أرشيف الوسم : المعتقلات

رسائل من خلف القضبان: بماذا تخبرنا قصاصات أوراق المعتقلين؟

لؤي هشام

كثيرًا ما اختبرت سعاد إحساس القلق والخوف عندما كان زوجها محبوسًا احتياطيًا قبل الإفراج عنه العام الماضي، وكثيرًا ما كانت رسالة قصيرة من سطرين أو ثلاثة؛ سببًا كافيًا لتبديد بعض القلق وإزالة بعض المخاوف، ومتنفسًا يمنحها بعض القوة حتى موعد الرسالة التالية. 

تتفاوت الفترات بين الرسالة والأخرى، فتواجد زوجها في العقرب يعني مدة أطول من الانتظار والقلق، أما نقله إلى المستشفى فيجعل الحال أفضل قليلًا، من ناحية استقبالها للرسائل أو الحصول على حق الزيارة.

لكن كيف تحصل على على تلك الرسائل؟ توضح سعاد أن “هناك عدة طرق، فمثلًا عندما كان زوجي ممنوعًا من الزيارة، كان يعطي رسائله إلى أحد زملائه غير الممنوعين منها، الذي يبلغها لذويه أثناء الزيارة وهم بدورهم ينقلوها لي إما بشكل شفهي أو من خلال تصويرها وإرسالها عبر واتساب”.

وتتابع “أو من خلال انتهاز أي فرصة كان يتواجد فيها خارج السجن كحضور جلسات تجديد الحبس أو إجراء كشف صحي في المستشفى، لإعطاء رسائله ورسائل باقي المعتقلين إلى المحامين، الذين يتكفلون بإيصالها إلى أصحابها”.

ومع “الحرمان القاسي من تلقي المحتجزين زيارات عائلية”، بحسب وصف منظمة العفو الدولية في تقرير أصدرته العام الماضي، اكتسبت هذه الرسائل أهمية أكبر.

أخبارك ايه يا أعظم أم ربنا يطمني على صحتك ويخليكي لينا وما يحرمناش من عطفك وحنيتك علينا ويا رب تكوني راضية عليه وعلى اخواتي. أنا لسة في الليمان ما روحتش الاستقبال. 1) يا ترى إتصلتي بـ(***) زي ما قلتلك وعرفتيها مين هيتصل بيها وتقوله إيه – أكدي عليها بالله عليكي. 2) إتصلتي بالناس ووصلتي الرسايل اللي بعتها معاك  جزاك الله خيرا، سلميلي على اخواتي.. في حفظ الله وأمنه.

كلمات قليلة تحكي الكثير من القصص

حصلت المنصة على عدد من رسائل السجناء إلى ذويهم. رسائل تخبرنا كيف يمكن أن تتحول بعض الأشياء العادية إلى ضرورة ملحة، وكيف تتعاظم بعض التفاصيل الإنسانية مع فقد الحرية؛ فأيًا كان سبب تواجد السجين خلف القضبان، يبقى إنسانًا يتمنى بعض الأمور البسيطة؛ أكلة يشتاق لها أو دواءً يحتاج إليه، أو رسالة إلى الأحباب الذين غابوا ولم تغب ذكرياتهم.  

زوجتي العزيزة الغالية؛ تحية طيبة وبعد أنا الحمد لله بخير، يوم الإثنين ذهبت إلى كبير أطباء الطب الشرعي بجوار محكمة زينهم تقريبًا المسئول عن العفو الصحي، ولما أطلعته على الورق اللي معايا قرأه واعتذر أنه لن يأخذ به لأنه لم يوجه له بصورة رسمية، وبناء عليه كتب خطابا رسميا يطلب فيه ملفي الطبي ويكون فيه كل الأشعة والتحاليل وأن يجروا لي أشعة مقطعية حديثة على الصدر والقولون وأن يحضروني ثانية إليه ومعي كافة التحاليل والأشعة المطلوبة ليُقدِّر الحالة جيدًا وذكر في هذا الخطاب رقم ملفي الذي ذكرته لك في معهد الأورام بالمنيل الجامعي، أنا الآن في مستشفى ليمان طرة.

رسائل من طرة شديد الحراسة أو سجن تحقيق طرة أو مستشفى ليمان طرة، وعنبر المعتقلين بقصر العيني، وغيرها من السجون. رسائل لا تعرف أصحابها أو اتهاماتهم أو مدة حبسهم، فتحاول أن تستشف القصص من بين تلك الكلمات القليلة. زوجتي الحبيبة الغالية السلام عليكم ورحمة ربنا وبركاته. اليوم الثلاثاء الساعة 1 ظهرًا الحمد لله أنا بخير وبصحة جيدة. الحمد لله غسلت وأنا بخير وبالنسبة لموضوع الروچيتا ده مش هينفع هذا لأنه لا يوجد روچيتات في المستشفى فأرجو أخذ روچيتا من الدكتور اللي هتروحي له غدًا بإذن الله. وأنا مش عاوز طلبات ولا أكل خاص تمامًا ولا أي شيء استودعكم الله الذي لا تضيع عنده الودائع.

حميمية يقتلها الخوف

يمنحنا إبراهيم أحمد وهو نجل أحد المحكوم عليهم بالسجن المؤبد في إحدى القضايا، مزيدًا من التفاصيل المتعلقة بكيفية الحصول على الرسائل. 

يوضح إبراهيم أكثر في حديثه مع المنصة “نحصل على الرسائل مثلًا عن طريق واتساب. فيه جروبات (مجموعات) لكل سجن خاص بأسر المعتقلين فيه، وأيضا نرسل أجوبتنا أو رسائلنا لمعرفة أخباره من خلال بعض الأسر الأخرى ممن نعرفها جيدًا ويتواجد ذويهم مع والدي في نفس المكان”. السلام عليكم/ أمي/ أنا بخير والحمد لله لسة ما عملتش العملية ولو عايزين تزوروني تعالوا في أي وقت واعملوا حسابكم في 200 جـ وزجاجة برفان العود وهاتوا قلم جاف 7 ملم وقلم سنون 7 ملم وقصافة ومكنة حلاقة وشبشب بلاستيك مقاس 45 وكتاب فن الحوار والاتصال لـ د/ إبراهيم الفقي وسلامي بكل الأمل.

خلال الآونة الماضية ومنذ انتقال والده إلى سجن ليمان طرة أصبحت الزيارات أكثر سهولة وتحدث بشكل طبيعي، ولكنه يشير إلى أن الوضع يختلف من سجن إلى آخر، فقبلها ولمدة ست سنوات تنقل فيها والده بين ثلاثة سجون هي القناطر ووادي النطرون والاستقبال، اختلفت المعاملة بحسب السجن.  الزيارة القادمة الأحد 19 مارس فلا تأتوا الأحد القادم ضروري لأنه من المحتمل أن أخرج للعملية الأحد.

يشرح أكثر “كان سجن ليمان 430 بوادي النطرون الأسوأ من بين السجون الأخرى إذ أنه شديد الحراسة وذهب والدي إليه بتذكرة (شديد الخطورة)، كان بيكون فيه ترخيم (تشديد) خلال الزيارات ويجلس أمناء شرطة معنا، إضافة إلى قصر مدة الزيارة، ومنع العديد من الأشياء من الدخول”. أخوك. إلى اختي الحبيبة وحشني جدًا انتي عملة ايه و(***) و(***) و(***) معلش أنا عاوز 2 علبة كشري زي اللي جه قبل كدة علشان الناس طالبينوا مني عشان هو حلو أوي.. أخوك المخلص لكي وابنك.

وفقًا لإبراهيم، فإن إدخال طلبات السجناء أثناء الزيارة لا يخضع لقواعد محددة، وأنه “ساعات لا يُسمح بدخول أشياء رغم أنها أشياء عادية كشامبو أو فرشة أسنان، أما ماكينة الحلاقة فلا تدخل في أغلب الأوقات، فيما قد تدخل أشياء أخرى مُنعت في وقت سابق كالورق للدراسة مثلا، ثم يمنعونه مرة أخرى رغم تقديمنا ما يثبت أنه لدراسة ماجستير. لا يوجد وضع ثابت بل أهواء تتحكم في ذلك”. أمي الحبيبة يارب تكوني بخير حال. هاتي الحاجات دي في الزيارة الجاية. 1) غسول للفم “غرغرة” لسيترين zero. 2) فرشاة حلاقة+ ملقاط + علبة سلاكة أسنان من الصيدلية. 3) 2 صابونة كبريت+ 3 صابون لوكس كبيرة. 4) شبشب مقاس 44 زي اللي عندك بالضبط 5) سالفيكس ماس للثة. 6) ليفة استحمام + علبة سويتال سكر.

تظهر الحاجة الماسة للرسائل بعدما باتت في كثير من الأحيان وسيطًا أكثر أريحية في تبادل الحديث والطلبات. يوضح إبراهيم أن بعض الرسائل من والده أثرت فيه ويتذكر جيدًا ما جاء فيها، لكنه فضّل عدم الخوض في تفاصيلها لأنها “حاجات شخصية وأسرية نُفضّل أن تكون لنا نحن فقط”. وحشتوني جدًّا وسلامي لأهلي وأولادي وأنا منتظركم قريبًا في الزيارة وحاولوا تعملوا تصريح نيابة وتأتوا بسرعة وأحتاج إلى الأشياء الآتية: 6 فطير مشلتت. 6 فطيرة النوع الثاني. صنية كيك أو معمر. مقشرة بطاطس. بصل. وعايز 150 جنيه.

مع ذلك فإن أغلب الرسائل التي حصلت عليها المنصة تُظهر استخدام أسلوب مباشر وواضح دون الكثير من البلاغة أو الأدبيات، ولهذا أسبابه. إلى زوجتي الحبيبة أم (***) أنا عاوز 2 شنطة زيارة جديد وعاوز كوب جديد يكون جيدًا وهاتي الساعة معاكي ضروري الزيارة القادمة يوم الخميس علشان صاحبها عاوزها سلامي لـ (***) و(***) وسلام خاص لـ (***) نور عيني ولب القلب. ملحوظة: متجيبيش أكل معاكي

حميمية يغيّبها الخوف

تتسبب الرقابة الأمنية في الخوف من إظهار المشاعر أو الحكي عن تفاصيل الحياة الخاصة، حسبما أوضح للمنصة معتقل سابق رفض ذكر اسمه قائلًا: “ساعات بنبقى عارفين أن الرسايل دي ممكن تقع في إيدين أمين أو شاويش ممكن يستغلها لابتزازنا مثلا أو في إبلاغ رؤسائه، وساعتها هنقع في مشكلة أكبر”.


زوجتي الحبيبة وحشتيني أنت و(***) و(***). أخباركم إيه والله العظيم مفتقدكم جدًا جدًا ونفسي أشوفكم قوي.. عارف طبعًا إنه غصب عنك علشان الجامعة والمدارس.. الله يكون في عونك ربنا يجزيكي خير على تعبك وصبرك وثباتك، ربنا ما يحرمني منك ولا من نور عينيا. أحب أطمنكم أنا الحمد لله بخير وصحتي تحسنت من فضل الله ولا ينقصني إلا رؤياكم. أنا لسة في مستشفى ليمان طرة لسة ماروحتش الاستقبال. خلي بالك من صحتك أنتي الأم والأب وصحتك تهمنا سلميلي على الحاج (***) والحاج (***) والحاجة (***) وقولي لعمو (***) عيب عليك اسأل عليا لأنك وحشه كتير ربنا يخليك ليه وما يحرمنا من وجودك دايما، وبقولك فرجه قريب ولما اطلع هجيلك لو في الدور 17 وعايز أعرف (***) جاب الفلوس ولا لأ ولو بعتهم كام أشوف وشك بخير.  في حفظ الله وأمنه.

لكن رغم ذلك لم يحاول البعض منع نفسه من إظهار القليل مما يحس به ببساطة. فهنا معتقل ينهال على زوجته بكلمات الحب، وآخر ينادي زوجته بـ “جميلتي”، و”حبيبتي”، بينما يتحدث ثالث عن انتظار اللقاء “بشوق المحب لمحبه”. زوجتي الحبيبة السلام عليكم وحشتيني كتير منتظرك بكرة بشوق الحبيب لمحبه. شوية حاجات بسيطة متنسهاش: – عدد 3 ميتاديرم – كريم حساسية للوجه- مصحف صغير – لو أمكن راديو جيب ويا ريت يكون شحن ولو بحجارة هاتي حجارة معاكِ – عدد 2 ماكينة حلاقة- كتاب من كتب السيراميك اللي عندنا. جميلتي أم (***) السلام عليكم؛ – ضروري جدا متجبوش أكل بس هاتي الكيكة والكنافةبتاعة بسبوسة. – هاتي راديو لأني ملقيتوش هنا وبيقولوا موجود في المحلات أمام السجن أو من إسكندريةزي ما أم أحمد كانت بتقول وهاتي معاه سماعات بدون مايك. – سكر دايت علشان آخده العقرب.

تُظهر أغلب الرسائل السابقة اكتفاء المعتقلين بالإبلاغ عن حالتهم واحتياجاتهم، لكن بالتأكيد الرسائل المكتوبة لا تتوقف عند هذا الحد، فنحو قبل شهر كشفت المنظمة العربية لحقوق الإنسان في بريطانيا عن أوضاع سجناء العقرب المتأزمة “عبر رسائل مسربة تمت كتابتها بوسائل بدائية على مدار سبعة أشهر في محاولة لنقل معاناتهم”، وهي ضمن تسريبات للمعتقلين بين الحين والآخر.

وفي شهادة بعض المعتقلين في التقرير وصفوا هيئة السجن والزنازين التي يتم احتجازهم بها “سور كبير تحيطه أبراج حراسة وداخل هذا السور 4 عنابر كل عنبر على شكل حرف (H) كل ضلع من أضلاعه يسمى وينج وكل وينج به 21 غرفة + غرفة الشاويش + حمام + مطبخ + غرفة أخرى وتحت كل (H) بدروم بطوله وعرضه تجري فيه مواسير الصرف وهو ممتلئ على آخره بمياه الصرف وتعيش فيه الفئران بكثافة، وهو مرتع للبعوض، وأحيانا تخرج منه الثعابين”. أختي الحبيبة (***)  ألف سلامة لك. شفاك الله وعافاك. كنت أتمنى أن أكون بجوارك في هذا الوقت، ولكن إرادة الله غالبة. ربنا يجمعنا قريبا.

وأضاف التقرير أنه هناك زنازين في العقرب تم تصميمها لتكون أكثر سوءا من مثيلاتها؛ التأديب والعزل والإعدام والعنصر، وهي زنازين ضيقة للغاية حوائطها مطلية باللون الأسود القاتم، لا إضاءة بها مطلقا، لا مياه، لا شمس، لا تهوية، لا مراوح أو شفاطات حتى الفتحة الموجودة بالباب (النظارة) لاستلام التعيين (طعام السجن) تُغلق بقفل من الحديد من الخارج ولا تفتح إلا لإدخال التعيين. أنا الحمد لله كويس والزيارة كانت جميلة جدا وسلميلي على ماما كتير.. وماتنسيش تاخدي الحاجة من أم (***) وكمان تديها 100 جنيه توصلها لمصطفى وهو هيوصلها لـ (***) ف غرفة (9).. وكلمي د/ (***) خليها تسأل د/ (***) عمل ايه في موضوع الفلتر مع المباحث؟

وأوضح التقرير أن معتقلي العقرب محرومون من التريض منذ الرابع من أبريل/ نيسان 2017  وهو ما أدى لانتشار الإصابة بالربو والجرب والسل بين المعتقلين. 

يتوافق ذلك مع إحدى الرسائل التي حصلنا عليها ويطالب فيها المعتقل أهله بغلي ملابسه بسبب الجرب. – وحشتوني جدا. – أرجو الطعن على قرار حبسي 45 يوما من المحامين. – أرجو غلي الهدوم والليفة أيضًا لأني مصاب بالجرب آسف لإزعاجكم وشكرا.

ومع اقتراب الذكرى التاسعة لثورة 25 يناير، تفرض السلطات -كعادتها مع كل ذكرى- تضييقًا واسعًا على السجناء، وتتوسع في منع الزيارات. حينها، ستكون ورقة صغيرة بكلمات يصعب تبينها، الوسيلة الوحيدة لإدخال بعض الطمأنينة على قلوب حنّت فرضخت لأقل القليل مما يفرضه الواقع.


* جميع الأسماء في هذا التقرير هي أسماء مستعارة لحماية المصادر.

أحمد سحنوني ضحية تعذيب رهيب في السجون الفرنسية

في أول خروج إعلامي له كشف المعتقل السابق أحمد اليعقوبي السحنوني المزدمج الجنسية فرنسي من أصل مغربي.. عن معاناته وعائلته عند اعتقاله واقتحام منزله ولاضرار التي طالتعائلته .. سرد قصة معاناته وعرى زيف الشعارات التي ترفعها فرنسا… قصة مؤلمة وموجعة بعد قضاءه عدة سنوات في السجون الفرنسية تم تجريده من جنسيته لفرنسية وترحيله للمغرب حيث اعيد اعتقاله ليقضي عدة شهور في سجون المملكة ….

قصته المؤلمة وثقتها كاميرا موقع العمق المغربي في حوار مطول

محمد مشبال.. تجربة الاعتقال والتعذيب

تجربة الاعتقال والتحقيق والتعذيب

محمد الأمين مشبال الذي اعتقل بتهمة الانتماء لمنظمة سرية تهدف القضاء على النظام الملكي القائم وإقامة بديل عنه جمهورية شعبية ماركسية لينينية.

تجربة الاعتقال والتحقيق والتعذيب
– الأوضاع في السجن

undefined

محمد الأمين مشبال- معتقل سياسي: كثيرا ما كنت داخل السجن أحلم بأنني غادرت السجن ويوقظني داخل الحلم صوت ويقول لي لا أنت تحلم، أنت في السجن وما بعد السجن كثيرا ما أحلم بأنني في السجن وبأنني مطارد من طرف الأجهزة الأمنية وبأنني أخضع للتعذيب وللتحقيق ولا أفهم لماذا لم أخرج من السجن وآخرون خرجوا هذه الكوابيس لا تنتهي.كنت أسير في الشمس الباردة عندما أمطرني حميد الدوكالي بوابل من الأسئلة كيف؟ ومتى؟ ولماذا؟ ثم مضيت بجسدي على طريق رمادي أو رصاصي اللون في قلب مدينة فاس، كنت أفكر في الغد أكثر مما يجب وقد حوّل ذلك حياتي إلى قلق مستمر، انزويت قليلا أمام جذع شجرة نخيل ممتدة أطرافها العليا إلى السماء وعندما هممت أن ألتفت خطوت خطوتين وسمعت وطء أقدام قريبة مني أحدهما طويل بدين حاد النظرات والآخر قصير أحمر الخدين قوى العضلات، أثاراني بخطواتهم المتثاقلة والتفاتاتهم العميقة إلى عيناي، حاولت أن أتجاهلهما لكن صوتا حادا تطلع إليّ متسائلا عن عنوان أحد الشوارع فأجبته بأني لا أعرفه بينما كنت مقتنعا بأنهما يريدان التثبت من ملامحي، حاولت أن أتابع سيري فإذا بأحدهما يمد يده بسرعة نحوي تراجعت خطوة وقاومت قليلا لكن الرجل الآخر كان قد وضع الأصفاد في معصمي وأحسست أنها بداية النهاية وأن الشمس المشعة توشك أن تغرب إلى الأبد وأن تهجر عيناي الحالمتين، حاولت أن أستدير بوجهي إلى الوراء لأتابع حميد وهو يجري هاربا من الجحيم لكن يد خشنة أرجعتني إلى الأمام ثم سمعت صوتا مشحونا بالاستفزاز والسخرية يقول لقد وقعت، كنت أطل من النافذة بعينين غارقتين تكسوهما أشباح الكآبة والهلع، اعتراني ذهول وشعور عارم بالخوف من المصير المجهول ومن التعذيب والطرقات مثقلة بالشمس والسيارات والبيوت والدكاكين والمقاهي والمارة، أما أنا فقد غمرت الظلمة أرجاء جسدي ودقات قلبي تتسارع وتخفق كالبركان، ظللت أتابع الطرقات والمقاهي بعيناي وأودعها بذهول الذي رافقني منذ أن وضع القيد في يدي، الذاكرة تحمل الأشياء الكثير من الاعتقال، فالاعتقال كان قد استغرق فترة زمنية طويلة، لقد امتد من شهر فبراير 1976 إلى غاية 19 نوفمبر 1986 أي ما يناهز 11 سنة وهذه المرحلة كانت مرحلة طويلة وفيها تقلبات كثيرة كما رويتها في الكتاب، بدأت بالاختطاف ومرحلة التحقيق والتعذيب. كانت محاكمة 1973 كانت فتحت.. استعملها اليسار الذي حُكِم ولا الرفاق آنذاك كمنبر لطرح مواقفهم فكانت محاكمة 1976.. 1977 تسير في اتجاه مسبق، رُسم لها خطوط التشدد وإن كان بالمقابل أكان توجه داخل معتقلين سياسيين آنذاك لتكون تشدد من طرف الآخر بإثارة قضية الصحراء المغربية وطرح من زاوية طرح آنذاك السيرفاتي مسألة الجمهورية الصحراوية وطرح قضية الصحراء في المحاكمة مما خلق ملابسات كثيرة، على أية حال السجن ثم المراجعة، التجربة، الصراعات ما بين رفاق ما بين الأمس وهو أمر ليس.. لم يكن أمرا سهلا لا من الناحية الفكرية أو من الناحية الإنسانية خصوصا بأن يجد الإنسان نفسه في وضعية التي طرحها الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر حين قال إن الجحيم هو الآخر، وقفت السيارة أمام بناية كبيرة عرفت أنها مخفر الشرطة، كانت جموع الناس كثيرة اختلط فيها الصغير بالكبير والرجل بالمرأة وكان القناصان يدفعاني بشدة حتى كدت أتعثر في حافة درج الرصيف، دخلنا بابا كبيرا ثم عبرنا ممرا ضيقا باتجاه أحد المكاتب، فتح سائق السيارة الباب ودفعني من كتفي حتى ارتطمت بالحائط الأيسر من الغرفة، أقعدني على كرسي من دون متكأ وبقيت متصلبا للحظات أتأمل لافتة صغيرة وُضعت على المكتب تحمل اسم تاشفين، لابد أنه اسم المحقق الذي سيشرف على التعذيب لكن مهما يكن فلابد أن أصمد وأراوغ وأفرغ من كلمة إلى كلمة حتى يمضي الوقت سريعا، ينبغي أن تكون كلمة لا منقوشة داخل كل خلية من جسمي المناضل، أحسست وأنا أنتظر المحقق بتوتر يسري في أوصالي وتساءلت في كل ثانية ماذا أفعل؟ عندما بلغت عامي السابع عشر بدأت نسمات سياسية طفيفة تطل على حياتي كان لأخي عبد المؤمن دور رئيسي في توجيهي وإيقاظ نوع من الوعي السياسي لديّ، جاءت سنة 1972 لتضعني في تيار حركة التلاميذ فقد شهدت تطوان مثل باقي المدن المغربية الأخرى اضطرابات ومظاهرات للاحتجاج على مشروع إصلاح البكالوريا والمطالبة بمنح الحق النقابي للتلاميذ، شاركت بدور التلاميذ في المظاهرات أو التجمعات الحماسية التي انعقدت بثانوية القاضي بن العربي، لفت انتباهي حين ذاك تدخلات تلميذ بقسم البكالوريا يدعى عبد الباري الطيار كان يوظف تعابير ماركسية ثورية في خطبه وفي خضم كل هذا لم نكن نعرف هدفنا بوضوح بل لم نكن نعرف ماذا نرغب في الوصول إليه، ما اسمك؟ أجبته بصوت خافت محمد الأمين مشبال، تابع حديثه بزهو وفخامة متعالية وقد ثبّت عينيه في عيني، مع مَن كنت تعمل في هذه السنوات؟ هززت رأسي وقلت لا أعلم، لكنه اندفع دفعة واحدة وتحول الهدوء في المكتب إلى عاصفة من الصدى المتفجر، صرخ في وجهي محتدا وهو يحدق إليّ متفرسا عندما أسألك أجب أو.. لمحت في نظراته تهديدا ووعيدا بالشر لكنه عاد إلى سخريته وهدوئه وأردف تحسب نفسك ذكيا سوف تتكلم، اعلم جيدا أنك ستتكلم كالآخرين أين تسكن؟ أجبته بنبرة مكتشفة هادئة عند خالتي.

والدة محمد الأمين مشبال: كان يدرس في مدينة العرائش قبل أن ننتقل إلى تطوان وهو في سن الثانية عشرة كنت أرسله ليدرس بالمدرسة بينما هو كان يمارس السياسة الفوضى لم أكن أعلم شيئا كان يصطحب بعض زملائه اثنان أو ثلاثة إلى المنزل وقت الظهيرة وعندما أسأله مَن هم؟ يقول لي إنهم زملاؤه في الفصل، كنت أصدقه، كنت أقدم لهم الحريرة المغربية أو القهوة أو الشاي، اجتاز امتحان الباكالوريا بنجاح وقررنا إرساله إلى مدينة فاس كي يكمل تعليمه وسافر بصحبة والده إلى فاس حيث تقيم أختي وأخي، عندما أخبرهم زوجي بأن الأمين سيكمل تعليمه في فاس، رحبا بالأمر وفي انتظار تدبير شقة له أقام مؤقتا عند خالته، ذات يوم اقتادته الشرطة إلى بيت خالته.. تخونني الذاكرة في كثير من التفاصيل.. كان يتصبب عرقا، طرقوا الباب بشدة وسألوا ابنة أختي أين غرفته؟ قالت هاهي، دخلوا الغرفة وفتشوا كل شبر فيها، كان يموت عطشا كان في الـ 18 من العمر فقط وطلب من ابنة خالته أن تحضر له ماء، جلبت له ابنة أختي نزهة كأسا من الماء لكنه لم يكد يشرب الجرعة الأولى حتى أزاح عنه أحد رجال الشرطة الكأس، قالت له ابنة أختي دعه يشبع قال كفاه وأخذ منه الكأس، لم يخبرني أحد بما جرى كتموا الأمر عني وأنا كنت هنا في تطوان.


التعذيب لا يمكن أن يُنسى لأنه بالنسبة لي  كان قاسيا وموجعا ومؤلما، بحيث يجعلك  حين تتأمل الزمن تجد الثانية من التعذيب أو الدقيقة ودون أدنى مبالغة تساوي سنة ضوئية

محمد الأمين مشبال: التعذيب لا يمكن أن يُنسى لأنه بالنسبة لي تعذيب كان قاسيا، يعني التعذيب لم يكن مجرد لم يقتصر فقط على الجانب لنقل الجانب التعذيبي الذي وصفته في الكتاب يعني الفلقة أو الطائرة والشيفون من أجل الاختناق يعني التعذيب الجسدي الذي كان قاسيا وموجعا ومؤلما والتعذيب يجعلك من بعدها حين تتأمل التعذيب تجد أن مفهوم الزمن يختلف ثانية من التعذيب أو دقيقة تحت التعذيب وبدون أدنى مبالغة تساوي سنة ضوئية. ما بعد التعذيب الجسدي هناك التعذيب النفسي، أنت تخرج وتستنشق الهواء وأن تتجول حلما بعيد المنال أن تعيش الحب بشكل طبيعي وعادي، مسألة مستحيلة، كل هذه الأشياء تؤدي إلى تعذيب نفسي لا يقل قساوة عن التعذيب الجسدي ويصبح الحلم ومع مرور السنين يصبح الحلم بمغادرة السجن وبالحورية يصبح شيئا شبه مستحيلا.

والدة محمد الأمين مشبال: مرت ستة أشهر دون أن نعرف مكانه أو حتى إن كان على قيد الحياة، والده كان رجلا عجوزا ومع ذلك ظل يبحث عنه ويربي الأمل في معرفة مكانه، أخوه الذي كان يعمل أستاذا هو أيضا بحث ولم يجد له أثرا إلى اليوم الذي ظهر فيه فجأة.. نسيت تفاصيل كثيرة لأن المدة كانت طويلة.. عندما ظهر قدم للمحاكمة أذكر أن المحكمة كانت مطوقة برجال الشرطة داخل وخارج المحكمة وعلى السلالم وكأن القضية كبيرة وكل ما في الأمر فتى في 18 من العمر، كان الولوج إلى المحكمة أمرا شاقا ومؤلما، كنت أطلب أن أرى وجهه وما أن يراني ويرى الدموع تنهمر من عيني حتى يشيح بوجهه عني ويختفي، كان رجال الشرطة هكذا أمامنا وهكذا المحامون ونحن هنا وهم هناك كان يراني فيشيح بوجهه فتشتعل النار في قلبي.

محمد الأمين مشبال: شرع الرئيس في النطق بالأحكام، سجن مؤبد لخمسة رفاق وبعض الآخر تراوحت أحكامهم ما بين ثلاثين وعشرين وعشر وخمس سنوات، سادت القاعة كلها لحظة ذهول مخيفة، أما أنا فقد سمرتني الصدمة في موضعي وشردتني، عشرون سنة إضافة إلى سنتين لإهانة الهيئة القضائية في بئر بارد مغلق تحده الأشواك، لم أعد أرى أمامي إلا النهاية المأساوية وانقلب الأمل المتبقي في ذهني إلى حزن ذابل مغمور، شعرت بثقل جسدي لأول مرة وتردد صوتا بداخلي جياش الأصداء وكنت وحدي أمضي في ذهول أتأمل الأشياء من حولي مكسور القلب والعينين وهاهي الوجوه تعاند الدموع المنجرفة وتعالت الكلمات الغربية الممتزجة.. الواقع أمامي شاحبا وصارت تطوان كالفردوس المفقود.

والدة محمد الأمين مشبال: عشرون عاما كانت صدمة قاسية بالنسبة لي تعرض زوجي لحادث وكسرت رجله على أثره كان عليّ أن أترك له طعامه جاهزا لأنه مريض بالسكر كنت أطلب من الناس اصطحابي إلى السجن كي أزوره الرجل مريض والابن مريض فلقد تكبد ابني حكما أكبر من سنه كنت امرأة عاجزة عن فعل أي شيء لم يكن بيدي ما أفعله، ما تركته لي أمي من مال وذهب بعد وفاتها كنت مستعدة لبذله لأجله لم أكن لأستخسر فيه أي شيء لو طلبوا هذه سأقدمها في سبيل أن يستعيد حريته الحمد لله كل شيء انقضى.


التهمة التي حوكمنا من أجلها كانت الانتماء لمنظمة سرية تُدعى إلى الأمام بهدف القضاء على النظام الملكي القائم وإقامة بديل عنه جمهورية شعبية ماركسية لينينية وذلك عن طريق العنف كإستراتيجية ثورية للتغيير

محمد الأمين مشبال: التهمة التي حوكمنا من أجلها هي كما ورد في محضر يعني قرار الإحالة هي كانت الانتماء لمنظمة سرية تُدعى إلى الأمام بهدف القضاء على النظام الملكي القائم وإقامة بديل عنه جمهورية شعبية ماركسية لينينية وذلك عن طريق العنف كاستراتيجية ثورية للتغيير، هذه هي التهمة التي من أجلها اعتقلنا وحوكمنا، كانت لنا تصورات وهي تصورات تستمد مشروعيتها من جهة الاحتقان السياسي اللي كان يعيش في المغرب آنذاك من حيث كان هناك صراع ما بين القوى المعارضة؛ اتحاد وطني، القوات الشعبية وحزب استقلال بدرجة أقل مع النظام وخروج المغرب من الفترة الأفقية هي التي كانت تعرف التشدد وقمع شديد وهدر للحريات العامة، إذاً كان هذا المناخ السياسي الداخلي وتشدد وبمقابل كان هناك مناخ عالمي كان المناخ العالمي يعزز هذا النموذج وهذا الطرح الاشتراكي أو الماركسي اللينيني كان يعززه ويعطيه كل الموضوعية من هنا انبثقت مجموعات صغيرة ماركسية لينينية صغيرة أساسا عمادها الطلبة ومثقفون والأساتذة وحاولت طرحت على نفسها أنها ستقوم بتغيير المجتمع، أنها ستقوم ببناء حزب يطلق عليه حزب العمال وستقود العمال والجيش من الفلاحين تحت راية حمراء نحو الثورة الشعبية.

[موجز الأنباء]

الأوضاع في السجن

محمد الأمين مشبال: بعد جئنا معتقل دارمولي، شريف خلعنا ملابسنا وارتدينا قميص وسروال كاكيين وأخذ كل منا رقمه وكان رقمي 25 ثم صففنا الحجاج صفا واحدا وأداروا وجوهنا إلى الحائط ومررنا ببطء والكرباج يهوي على رؤوسنا وظهورنا وأيدينا ننحني ونختبئ كل واحد منا في الآخر ويتمايل فيرتطم بالحائط ثم يعود لضربات ولسع السياط وُضع كل أربعة أو خمسة في زنزانة لم أرها لكن إحساسي بقتامة يبدو واضحا مرأى العين منعونا من الكلام منعا باتا شحب وجهي وصرت هزيل البنية خائر القوى أعانق ذكرياتي وأجول بخاطري في تطوان أتذكر أمي وأبي وكل العائلة التي ما ظننت يوما أني سأفارقها كل هذا الوقت، كان سجن القميطرة المركزي رهيبا وشامخا ساحة عارية متسعة وبناء ضخم ممتد ورق مرتصف متلاصق داخل البناية الضخمة يوجد ممر فسيح طويل يتوسط صفين من الزنازين خطوناه بهمومنا الثقيلة فارتج فيه صدى أحذيتنا وتسرب في الحائط ذهننا يتبع خطواتنا البطيئة.

مشارك أول: كان النشاط محدودا مظاهرات بين الفينة والأخرى منشورات لا تغني من جوع لأنها كانت تصاغ باللغة العربية وتوزع لكن هل كانت تصل إلى الناس؟ هل كانوا يقرؤونها ومع نسبة الأمية الموجودة في البلد الله أعلم وإذا قرؤوها ما مدى تأثيرها؟ مَن كان سيستفيد منها؟ إذا فقط رجال الشرطة لأنهم كانوا يأخذون المنشور ويبحثون عن مصدره، في عام 1974 بدأت الاعتقالات في طنجة على إثر توزيع منشور كان بعض الطلبة قد ذكروا اسمي لرجال الشرطة فجاؤوا إلى تطوان بحثا عني لم يكن لديهم من المعلومات عني غير الاسم وأنني طالب لذا اعتقلوا خمسة أو عشرة أشخاص يحملون الاسم نفسه من بينهم أولاد عمي وأصدقاء لهم الذين وجدوه في طريقهم اعتقلوه أما أنا فاستطعت الإفلات من قبضتهم بعد أن لذت بالفرار في 1974 في اتجاه الدار البيضاء عشت هناك حياة جديدة اسم جديد هيئة جديدة بطاقة، هوية جديدة، أهل الحي الذي كنت أسكنه كانوا يعتبروني أستاذا، قضيت عاما ونصف في فراغ مطلق، تصوروا أن شابا في العشرين من العمر يعيش فراغا مطلقا والسبب أن رفاقنا في التنظيم سامحهم الله مارسوا علينا نوعا من الكذب لأنني عندما تحولت إلى محترف ثوري تخليت عن حياتي الرسمية وعن أسرتي التي كانت في حاجة لي، تخليت عن مستقبلي واحترفت الثورة، ذهبت إلى الدار البيضاء على أساس أن المنظمة حسب ما كانت تدعيه في منشوراتها متجذرة في الطبقة العاملة وعولت إذاً على الاشتغال ضمن الطبقة العامة أو في المجال التلاميذي أو الطلابي لكني لم أجد إلا الفراغ القاتل، كنت أقضي ستة أيام في الأسبوع معتكفا في البيت أو أجوب في شوارع الدار البيضاء إلى أن أصبحت لدي صعوبات حتى في الحديث مع الناس لأنني لم أكن أخالطهم إلى أن بدأت الاعتقالات، يمكن أن أقول بأن عددا كبيرا من رفاقنا وهذا الأمر أثير في عدد من النقاشات الثنائية داخل السجن عاشوا لحظة اعتقالهم قد لا يفصحوا عن هذا يوما، هذا أمر يخصهم عاشوا لحظة اعتقالهم على قساوتها كلحظة خلاص، مصطلحات الآن عن حقوق الإنسان أمر ضروري وإيجابي ويجب أن تكون لكنها اليوم تحققت بفضل تطورات المجتمع المغربي برمته، الآن أصبح من الصعب أن تتخيل أن تقدم السلطة على اختطاف شخص ما وما وصلنا إليه حاليا هو نتيجة لوعي كل الأطراف بتجاوزاتها وأخطائها وإيجابياتها.

مشارك ثاني: عندما كنت في سيارة الاعتقال وجاءني رجال الأمن كنت وأنا ذاهب إلى السجن كنت أتصور بأن الشارع سينتفض، العالم كله سينتفض، غدا ستقع ثورة، العالم كله سينتفض معي وأنا كنت آنذاك في عمر ثماني عشر سنة داخل السجن وكنت في السيارة أمضي إلى الناس من قلب السيارة وأعتقد أن الناس سيتحركون والشارع التطواني سيتحرك سينادي بإطلاق سراح فلان وفلان وفلان، النظام ظلمنا ظلم كبير جدا، كيف يعقل ثلاث سنوات العمل السياسي تحكم على 12 سنة سجنا هذا هو الظلم الكبير اللي كنا حاسينه أنه ثلاث أعمال أولا السن مبكر يمكن يقولوا علينا يمارس العمل السياسي بشكل مبكر داخل قطاع تلاميذي محدود، إمكانياته محدودة على مستوى التغيير يحاكم 12 سنة سجنا، أنا أعتبر أن الخطأ الكبير الذي وقعت فيه منظمة الأمام أو الحركة الماركسية هو مسألة الصحراء، أعتقد أن الخطأ الكبير اللي سقطت فيه إحنا لحد هذا الوقت لم نكن واعيين به كل الوعي، أعتقد أن الخطأ الكبير لأنه هو الخطأ الاستراتيجي اللي بنيت به القاعدة الأساسية أنهم كانوا يعتقدوا بأنهم من الصحراء سيتم تغيير المغرب، هذا كان خطأ كبير وكبير جدا، كيف يعقل داخل وهذا الشيء اللي الحقيقة والتاريخ كيف يعقل أنه أكثر من 90% من المعتقل شباب عمرهم أكثرهم بين 18 وعشرين سنة حتى 21 سنة قائد من القادة الكبار يأتي المحكمة يقول عاشت الصحراء عاشت بوليساريو عاشت دوح، الحال اللي إحنا ما تصورناش إن داخل بالعكس كان سؤالنا إن هو ينقض الشباب ويدفع المحكمة حتى جاء لواء آخر ليمشوا في اتجاه اللي أراده لأنه كأن نحن نحاكم داخل المحكمة على مسألة الصحراء، بالعكس نحن لم نحاكم فقط على مسألة الصحراء بل نتحاكم على أفكارنا السياسية، على توجهنا، على الفكر الماركسي اللي آنذاك ولكن لم نحاكم فقط على مسألة الصحراء بل قادة جاؤوا لنا أو القائد أو أحد القضاة جاء قال المسألة كأنها مسألة الصحراء هي الموضوع الأساسي وتوثق الاتهام الأساسي لهذا يبين نقط الاتهام والخيانة الوطنية لدولة داخل المحكمة بشكل واضح واللي كان المحكمة تشتغل في هذا الاتجاه بتهمة الخيانة الوطنية.

محمد الأمين مشبال: الأيام الأولى من شهر أبريل 1977 تواصلت برسالة من ابنة أختي هدى أخبرتني فيها بوفاة عبد الحليم حافظ، خفق قلبي وأحسست بعيني تتسعان وأنا أتابع الكلمات بذهول ثبت وجهي في الحائط المقابل لي وكظمت ما تبقى في نفسي من الغبطة شعرت بالصدمة تكاد تأكلني، أدرت وجهي بيمنة ويسر وتمتمت كل ما هو جميل يسير نحو النهاية، مَن سيغني بعدك للحياة يا عندليب؟ وداعا يا ساحر الحياة والفن، وداعا يا مَن علمني كيف أحب. كانت القراءة وسيلة تخلصني من الملل وحلاً ينعش تفكيري لكن إدارة السجن منعتنا من قراءة الكتب ذات الطابع السياسي خصوصا الكتب التي تتجه الوجه الماركسية اللينينية، لذلك عمدنا إلى قراءة الروايات والكتب الأدبية والمجلة ذات الموضوعات المتنوعة في هذا الصيف وصلنا نبأ زيارة أنور السادات إلى إسرائيل، أحسست بمرارة تعتريني وسألت نفسي بامتعاض ما هو الثمن؟ لم نتفق مع مبادرة السادات، قد رأينا أن تسوية مصر لمشاكلها مع إسرائيل بمعزل عن سوريا والفلسطينيين سيضعف قدرة العرب على المواجهة. الشون جميلة بجبالها، ريح ريفية تطفح في كل ناحية من نواحيها، قمم عالية يتبعثر فوقها الثلج، هذا ما تراءى لي وأنا أطل من الطابق العلوي للسجن بعيني الساهمتين لم يكن سجن الشون مثل باقي السجون التي ضمتني من قبل، سجن صغير أشبه بمنزل في الأرياف نظيف وبارد لكنه دافئ بإحساس تراني وأنا أدخله مقيد اليدين، بلغ عددنا حوالي أربعين معتقلا وُزعنا في غرف ثلاث شاسعة المساحة، واصلنا إضرابنا عن الطعام في الشون رغم تشتيتنا المفاجئ وفي مساء يوم 17 من الإضراب فوجئنا بزيارة بن ذكري والفاكهاني وهما رفيقان من لجنة المفاوضات أخبرونا بأن وفدا برلمانيا اجتمع بالسرفاتي وطلب منه أن يتدخل ليقنع باقي الرفاق بتوقيف الإضراب عن الطعام لأن عواقبه الصحية ستكون وخيمة ولأنه لن يكون مجديا سياسيا، قَبِل السرفاتي العقد وكانت هذه المرة الوحيدة التي يتصرفوا فيها بحكمة وطلب من الوفد أن يجتمع بأعضاء لجنة المفاوضات وفعلا تمكن السرفاتي من إقناع أغلبية أعضاء لجنة المفاوضات موضحا لهم أن هذا الإضراب الجديد هو انتحار فقط، فقامت لجنة المفاوضات بإقناع الرفاق بضرورة توقيف الإضراب دون أن تعترف بخطأ تحليلها السياسي ومنطلقاتها لخوض غماره وبعد مناقشات صاخبة وافقت الأغلبية على قرار توقيف الإضراب أما الأقلية التي كنت من ضمنها فقد عارضت هذا القرار ورأت أن لجنة المفاوضات لم تأت بتحليل أو معطيات جديدة تستدعيه. في شهر أبريل من السنة نفسها جاء قرار وزارة العدل بإرجاعنا إلى السجن المركزي بالقميطرة أشعر بالغبطة عندما علمت بعودتنا إلى القميطرة كانت ألفتي بالشون غمرت إحساسي الحزين وبعثت فيه قليلا من الهدوء والسكينة كنت أرى فيها صور من تطوان وفي كل لحظة من لحظات الزمن المر أحس بنبضها العليل في عروقي الدفينة، سقط الليل فخيم الصمت القاتل على حي أليب ولجت زنزانتي تمددت فوق الفراش وتأملت بياض السقف شيئا أقوى مني كان يدفعني إلى التفكير والشرود. رحت أعيد شريط أحداث اليوم المرير الذي ودعت فيه عشرات الأصدقاء ضاقت بي الجدران وببياضها الذي مقتني بنظرات فاجرة فعبث بالسواد ورمى بي إلى المجهول شعرت بقطرات دموع تنزلق ببطء على خدي تتبعها أخرى حائرة تلمع تحت أشعة المصباح الشاحب ثم اجتاحتني نوبة بكاء حادة لم أعرفها من قبل رغم كل الظروف القاسية التي مررت بها منذ اليوم الأول لاعتقالي، بكيت ذات يوم على حظي السيئ في عفو سنة 1980 وها أنا ذا أبكي ثانية، كنت واعيا أن قطار الحرية لا يصفر إلا مرة واحدة كل أربع أو خمس سنوات ومَن فاته فعليه أن ينتظر ابتسم المدير في هدوء وتمتم بكلمات مضيئة هنيئا لكم لقد صدر في حقكم العفو الملكي، نظرت إلى رفاقي من حولي في ذهول، فتحت فمي شاردا وحاولت أن أقول شيئا لكني صمت،امتلكتني رغبة في أمور عديدة طالما انتظرت هذا اليوم بدم الشوق والصمت الجريح وانبعث من أعماقي صوت هائج صرخ في وجهي ماذا تنتظر؟ إذاً عانق أصدقاءك وامرح كالمجنون مثلما حلمت دائما فالحرية أجمل ما في هذه الحياة ودعت غرفتي وخطوت بثقلي في الممر يرافقني صدى حذائي اختلطت في ذهني صورة تطوان والعائلة والبحر وأنا أتمعن المكان بعين حرة فغمر نفسي إحساس حزين عبرت السيارة باب السجن الكبير ومازالت أنظر إلى بنائه المرتفع ابتعدت السيارة قليلا وكان السجن مازال يبدو كبيرا لكنه بدأ يصغر ثم يغيب حتى اختفى عن الأنظار وأنا في السجن كنت أحلم بالحرية وأن يبدأ الإنسان صفحة جديدة وأن يلحق بالزمن الهارب.

هبل هبل

سيد قطب


هُبلٌ… هُبلْ رمز السخافة و الدجل
من بعد ما اندثرت على أيدي الأباة
عادت إلينا اليوم في ثوب الطغاة
تتنشق البخورَ تحرقهُ أساطير النفاق
من قُيدت بالأسر في قيد الخنا والارتزاق
وثنٌ يقود جُموعهم … يا للخجل

هُبلٌ … هُبلْ


رمز السخافة والجهالة والدجل
لا تسألن يا صاحبي تلك الجموع
لِمن التعبدُ والمثوبة والخُضوع
دعْها فما هي غير خِرفان … القطيع
معبودُها صَنَمٌ يراه .. العمُّ سام
وتكفل الدولار كي يُضفي عليه الاحترام
وسعي القطيع غباوة … يا للبطل

هُبلٌ … هُبلْ
رمز الخيانة والجهالة والسخافة والدجل
هُتّافة التهريج ما ملوا الثناء
زعموا له ما ليس … عند الأنبياء
مَلَكٌ تجلبب بالضياء وجاء من كبد السماء
هو فاتحٌ .. هو عبقريٌ مُلهمُ
هو مُرسَلٌ .. هو علم و معلم
ومن الجهالة ما قَتَل

هُبلٌ … هُبلْ
رمزُ الخيانة والعمالة والدجل
صيغت له الأمجاد زائفة فصدقها الغبي
واستنكر الكذب الصّراح ورده الحرّ الأبي
لكنما الأحرار في هذا الزمان هُمُ القليل
فليدخلوا السجن الرهيب و يصبروا الصبر الجميل
ولْيَشهدوا أقسى رواية .. فلكل طاغية نهاية
ولكل مخلوق أجل … هُبلٌ .. هُبلْ
هُبلٌ .. هُبلْ

أدب السجون.. باب آخر للمقاومة من وراء القضبان

لماذا يصادر الاحتلال كتابات الأسرى؟

وليد الهودلي: الكتابة داخل السجون شكل من أشكال المقاومة

داوود فرج: أدب السجون يصنع عند الأجيال حالة رفض للاحتلال والتوق للحرية

الحدث- سوار عبد ربه

يظن المحتل أنه باعتقاله للمقاوم ينهي فعل المقاومة عنده، إلا أن الأسرى يظلون يبتكرون طرقا للمقاومة حتى داخل الحيز الصغير الذي يتواجدون فيه مرغمين، بالرغم من كافة الإجراءات التعسفية التي تمارسها مصلحة السجون الإسرائيلية، في محاولة منها لردع الأسير عن فعل المقاومة، وواحد من أشكال المقاومة التي يمارسها الأسير داخل سجنه هو توثيق التجربة، بالأعمال الأدبية التي تولد في عتمة الأقبية وخلف القضبان، تلك الأعمال التي تخرج من رحم المعاناة اليومية التي يعيشها الأسرى، والتي اصطلح على تسميتها بـ “أدب السجون”.

ومؤخرا، صادر الاحتلال الإسرائيلي، مخطوطة روائية للأسير باسم خندقجي المحكوم بثلاث مؤبدات، والتي كانت في مرحتلها النهائية تحضيرا لطباعتها، عقب مداهمة زنزانته والاعتداء عليه جسديا، الأمر الذي استنكره الاتحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيين في بيان طالبوا فيه باسترجاع مخطوطة الأسير الأديب باسم الخندقجي، وتأمين حرية الكتابة وحق التعبير للأسرى الفلسطينيين في معتقلات الاحتلال، كحق مسلم به، وضمان عدم التعدي على حرية الكتابة والإبداع داخل السجون.

وليس خندقجي حالة فردية، فمعظم من ذهب باتجاه كتابة عمل أدبي داخل سجون الاحتلال، يحكي فيه تجربته ورفاقه الأسرى، وظروف اعتقالهم، والحياة اليومية التي يعايشونها، تعرضوا لجملة من التضييقات أوضحها عراب أدب السجون الإسرائيلية وليد الهودلي في لقاء مع “صحيفة الحدث“، إذ قال الهودلي إن الجو العام داخل السجن، هو جو بطابع قمع وضغط نفسي، وبعيد جدا عن أن يكون مناسبا للكتابة، ناهيك عن الخوف الدائم من احتمالية قطع الطريق على الأسير ومصادرة ما أنهى كتابته، الأمر الذي يشكل كابوسا كبيرا بالنسبة للكاتب.

وبحسب الهودلي تجري مصادرة كتابات الأسرى أحيانا أثناء التفتيش الذي يصل إلى حد الملابس الداخلية للأسير، أو عند محاولة إخراج الأوراق من السجن للطباعة، وأحيانا قد لا يتوفر القلم والأوراق، وإن توفرت تكون بكميات قليلة، بالإضافة إلى التنقلات من سجن إلى آخر أو من غرفة إلى أخرى، ما يسبب للأسير نوعا من عدم الاستقرار والتوتر وهي عوامل تبقي الأسير بعيدا عن جو الكتابة والإبداع.

وبدأ الهودلي مشواره في الكتابة الإبداعية من داخل سجون الاحتلال انطلاقا من النشرات التوعوية حول قضايا السجن، ثم انتقل إلى الحوار الأدبي، فالقصة القصيرة، ثم مجموعة قصصية عن الأسرى المرضى، وصولا إلى رواية ستائر العتمة عام 2003 الصادرة عن المؤسسة الفلسطينية للإرشاد القومي وبيت الشعر، وقد لاقت الرواية قبولا كبيرا حتى أنها طبعت 11 مرة، وتم تحويلها إلى فيلم سينمائي، وروايات أخرى عن حكايا السجن والسجان.

وليد الهودلي

لماذا ظهر أدب السجون؟

يرى الأديب الهودلي أن الأسير يكتب كي يثبت ذاته الثورية، فالكتابة هنا ضرورة وشكل من أشكال المقاومة المستمرة، رغم الظروف القاسية والصعبة، كما أنها ضرورة من ضرورات الكيونية الفلسطينية الحرة، والمميز في أدب السجون أن فيه كل معاني الحرية والتوق لها وصدق المشاعر والمقاومة وكرامة الإنسان.

بينما يرى الأسير داوود فرج الذي انتزع حريته عام 1992 من معتقل الخيام الإسرائيلي في الجنوب اللبناني والذي وثق تجربة هروبه ورفيقه محمد عساف في رواية “على بوابة الوطن.. دهاليز الخيام”، أن هذا الأدب ظهر كوسيلة تعبير بالتجربة الحية المباشرة التي تعبر عن المشاعر الإنسانية التي يخوضها الأسير، بحيث يوثق تجربته بالأسر الناتجة عن القضية التي ينتمي لها.

داوود فرج

ويضيف فرج في لقاء مع “صحيفة الحدث“: يكتب الأسير أيضا ليظهر مدى أهمية القضية كشكل آخر من أشكال المقاومة، سيما وأن الهدف النفسي من الاعتقال هو تحطيم البنية المعنوية للأسير من أجل تغيير معتقداته ما يعرضه لشتى أنواع القهر والتعذيب، وعلى الأسير في هذه الحالة أن يظهر قوة وصلابة لمواجهة ممارسات السجان، وهذه العوامل كلها تدفع الأسير باتجاه التعبير عن قضيته وأفكاره كي تترسخ أكثر، وهنا تصبح الكتابة بابا آخر للمقاومة، في معادلة أوضحها فرج أن السجان يمارس العنف والإذلال والممارسات القمعية، معنويا وجسديا ونفسيا، والأسير يلتقط هذه المشاعر ليواجه آلة القمع، من خلال المعنى الذي يتلقاه من آلات التعذيب ليحوله إلى قضية إنسانية وفلسفية.

ويؤكد فرج أن المؤمنين بالقضايا النضالية يذهبون بتجاه الأدب والفلسفة وخلق نمط لحياة بديلة عن النمط القائم القمعي، وتصبح علاقات الأسير أكثر إنسانية بالتجربة الحية المباشرة.

وبالإضافة إلى ما سبق، قد يكون إلحاح الناس على معرفة خبايا السجن وكواليس التجربة، دافعا مهما للأسير لتوثيق تجربته، ففرج الذي ظل لسنوات طويلة يحكي قصة انتزاع الحرية في سهرات وندوات ولقاءات، ويرد على أسئلة الناس حول تفاصيل التفاصيل، أثار اهتمامه أن يبحث عمن يقوم بتدوين مشاعره وتجربته، لأنه لم يستسغ فكرة الكتابة عن نفسه، إلى أن التقى بالكاتبة أميرة الحسيني، التي كتبت رواية “على بوابة الوطن.. دهاليز الخيام”.

أهمية أدب السجون

وحول أهمية التوثيق يقول فرج مستدلا بتجربته الروائية، عندما كنت ألتقي بالناس، كانوا يسألونني عن تفاصيل تفاجئني، وكأنهم عاشوا التجربة معي، حتى أنني دعيت في إحدى المرات، بعد مرور زمن للحديث عن قصة الهروب، ولزيارة معتقل الخيام بعد التحرير عام 2000، وكان الناس يعرفون المكان وأحداثه من خلال الرواية، نتيجة الصورة الحقيقة التي نقلتها الرواية، والصدى الذي تركته، مبينا أن الرواية الحقيقية التي تعبر عن قصص حقيقية لها دلالات رمزية مهمة في كل الأجيال والمراحل، ومن المهم دائما إحياء التجربة، لأنها توثق الاحتلال وممارساته ومواقف المناضلين منه وما فعلوه ضده.

ويؤكد فرج أن التجربة عندما تحيا من خلال الأدب فهي تصنع عند الأجيال حالة رافضة للاحتلال وعدم القبول بالذل، والبحث الدائم عن الحرية المطلقة، مشددا على أن الحديث عن التجربة أو الكتابة عنها له عواقبه.

لماذا لا يحب المحتل أن يكتب الأسير تجربته؟

عطفا على ما سبق، يرى فرج أن الاحتلال لا يقبل بالفضيحة، وعندما يكتب الأسير ينكشف الاحتلال وتفضح ممارساته وصورته الحقيقية، ولذلك يحاول دائما أن يمارس قمعه على من يحاول الحديث عنه بطريقة لا تتناسب مع أهدافه، مستذكرا أيام اعتقاله، عندما كان يتحرر أحد الأسرى ويدلي بتصريحات إلى الإعلام كان المحتل يفرض عقوبات جماعية على الأسرى بهدف تخويفهم ومنعهم من الكلام مستقبلا، ما جعل من الأوضاع الصعبة في معتقل الخيام مغيبة، إلى حين عملية الهروب التي قام بها فرج ورفيقه عساف.

وفجر 6 أيلول 1992 نفذ المقاومون المعتقلون في معتقل الخيام داوود فرج ورفاقه الثلاثة عملية هروب من المعتقل، إلا أن واحدا منهم انفجر فيه لغم واستشهد، وآخر أصيب بجروح وأعيد اعتقاله،  في عملية صنفت على أنها من أجرأ عمليات المقاومة التي قام بها الأسرى.

يحظى باهتمام القارئ العربي

إن كتابات الأسرى التي خرجت من سجون الاحتلال لاقت تفاعلا كبيرا على الساحة الأدبية الفلسطينية والعربية وذلك لأن القارئ العربي عندما يرى رواية بأسلوب أدبي قوي، تضاف إلى الأدب العربي، وتحقق الإبداع الروائي، يقرأها من هذا الباب، إلى جانب العشق الداخلي لفلسطين التي لا تغيب عن قلوب الشعوب العربية، لذا نجد اهتماما كبيرا جدا في الرواية الفلسطينية خاصة أدب السجون، بحسب الكاتب وليد الهودلي.

ويرى الهودلي أن الكتابة في هذا الحقل، في تطور وتقدم كما ونوعا، إلا أنها ليست غنية بما يكفي ولا تتناسب مع عدد الأسرى في السجون وحجم مأساتهم.

 والعام الماضي (2021) كشفت إحصاءات هيئة شؤون الأسرى والمحررين الفلسطينيين، أن عدد حالات الاعتقال في صفوف الفلسطينيين منذ حرب النكسة بلغ نحو مليون حالة اعتقال.

وفي سؤال حول ما إذا كانت موهبة الكتابة مطلوبة لإنجاز العمل الأدبي، أم أن معاناة الأسرى في الزنازين تكفي لإنجاز العمل، قال الهودلي لـ”صحيفة الحدث“: “وجود الموهبة مهم جدا لكن إن لم تتوفر، يوجد ما هو أهم، كالتحدي والانتماء للقضية التي تشعر الأسير أنه يريد أن ينجز عمله لتحقيق نضاله من أجل قضيته، وهذه العوامل تؤدي لأن يكتب الأسير. 

ولا يعتبر أدب السجون مادة مثيرة للقراءة فقط، بل مادة دسمة للدراسة أيضا، يعنى بها طلبة الجامعات كمشاريع لأبحاثهم ورسائل الماجستير والدكتوراة، ففي لبنان على سبيل المثال لا الحصر، اختارت طالبة الدراسات العليا ساندي درويش، أدب السجون موضوعا لرسالتها، التي خلصت إلى أن هذا النوع الأدبي جاء ليكون وسيلة التعبير الأقوى عن الرفض للقمع وحبس الحريات، وأنه كان أسمى وأعظم الطرق التي استطاع الأدباء من خلالها أن يرووا أحداثا حصلت معهم في السجن، والعوامل النفسية التي فتكت فيهم، كما أن البحث في هذا النوع من الأدب يؤكد لنا أن الأدب يستطيع أن يطرق كل الأبواب حتى تلك المقفولة، وأن هذا النوع الأدبي ليس مجرد عاطفة وأحداث مأساوية إنما مليء بالبلاغة والاختزال والتركيز والتوازن والعمق والبساطة.

وفي حديثها مع “صحيفة الحدث“، قالت درويش إن عينة التجارب الأدبية للأسرى التي قامت بدراستها، تقاطعت في نفس مرارة الألم وصعوبته وشقائه، فجميع الأسرى في أعمالهم كتبوا عن الظلم والاستبداد نفسه، على الصعيدين الجسدي والنفسي، بالإضافة إلى النزعة الثورية الرافضة للخضوع إلى السلطة القمعية، والتوق إلى الحرية.

الأمر الذي أكده الأسير المحرر داوود فرج بقوله إن الأسرى في كافة سجون العالم يتشابهون كثيرا، لأن مضمون الأسر واحد، فهي قضية إنسان في وجه متغطرس، مع اختلاف الوقائع والظروف.

وحول سبب اختيار درويش لأدب السجون موضوعا لرسالتها أوضحت أن هناك عوامل شخصية وموضوعية، وذلك بهدف الغوص في نفوس هؤلاء المعتقلين وكيف تأثرت عقولهم ونفوسهم وكيف تبدلت شخصياتهم داخل السجن، من خلال معرفة القصص والمواقف التي حصلت معهم، وأيضا الاطلاع على الأسباب التي توقعهم في السجن، بالإضافة إلى رغبتها في الإضاءة على هذا العالم، من خلال استطلاع آراء بعض الأدباء الذين ذاقوا مرارة السجن ولمعرفة كيف تناول أدب السجون هذا الأمر وكيف استطاع أن يطرح هذه القضية.

قراءة في كتاب “عائد من المشرحة” لأحمد حو – عبد الرحيم مفكير

أحمد حو يعود من طاولة المشرحة ومخالب الموت، ليكشف بعضا من المستور عن مغرب الاعتقال وانتهاك حقوق الإنسان في مرحلة عصيبة من تاريخه، سنوات الجمر والرصاص. من حي الإعدام حيث كان يموت كل يوم، يطارده شبح المشنقة أو الطلقات النارية، نجا بقدرة إلهية، وتدرج في العقوبة من الإعدام مرورا إلى العفو الذي لم يطلبه، وألحت أمه التي واكبت أحداث الاعتقال وتعرضت هي ووالده لكل أشكال الاستفزاز والحيف، أن لا تخط أنامله رسالة العفو، لأنها بكل بساطة اعتراف بجريمة لم يقترفها أحمد الذي زج به في السجن، وهو في ريعان الشباب، ليأخذ منه زهرة عمره، 15 سنة (1983 /1998). لمجرد رفع لافتة تطالب بالعدالة الاجتماعية، وتخليدا لذكرى شهداء 81 م. ابن الشبيبة الإسلامية تأتيه الطعنة من قيادة التنظيم الذي انتمى إليه وهو يبحث عن الحقيقة حيث تدرج بين تنظيمات ذات مرجعية إسلامية، ليجد نفسه في حي الإعدام.

زيارة مفاجئة للموت:

في زوال يوم شديد الحر لمحتهم وهم يحملون “الحاج ثابت” إلى حتفه، كان من عادته كلما نودي عليه للزيارة يمشي بخيلاء وعنجهية، قاسي النظرة قوي الشكيمة لكن في يوم إعدامه كان يمشي على رجليه ويكاد يسقط رغم قوة بنيته. ولم يصدق كل ما قيل له عن أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد تنقيل روتيني، أحسست كأني أنا المساق إلى الموت لا أكاد أشم إلا رائحة الموت من حولي لم يعد بعد ذلك اليوم أمان، فقد أعدم يوم عطلة أسبوعية وهو يوم الأحد في واضحة النهار، وهو ما يعني أن الموت لم يعد زائرا منتظرا في الليل فقط، بل أيضا في عز النهار، ولم يعد الإعدام مختصا فقط بقاطني حي الإعدام بل فقط يكفي ان تكون محكوما بعقوبة الإعدام ولا يهم أي حي سجني تقطنه، وحتى في أوقات الراحة والعطل كانت الحركة تتوقف في أيام السبت والاحاد وفي العطل ومع سكون الحركة تهدأ النفوس، لكن بعد إعدام الحاج ثابت كل المعايير انقلبت، حتى مزاعم أن المغرب الذي لم يعد ينفذ عقوبة الإعدام، بعد سنة 1981م تبخرت، فعاد الموت يرفرف علينا بجوارحه بقوة وأكثر مما مضى، ليال وشهور قاسية مرت علينا بعد إعدام الكومسير المذكور، لم يعد للنوم أو للأكل طعم، فكل الآمال تبخرت وأصبح الموت قريبا منا بعد أن كان بعيدا عن حي الإعدام وعن المحكومين بالإعدام في أي سجن أو أي حي كانوا لأكثر من عقد من الزمن”.    هي أيام بلياليها خيم فيها شبح الموت على أحمد، وطيفه لم يفارقه، لا يمكن لعاقل أن يتخيل نفسية أحمد ومن معه، ممن انتظروا، حتى تمنى الواحد منهم إنهاء هذا الألم والكابوس المزعج بنزع الروح من جسد لم يعد يستنكر التعذيب لكثرة ما مورس عليه.

مسار ناج من الموت:

عائد من المشرحة لأحمد حو شهادة عن سنوات عجاف من تاريخ المغرب، سرد بكل عفوية ودون تكلف عن وقائع وتجربة وراء الشمس بآلامها وآمالها، حديث عن الطفولة والبحث عن الحقيقة والنضال السياسي، سيرة كشفت عن بعض البقع الكالحة، والقضايا الخفية والعصية عن التفكيك والتحليل، سيرة هي عصارة تجربة أليمة ستلقي به في مواجهة الموت الذي بقي كظله لا يفارقه طيلة أكثر من عقد من الزمن حيث أدين سنة 1984 بحكم الإعدام إثر تضامنه وثلة من رفاقه مع ما أسماها آنذاك وزير الداخلية ادريس البصري “انتفاضة شهداء الكوميرا”.

في “مقبرة الأحياء” أو “حي الإعدام”، كما يحلو لل”حو” أن يسميه، بدأت الرحلة الطويلة بعد الحكم عليه بالإعدام، الشاب أحمد الذي لم يتجاوز عمره ال 24 سنة، لما كان يمعن النظر في حي باء وفي ساكنته ويرى أن حي الموت هذا الذي يشبه الهلالية في تصميمه والذي يحتله صمت رهيب، كان دائما يحيره السؤال ماذا يصنع هنا؟ وهو الذي لم يسفك دما وجرمه الوحيد أنه كتب شعارات منددة بالنظام، يطيل النظر في المشرحة فلا يجد إلا جرائم الدم المشفوعة بالتشديد فمن قتل أكثر من اثنين أو قتل وأحرق الجثة أو قتل واغتصب.. إلخ.

جاور الموت وبقي في سجال جدلي معه، في كل حركة، مفتاح أو دبيب خطى حارس، وفي كل همسة وسكنة وفي دياجير الليل وفي واضحة النهار، ساحاته وزنازنه كأنها تنطق جهارا بكل الذين زاروه وسيقوا إلى ساحة السجن أو غابة المعمورة لينفذ فيهم الإعدام رميا بالرصاص.

عاشر قافلة من الشهداء والقتلة زارته من حدب وصوب، من مقاومين تظاهروا أيام الاستعمار في غشت1953م، ومن معارضين سياسيين وقوافل من الشهداء من أمثال عمر دهكون ورفاقه، وادريس الملياني وانقلابي قصر الصخيرات والطائرة الملكية كالملازم كويرة والكونولين محمد أعبابو، وذكريات مع مغتصبين للأطفال والنساء من شاكلة المتشوق والحاج ثابت، إنها بالجملة مشرحة لا تشم فيها إلا رائحة الموت الزؤوم.

أحمد قاوم الموت ولم ينهزم أمامه، كان مفروضا عليه أن يقارعه في موطنه، أن يحدق فيه بعينين حادتين، لدرجة أنه في كثير من الأحيان يستنجد بالموت لمقارعة الموت، ولذلك فلا غرابة إن كان يدخل في إضرابات مميتة لدرجة أن الأطباء المتابعين لوضعه الصحي لم يترددوا ذات مرة في الإعلان عن موته، وتسجيل شهادة وفاة له يقينا منهم أنه من المستحيل أن يعود للحياة، وكان الهجوم على الموت في عقر داره هو الذي بمنحه في كثير من الآحايين تحدي الموت والهروب من مخالبه.

أحمد المتعدد:

لا يمكنك لك أن تسجن أحمد في زاوية ضيقة بالرغم من انتسابه مبكرا للحركة الإسلامية، وتدرجه في البحث عن الحقيقة من البوتشيشية مرورا بجماعة التبليغ والشبيبة الإسلامية وانتهاء بالحركة من أجل الأمة، فالرجل عصي عن التصنيف، إنه المتعدد في الواحد، لأنه جعل من الدفاع عن حقوق الإنسان وكرامته عقديته، الذي لا تميز بين الخلائق بالنظر إلى انتماءاتهم، وإنما من منطلق آدميتهم.

ومن هنا جاءت سيرته/مذكراته “عائد من المشرحة” محاكمة لشخوص وأحداث سنوات الرصاص وما ترتب عنها فيما بعد، شملت مختلف الطيف السياسي للتيار الإسلامي ومكونات اليسار خصوصا منه الراديكالي، وقد لامس تجربته من منظوره قضايا ساخنة، وفي كثير من الأحيان صادمة طلوعا وهبوطا، وأصعبها والتي ما زال الغموض يحوم حولها قضية اغتيال الزعيم الاتحادي عمر بن جلون، الذي ما زال طيفه يراود أبناء حركة الشبيبة الإسلامية، ليؤكد ولأول مرة أن أحد المتورطين، وقد عاشوا معه في زنازن الإعدام سنين عديدة، أنهم في ليلة ما قبل ارتكاب جريمة الاغتيال، اجتمع معهم عبد الكريم مطيع رئيس جمعية الشبيبة الإسلامية. وأمرهم بقوله: اقتلوه ولا تفلتوه“. شهادة صادمة قد تميط اللثام على حقائق كثيرة.

كما تطرق” عائد من المشرحة”، إلى حركات إسلامية مغربية شغلت الساحة الوطنية وماتزال من قبيل حركة الشبيبة الإسلامية والعدل والإحسان وجمعية الجماعة الإسلامية حركة التوحيد والإصلاح حاليا، واستفاض في ذكر عبد الإله بن كيران وموقفه منه، وتحدث عن اليسار خصوصا منه الراديكالي في شقيه “23 مارس” و” إلى الامام” والمرتبط أساسا بتجربة الاعتقال، وذكر  شخوصا وأحداثا عاينها أحمد خلال تجربته المريرة سواء في فترة اعتقاله أو بعد الافراج عنه من تلك الشخوص الناجون من تازمامارت، محنة الفقيه الزيتوني، إعدام الكومسير ثابت، نفي المعارض اليساري ابراهام السرفاتي.

وماذا بعد:

” هرمنا وتعبنا وكدنا أن نموت … من أجل هذه اللحظة”

إنه يوم 5 شتنبر 2016 م افتتاح مقبرة ضحايا أحداث البيضاء 1981 م كان حدثا استثنائيا بالنسبة لأحمد فبعد 33 سنة من اعتقاله بسبب تعليق لافتات، وكتابة شعارات، احتجاجا على العنف والقتل الهمجي الذي صاحب الاحداث، ها هي قبور الذين قتلوا بغير حق ودفنوا في مقابر جماعية في جنح الليل، يتم تكريمهم وأصبح بإمكان المعذبين وعائلاتهم تأبينهم والترحم عليهم، ولم تعد قبورهم مجهولة. وتوجت مجهودات صاحب ” عائد من المشرحة” بتأسيس الهيئة المستقلة للتعويض وهيئة الانصاف والمصالحة، والمشاركة في تأسيس جمعية ضحايا سنوات الرصاص المنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف، وتم الوقوف أمام أبشع السجون السرية من بينها تازمامارت ودرب مولاي الشريف، الذي سامه جلادوه فيه سوء العذاب، وتابع أحمد عن قرب المفاوضات الممهدة لتأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة، والاشتغال بالمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان ونسخته المعدلة المجلس الوطني لحقوق الإنسان.

ينتظر أحمد العدالة الإلهية ليس من أجل التلذذ بآلام الآخرين حتى ولو كانوا من الجلادين الذين أذاقوا المعتقلين أنواعا من التعذيب والتنكيل، لأن نفوسهم الأبية لن تكون مصاصة للدماء وتحن لصنوف من الانتقام، فيكفيهم أن يعتذروا ويتخلوا عن مناصبهم السامية.

قبل القراءة:

لا بد قبل أن تقٍرأ الكتاب، ف”عائد من المشرحة ” كتاب جاء في سياق الكشف عن الحقيقة ونفض الغبار عن محطة تاريخية مؤلمة، تضمنت صورا ووقائع لم يطلع عليها الكثير من المغاربة، وتكتسي هذه المذكرة أهمية كبيرة بإمكانها أن تقطع مع مرحلة الحيف والظلم وتؤسس لمغرب العدالة والمساواة وحرية التعبير والديمقراطية، تأتي المذكرة في وقت تطالب فيه هيئات بإلغاء عقوبة الإعدام، وتحقيق المصالحة الوطنية والقطع مع الاستبداد. وتشد القارئ ل” عائد من المشرحة” صفحة الغلاف “الحمامة” التي تحلق عاليا وهي تحمل حبل المشنقة وتحاول إخراجه من سجن ظالم مظلم، توخيا للانعتاق والحرية وكسر قيود الظلم.

ولن تغني هذه الأسطر عن قراءة ” عائد من المشرحة” لأحمد حو عن دار الوطن والذي قدم له عبد النبي الشراط، والمحجوب الهيبة، ومحمد السكتاوي ويقع في 233 صفحة وتضمن مقدمة، وعشرة فصول الأول عنونه ب: قبل الاعتقال، الثاني: بدأ حملة الاعتقال، الثالث: الاستضافة وإكرام الوفادة بدار الحجاج، الرابع: الانتقال إلى مقبرة مقاومة كريان سنطرال، الخامس: محاكمة مجموعة 71، السادس: الرحلة نحو ألكاتراز المغرب، السابع: الانتقال إلى سجن عكاشة، الثامن: وأخيرا انفتح الباب الكبير للسجن، التاسع: عود على بدء، العاشر: وماذا بعد؟ كما ختمه بأربع ملاحق وصور شاهدة على مساره.

يشار إلى أن أحمد حو من مواليد المحمدية سنة 1959 م قضى أزيد من 15 سنة بداخل السجن باعتباره معتقلا سياسيا محكوم بالإعدام.

حصل على الاجازة في القانون الخاص عمل صحفيا بجريدة النبأ مختصا بحقوق الانسان، التحق بعد ذلك للعمل بالمجلس الاستشاري لحقوق الانسان، كلف بمعالجة الشكايات ثم مسؤولا عن تدبير الشؤون اللوجيستيكية، ومكلف بمهمة لدى الأمانة العامة للمجلس.

أحد مؤسسي المنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف وعضو مكتبه التنفيذي.

عمل على بلورة تصور هيئة الانصاف والمصالحة المختصة بجبر أضرار سنوات الرصاص واشتغل بها، وهو أيضا أحد مؤسسي منتدى الكرامة لحقوق الإنسان، وناشط حقوقي ينتمي إلى منظمة العفو الدولية وينشط في مجال مناهضة عقوبة الإعدام.

24 يونيو، 2021

في الذكرى العاشرة لرحيله: قدور اليوسفي واعتقال والدي الحاج الجيلالي لعماري بقلم عبد الله لعماري

الحلقة الثالثة

اعتقال والدي الحاج الجيلالي بأمر من قدور اليوسفي.

الطريقة التي دخل بها البوليس إلى منزلنا، والشرر الذي كان متطايرا من عيونهم ومن كلماتهم الغاضبة، وإصرارهم في أمر الوالد، أن يستقدمني عندهم في صباح الغد، كما بلغتني وقائعه عبر العائلة، فهمت معه أن القوم قد اكتشفوا أمري وكل مايتعلق بي.

وفهمت معه أن البحث عني سيشتد، وأن علي أن أختفي، لأنهم لو وقعت في أيديهم فإنهم سينتقمون على ماسبق مني من تضليل لهم، وعلى ماتسببت لهم فيه من إحراج وتأنيب من كبارهم، ثم إن التحقيق سيكون هذه المرة أشرس مما كان من قبل، وأن كلمة لاأعرف التي كنت أصرفها لهم فيما سبق من جولات ، لن تصبح مجدية، وأن ضريبة الصمود والتحمل ستكون غالية.

فكرت أن أتسلل إلى منزلنا بعد أن يكون الليل قد أطبق بسدوله، وتكون الحركة قد انهمدت في الأزقة، لأحمل بعض أغراضي وبطاقتي الوطنية التي كنت قد نسيتها.

وفي الثالثة صباحا، أرسلت من أصدقائي من يمشط لي المحيط كي يعطيني إشارة التحرك والتسلل الحذر، حتى لا أوقظ أحدا، ولكن وياليتني لم أعد، فقد كان الوالد رحمه الله صاحيا، لم يغمض له جفن من هول ماكان يترقبه في صباح الغد مما استشعره من بأس مرتقب من البوليس.

فهم رغبتي في الإختفاء والهروب، فأقسم علي أن لا أغادر وأن أسلم نفسي للبوليس في الصباح، وحاولت أن أشرح له أن الأمر جلل، وضخمت له كذبا بعض الأسباب الخطيرة لكي يتركني،وأنهم يبحثون عن السلاح، لكنني ليتني لم أفعل، فقد ارتاع المسكين لما سمع وأمسك بخناقي وهو يقول: أنت متورط في هذه الأمور الخطيرة وتريدني أن أتورط معك، ولما حاولت الخروج من الباب والتملص من قبضته، ارتفع صراخه حتى يرغمني على البقاء، وفي هدأة الليل كان الأمر محرجا جدا وفاضحا جدا، لما بدأت نوافذ بيوت الجيران تنفتح، والأضواء تشتعل، وتدخل الأصدقاء بصعوبة لافتكاكي من قبضته، بالرجاء والمناشدة.

كان تصرف الوالد نابعا من رؤيته للأمور بعيون سنوات الخمسينيات زمن جبروت الاستعمار البغيض، وكان قد اعتقل وعذب بشدة من طرف جلاوزة الإستعمار لمشاركته في العمل الفدائي الوطني، ولأن كتابه القرآني الذي كان يدرس فيه الأطفال بكاريان سنطرال، كان معبرا للسلاح بين الفدائيين، فانكشف أمره.

ثم إنه كان يرى الأمور بعيون سنوات الستينيات والسبعينيات،في مغرب الاستقلال، وما وقع للاتحاديين وعائلاتهم، خاصة وأننا في حي البرنوصي، كنا مجاورين لعائلة دهكون عمر وبعض رفاقه من الثوار الاتحاديين الذين شاعت الأخبار في البرنوصي بما وقع لهم في دار المقري ومعتقل الكوربيس بماتشيب من أهواله الولدان .

لذلك كان مسكونا برهاب شديد، في الوقت الذي كنت أهون فيه مما قد يقع، ومطمئنا إلى أن الوالد لن يتعرض لشيء بسببي، وأن سنوات الستينيات والسبعينيات ليست هي الثمانينيات، وأن بطش الأمس كان يتعلق بتنظيمات إتحادية مسلحة، أما تنظيماتنا نحن فهي مجرد عمل حركي دعوي وسياسي حتى.

مع الثامنة صباحا حل أصحابنا الأمنيون ببيتنا، فحكى لهم الوالد ماوقع، لكنهم لم يتركوه، وشددوا عليه أن يرشدهم إلى بيوت رفاقي ، ولكنه إمتنع بإباء شديد، متظاهرا بأنه لايعرف رفاقي، وفي الحقيقة فإنه كان يعرفهم جد المعرفة، ولكنه احتاط أن يؤدي ذلك إلى وقوع كوارث غير منتظرة، وعندها أمروه بأن يرافقهم ليرشدهم إلى منازل كل أقاربنا في الدار البيضاء، وهكذا أمضوا معه يوما كاملا يجوبون أحياء المدينة، حتى أرشدهم إلى مايقارب عشرين منزلا من منازل أقاربنا، كلما حلوا بمنزل تركوا هاتفهم لأقاربنا محذرين إياهم ومهددين إذا مازارهم عبدالله ولم يخبروا عنه.

كان الوالد يسألهم عن سر هذا الإهتمام الكبير بإبنه، فيخبرونه بأن إبنه رجل خطير.

حينما إنتهت مهمتم في المساء، وانتظر الوالد أن يعيدوه إلى بيته، زجوا به في كوميسارية لمعاريف، بأمر من قدور اليوسفي، الذي كان يرى أن اعتقال والدي سيعجل بعودتي إليهم وتسليم نفسي لهم.

وهكذا وجد الرجل الوطني الفدائي الذي ذاق الاعتقال أيام الإستعمار ، الفقيه البسيط، الذي يقضي يومه في تعليم الأطفال، وليله بين أبناءه الصغار، وجد نفسه يبيت أول ليلة له من عمره في مغرب الإستقلال في كوميسارية لمعاريف، دون ذنب إقترفه سوى أنه والد ناشط إسلامي مبحوث عنه. بالرغم من أنه ليس متفقا معه ولاراضيا على نشاطه.

الحاج الجيلالي لعماري في جحيم كوميسارية لمعاريف، وكرامة تحول الجحيم إلى نعيم.

بعد يوم مضن من التطواف طولا وعرضا في مدينة الدارالبيضاء رفقة البوليس، والكشف لهم عن كل أقاربنا، جيء بالوالد رحمة الله عليه، ورمي به في واحد من عنابر لمعاريف، لم يرحموا شيبته، ولابساطته، ولا سابقته الفدائية، ولم يشفع له ماظل يحكي لهم طوال النهار وهو برفقتهم في سيارتهم، من أنه غير راض عن ابنه فيما سار فيه، ولا ماعرضه عليهم من آراء وطنية، كان المسكين مبرزا فيها، و معروف أنه كان يخطب بها في التجمعات السياسية لحزب الإستقلال.

ألقوا به في لجة الإعتقال وهم غير راضين على ذلك، ويتأسفون، ولكنهم ينفذون تعليمات الرأس الكبير قدور اليوسفي، الرجل الذي كان يشرف على كل قضايا السياسيين، من مجموعات يسارية وإسلاميه،وكانت له فنونه الرهيبة وأساليبه، ومنها هذا الضغط على الإبن باعتقال والده.

كان الوالد، لما رمي به في عنبر من عنابر لمعاريف المكتظة بعشرات موقوفي الجرائم العادية، كان مرعوبا مكروبا من هول مايتصوره أنه قادم، فقد كان سياسيا من حزب الإستقلال، ووعيه الشقي يوجعه الآن مما سمع به الكثير عن مغرب الإستقلال في بدايته وما كان يقع في كوميسارية الستيام، وماوقع خلال 1963، وماوقع سنة 1973، كان خائفا ممايتوقعه إلى الدرجة التي لم يكثرت معها بالإككتظاظ وتزاحم الأجساد، الذي لو رميت معه بإبرة فلن تنزل إلى الأرض.

كانت لمعاريف جحيما لايطاق، من الخوف، وقد سارت بذكره الركبان في ربوع البلاد، والجوع، فلم يكن مسموحا بإدخال مايؤكل، وليس هناك سوى خبز شبه يابس لو كان أحدهم محظوظا وفاز به، والبرد، فلم يكن هناك سوى الإسفلت العاري.

ثم جاء الفرج الإلهي، فقد كان الوالد رحمه الله رجل القرأن يتلوه سرا وجهرا وعلى كل أحواله، لا تراه على الدوام سوى محركا به شفتيه.

وفيما هو بالكاد يتحسس مكانا يقتعده بين المعتقلين، لاذ بقراءة القرأن كما هي عادته، فهرع إليه هؤلاء المعتقلون يسألونه عن سر وجوده في لمعاريف وهو الفقيه المحترم، فأخبرهم القصة كاملة وأنه والد المعتقل الإسلامي الهارب عبدالله لعماري، والحال أن قصتي كانت قد أصبحت معروفة بين عنابر لمعاريف، لسبق مروري من دهاليزها.

وقيض الفرج الإلهي أن كان في ذلك العنبر، رجل كان بمثابة الأمير المحظوظ في كوميسارية لمعاريف كلها.

إنه الفقيه الصمدي رحمه الله، خطيب الجمعة الشهير ذائع الصيت بمسجد حي لالة مريم، سنوات السبعينيات والثمانينيات، والذي كانت جماهير جمعته هي الأكثر احتشادا على الإطلاق، لكونه كان له اللسان السياسي الأكثر سلاطة و الألذع تهجما على الأوضاع.

جيء بالوالد إليه فعانقه وأفسح له مكانا واسعا بجانبه، وأفرش له من جلابيبه وألبسه سلهامه، وقد كانت قصتي لديه معروفة، وأزال عن والدي مابه من خوف، وما اعتراه من حزن.

وللفقيه الصمدي بكوميسارية لمعاريف قصة عجيبة، فقد زج به في لمعاريف في حملة الإعتقالات التي شملت قياديي الشبيبة الإسلامية وكذا الجماعة الإسلامية، ولم تكن له أي علاقة مع أي من تنظيمات الحركة الإسلامية، ولكن تم إقحامه في الإعتقال لتأديبه حتى يخفف من تهجماته على الأوضاع.

وكان أن جاءت بصدده توصية من جهة عليا للعناية به والسماح لعائلته بإدخال قفة المأكولات والحاجيات إليه، غير أنه ومن عجائب وغرائب مايحدث في الدنيا، ولما كانت التوصية عالية جدا جدا ونافذة جدا جدا، فقد نفذها مسؤولو لمعاريف حرفيا بشكل واسع جدا جدا، فما الذي حصل؟

سمع أغنياء الدار البيضاء من محبي الصمدي بشأن هذا السماح بالقفة، فتنافسوا بينهم على جلب الأطعمة الباذخة والكثيرة، فكانت تدخل للفقيه الصمدي في اليوم عشرات القفف، وحده دون غيره من المعتقلين، فيقتسمها مع الحراس ومع كل المعتقلين، ويبقي له ولوالدي نصيبا وافرا ورفيعا، حتى إن الوالد لقد أخبرني تعجبا أن الأطعمة والحلويات التي رآها في لمعاريف لم ير أرفع منها ولا أبذخ منها من قبل.

وهكذ عاش الوالد في رعاية الصمدي وباقي المعتقلين أياما سعيدة وهانئة، طعاما وافرا وفراشا وثيرا من جلابيب الفقيه الصمدي ومكانا واسعا باحترام وإيثار المعتقلين، وعشرات الختمات القرآنية مع رفيقه، وأجواء غنية بالمناقشات المفيدة في علوم الدين والواقع، وحافلة بالتسرية عن النفس بالمرح والمؤانسة، وقد كان الصمدي رحمه الله صاحب طرافة ودعابة.

ولله في مشيئته شؤون ، فقد تحول الجحيم الذي رمي فيه الوالد إلى نعيم من الساعة الأولى التي حل فيها بمعتقل لمعاريف.

الوالد الحاج الجيلالي في كوميسارية لمعاريف، بين المرحوم العمراني وبين بنكيران.

مكث الوالد رحمه الله فترة في الإعتقال، بسبب أن المرحوم العمراني كان مصرا على الإنكار والإخفاء بشهامة الأبطال، مقابل وفائي بالعهد معه على إنكاري العلاقة التنظيمية معه، وقد كانت في خطورتها بمكان، لأنها كانت في أعلى سدة القيادة لتنظيم سري.

بينما كان بنكيران متماديا في الكشف، ومتعاونا مع الجهات المعنية في تحديد معالم خارطة التنظيم الحركي الإسلامي، والذي كانت تكتنفه السرية بقطبيه، القطب الأكبر: الجماعة الإسلامية، و الأصغر ممثلا في الإخوة الذين بقوا على ولائهم لمطيع واستمرارهم في الشبيبة الإسلامية، على أساس التوجه الجديد وهو خوض تجربة الكفاح المسلح لإسقاط النظام السياسي، وهو وهم كبير كان يزرعه مطيع في عقول الشباب، وكذبة كبيرة مبنية على مسرحية سينيمائية استدراجية للشباب لتوريطهم في محرقة، كانت لها أهداف خبيثة مأجورة دولية ومحلية، ولم يفطن بها الشباب إلا بعد لأي، وحتى وجدوا أنفسهم في السجون في زنازن أحياء الإعدام وعنابر السجن المؤبد، ووجد البعض نفسه في المقابر مغدورا، قد ذهب بمظلمته نحو ربه، ووجدت عائلات هؤلاء الشباب نفسها في نفق مأتم دائم مديد عبر السنين الطويلة، قد باعت معه كل ماتملك، وانغمرت في أوحال الفقر المدقع، بينما اغتنى تجار الحروب الوهمية، وسماسرة الأنظمة وأجهزتها، ووجدت نفسها هاته العائلات تسقط قتلى وهلكى حصائد الأمراض الفتاكة، تسقط ثكلى وحرضا في طريق الحسرات والعذابات، تسقط كمدا على الغدر بأبناءها والنصب عليهم والتغرير بهم، بينما الغادرون النصابون يمرحون ويسرحون قد انتفخت رقابهم وأوداجهم من سمن وشحم العلف المشبوه الحرام الذليل ، وتهدلت بطونهم من أكل السحت الحقير. .

وهذا موضوع طويل عريض.

المهم أن الوالد رحمه الله مكث فترة في المعتقل، وقد تناساه من زج به في هذه الظلمات، والتي حولها له الله الحي المغيث إلى أنوار وضياء وفيوضات، بسبب شهامة المغاربة الذين ولو كانوا من عتاة المجرمين فإنهم يعزون أهل القرآن، وبسبب عناية الفقيه الصمدي رحمه الله.

ولم يفطنوا له ويفرجوا عنه، حتى قرر كبير الأمنيين قدور اليوسفي بأمر من إدريس البصري، قرروا نقل المعتقلين الإسلاميين من لمعاريف إلى المعتقل السري درب مولاي الشريف، ليخضعوهم للطقوس التقليدية التي عاشها من سبقوهم من معارضين سياسيين من مناضلين اتحاديين ومناضلين يساريين وماركسسين لينينين، حتى يعلم ويتعلم من لايعلم من الإسلاميين، أن المعارضة السياسية ليست حبلا على الغارب، وليست سبيلا هملا سائبا عفو الأحلام أو الأوهام والشعارات، وإنما هي مضمار وعر وموحش مشمول بالضريبة القاصمة للظهر، وقد ألف الإسلاميون من قبل، واستمرؤوا ولعشر سنوات خلت، أنهم تركوا دون حسيب ولا رقيب، يتحدثون ملء أفواههم، كما يحلو لهم، كيفما شاؤوا وعما شاؤوا ومتى شاؤوا.

في الوقت الذي كان البوليس قد اصطحب معه الوالد، إعتقدت في البداية أنهم لن يبقوه عندهم، وإذا حصل فإنما هي ليلة أو ليلتين، فالمغرب ليس هو مصر عبدالناصر، وليس هو سوريا حافظ أسد، وليس هو عراق صدام، وليس هو جزائر بومدين، وليس هو ليبيا القذافي، ثم إن هناك مرحلة كنا نعد لها للخروج من عتمة السرية والإندماج في النسيج السياسي العام، كما فعل الحزب الشيوعي المحظور فأصبح حزب التقدم والإشتراكية، وكما أنهى الاتحاديون حالة التوتر مع النظام بتأسيس الإتحاد الإشتراكي، وكما عاد معارضو منظمة 23 مارس من المنفى سنة 1980 وأسسوا منظمة العمل الديموقراطي الشعبي.

كنت مطمئنا، لذلك رحت أتحرك في الميدان لأشغل الفراغ الذي تركه إعتقال العناصر القيادية، ولأجيب عما يطرح من تساؤلات حول خلفية هذه الحملة المفاجئة، لأجيب بما كان له دور في رفع حالة الإضطراب والإرتباك، سيما وأنني قادم من قلب المعركة ومن صلب الحدث.

ثم إنه ليس في ثقافتنا وارد تسليم أنفسنا، فقد كنا نعتقد أن تسليم المناضل نفسه هو من قبيل الإستسلام و الإنهزام، وهو مالاينبغي أن يكون.

لكن ولما طالت المدة أكثر من ليلتين، بدأ روعي يمور بغضب شديد، وفكرت في أن أتدارك الأمر وأواجه المصير بشجاعة وأنقذ الوالد من هذه الورطة، لولا أنه رحمه الله أرسل إشارة مشددة من معتقله، يوصي بصرامة أن لا أسلمهم نفسي، ويطمئن على أحواله التي هي على أحسن مايرام كما جاء في توصيته، كان خائفا على إبنه حتى وهو في قلب الخوف، كبد الآباء على الأبناء حتى ولو كان هذا الكبد مفطورا.

كان الوالد رحمه الله يدرس الأطفال منذ عهد الإستعمار في البادية وفي الدارالبيضاء في كاريان سنطرال وما حواليه، فوجد من تلاميذه من أصبح ضابطا ومن أصبح عميدا ومن أصبح حارس أمن، وكان المعلم في ذلك الزمن لايزال يحظى بحب وتعلق وتقدير تلاميذه، لذلك وجد الوالد من يقدم له الخدمات في هذه الظروف الحالكة دون أن يكشف لأي كان عن وسطاءه.

من دروس السّجن-الدكتور خميس الماجري

لستُ ممّن يشاهد المسلسلات لأنّها تسلسلك عن طاعة الله عز وجل، غير أنّه ـ بحكم المعتقل ـ شاهدت بعض حلقات مسلسل ارطغرل في السجن بعد ( الخورة ) سنة 2019، ومنها الحلقة التي قَتَل فيها أرطغرل من يُسمّى الامير سعد الدين كوبيك.

والذي لفت انتباهي أنّ فرحة عارمة صاحبت لحظة القتل، حيث اهتز لها كلّ سجناء الغرفة التي كنتُ فيها ذات السبعين سجينا، لا بل اهتزّ لها كامل جناح السجن، الذي فيه 3 او 4 غرف، وقد أُنسيتُ عددها بالضبط ورقم الجناح…

والله لقد صاحب لحظة القتل مع اهتزاز المساجين ضجّة ضخمة كأنه زلزال عظيم قد حصل…تماما كما يحصل في مدارج كرة القدم عندما يقع تسجيل هدف…

دروس الحادثة:

1) ليس كل المساجين (مجرمين).

2 ) كم من سجين مظلوم.

3) كم من سجين هو ضحية خيارات وقوانين فاسدة.

4) حتى ولو كان السجين (مجرما)، فلا يزال الخير فيه، وما على الدعاة إلاّ أن يزيلوا غبار الإجرام.

5) أنّه لا توجد عدالة في البلاد، فالسجون ملآى بالشباب الذين تعاطوا المخدّرات…بينما كبار المتعاطين والمروّجين لتلك السّموم يخشاهم القضاة، وتفرّ منهم ما يسمّى العدالة…

6) أنّ المساجين لهم مخزون لا يقدّر ولا يوصَف من براكين الغضب والانتقام على الظّلم والظّالمين…

7) أنّه مهما يفعل الطغاة لإفساد الناس، فإنّ الله سيهزمهم، بسنن كثيرة وجنود لا نراها، منها شدّة قوة الفطرة الأصيلة الطيبة التي فطر الله الناس عليها…

وكم كان الناس – وخاصة منهم صغار السن – في فرحة لانتهاء مدة سجني في سجن مدينة بنزرت ( شمال تونس )، ونُقلتي إلى سجن المرناقية بغرب شمال تونس العاصمة؛ وأيضا كم كانوا في حزن شديد لفراقي لهم… وكانوا يقولون ( ستخرج نوارة الغرفة وسنبقى في ظلام دامس حالك )… ولا أذكر لكم الهدايا الكثيرة التي ألزموني بها، بالرغم من الضغوطات عليهم من إدارة السجن أن لا يتصلوا ولا يكلموني ولا يأكلون معي ولا ولا ولا …

ما أخيب السّجن، وما أشدّه في الصّيف على المساجين…

اللهم ربّنا فرّج على كلّ سجين مظلوم…

حتّى قال لي أحدهم بعد مشاهدته للحظات فراقي لأولئك الشّباب: يا شيخ لقد انتصرتَ بحبّ هؤلاء الشباب لك ولم تنفع تحذيرات إدارات السجن لهم …

شباب بالعشرات بعضهم تعاطى قليلا من المخدّرات، وأكثرهم وهذا المؤلم جدّا: أنّهم يرتكبون بعض ( الجرائم ) البسيطة جدّا، ليقضوا مدّة الشّتاء في السّجن لسبب فقرهم… حيث يجدون المأوى والأكل والدّفء…