أرشيف الوسم : سوريا

لأنّهم قالوا .. لا مذكرات سجنية الحلقةالثالثة

وسرقوا بيتي

            هل فهمتم من العنوان أنهم سرقوا بعض محتويات بيتي، أو أنهم سرقوا بيتي كله واغتصبوه! كلا الفهمين صحيح. فمرّة فعلوا هذا، ومرة فعلوا هذا. ولا يخفى عليكم من هؤلاء الذين سرقوا؟ إنهم هم، وليس غيرهم!.

        في شهر آذار من عام 1973 كان عملي قد استقرّ مهندساً في مؤسسة المشاريع الكبرى –مديرية صوامع الحبوب- موقع حلب، فجاء قرار بنقلي إلى الرقة لأكون مسؤولاً عن موقع الصوامع هناك،  الذي هو في طور التأسيس.

        وفي الأيام الأخيرة من الشهر المذكور التحقت بعملي هناك، ونقلت معي زوجتي وطفلتي ذات الأشهر الثلاثة. وحتى لا يبقى بيتي فارغاً، أعطيت مفتاحه لأحد فتية الحي، من روّاد المسجد، حتى يتردّد على البيت، أو يستخدمه في تحضير دروسه المدرسية…

        وما هي إلا أيام، حتى بدأت الاعتقالات بمناسبة الاحتجاجات الشعبية على دستور حافظ أسد. ولم يكن أمام الجماهير المحتجّة إلا وسائل بسيطة، وطرق ضيّقة، للتعبير عن احتجاجها. فقام بعض الشباب بكتابة شعارات على جدران الشوارع تندّد بذلك الدستور، مثل: “لا، للدستور الظالم”. وألقي القبض على أحدهم، وتحت التعذيب اعترف على بعض من له به علاقة، وبعض هؤلاء اعترفوا على علاقة بي، ليس في شأن تلك الكتابات، ولكن بشأن التنظيم في جماعة الإخوان المسلمين!.

        جاءت دورية مخابرات لاعتقالي، لكني كنت –كما ذكرت آنفاً- قد انتقلت إلى الرقة، وكان في البيت الفتى الذي سلَّمته مفتاح البيت، وبعض أصدقائه، وأستاذ لهم يعطيهم درساً خاصاً في مادة اللغة العربية.

        وحتى لا تعود الدورية خائبة، فقد اعتقلت كلَّ من في البيت، وسكنت البيت نفسه، وجعلته مصيدة، تعتقل كلَّ من يطرق بابه!. واستمرَّت على ذلك أسبوعين أو يزيد.

        وعلى إثر مجيء الدورية إلى بيتي شُكِّلت دورية أخرى فسافرت إلى الرقة، واعتقلتني هناك.

        بعد مضيِّ نحو ثلاثة أشهر، سمحت إدارة فرع مخابرات حلب، حيث كنت معتقلاً، بأن تزورني والدتي. وفي الزيارة أخبرتني، أنَّ عناصر المخابرات الذين احتلوا البيت مدة أسبوعين سرقوا منه ما خفَّ حمله، وغلا ثمنه، ومن جملة ذلك بعض القطع الذهبية، وبدلة جديدة لي، لم أكن لبستها إلا مرة واحدة، وأشياء أخرى.

        شكوتُ إلى المحقق ما فعلته الدورية، فنفى أن يكون عناصرها قد سرقوا شيئاً، وقدّم دفاعاً قوياً عنهم. قال: وماذا يفعلون بالذهب؟! وما يفعلون بالبدلة؟! وماذا يستفيدون من تلك المسروقات؟!! وانتهى التحقيق.

*   *   *

        وفي صيف عام 1980 جاءت دورية لاعتقالي من بيتي. ولم أكن فيه! فتواريت عن الأنظار، ثمَّ تمكنت من الخروج من سورية. وبقي البيت مغلقاً، إلى أن وَضَعَ مساعد في المخابرات العسكرية يده على البيت فاحتلّه، وسكنه “مفروشاً” هو وأسرته الكريمة!.

        لم يكن هناك أمرٌ بمصادرة البيت. ولكن متى كانت العصابات تنتظر الأوامر؟! إنها شريعة المافيا. فقد استباحه ذلك “العنصر” واتخذه مسكناً لأسرته.

        وعَلِمَ أخي “مطيع” –رحمه الله- بالأمر، فاحتال على طريقة للسؤال عن البيت. وذهب إلى المخابرات ليقول لهم: إنَّ أخي مسافر خارج القطر، وبيته فارغ، ولكننا وجدنا حَرَكَةً في البيت، وإشعالاً للأضواء فيه، فلعلَّ بعض “الحرامية” قد فتحوا بابه واغتصبوه!.

        فقالوا له: “لا. إنه في أيدٍ أمينة. إنَّ بيت أخيك هو بيتنا، ونحن نحافظ عليه. ولا حاجة لأن تسأل عنه مرة أخرى. أفهمت؟!”.

        وتذكَّرتُ الأيدي الأمينة التي كانت تحتفظ بثمن النفط السوري كله مدة ثلاثين سنة كاملة، فهذه الأيدي من تلك. قطع الله هذه الأيدي وتلك!.


أبو غياث

إنه نفسه، المحقق عبد القادر حيزة، الذي كان رئيس الدورية التي جاءت لاعتقالي.

متوسط الطول، ذو كرش كبيرة، أسمر اللون، شعره أسود خفيف، يتأنق بملابسه ليبدو منظره مقبولاً.

وهو يحوز درجة متقدمة في الغباء وضعف الثقافة!!

قد يتصنّع اللطف أحياناًً، لكن طبعه سرعان ما يخونه، فتبدو فظاظته المنكرة.

وولاؤه للسلطة التي يخدمها كولاء كثيرين: متسلّق، متكسّب، مرتزق، يروقه ممارسة التعذيب على الآخرين ليستكمل التحقيق، ويرضي مشاعره الساديّة. وهو يلوّن في الأساليب، بين استعمال الخيزرانة، والصعق الكهربائي، واللكمات والشتائم…

لكنه إذا شعر أنه استكمل التحقيق وختمه، ثم ظهرت له معلومة جديدة تقتضي منه إعادة النظر في النتائج، فإنه يتقاعس، ويكتفي بأن يأخذ المعلومة لنفسه!.

في أثناء التحقيق معي في اليوم الأول، حين كان النقيب دياب يتولى رئاسة فريق التحقيق، تدخّل أبو غياث ليوجه إليّ تهمة غريبة تنمّ عن ثقافته الأمنية والدينية والأدبية! قال لي: أنت المسؤول عن توزيع الكتب في جماعة الإخوان المسلمين!. قلت له: كيف ذاك؟ ليس عندنا مثل هذه الوظيفة. نحن نشتري الكتب من السوق، أو من “السوق السوداء” وندفع ثمنها من جيوبنا… قال: إذاً لماذا عندك عشر نسخ من كتاب سيد قطب، هذا الذي يبحث في القرآن (وبدأ يتلعثم ليتذكر اسم الكتاب) فقلت له: تقصد: “في ظلال القرآن”؟ قال: نعم، هذا الكتاب عندك منه في البيت عشر نسخ، وقد فتشنا بيتك وأخذنا إحدى النسخ!. قلت له: إنها ثمانٍ وليست عشراً!. قال: لتكن ثمانياً؟ لماذا هذا العدد كله؟! قلت له: إنه كتاب واحد في ثمانية مجلدات! ألا تعلم أن هناك كتباً كبيرة تضمّ عدداً من المجلدات؟!

وفي اليوم الثالث، بعد حفلة التعذيب الثانية، قام أبو غياث هذا بجولة من التحقيق، فلم يقصّر في التعذيب والإيذاء. فعلى الرغم من أن الحفلتين قد استنفدتا معظم ما يمكن أن يأخذوه، فإن بعض الصعقات الكهربائية، وبعض الخيزرانات، وما يرافق هذه وتلك من لكمات وشتائم… هي من لوازم التحقيق!.

ولقد كنت بالفعل ناشطاً في التنظيم قبل دخولي السجن، ومعظم الإخوة المعتقلين يعرفونني، وقد كنتُ سبباً في تنظيم عددٍ منهم… وحين شاع في غرف السجن وزنزاناته أنني معتقل معهم، صار كل أخ منهم إذا سئل: من الذي نظّمك؟ أشار إليّ، سواء أكنتُ أنا الذي نظّمه أم لا، وذلك حتى لا يوقعوا إخوة آخرين ويتسببوا في اعتقالهم. وقد سرّني هذا السلوك الذكي منهم، ولكن المحقق أخذ عني فكرة -بسبب ذلك- هي أنني نظّمت عدداً هائلاً من الشباب.

كان إذا أراد أن يتثبت من إحدى المعلومات، أو يحل إحدى معضلات التحقيق يأتي إلى زنزانتي ليسألني، فأحاول أن تكون إجابتي “محسوبة”!. جاءني مرة ليسألني أتعرف فلاناً (سأسمّيه عبد الله المهندس)؟. كان السؤال صاعقاً لي. فهذا الأخ ليس من حلب. وإذاً كيف وصل الاعتقال إليه، وكيف توقّع المحقق أن يكون عندي علمٌ به. وكان لا بدّ من الإجابة سريعاً. وبما أنه سأل عن اسم حقيقي فهم يعرفونه. ولكن هل يعرفون أنه منظّم؟!..

دارت مثل هذه الأسئلة في ذهني، ربما في ثانية واحدة. قلت للمحقق: نعم أعرفه!. قال لي: هل هو من الإخوان؟! قلت: وما يدريني؟!.

اكتفى بهذا الجواب وذهب. أما أنا فقد بدأت أفكّر إلى أيّ مدى امتدّت الاعتقالات؟ وكيف تمّ الربط بين المعلومات في محافظات متعددة؟!.

بعد حوالي ساعتين، جاءني المحقق إلى زنزانتي (أمام المرحاض) هو ومحمد سعيد بخيتان، وكانا، على غير العادة منشرحين يبتسمان لأمر ما. قال: قلتَ لي إنك لا تعرف هل عبد الله المهندس منظَّمٌ أم لا؟! لقد اعترفَ أنك أنت الذي نظمتَه!. والله إن الطير الذي يطير فوقك في السماء تنظّمه! ولو أنني ترددتُ على بيتك مرتين لنظَّمتني! قلت له: لا، والله! فابتسم هو وصاحبه وذهبا، وذهبتْ مثلاً. فقد كان بعض الإخوان في الزنازين المجاورة يسمعون الحوار، فكانوا بعدئذ يصفونني بأنني أنظم الطير الذي يمرّ فوقي في السماء!.

والمحقق لم يسألني كيف نظّمته ومتى؟! ولو سألني لأحرجني. لقد نظّمته بالفعل، ولكن كيف سأذكر له مناسبة ذلك، وتكون متطابقة مع ما ذكر أخي عبد الله المهندس؟!..

بعد أيام حدث لقاء بيني وبين الأخ عبد الله وسألته عن سبب اعتقاله، وعن اعترافه بالتنظيم… فذكر أنه كان يؤدي خدمة العلم، وأن الدورة التدريبية العسكرية كانت في مدرسة المشاة وقد تعرّف إلى بعض إخواني من الحلبيين فدلّوه على بيتي، وجاء ليزورني فكان عناصر المخابرات قد احتلّوا البيت فاعتقلوه، وحين أتوا به إلى السجن وعلم بوجودي اعترف أنني نظّمته، لكنه ذكر لهم مناسبة لتعرفي عليه، وتنظيمي إياه، لا يمكن أن تخطر ببالي فيما لو سألني المحقق أن أتحدث له عن ذلك.

وبعد مضي حوالي ثلاثة أسابيع على الاعتقال، وكان التحقيق قد انتهى (نسبياً) وبدأنا نشعر بشيء من الاستقرار، جاء أمرٌ من رئيس الفرع بحلق اللحى للإخوة الملتحين، وكان معظمنا كذلك.

لم تكن هناك جدوى من المقاومة والامتناع. جاؤوا بحلاق فحلق لنا اللحى، ورحنا ينظر بعضنا في وجوه بعض، ونتذكّر قول السيدة عائشة الصديقة التي كانت تحلِف: “والذي زَيَّنَ الرجال باللحى، والنساء بالشعور”. لقد ذهبوا بهذه الزينة، قاتلهم الله.

ومرّ بنا المحقق ووجَدَنا جميعاً حليقي اللحى، فتبسّم ابتسامةً صفراء وقال: أمرُ حلق اللحى لم يصدر من عندي، لقد صدر من رئيس الفرع. لو كان الأمر إليّ لأمرتُ بحلقها منذ اليوم الأوّل!.

لقد ظننّا أن الغبي يريد أن يعتذر لنا، وإذا هو يعبِّر عن لؤمه وحقده على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم!.

كان المحقق يعود إلينا، أو يطلبنا إلى غرفة التحقيق بين الحين والآخر كلما قرأ الملف الخاص بكل منّا، ووجد فيه بعض الثغرات… لكنه، بعد هذا كله، لم يستطع أن يكمل الصورة. فهو لم يعرف، طوال خمسة أشهر، ما معنى المكتب التنفيذي، وما معنى مجلس الشورى، وإدارة المركز…. وكان إذا سألني، أستجلي من صيغة سؤاله التصور الذي عنده، فأعلم أن الصورة التي عنده -على بساطتها- مضطربة، فأعمل على تثبيت الاضطراب أو زيادته!.

[استدراك: ذُكِر لي، بعد نشر الكتاب، أن المحقق عبد القادر حيزة قد تحسّنت حاله في آخر أيامه، ومال إلى التدين، ثم توفي!]

أبو سعيد بخيتان

شاب في الثلاثينيات من عمره، طويل القامة، حنطي اللون، رتبته ملازم أول، ووظيفته: نائب رئيس فرع المخابرات العامة بحلب.

هكذا كان يوم دخلتُ المعتقل في نيسان 1973، أما حين أطلق سراحي بعد أربع سنوات فقد كانت رتبته نقيباً أو رائداً، وكانت وظيفته رئيساً للفرع المذكور. وهو الآن عضو في القيادة القطرية، ورئيس لمكتب الأمن القومي!. إنه اللواء محمد سعيد بخيتان.

من مهماته – يوم كان نائباً لرئيس الفرع- صناعة العملاء، وشراء الذمم والضمائر، يستخدم في ذلك التهديد والإغراء، وبعض الفكاهة، ويساعده في ذلك ذكاؤه. ويمارس التحقيق مع المعتقلين أحياناً.

وليس بالضرورة أن يكون حادّ الذكاء، إنما إذا قورن بمعظم من نعرف من ضباط المخابرات السورية… كان من أذكاهم.

والحقيقة إنه يصعب على الذكي أن يعمل في مثل ذلك السلك، فالمهمات المطلوبة منه تحتاج إلى ذكاء، نعم، لكنها كذلك تتناقض مع الذكاء، بل مع العقل، إذ كيف يطيق الذكي أن يَسْجِن ويُعذِّب إنساناً بتهمة أنه يفكر تفكيراً منطقياً، ويعتقد اعتقاداً سويّاً، ويعارض السلطة الغاشمة بلسانه أو بقلمه، ويرفض أن يهتف أو يصفِّق للطاغية، أَقْصِدُ: للقائد الملهم بطل الجولان!.

وصاحبنا أبو سعيد يدرك منذ الأيام الأولى، تلك البنية الطائفية للنظام وفشوّ المحسوبيات والرشاوي…

ومن خلال التحقيق الذي يمارسه أحياناً، ومن خلال الجلسات التي يحاول بها شراء الذمم.. يسرِّب كلمةً هنا، وكلمة هناك.. لتفهم أنه مخلص لمهنته، لكنه عارف بمفاسد الأوضاع القائمة في السلطة، عالمٌ بأنَّ السلطة تتربَّص بالإسلاميين لتُوجِّه إليهم ضربةً تعيدهم إلى الصفر.

لقد كانت المناسبة التي اعتُقِلتُ بسببها هي أنَّ حافظ أسد، الذي قام بانقلابه على رفاقه في 16 من تشرين الثاني عام 1970م، وبدأ يسيطر على مفاصل السلطة، ويرسي قواعد حكمه… أصدر دستوراً للبلاد عام 1973م، وأراد أن يحمل الناس على قبوله.

وحدث، نتيجة ذلك، غليان شعبي، لا سيما في أوساط المتدينين، لإظهار الاستنكار لهذا البلاء. ولكن ماذا يفعل الناس؟! ليس عندهم صحافة أو إذاعة أو منتديات… يعبِّرون فيها عن غضبهم. فكل هذا، وغيره كذلك، قد استحوذت عليه السلطة التي يقول رأسها: “سنحارب أعداء الديمقراطية بمزيد من الديمقراطية”! وعلينا أن نصدِّق!.

كان من الوسائل القليلة التي عبَّر بها بعض الشباب عن سخطهم على هذا الدستور أنهم راحوا يكتبون على جدران الشوارع عبارات السخط والتنديد، مثل: “لا، للدستور الظالم”.

وضبط بعض الشباب بـ “الجرم المشهود” واعتُقلوا وعُذِّبوا فاعترفوا على غيرهم… وكان بعضهم من الإخوان المسلمين، وتتابعت الاعتقالات بأن تُستخلص اعترافات من المعتقل تحت التعذيب، فتتّسع الدائرة ويؤتى بمعتقل جديد.

في أثناء التحقيق الثانوي معي (بعد تحقيق الليلتين الأُوليين) قلت لبخيتان: أنتم تقولون: إنكم اعتقلتمونا بسبب الشعارات التي كُتبت على الجدران استنكاراً للدستور. لكنكم لم توجِّهوا إليَّ أيَّ تهمة بهذا الخصوص، فهل يمكن أن تذكر لي: ما دوري في مسألة كتابة الشعارات؟!.

قال: لا دور لك فعلاً، ولكننا كنا نريد “ضربكم” منذ زمن بعيد، وكنا ننتظر مناسبة، فهذه كانت “المناسبة”.

إذاً فالنيّة كانت مبيَّتة، وضربُ التنظيم مقصود، إنما هو انتظار المناسبة.

ومرّةً قدّم إليّ سيجارة للتدخين، فقلت له: أنا لا أدخّن، والحمد لله. ولحظت أن باكيت السجائر، عليه اللصاقة الخاصة بالصناعة السعودية، يعني أن التبغ مهرَّب, فقلت له: كيف تدخِّن تبغاً مهرَّباً؟! (تجرَّأت عليه بهذا السؤال وبما بعده لأن الجوَّ كان مريحاً، يسمح بالحوار).

قال لي: أنزاود على بعضنا؟! إنه أرخص ثمناً من الدخان الوطني.

قلت: أنت رجل “أمن” ويجب أن تنظر إلى مصلحة الاقتصاد الوطني.

قال: كل الناس يدخنون منه فلماذا أمتنع أنا عنه؟!.

قلت: بإمكانك أن تضبط من يبيعه وتعاقبه وتمنع التهريب؟.

قال: أهذا الولد الذي يبيع في الشوارع من الصباح حتى المساء ليحصّل قوت أهله أو عياله.. نعاقبه ونحرمه من رزقه؟.

قلت: هذا الولد يدلُّكَ بسهولة على من فوقه ثم من فوقه، حتى تصل إلى المهرِّب الكبير.

قال: المهرِّب الكبير يكون مدعوماً ولا أستطيع عقوبته!

*   *   *

ومرة استدعاني إلى غرفته، وراح يساومني: “إذا لم تتعاون معنا فقد تبقى في السجن سنة كاملة”.

كنا نتوقع أن لا يستمر اعتقالنا سوى أيام أو أسابيع. فالتهديد بالسَّنة له معناه. وفي الواقع بقيت أربع سنين ويوماً!.

وقال: “سوف نسرِّحك من وظيفتك”.

قلت: هذا لا يهمني، فأنا مهندس، قد أحتاج إلى الوظيفة سنة أو اثنتين بعد التخرج، أما الآن وقد مضى على تخرجي ست سنوات، فالتسريح من مصلحتي.

قال: وماذا تفعل إذا سرّحناك.

قلت: يمكن أن أعمل بالتعهدات مثلاً.

قال: وهل معك رأس مال لهذا العمل؟.

قلت: لا، ولكن…

قاطعني وقال: نحن مستعدون لأن نعطيك رأس المال الذي تحتاجه، ونستطيع أن نجعل المشروع الذي ترغب بتنفيذه من نصيبك، أي نجعل المناقصة ترسو عليك.

قلت: لا حاجة لي بذلك. فهناك من يثق بأمانتي، ويستثمر أمواله عندي.

سَكَتَ قليلاً ثم قال: الوزارة الحالية توشك أن تتغيّر. وفي الوزارة الجديدة نعطيك موقع وزير الصناعة!.

قلت: وهل تتوقع أن أقبل المشاركة في وزارةٍ عندكم؟!.

وبينما هو يحدثني جاءته مكالمة هاتفية، فتكلم فيها نحو دقيقتين. وفي أثناء ذلك رحتُ أقلِّب بصري في محتويات الغرفة الأنيقة. ولفت نظري جهاز راديو ذو تصميم جميل.

قال لي: هل أعجبك هذا الجهاز.

قلت: نعم، إنه جميل.

قال: نريد أن نهديك إياه، مقابل أن تعمل معنا!.

ابتسمت وقلت: لا حاجة لي به.

قال لي: هل تعشَّيت؟.

قلت: لا.

قال: سأصحبك معي إلى العشاء في (البلو أب).

قلت: وما هذا البلو أب؟.

قال: مطعم ظريف. يقدِّم “المشروبات”. أنا أعلم أنك لا تشرب. ولكن سنقعد على الطاولة ونضع عليها بعض المشروبات، ونلتقط لك بعض الصور، ثم نعرضها على إخوانك المعتقلين ونقول لهم: انظروا، هذا معلمكم وشيخكم الذي تثقون به. إنه يقعد على مائدة الخمر.

والحقيقة إنه لم ينفذ وعده، أو تهديده هذا. إنما أراد فقط أن يعرِّفني بالأساليب الساقطة التي يستخدمونها.

ومرة كان يحقق مع أحد الإخوة المعتقلين، وكان هذا الأخ قد تلقى تعذيباً شديداً فقال: أليس دستوركم الذي تعتقلوننا بحجة اعتراضنا عليه ينصُّ على حفظ كرامة المواطن، وحُرْمة البيوت و…؟ وها أنتم هؤلاء تنتهكون ذلك كله؟! قال أبو سعيد: وهل تصدِّق شيئاً مما ينصُّ عليه الدستور؟! لقد وضعنا هذه المواد في الدستور كي نضحك عليكم فقط!.

*   *   *

بعد مضيِّ أربع سنوات على اعتقالي، وفي اليوم الذي ابتدأت به سنة خامسة جاءت سيارة (باص كوستر) إلى سجن حلب المركزي، حيث كنت أقضي فيه الفترة الأخيرة من سجني منذ ثمانية عشر شهراً، ونقلت مع عدد من المعتقلين إلى فرع مخابرات حلب، الفرع الذي قضيت فيه الأشهر الخمسة الأولى من الاعتقال.

دخلنا إلى بهو كبير في الطابق الأول، حيث غرفة رئيس الفرع وبعض المحققين…

اصطففنا بشكل عفوي على محيط البهو، ونحن ننتظر أن يأتي أحد المسؤولين ليلقي فينا “كلمة”! أو نستدعى واحداً واحداً إلى غرفته. ولم يطُلْ الانتظار فقد كنتُ أولَ من نودي عليه، وخرج الرائد بخيتان إلى باب الغرفة ليستقبلني!. مددت يدي لمصافحته، فمدَّ ذراعيه ليعانقني ويقبِّلني وقد بدا السرور على وجهه. قلت: إذاً ما زلت تذكرني! قال: وهل تشكُّ في ذلك؟!.

أدخلني إلى الغرفة، وأجلسني قبالته وقال: لقد رفعت بشأنك عدداً من الكتب من أجل الإفراج عنك. وضَغَطَ زرَّ الجرس، فجاء النقيب سحلول وانحنى أمامه باحترام. قال له: أحضِرْ لي ملفَّ الأستاذ لنطلعه على الكتُب التي أرسلناها بشأنه. خبط سحلول قدمه على الأرض وانحنى من جديد وانصرف ولم يعد!!.

إنها طريقة لتمرير الغشّ والكذب، فلا ملفات ولا هم يحزنون. وبالمناسبة فإن النقيب الذي ينحني ويقف باستعداد “كالقملة المفروكة” هو ذاته كان رئيس الدورية التي أحضرتنا من سجن حلب المركزي إلى فرع المخابرات، وقد رأيته عندما جاء إلى سجن حلب، كيف كان يتصرف بعجرفة واستعلاء، ولا يعبأ بضباط الشرطة ولا بغيرهم، لأنه من خِلْقَةٍ أخرى، أو لأنَّ الدم الأزرق يجري في عروقه، دم المخابرات النبلاء!.

*   *   *

بقيت مسألتان مما أريد الحديث عنه بشأن “أبي سعيد”:

الأولى: أنه لا يحب أن يعذِّب المعتقلين، وإذا احتاج إلى تعذيب أحدهم يأمر الجلادين بذلك ويذهب هو إلى غرفته كي لا يتمّ التعذيب أمام عينيه. ولكن هذه القاعدة ليست مطّردة، فقد يمارس التعذيب بيديه، أو يمارسه الجلادون أمامه. وقد حدثني أحد الإخوة الفضلاء أنَّ أبا سعيد قد حقق معه فصفعه على وجهه صفعات، وقام بنتف لحيته بيده.

هكذا طبيعة هذا السلك. لا يمكن لمن يعمل معه أن يحافظ على قدرٍ مناسب من الطهارة. هذا إن افترضنا أن العنصر المذكور طاهر!.

الثانية: في أواخر عام 1977، أو أوائل 1978، حَدَثَ أنَّ مدرِّبة الفتوّة في إحدى المدارس الثانوية للبنات في حي الأنصاري بحلب، أرادت إلزام الفتيات بنزع الحجاب. ويقال: إنَّ رسالة وصلت إليها بالبريد تهدِّدها (بالضرب أو القتل، لا أدري) إذا هي عادت لإلزام الفتيات بذلك.

عُرضت الرسالة على المخابرات، وكان من الصعب، أو من المستحيل، معرفة من الذي كتب الرسالة، وكان رئيس الفرع آنذاك أبا سعيد، فقام باستدعاء بعض رجالات الحي ليحقق معهم. وكان من هؤلاء أحد الأساتذة الفضلاء.

أبو سعيد: من الذي كتب الرسالة؟.

الأستاذ: وما يدريني بذلك؟!.

أبو سعيد: سأنتقل إلى موضوع آخر. أنت تعلم أنه يحدث بين الحين والآخر عملية اغتيال لبعض رموز السلطة. فمن يقوم بذلك؟.

الأستاذ: أتسألني أنا عن هذا؟! أنت رئيس فرع المخابرات، وعليك أنت أن تعلم.

أبو سعيد: الذي ينفّذ تلك العمليات أحد اثنين: إما واحد تابع لأحد مراكز القوة في السلطة، فلا أنا، ولا غيري، يستطيع أن يكشفه! وإما واحد: الله معه، ويرسل له ملائكة تحميه!.

ولا تعليق!.

رواية القوقعة -الحلقة الثانية مصطفى خليفة

16 تشرين الثاني

منذ الصباح يعم ضجيج مكبرات الصوت. أرجاء السجن وما حوله تبث الأناشيد الوطنية والأناشيد التي تمجد رئيس الدولة وتسبغ عليه صفات الحكمة والشجاعة، وتصفه بأوصاف عديدة، فهو المفدى، القائد العظيم، المعلم، المُلهِم… تذكر أفضاله العميمة على جميع أبناء الشعب ، فلولاه لما بزغت الشمس، وهو الذي يمنحنا الهواء لنتنفس ، والماء لنشرب …

نحن السجناء جميعاً نقف في الساحات في صفوف منتظمة، ولأول مرة منذ مجيئي الى هنا سمحوا لنا بالوقوف ضمن الساحة مفتوحي الأعين.

أعطوا واحداً من السجناء ورقة، ومما هو مكتوب عليها يهتف… فنهتف وراءه: بالروح…بالدم سنفدي رئيسنا المحبوب والمعبود!.

لازمني الدكتور زاهي (زاهي عبادي، طبيب من دير الزور، خريج جامعة حلب، معتقل معنا) بعنايته الفائقة، وبلهجة المنطقة الشرقية المحببة كان يشرح لي بما يشبه التقرير الطبي أن وضعي كان خطراً لسببين: الأول أن أذية بالغة قد أصابت إحدى الكليتين وأنني بقيت فترة أتبول دماً. أما الثاني فهو أن مساحة الجلد المتهتك في جسدي قد اقتربت من حد الخطر. وإن تفاوتت النسبة حسب المنطقة. تَهَتَّك جلد الظهر بكامله تقريبا ، قسم من البطن ، الجهة الأمامية من الفخذين، القدمان من الجهتين العلوية والسفلية. أما جلد القدم اليسرى فقد انكشط من الجهة العلوية وبانت العظام.

أخبرني زاهي أنني بقيت ستة أيام غائباً عن الوعي ومعلقاً بين الحياة والموت، كان الملح هو المادة المعقمة الوحيدة المتوفرة، بالملح عالجني الشيخ زاهي، كما كان يحب أن ينادى متنازلا عن لقب دكتور بكل طيبة خاطر وكان يشربني الماء وقليلا من المربى المذاب والمخفف بالماء.

وكما شرح لي وضعي الصحي فإنه أخبرني عن المعلومات التي وصلتهم من المهاجع الأخرى والتي تقول إن عدد أفراد دفعتنا كان / 91 / شخصاً، قتل منهم ثلاثة في الساحة الأولى أثناء الاستقبال وهؤلاء لم يدخلوهم إلى المهاجع، وخلال فترة غيابي عن الوعي مات عشرة آخرون متأثرين بجروحهم وإصاباتهم البليغة، واثنان من الدفعة أصيبا بشلل دائم نتيجة أذى كبير بالعمود الفقري، واحد فقط أصبح أعمى بعد أن تلقى ضربة كرباج فقأت عينيه، وبعد أن انتهى زاهي من سرد هذه المعلومات قال:

-والحمد لله على سلامتك .. احمد الله يا أخوي احمده.. و رغم أن الصلاة ممنوعة بس أنت تقدر تصلي سراً ركعتين لوجه الله !.

الحلاقة

وقف رئيس المهجع في الصباح وقال مخاطباً الناس في المهجع:

-يا إخوان .. اليوم دورنا بالحلاقة، اصبروا وصابروا، سيعيننا الله .. احملوا المرضى ويللي ما بيحسن يمشي على البطانيات، كل بطانية يحملها أربعة فدائيين … وقدر ما فيكم أسرعوا، السرعة أفضل.. والله يقوينا!

صفان من الشرطة على جانبي الباب، بين الشرطي والآخر حوالي المترين، كل شرطي يحمل كرباجاً، ما أن يصل السجين إلى الباب حتى يبدأ الركض، تتلقاه كرابيج الصف اليميني للشرطة من الأمام، الكرابيج اليسارية تطارده من الخلف، من يتعثر أو يقع .. قد يموت فهو يكون قد كسر التناغم وإيقاع الضرب، يقف الصف من خلفه وتجتمع عليه الكرابيج جميعاً، فإذا كان ذا بنية قوية واستطاع النهوض رغم الكرابيج المنهالة عليه فقد نجا. أما الضعيف فستبقيه الكرابيج لصيقاً بالأرض إلى الأبد.

حوالي الثلاثمائة سجين من مهجعنا ركضوا بسرعة، تلقوا الضربات السريعة والكاوية، اصطفوا في الساحة ووجوههم إلى الحائط وأعينهم مغمضة، نحن المرضى وضعونا في منتصف الساحة.

حلاقة الذقن عملية تشريح أو حراثة للوجه مصحوبة بالبصاق والشتائم، وكان بعضهم يتلذذ بافتعال السعال قبل البصق على وجه السجين كي يكون البصاق مصحوبا بالمخاط !!! وتلتصق بصقة البلديات بالوجه ! ويمنع السجين من مسحها

حلاقة الرأس .. مع كل سحبة ماكينة على الرأس، وبعد أن ينفض البلديات الشعر المحلوق، ضربة قوية بالماكينة نفسها على المكان المحلوق وهو يصر على أسنانه ويشتم.

المهجع

خلال استلقائي أكثر من شهر في هذا الركن أتيح لي أن أعاين وأفهم الكثير من الأشياء والأمور في هذا المهجع الكبير. يبلغ طول المهجع خمسة عشر متراً، وعرضه حوالي ستة أمتار. باب حديدي أسود، في أعلى الجدران نوافذ صغيرة ملاصقة للسقف ومسلحة بقضبان حديدية سميكة، لا يتجاوز عرض النافذة خمسين سنتمتراً وطولها حوالي المتر. أهم ما في المهجع هو الفتحة السقفية، وهي فتحة في منتصف السقف طولها أربعة أمتار وعرضها متران، مسلحة أيضا بقضبان حديدية متينة، هذه الفتحة ويسمونها ” الشراقة ” تتيح للحارس المسلح ببندقية والذي يقف على سطح المهجع أن يراقب ويعاين كل ما يجري داخل المهجع وعلى مدار ساعات الليل والنهار، فوق كل مهجع في السجن الصحراوي حارس مسلح من الشرطة العسكرية.

الطعام

ثلاث مرات في اليوم يفتح الباب الحديدي الأسود لإدخال الطعام، وفي كل مرة يكون الفدائيون واقفين خلف الباب، ما أن يفتح حتى يصبحوا جميعاً بلمح البصر عند الطعام، وبسرعة البرق يحملونه، فدائي واحد لكل جاط برغل، جاط المرق يحمله اثنان، الخبز يكومونه على البطانيات وكل بطانية يحملها أربعة أشخاص، طوال الوقت الذي يستغرقه إدخال الطعام تكون كرابيج الشرطة قد فعلت فعلها، يتفنن عناصر الشرطة ويبتدعون أساليب جديدة:

أمام جاط شوربة العدس الغالي، أمسك الرقيب بالفدائي الذي هَمَّ بحمل الجاط. قال:

-اترك الجاط على الأرض … ولا ….!

ترك السجين الجاط ووقف.

-وهلق … غطس إيديك بالشوربة لشوف!

وخرجت اليدان من الشوربة مسلوختين. وأجبره بعدها أن يحمل الجاط بيديه المسلوختين إلى داخل المهجع. كل بضعة أيام يقتل واحد أو أكثر أثناء إدخال الطعام إلى المهاجع.

الفدائيون

يوجد هنا أناس من كل الأعمار، رجال في الثمانين من عمرهم، فتيان لم يتجاوزوا الخامسة عشر، يوجد مرضى، ضعفاء، ذوو عاهات سواء كانت في الأصل أو حدثت جراء التعذيب.

الفدائيون مجموعة من الشباب الأقوياء ذوي الأجساد المتينة، تطوعوا من تلقاء أنفسهم للقيام بالمهام الخطرة التي تحتاج إلى قوة تحمل أو سرعة، مثل إدخال الطعام إلى المهجع، أو إذا تم ” تعليم ” أحد المرضى أو الشيوخ من قبل الحراس، فإن أحد الفدائيين ينوب عن هذا المريض في تلقي الخمسمائة جلدة، لا يعرف أحد أي مهجع في السجن كان السباق إلى ابتداع هذه الفرقة الفدائية.

سمعت أحد الفدائيين يقول إلى زميله:

-نحن مشروع شهادة.

وهم صادقون في سعيهم إلى الاستشهاد، وقد أنقذت الفرق الفدائية حياة الكثير، وعملهم يتسم بالإخلاص والاندفاع الشديدين النابعين عن إيمان عميق.

الحمّام

نحن في المهجع ستة مرضى لا نذهب إلى الحمام، أنا وزميلي في الدفعة الذي بقي غائباً عن الوعي طوال الفترة التي كنت لا أستطيع الحركة فيها، “وكان قد دخل إلى هذا المهجع من دفعتنا ثلاثة، واحد مات بعد يومين، أنا صحوت بعد ستة أيام، أما الثالث فقد بقي شهرين يتأرجح بين الموت والحياة، صحا بعدها وشفي” وأربعة مشلولون، اثنان منهم بالأصل شلل أطفال ، الثالث أثناء الاستقبال، أما الرابع فقد شل نتيجة التعذيب بـ ” المظلة “.

فتح الباب … خرجنا ركضاً، اثنين اثنين، حولنا من الجانبين الشرطة يحملون الكرابيج التي ترتفع عالياً وتهوي على من تصادفه. الكل حفاة ” كانت قدماي لما تُشْفَ جيدا بعد “، من الساحة السادسة عبرنا ثلاث ساحات أخرى حتى وصلنا الحمام، أدخلونا كل اثنين إلى مقصورة بلا باب، وزعوا الصابون العسكري ضرباً على الرأس.. صياح … شتائم …

“سوف يلغى الحمّام بعد فترة نتيجة اكتظاظ السجن وسيتم تحويله إلى مهجع يوضع فيه المعتقلون الشيوعيون .”

تابع الدكتور زاهي العناية بي وبالمرضى الآخرين، جروحي كلها على وشك الشفاء عدا الجرح على وجه القدم اليسرى، ونتيجة لأن عظام مشط القدم قد بانت بعد انكشاط الجلد عنها فقد خشي الدكتور زاهي من مضاعفات أخرى، حضر مرة ومعه شخص آخر وعرّف به على أنه طبيب أخصائي جلدية، وقد أخبرني هذا الطبيب أن بمهجعنا فقط يوجد ثلاثة وعشرون طبيباً من مختلف الاختصاصات.

الصلاة

الصلاة ممنوعة منعاً باتاً بأوامر مدير السجن. عقوبة من يقبض عليه متلبسا بجرم الصلاة هي ” الموت “، رغم ذلك فإنهم لم يكونوا يفوّتون صلاة واحدة. ولكن هنا الإنسان يصلي وهو جالس في مكانه أو في أي وضعية أخرى. إدارة السجن عرفت هذا أيضاً، ويتناقلون حديثاً لمدير السجن قاله أمام السجناء الشيوعيين، ودائماً حديث مدير السجن أشبه ما يكون بالمحاضرات أو الخطب، خاطب الشيوعيين قائلاً:

-هؤلاء الكلاب … الإخوان المسلمون، البارحة فقط أمضيت أكثر من نصف ساعة وأنا أشرح لهم وأفهمهم أن القومية أهم من الدين، ولكن هل تتصورون أنهم اليوم عادوا يصلّون !!! عجيب أمر هؤلاء الناس !!

الاتصال

جميع المهاجع ملتصقة ببعضها، من اليمين واليسار، وأحياناً من الخلف أيضاً، وهذا الأمر سهّل الاتصال بين السجناء، ويكون ذلك بالدق على الحائط حسب طريقة مورس، دقة على الحائط … دقتان … دقة قوية ودقة ضعيفة….

كل ما يجري داخل السجن: الدفعات الجديدة، من مات، عدد الذين أعدموا وأسماؤهم، الأخبار خارج السجن والتي ينقلها السجناء الذين جاؤوا حديثاً، كل هذه الأشياء كانت تنتقل عبر المهاجع وفي كل مهجع مجموعة مخصصة لتلقي وإرسال تلك الرموز، تقف خلفهم مجموعة الحفظة.

بدأ الحفظ منذ بداية “المحنة” كما يسميها الإسلاميون، كان الشيوخ الكبار يجلسون ويتلون آياتِ القرآن على مجموعة من الشباب، وهؤلاء يظلون يكررونها حتى يحفظوها، لم يبق أحد في المهجع إلا وحفظ القرآن من أول حرف إلى آخر حرف، ومع كل دفعة جديدة كانت تبدأ دورة جديدة، ولاحقاً تطور الأمر باتجاه آخر، يتم انتقاء مجموعة من الشباب صغار السن يحفظون إضافة الى القرآن وأحاديث النبي محمد … ما يمكن تسميته بسجل السجن، أسماء كل من دخل هذا السجن من الحركات الإسلامية. “في مهجعنا شاب لم يبلغ العشرين من عمره، يحفظ أكثر من ثلاثة آلاف اسم، اسم السجين، اسم مدينته أو بلدته، قريته، تاريخ دخوله السجن … مصيره!!.” بعضهم متخصص بالإعدامات والقتل، وهم يسمون كل من يقتل أو يعدم في السجن شهيداً، وهذا سجل الشهداء. أيضا يحفظون الاسم، عنوان الأهل، تاريخ الإعدام أو القتل.

شجاعتهم أسطورية في مواجهة التعذيب والموت، وخاصةً لدى فرق الفدائيين، وقد رأيت أناساً منهم كانوا يفرحون فرحاً حقيقياً وهم ذاهبون للإعدام. لاأعتقد أن مثل هذه الشجاعة يمكن أن توجد في مكان أخر أو لدى مجموعة بشرية أخرى.

وسط هذه الصحراء المترامية، لا توجد فصول أربعة، فقط فصلان، صيف وشتاء، ولا ندري أيهما أشد قسوة من الآخر.

-نحن الآن في عز الصيف. الجو لاهب. سمعت بعضهم ممن يعرف المنطقة سابقاً يقول إن درجة الحرارة قد تصل الخمسين أو حتى ستين درجة مئوية في الخارج، وفي الظل داخل المهجع لا تقل عن الخمسة وأربعين درجة مئوية.

بعض كبار السن قَضَوا اختناقا، رئيس المهجع يدق الباب ويخبر الشرطة بموت أحدهم، يفتحون الباب، ويبدو صوت الشرطي سائلاً من شدة الحرارة:

-وين هادا الفطسان ؟… يالله … زتُّوه لبرّه.

أما اليوم الشتائي فهو يوم منكمش، ثياب الجميع قد تهرأت ولا يمكن أن تقي من البرد الصحراوي الحاد الذي ينخر العظام ويجمد المفاصل. أحد القادمين الجدد إلى المهجع كان أهله أغنياء جدا، وقد استطاعوا زيارته أثناء وجوده في فرع المخابرات بعد أن دفعوا ما يوازي ثروة صغيرة كرشوة إلى الضابط المسؤول، وهناك من نصحهم بأن يأخذوا لابنهم الكثير من الثياب. “جلب معه أكثر من مائة غيار داخلي، كان نصيبي منها سروالاً داخلياً، أعطاني إياه رئيس المهجع:

-خود هذا …. مشان يكون عندك بدل!

أما مشكلة القمل فتكون أصعب في اليوم الشتائي، فلا حل للقمل المنتشر بكثافة في جميع المهاجع إلا أن تجلس وتخلع كل ثيابك وتبدأ بالتفتيش عنه في ثنايا الثياب. الجميع هنا يفعل ذلك.

جافاني النوم. مددت البطانية كالعادة وتمددت. الواحدة بعد منتصف الليل مللت الاضطجاع بعد أن آلمتني أجنابي، جلست ولففت نفسي بالبطانيات، خمس دقائق وصوت الحارس من خلال الشراقة:

-يا رئيس المهجع .. يا حمار.

-نعم سيدي.

-علّملي هالتيس القاعد جنبك.

-حاضر سيدي.

لقد علمني. تمددت فورا، غداً صباحاً سيكون فطوري خمسمائة جلدة بقشاط مروحة الدبابة على قدمي! إن قدمي التي أصيبت شفيت تماما مع ندب طويل ولكنها كانت تؤلمني دائماً في أيام البرد فألفّها أكثر من غيرها، كنت أحلم بزوج من الجوارب الصوفية! أحد أحلامي الصغيرة. ماذا سيكون مصير هذه القدم المسكينة عندما تتلقى خمسمائة جلدة؟ وعندما فتح الباب وصاح الشرطي برئيس المهجع ليخرج الأشخاص الذين تم تعليمهم، قفزت واقفاً، ولكن رئيس المهجع وبسرعة قال:

– مكانك، لا تتحرك، واحد من الشباب طلع بدلا منك.

ذهلت، واحد من الفدائيين، واحد من المتشددين الإسلاميين يفديني الآن بنفسه ويتلقى عني خمسمائة جلدة!!

التنفس

في السجون الأخرى التنفس هو حيز زمني يخرج فيه السجين من مهجعه إلى ساحة هواؤها نقي، يأخذ حاجته من الهواء والشمس والحركة.

هنا … قبل التنفس يكون السجناء في المهجع قد انتظموا في طابور، تفتح الشرطة الباب، يخرج الطابور بخطوات بطيئة، الرؤوس منكسة إلى الأسفل، العيون مغمضة، كل سجين يمسك بثياب الذي أمامه، عناصر الشرطة والبلديات يحيطون بالساحة وينتشرون بها بكثافة.

الاثنين والخميس يومان مختلفان عن بقية أيام الأسبوع هنا. في هذين اليومين تتم الإعدامات، لذلك عندما نخرج للتنفس في هذين اليومين تكون كمية التعذيب والضرب أكثر، وفي التنفس يكون الضرب غالباً على الرأس:

-يا كلب… ليش عم ترفع راسك؟!

ويهوي الكرباج على الرأس.

يصرخ الرقيب:

– يا حقير… أنت أنت يا طويل… أطول واحد بالصف، تعال هون…

يركض أحد البلديات ويجر أطول واحد بيننا، الرقيب جالس يضع رِجلاً على رجل، يقول:

– يا حقير .. أنت بني آدم ولا زرافة؟

يضحك المتجمعون حوله بصخب، يتابع الرقيب:

– وهلق … اركض حول الساحة خمس دورات وطالع صوت متل صوت الزرافة … يالله بسرعة. يركض السجين ويصدر أصواتاً، لا أحد يعرف كيف هو صوت الزرافة، أعتقد حتى ولا الرقيب نفسه، يدور السجين خمس مرات، يتوقف، يقول الرقيب:

– ولا حقير … هلق بدك تنهق متل الحمار!

ينهق السجين الطويل. تضحك الشرطة.

– ولا حقير… هلق بدك تعوي متل الكلب!

يعوي السجين الطويل. تضحك الشرطة. يضحك الرقيب وهو يهتز. ثم يلتفت إلى رتل السجناء الذي يسير منكس الرؤوس ومغمض العينين، يصيح:

– ولا حقير… أنت أنت… أقصر واحد بالصف ، تعال هون.

يركض أحد البلديات، يجر أقصر واحد بالرتل. شاب صغير لا يتجاوز الخامسة عشر، يقف أمام الرقيب الذي يضحك ويقول:

– ولا حقير… يا زْمِكّ … وقف قدام هالكلب الطويل.

يقف السجين القصير أمام السجين الطويل، يصرخ الرقيب:

– ولا حقير … يا طويل … هلق بدك تعوي وتعض هالكلب يللي قدامك وبدك تشيل قطعة من كتفه، وإذا ما شلت هـ القطعة … ألف كرباج.

– وهلق … انتوا الاثنين اشلحوا تيابكم.

يخلع الاثنان ثيابهما ويبقيان بالسراويل.

– ولا حقير قصير… نزل سرواله.

ينزل القصير سروال الطويل الى حد الركبتين.

– ونزل سروالك كمان. (ينزل القصير سرواله أيضا).

– وهلق …… اعمل فيه ….(يتلكأ القصير، يشير الرقيب إلى أحد عناصر الشرطة، يقترب هذا ويهوي بالكرباج على ظهر القصير… يجلس الرقيب ، يصيح وهو ينظر إلى الرتل الذي يسير برؤوس منكسة وعيون مغمضة):

– جيبوا لي هـ البغل … السمين.

يأتون برجل أربعيني بدين، يعرف الرقيب منه اسمه واسم مدينته، كم أمضى في السجن … وتفاصيل أخرى، ثم يسأله:

– أنت متزوج ولاّ أعزب؟

– متزوج سيدي.

– أنت بتعرف شو عم تساوي زوجتك هلق … ولا … أنا بقول لك، أنت صار لك ثلاث سنين في السجن …. وهي كل يوم مع واحد جديد.

– السجين ساكت، منكس الرأس مغمض العينين…

تمضي الأيام، يتبدل الرقباء، لكن الأساليب تبقى نفسها …

” كنت أتساءل : هل هي تسلية فقط أم أنها نهج مدروس الغاية منه تحطيم الإنسان وإذلاله من خلال المرأة باعتبارها أعلى قيم الشرف لدى المسلمين؟!…”

لأنهم قالوا: لا مذكرات سجنية الحلقة الثانية

السلام عليكم

-1-

        الاضطهاد وما يتبعه، وما قد يتبعه، جزء من نظام “حزب البعث العربي الاشتراكي” الذي ابتلي به قطرنا السوري، وانخدع به بعض الناس فترة من الزمن، ولا يزال بعضهم مخدوعاً به.

        من توابع الاضطهاد في قطرنا: الاعتقال لأهل الرأي، والتعذيب الوحشي بدنياً ونفسياً، بل الاعتقال كذلك لزائري القطر من سيّاح وغيرهم!… وانتشار الرشوة على المستويات كافّة، ونشر الرذيلة، وتكميم الأفواه، واحتكار الإعلام، ومنع تشكيل الأحزاب السياسية والجمعيات الثقافية والنوادي… إلا ما ينام على يد السلطة ويأتمر بأمرها ويسبّح بحمدها!. والتمييز والتسلط الفئويّان والطائفيان، وممارسة ألوانٍ من الظلم. منها ما يشمل الشعب كله أو معظمه، ومنها ما يخصّ فئات معينة كالإسلاميين والأكراد والتنظيمات التي لا تسير في فلك السلطة، كبعض أجنحة البعث الخارجة عن الطاعة! وكثير من التنظيمات الفلسطينية….

-2-

        الفترة التي أتحدث عنها في هذا الكتاب هي الفترة الممتدة من 6/4/1973 إلى 7/4/1977، وهذه الفترة هي جزء من الحقبة الكئيبة التي أقعى فيها حافظ أسد على صدر الشعب، بأجهزته “الأمنية” وبالأشقياء من أبناء طائفته وغيرهم، وأبعد المعارضين له والمناوئين والشرفاء، سواء أكانوا من أبناء الطائفة أم من غيرها… أي أنه مكّن جزءاً يسيراً، من الحثالات، وأقصى جماهير الشعب، وفرض وصاية التُّحوت على الوعول!.

        قضيت الفترة المذكورة في عددٍ من السجون:

1- من 6/4/1973 وحتى 6/9/1973 (تقريباً) في فرع مخابرات حلب، المعروف باسم سجن أمن الدولة، وكان رئيس الفرع آنذاك محمد خير دياب، ونائبه محمد سعيد بخيتان، والمحقق عبد القادر حيزة، وأبرز الجلادين والسجانين: جاسم وشيخو وأبو حميد…

2- ومن 6/9/1973 وحتى 6/10/1975 في فرع الحلبوني.

3- ومن 6/10/1975 وحتى 7/4/1977 في سجن حلب المركزي.

        وكان وصولي إلى سجن حلب المركزي في ليلة عيد الفطر. وفي صباح العيد تم الإفراج عن الإخوة الثلاثة الذين نقلوا معي، وكانت الإشاعات قد تحدثت عن تلك الإفراجات مسبقاً، ولا شكَّ أنَّ أهلي -كأهالي المعتقلين الآخرين- تعلقوا بهذه الإشاعات، وبنوا عليها الآمال. لكن السلطة الحاقدة خيبت أمل أهلي، فبقيت بعد هذا التاريخ ثمانية عشر شهراً أخرى!. لقد امتدت فترة السجن إلى أربع سنوات، قضيت أكثر من نصفها في فرع الحلبوني.

-3-

        كان السجن لي مدرسةً عرفت فيها نفسي، وعرفت شرائح مختلفة من البشر: من الإخوان، ومن الإسلاميين الآخرين (وبخاصة أعضاء حزب التحرير)، ومن الفلسطينيين (من فتح والجبهة الشعبية وغيرهما)، ومن البعثيين الذين انشقّ عنهم حافظ، أقصد اليمينيين جماعة أمين الحافظ، واليساريين جماعة صلاح جديد… فضلاً عن أفراد من هنا وهناك، من التنظيمات الكردية، ومن أصحاب انتماءاتٍ مختلفة، ومن أناس غير سوريين: عراقيين وأردنيين وبريطانيين وكنديين وإسبانيين…

        وعرفت فيها أزلام السلطة وأجراءها، من ضباط مخابرات، ومحققين وجلادين… وضباط شرطة وأفراد شرطة (في سجن حلب المركزي)…

-4-

        الصفة العامة لمعظم ضباط المخابرات والمحققين الذين عرفتهم، أنهم قليلو الذكاء، ضعيفو الضمير، محدودو الثقافة، جفاة الطبع، منحدرو الأخلاق… ولا تخلو القاعدة من شذوذات يسيرة، فقد تجد الذكي ولو نسبياً، ومن عنده بقية من أخلاق!.

        أما السجانون والجلادون فيتّسمون عادة بالغباء والمحدودية، وبضعف الثقافة بل الأمّية أحياناً. ويصطرع في نفوسهم أثر التربية البيتية، والانتماء إلى شعبنا الطيب، والجهل، والتوجيهات الحاقدة اللئيمة التي يتلَّقونها من رؤسائهم…

        أما المعتقلون فهم يمثّلون شرائح متباينة جداً. وكثير منهم ينحاز، بعد أن يرى الظلم والسوء، إلى دينه وفطرته، ويتوجّه إلى الله بالعبادة…

        ومعظم الأجانب الغربيين الذين كنا نلتقيهم في السجن، يُعربون عن نيّاتهم بفضح “النظام” الذي سجنهم، وشَرْح الظلم الذي شاهدوه أو طُبِّق عليهم، أمام حكوماتهم وأمام وسائل الإعلام، وأمام منظمات حقوق الإنسان!.

-5-

        وقد حاولت تحرّي الدقة والموضوعية فيما كتبت، ولم أمتنع عن ذكر إيجابية رأيتها من محقق أو سجّان، على قلّة ما رأيت… فالنفس البشرية لا تتمحَّض للشر، لكنَّ شرّها يتكاثر أحياناً ويطغى حتى يكاد يغطّي كل خير!.

        وقد تخونني الذاكرة فأهمل كثيراً من التفصيلات.

        ومع أني تحرّيت الكتابة بالعربية الفصيحة، فقد تساهلت مرّات بذكر كلماتٍ لها وقع في النفوس، عاميةٍ أو أعجمية!.

-6-

        ولا يفوتني أن أذكر أنَّ الظلم الذي لقيته، على فداحته، لا يُعَدُّ شيئاً أمام الحقبة التي كانت بعد عام 1979، لا سيما في سجن تدمر، وفي السجون المؤقتة التي أنشئت في مدرسة المدفعية بحلب، أو في حماة، في شباط 1982…

        كما أنَّ سجن المخابرات العسكرية في حلب، حي السريان، وسجن فرع فلسطين في دمشق، وسجن الآمرية الجوية… تعجّ بألوانٍ من الظلم والقهر والتعذيب البدني والنفسي لا يعرفها إبليس!.

        ومن المناسب أن نشير إلى بعض الكتب التي تتحدث عن حقبة ما بعد 1979، بما فيها حقبة ما بعد 2000م!. فمن هذه الكتب: “تدمر شاهد ومشهود”، “خمس دقائق وحسب” و”تدمر.. المجزرة المستمرّة” ومقالات الرياضي العراقي البريطاني هلال عبد الرزاق علي في جريدة القدس العربي، ومقالات الدكتور هشام الشامي على المواقع الالكترونية وغيرها.

لقطات من البداية

كانت البداية في يوم السادس من نيسان عام 1973م، في يوم جمعة وقت أذان العصر، وكنتُ وقتها في ورشة بناء صوامع الحبوب بجوار مدينة الرقة، حيث كنت المهندس المسؤول عن ذلك الموقع من جهة الدولة.

توقفت بجواري سيارة (لاندروفر) وترجّل منها ثلاثة. أحدهم هو أكبرهم سناً، في مطلع الأربعينيات من عمره، منظره مقبول، أسمر، ذو كرش، لباسه أنيق… قدّم لي نفسه أنه ضابط مخابرات. عرفتُ فيما بعد، أنه عبد القادر حيزة، المحقق. وفهمت أن الاثنين الآخرين مرافقان، وأحدهما هو سائق السيارة.

بادر المرافقان وقالا لسيدهما: سيدي، أنفتِّشُه؟ قال: “لا. لا حاجة. الإخوان المسلمون لا يحملون سلاحاً”.

إذاً جاء يعتقلني بصفتي عضواً في جماعة الإخوان المسلمين، وهو يشهد أن الإخوان المسلمين لا يحملون سلاحاًَ. وبالمناسبة فقد بقيت معتقلاً حتى يوم 7/4/1977 أي مدة أربع سنين كاملة!.

دخل إلى البيت الذي أسكنه في الورشة، ولم يكن تفتيش هذا البيت عملية معقدة، فالبيت شبه فارغ! لكنه وجد على الطاولة دفتر جيب صغيراً. وضعت قلبي على كفّي، كما يقال، حذراً من أن يسألني عن حل ألغاز ما في الدفتر، فقد كان فيه مواعيد لقاءاتي التنظيمية، مكتوبة برموز وأرقام، لا يحلّها غيري.

قلّب أوراق الدفتر ثم رماه، وقال: إنه دفتر حسابات!.

قال لي: إنك مطلوب إلى فرع المخابرات في حلب، للتحقيق معك في بعض الأمور.

قلت: لكنّ معي زوجتي وطفلتي، ولا يمكن أن أتركهما هنا، ألا يمكن أن آخذهما في السيارة إلى حلب؟ قال: لا، ولكن نوصلهما إلى منطلق سيارات “التاكسي” المسافرة إلى حلب!.

في منطلق السيارات وجدنا سيارة تحتاج إلى راكبين، دفعت أجرة راكبين حتى لا يضايق زوجتي أحد، وأوصى المحقق “حيزة” سائق السيارة: “هذه السيدة ستسافر معك إلى حلب، لسبب يهمّ الدولة. عليك أن توصلها إلى بيت أهلها. وإذا أصابها مكروه فلا تلومَنَّ إلا نفسك! أسمعت؟!”.

قال السائق: نعم سيدي. إنها أمانة في عنقي.

وتأكيداً لجدّية الأمر فقد سجّل حيزة رقم السيارة على ورقة عنده.

وقد بقيتُ في قلق وتوجُّس مع هذا كله، فليس من شأن زوجتي أن تذهب في سيارةٍ مع سائقٍ غريب ضمن مدينة حلب نفسها، فكيف بسفرها مسافة 150 كيلومتراً؟!. ولكن لم يكن أمامي خيار آخر، فأنا معتقل بيد من لا يرحمون. سلَّمتُ الأمر إلى الله، وقرأت بعض الآيات الكريمة والأدعية، رجاء أن يحفظ الله الزوجة وطفلتها.

مضت بنا السيارة إلى فرع مخابرات “الطبْقة”. بقينا هناك مدة ساعتين أو أكثر، وُضعت فيها في غرفة وحدي. أما المحقق فقد قعد في مكان آخر، وأظنّه كان يتسامر مع زملائه.

مرّة أخرى مضت بنا السيارة نحو حلب. دخلنا فرع المخابرات العامة هناك، الذي يسمى أحياناً (بناية العدّاس) أو (مدرسة نابلس) إذ يقال: إن المبنى كان يملكه أحد الأثرياء من آل العدّاس، وصادرته الدولة، وجعلته مدرسةً باسم ثانوية نابلس، ثم وجدتْ أن الأنفع للمجتمع أن يصير فرعاً للمخابرات فصار!.

يبدأ الدخول بدرج نازل إلى القبو، بنحو عشرين درجة متوالية، نصفها تقريباً يقع خارج باب القبو ونصفها الثاني بعد الباب.

ينتهي الدرج ببهو صغير فيه طاولة صغيرة، خلفها كرسي، يجلس عليه عادة أحد السجانين، وفيه كذلك سرير ينام عليه السجّان المناوب.

في هذا البهو كان في استقبالي مجموعة من “الأشخاص” بعضهم ممّن (إذا رأيتهم تُعجبك أجسامُهم) وبعضهم ليس كذلك.

كان أجملُهم هيئةً: قصيرَ القامة نسبياً، أبيض البشرة، أنيق الملبس، لكنه، كما تبيّن بعدئذ، أكثرهم حقارة وسفاهةً، وأسوؤهم أدباً… إنه رئيس الفرع م خير دياب، وكان برتبة نقيب. ولأن رئيس الفرع موجود، فطاقم الجلاوزة كله موجود، وسوف يتبارى في إثبات الجدارة أمام “المعلم”، وهو اللقب الذي يطلقونه على رئيس الفرع!.

وكان الثاني طويل القامة؛ يلبس بدلة رمادية مخططة، هيئتهُ تشير إلى أنه من أصول بدوية، وحين نظرت في وجهه بادرني بالكلام: ألا تعرفني؟! قلت: لا أدري، ربما تقابلنا مرةً ما! قال: أنا أراقبك منذ ستة أشهر، وأعرف عنك كل شيء: من زارك في هذه المدة، ومن قابلك، ومن زرتَ أنت…

تشكّكتُ في كلامه، وتبيّن لي فعلاً أنه كان يكذب عليّ، كما هو شأن هذا الصنف من الناس، ليوحي إليّ أنه لا فائدة من إنكار شيء!. فكل شيء عنك معروف لدينا.

وعرفت بعدئذ أنه الملازم أول محمد سعيد بخيتان، نائب رئيس الفرع (الذي أصبح في عهد بشار أسد عضو قيادة قطرية).

وكان في البهو “شخصان” آخران، سأتحدث عنهما في فصل آخر، إن شاء الله، وهما السجّانان: شيخو وأبو حميد.

قام أحد السجّانين بتفتيشي، صادر مني “ساعة اليد” والمفاتيح، والمشط والهوية… وسئلت عن معلوماتي الشخصية، ثم قادوني إلى غرفة التحقيق.

في الحقيقة هما غرفتان. غرفة خارجية، يُدخل إليها من ممرّ طوله نحو 6 أمتار وعرضه حوالي 1.40 م، والغرفة نفسها كبيرة نسبياً، أبعادها حوالي 4.5× 5.5م، وهي غرفة جرداء، ليس لها أي نافذة، وليس فيها أي شيء من قطع الأثاث، سوى دولاب، أي إطار سيارة ركّاب، وحزمة من الخيزرانات، وجهاز لاسلكي صغير علمتُ بعدئذ أنه يستعمل في التعذيب بالكهرباء!.

وهذه الغرفة هي غرفة التعذيب.

أما الغرفة الثانية فهي غرفة التحقيق، وهي غرفة أصغر من الأولى، يُدخل إليها من الغرفة الأولى. أبعادها حوالي 2.5×3م، ولها شباك مقابل بابها. فيها طاولة مكتب، وعلى الطاولة جهازان للهاتف.

كان النقيب دياب هو الذي باشر التحقيق، وكان يناوب بين القعود خلف الطاولة، وبين مغادرة الطاولة لأجل “القيام بالواجب”. أما الآخرون فكانوا يكملون الدور، فالجلادان بأيديهما الخيزران، فهما لا يقصّران في الضرب اللاسع، والصفع والشتم والتهديد، وبخيتان يرمي بعض الكلمات بين حين وآخر من أجل المزيد من الاستدراج.

وكان النقيب أفحشهم بذاءةً، وأكثرهم قسوة، لكنه لم يكن أكثرهم ذكاء.

وراحوا ينقّلونني بين غرفة التعذيب وغرفة التحقيق، وقد جرّدوني من ملابسي، إلا ما يستر العورة الغليظة، ويسلّطون عليّ أنواع التعذيب من لسعات الخيزران على أنحاء جسمي كافّة، وهزّات الكهرباء الفظيعة.

أما لسعات الخيزران فقد كانت تؤلمني مثل الكيّ بالنار، وقد تكسَّرت بين أيديهم مجموعة من الخيزرانات، فكانوا يستبدلون بها خيزرانات جديدة، وأشهد أنهم لم يطالبوني بثمن الخيزرانات التي تكسَّرت على جسدي.

لقد سال الدم من أماكن مختلفة، جرّاء الضرب المبرّح، وكانت بعض الضربات قوية فخلّفت خطوطاً أو بقعاً داكنة، بعضها بقي ظاهراً على ساقيّ أو على ظهري أكثر من سنة. وبعضها ما يزال ظاهراً، بعد مضيّ أكثر من ثلث قرن!!.

ولا أدري عدد الضربات التي تعرَّضت لها، لكنني، ومن خلال خبراتي التي كوّنتها فيما بعد، أقدِّر أنها لا تقل عن ثلاثمئة!.

أما الصعقات الكهربائية فهي شيء مختلف. يمسك الطاغية الكبير جهاز اللاسلكي بيده، ويساعده الجلاد بأن يلفّ مقدمة كل من السلكين المتصلين بالجهاز، حول أصابع قدميّ. وللجهاز ذراع صغيرة ومقبض، فإذا أدار الطاغية الذراع انطلق تيار كهربائي، وانطلق معه صوت الضحية بصراخ قوي، من غير شعور أو قصد.

وقد وجدت من نفسي، ومن غيري في أوقات أخرى، أنَّ الضحية قد يملك التحمل وضبط النفس وكتمان الصوت أمام لسعات الخيزران مع ألمها الشديد، أمّا عند التعرّض لهزّات الكهرباء فلا يملك أحد كتمان الصوت، فإن صراخَه قسري، لا إرادة له به.

ومعظم ما يتلقّاه الضحية من تعذيب، بالخيزرانة أو بالكهرباء، يتلقّاه وهو محشور في الدولاب، فخذاه ملتصقتان ببطنه، والدولاب هو الذي يشدّ الفخذين إلى البطن، والضحية ملقى على الأرض، وتتناوشه اللسعات والضربات والهزّات الكهربائية من كل جانب، ويتلقى الشتائم والبذاءات من أشاوس البعث القائد.

وفي حوالي الساعة الثانية ليلاً أو الثالثة غادرني فريق التحقيق، وبقيت في غرفة التحقيق عارياً كما ذكرت (أو شبه عارٍ)، لكنهم قبل أن يغادروا طلبوا مني أن أبقى واقفاً على قدمي ولا أجلس.

وكيف عرفتُ الوقت، ولو بشكل تقريبي؟! لقد سمعت أذان الفجر، الذي جاءني من أحد المساجد القريبة نسبياً، عبر نافذة غرفة التحقيق. وحين سمعته كان قد مضى على ذهاب “الفريق العتيد” نحو ساعتين.

وفي الصباح، ربما في الساعة الثامنة جاءني الجلاد أبو حميد فرآني قائماً، وآثار التعذيب تملأ جسدي، ولعله أشفق على حالي. قال لي: بعد قليل سيأتي المحقق، فإذا سألك عن حالك قل له: “إن السجّان لم يتركني. ما زال يذهب ويأتي ويضربني”. فعلمتُ أنَّ أبا حميد هذا مجرد موظف لا يهمُّه أن يعذبني، بل يريد أن يكسب رضا “أسياده” بأن يظهر أمامهم ظالماً قاسي القلب..

ومرّ النهار ولم يحققوا معي بل نقلوني إلى إحدى الزنازين، وحين طلبتُ ثيابي التي بقيت في غرفة التعذيب فأحضروها إلي.. ولكن بعد أن سرقوا بعض ما فيها من نقود، فقد كان في أحد الجيوب راتبي الذي قبضته قبل أيام قليلة!.

ولكنّ التعذيب لم يتوقف في الزنزانة، بل أخذ شكلاً آخر، إنه التعذيب النفسي: إهانات وتحطيم للكرامة. فقد أوجبوا عليّ أن أبقى واقفاً على قدمٍ واحدة! وأحمل الدولاب ذاته، أضمّه في رأسي وأسنده على كتفي. وحتى  يطمئنّ السجّان إلى حُسْن التنفيذ، ويزيد في العذاب النفسي، كان يمرّ بجانب الزنزانة بشكل غير منتظم: كل دقيقتين، أو كل ربع ساعة، فيفتح “الطاقة” ليراني في الوضع النظامي، أو يكتفي بالضرب على الباب المعدني ضربة قوية لأرتعب من مفاجأتها. يستخدم في الضرب على الباب قبضة يده، أو حذاءه، أو الخيزرانة….

لقد مضى عليّ أكثر من 24 ساعة في الاعتقال، ولم يدخل إلى جسمي لقمة طعام أو نقطة ماء، بل اكتفوا بالغذاء المذكور: الضرب والشتم والصدمات الكهربائية…

أما في المساء، فكما كان يقول أحد السجناء: جاء الليل وجاء الويل، فقد عاد النقيب والجلادان لإقامة “حفلة تعذيب” جديدة، لاستكمال التحقيق، لكن هذه الحفلة.. والحق يقال.. كانت أخفّ وأقصر من الحفلة الأولى، فقد كانت مدتها حوالي ثلثي مدة الحفلة الأولى، وكان عدد لسعات الخيزرانات، وصعقات الكهرباء كذلك حوالي ثلثي ما حوته الحفلة الأولى.

وحتى لا يظنّ أني لم أذق الطعام بعد، أذكر أنه بعد مضيّ الأربع والعشرين ساعة الأولى، كنت في الزنزانة الصغيرة، وكان موقعها استراتيجياً، فهي أمام دورة المياه تماماً! ولا يفصل بينهما سوى ممر بعرض متر واحد، فكان السجناء جميعاً يمرُّون أمامها عند قضاء الحاجة، وكان يسمح لهم بذلك مرتين يومياً، وكان السجن بكامله محجوزاً لحسابنا في تلك الأيام نحن أبناء جماعة الإخوان المسلمين، وقد تمكن أحد الإخوان من استغفال السجّان الذي يراقب الحركة، ففتح عليّ “الطاقة” ورمى إليّ برغيف وقطعة جبن.

وحين جاء دوري لقضاء الحاجة ثم استعمال المغسلة، تمكنت من شرب بعض الماء.

لقد كانت الأسئلة التي يوجهها المحقق إليّ تدور حول التنظيم: متى دخلت التنظيم؟ ما موقعكُ فيه؟ من نظّمك؟ ما بِنْيةُ التنظيم وما هيكليّته؟ ما المناهج التي تدرسونها؟!,,,

فضلاً عن عُروضٍ “للتعاون” مع أجهزة الأمن “لمصلحة الوطن”!.

رواية القوقعة الحلقة الأولى مصطفى خليفة

يوميات متلصص

إنها قصة الفتية الأبرار في سجون الطغيان، يكتبها سجين عاش معهم المأساة. ولعل أول ما جنى عليه أن اسمه “مصطفى” هذا الاسم الذي يوحي بأنه مسلم، وبالتالي يمكن أن يكون من الإخوان المسلمين. ولم يشفع له أنْ علم الجلاوزة أن هذه التهمة لا أصل لها.

[يقدم الكاتب نفسه على أنه “مصطفى خليفة، مسيحي كاثوليكي، ملحد، عاش في باريس ودرس فيها وتخرج باختصاص مخرج سينمائي، وأحبّ أن يعود إلى بلده سورية ليخدم هذا الوطن” وما كان يدري أن عودته تعني دخوله سجناً من أعتى سجون الدنيا.

[والكاتب فنان بارع يحسن الوصف بالكلمة والصورة، وتتدفق أحاسيسه عبر كلماته. يكتب بالعربية الفصيحة تارة، وبالعامية تارة أخرى. وقد لخصنا هذا الكتاب وتجنبنا بذلك كلمات الإلحاد، وبعض الكلمات النابية التي يتفوه بها السجانون والجلادون والمحققون… وأدخلنا بعض التصحيحات اللغوية. [وإذا كنا لا نوافق الكاتب بالضرورة على كل كلمة كتبها، فإننا نؤكد أنه أحسن في تصوير الجرائم التي يمارسها النظام الطائفي الحاقد على أبناء شعبنا المؤمن. ولعل الله تعالى يكافئه على كتابته، فيهديه للدين الحق]

هذه اليوميات كتبتُها في السجن الصحراوي. وكلمة “كتبتُ” هنا ليست دقيقة ففي السجن الصحراوي لا يوجد أقلام ولا أوراق للكتابة.في هذا السجن الضخم الذي يحتوي على سبع ساحات، إضافة إلى الساحة صفر، وعلى سبعة وثلاثين مهجعاً، وعلى العديد من المهاجع الجديدة، والغرف والزنازين الفرنسية (السيلول) في الساحة الخامسة، والذي ضم بين جدرانه في لحظة من اللحظات أكثر من عشرة آلاف سجين، في هذا السجن الذي كان يحتوي على أعلى نسبة لحملة الشهادات الجامعية في هذا البلد، لم ير السجناء – وبعضهم قضى أكثر من عشرين عاماً – أية ورقة أو قلم.

الكتابة الذهنية أسلوب طوّره الإسلاميون. ” أحدهم كان يحفظ في ذهنه أكثر من عشرة آلاف اسم، هم السجناء الذين دخلوا السجن الصحراوي، مع أسماء عائلاتهم، مدنهم أو قراهم، تاريخ اعتقالهم، أحكامهم، مصيرهم …..”.

اثنان من رجال الأمن استلما جواز السفر، وبلطف مبالغ فيه، طلبا مني مرافقتهما.

أنا وحقيبتي – التي لم أرها بعد ذلك – ورحلة في سيارة الأمن على طريق المطار الطويل، أرقب الأضواء على جانبي الطريق، أرقب أضواء مدينتي تقترب، ألتفِتُ إلى رجل الأمن الجالس إلى جواري، أساله:

– خير إن شاء الله ؟ .. لماذا هذه الإجراءات ؟!

يصالب سبابته على شفتيه، لا ينطق بأي حرف، يطلب مني السكوت، فأسكت!

أصل مع مرافقي إلى مبنى. ومن ممر إلى ممر، ثم إلى غرفة فاخرة. انسلت إلى أنفي رائحة مميزة، لا يوجد مثيلها إلا في مكاتب ضباط الأمن، هي خليط روائح، العطور المختلفة، السجائر الفاخرة، رائحة العرق الإنساني، رائحة الأرجل.

كل ذلك ممزوج برائحة التعذيب. العذاب الإنساني. رائحة القسوة.

بينما كنت مذهولاً من رؤية الكابل الأسود يرتفع ثم يهوي على قدمي الشاب المحشور في دولاب السيارة الأسود، ثم يرتفع ناثراً معه نقاط الدم ونتف اللحم الآدمي، جمّدني صوت زاعق. التفتُّ مرغماً إلى مصدره، في زاوية الغرفة رجل محتقن الوجه، محمرّه، والزبد يرغي على زاويتي فمه: طمّشْ عيونه يا حمار. وُضعت الطماشة على عيوني ثم دفعة على ظهري، صفعة على رقبتي، يداي إلى الخلف، أسيرُ مرغما، يرتطم رأسي بالجدار، أقف.

– إرفع يديك لفوق ..ولك كلب … أرفعُهما.

– إرفع رجلك اليمين ووقف على رجلك اليسار.

– أرفع رجلي، أقف.

في الخلف يستمر ما كان يجري، أسمع صوت الكابل، صوت ارتطامه بالقدمين، صوت الشاب المتألم، صوت لهاث الجلاد، أكاد اسمع صوت نتف اللحم التي رأيتها تتطاير قبل قليل.. أصوات.. أصوات.

تتخدر اليسرى، لم أعد أستطيع الاحتمال، أغامر ..أبدل !!.. لم يحصل شيء، لم ينتبه أحد، أشعر بالانتصار!.. “بعد سنين طويلة من السجن مستقبلاً، سأكتشف أنه في الصراع الأبدي بين السجين والسجان، كل انتصارات السجين ستكون من هذا العيار!!”.

سيخ من النار لسع باطن قدمي، صرخت. قبل انتهاء الصرخة كانت الخيزرانة قد لسعت مرة أخرى .. الضرب متواصل، الصراخ متواصل.

وبدأت أعد الضربات وأنا أصرخ ألما. “بعد ذلك بزمن طويل، أخبرني المتمرسون: إن عدَّ الضربات أول علامات الضعف، وإن هذا يدل على أن المجاهد أو المناضل سينهار أمام المحقق!!..وقتها قلت في نفسي: ولكنني لست مناضلاً ولا مجاهداً. وأخْبَروني أن من الأفضل في هذه الحالات أن تكون لديك قدرة كبيرة على التركيز النفسي بحيث تركز على مسألة محببة لك، وتحاول أن تنسى قدميك !!”.

منذ تلك اللحظات علموني أن أقول: ” ياسيدي”.

هذه الكلمة لاتستخدم هنا كما بين رجلين مهذبين، هذه الكلمة تُنطق هنا وهي تحمل كل معاني الذلّ والعبودية.

طوال ثلاثة عشر عاما ، لم أسمع مرة قرقعة المفتاح في الباب الحديدي إلا وأحسست أن قلبي يكاد ينخلع!! لم أستطع الاعتياد عليها.

-اليدان مقيدتان بالقيد الحديدي إلى الخلف، كاحل القدم مربوط بجنزير حديدي إلى كاحل سجين آخر، نسير بصعوبة، نتعثر، ممرات … أدراج …. وصفعة مدوية.

تنبثق آلاف النجوم البراقة أمام عيني، الفجر ربيعي، أترنح…. أسكت.

يسحبوننا إلى خارج البناء، أرى أربع سيارات شحن ذات أقفاص معدنية، السجناء يسمون هذه السيارات بـ ” سيارات اللحمة”

أمام سجن تدمر الصحراوي

عشرات من عناصر الشرطة العسكرية.. الباب صغير.. تصدم العين لوحة حجرية فوق الباب مخططة بالأسود النافر:

“ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب”.

فتح لنا رجال الأمن أبواب السيارات، هم أنفسهم الذين كانوا يعاملوننا بفظاظة وقسوة (عندما كنا عندهم في فرع المخابرات في العاصمة)، أنزلونا من السيارات برفق مشوب بالشفقة، حتى إن أحدهم قال: ” الله يفرج عنكم ! “. وفيما بينهم كانوا يتحدثون همساً، يتحاشون النظر إلى عناصر الشرطة العسكرية الذين اصطفوا حولنا بما يشبه الدائرة، لاحظت أن لهم جميعاً نفس الوقفة، الساقان منفرجتان قليلاً، الصدر مشدود إلى الوراء، اليد اليسرى تتكىء على الخصر، اليد اليمنى تحمل إما عصاً غليظة أو كبلاً مجدولاً من أشرطة الكهرباء أو شيئاً مطاطيا أسودَ يشبه الحزام. ” عرفت فيما بعد أنه قشاط مروحة محرك الدبابة “.

ينظرون إلينا وإلى عناصر الأمن نظرة فوقية تحمل استخفافاً بعناصر الأمن ووعيداً مبطنا لنا. حركاتهم تدل على نفاد الصبر من بطء إجراءات التسليم والاستلام، يهزون يدهم اليمنى بما تحمل، هزات تبرُّم وغيظ، لباسهم جميعا عسكري أنيق، أعلى رتبة بينهم مساعد أول.

أكثر من مائة عنصر من عناصر الشرطة العسكرية يحومون حولنا، جميع السجناء يتحاشون النظر مباشرة إلى أي عنصر. رأسنا منخفض قليلا، أكتافنا متهدلة. وقفة تصاغُرٍ وذل، كيف اتفق جميع السجناء على هذه الوضعية وكأننا تدربنا عليها سابقا؟! لست أدري.

حكني رأسي من القفا، وكما يفعل كل إنسان يحكه رأسه، مددت يدي عفوياً وحككت !! وسمعت صوتاً راعداً: -ولك يا جماعة … شوفوا الكلب شوفوا !! عم يحك راسه كمان …!!

وسحبتني الأيدي خارج الرتل، تقاذفتني صفعاً ولكماً، لكمة تقذفني، صفعة توقفني، النار في الرقبة والوجه …. تمنيت لو أبكي قليلاً… طلبني المساعد لتسجيلي فلم يبق غيري، سجلني وأصبحت نزيلاً رسمياً في هذا السجن.

خلفي مهجع كبير. تخرج من جانب الباب بالوعة “صرف صحي” على وجه الأرض، تسيل في هذه البالوعة مياه سوداء قذرة.

انتهى التفتيش. جرى بدقة محترفين، حتى ثنايا الثياب، جميع النقود والأوراق، أي شيء معدني، الأحزمة وأربطة الأحذية … جميعها صودرت، “أنا كنت حافيا”. ورغم كل هذه الدقة بالتفتيش فإن ساعة يدي مرت، لم أتعمد إخفاءها، فقط لم ينتبه لها أحد، وعندما صاح المساعد:

– يا كلاب … كل واحد يحمل تيابه.

حملت ثيابي ووضعتها على يدي اليسرى، وفورا فككت الساعة ودسستها في الجيب الداخلي لسترتي، وشعور آخر بالانتصار.!

البلديــــــــات

هي كلمة خاصة بالسجون هنا، هم جنود سجناء … الفارون من الخدمة العسكرية، الجنود الذين يرتكبون جرائم القتل، الاغتصاب، السرقة، مدمنو المخدرات… كل الجنود المجرمين، حثالة الجيش، يقضون فترة عقوبتهم، في مثل هذا السجن، مهمتهم التنظيف وتوزيع الطعام وغيره من الأعمال… من هنا جاء اسم البلديات، هؤلاء في السجن الصحراوي لهم مهمات أخرى.

جمعونا في أحد أطراف الساحة، تكوَّمْنا ونحن نحمل ثيابنا، صوت المساعد ارتفع كثيراً، البلديات يقفون في الطرف الآخر من الساحة. البعض منهم يحمل عصاً غليظةً مربوط بها حبل متدل يصل بين طرفيها، حبل سميك يتدلى من العصا “الفلقة”. صاح المساعد بصوت مشحون موجهاً حديثه للسجناء : -مين فيكم ضابط ؟.

خرج اثنان من بين السجناء، أحدهما في منتصف العمر، الآخر شاب.

-شو رتبتك ؟

-عميد.

-وأنت شو رتبتك؟

-ملازم أول.

التفت المساعد إلى السجناء، وبصوت أقوى:

– مين فيكم طبيب .. أو مهندس أو محامي.. يطلع لبره.

خرج من بيننا أكثر من عشرة أشخاص.

-وقفوا هون.. ثم متوجهاً للسجناء:

-كل واحد معه شهادة جامعة … يطلع لبرّات الصف.

خرج أكثر من ثلاثين شخصاً، كنت أنا بينهم.

مشى المساعد مبتعداً، وقف بجوار البالوعة، صاح بالشرطة:

– جيبولي سيادة العميد!!

انقض أكثر من عشرة عناصر على العميد، وبلحظات كان أمام المساعد!!

-كيفك سيادة العميد؟

-الحمد لله … الذي لا يحمد على مكروه سواه.

-شو سيادة العميد … مانك عطشان؟

-لا .. شكراً.

-بس لازم نشربك.. يعني نحن عرب، والعرب مشهورون بالكرم، يعني لازم نقدم لك ضيافة… منشان واجبك!!

بعد لهجة الاستهزاء والسخرية صمت الاثنان قليلاً، ثم انتفض المساعد، وقال بصوت زاعق:

-شايف البالوعة ؟ .. انبطح واشرب منها حتى ترتوي … يالله يا كلب!!

-لا … ما راح اشرب.

وكأن مساً كهربائياً أصاب المساعد، وباستغراب صادق صرخ:

– شـو ..شـو …شـو ؟؟!!! ما بتشرب!!!

عندها التفت إلى عناصر الشرطة العسكرية ولا زال وجهه ينطق بالدهشة:

– شربوه …. شربوه على طريقتكن و لا كلاب…. تحركوا لشوف.

العميد عارٍ إلا من السروال الداخلي، حافٍ، وبلحظات قليلة اصطبغ جسده بالخطوط الحمراء والزرقاء، أكثر من عشرة عناصر انقضوا عليه، تناوشوه، عصي غليظة، كوابل مجدولة، أقشطة مراوح الدبابات …. كلها تنهال عليه من جميع الجهات، من أول لحظة بدأ العميد يقاوم، يضرب بيديه العنصر الذي يراه أمامه، أصاب بعضهم بضربات يديه …. كان يلكم … يصفع … يحاول جاهداً أن يمسك بواحد منهم، ولكنهم كانوا يضربونه وبشدة على يديه اللتين يمدهما للإمساك بهم… تزداد ضراوتهم، خيوط الدم تسيل من مختلف أنحاء جسده …. تمزق السروال وانقطع المطاط، أضحى العميد عارياً تماماً، إليتاه أكثر بياضاً من سائر أنحاء جسده، خيوط الدم أكثر وضوحاً عليهما، خصيتاه تتأرجحان مع كل ضربة أو حركة، بعد قليل تدلت يداه الى جانبيه وأخذتا تتأرجحان أيضاً، سمعت صوتاً هامساً خلفي:

– تكسروا إيديه !! يا لطيف … هالعميد إما رجّال كتير .. أو مجنون!!

لم ألتفت إلى مصدر الكلام. كنت مأخوذاً بما يجري أمامي، مع الضرب بدأ العناصر يحاولون أن يبطحوه أرضاً، العميد يقاوم، يملص من بين أيديهم… تساعده دماؤه التي جعلت جسده لزجاً. تكاثروا عليه، كلما نجحوا في إحنائه قليلا … ينتفض ويتملص من قبضاتهم وبعد كل حركة تزداد ضراوة الضرب …

رأيت هراوة غليظة ترتفع من خلف العميد وتهوي بسرعة البرق !!.. سمعت صوت ارتطامها برأس العميد….! صوتأ لا يشبه أي صوت آخر….! حتى عناصر الشرطة العسكرية توقفوا عن الضرب، شُلوا لدى سماعهم الصوت لثوان….صاحب الهراوة تراجع خطوتين إلى الوراء .. جامدَ العينين …!! العميد دار بجذعه ربع دورة وكأنه يريد أن يلتفت الى الخلف لرؤية ضاربه !! خطا خطوةً واحدة، وعندما هم برفع رجله الثانية …. انهار متكوّماً على الإسفلت الخشن !!

الصمت صفحة بيضاء صقيلة تمتد في فضاءات الساحة الأولى … شقها صوت المساعد القوي: – يا لله ولا حمير … اسحبوه وخلوه يشرب!!

سحب عناصر الشرطة العميد، واحد منهم التفت الى المساعد وقال:

-يا سيدي .. هذا غايب عن الوعي، شلون بدو يشرب؟!

-حطوا رأسه بالبالوعة .. بيصحى .. بعدين شربوه.

وضعوا رأس العميد بمياه البالوعة، ولكنه لم يصح.

-يا سيدي .. يمكن أعطاك عمره!

-الله لا يرحمه … اسحبوه لنص الساحة وزتوه هونيك.

من يديه جَرُّوه على ظهره، رأسه يتأرجح، اختلطت الدماء بأشياء بيضاء وسوداء لزجة على وجهه!! مسار من خطوط حمراء قاتمة تمتد على الإسفلت الخشن من البالوعة الى منتصف الساحة حيث تمددت جثة العميد. صاح المساعد وقد توترت وبرزت حبال رقبته:

-جيبولي .. هالكرّ الحقير … الملازم.

وبعد أن أصبح الملازم أمامه:

-شو يا حقير ؟ .. بدك تشرب ولا لأ؟

-حاضر سيدي .. حاضر .. بشرب.

انبطح الملازم على الإسفلت أمام البالوعة، غطس فكيه في مياه البالوعة، وضع المساعد حذاءه العسكري على رأس الملازم المنبطح وضغطه إلى الأسفل قائلاً:

-ما بيكفي هيك. لازم تشرب وتبلع!!

ثم تابع المساعد موجهاً حديثه للشرطة:

-وهلق .. خدوا هالكلب عا التشريفة … بدي يكون الاستقبال تمام .!

الملازم الذي شرب وبلع المياه القذرة بما فيها من بصاق ومخاط وبول وقاذورات أخرى، ألقي على ظهره بسرعة مذهلة، ووضع اثنان من البلديات قدميه في حبل الفلقة، لفوا الحبل على كاحليه ورفعوا القدمين إلى أعلى.

القدمان مشرعتان في الهواء، ثلاثة عناصر من الشرطة توزعوا أمام القدمين وحولهما، بحيث كانت كرابيجهم تهوي على القدمين دون أن تعيق إحدى الكرابيج الأخرى، ارتفع صراخ الملازم عالياً، تلوى جسده يحاول خلاصاً، ولكن دون جدوى.

استفز صراخُ الملازم واستغاثاتًه العالية المساعد، مشى باتجاهه مسرعاً، وكلاعب كرة قدم وجّهَ مقدمة بوطه إلى رأس الملازم وقذف الكرة.

صرخ الملازم صرخة حيوانية، صرخةً كالعواء… استُفز المساعد أكثر فأكثر، سحق فم الملازم بأسفل البوط، عناصر الشرطة يواصلون عملهم على قدمي الملازم، المساعد يواصل عمله سحقاً، الرأس، الصدر، البطن… رفسات على الخاصرة … حركات هستيرية للمساعد وهو يصرخ:

-ولاك عرصات … ولاك حقيرين …. عم تشتغلوا ضد الرئيس !!… ولاك سوّاك زلمة … سواك ملازم بالجيش … وبتشتغل ضده ؟!!… ولاك يا عملاء… يا جواسيس !.. ولاك الرئيس خلانا نشبع خبز… وهلق جايين أنتو يا كلاب تشتغلوا ضده ؟!… يا عملاء أمريكا…. يا عملاء اسرائيل… هلق عم تترَجُّوا ؟!!… بره كنتوا عاملين حالكن رجال … يا جبناء … هلق عم تصرخ ولاك حقير !!…

على إيقاع صرخات المساعد و”دبيكه” فوق الملازم، كانت ضربات الشرطة تزداد عنفاً وشراسةً، وصرخات واستغاثات الملازم تخفت شيئاً فشيئاً.

بعد قليل تمدد الملازم أول إلى جانب العميد!!… هل كان لدى إدارة السجن أوامر بقتل الضباط أثناء الاستقبال أو التشريفة ؟”.

والآن جاء دورنا. ” إجاك الموت يا تارك الصلاة !” عبارة سمعتها فيما بعد من الإسلاميين حتى مللتها، ولكن فعلا جاء دورنا، حملة الشهادات الجامعية، ليسانس ، بكالوريوس ، دبلوم ، ماجستير .. دكتوراه .. الأطباء شربوا وبلعوا البالوعة، المهندسون شربوا وبلعوا البالوعة، المحامون .. أساتذة الجامعات .. وحتى المخرج السينمائي .. شربت وبلعت البالوعة .. الطعم .. لا يمكن وصفه !! والغريب انه ولا واحد من بين كل الشاربين تقيأ !!.

وأصبح بين هؤلاء جميعاً شيئان مشتركان، الشهادة الجامعية، وشرب البالوعة !! .

ثم أكثر من ثلاثين فلقة، كل فلقة يحملها اثنان من البلديات، أمامها ثلاثة عناصر وثلاث كرابيج…. والكثير.. الكثير.. من القسوة، الألم، الصراخ.

الألم.. الضعف.. القهر.. القسوة.. الموت.. !!

قدماي متورمتان من آثار خيزرانة أيوب (في فرع المخابرات بدمشق)، بالكاد أستطيع المشي. عندما مشيت في الساحة الأولى فوق الإسفلت الخشن ، كنت كمن يمشي على المسامير ، رفع البلديات قدمي الى الأعلى بالفلقة ، ثلاثة كرابيج تلسع قدمي المتورمتين .. موجة داخلية عارمة من الألم تتكوم وتتصاعد لتنفجر في الصدر… تنحبس الأنفاس عندما تهوي الكرابيج … الرئتان تتشنجان … تنغلقان على الهواء المحبوس وتتوقفان عن العمل … ومع الموجة الثانية للألم وانفجاره في الصدر … ينفجر الهواء المحبوس في الرئتين عن صرخة مؤلمة، أحسها تخرج من قحف الرأس … من العينين … أصرخ … وأصرخ والقدمان مسمرتان في الهواء … كل محاولاتي لتحريكهما … لإزاحتهما … فاشلة !! تنفصلان عني … مصدر للألم فقط… سلك يصل بينهما وبين أسفل البطن والصدر… موجات متلاطمة من الألم، تبدأ الموجة عندهما، تمتد وتتصاعد ثم تتكسر عند الرأس، وصرخة ألم ورعب ومهانة ناثرةً الذهولَ وعدم الفهم والتصديق، أكثر من ثلاثين صرخة متوازية… متشابكة، لأكثر من ثلاثين رجلاً، تنتشر في فضاء الساحة الأولى.

في البداية استنجدت بالله، وأنا الذي كنت طوال عمري أتباهى بإلحادي.

أكثر من ثلاثين صرخة ألم … قهر … تخرج من أفواه أكثر من ثلاثين رجلاً مثقفاً .. متعلماً !! أكثر من ثلاثين رأساً، كل منها يحوي الكثير من الطموح والأمل والأحلام، الكل كان يصرخ … عواء ثلاثين ذئباً … زئير أكثر من ثلاثين أسداً … لن يكون أعلى من صراخ هؤلاء الرجال المتحضرين … ولن يكون أكثر وحشية … وحيوانية!!

يضيع صراخي وسط هذه الغابة من الصراخ وأصوات ارتطام الكرابيج بالأقدام … وترتفع الأمواج. أستنجد برئيس الدولة .. يشتد الضرب .. وأفهم منهم أن علي ألا أدنس اسم فخامته بفمي القذر. استنجد بنبيهم:

-من شان محمد!!!

لطمة على الرأس وصوت المساعد الراعد:

-إي .. […….]!!! ليش في حدا خرب بيتنا غير محمد ؟!

تقلصات الألم تزداد، لحم الفخذين رقيق ويختلف عن لحم باطن القدمين، أختنق بصرخاتي أسكت لحظات لأتنفس وأعب الهواء الذي سأصرخه، غمامة حمراء تتأرجح أمام عيني، حد الألم لا يطاق.

-يا رب خلصني… نجني من بين أيديهم.

قلت هذا الكلام دون أن انطقه، طاف بذهني، ومنه خرج مسرعاً باتجاه السماء.

قواي تخور، قدرتي على الصراخ تخفُتْ، يصبح الألم حاداً كنصل الشفرة، أرى الكرابيج ترتفع عالياً، أتوقعها، إذا نزلت هذه الكرابيج على جسدي فأنا حتماً سأموت !! لم يبق أي طاقة لتحمل المزيد من الألم !!.. الموت… أعود إلى الله:

-يا رب دعني أموت … دعني أموت … خلصني من هذا العذاب.

يصبح الموت أمنية!! أتمنى الموت صادقا … حتى الموت لا أستطيع الحصول عليه!!.