاعتقال وظروفها، وقد تُرجم إلى الإيطالية وصدرت طبعته الثانية في روما العام الماضي، تعريةَ عوالم السجن والاستبداد من خلال الكتابة عنها. لا شكّ أنني كنت مهمومًا بفضح عوالم الاستبداد والمعتقلات والسجان الذي حاولت أن ألتقط الإنساني فيه حتى حين كنت داخل المعتقل، وهو ما كتبت عنه في «كمن يشهد موته»، إلا أنني قبل ذلك كنت مهمومًا، بكتابة نص أدبي يُخضع السجن لشروط الأدب وليس العكس، فإلى أي حد نجحت؟ أكرر هذا يجيب عنه النقاد لا أنا.

تسألني: من يؤلم أكثر السجن أم الكتابة عنه؟ وأقول: قبل أن أعاني تجربة الاعتقال كان هذا السؤال “من يؤلم أكثر السجن أم الكتابة عنه؟” يعني لي شيئًا ما، ولكن بعد قضاء اليوم الأول في المعتقل، اختفى هذا السؤال ولم يعد إلى ذهني نهائيًا ومطلقًا بعدها، إذ بات يبدو لي “تنظيرًا من عل”، لا مكان له في الواقع. إذ لا شيء، لا شيء إطلاقًا أكثر إيلامًا وتعذيبًا وكسرًا للروح والجسد والذات أكثر من السجن ذاته، لا الكتابة عنه ولا تذكره، دون أن يعني أنّ الكتابة عنه ليست مؤلمة نهائيًا، ودون أن يعني أيضًا أنّ تذكر أيام المعتقل التي لا زالت تعود لي في الكوابيس ليست مؤلمة، ولكن حين نقارن هذا بساعة واحدة في زنزانة من عشرة أمتار فيها أكثر من خمسين شخصًا في ظروف بالغة السوء، فإنّ المقارنة من أساسها خطأ، بل من المعيب أن تطرح في هذا السياق أساسًا، إذ كيف يمكن لي أن أقارن ألمي، وأنا أكتب هذه الكلمات، بالألم والوحدة والجوع والعطش والتعذيب الذي يعانيه في هذه اللحظة شخصٌ أو صديق معتقل في سجون النظام؟ حقيقة الأمر، لا يمكن المقارنة أبدًا، فلا شيء أكثر ألمًا من السجن ذاته والاعتقال ذاته، لا الكتابة عنه ولا تذكره. وإذا كان السجن قد حررني من شيء، فقد حرّرني بالمقام الأول من هذه الأوهام “الثقافوية” عن المعتقل، التي قد يكون وجودها عائدًا إلى الشرط الاستبدادي الذي تحدثتُ عنه آنفًا بإيجاز، وقد يكون هذا أسوأ ما فعله الاستبداد وسجونه فينا، أي تشويه الوعي ومنع القدرة على تكوين وعي ومعرفة بطبيعة الاستبداد وما يحدثه فينا، فنعيد دون أن ننتبه أحيانًا، ثقافة الاستبداد في تعاملنا مع بعضنا البعض، أي تشويه الوعي لنحارب الاستبداد بأدواته التي تصب في مصلحته في نهاية المطاف، بدلًا من أن نحاربه بأدواتنا التي تتيح لنا مراكمة التجارب والوعي ومواصلة النضال حتى ننتهي من هذا الكابوس الطويل الذي ما زال يثقل أيامنا وثقافتنا ومعرفتنا ووعينا.

وائل السوّاح: السجان باعتباره كائنًا بشريًا

تبدأ الحكاية بقطعةٍ من جلد الدواليب يضعونها على عينيك لكيلا ترى وجههم، ثمّ ينغلق عليك باب الزنزانة، فيصدر صريرًا رهيبًا، ثمّ قعقعة هائلة، ثمّ لا شيء سوى الوحدة والوحشة والخوف والحنين. “الطميشة” قطعة من “كاوتشوك” أسود مصمّمة لحجب الرؤية لدى السجين، لكيلا يرى وجه المحقّق أو الجلاد، وهي تشبه قناع زورو، ولكن من دون فتحتي الرؤية للعينين، حين تضعها سيمكنك فقط أن ترى موقع قدميك وتستطيع أن تتأمل أحيانًا حذاء المحقّق، حين يقترب منك ليصفعك. حين ينغلق عليك الباب يجتاحك سؤال بارد، قاس، ومرير: أهي النهاية؟ أيكون حالك كحال من سبقك من الرفاق؟ أتُعذّب كما عُذّبوا؟ أتُنسى كما نُسوا؟ أتكون هذه اللحظات آخر عهدك بالحياة والشمس والهواء؟ بالنساء اللواتي عرفت والأصدقاء الذين أحببت والشوارع التي عليها مشيت، بالكتب والمسرحيات والموسيقا والسينما!

الهواء ثقيل.. يلج رئتيك بصعوبة، تبذل جهدًا أكبر لتساعده في النزول إلى أسفل الرئتين. في الخارج هدوء قاتل.. الليل في ساعاته الأخيرة، والسجانون أيضًا يريدون أن يناموا ويحلموا بنسائهم أو بنساء جيرانهم. ما الذي تفعله أمك الآن؟ هي على الأرجح نائمة، بينما أبوك قد استفاق لتوّه، ليتوضّأ ويذهب ليصّلي الفجر في الجامع القريب. ثمّ بعد ساعات، تبدأ في الخارج ضجّة خفيفة سرعان ما تزداد. أشياء معدنية يقرقع بعضًا مع بعض. أصوات تصيح آمرة، وخطوات مستعجلة، وأشياء ثقيلة توضع على الأرض بعنف. ثمّ أبواب تفتح بعنف، يدخل المفتاح في القفل.. يطقطق بضع مرّات.. يُفتح الباب، هرولة خطوات، ثمّ يغلق من جديد، ويطقطق المفتاح. تقترب الخطوات والأصوات الآمرة والقرقعة من زنزانتك. يدخل القفل في المفتاح: طق.. طق.. طق. يفتح الباب وتجد نفسك أمامه وجهًا لوجه: إنه السجان، رفيقك وزميلك في السجن، ولكن من الجهة الأخرى. وتبدأ بينكما علاقة غريبة.

بِيدِ السجان أن يحيل حياتك جحيمًا أو أن يجعلها يسيرة بالشروط الممكنة. بعض السجانين الذين عرفتهم غارقون في الشرّ حتى آذانهم، ولكنهم في أعماقهم يحتفظون بكائنات أخرى. ثمّة في مكان ما دفء خاص، ستشعر به حتى وهو يأمرك وينهيك ويكلمك بجفاء أو يجلدك بالسوط. والسجان سوى الجلاد. الجلاد رجل تكون مهمته التعذيب أو استخلاص المعلومات. والسجان تكون مهمته الحفاظ عليك حيًا في الحدود الدنيا. الجلاد يعتبرك مشروع شهيد؛ السجان يهمه ألا تموت بين يديه. بالنسبة إلى الجلاد أنت مصدر معلومة يريد استخراجها منك؛ بالنسبة إلى السجان أنت كالبراغي وورق القرطاسية والملفات وعلب الكرتون الموجودة في المستودع بالنسبة لأمين المستودع أو الحارس. لا بأس إذا سُرق بعضها، ولكنه لا يجوز أن يأخذها كلها أو يتلفها.

في أول صباح لي في المنفردة، أطلَّ السجان وقال آمرًا: “فوِّت أكلك.”. على الأرض كان ثمّة قصعتان صغيرتان. واحدة فيها شاي علتْه طبقة من دهن، وفي الثانية قليل من اللبنة، وعلى الأرض رغيفان عسكريان منفوخان، سمراوان فوقهما دقيق أبيض. أدخلت كلّ شيء بسرعة. كان قد مرّ يوم كامل لم أذق فيه لقمة واحدة. ولكنني لم أكن جائعًا. قربت قصعة الشاي من فمي ورشفت رشفة صغيرة. كان ماسخًا وقليل السكر. ولكن الخبز كان شهيًا. طازجًا. مغريًا. كسرت الرغيف بيدي وبدأت ألوك منه لقيمات صغيرة. لم أكد آكل بضع لقيمات حتى فتح الباب من جديد. إنه دور الحمّام. يمكنك في فرع التحقيق العسكري أن تذهب إلى الحمام ثلاث مرّات في اليوم. يفتح السجان الباب ويتنحى قليلًا مفسحًا لك في المجال لتهرع إلى المرحاض، فتفرغ مثانتك الممتلئة حتى الانفجار أو أمعاءك المتصارعة. وتتوقف الأمور على الحظ. (حبيب عاقل) يبدأ منذ لحظة فتح الباب بالعدّ من واحد إلى عشرة، ومع كلّ رقم يهوي بسوطه (الكبل الكهربائي الرباعي) على الجدار الملاصق لك، وعليك أن تنجز العمل في الفترة التي يعدّ فيها إلى عشرة: أن تفرغ بطنك ومثانتك وتغسل قصعاتك ويديك ووجهك وتركض رمَلًا عائدًا إلى زنزانتك، وإلا فإن الكبل سيهوي فوق جزء ما من جسدك، قد يكون رأسك أو صدرك أو ظهرك. التبوّل والتغوط وغسيل القصعات والوجه واليدين (والوضوء إذا كنت متدينًا) وملء قصعة الشرب تتم جميعها في المرحاض نفسه.

في الخارج، ثمّة مغسلتان لا يجوز لك استعمالهما، وينضاف حلم شرب ماء نظيف من صنبور نظيف إلى أحلامك المؤجلة. (علي) يفتح الباب بصمت ويشير لك أن تخرج، دون أن يقول كلمة واحدة، وينتظرك بعض الوقت قبل أن يدق عليك الباب بالكبل الرباعي، فتسارع للخروج لأنك لا تريد إغضابه. أما (سمير) فيسمح لك بوقت أطول، وربما تغاضى قليلًا عنك إذا رفعت عينيك عن الأرض أو إذا تباطأت في السير عائدًا إلى زنزانتك. بعد الخروج إلى الحمام، تشعر بالنشاط والانتعاش، وتروح تسير في زنزانتك متذكرًا برودة الماء المنصب على وجهك ويديك. تشرب من القصعة ماء باردًا، تحتسيه بروية كآخر كأس من الخمر لديك في هزيع أخير من الليل، لا تريد لها أن تنفد فكل الخمارات مغلقة، ولن تجد من يبيعك زجاجة أو كأسًا أخرى. وراء كلّ واحد من الثلاثة، حكاية بشرية. بالنسبة إلى السجانين، كنا -معشرَ السجناء- أرقامًا، وبالنسبة إلينا كانوا بدورهم أرقامًا. ولكن الحال غير ذلك. كان للعريف (محمد عاقل الجبار) زوجة وثلاثة أطفال. وكان يحب زوجته وأولاده، وحين مرض أحدهم رأيت في عينيه شبح دمعة. بعد شهر في الزنزانة، صار (محمد عاقل) يفتح الباب ويدردش معي أحيانًا. وفي إحدى المرّات حكى لي عن ابنه المريض، وترقرقت عيناه بالدموع، ولكن حين سمع صوت مدير السجن، صفق الباب بقوة، وضرب الجدار بكبله، وصاح عبارة ما توحي بأنه يقوم بعمله بشكل جيد. ولم أستطع سوى أن أعجب من هذا الجبار المخيف الذي يبكي لمرض ابنه ويخاف من مدير السجن، كطفل صغير. وكان (سمير) شابًا في العشرينيات، وسيمًا، ببشرة قمحية فاتحة وعينين خضراوين وشعر بني أجعد. قلت له مرّة إنّ عينيه جميلتان، فصاح بي: “لا تكوم طمس في؟” وضحك، وضحكت. وبعد أيام حكى لي عن البنت التي يحبها ويرفض أهلها زواجهما، لأنه سني وهي علوية. أما (عليّ) فكان لا يفتح فمه مطلقًا، يعمل كآلة، يفتح الأبواب ويقدم الطعام، ويغلق الأبواب، ويشرف على عمل السخرة، وهو يستخدم الكبل فقط للإشارة به. لم أره يضرب سجينًا يومًا ما. وبينما كان العريف (محمد) علويًا من ريف اللاذقية، والرقيب (سمير) سنيًا من ريف دمشق، لم أعرف أبدًا منطقة علي ولا دينه أو مذهبه. أفضل السجانين قاطبة واحدٌ لم أعرفه شخصيًا، ولكن حكى عنه صديقي محمد برو في كتابه «ناج من المقصلة». إنه أحمد السباعي، الذي أنِف التعذيب والسادية، فكان يهمس للمعتقلين بصوت منخفض “بيفرجها الله يا شباب”. يقول محمد برو عنه إنه كان نغمًا نشازًا عن الجوقة العامة، ويضيف: بعد أسابيع لم تطُل، كان هذا الرقيب يتميز عن سواه أنه ما أن يُنهي عدَّ الموجودين حتى يصرخ بالجلادين بحزم: (شرطة.. كفى) فيخرجون سراعًا. ليقوم بإقفال المهجع بيده، وما أن يبتعد عناصر الشرطةُ ليفتحوا المهجع التالي، حتى يُعيد سحبَ الباب إلى الخلف قليلًا قبل أن يُقفله، ويقول بصوتٍ خافتٍ جدًا: “بيفرجها الله يا شباب”. وكانت النتيجة أنّ مدير السجن عذّبه حتى مات بين يدي جلاديه. 

آرام كرابيت: تدمر العسكري أقسى سجون العالم

الاستبداد موضوعيًا كاره لكل ما هو جميل في الحياة، وهذا يتضمن الثقافة والفكر والإبداع، إذ يرى فيهم أعداء له يريدون النيل منه، يعروه من ثيابه وينشرون ثيابه القذرة على حبال الغسيل تحت الضوء. الاستبداد منتج حصري للدكتاتورية، والجهل والقهر الاجتماعي والتراتبية الاجتماعية والسياسية، والاستزلام والخضوع. والاستبداد متعدد الأنواع، منه الثقافي والديني والاجتماعي والفكري، يضعهم الدكتاتور في جبته كصرة واحدة وينثرهم في فضائه، فضاء سلطته الفردية، لهذا أرى أنّ التكوين النفسي والعقلي للدكتاتورين متقارب جدًا، إنهم منتج واحد، لهذا لا أرى هناك فارقًا كبيرًا بين حافظ الأسد وبشار وستالين وعبد الناصر وصدام. الدكتاتور يضرب التنظيم، خلايا فكرية وسياسية، مكونة من كتّاب ومفكرين ومثقفين، وبضربه للخلايا المنظمة يرعب المجتمع ويركعه.

وعلينا أن نعلم أنّ الاستبداد الديني كان موجودًا، قبل الأسد الأب وابنه، منتجه الثقافي كان راسخًا في المجتمع منذ أكثر من ألف سنة. بمعنى عندما جاء الدكتاتور رأى البناء مشيدًا، بل راسخًا، فأخذ المفاتيح ودخل بيته، إلى البناء الجاهز، حفر أكثر وبنى أكثر وكرس وجوده على الدعائم القائمة. بنى دولة أمنية، محوّلًا سورية كلها إلى مؤسسات أمنية خادمة لسلطته. جلب كتّابه وزلمه ومضى يكرّس مفارخ الاستبداد في كلّ مكان.

السجن السياسي ما زال قائمًا، والدولة الأمنية مستمرّة، فكيف يخرج السجين من سجنه. هذا على المستوى الفكري، أما على المستوى الشخصي فما زال السجن يشكّل لي غربةً وانطواءً على الذات. ماتت الحياة الطبيعية في داخلي، لم أعد كائنًا مثل بقية البشر. أشعر بالنفور من الاجتماع العام بالناس، شيء ما في داخلي يوجهني ويبعدني عنهم. لا أعرف سيكولوجيًا السبب الحقيقي. أينما أذهب أرى نفسي حاملًا سجني تحت إبطي أو قلبي أو ظهري.

كتبت روايتي عن السجن بعنوان، «الرحيل إلى المجهول»، ونشرت في العام 2010، بيد أنها لم تلق رواجًا أو أي اهتمام من الكتّاب والصحافة، أعدّ هذا الأمر مقصودًا، لأنّ مجتمعنا مقسوم على نفسه. وجاءت الثورة السورية وكشفت عمق الخراب الذي فيه. أعتقد أنّ الاستبداد تعرى أكثر في السنوات العشر الماضية، حيث صعدت على السطح التراكمات الماضوية الكامنة في المجتمع، كالطائفية والمناطقية، والعنصرية. بصراحة؛ لا يكفي أن نعري الدكتاتور وحده، إنما علينا أن نعري الاستبداد، المنتج الحقيقي للدكتاتور. عرّيت الدكتاتور، بيد أني لم أعرِّ مجساته، وهذا كان خطأً مني. كان الواجب أن أعري المعارضة أيضًا، لأنها العينة المكملة له، إنهما من المفرخة ذاتها. كنت في سجن تدمر العسكري، وهو أقسى السجون في العالم، هذا السجن مزقني نثرني حوّلني إلى أشلاء متناثرة. لا أعرف إلى اليوم كيف خرجنا منه أحياء؟ هل هي إرادة الحياة في داخل كلّ واحد منّا فقط، أم أنّ إرادة الحياة هي من تريد ذلك، هذا لا أعرفه بالضبط، بيد أني كنت أتمنى الموت ولم أحصل عليه. سجن تدمر أعدّه أكثر من ألم أو وجع أو قتل للنفس الحية. الكتابة عن السجن حررت جزءًا من الذاكرة. وبعد أن كتبت روايتي ونشرتها، شعرت أنني لم أعد أستطيع أن أعود للكتابة عنه مرّة ثانية. سجن تدمر مدمّرٌ، أعادني إلى الفراغ والخوف مرّة ثانية وحوّلني إلى إنسان غريب، فتح عيني على قسوة السلطة وقدرتها التدميرية.   

غلاف كتاب الرحيل إلى المجهول لآرام كرابيت

في عدرا، كان السجن حجزًا للحرية، توفرت لنا الكتب والقراءة والتنفس اليومي. هذا السجن حررني من الخوف، من الجهل. استطعت أن أقرأ بعمق وأدخل في حوارات مع الأصدقاء، وتعلمت كثيرًا من التجارب في علاقتي مع السجان والسجين. وعرفت أكثر عن الحياة والمجتمع وسبب خرابه. كنت أراقب سلوك الزملاء وأعكسها على نفسي، وأقارن بيني وبينهم، كنت أقول لنفسي: آه، الخراب بيننا مشترك، بل هو واحد. وأقول إنّ العلاقة بين السجان والسجين ليست ميكانيكية خالصة، إنما بنية كاملة، هي نتاج استبداد طويل، وإنّ التغيير يجب أن يكون ثقافيًا أولًا حتى لا ننتج سلطة بديلة عن سلطة.

السجون أنواع، حسب حركية المجتمع. النظام يتمفصل مع آلية المجتمع، فإذا كان هناك حركة اجتماعية تهدد دولته أو سلطته الدكتاتورية؛ تحوّل إلى وحش، يأكل الدولة والمجتمع بأنيابه وأسنانه، أما في فترة الراحة وخمول المجتمع فإنه يسترخي. في سجن عدرا بدمشق، كان النظام قد بسط سيطرته على السياسة والمجتمع، وكان مرتاحًا، وكنّا في الثمانينيات والتسعينيات مرتاحين إلى حد بعيد، هنا أتكلم عن القوى السياسية التي لم تحمل السلاح، أما الذين حملوا السلاح فكانت معاملتهم قاسية جدًا. وعندما رحّلونا إلى تدمر كان ذلك بسبب رفضنا للعفو الرئاسي، أي إنه كان “تكسيرًا للرأس”، كما كان يقول قادة الأجهزة الأمنية.

حرّاس السجن مجرد أدوات سياسية، وهم ينفذون توجيهات السلطة. إنهم العصا التنفيذية التي يُضرب بها المجتمع. وهؤلاء يمكن إدانتهم لأنهم عملوا في هذه المؤسسة الأمنية، لكنهم عمليًا مجرد كائنات مأمورة. السلطة السياسية الأمنية في سورية هي الحارس الحقيقي للزنزانة، ولا أشعر بأي ضغينة نحوهم أو كره، ولا ألومهم. أقصد حراس السجن. في تدمر لا نرى السجان، لأننا نغمض أعيننا وننكس رؤوسنا عندما نكون بحضرته. إنه شيء محزن أن لا ترى وجه سجانك، ولا تعرفه. إنّ إخفاء الوجه مخيف أكثر من السجان ذاته. وسجن تدمر لا يمكن أن أنساه، إنه في سريري. سورية كلها سجن منذ أكثر من خمسين سنة برعاية دولية وحمايتها. كتبنا عن السجن، أدبيًا وسياسيًا، دخلنا في بعض مفاصل السجن، عريناه وعرينا أنفسنا، لكن يعوزنا أن نفكك مفهوم السجن، تفاصيل تكوين السجن، غايته الباطنية وكيف يمكن تدميره من داخله. هل يمكننا تسمية ما نكتبه عن السجن، بـ “أدب السجون”؟ لا أعرف. هل هو مذكرات، تعرية، (فشة خلق) كما يقال، محاولة أخذ التعاطف من المجتمع بأن نقول لهم انظروا لقد تعذبنا من أجلكم، أي “تبرئة ذمة”؟ لا أعتقد أننا كتبنا عن السجن بموضوعية، كان ذلك توظيفًا. هل يرقى ذلك إلى تسمية “أدب السجون”؟ لا أعرف.

شيار خليل خليل: أدب ينقل آلام وآهات السوريين للعالم أجمع

بقيت “سورية الأسد” محكومة من قبل أجهزة أمنية تتبع مباشرة لرأس النظام السوري، الذي حاول فرض الرقابة الأمنية على المفكرين والأدباء والصحفيين، بجانب السياسيين بكل تأكيد، فقبل الثورة السورية، لم تكن الحال أحسن، حيث كانت هذه الأجهزة الأمنية تمارس الرقابة التامة على الصحف والكتب والمنشورات الثقافية والاقتصادية وحتى الاجتماعية، مع رقابة كاملة على التلفزيون والمسرح. وقد اعتقل الأسد الأب والابن أغلب الصحفيين والكتّاب الذين تجاوزوا -وفق تسمية النظام- “الخطوط الحمراء” والرقابة التي وضعت لهم وعليهم، حيث كان سجن تدمر وسجن المزة بدمشق من أكبر المعتقلات التي استقبلت العديد من الكتّاب والمفكرين السوريين في زمن الأسد الأب، ليأتي الابن ويمارس السلوكيات الأمنية نفسها، خاصة بعد الثورة السورية، بطريقة منهجية وشبه علنية، فاعتقل زكي كورديلو، والشهيد أكرم رسلان، والعديد من الذين كانوا يحاربون ويناضلون بالكلمة والصوت.

بكل تأكيد، لم أخرج من تلك الحالة الأدبية التي عشتها داخل السجن، فكل الحيثيات المرتبطة بالسجن لها ارتباط مباشر لديّ مع الأدب، وكما حاولت داخل السجن، أحاول هنا خارجه، أن أنقل تلك الصور بطريقة أدبية للمتلقي والجوار وفي السوشيال ميديا، لتعميق تلك الحالة لدى السوريين، وتثبيتها تاريخيًا وأدبيًا وفكريًا. السجن والاعتقال حالتان يمكن أن ينتج منهما السجين قصصًا وروايات كثيرة، بنى عليها النظام السوري مملكته المليئة بالرعب والدم، وهنا دورُنا -السوريين الذين لديهم تجربة بدخول تلك المعتقلات- في الحديث عن التفاصيل والقيم الفكرية والمعرفية لتلك الزوايا، ونقلها إلى الناس من أجل التدوين، من ناحية، ومن ناحية أخرى من أجل كشف الحقائق التي بنيت عليها هذه المملكة المقرفة. السجن حررني من كلّ المكنونات التي اكتسبتها في المجتمع، وبدأت من خلال تلك الجدران بناء عالم فوضوي، عانيت أيامًا وأسابيع لتنظيمه، وترتيبه، ومن ثمّ جعله مكانًا فكريًا سياسيًا وفنيًا منتجًا لي وللمحيط المتجوّل معي.

ليس هناك ألمٌ أكثر من كلمة الاعتقال أو السجن، فالحالة بحد ذاتها مبنية على الخوف والألم والموت، تأتي الكتابة هنا بعد المرور بتلك المرحلة، وتوظيف الألم ذاك تعزيز الفكر المستنتج منه، وتعزيز ما تبقى من الألم لتحويله إلى فكرة أدبية وسياسية، وهو ما يجب أن يعمل عليه كلّ سجين، لنصنع مقابل مملكة العرب تلك مملكة لتفسير تلك الآلام والإبحار في تفاصيلها، لمواجهة النظام الدموي بتلك الأعمال الأدبية والفنية وتخليدها بشكل مستمر. كان السجن تجربةً روحية وفكرية مهمة، استطعتُ من خلالها تغيير العديد من الأفكار، لكنها ألغت فكرة الألم المضاد في داخلي، ولم تعد تلك المستحاثات الخاصة بمراكز الألم ذات فاعلية، بقيت الدمعة التي تخرج من العين مستمرّة، ولكن من دون إحساس، تجري ومعها العديد من الآلام، لم يعد الألم آنيًا، بل بقي -كما كان هناك- متجذرًا متعمقًا لا يمكن الابتعاد عنه، بل صار الولوج فيه أمثل حالة للعودة إلى طبيعته مع الروح والفكر.

كانت زنازين (فرع فلسطين) “تحت الأرض بطابقين”، هي أمثل حالة لتسمية القبر الجماعي، في كلّ يوم تقريبًا كان يفارق أحد المعتقلين الحياة، بسبب التعذيب والوضع الصحي وسوء التغذية في الزنازين، وكان الجلادون هم أمثل حالة لمحاسبة المعتقلين في الحياة، وخلق حالة من الرعب والدم والقتل في المكان، كانوا هم القضاة الذين يمارسون حق الموت علينا. أتذكّر جيدًا كيف أن أحد الجلادين “صورته ما زالت لدي، حصلت عليها من أحد الصفحات”، كان يشغل أغنية لفيروز: “أعطني الناي وغني”، ويبدأ يدور على الزنازين ويمارس الضرب والقتل بحقنا، ليشبع الحقد والكراهية الموجودة بقلبه، ولكن برفقة أنغام فيروز. عندما دخلت إلى السجن، قال لي ذلك السجان: “إنّ اسمك رقم (101)، انسَ اسمك، والبس هذا الاسم الجديد في هذا القبر الجماعي، لتتناغم مع الأرقام الأخرى وتشكلوا قبرًا جميلًا يليق بكم”.

تفتقر سورية والوطن العربي بشكل عام إلى الكتابة عن “أدب السجون”، وذلك يعود إلى الحالة الرقابية الشديدة في هذه البلاد، وبعد الثورة السورية ومغادرة أغلب الكتّاب والمعتقلين البلاد، بدأت النتاجات الفكرية والأدبية الخاصة بـ “أدب السجون” تخرج للعلن، بلغات عدة، وذلك برأيي قضية مهمة جدًا لمحاسبة المجرمين المتعددين والمتلونين لدى النظام والأطراف الأخرى في الساحة السورية، العدالة لا يمكن أن تتحقق، إذا لم يكن هناك تدوين وأدب ينقل آلام وآهات السوريين للعالم أجمع وبجميع اللغات، وذلك -بكل تأكيد- له ارتباط وعلاقة وطيدة بـ “أدب السجون” وأهميته.

ضاهر عيطة: رواية المعتقلات في مواجهة سردية الأسد

في مفردة “الاعتقال” و”المعتقل”، يبدو وكأن اللغة تتقصد هنا ارتكاب الخيانات والمعاصي، فهي لا تفي بالغرض، حتى لو بدلنا المفردة، وأتينا على عبارات من السياق نفسه، “كحفرة” أو “مسلخ” أو “جحيم”.. فلا يمكن لجميعها أن تحيلنا إلى ما هو متضمن في فضاء “المعتقل”، فكلها تعجز عن التعبير، وإزاء هذا العجز، تصبح  العبارات أشبه ما تكون بالقطارات التي لا تمتهن إلا العبور، وتجاوز المحطات واحدة تلو الأخرى، بخلاف حال السجين في داخل فضاء المعتقل، حيث يستحيل الزمن والمكان عنده إلى حالة ثبات وجمود، ترفض الحراك، والخروج عن صيرورة الطاحونة التي تطحن روح المعتقل، على نحو مستمر إلى حد الأبدية، وهذا تمامًا ما يجعل اللغة هنا غير موثوقة، ولا يمكن الركون إليها، لكونها تلعب دورًا تضليليًا، وأحيانًا تنفيسيًا، غايته إخراج المعنى عن سياقه الحقيقي والواقعي، واستبداله بسياق آخر، هو أقرب ما يكون إلى الافتراض بقصد التعميم، وإمحاء الذات التي هي موضوعة هذا الفضاء، ومن دونها ما كان ليكون.

في المعتقل، يستحيل التعميم، وكذلك الافتراض، أو التفكير على نحو يهدف إلى فهم المعنى، فالثانية من عمر المعتقل في معتقله، واللحظة والدقيقة، هي صيرورة عيش كاملة، وصيرورة حياة كاملة، مليئة بالرعب والخوف، وتدرك فيها الضحية حال امتهان آدميتها، إدراكًا يصل إلى حد الجنون، لشدة وضوحه، وسطوعه، ومرارة أهواله. ومهما حاولنا الكتابة، فلن نستطيع أن نعبّر عن اللحظات التي يعيشها المعتقل في معتقله، ولا سيما حين يصل الأمر بالجلاد إلى حد اشتهاء إبصار الدماء وهي تسيل عن أجساد المعتقلين التي تمزقها سياطه، من جراء تفشي داء الحقد لدى أجهزة الأمن الأسدية على مدار أعوام الثورة السورية، تجاه كلّ من يحمل في قلوبه وضميره حلم تحقيق أهداف الثورة، والمتمثلة بزوال النظام الدموي عن حياة السوريين. ومن هنا تأتي ضرورة وأهمية الكتابة المغايرة عن الكتابة الإخبارية التي عادة ما تتناول المعتقلات وما يدور فيها. ومن الضروري أن تغدو ظاهرة “أدب السجون” أداة تفكك المفاهيم والمعاني، لتعيد إنتاجها من جديد، عسى يتاح لها ملامسة معنى “المعتقل”، فربما تكون إحدى غايات “أدب السجون” الكشف عن حدث يحدث في الخفاء، في سراديب تحت الأرض، وحينما يمضي الكاتب للغوص في خفايا هذا الجحيم، إنما يحاول أن يستعيد حضور الضحية في اللحظات التي كانت تُعذّب فيها، ليجري تعذيبها على مرأى من الجميع، وربما بسياط الجميع هنا، مع استعادة أنين صراخهم وأوجاعهم وخيبات آمالهم، ووجودهم الفردي والجمعي إلى الوجود مرّة ثانية، كمحاولة لرد الاعتبار إليهم بوصفهم بشرًا،  تستحق آلامهم أن تخلد في نص روائي، ويستحق الجلاد، وما يقدم عليه من جرائم، أن يعرف به، بوصفه أيضًا كائنًا بشريًا، له هوية واسم وعنوان وملامح، وليس كائنًا مجردًا، فنظرًا لأهوال الجرائم التي يرتكبها هذا الإنسان الذي يمتهن التعذيب والجلد، نحيلها إلى كائن هلامي، افتراضي، عمومي، اذ ربما تعجز مخيلتنا عن أن تحيلها إلى إنسان معرف يشبهنا تمامًا إلى حد تطابق الصفات فيما بيننا، ومع خلاف أنّ غايته هنا  قهر الإنسان الآخر المشابه له، والنيل من كرامته،  والعبث بكيانه حد الموت.

إنّ ما يحدث داخل جدران المعتقلات السورية تعجز المخيلة البشرية عن توقع حدوثه على سطح هذه الأرض، وحينما ينفي السفاح  بشار الأسد وجود معتقلين في سجونه يكاد يراهن في سريرتها على احتمالية عدم تصديق العالم للفظائع التي ترتكب في معتقلاته، ومن هنا، أوحي إليه أنّ النكران صدق أيضًا، ولذلك ينفي أن تكون معتقلاته فضاءً لعمليات التصفية والتعذيب، لتأتي رواية “أدب السجون” هنا، كوسيلة لتكذب مزاعمه، لو أمكن لها ذلك، وتعمل على كسر تلك الجدران عبر المتخيل، لتخرج المخبوء فيها إلى العلن، ولكن ليس العلن الحالي، إنما المستقبلي، فالكل لديه في الوقت الراهن، وعلى الأقل، قائمة طويلة تشير إلى من قضوا نحبهم في المعتقلات السورية من فرط التعذيب، ولكن في المستقبل قد تختفي تلك القوائم، ويغيب التمحيص في مثل هذه الفظائع، والتفجع نتيجتها، وهذا يستدعي توثيقها في سياق أدبي ولغوي يراهن به، على أن يغري الأجيال القادمة للالتفات إليه..

قبل أن أعيش تجربة الاعتقال، تناولت المعتقلات السورية، في روايتي «لحظة العشق الأخيرة»، معتمدًا بذلك على ما كنا نسمعه عن تجارب المعتقلين من الأصدقاء والمعارف، لكني بعد أن عشت تجربة الاعتقال، ولامست بعضًا من أهوالها، وجدت اللغة تخونني للكتابة عما شاهدته هناك، وما تعرّض له المعتقلون من ويلات وعذابات، وربما كمحاولة لتعويض عجز الكتابة عن هذه الفظائع التي بصرتها، وقد كانت وظيفتي في المعتقل -إن جاز التعبير- “الإبصار”، حيث وضعوني في زاوية أرادوا منها أن أرى أكبر قدر من حالات التعذيب، ليتم تعذيبي بها، وربما هو ما ترك عطب في ذاكرتي البصرية إلى حد العماء.. وربما لهذا أتلصص على أعمال روائية لكتّاب سبق أن اعتُقلوا واستطاعوا التحرر من حالة العجز والصمت، ليلجوا عالم الكتابة، وهذا الذي ما زلت غير قادرٍ على فعله حتى الآن، لكوني أجد لغتي تخون عذابات المعتقل، وتعبث بجغرافية المعتقلات، لعدم قدرتها على رصد ما حدث، ويحدث فيها.


«أجنحة في زنزانة» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ بيروت، ودار السويدي للنشر/ أبو ظبي – حاز جائزة ابن بطوطة لليوميات).

البوابة السوداء- أحمد رائف

هذا الكتاب

البوابة السوداء للاستاذ احمد رائف

الكتاب
يصف التعذيب الذي تعرض له الإخوان المسلمون في سجون عبدالناصر.
يعتبر الكاتب نفسه سعيد الحظ لتمكنه من الخروج من هذه السجون بأقل الخسائر
العقلية والجسدية. وتبقى الآثار النفسية التي تلازمه لبقية العمر.
كتاب جيد وسرده ممتع وما يميزه أن أحداثه حقيقة وأن أبطاله قد قضوا في سبيل
حرية أفكارهم

كوكب المسرات: سيرة ذاتية من يوميات سجين – محمد سعدون السباهي

كوكب المسرات: سيرة ذاتية من يوميات سجين – محمد سعدون السباهي

كوكب المسرات: سيرة ذاتية من يوميات سجين
تأليف: محمد سعدون السباهي
الناشر: دار آراس – أربيل
الطبعة: الأولى 2011
230 صفحة

كتاب (كوكب المسرات) للاديب العراقي محمد سعدون السباهي، وهو سيرة ذاتية من يوميات سجين، كتبها السارد/المؤلف اثناء مدة قضاء محكوميته عن حادثة سير في سجن ببغداد.
وتضمن النص 17 فصلاً بـ 226 صفحة من القطع المتوسط، يسرد فيه المؤلف وقائع محاكمته ونقله من التسفيرات الى سجن (ابو غريب) في بغداد، وانطباعاته وهو يودع في غرفة صغيرة قذرة، ويتأسف على فراق اهله وأحبته، وحرمانه من المشاركة في فعاليات مهرجان المربد الثقافي للالتقاء بالاصدقاء من الادباء.
ويسرد المؤلف تفاصيل قاعات السجن والاشخاص المودعين فيه، وهم يقضون اياماً ثقيلة بطيئة، قاطعين الامل في الغد، وليس لهم سوى الحاضر، وهم يتوقون لأبسط مستلزمات الحياة، والكل داخل السجن يؤمن انه ضحية قوانين جائرة، مشروعها من دون قلب وضمير، ومنفذوها بعض القضاة الجبناء والمرتشي.
ويصف حال المسجونين بالبطالة المطلقة التي لا تساويها غير بطالة الموتى، وللحيلولة دون تحجر عقله، يكشف عن انه توجه الى مكتبة السجن ليجد عشرات من الكتب البائسة الرديئة، معظمها روايات وقصص وأشعار(حرب القادسية)، فيما كان السجناء يتبادلون بينهم قراءة الكتب المهربة خلسة بالاتفاق مع بعض الحراس.
ويرى المؤلف ان مجتمع السجون يتصف بعدم التماسك وغياب اليقين، يلفه الكثير من الغموض واللامبالاة والنرجسية، اذ ينشط الى مديات قصوى مفهوم(الصراع من اجل البقاء) فالتشبث بالحياة والامل بالعودة الى الاهل والاصدقاء وممارسة النشاطات الانسانية المتنوعة يتساوى بين المحكوم شهوراً معدودة او المحكوم بأكثر من اعدام واحد