وسرقوا بيتي
هل فهمتم من العنوان أنهم سرقوا بعض محتويات بيتي، أو أنهم سرقوا بيتي كله واغتصبوه! كلا الفهمين صحيح. فمرّة فعلوا هذا، ومرة فعلوا هذا. ولا يخفى عليكم من هؤلاء الذين سرقوا؟ إنهم هم، وليس غيرهم!.
في شهر آذار من عام 1973 كان عملي قد استقرّ مهندساً في مؤسسة المشاريع الكبرى –مديرية صوامع الحبوب- موقع حلب، فجاء قرار بنقلي إلى الرقة لأكون مسؤولاً عن موقع الصوامع هناك، الذي هو في طور التأسيس.
وفي الأيام الأخيرة من الشهر المذكور التحقت بعملي هناك، ونقلت معي زوجتي وطفلتي ذات الأشهر الثلاثة. وحتى لا يبقى بيتي فارغاً، أعطيت مفتاحه لأحد فتية الحي، من روّاد المسجد، حتى يتردّد على البيت، أو يستخدمه في تحضير دروسه المدرسية…
وما هي إلا أيام، حتى بدأت الاعتقالات بمناسبة الاحتجاجات الشعبية على دستور حافظ أسد. ولم يكن أمام الجماهير المحتجّة إلا وسائل بسيطة، وطرق ضيّقة، للتعبير عن احتجاجها. فقام بعض الشباب بكتابة شعارات على جدران الشوارع تندّد بذلك الدستور، مثل: “لا، للدستور الظالم”. وألقي القبض على أحدهم، وتحت التعذيب اعترف على بعض من له به علاقة، وبعض هؤلاء اعترفوا على علاقة بي، ليس في شأن تلك الكتابات، ولكن بشأن التنظيم في جماعة الإخوان المسلمين!.
جاءت دورية مخابرات لاعتقالي، لكني كنت –كما ذكرت آنفاً- قد انتقلت إلى الرقة، وكان في البيت الفتى الذي سلَّمته مفتاح البيت، وبعض أصدقائه، وأستاذ لهم يعطيهم درساً خاصاً في مادة اللغة العربية.
وحتى لا تعود الدورية خائبة، فقد اعتقلت كلَّ من في البيت، وسكنت البيت نفسه، وجعلته مصيدة، تعتقل كلَّ من يطرق بابه!. واستمرَّت على ذلك أسبوعين أو يزيد.
وعلى إثر مجيء الدورية إلى بيتي شُكِّلت دورية أخرى فسافرت إلى الرقة، واعتقلتني هناك.
بعد مضيِّ نحو ثلاثة أشهر، سمحت إدارة فرع مخابرات حلب، حيث كنت معتقلاً، بأن تزورني والدتي. وفي الزيارة أخبرتني، أنَّ عناصر المخابرات الذين احتلوا البيت مدة أسبوعين سرقوا منه ما خفَّ حمله، وغلا ثمنه، ومن جملة ذلك بعض القطع الذهبية، وبدلة جديدة لي، لم أكن لبستها إلا مرة واحدة، وأشياء أخرى.
شكوتُ إلى المحقق ما فعلته الدورية، فنفى أن يكون عناصرها قد سرقوا شيئاً، وقدّم دفاعاً قوياً عنهم. قال: وماذا يفعلون بالذهب؟! وما يفعلون بالبدلة؟! وماذا يستفيدون من تلك المسروقات؟!! وانتهى التحقيق.
* * *
وفي صيف عام 1980 جاءت دورية لاعتقالي من بيتي. ولم أكن فيه! فتواريت عن الأنظار، ثمَّ تمكنت من الخروج من سورية. وبقي البيت مغلقاً، إلى أن وَضَعَ مساعد في المخابرات العسكرية يده على البيت فاحتلّه، وسكنه “مفروشاً” هو وأسرته الكريمة!.
لم يكن هناك أمرٌ بمصادرة البيت. ولكن متى كانت العصابات تنتظر الأوامر؟! إنها شريعة المافيا. فقد استباحه ذلك “العنصر” واتخذه مسكناً لأسرته.
وعَلِمَ أخي “مطيع” –رحمه الله- بالأمر، فاحتال على طريقة للسؤال عن البيت. وذهب إلى المخابرات ليقول لهم: إنَّ أخي مسافر خارج القطر، وبيته فارغ، ولكننا وجدنا حَرَكَةً في البيت، وإشعالاً للأضواء فيه، فلعلَّ بعض “الحرامية” قد فتحوا بابه واغتصبوه!.
فقالوا له: “لا. إنه في أيدٍ أمينة. إنَّ بيت أخيك هو بيتنا، ونحن نحافظ عليه. ولا حاجة لأن تسأل عنه مرة أخرى. أفهمت؟!”.
وتذكَّرتُ الأيدي الأمينة التي كانت تحتفظ بثمن النفط السوري كله مدة ثلاثين سنة كاملة، فهذه الأيدي من تلك. قطع الله هذه الأيدي وتلك!.
أبو غياث
إنه نفسه، المحقق عبد القادر حيزة، الذي كان رئيس الدورية التي جاءت لاعتقالي.
متوسط الطول، ذو كرش كبيرة، أسمر اللون، شعره أسود خفيف، يتأنق بملابسه ليبدو منظره مقبولاً.
وهو يحوز درجة متقدمة في الغباء وضعف الثقافة!!
قد يتصنّع اللطف أحياناًً، لكن طبعه سرعان ما يخونه، فتبدو فظاظته المنكرة.
وولاؤه للسلطة التي يخدمها كولاء كثيرين: متسلّق، متكسّب، مرتزق، يروقه ممارسة التعذيب على الآخرين ليستكمل التحقيق، ويرضي مشاعره الساديّة. وهو يلوّن في الأساليب، بين استعمال الخيزرانة، والصعق الكهربائي، واللكمات والشتائم…
لكنه إذا شعر أنه استكمل التحقيق وختمه، ثم ظهرت له معلومة جديدة تقتضي منه إعادة النظر في النتائج، فإنه يتقاعس، ويكتفي بأن يأخذ المعلومة لنفسه!.
في أثناء التحقيق معي في اليوم الأول، حين كان النقيب دياب يتولى رئاسة فريق التحقيق، تدخّل أبو غياث ليوجه إليّ تهمة غريبة تنمّ عن ثقافته الأمنية والدينية والأدبية! قال لي: أنت المسؤول عن توزيع الكتب في جماعة الإخوان المسلمين!. قلت له: كيف ذاك؟ ليس عندنا مثل هذه الوظيفة. نحن نشتري الكتب من السوق، أو من “السوق السوداء” وندفع ثمنها من جيوبنا… قال: إذاً لماذا عندك عشر نسخ من كتاب سيد قطب، هذا الذي يبحث في القرآن (وبدأ يتلعثم ليتذكر اسم الكتاب) فقلت له: تقصد: “في ظلال القرآن”؟ قال: نعم، هذا الكتاب عندك منه في البيت عشر نسخ، وقد فتشنا بيتك وأخذنا إحدى النسخ!. قلت له: إنها ثمانٍ وليست عشراً!. قال: لتكن ثمانياً؟ لماذا هذا العدد كله؟! قلت له: إنه كتاب واحد في ثمانية مجلدات! ألا تعلم أن هناك كتباً كبيرة تضمّ عدداً من المجلدات؟!
وفي اليوم الثالث، بعد حفلة التعذيب الثانية، قام أبو غياث هذا بجولة من التحقيق، فلم يقصّر في التعذيب والإيذاء. فعلى الرغم من أن الحفلتين قد استنفدتا معظم ما يمكن أن يأخذوه، فإن بعض الصعقات الكهربائية، وبعض الخيزرانات، وما يرافق هذه وتلك من لكمات وشتائم… هي من لوازم التحقيق!.
ولقد كنت بالفعل ناشطاً في التنظيم قبل دخولي السجن، ومعظم الإخوة المعتقلين يعرفونني، وقد كنتُ سبباً في تنظيم عددٍ منهم… وحين شاع في غرف السجن وزنزاناته أنني معتقل معهم، صار كل أخ منهم إذا سئل: من الذي نظّمك؟ أشار إليّ، سواء أكنتُ أنا الذي نظّمه أم لا، وذلك حتى لا يوقعوا إخوة آخرين ويتسببوا في اعتقالهم. وقد سرّني هذا السلوك الذكي منهم، ولكن المحقق أخذ عني فكرة -بسبب ذلك- هي أنني نظّمت عدداً هائلاً من الشباب.
كان إذا أراد أن يتثبت من إحدى المعلومات، أو يحل إحدى معضلات التحقيق يأتي إلى زنزانتي ليسألني، فأحاول أن تكون إجابتي “محسوبة”!. جاءني مرة ليسألني أتعرف فلاناً (سأسمّيه عبد الله المهندس)؟. كان السؤال صاعقاً لي. فهذا الأخ ليس من حلب. وإذاً كيف وصل الاعتقال إليه، وكيف توقّع المحقق أن يكون عندي علمٌ به. وكان لا بدّ من الإجابة سريعاً. وبما أنه سأل عن اسم حقيقي فهم يعرفونه. ولكن هل يعرفون أنه منظّم؟!..
دارت مثل هذه الأسئلة في ذهني، ربما في ثانية واحدة. قلت للمحقق: نعم أعرفه!. قال لي: هل هو من الإخوان؟! قلت: وما يدريني؟!.
اكتفى بهذا الجواب وذهب. أما أنا فقد بدأت أفكّر إلى أيّ مدى امتدّت الاعتقالات؟ وكيف تمّ الربط بين المعلومات في محافظات متعددة؟!.
بعد حوالي ساعتين، جاءني المحقق إلى زنزانتي (أمام المرحاض) هو ومحمد سعيد بخيتان، وكانا، على غير العادة منشرحين يبتسمان لأمر ما. قال: قلتَ لي إنك لا تعرف هل عبد الله المهندس منظَّمٌ أم لا؟! لقد اعترفَ أنك أنت الذي نظمتَه!. والله إن الطير الذي يطير فوقك في السماء تنظّمه! ولو أنني ترددتُ على بيتك مرتين لنظَّمتني! قلت له: لا، والله! فابتسم هو وصاحبه وذهبا، وذهبتْ مثلاً. فقد كان بعض الإخوان في الزنازين المجاورة يسمعون الحوار، فكانوا بعدئذ يصفونني بأنني أنظم الطير الذي يمرّ فوقي في السماء!.
والمحقق لم يسألني كيف نظّمته ومتى؟! ولو سألني لأحرجني. لقد نظّمته بالفعل، ولكن كيف سأذكر له مناسبة ذلك، وتكون متطابقة مع ما ذكر أخي عبد الله المهندس؟!..
بعد أيام حدث لقاء بيني وبين الأخ عبد الله وسألته عن سبب اعتقاله، وعن اعترافه بالتنظيم… فذكر أنه كان يؤدي خدمة العلم، وأن الدورة التدريبية العسكرية كانت في مدرسة المشاة وقد تعرّف إلى بعض إخواني من الحلبيين فدلّوه على بيتي، وجاء ليزورني فكان عناصر المخابرات قد احتلّوا البيت فاعتقلوه، وحين أتوا به إلى السجن وعلم بوجودي اعترف أنني نظّمته، لكنه ذكر لهم مناسبة لتعرفي عليه، وتنظيمي إياه، لا يمكن أن تخطر ببالي فيما لو سألني المحقق أن أتحدث له عن ذلك.
وبعد مضي حوالي ثلاثة أسابيع على الاعتقال، وكان التحقيق قد انتهى (نسبياً) وبدأنا نشعر بشيء من الاستقرار، جاء أمرٌ من رئيس الفرع بحلق اللحى للإخوة الملتحين، وكان معظمنا كذلك.
لم تكن هناك جدوى من المقاومة والامتناع. جاؤوا بحلاق فحلق لنا اللحى، ورحنا ينظر بعضنا في وجوه بعض، ونتذكّر قول السيدة عائشة الصديقة التي كانت تحلِف: “والذي زَيَّنَ الرجال باللحى، والنساء بالشعور”. لقد ذهبوا بهذه الزينة، قاتلهم الله.
ومرّ بنا المحقق ووجَدَنا جميعاً حليقي اللحى، فتبسّم ابتسامةً صفراء وقال: أمرُ حلق اللحى لم يصدر من عندي، لقد صدر من رئيس الفرع. لو كان الأمر إليّ لأمرتُ بحلقها منذ اليوم الأوّل!.
لقد ظننّا أن الغبي يريد أن يعتذر لنا، وإذا هو يعبِّر عن لؤمه وحقده على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم!.
كان المحقق يعود إلينا، أو يطلبنا إلى غرفة التحقيق بين الحين والآخر كلما قرأ الملف الخاص بكل منّا، ووجد فيه بعض الثغرات… لكنه، بعد هذا كله، لم يستطع أن يكمل الصورة. فهو لم يعرف، طوال خمسة أشهر، ما معنى المكتب التنفيذي، وما معنى مجلس الشورى، وإدارة المركز…. وكان إذا سألني، أستجلي من صيغة سؤاله التصور الذي عنده، فأعلم أن الصورة التي عنده -على بساطتها- مضطربة، فأعمل على تثبيت الاضطراب أو زيادته!.
[استدراك: ذُكِر لي، بعد نشر الكتاب، أن المحقق عبد القادر حيزة قد تحسّنت حاله في آخر أيامه، ومال إلى التدين، ثم توفي!]أبو سعيد بخيتان
شاب في الثلاثينيات من عمره، طويل القامة، حنطي اللون، رتبته ملازم أول، ووظيفته: نائب رئيس فرع المخابرات العامة بحلب.
هكذا كان يوم دخلتُ المعتقل في نيسان 1973، أما حين أطلق سراحي بعد أربع سنوات فقد كانت رتبته نقيباً أو رائداً، وكانت وظيفته رئيساً للفرع المذكور. وهو الآن عضو في القيادة القطرية، ورئيس لمكتب الأمن القومي!. إنه اللواء محمد سعيد بخيتان.
من مهماته – يوم كان نائباً لرئيس الفرع- صناعة العملاء، وشراء الذمم والضمائر، يستخدم في ذلك التهديد والإغراء، وبعض الفكاهة، ويساعده في ذلك ذكاؤه. ويمارس التحقيق مع المعتقلين أحياناً.
وليس بالضرورة أن يكون حادّ الذكاء، إنما إذا قورن بمعظم من نعرف من ضباط المخابرات السورية… كان من أذكاهم.
والحقيقة إنه يصعب على الذكي أن يعمل في مثل ذلك السلك، فالمهمات المطلوبة منه تحتاج إلى ذكاء، نعم، لكنها كذلك تتناقض مع الذكاء، بل مع العقل، إذ كيف يطيق الذكي أن يَسْجِن ويُعذِّب إنساناً بتهمة أنه يفكر تفكيراً منطقياً، ويعتقد اعتقاداً سويّاً، ويعارض السلطة الغاشمة بلسانه أو بقلمه، ويرفض أن يهتف أو يصفِّق للطاغية، أَقْصِدُ: للقائد الملهم بطل الجولان!.
وصاحبنا أبو سعيد يدرك منذ الأيام الأولى، تلك البنية الطائفية للنظام وفشوّ المحسوبيات والرشاوي…
ومن خلال التحقيق الذي يمارسه أحياناً، ومن خلال الجلسات التي يحاول بها شراء الذمم.. يسرِّب كلمةً هنا، وكلمة هناك.. لتفهم أنه مخلص لمهنته، لكنه عارف بمفاسد الأوضاع القائمة في السلطة، عالمٌ بأنَّ السلطة تتربَّص بالإسلاميين لتُوجِّه إليهم ضربةً تعيدهم إلى الصفر.
لقد كانت المناسبة التي اعتُقِلتُ بسببها هي أنَّ حافظ أسد، الذي قام بانقلابه على رفاقه في 16 من تشرين الثاني عام 1970م، وبدأ يسيطر على مفاصل السلطة، ويرسي قواعد حكمه… أصدر دستوراً للبلاد عام 1973م، وأراد أن يحمل الناس على قبوله.
وحدث، نتيجة ذلك، غليان شعبي، لا سيما في أوساط المتدينين، لإظهار الاستنكار لهذا البلاء. ولكن ماذا يفعل الناس؟! ليس عندهم صحافة أو إذاعة أو منتديات… يعبِّرون فيها عن غضبهم. فكل هذا، وغيره كذلك، قد استحوذت عليه السلطة التي يقول رأسها: “سنحارب أعداء الديمقراطية بمزيد من الديمقراطية”! وعلينا أن نصدِّق!.
كان من الوسائل القليلة التي عبَّر بها بعض الشباب عن سخطهم على هذا الدستور أنهم راحوا يكتبون على جدران الشوارع عبارات السخط والتنديد، مثل: “لا، للدستور الظالم”.
وضبط بعض الشباب بـ “الجرم المشهود” واعتُقلوا وعُذِّبوا فاعترفوا على غيرهم… وكان بعضهم من الإخوان المسلمين، وتتابعت الاعتقالات بأن تُستخلص اعترافات من المعتقل تحت التعذيب، فتتّسع الدائرة ويؤتى بمعتقل جديد.
في أثناء التحقيق الثانوي معي (بعد تحقيق الليلتين الأُوليين) قلت لبخيتان: أنتم تقولون: إنكم اعتقلتمونا بسبب الشعارات التي كُتبت على الجدران استنكاراً للدستور. لكنكم لم توجِّهوا إليَّ أيَّ تهمة بهذا الخصوص، فهل يمكن أن تذكر لي: ما دوري في مسألة كتابة الشعارات؟!.
قال: لا دور لك فعلاً، ولكننا كنا نريد “ضربكم” منذ زمن بعيد، وكنا ننتظر مناسبة، فهذه كانت “المناسبة”.
إذاً فالنيّة كانت مبيَّتة، وضربُ التنظيم مقصود، إنما هو انتظار المناسبة.
ومرّةً قدّم إليّ سيجارة للتدخين، فقلت له: أنا لا أدخّن، والحمد لله. ولحظت أن باكيت السجائر، عليه اللصاقة الخاصة بالصناعة السعودية، يعني أن التبغ مهرَّب, فقلت له: كيف تدخِّن تبغاً مهرَّباً؟! (تجرَّأت عليه بهذا السؤال وبما بعده لأن الجوَّ كان مريحاً، يسمح بالحوار).
قال لي: أنزاود على بعضنا؟! إنه أرخص ثمناً من الدخان الوطني.
قلت: أنت رجل “أمن” ويجب أن تنظر إلى مصلحة الاقتصاد الوطني.
قال: كل الناس يدخنون منه فلماذا أمتنع أنا عنه؟!.
قلت: بإمكانك أن تضبط من يبيعه وتعاقبه وتمنع التهريب؟.
قال: أهذا الولد الذي يبيع في الشوارع من الصباح حتى المساء ليحصّل قوت أهله أو عياله.. نعاقبه ونحرمه من رزقه؟.
قلت: هذا الولد يدلُّكَ بسهولة على من فوقه ثم من فوقه، حتى تصل إلى المهرِّب الكبير.
قال: المهرِّب الكبير يكون مدعوماً ولا أستطيع عقوبته!
* * *
ومرة استدعاني إلى غرفته، وراح يساومني: “إذا لم تتعاون معنا فقد تبقى في السجن سنة كاملة”.
كنا نتوقع أن لا يستمر اعتقالنا سوى أيام أو أسابيع. فالتهديد بالسَّنة له معناه. وفي الواقع بقيت أربع سنين ويوماً!.
وقال: “سوف نسرِّحك من وظيفتك”.
قلت: هذا لا يهمني، فأنا مهندس، قد أحتاج إلى الوظيفة سنة أو اثنتين بعد التخرج، أما الآن وقد مضى على تخرجي ست سنوات، فالتسريح من مصلحتي.
قال: وماذا تفعل إذا سرّحناك.
قلت: يمكن أن أعمل بالتعهدات مثلاً.
قال: وهل معك رأس مال لهذا العمل؟.
قلت: لا، ولكن…
قاطعني وقال: نحن مستعدون لأن نعطيك رأس المال الذي تحتاجه، ونستطيع أن نجعل المشروع الذي ترغب بتنفيذه من نصيبك، أي نجعل المناقصة ترسو عليك.
قلت: لا حاجة لي بذلك. فهناك من يثق بأمانتي، ويستثمر أمواله عندي.
سَكَتَ قليلاً ثم قال: الوزارة الحالية توشك أن تتغيّر. وفي الوزارة الجديدة نعطيك موقع وزير الصناعة!.
قلت: وهل تتوقع أن أقبل المشاركة في وزارةٍ عندكم؟!.
وبينما هو يحدثني جاءته مكالمة هاتفية، فتكلم فيها نحو دقيقتين. وفي أثناء ذلك رحتُ أقلِّب بصري في محتويات الغرفة الأنيقة. ولفت نظري جهاز راديو ذو تصميم جميل.
قال لي: هل أعجبك هذا الجهاز.
قلت: نعم، إنه جميل.
قال: نريد أن نهديك إياه، مقابل أن تعمل معنا!.
ابتسمت وقلت: لا حاجة لي به.
قال لي: هل تعشَّيت؟.
قلت: لا.
قال: سأصحبك معي إلى العشاء في (البلو أب).
قلت: وما هذا البلو أب؟.
قال: مطعم ظريف. يقدِّم “المشروبات”. أنا أعلم أنك لا تشرب. ولكن سنقعد على الطاولة ونضع عليها بعض المشروبات، ونلتقط لك بعض الصور، ثم نعرضها على إخوانك المعتقلين ونقول لهم: انظروا، هذا معلمكم وشيخكم الذي تثقون به. إنه يقعد على مائدة الخمر.
والحقيقة إنه لم ينفذ وعده، أو تهديده هذا. إنما أراد فقط أن يعرِّفني بالأساليب الساقطة التي يستخدمونها.
ومرة كان يحقق مع أحد الإخوة المعتقلين، وكان هذا الأخ قد تلقى تعذيباً شديداً فقال: أليس دستوركم الذي تعتقلوننا بحجة اعتراضنا عليه ينصُّ على حفظ كرامة المواطن، وحُرْمة البيوت و…؟ وها أنتم هؤلاء تنتهكون ذلك كله؟! قال أبو سعيد: وهل تصدِّق شيئاً مما ينصُّ عليه الدستور؟! لقد وضعنا هذه المواد في الدستور كي نضحك عليكم فقط!.
* * *
بعد مضيِّ أربع سنوات على اعتقالي، وفي اليوم الذي ابتدأت به سنة خامسة جاءت سيارة (باص كوستر) إلى سجن حلب المركزي، حيث كنت أقضي فيه الفترة الأخيرة من سجني منذ ثمانية عشر شهراً، ونقلت مع عدد من المعتقلين إلى فرع مخابرات حلب، الفرع الذي قضيت فيه الأشهر الخمسة الأولى من الاعتقال.
دخلنا إلى بهو كبير في الطابق الأول، حيث غرفة رئيس الفرع وبعض المحققين…
اصطففنا بشكل عفوي على محيط البهو، ونحن ننتظر أن يأتي أحد المسؤولين ليلقي فينا “كلمة”! أو نستدعى واحداً واحداً إلى غرفته. ولم يطُلْ الانتظار فقد كنتُ أولَ من نودي عليه، وخرج الرائد بخيتان إلى باب الغرفة ليستقبلني!. مددت يدي لمصافحته، فمدَّ ذراعيه ليعانقني ويقبِّلني وقد بدا السرور على وجهه. قلت: إذاً ما زلت تذكرني! قال: وهل تشكُّ في ذلك؟!.
أدخلني إلى الغرفة، وأجلسني قبالته وقال: لقد رفعت بشأنك عدداً من الكتب من أجل الإفراج عنك. وضَغَطَ زرَّ الجرس، فجاء النقيب سحلول وانحنى أمامه باحترام. قال له: أحضِرْ لي ملفَّ الأستاذ لنطلعه على الكتُب التي أرسلناها بشأنه. خبط سحلول قدمه على الأرض وانحنى من جديد وانصرف ولم يعد!!.
إنها طريقة لتمرير الغشّ والكذب، فلا ملفات ولا هم يحزنون. وبالمناسبة فإن النقيب الذي ينحني ويقف باستعداد “كالقملة المفروكة” هو ذاته كان رئيس الدورية التي أحضرتنا من سجن حلب المركزي إلى فرع المخابرات، وقد رأيته عندما جاء إلى سجن حلب، كيف كان يتصرف بعجرفة واستعلاء، ولا يعبأ بضباط الشرطة ولا بغيرهم، لأنه من خِلْقَةٍ أخرى، أو لأنَّ الدم الأزرق يجري في عروقه، دم المخابرات النبلاء!.
* * *
بقيت مسألتان مما أريد الحديث عنه بشأن “أبي سعيد”:
الأولى: أنه لا يحب أن يعذِّب المعتقلين، وإذا احتاج إلى تعذيب أحدهم يأمر الجلادين بذلك ويذهب هو إلى غرفته كي لا يتمّ التعذيب أمام عينيه. ولكن هذه القاعدة ليست مطّردة، فقد يمارس التعذيب بيديه، أو يمارسه الجلادون أمامه. وقد حدثني أحد الإخوة الفضلاء أنَّ أبا سعيد قد حقق معه فصفعه على وجهه صفعات، وقام بنتف لحيته بيده.
هكذا طبيعة هذا السلك. لا يمكن لمن يعمل معه أن يحافظ على قدرٍ مناسب من الطهارة. هذا إن افترضنا أن العنصر المذكور طاهر!.
الثانية: في أواخر عام 1977، أو أوائل 1978، حَدَثَ أنَّ مدرِّبة الفتوّة في إحدى المدارس الثانوية للبنات في حي الأنصاري بحلب، أرادت إلزام الفتيات بنزع الحجاب. ويقال: إنَّ رسالة وصلت إليها بالبريد تهدِّدها (بالضرب أو القتل، لا أدري) إذا هي عادت لإلزام الفتيات بذلك.
عُرضت الرسالة على المخابرات، وكان من الصعب، أو من المستحيل، معرفة من الذي كتب الرسالة، وكان رئيس الفرع آنذاك أبا سعيد، فقام باستدعاء بعض رجالات الحي ليحقق معهم. وكان من هؤلاء أحد الأساتذة الفضلاء.
أبو سعيد: من الذي كتب الرسالة؟.
الأستاذ: وما يدريني بذلك؟!.
أبو سعيد: سأنتقل إلى موضوع آخر. أنت تعلم أنه يحدث بين الحين والآخر عملية اغتيال لبعض رموز السلطة. فمن يقوم بذلك؟.
الأستاذ: أتسألني أنا عن هذا؟! أنت رئيس فرع المخابرات، وعليك أنت أن تعلم.
أبو سعيد: الذي ينفّذ تلك العمليات أحد اثنين: إما واحد تابع لأحد مراكز القوة في السلطة، فلا أنا، ولا غيري، يستطيع أن يكشفه! وإما واحد: الله معه، ويرسل له ملائكة تحميه!.
ولا تعليق!.