أرشيف الوسم : السجن

مؤسسة السجون في التاريخ الإسلامي

زنازين تعذيب تحت الأرض وأنشطة تدريس وتأليف ونزلاؤها لصوص ونساء وعلماء وأمراء.. مؤسسة السجون في التاريخ الإسلامي

صور من التاريخ الإسلامي - الشطار والعيارون

السجن كلمة بغيضة تُنبئ بمعاني الألم والقيدِ وتقييد الحرية، وقسوة لا يكاد يُعرفُ لها آخر؛ إنها نظام عرَفته البشرية منذ أقدم عُصورها، وأُلقي فيه الناس بمختلف طبقاتهم ونحلِهم، كثير منهم كان ظالما فاستحق العقوبة، وأكثرهم كان بريئًا قبع بين جدرانه وعذاباته طويلا؛ وعلى رأس هؤلاء النبي يوسف -عليه السلام- الذي رأى في السجن ملجأ آمنًا من الفتنة والغَيّ: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} (سورة يوسف)؛ فلبث فيه بضع سنين؛ ومن بعده جاء موسى -عليه السلام- رسولا من عند الله فهدده فرعون قائلا: {قَاَلَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}؛ (سورة الشعراء)! ويبدو أن نظام السجون في مصر القديمة كان هو الأكثر تقدمًا وقِدمًا بين نظرائه؛ حتى إن القرآن الكريم لم يذكر لفظ “السجن” ومشتقاته إلا مرتبطا بمصر. وقد تأثرت الحضارات اللاحقة بميراث مصر وغيرها في مجال السجون وأوضاعها حتى أمست مؤسسة راسخة من جملة مؤسساتها؛ فكيف إذن كانت أوضاع السجون والسجناء في تاريخنا الإسلامي؟ وبأي نحو تطور مفهوم السجن وبنائه ونُظُمه؟ وكيف عانى الناس في تلك السجون والمعتقلات فسطّروا قصصًا من المآسي والآلام أو النجاحات والطموحات؟! وما معالم الرؤية التي قدمتها المدونة التشريعية الإسلامية لضبط هذه المؤسسة؟ وإلى أي حد انسجم الواقع مع المثال؟


مؤسسة جنينية

أدرك العربُ في جاهليتهم الحاجة للسجون فنقلوا نظامها عن الفرس والروم، وكان للمناذرة ملوك الحيرة بالعراق سجون عدّة، عرفنا منها سجنا ‘الصنين‘ و‘الثوية‘، وممن سُجنوا بـ‘الصنين‘ عدي بن زيد التميمي الشاعر النصراني (ت 35 ق.هـ). وكان للغساسنة -ملوك عرب الشام- سجن اعتُقل فيه سعيد بن العاص القُرشي الذي “قد قدم الشّام في تجارة…؛ فاجتمع رأي بني عبد شمس على أن يفتدوا سعيد بن العاص، فجمعوا مالا كثيرا فافتدوه به”؛ وفقا لابن حجر العسقلاني (ت 852هـ) في كتابه ‘الإصابة‘.

وحين جاء الإسلام؛ استندت منظومة العقوبات فيه على تعاليم القرآن والسنة النبوية، فكان القصاص تبعا لنوع الجرم المرتكب، بيد أن ثمة عقوبات وجنايات أخرى التُزم فيها بمبدأ “التعزيز” وهو التأديب على ذنوب لم تُشرّع فيها الحدود، فاستلزم التعزيز وجود سجون، وهذه التعازير كانت اجتهادية بقدر الفعل والفاعل ووجه الفعل؛ كما يذكر العلامة الونشريسي المالكي (ت 914هـ) في كتابه ‘المعيار‘.

أما السجن في التصور القانوني الإسلامي فليس هدفه الإذلال والتضييق على السجين، ولذلك عرّفَ الفقهاء الحبس القضائي بأنه “ليس السجن في مكان ضيّق، وإنما هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه، سواء كان في بيت أو مسجد”؛ حسبما يوضحه ابن تيمية (ت 728هـ) في ‘مجموع الفتاوى‘.

وقد رأينا هذا المغزى متحققًا منذ عصر النبوة؛ إذ “ما كان لرسول الله ﷺ سجنٌ قَطُّ”؛ كما يقول ابن حزم (ت 456هـ) في ‘المحلى‘. لكنه استعاض عنه بأماكن أخرى كلما دعته الحاجة؛ فقد أمسك المسلمون زعيم اليمامة المتحالف مع قريش فربطه النبي ﷺ في المسجد النبوي، وحبس ﷺ ابن شناف الحنفي وابن النواحة مبعوثيْ مُسيلمة الكذاب إليه -وكانا قد ارتدّا عن الإسلام- في بيوت بعض أصحابه ثم أطلقهما. غير أن فكرة إنشاء سجن مخصص لأرباب الجرائم بزغت في عصر عمر بن الخطاب (ض) لاتساع المجتمع الإسلامي وازدياد المجرمين؛ فاشترى دارا لصفوان بن أمية بمكة المكرمة بأربعة آلاف درهم وجعلها سجنًا.

ومن هنا اعتبره المؤرخون المؤسس الحقيقي لمصلحة السجون الإسلامية؛ فقد قال محمد بن الفرج الطلاعي القرطبي (ت 495هـ) في كتابه ‘أقضية رسول الله ﷺ‘: “ثبت عن عمر بن الخطاب.. أنه كان له سجن، وأنه سجن الحطيئة (الشاعر ت 57هـ) على الهجو، وسجن صُبيغا التميمي”. ولما تولى علي (ض) الخلافة أقام سجنا اسمه ‘نافع‘ و”كان.. من قَصَب [فـ]ـهرب منه طائفة من المحبسين”، فبنى سجنا آخر وسماه ‘المُخيّس‘؛ كما يقول مجد الدين ابن الأثير (ت 606هـ) في كتابه ‘النهاية في غريب الحديث والأثر‘.

المسلمون اقتبسوا نظام السجون من الحضارات الأخرى وفق نظرة قانونية مستلهمة من تعاليم دينهم لكن سرعان ما انحرفوا عنها (الجزيرة)

توسع ورسوخ
وفي عصر الأمويين (41 -132هـ) اتسعت دائرة السجون؛ حيث أمر معاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ) ببنائها بولايات الدولة، وقد سجن معاويةُ بعضَ أقاربه لما بدر منهم من مخالفات؛ مثل محمد بن حذيفة الذي كان شريكًا في فتنة مقتل عثمان فسجنه بسجن دمشق. وفي أيامه اتخذ “الدار الخضراء” قصرا للإمارة بدمشق وجعل “فيها الشرطة والحبوس”؛ كما يذكر المسعودي في ‘التنبيه والإشراف‘.
وتذكر مصادر تاريخ الأمويين سجونا بالولايات المختلفة؛ ففي المدينة المنورة اتخذ الوالي سعيد بن العاص الأموي (ت 59هـ) سجنًا كان من نزلائه الشاعر هدبة بن خشرم العامري بسبب قتله زيادة بن زيد الذبياني في سباق وتنافس بينهما؛ كما يروي أبو الفرج الأصفهاني (ت 356هـ) في ‘الأغاني‘.

وكان سجن الكوفة من أشهر السجون وعلى درجة عالية من الحصانة والقوة وبه ساحة خارجية. يقول الطبري (ت 310هـ) -في تاريخه- متحدثا عن إيداع أتباع الحسين بن علي رضي الله عنهما (ت 61هـ) -بعد استشهاده- في ذلك السجن: “فبينا القوم محتبَسون؛ إذ وقع حَجر في السجن معه كتاب مربوط، وفي الكتاب: خرج البريد بأمركم يوم كذا وكذا إلى يزيد بن معاوية [في الشام]، وهو سائر كذا وكذا يومًا، وراجع في كذا وكذا؛ فإن سمعتُم التكبير فأيقِنوا بالقتل، وإن لم تسمعوا تكبيرًا فهو الأمان”.

واتخذ الحجاج بن يوسف الثقفي (ت 95هـ) والي العراق وبلاد المشرق الإسلامي سجونا كان أشهرها ‘سجن الديماس‘ بمدينة واسط عاصمة ولايته. ويصف ابن الجوزي (ت 597هـ) -في ‘المنتظم‘- جانبا من فظاعة هذا السجن؛ فيقول إنه “حائط محوط، ليس فيه مآل (= مأوى) ولا ظلّ..، فإذا آوى المسجونون إلى الجدران يستظلون بها رمتهم الحرسُ بالحجارة، وكان يطعمهم خبز الشعير مخلوطا به الملح والرماد، فكان لا يلبث الرجل فيه إلا يسيرا حتى يسودّ فيصير كأنه زنجي”!!

ويحكي الراغب الأصفهاني (ت 502هـ) -في ‘محاضرات الأدباء‘- أن الحجّاج “خرج.. يوماً إلى الجامع فسمع ضجة عظيمة، فقال: ما هذا؟! قالوا: أهل السجن يضجون من الحر!! فقال: (اخْسَؤُوا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ)”!! وقال الحافظ الذهبي (ت 748هـ)  في ‘تاريخ الإسلام‘: “عُرضتْ السجون بعد موت الحجاج فوجدوا فيها ثلاثة وثلاثين ألفا، لم يجب على أحد منهم قطع ولا صلب! وقال الهيثم بن عدي (الطائي المؤرخ المتوفى 207هـ): مات الحجاج وفي سجنه ثمانون ألفا، منهم ثلاثون ألف امرأة”!!

وإذا كان عمر بن الخطاب أولَ مَن بنى سجنًا في الإسلام؛ فإن سبطه عمر بن العزيز (ت 101هـ) كان أول من نظّم أحوال السجون، وجعلها مؤسسة احترافية كاملة. فقد أفرد لها سجلًّا يضبط أسماء السجناء وأحوالهم، وجعل لهم مرتبات مالية حسبما رواه المؤرخ ابن سعد (ت 230هـ) في ‘الطبقات الكبرى‘ عن الواقدي (ت 207هـ): “عن أبي بكر بن حزم (ت 120هـ) قال: كنا نُخرج ‘ديوان أهل السجون‘ فيخرجون إلى أعطيتهم بكتاب عمر بن عبد العزيز”. وإن كان الإمام أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة (ت 182هـ) يرى –في كتابه ‘الخراج‘- أن تخصيص المرتبات كفكرة إجراء سنه قبله الخليفة علي (ض).

وكان يحرص على تطبيق ومتابعة وصاياه المتعلقة بالمساجين والتي كان يرسلها لولاته ورؤساء أجناده؛ ومما جاء فيها عند أبي يوسف في ‘الخراج‘: “أما بعد؛ فاستوصِ بمن في سجونك وأرضك حتى لا تصيبهم ضيعة، وأقم لهم ما يُصلحهم من الطعام والإدام”. وكتب إلى جميع أمراء أجناده قائلا: “انظروا مَن في السجون ممّن قام عليه الحقّ، فلا تحبسنّه حتى تقيمه عليه، ومن أُشكل أمره فاكتب إليّ فيه، واستوثق من أهل الدّعارات (= الفَسَقَة)..، ولا تعدّ في العقوبة، وتعاهد مريضهم ممّن لا أحد له ولا مال، وإذا حبستَ قوما في دَيْن فلا تجمع بينهم وبين أهل الدّعارات، واجعل للنساء حبسًا على حدة، وانظر مَن تجعل على حبسك ممّن تثق به ومن لا يرتشي، فإنّ من ارتشى صنع ما أُمر به”.

أحداث الفتن التي شهدها التاريخ الإسلامي في حقبته المبكرة أيام الأمويين والعباسيين زادت نظام السجون رسوخا بتزايد نزلائها (الجزيرة)

عصر المأسسة
أما الحقبة العباسية (132 – 656هـ) فشهدت توسّعا في إنشاء السجون بمختلف أنواعها وأنظمتها، وتباينت عندهم ما بين عامة وخاصة ومركزية وفرعية. ويُعتبر سجن ‘المُطبـِق‘ أول سجن مركزي في تاريخ الدولة العباسية ويعادل في فظاعته سجن ‘الديماس‘ الأموي.

فقد انتهى بناء هذا السجن سنة 146هـ أثناء تشييد بغداد التي اكتملت 149هـ أيام الخليفة المنصور (ت 158هـ)، وسُمي هذا السجن بـ‘المُطبـِق‘ لحصانته وظلمته؛ إذ أُنشئ قسم منه تحت الأرض فكان يُطبق على المسجونين ويُبقيهم في الظلام الدامس. ويذكر اليعقوبي (ت بعد 292هـ) -في كتابه ‘البلدان‘- سِكّة المطبِق ببغداد؛ فيقول: “وفيها الحبس الأعظم الذي يُسمَّى ‘المُطبِق‘، وثيق البناء مُحكَم السور”.

وفي ذلك السجن حُبس بعض أخطر السجناء، أو من أرادت السلطة أن تـُنزِل بهم أشد العقاب من السياسيين؛ مثل الوزير العباسي يعقوب بن داود الفارسي (ت 187هـ) الذي سجنه الخليفة المهدي (ت 169هـ) بسبب ميله للعلويين. وحسب الطبري في تاريخه؛ فإن ذلك الوزير يروي تجربته القاسية بالسجن تحت الأرض قائلا: “حُبستُ في ‘المُطبق‘ واتُّخِذ لي فيه بئر فدُليتُ فيها، فكنتُ كذلك أطول مدّة لا أعرف عدد الأيام، وأُصبتُ ببصري، وطال شعري حتى استرسل كهيئة شعور البهائم”!!

ومن أشهر سجون بغداد: ‘سجن بستان موسى‘ الذي بناه الخليفة المعتصم (ت 227هـ) قبل انتقاله إلى سامراء، ويصفه القاضي التنوخي (ت 384هـ) –في ‘الفرَج بعد الشدة‘ نقلا عمن دخله- بأنه “كان كالبئر العظيمة قد حُفرت إلى الماء أو قريب منه، ثم فيها بناء على هيئة المنارة مجوَّف من باطنه، وله من داخله مدرج قد جُعل في مواضع من التدريج مستراحات، وفي كل مستراح شبيه بالبيت يجلس فيه رجل واحد كأنه على مقداره، يكون فيه مكبوباً على وجهه ليس يمكنه أن يجلس ولا يمد رجله”.

وبلغ اعتناء الخلفاء العباسيين بالسجون أن بعضهم أشرف بنفسه على وضع تصاميم هندسية لها وتنفيذ بنائها، فقد أمر الخليفة المعتضد بالله (ت 289هـ) ببناء ‘سجن المطامير‘ داخل ‘دار الخلافة‘ وراعى في بنائها الدقة والحصانة، وسُميت ‘المطامير‘ لأنها طُمِرت تحت الأرض كلها، ولم يكن لها قسم أعلى الأرض مثل سجن ‘المُطبِق‘.

ويصف الخطيب البغدادي (ت 463هـ) واقعة بناء سجن المطامير بقوله: “وأمر ببناء مطامير القصر، رسمها هو (= المعتضد) للصُّنّاع، فبُنيت بناءً لم يُرَ مثله على غاية ما يكون من الإحكام والضيق، وجعلها محابس للأعداء”.

وشدد الفقهاء على وجوب “حبس النساء بموضع لا رجال فيه والأمين عليهن امرأةٌ مأمونة”؛ كما يقرر ابن المَوّاق المالكي (ت 897هـ) في ‘التاج والإكليل‘. ومنذ مرحلة مبكرة من التاريخ الإٍسلامي وُجدت سجون منفصلة للنساء، وتنوعَّت أسباب سجنهن ما بين الأسر والمغارم والتعدي على الحقوق الشرعية كالقتل والسرقة وغيرها؛ ففي زمن معاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ) سُجنت آمنة بنت الشريد زوجة عمرو بن الحمق الخزاعي أحد قتلة عثمان بن عفان، وتتضارب الأقوال في سبب سجنها.

وقد سبق ما ذكرناه من أمر عمر بن عبد العزيز بفصل السجينات عن السجناء الذكور، كما خصص العباسيون سجونًا للنساء منها ذاك الذي عُرف بـ”سجن الطرارات” (= المحتالات)، وذكره المؤرخ جمال الدين القِفْطي (ت 646هـ) في كتابه ‘إخبار العلماء بأخبار الحكماء‘. وبالنسبة للصبيان؛ فقد ذكر العلامة الونشريسي المالكي -في ‘المعيار‘- أن الغلمان القُصّر الذين يرتكبون مخالفات إنما يكون “حبسهم عند آبائهم لا في السجن”.

طالما كانت السجون المسكن الثاني لأعلام كبار بسبب مواقفهم ضد السلطة فاستغلوا عزلتها للدراسة والتأليف (الجزيرة)

أعلام النزلاء
امتدت ظاهرة السجون في مشارق العالم الإسلامي ومغاربه، وحوت أصحاب الجرائم والمحكوم عليهم بالعقوبات المتنوعة طبقا لأحكام القُضاة ونوابهم وبعضها أحكام جائرة، ومنها ما خُصص للسلطات التنفيذية مثل مؤسسة الخلافة والسلطنة وغيرها، وكان يُزج فيها ظلمًا أصحاب الرأي المعارض، ومشاهير الأعلام من العلماء والأدباء والوزراء.

ولعل من أشهر سجناء الرأي والموقف في تاريخنا الإمام أبو حنيفة النعمان (ت 150هـ)؛ فقد اتهمه العباسيون بأنه مؤيد لثورة العلويين -بقيادة محمد النفس الزكية (ت 145هـ)- بالعراق وغيرها، وتعززت التهمة برفضه تولي منصب القضاء لهم؛ فسجنوه خمس سنوات حتى مات في محبسه، بعد أن “ضُرب فِي السجن على رَأسه ضربًا شَدِيدًا، وكانُوا قد أمِروا بذلك”؛ كما يروي الصيمري الحنفي (ت 436هـ) في كتابه ‘أخبار أبي حنيفة وأصحابه‘.

كما أودع الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ) فترة في ‘سجن العامة‘ بدرب الموصلية -حسب الذهبي في ‘سير أعلام النبلاء‘- وجُلد بالسياط حتى أُدمي جسده، بعد رفضه القول بعقيدة ‘خلق القرآن‘ التي روّجت لها السلطة حينها.

أما العلامة الحنفي شمس الأئمة السَّرْخَسي (ت 483هـ) فكان من أعجب المساجين العلماء في تاريخ الإسلام الوسيط؛ فقد أفتى بحرمة زواج أحد ملوك فرغانة (تقع اليوم بأوزبكستان) من جارية أعتقها ولم ينتظر عدّة إعتاقها؛ وحين سمع الملك الفتوى أمر فورا بإلقاء العلامة السَّرْخَسي في سجن تحت الأرض بمدينة أُوزْجَنْد (تقع اليوم بقرغيزستان)؛ حسبما أورده محمود الحنفي الكفوي (ت 990هـ) في كتابه ‘كتائب أعلام الأخيار‘.

مُنع السَّرْخَسي بسجنه –الذي لازمه أكثر من عشر سنوات- حتى من كتبه وأقلامه وأدواته، غير أن تلامذته كانوا يقفون أعلى فتحة بئر السجن فيستملونه علمه، “وكان يملي عليهم من الجُبّ” بأعلى صوته من حفظه؛ ومن ذلك الإملاء جاء كتابه الفقهي الكبير: ‘المبسوط‘ ذو المكانة العالية في الفقه الحنفي!!

ونحن نرى أثر السجن وقسوته في نفس السَّرْخَسي في نهايات بعض أبواب هذا الكتاب، ففي شرح كتاب “العبادات” مثلا يقول: “هذا آخر شرح كتاب العبادات بأوضح المعاني وأوجز العبارات، أملاه المحبوس عن الجُمعة والجماعات”.

أما الإمام ابن تيمية فقد سُجن مرات كثيرة في مصر والشام، وكان يجعل من سجنه فرصة للتأليف وكتابة الردود العلمية، وفي سجنه الذي مات فيه ظل يكتب “حتى أخرج [السلطان] ما كان عند[ه]… من الكتب والأوراق والدواة والقلم، ومُنع من الكتب والمطالعة، وحُملت كتبه.. إلى خزانة الكتب بالعادلية الكبيرة”؛ وفقا لابن كثير (ت 774هـ) في تاريخه.

وفي اليمن؛ ألّف السلطان والإمام المهدي لدين الله الزيدي (ت 840هـ) كتابه “الأزهار في فقه الأئمة الأخيار” في السجن، بعد الإطاحة به من الحكم سنة 801هـ. ولم تكن محمدة التأليف في السجن قاصرة على علماء الشرع؛ حيث صنّف الكاتب أبو إسحق الصابي في بغداد (ت 384هـ) كتابه ‘أخبار بني بويه‘ وهو في السجن.

وفي الجانب الغربي من العالم الإسلامي؛ طال الحبس أعلاما كبارا فكان أحمد بن محمد بن فرج الجيّاني الأندلسي (ت 366هـ) من علماء اللغة والشعر، وقد أُلقي به في سجن جيّان سبع سنين لكلمة بدرت منه وتم تأويلها على محمل سيئ، “وكان أهل الطلَبِ (= طلاب العلم) يدخلون إليه في السجن، ويقرؤون عليه اللغة وغيرها”؛ كما يذكر ابن بشكوال (ت 578هـ) في كتابه ‘الصلة‘.

بعض السلاطين المسلمين تولى بنفسه وضع تصاميم إنشائية مخيفة للسجون التي يريدها في دولته (مواقع التواصل الاجتماعي)

أدباء وساسة
سجّل تاريخنا أيضًا طائفة كبيرة من الشعراء والخطباء من أهل الأدب كان جزاؤهم السجن؛ إما لقضايا استحقوا فيها السجن تعزيرًا وإما لموقف السلطة منهم. فإضافة للحطيئة الذي سبق ذكر خبر سجنه؛ سُجن الكُميت بن زيد الأسدي (ت 126هـ) لهجائه والي العراق الشهير خالد بن عبد الله القسري (ت 126هـ). كما سَجنَ الحجّاجُ الخطيبَ المفوّهَ الغضبانَ بن القبعثري مدة طويلة، “فدعا به يوما، فلما رآه قال: إنّك لسمين! قال: القيد والرتعَة (= الراحة والطعام الوفير)، ومَن يكُن ضيفًا للأمير يسمن”؛ كما يرويه الجاحظ (ت 255هـ) في ‘البيان والتبيين‘.

وذكر ظهير الدين البيهقي (ت 565هـ) -في ‘لباب الأنساب والألقاب‘- أديبا اسمه “أبو محمد العلوي الفارسي الواعظ، كان علويا محدثا صالحا، وقد رأى المتنبي (ت 354هـ) وقرأ عليه بعض ديوانه، قـُتل بنيسابور في ذي الحجة سنة أربع وثمانين وثلاثمئة، وأخرج من سجن في سكة الباغ”.

لم تترك ألاعيب السياسة ومؤامرات القصور والغرف المغلقة ولا تبدّل الدول والقوى لرجال الحكم والسياسة ركنًا يحتمون به، فعانى كثير منهم مرارة الحبس والقيد؛ ولعل في طليعة هؤلاء الخليفة العباسي المستكفي بالله (ت 338هـ) الذي قرر معز الدولة البويهي (ت 356هـ) الخلاص منه، فيروي ابن كثير أن البويهيين حين دخلوا بغداد “سيق الخليفة ماشيًا إلى دار معز الدولة فاعتُقل بها…، فلم يزل به مسجونًا حتى كانت وفاته”.

وإذا اتجهنا للغرب الإسلامي؛ فسنجد أن أشهر سجناء السياسة كان أمير إشبيلية الشاعر المعتمد بن عبّاد (ت 488هـ) الذي تبدل حاله من الإمارة والغنى إلى السجن والأسر والفقر في منفاه بمدينة أغمات المغربية، إثر تقويض المرابطين لإمارته. كما دخل الإمام ابن حزم السجن سنة 412هـ أيام انخراطه في سياسة قرطبة، إبان فتنتهاّ الكبرى أوائل القرن الخامس الهجري.

ولئن حوت سجون العالم الإسلامي عبر تاريخه الطويل عِلّية المجتمع من كبار الخلفاء والأمراء والفقهاء والمحدّثين والأدباء والعسكريين وغيرهم؛ فإن أغلب نزلائها كانوا من العامة والمهمّشين الذين قلّما وقفت مصادر التاريخ السياسي والاجتماعي مع معاناتهم. وقد تنوعت أسباب سجنهم، فكانت جرائم المال -وخاصة السرقة- والقتل في صدارة التجاوزات التي ألقَت بأصحابها في السجون.

فقد ضجت سجون العباسيين بـ”العيارين”، وهم نوع من اللصوص كانوا على قدر عالٍ من المهارات القتالية، مما جعل السيطرة الأمنية عليهم صعبة أحيانا كثيرة، فاستباحوا المدن نهبا وسلبا. وكانت السلطات تضيف لهم فئة ‘المُكْدِيّين‘ وهم المتسولون؛ وقد أورد لنا الجاحظ وصفًا لأحد هؤلاء هو خالد بن يزيد الشهير بـ”خالويه المكدي”، ناقلا وصيته لابنه التي يُعدّد فيها “مآثره” وماضيه في التسوُّل، فقال: “إني قد لابستُ السلاطين والمساكين، وخدمتُ الخلفاء والمكديين، وخالطتُ النُّسّاك والفُتّاك، وعمّرتُ السجونَ كما عمّرتُ مجالسَ الذكر”!!

وبين جدران هذه السجون وجدنا كذلك أشهر اللصوص وأكثرهم نفوذًا وخبرة، وهو أبو بكر النقاش البصْري. يروي التنوخي (ت 384هـ) -في ‘نشوار المحاضرة‘- أن رجلا من أهل البصرة سُرق ماله، ونُصح بأن يزور سجن البصرة الذي كان يقبع فيه النقاش زعيم اللصوص؛ ليستفسره عن ماله وكيفية استرجاعه، في مقابل هدية قيمة من الطعام والشراب والحلوى، وقد آتت التجربة ثمرتها؛ إذ دلّ النقاش ذلك الرجل على ماله وأخبره كيف يسترده.

الظلام شبه المطبق والبرد القارس والعزلة وقساوة السجانين عوامل زادت معاناة نزلاء السجون (الجزيرة)

حياة الزنازين
وكان السجناء الجنائيون يحصلون على طعامهم من أهاليهم، وعرفنا كيف كان بعضهم يقضون أيامهم وليالهم بين جدران السجون من سيرة علي ابن الحريري الدمشقي (ت 645هـ) الذي دخل السجن بسبب دَين بدراهم لم يستطع قضاءه، وحُبس في قسم أصحاب المغارم. يقول ابن العماد الحنبلي (ت 1089هـ) -في ‘شذرات الذهب‘- حاكيا قصة الحريري هذا، بما تتضمنه من روح تكافل يمكن أن تسود السجون إن وجدت من يحسن سياسة النفوس في أوقات الشدة ويلهمها الحلول لأزماتها:

“بات [الحريري].. في الحبس بلا عشاء، فلما أصبحَ صلّى بالمحتبسين صلاة الصبح، وجعل يذكر بهم إلى ضحوة، وأمر كُلّ من جاءه شيء من المأكول من أهله أن يشيله (= يخزّنه)، فلما كان وقت الظهر أمرهم أن يمدّوا الأكل سماطا (= مائدة)، فأكل كل مَن في الحبس وفضل شيء كثير، فأمرهم بشيله. وصلّى بهم الظهر وأمرهم أن يناموا ويستريحوا، ثم صلّى بهم العصر وجعل يذكر بهم إلى المغرب، ثم صلّى بهم المغرب وقدّم ما حضر؛ وبقي على هذا الحال. فلما كان في اليوم الثالث أمرهم أن ينظروا في حال المحتبَسين، وكلّ من كان محبوسا على دون المئة يَجبُون له مِن بينهم ويُرضون غريمه ويخُرجونه، فخرج جماعة، وشرع الذين خرجوا يسعَون في خلاص مَن بقي، وأقام ستة أشهر محبوسا، وجبوا له وأخرجوه”.

وقد وقفَ بعض الملوك والأمراء وأهل الخير أوقافًا وصداقات للإنفاق على المساجين، مثل مؤسس الدولة الطولونية بمصر أحمد بن طولون (ت 270هـ) الذي كان “يُجري على المسجونين خمسمئة دينار في كل شهر”؛ كما يذكر ابن خلدون في تاريخه. وحين ولي الظاهر بالله العباسي (ت 623هـ) عرش الخلافة ببغداد سنة 622هـ “أعطى القاضي عشرة آلاف دينار لوفاء ديون من في السجون من الفقراء”؛ كما يخبرنا المؤرخ ابن تغري بردي (ت 874هـ) في ‘مورد اللطافة‘.

وذكر ابن تغري بردي أيضا –في ‘المنهل الصافي‘- أن السلطان المملوكي الظاهر برقوق (ت 801هـ) “كان يذبح دائما في أيام سلطنته في كل يوم من أيام شهر رمضان خمسا وعشرين بقرة، تطبخ ويتصدق بها مع الخبز النقي الأبيض على… أهل السجون، لكل إنسان رطل لحم (= 450 غراما) مطبوخ وثلاثة أرغفة”. ومن هؤلاء المحسنين ناظر الجيش المملوكي في حلب عبد الله بن مشكور الحلبي (ت 778هـ)؛ فقد قال عنه ابن حجر –في ‘الدرر الكامنة‘- إنه “وقفَ [مالا] على المحبوسين من الشّرع (= سجناء الحق الخاص) وكانوا قبلُ في سجن أهل الجرائم”.

غير أن المقريزي (ت 845هـ) يصف –في ‘المواعظ والاعتبار‘- مشهدًا مغايرًا لهذه الأريحية لأوضاع المساجين المزرية وامتهان كرامتهم؛ فيقول: “وأمّا ‘سجون الولاة‘ فلا يوصف ما يحلّ بأهلها من البلاء، واشتهر أمرهم أنهم يخرجون مع الأعوان في الحديد حتى يشحذوا (= يتسوّلوا) وهم يصرخون في الطرقات: الجوع! فما تصدّق به عليهم لا ينالهم منه إلّا ما يدخل بطونهم، وجميع ما يجتمع لهم من صدقات الناس يأخذه السجان وأعوان الوالي، ومن لم يرضهم بالغوا في عقوبته، وهم مع ذلك يُستعمَلون في الحفر وفي [بناء] العمائر ونحو ذلك من الأعمال الشاقة، والأعوان تستحثهم، فإذا انقضى عملهم رُدّوا إلى السجن في حديدهم من غير أن يطعموا شيئا”.

وقد كان السجناء ببعض المناطق مطالَبين بدفع إتاوة يومية أو شهرية ولو حصّلوها بالتسوّل، وهو ما سُمي بـ‘مقرر السجون‘ أو ‘ضمان السجون‘، وهو أن يطلب مسؤول توليته إدارة السجون مقابل مبلغ كبير يدفعه للسلطة، على أن يسترده مضاعفا بضرائب يفرضها هو على السجناء فيجبيها منهم بكل قسوة!! ويقول ابن تغري بردي –في ‘النجوم الزاهرة‘- إن السلطان الناصر محمـد بن قلاوون (ت 741هـ) “أبطل.. ما كان مقرّرا على السجون، وهو [أنه] على كلّ من سُجن -ولو لحظة واحدة- مئة درهم سوى ما يغرّمه. وكان.. لها ضامن يجبي ذلك من سائر السجون”. هذا رغم أن الفقهاء قالوا إن “أجرة الحبّاس (= السجّان)… -كأجرة أعوان القاضي- تكون من بيت المال”؛ كما قرره الحطاب المالكي (ت 954هـ) في ‘مواهب الجليل‘.

شهدت حقب عديدة من التاريخ الإسلامي استيراد تقنيات تعذيب وحشي في السجون من مختلف الحضارات (مواقع التواصل الاجتماعي)

صندوق الأحزان
لم تتوقف معاناة السجناء عند التضييق عليهم في الإطعام والإنفاق، بل وفرض الغرامات عليهم وهم مسجونون وتشغيلهم في الأعمال الشاقة، بل فوق ذلك كانت وبالا عليهم حين تتكدس فيها أعدادهم؛ فقد روى أحمد بن المدبر الكاتب (ت 270هـ) أنه ألقي به في سجن أحمد بن طولون بمصر، وكان سجنا شديد الضيق “وفيه خلق وبعضنا على بعض، فحُبس معنا أعرابي فلم يجد مكاناً يقعد فيه، فقال: يا قوم! لقد خفتُ من كل شيء إلا أني ما خفتُ قط ألا يكون لي موضع في الأرض في الحبس أقعد فيه! ولا خطر ذلك ببال، فاستعيذوا بالله من حالنا”!!

وقد تنوعت أساليب تعذيب المساجين ما بين الضرب والجلد وكسر الأسنان والأطراف والتعليق وغيرها. وعرفت العصور المتأخرة أنواعًا جديدة ومهولة من تعذيب السجناء مثل التسمير؛ إذ كان يتم وضع الشخص المراد تعذيبه على لوح من الخشب أُعدّ على شكل صليب، وكان يُسمى تهكما ‘اللعبة‘، وتُدق فيه أطراف الشخص بالمسامير وغالبا ما كانت تنتهي حياة المسمَّر بالموت!!

وقد أورد ابن منظور –في ‘لسان العرب‘- أسماء بعض آلات التعذيب في السجن، فذكر منها أداة تسمى “المِقْطَرَة: الفْلْقُ؛ وهي خشبة فيها خروق، كل خرق على قدر سعة الساق، يُدخل فيها أرجلُ المحبوسين. [وهو] مشتق من ‘قطار الإبل‘ لأن المحبوسين فيها على قِطار واحد، مضموم بعضهم إلى بعض، أرجلهم في خروقِ خشبةٍ مفلوقة على قدر سعة سوقهم”.

وبسبب هذه الأوضاع البائسة؛ كان السجناءُ في أوقاتٍ كثيرة يضجّون بآلامهم فيثورون على حياتهم التعيسة، ثم تتطور الأمور إلى مقاومة السجّان ومحاولة الهرب طلبا للحرية. وكثيرا ما كانت تفشل تلك المحاولات؛ فابن الجوزي يروي -في ‘المنتظم‘- أنه في سنة 306هـ “شغَب أهل السجن الجديد [ببغداد] وصعدوا السُّور، فركب.. صاحب الشرطة وحاربهم”.

كما كان السجناء يستغلون حالات الانهيار الأمني داخل المدن للفرار والهرب كمثل ما رأيناه في ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 بمصر وغيرها؛ فحين حوصرت القاهرة سنة 791هـ من الأمراء المناوئين للسلطان المملوكي الظاهر برقوق، وأيقن الجميع أنه مهزوم “خاف والي القاهرة حسام الدين بن الكوراني على نفسه.. واختفى وبقي الناس غوغاء، وقطعَ المسجونون قيودهم بـ‘خزانة شمائل‘ وكسروا باب الحبس وخرجوا..، فلم يردُّهم أحد بشغل كلّ واحد بنفسه، وكذلك فعل أهل حبس الدّيلم، وأهل سجن الرّحبة”.

بل استطاعت الجماهير في لحظات غضبها وثورتها أن تهزم السلطات المحلية وتكسر أبواب السجون وتُفرج عن السجناء، كما فعل أهل بغداد سنة 309هـ حين نقموا على الوزير العباسي حامد بن العباس الخراساني (ت 311هـ) “بسبب غلاء الأسعار..، وحاربهم السلطان عند باب الطاق… بعد أن فتحت العامة السجون”.

ولئن بقي الناس بمختلف طبقاتهم يعانون ذل السجن وضيقه وأيامه ولياليه الطويلة؛ فإن لحظات الإفراج كانت أسمى أمانيهم؛ وقد تنوعت أسباب الإفراج عن المساجين تبعا للظروف السياسية والاقتصادية والدينية، فمنهم من كان يُفرج عنه مكرمة من رأس السلطة وكبار موظفيها لا سيما بمناسبة اعتلاء مناصبهم. فالذهبي يقول -في ‘تاريخ الإسلام‘- إن الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك (ت 99هـ) افتتح خلافته بـ”بخير وختم بخير؛ لأنه ردّ المظالم إلى أهلها…، وأخرج المسجونين الذين كانوا بالبصرة”.

كما كان هؤلاء الأمراء يرون في الإفراج عن المساجين قربة إلى الله يُبغى من ورائها الثواب والتنفيس عن مصائبهم في لحظات كربهم بمرض ونحوه؛ فقد “مَرض الملك المعظّم (الأيوبي المتوفى 624هـ) فتصدّق وأخرج المسجونين” بدمشق؛ كما يذكر الذهبي. وحين تعافى أقرب مماليك السلطان الناصر قلاوون وهو الأمير يَلْبُغَا اليحياوي (ت 748هـ) من مرض “عمل السلطان لعافيته سماطا (= وليمة) عظيما هائلا بالميدان…، وأخرج من الخزائن السلطانية نحو ثلاثين ألف درهم أفرج بها عن المسجونين على دَيْن”.

كتاب 

رؤية تشريعية
وبسبب اتساع هذه الظاهرة ورسوخها مؤسسيا ومجتمعيا؛ رأينا تنوعًا في الكتب التي خصَّصت بعض جوانبها لموضوع السجن، كما في ‘الخراج‘ لقاضي القضاة أبي يوسف، وبعض كتب الأدب العامة. وقد يكون كتاب ‘أُنس المسجون وراحة المحزون‘ لصفي الدين الحلبي (ت بعد 625هـ) أول كتاب يُفرد عنوانه وموضوعه للسجن، بسبب المحن التي تعرض لها أقرب الناس إليه بالسجن وهو سيده و”مخدومه”؛ كما يصفه.

وقدم الفقهاء وعلماء الشريعة عموما رؤية تشريعية -بالغة الإتقان والروعة- للسجون وأحوالها وأنواع مسجونيها وحقوقهم العقوبات الواقعة عليهم؛ وتجلى ذلك في أبواب القضاء والمعاملات والحدود، وفي مصنفات “النوازل” التي كانت تقدم الأحكام الشرعية لما يطرأ في المجتمع من قضايا جديدة في كل عصر ومصر، وقد يكون السجن علاجا اضطراريا لبعضها.

فقد استدل العلماء على مشروعية السجن من القرآن ومن فعل النبي ﷺ والخلفاء الراشدين؛ وذكر جمهرة الفقهاء أن مقصد السجن هو التوبة والزجر، وتحقيق التعزير والردع والتأديب، وذكروا مواضع محددة -معظمها يدخل في إطار “الحق الخاص” للأفراد- هي التي يُشرع الحبس فيها، وإن ظلت هذه المواضع تتوسع بتزايد الجرائم وتنوعها عبر القرون. وأكد الإمام القرافي المالكي (ت 684هـ) -في كتابه ‘الفروق‘- أن القاعدة العامة هي أنه “لا يجوز الحبس [للإنسان] في الحقّ إذا تملّك (= تمكّن) الحاكمُ من استيفائه…، لأن في حبسه استمرار ظُلمه”.

ونظرًا لارتفاع أعداد المساجين وكثرة السجون منذ أواخر عصر الأمويين وبدايات عصر العباسيين؛ فقد طلب الخليفة هارون الرشيد (ت 193هـ) من قاضي قضاة زمنه أبي يوسف أن يُحدّد الأُسس التي ينبغي أن تقوم عليها معاملة المسجونين، فأعدّ له دستورًا محكمًا سبق به دُعاة الإحسان إلى السجناء في العصر الحديث بألف سنة، كما هو موضّح في كتابه ‘الخراج‘.

وكان مما جاء في هذا الكتاب مما يتعلق بالإنفاق على المسجونين -لا سيما فقراءهم- قوله: “أحبّ إليّ أن يجري من بيت المال على كلّ واحدٍ منهم ما يقوته؛ فإنه لا يحلّ ولا يسعُ إلا ذلك…، والأسير من أسرى المشركين لابدّ أن يُطعم ويُحسن إليه حتى يُحكم فيه، فكيف برجل مسلم قد أخطأ أو أذنب يموت جوعًا؟!”.

بل إن أبا يوسف بيّنَ الطريقة المثلى للإنفاق على المساجين؛ وذلك بإيصال الأموال إليهم بصورة مباشرة خوفا من أن تقع في أيدي السجانين فلا تصلُ إليهم فتزداد معاناتهم. قال مخاطبا الخليفة الرشيد: “مُـرْ بالتقدير لهم ما يقوتُهم في طعامهم وأدمهم وصيّر ذلك دراهم تجري عليهم في كل شهر بدفع ذلك إليهم، فإنك إن أجريت عليها الخُبز ذهبَ به ولاة السجن.. والجلاوزة (= حراس السجون)، وولِّ ذلك رجلاً من أهل الخير والصلاح يُثبتُ أسماء مَن في السجن ممّن تجري عليهم الصدقة، وتكون الأسماء عنده ويدفع ذلك إليهم شهرًا بشهر”.

أما زميله الإمام محمـد بن الحسن الشيباني (ت 189هـ) فقد ذكر أنه “لا ينبغي أن يُمنع المسجون من دخول أهله وإخوانه عليه”. كما حرّم الفقهاء التعدي جسديا ونفسيا على السجناء، وتعذيبهم بالضرب أو بمنع الطعام والشراب؛ فإن حصل ذلك ومات السجين بسببه عدّوا ذلك قتل عمد يوجب القصاص من مرتكبه. ونستفيد من الحافظ ابن حجر أنه كان ثمة تفتيش قضائي دوري للسجون؛ فقد قال -في ‘رفع الإصر‘- إن القاضي القيسراني الشافعي (ت 531هـ) “فُوض إليه النظر في المظالم، فاستوضح أحوال المسجونين وأطلق منهم جمعا كثيرا كانوا أيسوا من الخلاص لطول العهد بتركهم في السجن، فطالع بأمرهم الخليفة [الفاطمي]، وسأل في الإفراج عنهم فأذن له في ذلك”.

وقد رأينا المؤرخ المقريزي (ت 845هـ) –وهو فقيه أيضا- ينعى تدهور أحوال السجون في عصره؛ رافضًا ما يقع فيها من مظالم قائلا: “وأمّا الحبس الذي هو [حاصل] الآن فإنه لا يجوز عند أحد من المسلمين، وذلك أنه يجمع الجمْعَ الكثير في مَوضِع يضيقُ عنهم، غير متمكّنين من الوضوء والصلاة، وقد يَرى بعضُهم عورةَ بعض، ويؤذيهم الحرّ في الصيف والبرد في الشتاء، وربما يُحبس أحدهم السَّنة وأكثر ولا جِدَة (= قدرة مالية) له، وأنّ أصل حبسه على ضمان” مسؤول السجن بغرامة ظالمة.

تلك كانت جولة في التاريخ والتشريع، رأينا فيها -من زوايا متنوعّة- قصة السجون والسجناء في تاريخنا، بعضها التزم بما أقرته الشريعة في معاملة السجناء ورعايتهم، وبعضها تعدى الحدود والأعراف والأخلاق، وألقى بالأبرياء من أبناء الأمة علماء وأعيانا في زنازين ضيقة، قضى بعضهم أجله فيها فعلم لمكانته، وبعضهم ظل ذكره طي النسيان؛ وتلك قصة مليئة بمشاهد الآلام والكُربات لا نزال نراها في عصرنا هذا رغم كل ما يقال عن المدنية والحقوق الإنسانية! المصدر : الجزيرة

مراسلون بلا حدود”: 488 صحافيا معتقلا في العالم حاليا ومقتل 46 عام 2021

أعلنت منظمة “مراسلون بلا حدود” عن وجود 488 عاملا في مجال الإعلام مسجونين في العالم حاليا، مشيرة إلى مقتل 46 صحافيا عام 2021 في أدنى حصيلة منذ عشرين عاما.

وقالت المنظمة إنه “لم يكن يوما عدد الصحافيين المسجونين مرتفعا إلى هذه الدرجة منذ إنشاء التقرير السنوي لمنظمة مراسلون بلا حدود عام 1995”.

وأشارت المنظمة إلى أن هذه الزيادة الاستثنائية بنسبة 20 بالمائة في عام واحد ناجمة “بشكل أساسي عن ثلاث دول” هي بورما وبيلاروس والصين التي تسبب قانونها للأمن القومي الذي فرضته في هونغ كونغ عام 2020 بارتفاع حاد في عدد الصحافيين المعتقلين في هذه المدينة.

وفيما يمثل الرجال معظم عدد الصحافيين المسجونين في العالم (87,7%)، إلا أن بيلاروس هي الدولة التي احتجزت عدد صحافيات (17) أكبر من عدد الصحافيين الذكور (15).

وأضافت إلى عدد الصحافيين والعاملين في مجال الإعلام الذين قتلوا عام 2021، بلغ حده الأدنى منذ عشرين عاما مع 46 قتيلا.

وأكدت المنظمة أن “هذا الاتجاه التنازلي الذي تكثف منذ 2016، يفسر خصوصا بتطور النزاعات الإقليمية (سوريا والعراق واليمن) واستقرار الجبهات بعد عامَي 2012 و2016، خصوصا تلك المميتة”.

ولا تزال المكسيك وأفغانستان هذا العام البلدين الأخطر للصحافيين وقد قتل فيهما على التوالي 7 و6 صحافيين، يليهما اليمن والهند في المرتبة الثالثة مع مقتل أربعة صحافيين في كل منهما.

وأحصت مراسلون بلا حدود أيضا أخذ ما لا يقل عن 65 صحافيا ومتعاونا مع وسائل إعلام، رهائن في العالم أي أكثر باثنين مقارنة بالعام الماضي.(أ ف ب)

زنزانة بلا جدران لطفي حداد

زنزانة بلا جدران .. لطفي حداد

هذا الكتاب هو ثمرة علاقات طيبة وجميلة مع بعض الأدباء الذين تعرضوا للسجن، لكن الزنزانة، رغم برودتها وظلامها ووحشتها، لم تستطع أن تحبس شوقهم إلى الحياة، أو توقهم إلى النور، أو رغبتهم في الحب، وإصرارهم على الفرح ورؤيا الخلاص. وهكذا صارت قصائد “فرج بيرقدار” التي هربها من السجن على لفائف السجائر “حمامة مطلقة الجناحين”، وتحولت كلمات “علي الدميني” إلى “نعم في الزنزانة لحن”، وتغير مدار السجن عند “منصور راجح” إلى “مدار الحب”. إن ما يجمع هؤلاء الشعراء الثلاثة هو السجن، والكتابة فيه وعنه، كم مؤلم أن تضيع سنوات من عمرهم داخل زنزانة ربطة خانقة معزولة، لأنهم قالوا آراءهم، فصاروا سجناء رأي. لم يدعوا إلى العنف، لكن العنف لم يرحم إنسانيتهم وإيمانهم بالحق والحرية. قرأت أعمال هؤلاء الشعراء وشعرت أنني مطالب بأن أوصل رسالتهم إلى الجميع، فوضعت مقدمة عن كل منهم، مع نماذج شعرية ونثرية. أفردت للشعراء: منصور راجح، علي الدميني، وفرج بيرقدار، قسماً كبيراً من الكتاب كي يقرأ ضمير ما فعله بأبنائه، وكي يكون نتائجهم الأدبي شهادة على الظلم وانتهاك حقوق الإنسان في البلاد العربية، ساعياً لتعرية الجرح النازف كي لا يعود الزمن الأسود إلينا. ازداد اهتمامي بهذا الموضوع مع الزمن فرحت أقرأ عن الأدباء العرب الذين تعرضوا للاضطهاد عبر التاريخ. اكتشفت الكثير من الشعراء والروائيين الذين سجنوا وعذبوا وقتلوا وصلبوا مسجلين خبراتهم وكلماتهم في أدب رفيع مجيد صادق يستحق أن نقرأه بإعجاب وتقدير كبيرين. بدأت من الجاهلية حتى اليوم فقرأت في العصور القديمة عن سجن الحطيئة، على بن الجهم، أبي فراس الحمداني، المعتمد بن عباد، ابن زيدون. كذلك سجن الحلاج ومقتله. أما في العصر الحديث فقد أدرجت نفي البارودي، وأدب المقاومة الفلسطينية ممثلاً بغسان كنفاني، توفيق زياد، سميح القاسم، ومحمود درويش، كذلك وضعت بعض النماذج الأدبية لبدر السياب، محمد الماغوط، عبد اللطيف اللعبي، مظفر النواب، ونوال السعداوي، بعدها ذكرت نبذات عن أدباء آخرين تعرضوا للأذى والسجن. كذلك توسع المشروع حين تعرفت على الروائي العراقي المقيم في شيكاغو “محمود سعيد”، فطلبت منه أن يكتب عما عاش شخصياً ليختصر بذلك ألم الأدباء العراقيين -رغم أن أي اختصار لذلك الألم الصارخ مجحف بحقهم- فقدم لي قصة عن مخطوطة روايته “أنا الذي رأى”، وكنت قد قرأتها بالعربية والإنكليزية، فأضاءت تلك القصة -التي عانى بشكل مشابه بها كل الكتاب الصادقين في البلاد العربية- معنى أن تكتب عن السجن والحرية في الوطن/السجن،

رسالة من اسير 

رسالة من اسير 

نادية عصام حرحش

نسير في معظم الوقت في حياة نظن أننا من نسيّر خطاها، ناسين بأننا لسنا إلا جزءا من منظومة وضعت بإحكام لسنا إلا مسيّرين فيها، بلا خيارات أو اختيارات.

نمشي وكأن العالم من حولنا هو ما ندركه كل يوم من أولاد وأصدقاء وزملاء. مكان عمل، منزل، ساحة، شارع مزدحم، حديقة.. فلان أنجب، فلان ترقى، فلان مرض فلان اعتقل، فلان سافر فلان مات.

وفلان هنا وهناك ينادي من اجل تغيير يريد لنفسه مقعدا عليه باسم الاسرى تارة والشهداء تارة والوطن تارة. نردد شعارات رنانة، نطلق وعوداً، وننثر وعيداً، ونمضي الى حياتنا.

ثم نجد أنفسنا فجأة وبدون سابق إنذار مقحمين في عوالم لم نكن حتى نعي وجودها. نرقبها، نترقبها، نراقبها عن بعد محتفظين بمسافات بيننا وبينها. أحيانا نعطي دروسا ومحاضرات بها عن بعد.

لنصبح فجأة بداخلها قسرا بطواعية خاشعة متواضعة. تأتي بنا كالصاعقة. لا نعرف متى دخلنا وكيف. والى اين نذهب. ومن تلك اللحظة كيف سنكون.

هذا ما فعلته تلك الرسالة بي عندما وصلتني قبل عدة سنوات. فتحتها بتهكّم، غير معنية كثيرا حتى بالنظر اليها. فعادة تكون الرسائل المحلية من الحكومة ولا تبشر بخير. استغربت كتابة اسمي على العنوان بالعربية. فالرسالة مكتوب عليها بانها ارسلت من إسرائيل.

استغربت عندما وجدت انها كتبت بخط اليد. للحظات ظننتها مرسلة بالخطأ حتى رأيت أسمي يتردد بين سطورها. لأنظر إلى التوقيع بأسفل الرسالة و أجد أنه من أسير. عندها استطعت تفكيك الكلمة التي لم أفهمها على الظرف عند العنوان، كانت كلمة سجن تلك التي لم أعرف قراءتها.

لحظات تحولت لساعات استمرت لأيام وأنا أفكر في تلك الرسالة. من هو ذلك الأسير؟ لم بعث لي أنا؟  كيف عرفني؟ من أين؟

ولكن لم تكن تلك الأسئلة التي استثارت مشاعري. ربما أردت للفضول أن يكون هذا سبب انفعالي. إلا انني أحسست وكأن عالما كاملا عرفت عنه طوال حياتي اقتحم وجودي وفرض نفسه علي. خلال السنوات قمت بشخصنة موضوع الأسرى، اجلالا واحتراما وتقديرا لما يقدمه اولئك في سبيل حلم وطن. إلا انني وبوعي كامل رفضت الاقتراب. لأن موضوع الأسرى يبكيني على حالنا الفلسطيني كموضوع اللاجئين والشهداء. فهؤلاء هم ضحايا القضية الفلسطينية قبل ان يصيروا أبطالها. حرمانهم ومعاناتهم وخساراتهم اعتلت على قممها القيادات واغتنى اصحابها واغتنموا منها … بينما استمرت وتستمر معاناة أولئك.

فشرف اللجوء والشهادة والأسر، هو شرف يستحقه فقط صاحبه … ولسنا مستحقين …كلنا أو أي منا، حتى لو كان هذا والداً أو أخاً أو زوجاً او قريباً جزءا من بطولته.

فالكلام في حقهم لا يزيدنا إلا وهنا وضعفا وبؤسا مهما حاولنا تزيينه ببلاغة أو ثناء.

إلا أن تلك الرسالة دقت على مكان ما بداخلي. ذلك الواجب البسيط الأضعف اليّ على ما يبدو حتى في وهنه مهم بطريقة ما لأولئك المظلومين القابعين في ظلم يلحقه ظلم …

أكتب كلامي هذا، أشعر بنفسي متناثرة في أرجاء زنزانة لا أقدر حتى على تخيل أبعاد محتوياتها. وسادة صلبة قذرة، غطاء لا يدفئ قرص برودة ولا يبرد حرقة صيف. رطوبة تمر مع كل نفس  تعيش داخل العظام، تتربع في أرجاء الحيطان. حائط كتبت وتكتب عليه الآمال والأحلام وتعد عليه الأيام والأشهر والسنوات. صور لأحبة حقيقيين ووهميين. عالم وعوالم تبنى وتحاك وتهدم في عبق الأيام والسنوات.

أحاول الاستفسار عنه أكثر، من هو، ما هو حكمه، متى سجن، هل سيخرج. تفاصيل لا تعني الكثير وسط الاف من الأسرى القابعين في سجون الاحتلال فداء لوطن قابع فينا كتلك الزنزانة. وطن نحلم بفك قضبانه وكسر قيوده. نحلم بالتحرر اليه الا اننا مأسورين فيه.

شاب لابد، كغيره من الآلاف الذين أمضوا شبابهم لسنوات وعقود، شابوا وهرموا منتظرين يوم يروا فيه حرية دخلوا يحلمون بها ويتمنوا لو يخرجوا ليحيوها.

محكوم لمؤبد او اثنين أو ثلاثة لا يهم. فسنوات السجن وأيامه سواسية. كأيام هذا الوطن الأسير وسنواته.

من الأسير الحقيقي؟ أنا من أنسج بكلامي عالم أحلم به بوطن يبكيني حاله وأحواله؟ أم هو، من ينسج بخياله وطناً وأناساً يستطيع أن يبنيهم ويهدمهم بمزاجه وبخياله في كل يوم وفي أية لحظة.

هو من يملك الوقت كله بينما أتزاحم انا على ايجاد وقت في عالم لا قيمة له.

في مثل هذه الايام طالت ايدي الغدر ابطالا كانوا لهذه القضية مثالا، وعلى نهجهم سار اولئك في سجون الاحتلال … عبد القادر الحسيني (٨ نيسان ١٩٤٨) وابو جهاد- خليل الوزير (١٦-٤-١٩٨٨). في مثل هذه الايام ومع بداية نكبتنا كانت مجزرة دير ياسين وفي مثل هذه الايام تم اعتقال مروان البرغوتي قبل ١٩ عاماً (١٦ نيسان ٢٠٢٠).

الاسرى في سجون الاحتلال يعانون ما لا ندركه من معاناة. يقضون ما تبقى من حلم لحياة في غياهب الزنازين والمعتقلات ويعانون كافة اشكال التعذيب والاذلال والاهانة. ما ندركه يوميا من عذاب نفسي وجسدي ولا نطيقه، كيف يكون حالهم وايديهم مغلولة بسلاسل السجان القامعة.

في كل لحظة نعاني فيها ونحن نمر عن حاجز…

في كل لحظة نشعر فيها بالتهديد من خطر رصاصة طائشة من جندي حاقد…

في كل لحظة يمر امامنا الجدار الفاصل العازل ولا نستطيع الوصول الى الجانب الاخر الذي كان للتو قريباً …

في كل لحظة نسكت فيها خوفا من ان يسمعنا أحد ويشي بنا.

في كل لحظة نخشى فيها العودة الى منزل ونجده مهدوما، او نفتح صندوق البريد ونجد اخطارا يهدد تواجدنا …

في كل لحظة نمشي بها “الحيط، الحيط” ونقول “يا رب الستر” فلنتفكر للحظة كم تكون حقيقة حياة كلها لحظات كهذه في زنزانة يتحكم بها احتلال هدفه منذ ان جاء الى وجودك ان يصفيك من الوجود بكل الطرق المتاحة وغير المتاحة…

لأسرانا المجد والكرامة …

في يوم الأسير تحية اجلال واحترام لكل اسرانا القابعين في غياهب الزنازين منتظرين شعاع ضوء يحيي فيهم امل الحرية.

كاتبة فلسطينية

رواية يا صاحبي السجن أيمن العتوم

رواية يا صاحبي السجن هي رواية للكاتب أيمن العتوم. وهو واحد من أشهر الشعراء والكتاب الروائيين الأردنيين، وواحد من أشهر الكتاب الشباب في القرن الواحد والعشرين. وللعتوم دواوين شعرية كثيرة، وكذلك له العديد من الروايات. وقد آثر العتوم في رواياته أن يتحدث عن أدب السجون. وفي هذا المقال سنقدم نبذة عن رواية يا صاحبي السجن ونستعرض جزءًا من حياة الكاتب أيمن العتوم.

ثورة العدس -عبد الله بن محمد

وبعد؛ فإن المسيرة الجهادية لكل مجاهد لا بد أن تمر بمراحل كثيرة ومن أهم تلك المراح التي غالبا لا ينجوا منها مجاهد في هذا الزمان: الأسر، وما أدراكم ما الأسر، ذلكم ملتقى الأحبة، ومعدن النفوس، ومدرسة يوسف عليه السلام، وخلوة الصالحين، وأُنس الموحدين، وموطن المجاهدين، والذين هم بالحق صادعين..

ومن أهم فوائده أن النفس فيه تكثر معرفتها بالواقع فتصحح أخطاءها، وتعالج ثغراتها، وتعرف خطاها من صوابها، وتزاد بصيرة بمنهج ربها، ودين وشرعة نبيها عليه السلام، والعاقل كل العقل والمبصر كل البصيرة هو من يكون له في مرحلة سجنه ما يعرف بـ: “صيد الخاطر” أو”كناشة الفوائد” أو “فرائد الفوائد” أو”الفوائد” أو”قيد الفكرة”.. الخ ذلك..

وقد كان من أبرز الإخوة الفضلاء والكُتَّاب الكبار الذين صادوا خواطرهم في سجنهم، وحرروا قيدهم في معتقلهم، وأطلقوا العنان لفكرهم حال أسرهم؛ الأخ المفضال والكاتب الكبير: عبد الله بن محمد، صاحب النظريات العسكرية والتحريضات الجهادية المبرزة، فلله دره وعلى الله أجره..

وقد كان الأخ “عبد الله بن محمد” جزاه الله خيرا ممن قد كتبوا أفكارهم وقيدوا خواطرهم في سجنهم، فتمثل قول الشاعر:
الْــعِـــلْــمُ صَـيْـدٌ وَالَـكِـتَــابَةُ قَيْدُهُ *** قَيِّدْ صَيْدَكِ بِالْحِبَالِ الْوَاثِقَةِ
فَمِنَ الْحَمَاقَةِ أَنْ تَصِيْدَ غَزَالَـةً *** وَتَـتْـرُكْـهَا بَيْنَ الْخَلَائِقِ طَالِقَةً

فكتب قبل قرابة السنتين النوادر من الفوائد والشوارد من الخواطر، في سلسلة من مقالات نافعة جامعة، عنونها بـ: “ثورة العدس!” وجاءت في ست حلقات، ولما خفت اندثارها من الشبكة العكبوتية (وهي الآن لا توجد إلا في موقع واحد فحسب!) وذكرني بها أحد الأحبة (وهو الأخ المفضال: أسامة حكيم) أحببت تنسيقها من جديد في ملف واحد ونشره إليكم..

وقد اقتصر عملي في هذا الموضوع باختصار على التالي:
1- تصحيح جميع هذه السلسلة من أي خطأ إملائي -كما أحسب- حيث تم مراجعة هذه المقالات حرفا حرفا بحمد الله، وإصلاح الأخطاء في علامات الترقيم وهي كثيرة كثيرة كما أشار إلى ذلك الكاتب نفسه حيث قال في مقدمة ثورته المباركة: (وأعتذر منذ البداية عن الأخطاء اللغوية والنحوية التي لو عرضت على “سيبويه” لمات من الحسرة على ما آلت إليه اللغة العربية ولكن كما قيل في المثل البدوي: “الجود من الموجود”..)
2- قمت بعمل فهرسين لهذه السلسلة المباركة، أحدهما في الصفحة الأوى وضمت العانوين الرئيسية فحسب، أما الفِهرس الآخر فهو الذي في آخرها وضم جميع عناوينها وفوائدها، فكان فيه جميع العناوين الفرعية التي ضمنها المؤلف صيوده المباركة..
3- تصحيح جميع الآيات القرآنية الواردة في المقالات وضبطها ضبطا كاملا بالشكل من خلال البرامج المختصة بذلك، وفي هذا إجلال للقرآن واجب علينا فعله..
4- تحويل الكتاب بعد تنسيقه إلى صيغة PDF حتى يكون أسهل في الطباعة والقراءة لمن أحب ذلك، وسيتم نشره كذلك بصيغة الورد

وأما ما هو موضوع هذه الفوائد والخواطر؟ فلن تجد توصيفا لها خيرا من توصيف صاحبها وكاتبها؛ حيث قال في مقدمتها كلاما أحببت أن أسوق أهمه لا كله ليتضح المقصود من ثورته، قال:
(وأما “الأسر” فهو بيت القصيد في موضوعنا هذا لأنه يشكل مرحلة لها أبعاد خطيرة على الجيل الحالي من المجاهدين فالأخوة على نقيضين عند خروجهم من الأسر إما أن يشتد عوده وينضج فكره ويزيد ثباته أو الأخرى “مواطن صالح حسب المعايير الدولية”
من هنا جاءت فكرة كتابة أو توثيق معاني متعددة على شكل خواطر تدور حول “الحياة في الأسر” بكل ما تحمله من حلاوة ومرارة وقد اعتمدت على طريقة ابن الجوزي في كتابه الجميل “صيد الخاطر” فمكثت مده لا يخطر ببالي شيء حول الموضوع إلا قيدته، وعن هذه الطريقة يقول صاحب مقدمة كتاب صيد الخاطر “شأن الخواطر ألا ترتبط بموضوع معين ولا بترتيب معين وأن تأتي متفرقة حسبما يتسق في الخاطر… ومن أهم دلالات الخواطر أنها تعطي صوره صادقه وصحيحة للعصر والزمان والأحداث التي عاشها المصنف” إذا سأمضي على بركة الله ضاحكا وباكيا وساخرا في آن واحد بلا قيود سوى القيود التي في يدي!!!)

وأما لماذا سمى الكاتب الموفق -بإذن الله- هذه المقالات والأفكار ب: “ثورة العدس” فقد أشار إلى ذلك في آخر رسالته حيث قال حفظه الله وثبته: (سُئِل عبدالله بن المبارك عن حديث “عليكم بالعدس فإنه مبارك يرقق القلب ويغزر الدمعة وقد قدس على لسان سبعين نبيا” فقال: ولا لسان نبي واحد وإنه مؤذ منفخ، قرين البصل في القرآن!
إذا لماذا كل هذه الضجة حول “العدس”؟
السجن هو المطبخ المركزي لإعداد الأفراد المكونين للقوات المسلحة التي ستكون مهمتها الأولى إعادة الخلافة الإسلامية إلى الوجود بإذن الله تعالى، والتي قد تكون بقيادة “محمد بن عبدالله المهدي”
أما “العدس” فلأنه ببساطة الأكلة الرئيسية والمتعارف عليها في أكثر السجون تقريبا، فنحن نأكل العدس ونخطط للثورة! إذا فهي ثورة العدس!!.) ا.ه.

والحقيقة التي خلصت إليها اما حاولت اقتناص أهم الفوائد أن هذا صعب للغاية أن كا مافيها مهم وأهم من المهم، فمحتويات هذه الثورة تستحق القراءة كلها من الألف إلى الياء

انقذوا حياةالأسيرةابتسام الحوزي محكومة بالمؤبد بالسجون العراق

شبكة واإسلاماه الإخبارية

  توصلنا ببيان حقوقي عن حالة انسانية لاحدى المعتقلات المسلمات في سجون العراق  هذا نصه

انقذوا حياة المواطنة المغربية ابتسام الحوزي المعتقلة بالعراقتوصلت الرابطة العالمية للحقوق والحريات بالمغرب من عائلة المعتقلة المغربية بسجن الرصافة ببغداد في العراق السيدة ابتسام الحوزي المزدادة في يناير من سنة 1996، بمعطيات مقلقة عن حالتها الصحية التي تدهورت جراء الإهمال الطبي واللامبالاة، بعد محنة استمرت لأزيد من أربعة أشهر عانت خلالها من صداع شديد في الرأس وإلتهاب خطير على مستوى الأذن والفم. وقد ساءت حالتها الصحية حاليا لدرجة عجزت معها عن الأكل والشرب و حتى عن الكلام مع ما رافق ذلك من انتفاخ في الوجه والفم.وجدير بالذكر أن المعتقلة ابتسام الحوزي تعاني من مرض فقر الدم الحاد إضافة إلى بنيتها الجسمانية الضعيفة بسبب نقص التغذية.و قد أفادت عائلة المعتقلة أن إدارة سجن الرصافة ببغداد لم تتحرك وفق ما تمليه عليها خطورة الحالة، حيث اكتفى طبيب السجن المذكور باعطاء ابتسام دواء مسكنا فقط في غياب أي تشخيص أو فحص أو تدخل لعلاج الحالة وتتبعها.وللتذكير فإن المعتقلة ابتسام الحوزي حكم عليها بالسجن المؤبد في ظروف غابت خلالها شروط المحاكمة العادلة.أمام هذه الحالة الإنسانية تحتج الرابطة العالمية للحقوق والحريات بالمغرب على الإهمال الطبي الذي تعاني منه السيدة ابتسام ، والذي أصبح يهدد سلامتها البدنية و حتى حقها في الحياة.وتطالب الجهات ذات الاختصاص بالمغرب التدخل العاجل من أجل إنقاذ حياتها والإسراع في معالجتها ضمانا لحقها في التطبيب الذي تكفله المواثيق الدولية ذات الصلة، كما تحمّلها مسؤولية ما قد تؤول إليه وضعية ابتسام في حالة استمرار سياسة الإهمال واللامبالاة.وفي الأخير تلتمس الرابطة العالمية للحقوق والحريات بالمغرب من الجهات المسؤولة بالمغرب العمل على ترحيل ابتسام الحوزي إلى المغرب لقضاء عقوبتها، كما تهيب بالجمعيات الحقوقية الوطنية والدولية الوقوف لفائدة ابتسام الحوزي حتى نيل حقوقها وترحيلها إلى المغرب.د. محمد حقيقيالمدير التنفيذي للرابطة العالمية للحقوق والحريات و ممثلها بالمغرب

كوكب المسرات: سيرة ذاتية من يوميات سجين – محمد سعدون السباهي

كوكب المسرات: سيرة ذاتية من يوميات سجين – محمد سعدون السباهي

كوكب المسرات: سيرة ذاتية من يوميات سجين
تأليف: محمد سعدون السباهي
الناشر: دار آراس – أربيل
الطبعة: الأولى 2011
230 صفحة

كتاب (كوكب المسرات) للاديب العراقي محمد سعدون السباهي، وهو سيرة ذاتية من يوميات سجين، كتبها السارد/المؤلف اثناء مدة قضاء محكوميته عن حادثة سير في سجن ببغداد.
وتضمن النص 17 فصلاً بـ 226 صفحة من القطع المتوسط، يسرد فيه المؤلف وقائع محاكمته ونقله من التسفيرات الى سجن (ابو غريب) في بغداد، وانطباعاته وهو يودع في غرفة صغيرة قذرة، ويتأسف على فراق اهله وأحبته، وحرمانه من المشاركة في فعاليات مهرجان المربد الثقافي للالتقاء بالاصدقاء من الادباء.
ويسرد المؤلف تفاصيل قاعات السجن والاشخاص المودعين فيه، وهم يقضون اياماً ثقيلة بطيئة، قاطعين الامل في الغد، وليس لهم سوى الحاضر، وهم يتوقون لأبسط مستلزمات الحياة، والكل داخل السجن يؤمن انه ضحية قوانين جائرة، مشروعها من دون قلب وضمير، ومنفذوها بعض القضاة الجبناء والمرتشي.
ويصف حال المسجونين بالبطالة المطلقة التي لا تساويها غير بطالة الموتى، وللحيلولة دون تحجر عقله، يكشف عن انه توجه الى مكتبة السجن ليجد عشرات من الكتب البائسة الرديئة، معظمها روايات وقصص وأشعار(حرب القادسية)، فيما كان السجناء يتبادلون بينهم قراءة الكتب المهربة خلسة بالاتفاق مع بعض الحراس.
ويرى المؤلف ان مجتمع السجون يتصف بعدم التماسك وغياب اليقين، يلفه الكثير من الغموض واللامبالاة والنرجسية، اذ ينشط الى مديات قصوى مفهوم(الصراع من اجل البقاء) فالتشبث بالحياة والامل بالعودة الى الاهل والاصدقاء وممارسة النشاطات الانسانية المتنوعة يتساوى بين المحكوم شهوراً معدودة او المحكوم بأكثر من اعدام واحد

“كان وأخواتها”.. رواية مهربة من داخل السجون المغربية

حسن العدم

“كان وأخواتها” رواية مغربية كتب فصولها عبد القادر الشاوي، وتأتي أهميتها من كونها كتبت في السجن، وحكت عن معاناة اليساريين الماركسيين في المغرب في فترة السبعينيات.

وقد أفردت لها قناة الجزيرة حلقة من برنامج “خارج النص”، واستضافت فيها الكاتب نفسه، إضافة إلى ثلة من (الرفاق) الذين شاركوا الشاوي في زنزانته، وشهدوا لحظات تهريب الرواية خارج السجن، إلى أن وصلت إلى آلاف القراء حول العالم.

ثورة الماركسية المغربية.. استعجال القطاف

ارتبط اسم القنيطرة بفترة حرجة من تاريخ المغرب المعاصر، فقد انطلقت من قاعدتها العسكرية عملية الهجوم التي استهدفت الطائرة الملكية في أغسطس 1972، في ثاني محاولة انقلابية تلت محاولة الصخيرات الفاشلة قبل ذلك بعام.

وخلف أسوار السجن بالمدينة جُمع المعارضون المدنيون من مختلف الأطياف السياسية على خلفية المحاولتين الانقلابيتين، وكانت على رأسهم منظمة “23 مارس” اليسارية المحظورة.

الكاتب عبد القادر الشاوي واحد من أُطُر هذه المنظمة، وقد عاش تفاصيل تلك المرحلة ووثَّق لها من خلال نصّ يقول عنه: هو متن محبوك يحكي تجربة فريدة ارتبطت في تاريخ المغرب الحديث بحركة سياسية ناشئة، أرادت أن تكون من الحلم إلى الحلم جذرية وحاسمة في كل شيء، ولكنها أجهضت بسبب القمع الشرس والنواقص الجذرية، قبل الأوان الثوري المحلوم به.

وعن هذه المرحلة يحكي عبد الله الحرّيف -وهو معتقل سياسي سابق- قائلا: هذه المرحلة شهدت تناقضات كبيرة داخل النظام، خلقت أجواء بأنه يمكن تغيير النظام بسرعة، حتى أنه كان يقال إن الثورة على الأبواب، وربما يكون هذا تقييما غير دقيق من قبل المعارضة، فالثورة تحتاج إلى جهد وتخطيط طويل.

ويضيف أحمد آيت بناصر، وهو أيضا معتقل سياسي سابق: في نهاية السبعينيات انطلق نقاش واسع وسط المعتقلين السياسيين بالسجن المركزي في القنيطرة، وهذا النقاش اتخذ أبعادا ليست متعلقة بالاعتقال السياسي أو بالتجربة الماركسية المغربية فقط، بل اتخذ أبعادا نقدية على الصعيد القومي والعالمي.

أدب السجون.. صناعة فنية تلتحف بالواقعية

في هذه البيئة الجيوسياسية جاءت رواية “كان وأخواتها” كأول عمل أدبي تناول تجربة اليسار المغربي بالنقد والتجريح من داخل صفوفه، وهي أيضا رواية تحكي تفاصيل محاكمة مؤلفها عبد القادر الشاوي، إلى جانب قيادات منظمة “إلى الأمام” الماركسية التي تأثرت في أدبياتها السياسية والأيديولوجية بأفكار ونظريات فلسفية رافضة لكل ما هو مؤسساتي ورسمي.

يقول في الرواية: بدا لي عندما قررت الكتابة أنني ربما أكون واحدا من الشهود المفترضين، على غرار ما شهد به -مع الفارق- كتاب “الأقدام العارية” على التجربة الناصرية، ولعلي كنت يائسا أو ناقما أو محايدا أو ما لست أدريه الآن، عندما عصفت النقاشات الأيديولوجية والسياسية بالجميع، فظهر المنشقون والمنسحبون والمجمدون والمطرودون والحائرون والصامدون والخائنون وأنصاف الخائنين وكاتبو العفو والمشنعون عليهم وتيار العزة النفسية الشامخة، وما لا قبل لمعتقل في تلك التجربة الصامدة الحائرة القلقة على تذكّره بشيء من الحياد والموضوعية أو الجرأة كذلك.

وعن المعوقات التي واجهت الحركة اليسارية يقول علّال الأزهر -وهو معتقل سياسي سابق-: حركة “إلى الأمام” تشكّل فيها -تجاوزا- أئمة الأيديولوجية الدغمائية مع الأسف الشديد، وكانت تحلم بثورة كنا نحلم بها جميعا، ولكن فيما بعد بدا بأنها تكاد تكون مستحيلة، لِتمكّن السلطة من الحيازة على الشرعية الوطنية داخل المجتمع.

كان تحديد موعد محاكمة للمعتقلين السياسيين في يناير 1977 بمثابة انتصار لهؤلاء المعتقلين، وتتويجا لمعركة الإضراب المفتوح عن الطعام التي خاضوها منذ نوفمبر1976، وكانت مطالبهم محددة بالمحاكمة أو إطلاق سراحهم، وبعد 19 يوما من إعلان الإضراب أفرجت السلطات عن أكثر من 100 منهم، وقدمت الباقي للمحاكمة.

حرب الأمعاء الخاوية.. صاحب الحق ينتصر

من النصوص التي أثارت الرفاق على الرواية وكاتبها قوله إنه اعترف بعضويته في المنظمة، ويعلن الآن أنه يستقيل منها ويطلب العفو، وأنه تراجع عن أفكاره، وقال إنه خلال ندوة نوقشت قضية النظام كان خلاف بين المؤتمرين، الشيء الذي جعل النقاش يتأجل، وأنه لم يسبق له أن وافق على سقوط النظام القائم.

وفي هذا يقول عبد الله الحرّيف: هذه الرواية بيَّنت على الخصوص الجوانب السلبية للحركة، ولم تبيّن الجوانب الإيجابية داخل هذه التجربة وهي كثيرة، وعلى رأسها تلك المحاكمة التي كانت بمثابة انتصار. فأن أختلف في الرأي فهذا من حقي، أما أن أمنع من خالفني من التعبير عن رأيه فهذا لا يمكن أن أقبله كديموقراطي.

في رواية “كان وأخواتها” وجّه الشاوي انتقاده لقرار الإضراب عن الطعام، وسمّاه إضراب اليأس، وأنه وسيلة تؤدي إلى الفناء، ولكن كثيرا من رفاقه عارضه في ذلك، فهذا عبد الله الحريف يقول: لم يكن إضراب اليأس، لقد كانت حقوقا مشروعة، وكان تعبيرا عن عزة وكرامة المعتقلين السياسيين.

أما علال الأزهر فقال: كان الإضراب اتجاها مغامرا لا غير، تحول من كونه مطالبة بتحسين أوضاع السجناء إلى موقف سياسي من النظام، أي أن “حركة إلى الأمام” كانت تخوض نضالا سياسيا من داخل السجن.

وبعد أسبوع من صدورها قوبلت الرواية بالمصادرة والمنع من طرف السلطات المغربية، وما كان لهذه الرواية أن تتخطى أسوار السجن لولا وجود أشخاص آمنوا بالوجود الإنساني، ورفعوا قفاز التحدي في وجه المصادرة والمنع، وقد قامت آسيا -وهي امرأة كانت على علاقة بالمعتقلين وتزورهم بين حين وآخر- بتهريب مخطوط الرواية، ودفعت به إلى محمد الوديع صاحب الدار المغربية للنشر.

مقص الرقابة.. رب ضارة نافعة

كان إعلان منع الرواية أكثر فائدة من السماح بها، على أن منعها لم يكن مفاجئا، فقد تطرقت إلى المحاكمة وشروطها والاختطاف والقتل والتعذيب الذي تعرض له المعتقلون في سجن “دار مولاي الشريف” ومعاناة عائلاتهم، وتعرضت كذلك للإضرابات وظروف الاعتقال غير الإنسانية.

تقول ليلى الشافعي زوجة الشاوي السابقة: لو لم تمنع الرواية فمن كان سيقرأها؟ قلة قليلة من القراء السياسيين معدودون على الأصابع، ولكن منعها هو الذي مكّنها من الانتشار، أما عبد القادر فقد كان لديه تخوف كبير، ليس من النظام بل من الرفاق، فكان يقول لي: “لا أدري كيف سيكون وضعي في السجن عندما تصدر هذه الرواية”، لقد تحدث عن بعض الرفاق بتلقائية، ولكن كانت كل كلمة تحسب عليه.

وعن الرواية يقول مؤلفها الشاوي: اخترت طريقة خاصة في الكتابة بين الخوف والجرأة وبين الاحتشام والتعرية، اخترت هذا الـ”ما بين” لأحتفظ لشخصيتي بكرامتها ومكانتها بين الرفاق، ولأحفظ أواصر الصداقة مع الذين حولي، ولكنني مع كل هذه التحفظات لم أنجح في أن أتقي نقدهم وهجومهم. لقد غامرت عندما كتبتها داخل السجن، وغامرت عندما نشرتها من داخل السجن، وغامرت ثالثة عندما عانيت من نشرها وأنا داخل السجن في إطار العلاقات العامة.

وقد كثر نقاد الرواية، فمنهم من قال إن عنوان الرواية فيه تناقض واضح، فـ”كان” توحي بالماضي، أي أنها تجربة وانفضت، وكأن في ذلك تبخيسا للتجربة، ثم فيها شخصنة أو تشخيص لبعض الرفاق الذين كان يُرمز لهم بحروف في الرواية. وآخر يقول: كان يمكنه أن يكون أكثر إنصافا لهذه التجربة. بينما يقول البعض: الرواية بقيت لها قيمتها الأدبية، أما قيمتها السياسية فمحل نقاش.

“يصدق علي كما يصدق على الرفاق”.. ما للرواية وما عليها

يحاول صلاح الوديع -وهو معتقل سياسي وابن صاحب دار النشر التي طبعت الرواية- أن ينصف الرواية بقوله: إن التجربة لم تخرج عن سياقها الإنساني بكل ما فيه من النقص والتناقض وعدم الكمال، فهو لم يقصد أن يسيء عن قصد لرفاقه، كما أنه لم يشأ أن يضفي على التجربة القداسة، وأنا أعرف عبد القادر، فهو يؤثر النقد ولو كان مخطئا، على الإطراء حتى وإن كان صادقا.

ويرد الشاوي: قد أكون عظّمتُ السلبيّ، وقد تكون قراءتي غير موضوعية في نظر الآخرين، ولكنني حاولت جهدي أن أنظر للأمور نظرة فاحصة، وما انتقدته يصدق عليّ كما يصدق على الرفاق، وقد كتبت فصولها في السجن، وكنت أستكتب بعض الرفاق لبعض الفصول (من قبيل توريطهم)، ومن حسن حظي أن الذين استكتبتهم قرأوها وأثنوا عليها، فتشجعت لنشرها.

الشاوي وبعض رفاقة في السجن المركزي

الطبعة الثانية.. من ظلمات الحظر إلى نور المصالحة

في عام 2010 كان قد مرّ عقدان ونيف على إصدار “كان وأخواتها”، وبين التاريخين عرف المغرب طفرات هامة في مجال حقوق الإنسان والحريات العامة، وقد تُوّجت بإنشاء هيئة الإنصاف والمصالحة برئاسة أحد رفاق الكاتب في تجربة الاعتقال، وهو المناضل إدريس بن زكري، وعلى وقع تلك المستجدات سيعيد عبد القادر الشاوي نشر الرواية دون أن يغير فيها حرفا واحدا.

وقد قال الكاتب في تصديرها: لم أبدل حرفا في هذا الكتاب، وقد يقول قارئ عند الفراغ منه، إنه لم يعد يشبه صاحبه، وقد أقول بدوري -إذا ما دريت طراوته وحرارته وقوته المعنوية المندفعة في القول- إنني لم أعد أجد بعد أن غيرتني السنون نفسي فيه، ولكنني أفهم أن كلينا- القارئ والكاتب معا- لا نملك أي حق لمصادرة أي من المكونات الثلاثة: التجربة السياسية، والماضي التاريخي، واللغة الأدبية التي اصطنعتها لسرد الوقائع.