أرشيف الوسم : مذكرات

المعتقلين بين الثبات وسيكولوجيا الانحراف

المعتقلين بين الثبات وسيكولوجيا الانحراف

في ظل محنة الاعتقال والتعذيب وفي خضم التعرض لشتى ألوان ووسائل التعذيب الجسدي والنفسي والذي سبق ووضحاً معالمه يأتي دور المساومة للتنازل عن الثوابت والانحراف عن العقائد والمبادئ عبر دراسة نفسية متعمقة من قبل الجلادين يتحينون فيها زمان ومكان المساومة ويتدرجون فيها بزحف كزحف الأفاعي ومكراً كمكر الذئاب.

كانت المساومات تاتى بعد سنوات التعذيب والقهر التي لا يحتملها بشر لتكون التوبة او الإرشاد أو المبادرات التي فيها تذبح الثوابت والعقائد والمبادئ على مذبح تخفيف المعاناة أو انتهائها.

فإذا أردت أن تنهي معاناتك فما عليك سوى ان تضغط زر الإنهاء ولكن عليك حينها أن تدفع الثمن من دينك وثوابتك ومبادئك.

لن أقوم بالتكلم في هذا الموضوع بالتفصيل ولن أسقط على واقع التوبة والإرشاد والمبادرات لان ذلك يحتاج الى كتاب منفصل قائم بذاته لعلى اسطره قريبا ان شاء الله ، ولكن سنطرح القضية في إطار عام ومن أفضل من سمعت له فى موضوع مشابه  الدكتور/ إياد قنيبي حين كان يتحدث عن الحركات الإسلامية بين الثبات وسيكولوجيا الانحراف.

فوجدت طرحه أنسب لما يكون من واقع داخل أسوار المعتقل إذ تتشابه المنهجية التي يتعامل بها من يحاربون الإسلام داخل وخارج المعتقل

الالتزام والتوافق”

قصتنا تبدأ مع الأسرى الأمريكيين العائدين من معسكرات الاعتقال في الصين الشيوعية بعد الحرب الكورية التي اشتركت فيها الدولتان في الخمسينات من القرن الماضي، حيث تفاجأت القيادة الحربية الأمريكية بنجاح مقلق للمستجوبين الصينيين في تطويع الجنود الأمريكيين واستخراج المعلومات منهم بدون استخدام الأساليب الوحشية و التعذيب! فقد كان الأسرى متعاونين إلى أقصى الحدود في الإبلاغ عن محاولات الهروب لزملائهم، وكانوا يقدمون هذه المعلومات دون إكراه وبمجرد أن تُعرض عليهم مكافأة لا قيمة لها ككيس من الأرز

على إثر ذلك شكلت القيادة الحربية الأمريكية فريق التقييم النفسي و العصبي بقيادة الدكتور هنري سيغال الذي قام باستجواب أسرى الحرب العائدين بشكل مكثف للوقوف على طرق الصينيين في استمالتهم للتعاون معهم وتغيير قناعاتهم. فتبين أن الصينيين يعتمدون طريقةَ “انتزع تنازلا صغيرا ثم ابنِ عليه”، بحيث ينتزعون من الأسير الأمريكي أي تنازل يسير، ثم يوثقون هذا التنازل، ثم يستدرجون الأسير إلى الاعتراف بتبعات ولوازم هذا التنازل، فيلتزم الأسير هذه التبعات ويقرُّ بها، إلى أن يجد نفسه يغير نفسيته ليصبح منسجما مع موقفه الجديد، ومن ثم تتفاقم تنازلاته إلى أن يصبح في النهاية عميلا من حيث لا يشعر. هذه هي خلاصة أسلوب الالتزام والتوافق

(Commitment and Consistency).

بداية كان الصينييون يطلبون من الأسرى الأمريكيين أن يعطوا تصريحات تبدو في غاية البساطة وبدون أية تبعات تذكر، مثل: “الولايات المتحدة الأمريكية ليست كاملة” أو: “لا توجد مشكلة البطالة في الدولة الشيوعية”.ولكن ما أن تتم تلبية هذه الطلبات “البسيطة” حتى يطالب الأسرى باتخاذ موقف آخر يبدو نتيجة تلقائية للتصريح الأول، لكنه يمثل تنازلا أكبر وتلبية أقرب لمطالب العدو.

فمثلا الأسير الذي يوافق مع المستجوب الصيني على أن الولايات المتحدة ليست كاملة يطلب منه كتابة قائمة بالمشاكل في أمريكا التي تجعلها غير كاملة، ثم يوقع باسمه على القائمة. ثم بعد فترة يُطلب منه قراءة هذه القائمة في مجموعة نقاش مع الأسرى الآخرين. وقد يطلب منه بعدها أن يكتب مقالا يتوسع فيه بشرح تفصيلي للنقاط التي كتبها في قائمته و جوانب تلك المشاكل. ويقال له في ذلك كله: (أليس هذا ما تعتقده أنت بنفسك دون إجبار أحد؟ لا نطالبك بأكثر من أن تصرح بمعتقدك. إن كنت واثقا من معتقدك فأنت على استعداد أن تلتزم به. أليس كذلك؟)

وهذا ما نقصده بالالتزام (Commitment): صَرَّح الأسير تصريحا بسيطا لكنه التزم بتبعاته.

وكان الصينيون يُجرون مسابقات بين الأسرى الأمريكيين لأحسن مقال عن مقارنة نظام أمريكا بالشيوعية، وأحيانا يفوز مقال يمدح في عمومه الولايات المتحدة لكن يلين لوجهة النظر الصينية الشيوعية في موضع أو موضعين. المهم انتزاع أي تنازل بسيط

ثم إذا بالصينيين يبثون مقال الأسير الأمريكي مع اسمه على الراديو الموجه للقوات الأمريكية المقاتلة وكذلك في كل معسكرات الاعتقال، بحيث يسمعه الأسير نفسه. وفجأة يجد الأسير الأمريكي نفسه قد قام بتصرفات تخدم العدو، أي أنه أصبح بطريقة أو بأخرى “متعاونا مع العدو“.

والمهم جدا في الأمر أن الأسير يدرك في نفسه أنه قد كتب مقاله واتخذ مواقفه طواعية بدون تهديدات شديدة أو إكراه. فلو تم الأمر بالإكراه لوجد الأسير لنفسه عذرا لمواقفه هذه وكذلك الناس حوله، بل سيؤدي الإكراه إلى نفوره من المواقف التي اتخذها ورفضها وتبرؤه الداخلي منها. لكنه، في الواقع، فعل ما فعل دون إكراه.

فينتهي الأمر بالأسير إلى تغيير نظرته إلى نفسه حتى يصبح متوافقا و منسجما (consistent) مع الفعل الذي قام به ومع التعريف الجديد لنفسه كــ (متعاون مع العدو). بدأ الأمر بتصريحات تبدو تافهة و عديمة القيمة، لكن الأسير التزم بهذه التصريحات ثم استُدرج لخطوات أخرى غيرت من نفسيته، وهذا التغيير بدوره سمح له بتقديم تنازلات أكبر، وهكذا دواليك على مبدأ الحلقة الخبيثة (vicious cycle) إلى أن يكتب مقالا موسعا ينتقد فيه نظام الدولة التي كان يحارب من أجلها بل ويتعاون مع عدوها.

هذه خلاصة أسلوب الالتزام والتوافق

ضرورة أن يوثق الأسير الأمريكي موقفه أو تصريحه، حيث أن هذا التوثيق أقوى في تغيير انطباعه عن نفسه وانطباع زملائه عنه.

فالشخص يستحضر لاشعوريا مواقفه السابقة، وخاصة الموثقة منها، وكأنها المصدر الرئيسي لمعلوماته عن نفسه و تحديد شخصيته. وعليه فقد كان الصينيون حريصين على انتزاع موقف موثق منسجم مع رغباتهم، إلى درجة أن الأسير إذا رفض أن يكتب العبارات المذكورة أعلاه مثل”أمريكا ليست كاملة” أو “لا بطالة في الشيوعية” فإنه كان يُطلب منه نسخ سؤال وجواب مكتوبين له مسبقا فيهما هذه المعاني. فهذه الكتابة بخطه –كدليل ملموس- تستدرج الأسير إلى التغيير النفسي ولو بدأ قليلا، كما أن الصينيين كانوا يطلعون الأسرى الآخرين عليها لتتغير نظرتهم إلى زميلهم. والغريب في الأمر أن الآخرين، حتى وإن علموا بأن الكاتب لم يختر كتابة تلك السطور بدافعية ذاتية، إلا أنهم سيشعرون بأن تلك الكتابات تمثل حقيقة اعتقاد الأسير وإحساسه طالما أن صياغتها لا تُشعر بأنه كتبها مكرها. وهذه خلاصة دراسة لعالمي النفس إدوارد جونز وجيمس هاريس

الالتزام العلني:

فالذي يتخذ موقفا معلنا يكون أكثر التزاما به ودفاعا عنه ممن لا يعلن موقفه على الملأ.

لذا فقد كان الصينيون في المسابقات المذكورة يأتون بالمقال الذي يلين ولو قليلا للشيوعية وسط مديح كثير لنظام أمريكا، فيعلقونه في معسكر الاعتقال ويبثونه بالراديو، ليجد صاحب المقال نفسه مدفوعا إلى المحافظة على الموقف الذي اتخذه، مبررا للتصريح الذي صرح به، ليبدو كإنسان لديه مبدأ ثابت، كإنسان منسجم مع ذاته ومتوافق مع أفعاله. وهنا حبكة الموضوع

فالشخص الذي يتصرف بأشكال متناقضة يبدو في عيون الناس متقلبا غير واثق، مشتت الفكر, غير جدير بالثقة. و هذه الخصائص كلها مكروهة من المجتمع و من الشخص نفسه. بينما يبدو الشخص المتوافق الثابت في تصرفاته بأنه واثق سديد الرأي. ولذلك فإنك تجد الناس يسعون دائما لأن يكونوا متوافقين في تصرفاتهم و يتجنبوا كل ما يمكن اعتباره تضاربا في مواقفهم

3) الجهد الإضافي المبذول: فهو يؤدي إلى التزام أعلى.

في عام 1959 قام الباحثان إليوت أرونسون و جدسون ميلز بدراسة بينت أن الشخص الذي يخوض ألماً و عناءا شديدين في سبيل الحصول على شيء ما فإنه يعطي هذا الشيء أهمية أكبر بكثير ممن حصل على الشيء نفسه بجهد قليل. وفي حالة الأسرى الأمريكيين فإن كتابة مقال موسع سعيا للفوز في المسابقة لم تكن أمرا سهلا

العامل الرابع لنجاح استدراج الأسير بأسلوب التوافق والالتزام هو:

الاختيار الذاتي:

و هو العامل الأكثر أهمية!

ففي تجربة الأسرى الأمريكيين فإنه يتبادر إلى الذهن أنه حتى يتم تحفيز الأسير للفوز في مسابقة بكتابة مقال يلين للشيوعية فإن الجوائز مقابل ذلك يجب أن تكون ذات قيمة عالية. ولكننا نجد أن الجوائز كانت ذات قيمة قليلة، فمن بعض السجائر إلى القليل من الفواكه الطازجة، وليس جائزة كبيرة مثل ملابس دافئة في البرد القارص أو تسهيل الاتصال بالعالم الخارجي.

كان هدف حجب الجوائز الكبيرة هو أن يحس الأسير بأن كتاباته هي ملكه ونابعة من ذاته، بدون أن ينظر لنفسه على أنه كتب ما كتب من أجل جائزة كبيرة. والهدف من ذلك كله هو أن يتحمل الأسير أمام نفسه مسؤوليةً عما كتب.

فالهدف من هذه المحفزات هو تحفيز الأسرى للمشاركة في المسابقة، والحدُّ من قيمتها هو لئلا يشعروا بأنهم غيروا مبادئهم من أجلها. إذ أن المطلوب هو أن يقبل الأسرى المسؤولية الذاتية الداخلية عن عملهم وكتاباتهم ويشعروا بأنهم ملزمون به ومضطرون للدفاع عنه.

كانت هذه خلاصة تجربة الأسرى الأمريكيين الذين قدموا تنازلات تبدو عديمة التبعات في البداية لكنهم وصلوا في المحصلة إلى تغيير مبادئهم والتعاون مع العدو

اسقاط

فحتى لو قبل الاسرى الإسلاميون هذه الصفقة، فإنهم لن يقبلوا المسؤولية الداخلية عنها، ولن يروا التنازلات التي قدموها جزءا من كيانهم، ولن توافق نفسياتهم لتتناسب مع هذه التنازلات. إذ أنها سترى هذه التنازلات حينئذ شيئا منفصلا عن سلوكها ومنظومتها النفسية قامت به كحالة استثنائية من أجل تحصيل هدف مؤقت، ثم سترفضه وتتبرأ منه بمجرد تحصيل هذا الهدف.

وليس هذا هو الذي يريد الأعداء تحقيقه. بل هم يريدون لمنتسب الحركات الإسلامية ألا يحس بالاستدراج، بحيث إذا نظر إلى نفسه في المرآة مساءاً لا يحس أنه يرى صورة رجل غير مبادئه. فإذا قالت له نفسه: (أجبتَ أعداءك إلى ما طلبوه منك؟) رد عليها: (بل أنا صاحب القرار وأنا اخترت أن أفعل ما فعلت، بقناعة منبثقة من نفسي و ذاتي). وإن قالت له نفسه: (إنك تتنازل) رد عليها: (أتنازل من أجل ماذا؟ الذي يتنازل يُغرى عادة بشيء يحرص عليه. إنما أنا أتلمس فلتات العدو وسهواته ونقاطَ الضعف في نظامه وقانونه لأحقق منفعة لديني. والتصريح الذي صرحتُه والموقف الذي اتخذتُه لا يشكل خرقا كبيرا لمبادئي وعقيدتي).

إذن فهو يوهم نفسه بأنه يغافل العدو وينسلُّ من خلال ثغرات نظامه، لا أنه يساوَم على مبادئه.كان هذا فيما يتعلق بعامل الاختيار الذاتي، وهو –كما في كتاب التأثير وسيكولوجيا الإقناع- أهم عامل لإنجاح أسلوب الالتزام والتوافق

عجائب المعتقلات

مذكرات معتقل إسلامى

(سنوات الألم والأمل فى معتقلات أمن الدولة – الباستيل المصرى ) : رحلة إلى عالم المعتقلات وأقبية أمن الدولة لتوثيق معاناة المعتقلين الإسلاميين وما تعرّضوا له من أصناف وألوان التعذيب الجسدى والنفسى وكيف كانت الإعانة الإلهية وأضعف الأسباب سبيلهم للتكيّف مع هذه الظروف البالغة الصعوبة بطرق عجيبة مبتكرة ، وإطلالة على وسائل الظالمين وحيلهم المادية والمعنوية فى مكافحة الإسلام والإسلاميين وكيفية مواجهتها والتغلب عليها وما خلفته هذه الملحمة الإنسانية من قصص ودروس وعبر جديرة بالتدبر والتوثيق

عجائب المعتقلات

  • حين يقف المعتقل يناشد القاضي يترجاه ألا يحكم له بإخلاء السبيل.
  •  حين يحتضن الأب المعتقل ابنه ذي العشرة أعوام وهو يراه لأول مرة ويقول الولد لأبيه … ازيك يا عمو.
  •  حين يقف المعتقل أمام ابنته في غرفة الزيارة ينظر خلفها منتظراً ابنته وتنظر حولها تتلمس أباها.
  • حين يعلم أهل معتقل أنه حي بعد ظنهم موته بعشرة سنوات.
  •  حين يقول شخص لمبارك في الحرم اتقي الله فيشحن إلى المعتقل خمسة عشر عاماً.
  • حينما يخطب معتقل زوجته لرجل آخر بعد أن يطلقها حماية لها ولأولادهما.
  • حين يكون المعتقل لم يتجاوز الثانية عشر عاماً.
  • حين يدخل معتقلاً وعمره ثمانية عشر عاماً ليخرج وعمره 43 وأربعون عاماً.
  • حين يولد مولدك الأول وأنت في المعتقل ثم تمر السنوات ليولد مولودك الثاني وأنت لازلت معتقل.
  • حين يشتاق الأب لرؤية ولديه لم يراهما منذ عشرين عاماً حتى يصيرا شابين يافعين  ويتم اعتقالهم معه ليكون اللقاء.
  • حين تكون علبة التونة الصفيحية فارغة هي السكن والبوتاجاز والسخان والغسالة.
  • حين يكون قلمك هو أنبوبة المرهم الفارغة وورقتك هي قطعة من ملابسك.
  • حين يعجز البشر عن إعانتك فتأتيك المعونة في هيئة رفيق زنزانة من عالم الجن.
  •  حين يحصل معتقل على الثانوية فيدخل طب ويحصل عليها مرة أخرى ليدخل هندسة.
  •  حين يعتقل زوج وزوجته فلا يرى بعضهما البعض إلا بعد مرور خمسة عشر عاماً ولازال معتقلين وقت اللقاء.
  • حين تعقد قرانك فتعتقل ويتم زفافك بعدها بأربعة عشر عاماً.
  •  حين يكون الزفاف للعروسين في المعتقل.
  • حين تحصل في المعتقل على الدكتوراه في العلوم السياسية وقد مكثت ما يقرب من خمسة عشر عاماً.
  • حين يكون الإعدام أحب إلى قلب المتهم من السجن لأنه طريق إلى الشهادة ولأنه سبيله إلى حياة أبدية لا تقارن بالحياة التي من أجلها يبيع الكثيرين دينهم
  •   حين يكون رفيق زنزانتك الذي يوقظك للصلاة ويؤنس وحدة شخصاً ليس من عالم الإنس.
  • حين يكون مدرس الكيمياء للطالب الثانوية المعتقلين أحد المعتقلين الحاصلين على دكتوراه دولية في الكيمياء، ومدرس الفيزياء دكتورا في الذرة.
  •    حين يقتاد صولاً في الحبس أستاذ دكتور في الفنية العسكرية إلى زنزانته.
  • حين يعيش سجينان في زنزانتين متجاورتين ولمدة سنوات يتحدثان ويتحاوران ويتآخيان في الله ويهون كل واحد على الأخر محنته ويشاركه همومه طوال هذه السنوات ولا يعرف كل منهما شغل الآخر.

مذكرات معتقل اسلامي -منبر الزنزانة 3-4

منبر الزنزانة (3)

إن الحياة وسائر ما يلابسها من لذائذ وآلام، ومن متاع وحرمان… ليست هي القيمة الكبرى في الميزان… وليست هي السلعة التي تقرر حساب الربح والخسارة، والنصر ليس مقصورا على الغلبة الظاهرة، فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة.

إن القيمة الكبرى في ميزان الله هي قيمة العقيدة، وإن السلعة الرائجة في سوق الله هي سلعة الإيمان، وإن النصر في أرفع صوره هو انتصار الروح على المادة، وانتصار العقيدة على الألم، وانتصار الإيمان على الفتنة… وفي هذا الحادث انتصرت أرواح المؤمنين على الخوف والألم، وانتصرت على جواذب الأرض والحياة، وانتصرت على الفتنة انتصارا يشرف الجنس البشري كله في جميع الأعصار… وهذا هو الانتصار…

إن الناس جميعا يموتون، وتختلف الأسباب، ولكن الناس جميعا لا ينتصرون هذا الانتصار، ولا يرتفعون هذا الارتفاع، ولا يتحررون هذا التحرر، ولا ينطلقون هذا الانطلاق إلى هذه الآفاق… انما هو اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده لتشارك الناس في الموت، وتنفرد دون الناس في المجد، المجد في الملأ الأعلى، وفي دنيا الناس أيضا، أذا نحن وضعنا في الحساب نظرة الأجيال بعد الأجيال!

لقد كان في استطاعة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم، ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم؟ وكم كانت البشرية كلها تخسر؟ كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير، معنى زهادة الحياة بلا عقيدة، وبشاعتها بلا حرية، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد؟

إنه معنى كريم جدا، ومعنى كبير جدا، هذا الذي ربحوه وهم بعد في الأرض، ربحوه وهم يجدون مس النار، فتحرق أجسادهم الفانية، وينتصر هذا المعنى الكريم الذي تزكيه النار!

ثم إن مجال المعركة ليس هو الأرض وحدها، وليس هو الحياة الدنيا وحدها، وشهود المعركة ليسوا هم الناس في جيل من الأجيال، أن الملأ الأعلى يشارك في أحداث الأرض ويشهدها ويشهد عليها، ويزنها بميزان غير ميزان الأرض في جيل من أجيالها، وغير ميزان الأرض في أجيالها جميعا، والملأ الأعلى يضم من الأرواح الكريمة أضعاف أضعاف ما تضم الأرض من الناس… وما من شك أن ثناء الملأ الأعلى وتكريمه أكبر وأرجح في أي ميزان من رأي أهل الأرض وتقديرهم على الإطلاق!

وبعد ذلك كله هناك الآخرة، وهي المجال الأصيل الذي يلحق به مجال الأرض، ولا ينفصل عنه، لا في الحقيقة الواقعة، ولا في حس المؤمن بهذه الحقيقة.

فالمعركة إذن لم تنته، وخاتمتها الحقيقية لم تجيء بعد، والحكم عليها بالجزء الذي عرض منها على الأرض حكم غير صحيح، لأنه حكم على الشطر الصغير منها والشطر الزهيد.

* * *

النظرة الأولى هي النظرة القصيرة المدى الضيقة المجال التي تعن للإنسان العجول، والنظرة الثانية الشاملة البعيدة المدى هي التي يروض القرآن المؤمنين عليها، لأنها تمثل الحقيقة التي يقوم عليها التصور الإيماني الصحيح.

ومن ثم وعد الله للمؤمنين جزاء على الإيمان والطاعة، والصبر على الابتلاء، والانتصار على فتن الحياة… هو طمأنينة القلب: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} [الرعد: 28].

وهو الرضوان والود من الرحمن: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا} [مريم: 96].

وهو الذكر في الملأ الأعلى:

منبر الزنزانة (4)

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد” [أخرجه الترمذي].

وقال صلى الله عليه وسلم: “يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، فإن اقترب إلي شبرا اقتربت إليه ذراعا، وإن اقترب إلي ذرعا اقتربت منه باعا، وإن أتاني مشيا يمشي أتيته هرولة” [أخرجه الشيخان].

وهو اشتغال الملأ الأعلى بأمر المؤمنين في الأرض: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم} [غافر: 7].

وهو الحياة عند الله للشهداء: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين} [آل عمران: 169 – 171].

كما كان وعده المتكرر بأخذ المكذبين والطغاة والمجرمين في الآخرة والإملاء لهم في الأرض والإمهال إلى حين… وإن كان أحيانا قد أخذ بعضهم في الدنيا… ولكن التركيز كله على الآخرة في الجزء الأخير: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد، متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد} [آل عمران: 196 – 197].

{ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار، مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء} [إبراهيم: 42 – 43].

{فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون، يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون، خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون} [المعارج: 42 – 44].

وهكذا اتصلت حياة الناس بحياة الملأ الأعلى، واتصلت الدنيا بالآخرة، ولم تعد الأرض وحدها هي مجال المعركة بين الخير والشر، والحق والباطل، والإيمان والطغيان، ولم تعد الحياة الدنيا هي خاتمة المطاف، ولا موعد الفصل في هذا الصراع… كما أن الحياة وكل ما يتعلق بها من لذائد وآلام ومتاع وحرمان، لم تعد هي القيمة العليا في الميزان.

انفسح المجال في المكان، وانفسح المجال في الزمان، وانفسح المجال في القيم والموازين، واتسعت آفاق النفس المؤمنة، وكبرت اهتماماتها، فصغرت الأرض وما عليها، والحياة الدنيا وما يتعلق بها، وكبر المؤمن بمقدار ما رأى وما عرف من الآفاق والحيوات، وكانت قصة أصحاب الأخدود في القمة في إنشاء هذا التصور الإيماني الواسع الشامل الكبير الكريم.

خمس دقائق وحسب” تسع سنوات في سجون سورية الحلقة الرابعة

مسرحية التجسس !

وذات مرة أحضروا امرأة فلسطينية إلى إحدى المنفردات ولعبوا لعبة علينا قامت بها هذه المرأة التي تبين بعدها أنها مخبرة مثل منيرة التي قامت بتكملة الدور . ففي البداية قالت لنا فاديا صراحة أنهم طلبوا منها أن تجلس معها وتستدرجها على أساس أنها سجينة مثلها وتحلل لهم نفسيتها وتنقل لهم أخبارها ، وذهبت من المهجع إلى المنفردة وجلست معها اليوم الأول ثم عادت تقص علينا قصصها ، وظلت تقوم بهذا الدور الأسبوع فتأتي وتقص علينا بصراحة كيف أنها تدرس شخصية تلك السجينة وتقدم التقارير بها وتنقل أسرارها للمقدم . . حتى إذا زرعت الشفقة عليها في قلوبنا وجدناهم أحضروها إلينا من المنفردة ووضعوها معنا في المهجع بضعة أيام كنا نعاملها خلالهما أحسن المعاملة ونفتح لها قلوبنا كأية سجينة مظلومة ، وكانت من جهتها تتنقل من واحدة إلى أخرى تسمع قصتها وتستل الأسرار منها . . ثم لم يلبثوا أن نادوا عليها بالإفراج ففرحنا لها وجلسنا نودعها ، فجعلت تسالنا بكل تلقائيه إن كنا نريد إرسال أية رسائل أو معلومات لأحد لنا في الخارج ، ولا أدري ما سبب الشعور الذي تملكني والإحساس بانقباض القلب رأيتها تلح علي في طلب ولو حتى إشارة مني أو أثر تذهب بها إلى أقربائي وأهلي ، فبعد أن هممت بذلك عدت وانسحبت شاكرة وقامت أكثر البنات بإعطائها رسائل إلى أهاليهن وصلت كلها يد المقدم فاستطاع من خلال هذه المخبرة التي أجادت دورها بالتعاون مع فاديا أن يعرف الكثير عما يدور في هذا المهجع وبين نزيلاته المعتقلات ، لكن فاديا ظلت من خبثها تدعي استغرابها مما حدث ، وكان من دهائها أن شاركت حتى في الإضراب الأخير ، وكانت أكثر المتشددات في مراقبة من يهم بالتراجع أو نقض الإضراب . . وكل ذلك تمويها وتدليسا علينا لاستكمال المسرحية ! وفي نفس الفترة انضم إلى مهجعنا نزيلة جديدة اسمها ترفة لم تكن من اتجاهنا ولا من ديننا ، لكنها كانت على النقيض من فاديا هادئة الطباع سمحة الخلق لا تؤذي أحدا بقول أو فعل .

وترفة سيدة مسيحية من باب توما بدمشق في الثالثة والعشرين من عمرها ، كانت لديها – كما روت – مشكلة في الإنجاب ، فذهب بها زوجها إلى الإردن أولا ثم إلى العراق للعلاج ، لكن الزوج اعتقل بعد عودتهما بتهمة التعامل مع العراق واعتقلت معه ، ورغم أنها نفت علمها بأي شيء أو معرفتها إن كان زوجها قد فعل شيئا أم لا ، إلا أنها اقتيدت من بيتها إلى سجن كفر سوسة ، وتم تعذيبها أيضا قبل أن ينقلوها إلى المهجع معنا ، فكانت بيننا كواحدة منا . وعندما قررنا الإضراب أضربت أيضا واستمرت ثابتة حتى النهاية . . وتم نقلها عندما نقلونا إلى قطنا ، لتبقى معنا هناك إلى اخر فترة ولا يفرج عنها إلا بعدنا بشهور .


الضيف ضيف الله !

وتتابع وفود معتقلات جدد ومآس أجد . . فبعد كل من وفد أحضروا إلى مهجعنا الذي غص بنزلائه أختين من اللاذقية هما منى وأمل ف .

عمر الأولى35 أو 36 سنة وهي أم لثلاثة أبناء : بنتين وصبي ، والثانية عزباء في الثامنة أو التاسعة عشرة . وقد بدأت قصة منى التي كانت غاية في الطيب إلى درجة السذاجة بالفعل . . بدأت حينما قتل زوجها برصاصة طائشة أثناء عبوره منطقة كانت مسرحا لاشتباك بين المخابرات وعناصر مضادة في اللاذقية ، وكان – كما روت – يحمل ابنته على كتفه حينما أصابته طلقة اخترقت يده التي يمسك الطفلة بها واستقرت في قلبه فقتلته ، وظلت البنت على قيد الحياة .

وبعد مدة طرق بابها رجل من الملاحقين المشهورين في اللاذقية يسمونه أبا عنتر أو أحمد عنتر ادعى أنه بائع كاز فأرادت أن تشتري منه ، وبينما هو يؤدي عمله سالها إن كان يستطيع أن يختبئ عندها لأنه لا يجد له مأوى فوافقت على بساطتها وأدخلته فأوته . . ولكن أمره انكشف كما يبدو فداهمت المخابرات البيت ووجدوه مختبئا في إحدى الخزائن فرشوه مباشرة وأحضروها إلى السجن . . ولما ساكوها في التحقيق عن ذلك الشخص أجابت : -ضيف .

قالوا : ضيط ؟ هذا أكبر مجرم وأنت تسكنينه في بيتك !

قالت : لأن الضيف ضيف الله ! فسالها المحقق هازئا : ضيف الله ؟ قالت على طيبها وبساطتها : إي والله ! واحد أتاني يقول لا يوجد لي أحد وليس عندي مكان ويسألني الضيافة هل أرده ! وكانت قد اتفقت معه أو اتفق معها أنه إذا سالها شخص عن سبب وجوده معها تقول بأنه خطيب أختها . . فبلغهم ذلك أيضا . . وأحضروا الأخت التي لم تكن تعلم أي شيء عن أي شيء وأودعوها السجن معنا كل الفترة ، وأتوا بأبيهما وبأخيها فسجنوهما أيضا ، ثم أفرجوا عن الأخ وتركوا الأب . ولقد تبدت طيبتها من أول لحظة دخلت بها علينا وهي تبكي بحرقة وتنتحب كالأطفال . . وكالعادة التففنا حولها وحول أختها كأية قادمة جديدة خاصة وأنها محجبة وسألناهما : – من أنتما . . ولماذا أحضراكما ؟

فقصتا علينا القصة . . فسألناهما : -ولماذا تبكيان كل هذا البكاء وهم لم يعذبوكما بعد ولكما في الإعتقال مدة ؟ قالت منى : قال لي العنصر ادخلي فلما لم أدخل بسرعة سب أبي . قالت لها الحاجة : وماذا في ذلك ؟ قالت : أبي لا يسب ! ولقد ظلت منى معنا حتى عام 85 ثم نقلوها إلى اللاذقية ، وعادوا فأرجعوها بعد سنة إلى قطنا وانتقلت معنا إلى دوما حتى خرجنا جميعا ، وأما أختها فخرجت من كفر سوسة عام 1984.


عصة القبر !

ومن نزيلات مهجعنا كذلك كانت أم ياسين ساريج السيدة التي اتهم ابنها بتنفيذ حادثة الأزبكية بدمشق أواخر عام 1981 .

وكانوا في البداية قد أحضروا إلينا صورته مقتولا وقد تمزق وجهه فلا يكاد يبين منه شيء وسألونا إن كنا نعرفه فكان جوابنا النفي ، ومرروا الصورة على كل المهاجع فلم يتعرف عليه أحد ، وفي المساء أحضروا أمه وسألوها إن كانت تعرف عنه شيئا – ولم يكن الشاب ملاحقا فقالت لا أعرف . . وعندما أروها جثته ثبتها الله فلم تزد عن أن تقول : – حسبنا الله ونعم الوكيل .

وكانوا قد اعتقلوا معها زوجها وابنيهما أيضا وكان عمر أحدهما 16 والأخر 12 سنة ، فوضعوا الأب والأولاد في الجنوبي ووضعوها في المهجع معنا، وبقيت هناك فلم يفرج عنها إلا بعد نقلنا إلى سجن قطنا .

ولا أزال أذكر أنهم عندما أخرجونا إلى “المحكمة الميدا نية ” عرض علينا رئيسها النقيب سليمان حبيب صورا من الجريدة لقتلى التفجير وهو يقول: دماء هؤلاء الأبرياء هي السبب في تشكيل المحكمة . . وهذه الدماء سنخرجها والله من رقابكم أنتم وبعد انتهاء من تلك “المحكمة” المهزلة ، وبينما كان أحد العناصر يعيدنا إلى المهجع قال لنا : – شايفين الحادثة التي صارت ، هذه الإخوان فعلوها . . ولازم تتأكدوا أن كل حادثة تحدث في الخارج ستنعكس على الذين في الداخل ! وفعلا كانوا كلما ضيقوا علينا نعلم لاحقا أن أمرا ما قد حدث في الخارج . . ونحس ذلك من منع التنفس فجأة أو إغلاق الطاقة علينا لعدة أيام . . ونتأكد أكثر من صياح الشباب الذي يتعالى وهم يتلقون مزيدا من التعذيب . . وكانت الحاجة رياض ببساطتها تقول عندها : ولي على قامتكم يا اخوان . . تعالوا شوفوا إيش صايرلنا . . أنتم تفعلون ما تريدون على كيفكم ونحن عصة القبر علينا !


سجن أم دير !

واذا كانت مشاهد السجن كلها مؤلمة وحالة السجينات وقصص المعتقلات تفيض بالأسى والمرارة فإن قصة هالة ن . قد تكون من أشد المشاهد التي رأيت إيلاما وأكثر ما سمعت وعايشت في السجن من قصص مرة . . فبينما كنت أنظر من شق الطاقة يوما شد انتباهي مشهد غير طبيعي أراه أمامي ، فالتفت إلى البنات وقلت لهن: كأنهم والله أتوا بواحدة أجنبية لا تفهم العربي ! هذا حسن يكلمها ويجذبها من كتفها وهي تنظر إليه مثل “الخوتة” ولا تفهم عليه . . لكنها تبدو أجنبية مسلمة لأنها تضع حجابا على رأسها .

كانوا قد أخرجوها كما يبدو من المنفردة إلى “الخط ” حينما رأيتها أول مرة ، وانتظرت فرأيتهم حينما أعادوها ، ثم جعلت أراهم يأخذونها ويعيدونها قرابة شهر كامل على هذه الحال : كانوا يشحطونها شحطا ويدفعونها في كل خطوة لتنتقل إلى الخطوة التالية وكأن أعصابها قد أصيبت بالتشنج ، والجمود كسا سحنتها فلا تتكلم ولا تتألم ! كانوا يأخذونها إلى التحقيق ويعيدونها سحبا كالدابة أو كالميت ، ولا تزيد هي على الحملقة فيهم والنظر حولها نظرات بلا معنى ! وبعد شهر كأنما يئسوا منها فأتو بها إلى مهجعنا . . ولا أزال أذكر لحظة أن فتح السجان إبراهيم الباب علينا وهو ممسك إياها من كتفها وناداني : هبة . . قومي استلمي . . هذه وظيفتك . ودفع بنفس المرأة إلى المهجع ومضى .

نظرت فرأيتها وهي لا تزال بحجابها ترتدي بنطالا عريضا جدا يمسح الأرض . . وملابس كلها قذرة لم تنل نصيبا من النظافة منذ زمن لا يعلمه إلا الله ! انتظرنا لحظة أن تتحرك فلم تغادر المكان الذي دفعها إليه إبراهيم وظلت واقفة عنده لا تتزحزح . . تقدمنا جميعا نحوها وسألنا بلطف : ” -ما اسمك ؟ فلم يجب أحد ! – من أين أنت ؟ لم ترد ! تقدمت الحاجة وقالت : – ابتعدوا قليلا . . والله ضبعتوها . فتأخرنا جميعا وتقدمت الحاجة فسألتها من جديد : -ما اسمك يا بنتي ؟ أجابت بصوت كأنما ينبعث من بئر خرب ونظرتها الوجلة مركزة على نقطة واحدة في أفق بعيد لا نراه ولا تتزحزح عنه : من أنت ؟ ومضت قرابة الساعة والسؤال يتردد ومحاولات استنطاقها ولو كلمة واحدة إضافية دون جدوى . . فيئسنا منها وتركناها .

ظنا : لعلها خائفة . . لندعها تهدأ بعض الشيء . وقتها كانت منيرة تستمع إلى الراديو . . وكانت عندما تلتقط إذاعة القران الكريم وعلى الأض برنامج “ناشئ في رحاب القران ” ترفع الصوت أو تعطينا الجهاز لنسمع . . وغالبا ما كنا نضه على أنبوب التدفئة ليسمع الشباب في الزنزانة المجاورة أيضا ، وما أن فعلت وقتذاك وعلا صوت طفل بالتلاوة حتى وجدنا ضيفتنا الجديدة هجمت على الراديو وقالت بانفعال : -أغلقوه . . أغلقوه . . هذا يخلط بالقران . . حرام . . كل هذا كذب وافتراء ! قلنا جميعا وقد تملكتنا الدهشة : أستغفر الله . وقامت أم شيماء فأقفلت الراديو وهي تقول بجد : -يابنات هذه فيها شيء ! لكن هالة ظلت على وقفتها لا تتزحزح ولا تتحرك ولا تغير من وضعها . . صار الليل . . بعد منتصف الليل وهي كالخشبة لا تتحرك . . وعندما حاولنا تحريكها كانت كالمسمار المدقوق في الأرض ! فلم تتمالك الحاجة نفسها ودقت الباب وقالت لابراهيم لما حضر : -يا ابني هذه المخلوقة فيها شيء ؟ ما لها يبست مكانها ؟ نريد أن ننام . . نجلس . . نأكل . . نشرب . . وهي واقفة على وقفتها ! فقال ابراهيم : لا تصدقوها . . إنها تمثل . فسألته الحاجة : وهل هي كذلك منذ أن أتت هنا ؟

قال : نعم . . لكنها تمثل . . كله تمثيل بتمثيل . . تظن أنها ستتخلص من الإعتراف والتحقيق والشيء ثابت عليها . . لكن هذا شيء تحلم فيه ! تركته الحاجة وعادت إليها ثانية فسحبتها من يدها شيئا فشيئا وأجلستها بجانبها فاستجابت وجلست . . سالناهم أن يطفؤوا الضوء ففعلوا وأتينا لننام ، ولم تمض دقائق على ذلك حتى وجدتها متربعة فوق قدمي تحدق في وجهي ، فلما رأيتها كذلك لم أتمالك نفسي وصحت برعب : -حجة . . من شان الله تعالي وخذيها ! قامت البنات كلهن وقامت الحاجة يسألنني ماذا هناك . . فنظروا ورأوها . . وعادت هي فجلست منكمشة تنظر برعب وهلع إلينا ، فجاءت الحاجة وقالت لها بالإنسانية : -تعالي لعندي وانتي ابنتي . . وجعلت تحضنها وتلفها حتى أرجعتها إلى جانبها . . وعاد الهدوء شيئا فشيئا إلى المهجع . . وفي الصباح وبعد أن أدينا الصلاة وعدنا للنوم ثانية أحست وقد غفا الجميع تدفق أنفاس بالقرب مني ، فلما فتحت عيني رأيتها فوق رأسي هذه المرة تكشف الغطاء من جانبه وتتلصص بالنظرإلي ، فلما رأيتها هكذا تخيلت أنها تريد أن تخنقني فصحت صوتا بالمقلوب ولم أعد أقوى حتى على التحرك ، فيما تحركت هي بلا أدنى انفعال وجلست على جنب وكأن شيئا لم يكن ! وكانت ماجدة قد استيقظت على الصوت فسألتها : – ماذا تريدين ؟ هل تريدين شيئا ؟ فما وجدناها إلا وقد نطقت وقالت تسألها بلهجة جامدة : -ماهذا . . هل هذا بدير؟ قالت لها ماجدة : لا . . هذا ليس بدير . . هذا سجن ! فعادت إلى صمتها وظلت على جلستها لا تتحرك .


قذيفة بطاطا !

كان حجاب هالة وثيابها حينما جاءت وسخة جدا ، وبمرور الأيام وهي على حالتها تلك ازدادت نتانة واتساخا ، لكننا كلما حاولت أحدانا أن تقترب منها أو تلامس ثيابها انكمشت أكثر ومنعتها من الإقتراب! وظلت على هذه الحال ثمانية أشهر لا تحكي ولا تأكل ولا تشرب ولا تحرج إلى الحمام ! كنا نسقيها الماء بالغصب وندس لها اللقمة في فمها دسا فتبقى فيه ساعة ولا تبتلعها ! وتقوم في الليل لتدخل الحمام فنتظاهـر كلنا بالنوم ، فتبقي الستارة مكشوفة وتجعل تراقبنا دون أن تفعل شيئا ، فإذا رأت أحدا تحرك تخرج مباشرة ولم تسحب ثيابها عنها بعد وذات يوم جلست عائشة بجانبها وأعطتها حبة بطاطا مسلوقة وهي تقول لها : -خذي . . هذه بطاطا طيبة وحلوة . . وقشرتها لها وأرادت أن تطعمها إياها ، فخطفتها من يدها بسرعة وأطبقت عليها ثم عادت فرمتها . . وكنت وقتها أغسل ملابسي في الحمام فما وجدت إلا شيئا يرتطم برأسي . . نظرت فإذا بها قد قذفتني بالبطاطا فكادت أن تشجني ، فيما وقعت حبة البطاطا في التواليت !


كي. . واعتداء. . وافتراء !

وفي مرة أخرى وبعد شهر من حضورها قررنا أن نغير لها ملابسها بأي طريقة ، وكانت طوال هذه الفترة لم يمس جسدها الماء . لكنها ظلت تنفر وتزمجر كلما اقتربنا منها ، فجاءت الحاجة وأم شيماء إليها معا وقالتا لها: – انظري . . هذه ثياب جميلة وثيابك وسخة الان . . فكشت من جديد علامة الرفض ، فتقدمت أم شيماء لتخلع عنها ملابسها ، فصاحت صوتا يا لطيف ويا ساتر . . ورفضت بكل إصرار ، فلم نجد بدا إلا أن نمزق لها ثيابها تمزيقا لنلبسها الثياب النظيفة لأول مرة ، لكن جسدها ظل وسخا وطال شعرها فكانت تحكه بأظافرها الطويلة الوسخة وتظل تحكه وتحكه بشكل مقزز حتى رجحنا أن لديها قمل ، فقررنا إعادة المحاولة وجلست الحاجة والبنات يسايرنها حتى أدخلوها الحمام . . وما أن بدأن بخلع ثيابها حتى خرجت أصواتها وارتفع زعيقها ، وهرع العناصر يسألون ما الذي يجري فقالت لهم الحاجة : لا شيء . . نريد أن نحممها فقط . . نخاف أن تجرب إن تركناها مدة أكثر .

فقالوا لها : اعلموا أنها تمثل عليكم . . هي سفيهة . . فاجرة . . وظلوا حتى خروجها وانتقالنا إلى قطنا يتكلمون عنها بهدا الكلام . . وعندما حمموها وجدوا آثار ما يشبه الكي بسيخ محمى على أرجلها وفخذيها وجسمها من الأسفل . . لكن الأحجية لم تكن لتحل بعد ، وسر هذه المرأة ظل غامضا يستعصي علينا . . وفجأة وبعد خمسة أو ستة أشهر من وجودها معنا لاحظنا أن بطنها تنتفخ وتكبر وقد بدأت تتأوه وتتألمم ، ثم لم تلبث أن فقدت قدرتها على الإحتمال . . فجعلت تصيح وتستغيث ، فشككنا أنها حامل – ولم نكن قد عرفنا قصتها بعد – وقدرت الحاجة وقتها أنها ربما كانت متزوجة من أحد الشباب وكانا جالسين معا فحدثت مداهمة لقاعدتهم واستشهد الزوج أمامها فأتتها صدمة . . وهى الآن حامل .

ولما لاحظ العناصر ذلك أيضا نقلوا الخبر كما يبدو إلى رؤسائهم ، فأتى رئيس التحقيق وسأل عن الأمر وقال من ثم لعائشة : نريد أن نفحصها فربما تكون حاملا بالفعل. فقالت له عائشة : دعنا نفعل ذلك وسوف نخبركم .

وقامت بالفعل ففحصتها بين الصراخ والزعيق الذي صرع الدنيا فوجدتها قد تعرضت لاعتداء واضح لكنه لم يؤثر عليها كثيرا وليس هناك ما يشير إلى حمل ، وظلت على هذه الحال يومين كاملين حتى ظننا من شدة الألم الذي نزل بها أن منيتها قد دنت . . فجعلنا نقرع الباب عليهم وننادي : -هالة ستموت . . نريد طبيبا . . فأتى أحد العناصر يسأل ماذا حدث ، فقلنا له إنها تكاد تموت من الألم . . فأجابنا بكل برود وجلافة :- وماذا في ذلك؟ مسموح هنا حسب القانون أن يموت 7% من المساجين ! وأمام إلحاحنا الذي لم يتوقف ونحن نراها على هذه الحال أحضروا لها آخر الأمر طبيب الفرع المخصص لا لعلاج السجناء بالطبع وإنما للضباط والعناصر ، فلما كشف عليها قال لهم : -ليس لديها شيء . . مجرد إمساك. وأعطاها تحاميل ومرهما أذكر أنني وضعتهم لها بنفسي . . وبعد قليل يا لطيف دخلت الحمام فخنقتنا الرائحة حتى كدنا نموت ! وكان نهارا لا ينسى حتى طرقت الحاجة الباب وسألتهم أن يفتحوه قليلا قبل أن نختنق جميعا !فسألها مستغربا : ما هذا . . ماذا لديكم . . ماذا فعلتم ؟ فأجابته الحاجة تضحك : فعلتها المدللة !


شويط اللحم !

والذي يبدو أن مسؤولي الفرع قرروا بعد استمرار هالة بتصرفاتها تلك القيام بمحاولة جديدة لامتحانها ، فرأوا أن يخرجوا ابن خالها السجين في نفس الفرع ويجمعوهما معا ليروا رد فعلها من اللقاء ، فسألت الحاجة مديحة رئيس قسم التحقيق أبا فهد أن يسمح لها بمرافقتها علها تستأنس وتتكلم . . ففعل .

فأخرجوهم معا إلى غرفة التحقيق بالقبو وكانت هالة وقتها قد نزعت الحجاب بالمرة وما عادت تبالي بستر أو بلباس ، فخرجت منكوشة الشعر تلبس تنورة ممزقة وتحملق في المجهول ، فما أن راها ابن خالتها بهذه الحال حتى أخذ يناديها بألم : هالة . . هالة . . لماذا تفعلين هذا بنفسك ؟ أنا ابن خالك . . وأمسكها يهزها وهي لا حياة لمن تنادي . . والمسكين يبكي ويقول لها : -يا هالة . . أنا ابن خالك . . أنا فلان . . ولكنها لم تبد أي ردة فعل ولم تظهر أية حركة ، فأتى إبراهيم وفتح باب المهجع علينا ثم جرها إليه جرا ودفعها لتدخل ونحن كلنا نراقب ما جري فما دخلت ، ووضعت يديها على طرفي الباب ووقفت مكانها فاجتمع أربعة عناصر يدفعونها تارة ويسحبونها أخرى ولكنهم ما استطاعوا أن يزحزحونها قيد أنملة . . فأشعل أحدهم السيكارة وجعل يلسع لها يدها ويزيد ويكرر حتى وصلت والله رائحة شويط اللحم إلى أنوفنا وهي لا تزحزح أصبعا واحدا وكأنها لا تحس بشيء . . فلم أتمالك نفسي أمام هذا المنظر الرهيب وصرت أصرخ بلا وعي : – منشان الله . . والله حرام . . حرام . وفي آخر الأمر تعاونوا فحملوها حملا وألقوها كقطعة من خشب على أرض المهجع وأقفلوا الباب . ولم تمض فترة على ذلك اللقاء حتى وجدناهم يستدعونها ثانية لمقابلة والدتها التي علمنا من بعد أنها دفعت مبلغا كبيرا ثمن ذلك ، وكان والد هالة قد أصيب بجلطة إثر اعتقال ابنته فنقل إلى المستشفى ولكنه ما لبث أن مات هناك بعد فترة . . وحضرت الأم الملتاعة إلى السجن وهي لا تزال متشحة بالسواد ، لكن اللقاء أثر بالسلب على الأم والبنت معا ، ففيما ازدادت صدمة البنت وقد علمت بوفاة أبيها تعاظمت لوعة الأم التي هالها أن تجد ابنتها فقدت العقل وانقلبت في تصرفاتها وشكلها أسوأ من المجانين . . فأصاب الأخرى ما يشبه الإنهيار ، ولم يستطيعوا أن يخرجوها من الفرع إلا شحطا !


وتكلمت هالة !

وانتهت المقابلة ، ولكن عذاب المسكينة وتعذيبها لم ينته ، فبعد فترة من الزمان وكان قد انقض على وجودها معنا حوالي الثلاثة أشهر كان باب المهجع مفتوحا للتنفس ، فما وجدناها إلا وقد ارتدت ملابسها وحملت حقيبتها ووضعت غطاء صلاة على رأسها وركضت بلا مقدمات خارج المهجع . . فلما رآها السجان هيثم اندفع وراءها يريد الإمساك بها فزلقت قدمه ووقع على قفاه . . وركض بقية العناصر فأمسكوا بها وأعادوها !لى المهجع .

فسألتها الحاجة: إلى أين كنت ذاهبة ؟ قالت : عيد ميلاد أمي . . رايحة أحضر عيد ميلاد أمي ! ودخل ابراهيم وقد التأم منها بشكل كبير وكانت جالسة على الأرض مثلما ألقاها العناصر فصفعها على وجهها صفعة خبطت رأسها مرتين في الجدار،ثم أمسك بهاوهويصيح : تريدين أن تخدعيننا وتهربي يا . . . وبدأ يلف يدها وراء ظهرها . . ويصفعها . . ثم يدير يدها أكثر ويصفعها . . ونحن كلنا نصيح ونستغيث . . فلا هو يرحمها ولا وهى بين يديه تتلقى العذاب تنبس ببنت شفة ! وعلى هذه الحال ظلت هالة تتعذب وتعذبنا لعذابها حتى كانت أول مرة تكلمت فيها معي حينما كانت مستلقية ذات مرة ، فلاحظت أن أظافرها قد طالت جدا فقلت لنفسي : فلأحاول معها من جديد .

وسألتها: -قولي لي يا أختي . . ما اسمك ؟ ففوجئت بها تجيبني بصوت كأنما هو قادم من عالم اخر : -اسمي على كسمي . .اسمي مخبا بنسمي ! انتفضت وأنا أصيح : حجة . . حكت . . حكييت ! .

وسألتها من ثم وأنا بين مصدقة لما أسمع ومكذبة : – ما رأيك أن أقص لك أظافرك ؟ ومددت يدي أحاول أن أمسك بأصابعها فما وجدتها إلا وقد نترتهم من بين يدي نترا قطعني من الرعب ، فانكمشت على طرف وألغيت الفكرة وما عاودت الإقتراب ! وفي مرة تالية أردنا أن نحممها ثانية فقلنا لعلنا إذا أخرجناها إلى حمامات الشباب وجدت المكان أوسع فتستجيب بسهولة ، فلما أخرجناها وأخذنا معنا بقجة ثياب . . سألت : – إلى أين أنتم تأخذونني ؟ إلى التلفزيون ! ولم تلبث أن انفجرت في الصراخ والبكاء فأرجعناها! وفيما بعد وعندما بدأت تتقبل فكرة الحمام قالت للحاجة عندما: سألتها أن تتحمم : لن أفعل حتى تخلع لي هذه ثوبها.مشيرة إلى ماجدة .

فقالت لها الحاجة! – لكنها إذا فعلت فليس لديها ثوب آخر تلبسه . . أنا عندي ثوب والله أرسله أهلي لي وما مسسته أو لبسته وهو غالي علي . . : ولم تكن الحاجة قد لبسته من قبل بالفعل فأخرجته خصيصا لها لعلها تقبل به ،لكنها لم تفعل وكررت طلبها لثوب ماجدة، فخلعته ماجدة لها اخر الأمر.. وقامت الحاجة فأعطت ماجدة بدورها الثوب الجديد!


الأحمر ممنوع والماء مرفوض

وكان مما لاحظناه على هالة أنها تخاف كل شيء أحمر اللون وتنفر منه فعند ما كانت تشاهد ضوء سخان الحمام الأحمر كنا نحس بهلعها وتوترها وكأنه يثير شيئا بأعصابها لا نعلمه . . وكانت ماجدة تضع حلقا على شكل وردة فيه حجرة صغيرة حمراء ،فكانت هالة تحملق فيه أيضا وترتسم على وجهها معالم الخوف . . فقمنا وغطينا الزر بكيس ورق ، وخلعت ماجدة حلقها وأخفته . وكانت عائشة تضع نظارات طبية ،.

فكانت هالة تحملق في النظارات فترة طويلة..وتظل تدنو من وجهها وتبتعد وتعود فتدنو تنظر كما يبدو إلى صورتها المرتسمة على زجاج النظارات ولا تمل وبعد فترة وهكذا بلا مقدمات قالت إنها عطشى . . فملأنا لها كأسا ! من حنفية الحمام حيث نشرب كلنا،فنظرت إلينا هكذا جميعا وقالت بترفع.”

-هل يسقي أحد بوله للثاني ! فقالت لها الحاجة :طيب . . سنأتي لك بأحسن كأس ماء في السجن كله وطرقت الباب فجاء أبو عادل يسأل ما الأمر، فقالت له الحاجة نريد كأس ماء للست هالة . . تريد أن تشرب .

– قال مستغربا:ألايوجدلديكم ماء؟ فأجابته الحاجة : الماء الذي لدينا لا يشرب مع هالة ! فذهب وأتى لها بكأس ماء أعطتها الحاجة إياه ،فنظرت في ثم فينا وقالت: هذا وسخ وبصقت فيه فسألته الحاجة أن يأتي بآخر ففعل ،ولما قدمته لها فعلت الشيء نفسه . .وعادت الحاجة فرجته أن يجلب لها كأسا آخر فاستجاب أيضا وكأنما اندمج في هذه التجربة المثيرة ! لكن الفعل تكرر وعاد فتكرر حتى اجتمعت أمامها سبع كاسات مصفوفة بصقت فيها جميعا وماشربت ولاقطرة! ومرة أخرى وفي إحدى جلسات التسلية كنا نمثل على أننا مثل اللاجئين الفلسطينيين نرسل سلامات لأهلنا عبر الراديو . . فكانت كل واحدة منا تعبر عن مشاعرها وأشواقها بهذه الطريقة ، فكانت الحاجة رياض تقول -أهدي سلامي إلى أمي . . يا حنونتي . . إيش عم تعملي هلق .ا أى أنك جالسة تنشقي وتبكي . . وتنخرط في البكاء . . فتبدأ المناحة ويبدأ الكل في البكاء على  ! أثرها. .فسألناها مرة: – هالة . . ألا تريدين أن تشاركي معنا في الإذاعة؟ وقالت لها أم شيماء: هيا هالة . .أنشدي لنا نشيدا.

فما وجدناها إلا وقد انبلقت مرة واحدة تنشد”توحيد ربي .- ومضت بها فما توقفت حتى نهاية النشيد وجاء السجان وقال : ما هذا؟ عاملين مولد نبوي فقالت له الحاجة : دعنا الآن بحالنا . . أغلق الطاقة واذهب الآن. وكأننا بفرحتنا بكلامها قد ولد لنا أول مولود، فجلسنا نحمد الله أنها نطقت وكسرت عن نفسها حاجز الصمت آخر الأمر

خمس دقائق وحسب” تسع سنوات في سجون سورية الحلقةالثانية

الفصل الثاني : كفر سوسة : رحلة خارج الزمن (يناير 1981 – أكتوبر 1982 )

كفر سوسة : رحله خارج الزمان

عبرت السيارات الثلاث بوابة السجن العامة مضيا نحو المبنى الرئيسي الذي انتصب أمامنا بطوابقه الثلاث ، والتفط السائق حوله بين ممرات ومداخل معقدة حتى بلغ بابا كهربائيا توقف بنا عنده ، واجتذبتنا الأيادي مرة أخرى فاقتادتنا عبر ساحة المبنى الداخلية إلى باب اخر تنزل خمس درجات منه إلى القبو المعتم ، فإذا هو عالم اخر من عوالم الرعب التي قطعناها خلال اليومين الماضيين عن غير ما اختيار .

مضت الأيدي القاسية عبر ممر القبو المظلم فالتفت بنا جهة اليسار وليس في طريقنا إلا الصمت والأ بواب الحديدية الكئيبة ووحشة المكان ، ولم يلبث أن قطع لهاثنا المتدفق صوت أجش أتانا من وسط العتمة ينادي : -منيرة! فما كدنا نلمح المنادي حتى بدت من الجهة المقابلة في اخر الممر فتاة مضفورة الشعر ترتدي “جلابية” شاعت موضتها وقتذاك ، وجعلت تتقدم نحونا متمايلة يوحي مظهرها أنها سجانة أو موظفة هناك . . فلما اقتربت ومن غير أن يلتفت إلينا قال لها أبو عادل رئيس نوبة السجانين وقتذاك : – هيا فتشيهن واحدة واحدة .

ودفع بي أول الجميع إلى غرفة علمنا بعدها أنها غرفة التحقيق والتعذيب ، ودخلت منيرة هذه ورائي وسألتني ؟ – ما اسمك ؟ قلت وقد بلغ التوتر بي مبلغا : وماذا تريدين من اسمي ؟ أحسست وقتها أن بامكاني أن أقتلها من شدة توتري بيدي . . لكنها قالت ببرود : -وليش معصبة؟ .

قلت : والله لا أدري ! ماذا تريدينني أن أفعل ؟ هل يمكن للإنسان أن يكون مبسوطا هنا ! أجابت بنفس برودها ورتابة صوتها : بس لا تعصبي . . أنا سجينة مثلك. قلت بحدة : لماذا تكذبين على ؟ شكلك هذا ليس كشكل السجينات .

قالت : والله العظيم أنا سجينة وقاعدة في مهجع مملوء بنسوان من الإخوان . لم أجرؤ أن أزيد معها وظننتها سجانة تريد أن تستدرجني في الكلام خاصة وأنها تتحدث بالقاف العلوية ، لكنها عادت وقالت لي : ما صدقتيني ؟ بكره بنلتقي بالمهجع وبذكرك .

أحسست لهجة صدق في حديثها فاستأنست بعض الشيء وسألتها دون أن أغادر الحذر : – ومن معك من الإخوان هناك ؟ قالت : هناك واحدة حاجة من حلب وأخرى اسمها أم شيماء و جلست تعد لي أسماء وألقاب لا أعرفها وأضافت : وأنا الشيوعية الوحيدة في المهجع والبقية كلهن من الإخوان فتشتني منيرة بعد ذلك ، وفعلت الشيء نفسه مع ماجدة وملك بالتتابع ، وكان العنصر في انتظاري حينما انتهت ، فأخذني وأصعدني ثانية من القبو ، واقتادني عبر سلالم وممرات عديدة إلى المبنى الجنوبي للفرع ، ليبدأ التحقيق معي حسب الأصول !


بين يدي الجلاد !

كان كل ما حولي يثير الفزع والإضطراب : هذا داخل وذاك خارج . . باب يقفل واخر من أين لا أدري يفتح . . وكل قادم أو عابر يحمل بيده جهاز لاسلكي أو كبلا أو أداة أخرى للتعذيب . . وفي البداية أدخلوني على مكتب رئيس الفرع ناصيف خير بك ، فأحسست وكأنني انتقلت إلى عالم اخر . . فالغرفة واسعة دافئة أنيقة التأثيث ، يمتد السجاد الفاخر على أرضهما بمهابة وقد توزعت عليه كنبات وثيرة ومكتبة ومكتب فاخر يحتل تمثال لرأس الرئيس الأسد ركنا منه ، بينما ينتصب في زاوية الغرفة القصوى تمثال برونزي آخر لرأس الرئيس بالحجم الطبيعي .

وأما المقدم ناصيف الذي كان منهمكا بمحادثة لاسلكية وقتها فلم يعرني أكثر من نظرة ازدراء بطرف عينه ، وأومأ للعنصر أن يعيدني إلى مكاني وأكمل حديثه . . ولم ألبث أن اقتادني ذاك ثانية إلى غرفة أخرى مقابل مكتب ناصيف ، فوجدت مجموعة أشخاص مجتمعين على شاب مقيد يعذبونه ويحققون معه ، وناصيف ممسك جهاز اللاسلكي بيده يتحدث فيه مرة ومع الشاب المسكين والعناصر مرة .

ولم يلبث أن أشار بيده إلى العنصر الذي أحضرني فجذبني ذاك من منكبي وأمرني أن أنتظر خارج الغرفة من جديد ، وأنا كالنائمة لا أكاد أقدر على متابعة المشاهد المتجددة والوجوه المتعاقبة والأصوات التي تختلط الشتائم فيها بالإستغاثات والآهات ! وسرعان ما عاد العنصر فأدخلني الغرفة ذاتها لأحضر تعذيب الشاب نفسه لعلي أخاف وأتكلم ما يريدون .

كانوا أربعة أو خمسة يشتركون في التعذيب أمامي بالكابل والعصي والخيزران والكهرباء : ناصيف خير بك رئيس الفرع ، والرائد عبد العزيز ثلجة وهو رجل ضخم الجثة بالغ الجلافة ، وعناصر آخرون كان أحدهم لم يبلغ العشرين بعد مجندا من درعا كما عرفت لاحقا ينادونه حسين ، ولم أعرف من كان ذاك الشاب ولماذا يعذبونه ، لكنه كان يصيح طوال التعذيب ويستغيث مناديا : – والله العظيم موأنا . . ثم اعترف اخر الأمر لا أدري ليتخلص من مزيد من العذاب أم لسبب اخر فأقرأنه قتل أحد الضباط . . وعندما اشتد التعذيب عليه وكاد صراخه يصيبني بالإنهيار التفت إلى العنصر معي وسألته : -لماذا أتيتم بي هنا ؟ قال بسخرية : لا أعرف . . إسأليهم.

قلت بانفعال : لا أريد أن أسألهم ولكن أنا ما عندي شيء لأعترف به ويضعوني في هذا الموقف فأتفرج على تعذيب الناس . ولم يزد العنصر عن أن هز كتفيه وابتسم متهكما وهو يقول : -لا أعرف . . لا علاقة لي بأي شيء هنا ! واستمر الضرب والتعذيب حوالي نصف الساعة أنهضوا الشاب بعدها مضرجا بالدماء والكدمات فكبلوا يديه ورجليه ، وفيما اقتادني العنصر وراءه لأكمل كما يبدو رؤية المشهد ، سحب الرائد ثلجة الشاب إلى رأس الدرج ، ثم ركله برجله بكل قسوة ، فتدحرج هاويا يئن ، ونادى على أحد ما هنالك لينزله إلى المنفردة في القبو أسفل المبنى ، وعاد فأمر العنصر ليدخلني إلى الغرفة مرة أخرى ، فأوقفني في زاويتها ، وجعل ناصيف وثلجة يتحدثان باللاسلكي لا أدري مع من ، ثم خرج الجميع فجأة ، ليعود الرائد ثلجة وحده ويغلق الباب كهربائيا بضغطة زر ، فاستوى الباب بالجدار حتى لم أعد أدري من أين دخل ولا أين كان هذا الباب . . ومن غير أن يلفظ أي كلمة أو يسألنى أي سؤال لم أحس إلا وصفعة مفاجئة تأتيني على حين غرة اصطدم رأسي من عزمها بالجدار وارتد ، وصارت الدنيا تدور كلها في ، وصرت أرى الرائد أمامي أربعة أشخاص معا ، وأرى رأسي أسفل مني ورجلاي فوق الرأس وفوقي ! لم يزد عن أن قال : – انظري . . إذا ما بدك تحكي ما بتعرفي ما الذي سيحصل لك .


بساط الريح !

خروج الرائد ثلجة برهة لم أكد أتمالك فيها نفسي حتى عاد مع ناصيف ورئيس الدورية التي أحضرتنا من البيت وشخص رابع لم أعرف من كان . وابتدرني ناصيف يقول : -وليك . . شو ما بدك تحكي ؟ ما بدك تقري وتدلينا فين أخوك ؟ قلت له :أخي ليس هنا . قال : إذا أين هو ؟

قلت : لا أعرف الظاهرأنه ذهب ليكمل دراسته . وواقع الأمر فإن أخي صفوان كان قد أخبر أمي عندما زارته في الأردن وقال لهما : إذا سألك أبي أين أنا فقولي له ذهب ليكمل دراسته في الباكستان .

تذكرت ذلك بمجرد أن سألني عنه ، ولم أكن أدري وقتها بأن أمي كانت معتقلة في نفس السجن معي ، وأنه سألها قبل دقائق عن أخي فأجابت الجواب نفسه ، والتقى كلامي مع كلامها في هذه النقطة ، الأمر الذي أعفاني من التعذيب على ذلك السؤال ، ولكنه سألني بلؤم : -أنت تعرفين بأن أخاك هنا ، وسوف تأخذيننا وتدليننا عليه ، أو على رفاقه والبيت الذي يجلسون فيه .

قلت : لا أعلم أي شيء من هذا . . فنادى على أحدهم وقال له : إذهب وأحضر لها بنطالا وأعطها إياه خليها تنستر وضعها على بساط الريح .

تقدم العنصر مني وطرحني على لوح من الخشب له أحزمة طوق بها رقبتي ورسغي وبطني وركبي ومشط رجلي ، ولما تأكد من تثبيتي رفع القسم السفلي من لوح الخشب فجأة فبات كالزاوية القائمة ، ووجدتني وأنا بين الدهشة والرعب مرفوعة الرجلين في الهواء وقد سقط الجلباب عنهما ولم يعد يغطيهما إلا الجوارب والسروال الشتوي الطويل ، ولا قدره لي على تحريك أي من مفاصل جسمي . . وبكل وقاحة صاح العنصر يقول : – انظر سيدي .. أرأيت ؟ قالت إنها ليست من الإخوان . . ولكن انظر كيف أنها منهم ومجهزة نفسها للفلقة ولا حاجة لها للبنطلون ! حاولت دفع أي من القيود الجلدية عن مفاصلي فما استطعت . . وقبل أن أحاول إعادة لوح الخشب إلى استقامته طلبا للستر كانوا قد علقوه من جنزير مثبت به إلى السقف ، وتقدم رئيس الدورية التي اعتقلنا وبيده خيزرانة طويلة رفيعة وسألنى بلهجة تهديد صريح : -شوما بدك تحكي ؟

قلت :ليس لدي أي شيء لأحكيه . في نفس الوقت كان الرائد ثلجة فوق رأسي يجهز مولدا كهربائيا مربع الشكل موصولا بالفيش وله يد يدار بها وملاقط قربها مني وأطبقها فجأة على أصابع يدي . . وفيما هوى ذاك بالخيزرانة على بطن رجلي أطلق هذا شحنة من الكهرباء سرت كالنار في بدنى ، فقال دون أن يلتفت لصرختي : -هه إلسه مابدك تحكي ؟ صرخت : قلت لكم ماعندي شيء للحكي .

قال ببرود : أرأيت كم كانت الكهرباء قوية؟ هذه أخف الموجود لدينا! قلت : حتى ولو كان ، هل أعترف بأشياء أنا لم أفعلها ! قال : لا . . أنت تكذبين وتخبين علينا . . بدك تقومي الآن تأخذينا وتدلينا على البيت الذي يسكن فيه أخوك ورفاقه والا فسنأخذك إلى تدمر ! وأقبل ثلجة هنا بصورة قربها من وجهى وسألنى : – هل تعرفين هذا الشاب ؟ قلت :لا. قال : كيف ؟ ألا تعرفين رفاق أخيك ؟ قلت :لا.

قال : لكن هذا رفيق أخيك الحميم . . هذا عبد الكريم رجب . . ألا تعرفينه ؟ قلت بحزم وقد تأكدت لي الوشاية الرخيصة التي حيكت لي : لا . . لا أعرفه . تبسم الرائد ثلجة ابتسامة صفراء وشرع يقرأ من مجموعة أوراق بين يديه بعين ، وعينه الأخرى تتاج انفعالات وجهي : – هبة الدباغ : منظمة مع الإخوان وتتعامل معهم . . اشترت لهم بيتا ، وتعطي دروسا لسيد قطب في مساجد دمشق و . . صرخت بانفعال وأنا أسمع قائمة الإتهامات الكاذبة للمرة الألف : كذب . . كذب . . لا أعرف أي شيء تتحدث عنه .

دس الرائد ثلجة الأوراق بوجهي وهو يقول : -ألا تري ؟ هذا كله مكتوب هنا . . كله من اعترافات الرجب . . هو الذي تكلم عنك بهذا ، وهو من الإخوان مائة في المائة ويعرف عنك كل شيء ولا بدوأنك تعرفينه أيضا . . عدت إلى قولة كلا . . وعاد التعذيب من جديد ، وصار رئيس الدورية يضرب قدمي بكل عزمه ، حتى أصبحت الخيزرانة عندما تهوي عليهما تشق الهواء بصوت كالصفير ، وجاء عنصر آخر بخيزرانة ثانية وجعل يشارك معه الضرب ، فيما عاد عبد العزيز ثلجة فقبع فوق رأسي وجعل يكوي أصابعي بالكهرباء من جديد .

كان الألم أشد من أن يوصف . . وكنت في البداية أصيح : يا الله . . لكنني لم أعد أستطيع اخر الأمر أن أخرج صوتي ، فصرت ألوح برأسي فقط ولم أعد أحس بشيء . . ووجدتهم بعد عشر دقائق تقريبا من الضرب المتواصل يتوقفون فجأة ، ومع الشتائم والعبارات البذيئة طرق سمعي عبارة : – إلى تدمر! وسرعان ما انفكت القيود عن مفاصلي ، وسحبني عنصر من غرفة التعذيب عبر الممرات والسلالم ثانية إلى سيارة متوقفة عند الباب ، ففوجئت برفيقتي ماجدة قد سبقتني إليها بحراسة عنصر آخر . أركبانا معا ولكنني لم أجرؤأن أتحدث معها بشيء . . وانطلقت السيارة بحركة مسرحية إلى أن بلغت الباب الخارجي ، فسألنى من جديد : -لسه ما بدك تحكي ؟ أحسست وكأن أعصابي المشدودة تصيح كلها معي بصوت واحد : -ما عندي أي شيىء أحكيه . . أنا لا علاقة لي بأحد . . هل تريدون أن أكذب عليكم فقط ؟

هل تريدون ! توقفت السيارة ، ولم يلبث السائق أن عاد بنا إلى المبنى من جديد، وأعادوني مرة أخرى إلى التعذيب . . وعادت نفس الأسئلة والإتهامات تطرح علي ، لكن الضرب والتعذيب اشتد أكثر ، وزاد عدد المشاركين بتعذيبي حتى لم أعد أستطيع أن أعرف عدد من حولي أو عدد المحصي والخيزرانات التي تهوي على رجلي . . وبدأت أرى الغرفة كلها عصيا وخيزرانات . . والناس فيها من كثرة أسئلتهم كالضفادع تنق وتنق بصوت واحد غامض . . فلم أعد في النهاية أجيب على أحد ! وأتاني صوت الرائد ثلجة من جديد

يقول : – ها . . أنت إذا مسلحة . . انظروا إليها . . تدعي البراءة وتنفي أنها منظمة وهي ليست من الإخوان وحسب . . ولكنها مسلحة أيضا! أحسست أن تهمة أكبر تلفق لي هذه المرة فصرخت بعصبية : لا . .أنا لا علاقة لى بأحد . . وأنا لست مسلحة . قال : ولكن رفيقتك ماجدة هي التي قالت ذلك عنك .

قلت : لا تصدقها . . أحضرها لتقول ذلك أمامي . . ربما قالت ذلك من خوفها حتى تنجو من الضرب . قال : لا . . رفيقتك لا تكذب . . هى أصدق منك . . تكلمت عن كل شيء وما تعذبت ، وأنت أذا لم تتكلمي فستبقي تأكلي ضربا حتى تحكي .

وتقدم ثلجة من جديد نحوي وبيده بطارية كهرباء وضعها على فمي مباشرة وقال بلهجة التهديد : -الن تتكلمي ؟

قلت : ما عندي شيء أحكيه . . مهما وضعت لي الكهرباء أو أطعمتني ضربا فما عندي شيء أحكيه ولن أكذب على نفسي .

وهنا صاح ناصيف بضجر : – هيا أنهضها وأعطها ورقة لتكتب ما لديها من معلومات وسنرى بعدها . والتفت نحوي مهددا

يقول : -إذا لم تتحدثي بكل شيء هذه المرة فاعلمي أن لدينا عناصر الواحد منم كالوحش يسد الباب . وأضاف : – هل تعرفين ألشوايا الديرية كيف يكون شكلهم ؟ إذا لم تعترفي فسأدخلهم عليك وسنرى بعدها !


الموت راحة المؤمن !

أنهضوني عن “بساط الريح ” فوجدت نفسي مبللة من غير أن أشعر، وكنت كأنما أغمي علي أثناء التعذيب فدلقوا علي سطل ماء حتى أصحو . تلفت حولي كالسكرى فرأيت الغرفة خلت تقريبا من الناس ، وأدركت من خلال نافذة كانت فوق رأسي أن الدنيا قد أصبحت ليلا ، فقدرت أن ساعتين أو ثلاث انقضت علي وأنا في التعذيب ! وبينا أنا لا أزال أحاول استعادة توازني جاء أحد العناصر بورقة وقلم وجلس أمامي يقول : – انظري . . إذا حكيت فستساعدي نفسك ، وإلا فستطمسي أكثر مما أنت طامسة . قلت له : ماعندي أي شيء أحكيه . قال : لا أحد يأتون به إلى هنا وما عنده شيء . . ولا أحد يصل هنا إلا إذا كان مذنبا . قلت له : ولكن أنا ليس لدي أي شيء .

قال : أنت حرة . وأعطاني استمارة معلومات عامة عن دراستي ومدارسي ثم عن علاقتي بتنظيم الإخوان . . أجبت بما أعرف وأعطيت الورقة للعنصر فذهب بها ، ولم يلبث أن عاد الرائد ثلجة يلوح بها وملامح الغضب بادية على وجهه وهو يصرخ في : – هل هذه أجوبة تلك التي أجبت بها يا أخت ال . . . واندلقت كل الشتائم والعبارات البذيئة دفعة واحدة من لسانه وكأنها كانت تنتظر فرصتها للإفلات وفى آخر عبارة أطلقها سمعته

يقول :أنت تعرفين هذا البيت الذى يسكن فيه أخوك ورفاقه وبدك تدلينا عليه الآن لكن أنا أعرف لماذا لا تريدين ذلك . . تريدين أن تماطلى بالوقت حتى يهربوا اوسجل دون أن أرد عليه بعض الكلمات على الاوراق التى معه وخرج ولم يلبث أن عاد وقالو خرج ، ولم يلبث أن عاد وقال : – إذالم تتكلمي فسننزلك إلى القبو ،والقبو إذا نزلت إليه لا تخرجى منه حتى تموتى قلت له : أحسن. . الموت راحة المؤمن !

قال بغيظ :وتجيبين بكل وقاحة وكل عين يخرب بيتك الم تحسي كم أكلت من قتل ؟ ألا تفكري في أن ترحمى نفسك وتعترفى لتخلصى من هذا العذاب.

قلت له :لكن أنا ليس لدي أي شيء حتى أعترف به . . قلت لكم ماعندى شىء  : في تلك اللحظة دخل ناصيف خير بك من وسمعنى أقول ذلك جديد للرائد ثلجة ،فابتدرني بتكشيرة ونظرة مرعبة وقال والشتائم البذيئة تسبق كلماته- إذا الم تعترفي بكل شيء الان .. مباشرة . .فسوف أعريك من ثيابك صحت وقد هزني التهديد:لكن انا ما عندي شيء احكيه . قال بلهجة الأمر:إخلعي جلبابك .وقفت هنا ونظرت إليه والخوف الحقيقي يغمر قلبي لأول مرة . ل قال ألا تريدين أن تخلعيه؟ أنا سأخلعه لك. وتقدم مني فمد يده يريد أن يفك أزرار الجلباب فما وجد شيئا .

ففي تفصيلة ذلك الجلباب كانت الأزرار مخفية ، فحول يده وأنا أحاول مدافعته إلى رأسي لينزع حجابي فلم يستطع . . أمسكني من شعرى تحت الحجاب وكان طويلا وقتها وملفوفا للخلف أمسكني منه وبدأ يشده فينجذب رأسي كله من غير إرادة مني إليه ،ثم يعود ويخبطه بالجدار . .وسيل الشتائم البذيئة يرافق ذلك كله ،لكنه لم يتمكن رغم ذلك من نزع الحجاب لأن غطاء الصلاة كان قد نزل في أكمامي عندما لبست الجلباب فوقه ساعة الإعتقال . .

فصاح بي : وتقولي عن نفسك أنك لست من الإخوان وثيابك كلها ملتصقة ببدنك التصاقا والجلباب أزراره سرية ومخفية ومجهز اخر تجهيز! .

ومع استمرار صمتى وسيل الشتائم منه نادى أحدهم ليعطيه الكبل أو الخيزرانة ليجدد ضربي . . ووقتها كانت قدماي قد تورمتا من الضرب ولم يعد بإمكاني لبس الحذاء، فقال وهويتناول ماطلب :لا تريدين الكلام ؟ أنا سأريك ” وتقدم ليبدأ ضربي ، فركضت بعفوية منه والتجأت وراء الطاولة فركض ورائي . . وبدأت أركض وأدورحولها وهويركض ورائي ليمسك بى ويصيح : يخرب بيتك كل هذا التعذيب والضرب ولازال فيك روح لتنطي وتركضى ونادى الحاجب وقال له : أمسكها من عندك فلما تقدم العنصر وأمسكني صاح ناصيف فيه : خذها . . خذها تنقلع من وجهى . . خذها إلى المنفردة . . لا أريد أن أراها أكثر من ذلك. لم أصدق أن حفل التعذيب قد انتهى ولم أعي مامعنى أن أذهب الى المنفرده إلا عندما دفع العنصر حذائى الى وجذبنى خارج الغرفه وجعل يقودنى عبرالسلالم والممرات ثانية نزولا هذه المرة وهو يقول لى: لماذا؟ لماذا لم تتكلمي ؟ أما كان ذلك أفضل لك ؟ كنت على الأقل رأفت بحالك . . أنظري كيف انتفخ وجهك وازرقت يداك وتورمت رجلاك وأكلت قتل الدنيا حتى لم تعودي تستطيعين أن تلبسي حذائك .

قلت : ما عندي شيء أحكيه . وأضفت وقد فاض بي الأمر ولم أعد ألقي بالا لكلماتي : الله لا يعطيهم العافية هؤلاء الظلام . . لكنه وكأنما كان يؤدي دورا مرسوما لم يلتفت لعبارتي وأكمل يقول : لكن لو أنك كذبت عليهم كنت خلصت حالك.

قلت :- أنا لا أكذب وأعلم أن الذي يصدق هنا أو يكذب فنتيجته واحدة .

سألنى بدهاء: وكيف عرفت ذلك ؟

قلت : – لأنهم لم يصدقونني . . قلت لهم الحقيقة فلم يصدقوا فكيف سيفعلون إن أنا كذبت عليهم ! كنا قد وصلنا باب القبو أخيرا ، فوجدت حسين . . العنصر الذي كان يشارك قبل قليل في تعذيب الشاب في الأعلى يطل علينا بوجه مظلم وقد فتح فمه على ابتسامة سخرية تكشف سنا مقلوعة فى الوسط فكأنها نافذة في بيت خرب . . استقبلني وبيده كبل يتلوى مثلما تلوت كلمات الترحيب الساخر على فمه وهو يقول : -أهلا . . أهلا وسهلا . . والله نورت !


قن الدجاج !

أمسكني حسين من كتفي وأنزلني الدرجات الخمس إلى أسفل ، واقتادني من جديد عبر الممر المعتم إلى ثاني زنزانة منفردة في ممر آخر لا يكاد يبدو آخره ، وقال وهو يشير إلى الداخل -هذا مكانك . . غرفتك العامرة . . وان شاء الله نومة هنية ! أحسست بالنفور من الظلمة ووحشة المكان وكنت لا أزال متوترة الأعصاب جدا فقلت بلا وعي : – لا والله . . لا أدخلها أبدا ! قال وهو يدفعني إلى الزنزانة بغلظة : -إي بدك تدخلي بكسر رأسك .

التفت إلى أبواب الغرف الأخرى فلمحت صديقاتي زميلات السكن معي يطللن بوجوههن من طاقات الزنازين التي وزعوهن عليها ، فركضت نحوهن وأنا أصيح : فاطمة . . فلانة . . فجذبني بقوة وهو يقول : تعالي . . تعالي . . هل تظنين نفسك في فندق أو في زيارة ! وفجأة سمعت من آخر الزنازين (رقم 24 ) صوت أمي التي يبدو أنها سمعت صوتي أيضا فبدأت تدعو عليهم بصوت عال وتصيح : -هؤلاء حريمات تتقوون عليهن يا ظلام . . ما عندكم رحمة ! والله أنا طول عمري أسمع أنه لا رحمة في قلوبكم ولكنني أرى ذلك الآن بعيني ! بهرتني المفاجأة . . وركضت ثانية باتجاه مصدر الصوت وأنا أصيح بدوري : -أمي هنا ؟ الله يخرب بيتكم . . ماذا تفعلون بها ؟ إخوتي صغار وأبي مريض . . ولا حول جميعا لهم ولا قوة .

فناداني حسين وهو يقهقه بسخرية : -وما حاجتنا لأبيك وإخوتك ؟ نحن نريد أمك فقط ! وذهب فأغلق نوافذ المنفردات جميعا ثم عاد يدفعني إلى المنفردة وأنا أحاول المقاومة وأتكىء على زاوية الباب ، فقال لي مهددا : -إذا لم تدخلي الآن فسأحضر كل عناصر الفرع ليدخلوك.

قلت : المكان معتم جدا ! أجاب بسخرية : أنت الآن ستنورينه . . هيا ادخلي . نظرت فإذا بعلبتين من الصفيح في زاوية الزنزانة واحدة فيها خبيص من أرز أو برغل مع مرق وفي الثانية ماء . . قلت له : والله هذا مثل قن الدجاج . . وهذه والله مثل معاملة الحيوانات ! قال : هذا عشاؤك الليلة داذا كان لك نفس لتأكلي فكليه .

قلت وقد تملكني الغيظ : أنتم تعرفون أن الذي يدخل إليكم لا تعود له نفس ليأكل ! وهنا حضر عنصر اخر متقدم في السن كان يحسن معاملتي فيما بعد قدر المستطاع . . تقدم مني وقال بصوت منخفض : – يالله يا أختي ادخلي وتوكلي على الله ولا تتركي له مزيدا من الفرص ليسخر منك.

فدخلت المنفردة وصوت أمي لا يزال يبلغ مسمعي . . ثم لم يلبث صوتها أن غاب وسط قهقهات العناصر وصياحهم وهذرهم ، وعمت المكان رائحة الخمر وصيحات المجون احتفالا بليلة رأس السنة إ! فيما لفتني في وحدتي الظلمة ووحشة المكان فازدادت أعصابي توترا ولم أستطع حتى أن أغير جلستي ، خاصة وأنهم أخذوا ماجدة بعدي إلى التحقيق وكان من الممكن أنها تعذب في تلك الساعة مثلما كان محتملا أن تقول عني أي شيء . وبقيت على هذا الحال إلى ما بعد منتصف الليل ، حينما حضر أحد العناصر واقتادني إلى غرفة التحقيق من جديد .


لون الليمون !

في غرفة التحقيق وجدت الرائد ثلجة في انتظاري يستقبلني قائلا : – لست من الإخوان أليس كذلك ؟ ولم تقومي بأي عمل لهم ولا تريدين الإعتراف . . ولكن هناك من أرسله الله ليعترف عليك الليلة . هذه رفيقتك – يقصد ماجدة – قالت بأنك مسلحة وأنها رأت السلاخ معك بعينها .

قلت له بتحد : أحضرها لأفقأ لها عينها . . هيا أحضرها لتقول ذلك أمامى . قال : هي لا تكذب ،أنا قلت لك هي لا تكذب . . هي أصدق منك ، والدليل على كذبك لونك الذي أصبح أصفر مثل الليمون .

قلت له : لي ليلتان كاملتان لم أنم ولم آكل ولم أدخل الحمام مع القتل والتعذيب ولعيان القلب ، فكيف لا يصفر لوني ! هز برأسه وهو يمط شفتيه بلا معنى وصاح للحاجب كي يعيدني للمنفردة ، فعدت إلى جلستي القلقة ذاتها وعاد إلي التوتر والأرق ، حتى أنني لم أمد البطانيات خوف أن يأتي أحد العناصر فيفتح نافذة الباب أو يدخل علي وأنا نائمة . . وبينما أنا متكورة على نفسي وسط الزنزانة أرمق الصراصير في تلك الظلمة تتسلق الجدران حولي دونما اكتراث بالنزيل الجديد . . شق جدار السكون فجأة صوت مزلاج الباب الخارجي وصياح السجانين وتدافع أقدام تتخبط مهرولة فوق الدرجات وعلى الممر باتجاه منفردة قريبة .

أدركت بحدسي أن دفعة من المعتقلين الجدد قد وصلت ، وعلمت لاحقا أنهم ستة أو سبعة شباب بين الثانية عشرة والخامسة عشرة من العمر جمعوهم من مسجد واحد وحشروهم معا في هذه المنفردة التي لا تزيد بمساحتها عن متر بمتر ونصف ! والذي يبدو أن واحدا منهم أصابه إسهال من الخوف أو التعذيب فجعل يصيح طالبا الخروج إلى الحمام ، فلا يجيبه إلا صوت العناصر الغارقين في متعة الإحتفال برأس السنة : -سد حلقك ! لكن الفتى لم يكن يستطيع الصبر ، فيعيد الرجاء وينادي : -والله بطني بتوجعني . . يا عالم . . لم أعد أستطيع ضبط نفسي . . عندها جاءه عنصر منهم وفتح النافذة وتناوله بضربة بالكبل وهو يكرر-سد حلقك واخرس يا . . .

وسكت الفتى لبرهة يا حرام ، بدأنا نشم بعدها رائحة من زنزانتهم خنقتنا . . فعاد العنصر إليه يكفر ويلعن ويقول له : -فعلتها هنا يا ابن ال . . . وأخرجه إلى الممر وانهال عليه ضربا كالمجنون ، وتعالى صراخ أمي من منفردتها ثانية تدعو عليهم وتقول له : -يخرب بيتك . . مالك قلب بشر؟ سألك أن تخرجه فلم تفعل ففعلها تحته . .ماذا يفعل المسكين بنفسه ؟ وعاد الأمر بعد هذه المهزلة إلى ما يشبه الهدوء من جديد . . ومضت ساعات الليل المتبقية تمر علي أثقل من الجبال ، وعلى الرغم من أنني لم يطرق لي النوم جفنا ليلتها إلا أنني بدأت أفقد الإحساس بما حولي ، وأتخيل ربما من شدة البرد أن الثلج قد غطى المكان كله ، وأن العناصر تستعد لاقتحام الزنزانة علي ليسحبوني في هذا الثلج فيعروني ويعذبوني للمرة الأخيرة قبل أن يرشوني وأغادر الحياة ! لكن شيئا من ذلك لم يحدث ، ولم ألبث وقد دنا وقت الفجر أن أحسست بما يشبه الطرق الخافت على الجدار من الزنزانة الأخرى المجاورة حيث وضعوا ماجدة ، فعلمت أنها تنبهني إلى موعد الصلاة ، ولم نكن خلال الفترة السابقة من الإعتقال كلها قد تمكنا من الصلاة ، فتيممت وهممت أن أبدأ ، لكنني لم أستطع معرفة اتجاه القبلة فطرقت الباب ، ولم يلبث أن حضر حسين من جديد فسألته ، فقال بسخرية : – كيف وضعت رأسك على الفلقة فهذا اتجاه القبلة ! كررت عليه السؤال مع الرجاء ، فقال بتبرم : – أنا لا أصلي . . لا أعرف ، لكنني أشاهد الشباب في المنفردات يصلون بهدا الإتجاه .

فصليت إلى حيث أشار وظهري إلى الباب ، فكان قلبي ينتفض من الرعب طوال الصلاة خشية أن يفتح أحد العناصر علي فيراني وأنا أصلى! فيحدث ما لا تحمد عقباه ! وبالفعل . . وبينما أنا في صلاتي فتح السجان ابراهيم الطاقة ليعطيني الإفطار ، فلما رآني أصلي قال بما يشبه السخرية : -شو . . عم بتصلي ؟ فلم أجب ، ولكنني أحسست أن قلبي قد سقط بين يدي ، غير أن الله سلم ، ومضى إبراهيم فأكمل توزيم الفطور على الزنزانات الأخرى ثم عاد ففتح وسألنى باستهزاء : -خلصتي ؟ الله يتقبل ! هززت برأسي دون أن أجيب ، فاكتفى بدفع طبق الطعام إلي والذهاب . . ولم يكد يفعل حتى فتحت الطاقة من جديد وكان القادم هذه المرة أبو محمد . . الرجل الذي ترفق بي لأدخل الزنزانة ليلة الأمس ،

فسألني : – ألا تريدين الخروج إلى الحمام ؟ أشرت بالإيجاب ، فلما فتح باب المنفردة أطللت على الممر برأسي فما وجدت أحدا . .

سألته : – مالي لا أسمع صوتا هنا ؟ وهذه صديقتي ملك ألم تنزل من التحقيق ؟ قال : خرجوا . . كلهم خرجوا ، وما بقي إلا أنت ورفيقتك الثانية – يقصد ماجدة – . قلت بدهشة واضطراب : وأمي ؟ قال : أنت ورفيقتك وأمك فقط . . صفوكم ! أحسست أنها النهاية وأنها راحت علينا . . خرج الجميع وبقينا نحن . . إذا فهي النهاية! سألته وأنا أشهق بالبكاء : – ولماذا أخرجوهم ولم يخرجونا نحن ؟ أنا لم يثبت أي شيء علي . . أنا بريئة .

أطرق وهو يقول : والله لا أعلم . . إسأليهم ، أنا هنا مجرد موظف. ثم غير مجرى الحديث وقال : – أتريدين أن تأكلي .. ألست جائعة؟ أنا أحضرت فطوري الخاص معي : زبدة ومربى وأشياء أخرى . . أكلت منهم وزاد معي قطعة .

تذكرت وقتها أنني لم أكن قد أكلت شيئا إلى ذلك الوقت من قبل ، لكنني لم أشأ أن آكل طعام غيري أيضا ، فشكرته واعتذرت . . ثم لما اشتد علي الجوع في اليوم الثاني بدأت آكل القشرة الخارجية للصمون الذي يحضرونه لأن الداخل عجين كله . . وقطعة الجبن التي لا يحضرونها إلا نادرا بطبيعة الحال ، وعلى هذه الحال بقيت طوال فترة بياتي في المنفردة ثمانية أيام بالتمام والكمال !


“الخط “ورعاه البقر !

طلع صباح أول أيامي في سجن كفر سوسة وأنا لا أزال قابعة أترقب في زنزانتني المجهول بوجل ، وأطل على أحداث الأيام التي مضت مصدقة ومكذبة! تلفت أتأمل “مسكني ” الجديد فإذا به أشبه بالقبر منه إلى أي شيء اخر ، وعدا الصراصير التي كانت لا تزال تبحث بمجساتها المقرفة عن شيء رطب تقتات عليه لم أستطع في البداية أن أجد على الجدار القاتم شيء ، لكن تسرب بعض الضوء واعتياد عيناي على الظلمة جعلني أبصر خطوطا مميزة بعض الشيء وشعار “الله أكبر ولله الحمد” محفورة أكثر من مرة وحولها أسماء أشخاص عديدين مروا على هذا المكان التعس قبلي . . وكان ثمة نقش لمسجد كتب حوله “لا إله إلا الله محمد رسول الله ” وأسفل منه اسم الشخص الذي نقشه على الأغلب . . كذلك لمحت خريطة لفلسطين وتحتها عبارة “الله أكبر ولله الحمدا ا! لم تكن أكثر من ساعتين على صلاة الفجر قد مضتا حين بدأت دورة يوم جديد من أيام السجن تأخذ مجراها . . فكما الكلاب تفعل كان المحققون والجلادون والسجانون لا ينامون إلا إذا دنا الفجر ويستيقظون وقت الضحى! وسرعان ما بدأت الشتائم واللعنات وعبارات الكفر بالله تختلط بفرقعة الكبلات على ظهور السجناء يقتادونهم إلى الحمامات أو إلى “الخط ” بلغة السجن المتداولة .

كان (ياسين ) المجند العلوي المتطوع أحد أجهل خلق الله وأغباهم يتصدر لهذا العمل على الدوام ، فتراه يمسك بالكبل بيده ويتفرس في طابور المعتقلين المتجه نحو الحمامات لبرهة ، ثم لا يلبث أن ينقض على المساكين لطما ولسعا يسلخ جلودهم كالدواب . . والويل كل الويل لمن كان يجرؤ ويصيح من الألم . . فجزاء ذلك مضاعفة العذاب حتى لا يعيدها ثانية! وسرعان ما انطلق صوت أمي من زنزانتها تنادي عليه : يا ولدي . . هل تظن أنك لا تزال في الضيعة التي جئت منها وهؤلاء قطيع من البقر الذي كنت ترعاه ! ولم يكن ياسين ليرضى أن يقطع متعته الصباحية شيء فاستمر يجلد الشباب ويتلذذ في خلق هذا المشهد الرهيب . . وأمي تطرق الباب بأيديها وأرجلها وتبكي ألما عليهم وحسرة وليس من مجيب ! ولم تكد تنته هذه المأساة ويهدأ المكان بعض الوقت حتى كان موعد التحقيقات قد جاء ، وعاد صراخ المعذبين وصيحات العناصر وشتائم المحققين تقرع اذاننا وتذيب منا القلوب ، ثم وكما بدأت بلا مقدمات خفتت الأصوات من جديد ، ولم ألبث أن وجدت باب الزنزانة يفتح وأحد العناصر يدعوني للذهاب إلى الحمام ، فلما أصبحت هناك وحدي وبدأت الوضوء وكل ظني أنني قد أغلقت الباب بإحكام علي فوجئت بوالدتي أمامي ، فأدهشتها المفاجأة مثلما أدهشتني . . واندفعت من فورها تحيطني بذراعيها وتسألنى وهي بادية الإضطراب : – قتلوك ؟ عذ بوك ؟ قلت أريد أن أخفف المصاب عنها : لا . . أنا بخير . لكنني كنت وقتها أضع رجلي على الحوض وأغسلها للوضوء ، فأشارت مفجوعة إليها

تقول :ولكن ما هذا ؟ رجلك كلها زرقاء وأصابعك مزرقة أيضا ولا تكاد تظهر ! هل أذاك أحد؟ هل مسك أحد ؟

قلت من جديد : لا . . الحمد لله ما مسني أحد .

سألتني وكأننا في سباق مع الزمن : ولماذا أمسكوك إذا ؟

قلت : والله لا أعرف . . يريدون أخي صفوان ويريدونني أن أدلهم عليه .

فأخبرتني هنا أنها أجابت في التحقيق كما أجبت بأنه يدرس في الباكستان ، فشعرت بارتياح لتطابق كلامي مع كلامها ، ولكنني وجدتها تتركني وتخرج إلى الممر ندعو عليهم بأعلى صوتها ، فحضر حسين راكضا وهو يصيح بالعنصر الآخر : – كيف جعلتها تدخل والأخرى لا تزال هناك ؟ ألا تعلم أن اجتماع أكثر من شخص هناك ممنوع ؟ أجاب العنصر الذي أحضر أمي : لم يكن لي عالم بوجود أحد اخر . . لماذا أغلقت أنت باب المنفردة التي كانت فيها ولم تتركه مفتوحا لأعلم أنها لا تزال في الخارج ؟ واقتاد كلاهما والدتي وهي لا تكف عن إطلاق دعواتها عليهم ، ولم تتح لي رؤيتها ثانية إلا بعد أيام ، ولم تتح لي معرفة سبب وكيفية اعتقالها إلا حينما اجتمعنا في المهجع بعد انتهاء التحقيق . . فقصت علي – رحمها الله – ما جرى بالتفصيل .


الكمين !

كانت والدتي – علية الأمير – قادمة من حماة لتحضر لي بعض أغراض كنت قد نسيتها أثناء الإجازة هناك ، ولتكمل بعدها إلى الأردن حيث استقر أخي صفوان مع كثير من الشباب الملاحقين بتهمة معارضة الحكومة والإنضمام إلى تنظيم الإخوان . . ومع والدتي حضرت أسرة ال مرقة ترافقها لزيارة ابنهم المقيم في عمان لنفس السبب .

قالت والدتي – استيقظ أبوك ليلة اعتقالك على منام مزعج أولمه شرا أصاب أخاك صفوان ، فقال لي اذهبي وا نظري أحواله ، فمضيت يرافقني المرقة وقد اتفقنا على المبيت عندكم ليلتها والتحرك إلى عمان في اليوم التالي . ، ولما وصلنا قرب بيتكم في دمشق وبت على خطوات من مدخل البناية سمعت صوتا يأتيني ويقول برجاء ظاهر : يا خالتي ارجعي . . لا تدخلي ! كان أحد الجيران ينادي من جهة لا أراها ويحذرني من الصعود بعد أن تم اعتقالكم قبل ليلة ، ولكنني لم أرد وما ظننت النداء كان لي ، فما أن طرقنا الباب حتى استقبلتنا الرشاشات وأيادي جذبتنا إلى الداخل بغلظة ، ووجدنا أنفسنا بعد ساعة زمن في سجن كفرسوسة !


أحكم الأحكمين . .

كنت وأمي تحدثني عن اعتقالها لا أقل تأثرا وحزنا على حالها من تأثري وألمي على حال هؤلاء المساكين أسرة عمر مرقة الذين اعتقلوا معها ، فوالدتهم لم تكن قد أفاقت بعد من صدمة مقتل ابنها أيمن 18 سنة وأخته مجد 14 سنة حينما رشهما الخابرات في الشارع انتقاما من أهالي الملاحقين وحسب ! وكانت الأم حتى هذه الفترة فاقدة لتوازنها العقلي وقد نزعت حجابها وعصبت رأسها بعصابة تشد بها على الألم . . فلما وجدت نفسها قيد الإعتقال المفاجيء انهارت المسكينة . . وكنت وأنا في أول ليلة لي في المنفردة أسمع المحقق يصرخ في أذنها بأعلى صوته فيصل الصوت عندي وهي كالبلهاء لا تجيب . . وأما الزوج فكان أسوأ حالا وقد جاوز المسكين السبعين من عمره . . تجره والأم ابنتاهما اللتان اعتقلتا معهما وأغمي عليهما على باب المحقق ، فاضطرت والدتي أن تصفعهما لتفيقا ! وعندما لم يجدوا ما يهمهم من التحقيق مع هؤلاء البؤساء أرسلوهم للمبيت في القبو تلك الليلة ، لكن ولاغتصاص المكان ليلتها بالمعتقلين لم يجدوا مساحة يضعون العجوز فيها فتركوه بهرمه وشيخوخته ينام على أرض الممر أمام منفردتي ، فكنت أدعو الله أن يخفف عنهم المصائب التي تتوالى عليهم واحدة بعد الأخرى . . وأما والدتي فقد جابهتهم من البداية ما شاء الله بحزم . .

قال لها المحقق : -خبرينا عن ابنك المجرم . . أين هو؟ فقالت : أنا ماعندي ابن مجرم . . دير بالك ها !

قال لها : ماذا لديك إذا ؟ مجرم ومغرر بإخواته أيضا على طريق ا لإجرا م . قالت : أنا لا أعرف نفسي إلا أنني ربيت ابني من الجامع إلى البيت ومن البيت إلى الجامعة. فقال لها ساخرا : الله يعطيك العافية . . تعيشي وتربي ! إذا لا تريدي أن تحكي . . والتفت إلى أحد العناصر وقال له : ضعها على الفلقة .

فقالت له : كتر خيرك . . أنا في سن أمك وتضعني على الفلقة ؟ قال لها : ولكنك ما تكلمت . قالت : وماذا تريدني أن أقول ؟ لا الذي يصدق يسلك معكم ولا الذي يكذب ! فتركها – سبحان الله – ولم يعذبها . . وكانت لا أدري كيف تقوم طوال فترة اعتقالها فتشد معهم وتواجههم وتدعو عليهم وكانوا مع ذلك يراعونها من دون جميع السجينات والسجناء الآخرين . . وكانت لا تكاد تنام لا في الليل ولا في النهار ، وتراقب كل صغيرة تجري وكبيرة فلا يفوتها شيء ! وفي بداية اعتقالها في المنفردة كانت تنادي أبا عصام مدير السجن – وهومن درعا – وتسأله : – ماذا فعلت أنا . . ولماذا تعتقلونني ؟ فيجيبها : أنا لا علاقة لي بذلك .

فترد عليه وتقول : بل بيدك كل العلاقة . . أنا أريد أن أرفع كتابا لرئيس الفرع ، أعطني ورقة وقلما . فينهرها وهو يكرر عليها : -ممنوع . . لا تصل . . مخالفة للأوامر . . . فيصيبها القهر ويشتد بها الغيظ وتنادي داعية عليه : شكيتك لواحد أحد . . لأحكم الحاكمين . . وإن شاء الله تقعد قعدتي وما بتصبر صبري . وسبحان الله لم يمر شهر أو شهران حتى قتل هذا الرجل كما بلغنا حادث سيارة . . ودخل المقود في بطنه . . وسمعت أمي بموته قبل أن تموت


رهائن !

ولقد استمر الكمين من بعد اعتقال أمي ومرافقيها ، فاعتقلوا من زميلات السكن ومن الزائرات من غير أي تهمة أو علاقة أكثر من عشر أشخا ص : –

فاطمة : من قارة ،طالبة تسكن معنا . – سوسن س : خريجة طب أسنان من حلب كانت في سنة التدريب بعد التخرج وتسكن معنا .

أختين من ال جاموس إحداهما كانت تسمى منى فيما أذكر ، وهما طالبتا علوم من التل وتسكنان معنا أيضا . –

يسرى ح : وهي أردنية كانت تدرس في جامعة دمشق كلية العلوم الطبيعية وتسكن معنا ، وقد اعتقلوا والدتها أيضا التي كانت في زيارة لها أيام الإمتحان .

مها أ : طالبة طب في دمشق وهي فلسطينية لبنان ية . طالبة أخرى من اللاذقية من ال درويش . كذلك اعتقلوا غادة ع طالبة جامعة تسكن معنا كما اعتقلوا أخاها وصديقا له حضرا لزيارتها فاعتقلا معا . والذي حدث أنهم أخذوهم إلى التحقيق جميعا بعدما انتهوا مني ومن ماجدة واحدة بعد الأخرى ، فلما لم يجدوا فائدة من احتجازهم أطلقوهم . . لكنني ومن شدة تعبي وآلامي لم أحس ساعتها بما حدث رغم أنني كنت يقظة متنبهة طوال الليل


أمى والإضراب

لم ينته اليوم الثاني علي من غير تحقيق جديد . . كنت خلال ساعاتي التي مضت في السجن قد أدركت مجمل ما يدور حولي ، وتذوقت في أول قدومي أشد العذاب وأبشع التهديدات ، فلما نادوني للتحقيق من جديد لم يكن هناك ثمة جديد ! أعادوا طرح نفس الأسئلة وتوجيه نفس الإتهامات بنفس الطريقة ونفس الأسلوب . . وعلى مدار أسبوع كامل استمر البرنامج نفسه ، ولم يتغير فيه إلا طريقة الضرب بعض الشيء ! فمع الضرب بالخيزران والعصي أرادوا مرة أن يضعوني على الدولاب فلم يكن على مقاسي ، فصار المحقق يعوض عن ذلك بالضرب بالخيزرانة وأنا واقفة ، فطال بذلك كل جسدي ، وزاد من بقع الألم وآثار المعاناة ، ولكن شيئا في الأسئلة أو الإجابات لم يتغير ! أما في المنفردة فكانت المتغيرات مستمرة هناك . . والمشاهد المفجعة والحوادث المحزنة لم تتوقف : كانت استغاثات السجناء لا تكاد تكف ليلا أو نهارا . . والويل كل الويل لمن يضبطه العناصر وهو يصلي ! كانوا يمرون عليهم بلا ميعاد ، فإذا ضبطوا أحدهم من الطاقة يصلي أخرجوه فأوسعوه ضربا وتعذيبا بلا رحمة ، وأما الكفر بالله والشتائم البذيئة فكانت ديدنهم حتى عندما يتخاطبون فيما بينهم ، لكنهم لم يكونوا ولله الحمد يضربوننا نحن النساء على ذلك ، وكنا نتمكن من الصلاة حتى تحت مراقبتهم .

وكنت في بعض الأحيان أعطي ماجدة بعض الإشارات بالضرب على الجدار بيني وبينها ، واذا تأكدنا من خلو المكان من العناصر كنت أكلمها وتكلمني عبر الجدار ، وأذكر أن عنصرا أحس بنا مرة نتحدث في الليل فنهض بسرعة وأتى نحونا يصيح : -أنا أسمع صوتا . . من هذا الذي يتكلم ؟ وحتى لا تكون سببا في تعذيب أحد من الشباب قالت ماجدة بثقة : – أنا .

فسالها بغضب : مع من ؟ قالت : مع صديقتي . . أهو حرام؟ ومرت الحادثة ولله الحمد بسلام . وأما والدتي فلم تكن تدخر فرصة للإتصال بي إلا واغتنمتها . . حتى ولو كلفها ذلك الكثير .

كانت كلما أرادت أن تخرج إلى “الخط” توقفت عند زنزانتي وتعلقت بقفلها لا تريد أن تتزحزح حتى يفتحوا لها فتراني وتحدثني ولو كلمتين ، فإذا ملوا أحيانا من سحبها ومدافعتها فتحوا لها الطاقة وقالوا : – هيا شوفيها ولكن بلا كلمتين . . فترفض وتطلب أن يفتحوا الباب لها . . فيقولوا : ممنوع .

ولم تلبث في اليوم الثاني من اعتقالها وبعد خروج بقية البنات من دوننا أن أضربت عن الطعام وعن الخروج إلى الحمام وحتى عن النوم حتى تراني . . ولم أدر بذلك إلا عندما حضر أبو عادل رئيس النوبة يقول لي : -إذا التقيت أمك مرة ثانية فأعطيها دروسا في الدين . . قولي لها إن لجسدك عليك حقا . . ألم تدرسي ذلك في الشريعة؟ خليها تأكل .

قلت له : هي أم وأنت تعرف كيف يكون قلب الأم . . والحق معها . وفي اليوم الثاني ومع استمرارها بالإضراب أتى الأمر بالسماح لها أن تراني وأراها ، فجاء أبو عادل ثانية وأخذني إلى زنزانتها وهو يذكرني بحديث الأمس ، وقال وهو يدفعنى إليها : -مثلما اتفقنا . .قولي لها . . قلت له : ماذا أقول ؟ هي حرة . قال : ألا تريدين أن تساعدينا لتفك إضرابها ؟ قلت : ماذا يمكن أن أفعل . . ألا ترى وضعها ؟ الله يعينها ويساعدها .

فالتفت إليها بغيظ وسالها : هل رأيت ابنتك ؟ ولم تكن رفعت نظرها إلي طوال ذلك الوقت لتقهرهم . . فقالت : لا . فقال : إذا ماذا تريدين ؟ والله حيرتينا ! قالت : أنت تعرف ماذا أريد . . وحتى يأذن الله . . هو أحسن منكم جميعا وهو أحكم الحاكمين . . وهو قادر على أن يقصف رقابكم ! فلم يجد ما يفعله إلا أن يضحك بغباء ويقفل الزنزانة عليها ويعيدني أنا لزنزانتي من جديد ، لكن إضرابها كان – والله أعلم – سببا للتعجيل بإنهاء التحقيق معنا ونقلنا بعد ثمانية أيام قضيناها في المنفردة إلى المهجع ،لننضم هناك إلى بقية النساء المعتقلات .


إلى المهجع

لم نكن خلال الأيام الثمانية قد رأينا أيا من المعتقلات أو اتصلنا بهن باستثناء منيرة التي فتشتنا أول وصولنا ، لكنهن كن قد رأيننا من شق صغير في طاقة باب المهجع وعرفن بوجودنا كما أخبرننا لاحقا ، وذات مرة وأنا في طريقي إلى الحمام رأتني الحاجة مديحة إحداهن بجلبابي الأسود أعبر من أمام مهجعهن فدقت الباب تنادي أحدا من العناصر ، فلما جاءها حسين بادرته قائلة : -أريد أن أنفض البطانية . . افتح لي ! فأدخلني الحمام بسرعة ليخرجها ، فصارت تتحدث بصوت عال لنسمع صوتها ونعلم بوجود نساء وتصيح :فلانة . . هيا تعالي نظفي البطانية معي . . ثم مضت كعادتها تحاول استدراج حسين وسألته : – كأن هناك أحدا في الحمام . . أنا أسمع صوت نساء ! أجابها وقتذاك : لا . . لايوجد أحد . . لوأن هناك نساء لأتينا بهن إليكن .

لكنها استمرت تلح عليه حتى ضجر وسألها : -خبريني أنت . . ماذا على بطانيتك ؟ لك ساعة تنفضين فيها ! قالت : صرصور . . ووالله ماعرفنا وين راح ! قال لها : إي يالله ادخلي وخلصيني . . فعادت وهي تلم البطانية تسأله بصوت خافت : – هناك نسوان أليس كذلك ؟ فأجابها أخيرا : نعم . . وبكرة سيأتون إليكم فاطمئني . لكنها عادت تسأله : ألا تعرف من أين ؟ فأجابها : بكرة جايين لعندكم وستعرفي . . وتجلسوا تتحدثوا معا حتى تشبعوا حكي ! ثم أدخلها وأرجعني المنفردة ، لكنني كنت أسمعهما وأنظر بين حين واخر إليهما بدوري من شق باب الحمام ، فاستأنست بذلك بعض الشيء واطمأننت إلى أن هناك نساء غيرنا في هذا المكان الموحش . . وفي اليوم الثامن وبينما أنا في المنفردة جاء مدير السجن وأعطاني استمارة معلومات عامة عن الإسم وتاريخ الإعتقال وسببه وعدد الأيام التي أمضيت في المنفردة . . فأجبت بشكل عادي وكتبت أنني اتهمت بالإنتماء إلى تنظيم الإخوان ووقعت ، وبعد حوالي نصف الساعة حضر حسين وفتح الباب بسرعة وطلب مني القيام ، فسألته وقد ظننت أنها جولة أخرى من التحقيق والتعذيب والأ خذ والشد والإتهامات : – إلى أين ؟ إلى التحقيق ؟ قال :لا . قلت : إلى الإعدام ! قال : الان سترين .

قلت له : إذا كان الإعدام فسيكون أريح ! فأجابني ساخرا : لا . . لن نعدمك الان . قلت : واذا فمتى ؟ قال بلؤم : حتى تعترفي أنك منظمة .

قلت له : طيب . . هل تعدمونني فعلا إذا اعترفت ؟ قال : اعترفي أولا والأمر بعد ذلك بينك وبين رئيس التحقيق ! أخرجني من المنفردة وساقني عبر الممر إلى باب اخر كبير وأسود فقلت لنفسي : خلاص . . رحت فيها . . إلى التعذيب من جديد ! فلما فتح الباب ودفعني باتجاه الداخل مددت رأسي بحذر فرأيت المكان مليئا بالنساء وكلهن يضعن شاشيات صلاة بيض على رؤوسهن فارتحت قليلا وخطوت نحوهن سلمت ،ولكن الخوف كان لا يزال يتملكني ،فيما أغلق السجان الباب ورائي وعاد بعد هنيهة بأمي وماجدة فأدخلهما وعلقها إلى السقف من يديها المكبلتين خلف ظهرها ،ومضى يعذبها على ومضى، وجعلنا في البداية نتلفت حذرات خشية أن يكون بين هؤلاء النسوة جاسوسة أو مخبرة ،ولم تلبث أمي أن انفجرت بالبكاء في اللحظة التي اندفعت أنا نحوها وعانقتها ، وكأنها أحست أنهم وضعونا في المهجع ولن يخرجونا منه إلى الأبد. . فجعلت تزدادبكاء وتدعو عليهم بحرقة وتجهر بالدعاء. . في تلك اللحظة تقدمت واحدة من النساء وهي تمد إليهايدها وتقول : ابوي . . لا تبكي ولا على بالك . . حطي إيديك ورجليك بمي باردة واقعدي .. ولاراحة لمؤمن إلابلقاء ربه ! كانت هذه هي الحاجة مديحة أ.أول من دخل السجن من النساء كانت الأيام التي أمضيناها معها أكثر من كافية لنسمع منها ومن بقيه السجينات حكاية اعتقالهن وقصص تعذيبهن ومآسيهن .


تعرية . . وتعذيب . . وقص اللسان!

كانت الحاجة مديحة في الأربعينيات من عمرها ، وهي امرأة معروفه في حلب تدرس النساء درو سافي الدين على الرغم من أنها تكاد تكون أمية لاتقرأ أوتكتب وكانت قد جعلت من بيتها قاعدة سكن فيها بعض الملاحقين ،وبينما كانت ذاهبة إلى موعد خارج البيت لتسليم رسالة ألقوا القبض عليها نتيجة فسادة من سامح كيلاني – عميل المخابرات الآخر وجاسوسهم داخل تنظيم الإخوان – وحملوها مباشرة إلى فرع مخابرات أمن الدولة ، وهناك ازدادت نقمة رئيس الفرع عمرحميدة عليها حينما استطاعت رغم التعذيب الشديد أن تراوغهم فترة كافية تمكن الشباب في بيتها من الهرب بعد مضي فترة أمان كانوا متفقين عليها فيما بينهم . . ونتيجة جرأتها وصلابة ردودها ازداد حميدة غيظا منها فختم لها حفلة التعذيب بأن قص لها طرف لسانها بالمقص . . وفقدت قطعة منه بالفعل ! ولقد قصت علينا أن حميدة عراها في البداية من ملابسها وعلقها إلى السقف من يديها المكبلتين خلف ظهرها ، ومضى يعذبها على هذه الحالة ويسمعها أقذع الشتائم وأبشع العبارات . . ثم أمر بإحضار أخيها الأصغر وعرضها عليه بهذه الحالة وساله :هل عرفتها؟ قال الولد بصدق : لا . . من هذه ! أجاب حميدة بتشفي : أختك مديحة . فأغمي على الولد فورا ولم يعد يحس بشيء ، وأعادوه إلى البيت وهو لا يزال في غيبوبته . . واستمرت حفلة التعذيب ساعات عديدة تأكدت بعدها أن الشباب غادروا البيت كما يفترض فدلتهم عليه ، ولما لم يجدوا هناك إلا آثارهم وحسب عاد حميدة غاضبا يقسم أنه سيقص لها هذا اللسان الذي كذب عليهم وخدعهم.

وقصه بالفعل ! لكنها ولله الحمد شفيت بسرعة وعاد اللسان فنما بشكل طبيعي ، بل إن مدير السجن المدني بدوما المقدم عماد وكان سيىء الخلق جدا قال لها بعد ذلك بسنوات : – قطعنا لك لسانك ليقل كلامك فلا أراه إلا ازداد طولا ! وبعد اعتقالها الذي كان قد مضى عليه نحو الشهر أتوا بها إلى كفر سوسة مرورا بسجن المسلمية بحلب مع مجموعة السجينات الأخريات : أم شيماء ، وزوجة عبد العزيز سيخ ، وعائشة ق . فيما أفرجوا عن عدد اخر من البنات والنساء كانت بينهن – فيما روين لنا – سناء . . . . . ، و . . . . . . وكانت تسكن مع الحاجة مديحة وتلازمها في بيتها ، ولذلك كانت تدعوها الحاجة ابنتها ، وزوجة عبد القادر حربلي ووالدتها من بيت القطان ، وسيدة أخرى وكانت عروسا في شهرها السادس وفي السادسة عشرة من عمرها ، أمسكوا زوجها نتيجة وشاية من سامح كيالي أيضا وجعلوا يعذبونه ليعترف بمكان القاعدة التي اتهم أنه يديرها ، فلما لم يفعل أحضروا الزوجة بأمر من حميدة أيضا واعتدوا عليها أمامه قبل أن يرسلوه إلى تدمر فيقتل لاحقا هناك في المجزرة الكبيرة التي جرت . . وأفرجوا عن المرأة وقد سقطت عنها كل الإتهامات !


وترك لها جوربان

تقدمت الحاجة مديحة تخفف عن أمي وعنا ، وتبعتها بقية البنات : أم شيماء ، وعائشة ق . ومن ورائهما كانت منيرة التي فتشتني أول دخولي تنظر وتبتسم ! وأما عائشة فهي طبيبة من حلب قامت بعلاج جريح من الشباب الملاحقين فبلغ النبأ المخابرات واعتقلوها من بيتها ، وقالت لهم وقتها إن أشخاصا أتوا إليها كأي طبيب وسألوها أن تعالج جريحا ففعلت ، ولم تسألهم عن هويتهم لأن مهمتها الإنسانية خدمة الناس لا التحقيق معهم ، لكن جوابها لم يرق لهم ، واعتقدوا أنها تداوي كل جرحى الملاحقين ومصابيهم ، وقد تولى التحقيق معها مصطفى التاجر أول الأمر فسألها في البداية : -أترضي أن تبقي بلا حجاب ؟

قالت : لا طبعا . . قال : فما رأيك إذا أن تبقي بلا جلباب ؟ فانتفضت تتطلع إلى مكان تلتجئ إليه ، لكن المجرم لم يترك لها فرصة وهجم عليها كالوحش يصفعها ويضربها وهو يمزق ثيابها قطعة بعد قطعة وهي مكبلة تقاوم بكل ما أوتيت من قوة دون أن تستطيع الدفع . . فلما مزق كل شيء ووصل إلى جواربها قال لها : -سأتركهم عليك حتى لا تبردي ! وأمر فمددوها على “بساط الريح ” ومر عليها بكافة أنواع التعذيب : الخيزران والعصي والكهرباء . . علاوة على نزع نظارتها الطبية وحرمانها من استعمالها فترة من الزمن . . ثم أتى دور عمر حميدة فأجلسها على كرسي وقد كبل أيديها وأرجلها من الخلف ببعضهم البعض وجعل يطفىء أعقاب السجاير فى اعف منطقه ببدنها ليطفىء بعضا من نيران حقده الاسود ويودعها الزنزانه من ثم بضعه ايام قبل ان تنقل مع بقيه المجموعه الى كفر سوسه


فنون التعذيب !

كانت إيمان ت . “أم شيماء” راجعة إلى بيتهم مع زوجها وابنتها الرضيعة شيماء وكانت في الشهور السبعة أو الثمانية من عمرها ، وعندما بلغوا مدخل البناية لاحظوا مؤشرات غير طبيعية في المنطقة ، فتقدمت ايمان ووضعت المفتاح في القفل لتفتح ، فيما كان الزوج والطفلة معه ينتظر أسفل الدرج ، فما أن فعلت حتى أحست كما روت من بعد صوت تلقيم السلاح من الداخل ، فأعطته إشارة سريعة بالهرب ، في الوقت الذي فتح عناصر المخابرات الباب بسرعة وأمسكوا بها وسحبوها إلى الداخل ، وفي إحدى غرف البيت دخل عليها رئيس الدورية يسألها عن زوجها وعن الشباب الذين كانوا معها في البيت لأ نهم دخلوه ولم يكن فيه أحد ، وهؤلاء جميعا أبلغ عنهم سامح كيالي ، فقالت إنها لا تعرف شيئا ولا تعرف أين ذهب زوجها ولا من كان معه ، فجعل يهددها بالإعتداء عليها إن لم تبلغه المعلومات فأصرت على الإنكار ، فنفذ تهديده بالفعل وحاول فعل ذلك ، لكنها قاومته بشدة وراحت تتصارع معه فأنجاها الله وألقى في قلبه الرعب فلم يتمكن منها كما أراد . . وبعد ذلك نقلوها إلى الفرع عند عمر حميدة الذي اتبع نفس الطريقة معها ، فشبحوها في السقف بأن كبلوا أيديها خلف ظهرها وعلقوها منهما مرفوعة عن الأرض فكأنما هي الذبيحة بين يدي الجزار ، وجعلوا يضربونها ويعذبونها وهي على هذه الحالة لا حول لها ولا قوة ، ثم وضعوا لها الكهرباء في صدرها والحليب يقطر منه زيادة في التعذيب والإهانة . . وبعد انتهاء التحقيق ومن غيرأن تدان المسكينة بشيء نقلوها إلى كفر سوسة مع عائشة والحاجة مديحة ، لنجتمع واياهن في هذا المهجع المقيت !


سحل القتلى

أما رابعة نزيلات المهجع وقتها فكانت أما من إدلب لأربعة أو خمسة أولاد من إدلب اسمها فوزية ح . هذه السيدة استشهد زوجها وهو يقاوم أثناء مداهمة قاعدتهم بحلب ، وقامت السلطة بعد مقتله بسحل جثته أمامها بالدبابة في شوارع المدينة ثم اقتادوها للسجن وعذبوها أشد العذاب .

وعلى الرغم من أنها لم تتحدث عن ذلك كثيرا وكانت من النوع الذي يؤثر الصمت إلا أننا بقينا نرى اثار التعذيب على أرجلها والزرقة مكان أظافرها المقلوعة إلى حين ، وبقيت فوزية في الشهور الأولى معتدة على زوجها لا تكاد تكلم أحدا وتسارع كلما فتحوا الباب أو الطاقة فتغطي رأسها بالبطانية وتدير وجهها إلى الجدار .

مذكرات سجنية:لانهم قالوا لا الحلقة السابعة والاخيرة

يوميات السجن

نظرة عامة

        لا بد من الإشارة إلى أن الحديث عن يوميات السجن يمكن أن يتناول طيفاً واسعاً من هذه اليوميات، فهي تتفاوت كثيراً بين سجنٍ وآخر، ويومٍ وآخر. فما يجري في فرع مخابرات حلب، مثلاً، يختلف عما يجري في فرع الحلبوني، وهذا يختلف عما يجري في سجن القلعة بدمشق، أو سجن حلب المركزي. وكثيراً ما كنّا نقول: إنَّ رئيس كل فرع يتصرف كما لو كان رئيس دولة، ولكلِّ دولة نظامها!.

        وفي الفرع الواحد يختلف النظام بين أيام الاعتقال الأولى، حيث تكون أعمال التحقيق في ذروتها، وتكون وجبات التعذيب “دسمةً جداً” وقد يقتصر طعام السجين على تلك “الوجبات”، وبين الأيام الأخرى حيث تنخفض وتيرة التحقيق، وتسير الأمور نحو “التطبيع”!.

        وفي السجن الواحد كذلك يحدث بين الحين والآخر شيء ما، في السجن أو في البلد خارج السجن، فيؤدي إلى تلبّد الغيوم في سماء السجن، أقصد في قبو السجن! وتكفهرّ الوجوه، وتزداد المعاملة سوءاً، وتتخذ الإجراءات القمعية والانتقامية، من شتائم، وضرب بالخيزران، وتفتيش للأمتعة وإتلافٍ لبعض ممتلكات السجين…

        وإذا استبدل برئيس الفرع رئيس جديد، تغيّر نظام السجن على هوى الرئيس الجديد.

        وإذاً فالحديث عن يوميات السجن سيشكّل (بانوراما) تحتوي مشاهد مختلطة متجاورة ملوّنة بمختلف الألوان!.

—————

        وسأقدّم –بين يدي الموضوع- انطباعات عامة، منها ما حصلت عليه من خبرتي ومشاهداتي، ومنها ما استفدته من خبرات سجناء آخرين مرّوا بتجارب منوّعة في سجونٍ سوريّةٍ أخرى!.

من هذه الانطباعات، أن درجات القسوة والوحشية تتفاوت كثيراً بين سجنٍ وآخر، ومرحلةٍ وأخرى.

        فالسجون المدنية أقلّ قسوة من سجون المخابرات، بفارقٍ كبير.

        وفرع مخابرات الحلبوني أقل سوءاً من فروع مخابرات “أمن الدولة” الأخرى، كفرع فلسطين، والفرع الداخلي (حيث محمد ناصيف وتركي علم الدين).

        ومن أسوأ السجون سمعةً، في القسوة والحرمان والإذلال… سجن المزّة، وفرع مخابرات القوى الجوية (الآمرية).

        وهذا كله في المرحلة الزمنية التي أتحدث عنها، مرحلة 1973- 1977، أما مرحلة عام 1980 فما بعد فقد بلغ التعذيب حدوداً لا تخطر على بال إبليس، وفظائع فرع المخابرات العسكرية (السريان) في حلب، حيث مصطفى التاجر وزبانيته، قد فاقت ما كنّا نعرفه من شرور التعذيب. أما فظائع سجن تدمر فهي شيء آخر لا عهد للبشر به، فالضرب والإهانة، وتكسير الأضلاع، وفلق الرؤوس، وشق البطون، والضرب بأعقاب البنادق أو (بالكابلات) أو بمواسير المياه أو (بالبلوكات) الإسمنتية، والقتل تحت التعذيب، أو تحت الأقدام، أو بالرصاص، أو على المشنقة… جزء لا يتجزّأ من يوميات ذلك السجن الملعون. ولعلّ كتاب “تدمر، شاهد ومشهود” يحوي نماذج حيّة لممارسات الجلاوزة الحاقدين هناك.

        ولولا أني سمعت شهادات متماثلة من عدد من السجناء الإسلاميين والعلمانيين، الذين كتب الله لهم النجاة من ذلك الجحيم… لما صدّقت ما حواه ذلك الكتاب الوثيقة!.

—————

         في ظروف القهر والتعذيب، والحرمان من الحرية، والدوس على الكرامة الشخصية، وفقدان الضروريات… يضطر السجين أحياناً إلى التفكير في صغائر الأمور، بل المشاجرة في هذه الصغائر!.

        فحين يُذْكر “السجن” أمام الذين لم يذوقوه! يتبادر إلى أذهانهم منه: الحبس في غرفة جماعية، أو زنزانة فردية، وربما بعض التعذيب كذلك. لكنه قلّ أن يخطر على بالهم معاناة السجين في الحصول على الطعام المناسب (في حدّه الأدنى!) والحصول على حقّه في دخول الخلاء لقضاء حاجته! والحصول على حقّه في أن يجد مكاناً ينام فيه، أو وسيلة يقصّ بها شعره أو يشذّب لحيته، أو يقلّم أظفاره، أو حماماً يغتسل فيه، أو مسماراً يدقّه في الجدار حتى يعلّق بعض ثيابه!…

الطعام

        في بداية الاعتقال، في فرع مخابرات حلب، ولمدة شهرٍ أو تزيد، كان نظام الطعام، والخروج بعده! ثنائي الوجبات. وجبة في الصباح، وأخرى في المساء، ويلي كل وجبة سماحٌ بالخروج إلى دورة المياه والمغسلة.

        وكان الطعام في هذه المرحلة يتعاقب علينا بين أربعة أصناف ليس غير: الحلاوة والفول والحمّص والفلافل.

        وكان معنا أحد إخواننا الشعراء، فبدا له أن يصف حالة السجن بأبياتٍ ساخرة، من الشعر الذي يتفكّه به الشعراء بين الحين والآخر، فيكون كالدعابة والمُلَح، بين قصائدهم العالية الرصينة:

        وكان مما قاله، يصف طعام السجن هذا:

قد أتَونا بالحــلاوةْ                       فـاسْتَبَتْ منا العقـولْ       

فأسَفْناهــا  مُلاوةْ                        ثم صارت صحن فـولْ       

—————

يا صحون الفول غيبي                  لم أعُدْ أهوى الطعامْ

نِلْتُ منكنّ نصيبــي                      وعلى الدنيا السـلام

—————

ها هو الحمّصُ يغلي                    في البطون الهائجاتْ 

إنـه الإســمنت مــجــبــــولاً فهبُّـوا يـا بُنـاة

—————

أنقذونا يا عبـاد  اللــــــــــه من شــرّ الفلافلْ

واحفظوها للمنـايـا                        فهي في الحرب قنابلْ

—————

        وليفكّر القارئ، ليس في مستوى المعيشة الذي يصبر فيه السجناء على هذا الطعام، بل ماذا يفعلون في شأن قضاء الحاجة، وليس يسمح لأحدهم بالخروج إلا مرّتين في اليوم؟!.

—————

        وبعد مرور هذا الشهر تحسّنت الحال، فقد أصبحت الوجبات ثلاثاً، وكان الطعام يؤتى به من إحدى الثكنات العسكرية، ثكنة هنانو، أي إنه طعام المجنّدين!.

        ولا يظُنَّنَّ أحد أن الحالة أصبحت ممتازة، فلقد كنا في السجن حوالي أربعين معتقلاً، والطعام الذي يحضره السجانون من الثكنة مقبول، من حيث إنّه طعام للسجناء، ولكنْ!!

        قبل توزيع الطعام يمر على إدارة الجمارك، أقصد على هيئة السجانين، ومَنْ وراء السجانين كذلك، فيقتطعون منه ما يشاؤون، ليأكلوا حتى تنتفخ بطونهم، ويحفظوا حصة الغائبين منهم، ويرسلوا حصة إلى الضابط المناوب وإلى ذويه… ثم يوزعون الباقي.

        وبشكلٍ خاص فإن اللحم والدجاج لا يصل إلينا منهما إلا (ما اختلط بعظم)! فقد كانت قطع اللحم تنزع لتكون من حصة الجلاوزة، وتوزع العظام وما عَلِقَ بها على السجناء!.

        ومرة كان فطورنا شاياً وزيتوناً. وكنّا خمسةً في غرفة واحدة فكانت حصة هذه الغرفة 4 زيتونات!!.

—————

        لكنهم –شهادة لله- لم يكونوا يسرقون من الشاي، فهو يأتي في صفائح (تنكات) وعليه طبقة ظاهرة من الدهنيات، لأن الصفائح نفسها تكون قبل وضع الشاي فيها قد ملئت بالأرز المطبوخ، ولم تنظّف جيداً بعد ذلك!.

—————

        ولا بأس بمزيدٍ من الحديث عن هذا الشاي: فقد كان يحضّر في الثكنة ضمن حلّة كبيرة تتسع لحوالي مئة لتر، ثم يصبّ منها في الصفيحة (التنكة) التي ستنقل إلينا، فينضمّ الدهن المأخوذ من الحلّة إلى دهن الصفيحة، وتنقل الصفيحة إلى السجن، ثم يصب منها في أوعية صغيرة. فحصّة غرفتنا مثلاً كانت تأتينا بصفيحة معدنية مما كان يباع فيها الحلاوة!. ويصل إلينا الشاي دافئاً! وليس عندنا كؤوس حتى نصبّه فيه، فكنا نحمل صفيحة الحلاوة على التناوب ونتناول منها رشفات الشاي الدافئة!.

        وحين كانت تتوافر لدينا ملاعق، نفتّ الخبز في الشاي ونتناوله طعاماً وشراباً، ونقول: فطورنا اليوم “فتّة شاي”!.


        أما في الحلبوني فقد كانت هناك ثلاث وجبات يومية. يؤتى بالغداء من نادي صف الضباط، فهو طعام جيد في كمّه ونوعه، لكنه كذلك يمرُّ على مجلس الزبانية قبل توزيعه، فيصادرون منه ما يحلو لهم، ويوزّعون الباقي، وهذا الباقي كان مقبولاً كذلك. أما الفطور والعشاء، فكانا في الغالب في غاية الرداءة كمّاً ونوعاً، فقد كانت إدارة السجن قد خصّصت مبلغاً معيناً ثمناً لوجبة السجين، وكلما جاءت موجة غلاء، وما أكثر تتابع هذه الأمواج، ضعفت القيمة الشرائية لهذا المخصَّص، وصغُرت الوجبة، هذا إذا كان السجانون، وهم يشترون الطعام من بعض المحلات المجاورة، يدفعون القيمة المخصصة ولا يختلسون منها شيئاً!.

        وكان دور السجّانين أن يحضروا لنا وجبات الطعام، ثم ينظّموا الأدوار في الخروج إلى “الخطّ” أي قضاء الحاجة، والسجّان الأمهر هو الذي يستطيع إنجاز المهمة بأسرع ما يمكن أي أن يستعجلنا، ويطرق بعصاه على باب الخلاء، ويرفع عقيرته بالنداء: بْصُرعة (أي اخرُج بسُرعة)!.

        ومن طرائف ذلك أن السجين أبا راشد عبد الهادي كان بين الحين والآخر يتشاجر مع السجانين فيقول لهم: إنَّ مهمتكم تنتهي بأن تطعمونا و (………) أي تمكنونا من قضاء الحاجة. وقد نظم شاعرنا قصيدة يخاطب فيها الطاغية الكبير، فيقول فيها: إنَّ جلاوزتك لا يملكون منّا القلب والفكر والعقيدة، لا يملكون سوى هاتين الحاجتين: الطعام وإخراج الفضلات.

مطلع القصيدة:

أوعى الرواة فمُ الزمان إذا روىٰ

وهَبَ الثمار، وغيره يهب النّــوى

ويقول فيها:

لا يملكون لنـا، ولـو حكّمتهـم 

فينا سوى أمرين، إن صدقتْ “سوى”

فلقـد نزيح بإذنهـم  فضلاتنـا

ولـقد نزيـل بإذنهم شَبَحَ الطَّـوىٰ

        وما أقسى أن يكون “الخروج إلى الخلاء” مطلباً، يضطر السجين فيه إلى تقديم الرجاء، لسجان وضيع، أو تقديم رشوة، حتى يحصل عليه؟!

        وحين ننتقل إلى سجن القلعة، فإن هذه المشكلة تُحلُّ من جانب، وتعود إلى التعقيد من جانب آخر. ففي المهجع الذي كنا فيه، توجد دورة مياه. وإذاً لا حاجة لاستئذان السجان في قضاء الحاجة، ولكنْ!. كنا في بعض المراحل 56 سجيناً في ذلك المهجع، بل كنّا، في مرحلة أخرى 81 سجيناً. وكل هؤلاء يتناوبون على دورة مياه واحدة! ففي أي ساعةٍ من ليلٍ أو نهار، حتى في الساعة الثانية ليلاً أو الرابعة صباحاً… يحتاج السجين إلى تسجيل دَوْر له بين المنتظرين، ويكون أمامه في الدَّور عشرة أو خمسة عشر أو سبعة وعشرون!! وعليه أن ينتظر.

        إنها من المآسي التي يُسْتَحْيا عادةً من ذكرها، لكن السجين يعاني منها. والله في عونه.

        كل ما في السجن مأساة يصنعها الطغاة والجلاوزة، ولا يخفف منها، عندنا، إلا الشعور بأننا في محنةٍ، هي مقتضى عبوديتنا لله تعالى. بل إنّ هذا الشعور كان –في معظم الأحيان- ينسينا آلام المعاناة، ويُشعرنا بسعادة الراضين عن الله.

        وكنّا نرى بعض أصحاب الانتماءات الأخرى يعيشون ظروفنا، وليس عندهم من معاني الإيمان ما يعوّضهم، فكانوا يعانون من الاكتئاب والانطواء والغضب المكبوت، ويهملون تنظيف أجسامهم وثيابهم وأماكن نومهم وقص أظفارهم وتمشيط شعور رؤوسهم!. وقد ينقلب هذا إلى مشاجرات فيما بينهم، أو ينقلبون على المبادئ التي اعتُقلوا من أجلها. وكثيراً ما يتأثرون بنا، ويرجعون إلى الله!.

الدروس والمحاضرات

        لا يخفى على الأصدقاء والأعداء أن النسبة العالية من أبناء جماعة الإخوان المسلمين هي من الفئة المتعلمة والمثقفة، فصغارهم طلاب في المراحل الإعدادية والثانوية والجامعية، وكبارهم من علماء الشريعة والأطباء والمهندسين والأدباء والمفكرين…

        وحين تحشر مجموعة من هذه الشرائح في إحدى غرف السجن أو مهاجعه، يظهر أثر العلم والفكر في تجمعهم ولا شك. وحين يوضع واحد منهم في زنزانة انفرادية فإن أهم ما يشغل به نفسه هو حفظ القرآن الكريم، أو مراجعة محفوظاته!.

        وحين يُنقل الأخ من الزنزانة إلى “الجماعية” يتعاون مع إخوة آخرين على استماع المحفوظات المتبادل، والازدياد منها.

        ولا يقتصر الإخوان عادة على هذا، بل يقدِّمون من يرونه صاحب علمٍ فيهم، في أي مجال من العلوم الإسلامية، بل من العلوم الأخرى كذلك، لتقديم محاضراتٍ ودروس، وعقْدِ ندوات…

        وكان أكثر ما يُروج في غرف الإخوان –في السجن- وفي المهاجع، مجالس التلاوة، وما يتبعها من ضبط قواعد التجويد، والوقوف عند بعض الآيات الكريمة لشرح مفردةٍ، أو تفسير آيةٍ كريمة، أو إعراب كلمة، أو بيان أحكام فقهية أو توجيهات حركية…

        وكنا –على سبيل المثال- نجعل جلستين للتلاوة كل يوم، واحدةً وقت الضحى، وثانية في المساء، قبل طعام العشاء أو بعده.

        ونزيد على ذلك بإقامة دروسٍ منوّعة في التفسير والفقه والحديث وعلومه… وذلك حسب توافر صاحب الاختصاص، أو توافر بعض المراجع. ففي سجن القلعة مثلاً توجد مكتبةٌ زوَّدها أهل الخير بأمّهات الكتب، فكنّا نستعير منها ما نحتاج إليه.

        بل إنني أذكر أن أحد إخواننا الأطباء المختصين، ألقى فينا عدداً من المحاضرات الطبية في موضوعات شائقة، لم يكن يخطر في بالنا أن تكون شائقة، قبل أن نستمع إليها، فقد كان موضوع إحدى المحاضرات: “النوم”!. قلنا حينئذ: وماذا يحدّثنا عن النوم؟ وهل النوم أمرٌ غامض حتى يحدّثنا عنه؟! لكن ما إن بدأ محاضرته حتى بدأ يفتّق أذهاننا بسلسلة من الأسئلة.. ممّا حوّل المحاضرة إلى ندوة، وما جعلنا نطالب بمحاضرة ثانية ثم ثالثة، لاستكمال موضوع النوم!.

        وكذلك حاضَرَ فينا أحد الإخوة المختصين في موضوع “الثلاجة”. وكان من العجيب أنه بدأ كلامه في أنه لن يتناول في محاضرته الأولى الحديث عن محرّك الثلاجة وآلية عملها وكيف يحدث التبريد، بل سيتحدث عن هيكل الثلاجة فقط، ويرجئ الحديث عن المحرك  والتبريد إلى محاضرات تالية. وهنا كذلك كانت المحاضرة غنية، وتوالت الأسئلة الغزيرة حول هيكل الثلاجة… ما دعاه إلى تخصيص محاضرة ثانية، وربما ثالثة، لاستكمال الموضوع نفسه.

        وهكذا كنا نملأ وقتنا بما يفيدنا في أمور الدين والدنيا، وما يجلب لنا المتعة كذلك.

        وكان النزلاء من غير الإخوان ينبهرون بما يرون ويسمعون!!. وكانوا كذلك يُعجبون بنا ويحبوننا ويتأثرون بنا. وكم من سجين جاءنا وهو لا يعرف الصلاة ولا تلاوة القرآن… وخرج وهو خَلقٌ آخر!. حتى إن سجيناً أقام معنا نحو شهرين، ثم أُفرج عنه، ثم اعتُقل مرة أخرى وجاءنا… قال: لقد فرحتْ زوجتي بتغير سلوكي، وبتحوّلي إلى الدين! وكانت تقول لي: لو كُنتُ أعلم أنَّ احتكاكك بالإخوان عن طريق السجن يجعلك هكذا، لدعوت لك الله بأن يهيئ لك سجناً من قبل!.

        صحيح إن نظام السجن ليس واحداً ولا ثابتاً، ولكن الأخ ينبغي أن يستفيد من وقته بأقصى ما يستطيع، وفق ما تتيحه كل مرحلة. وكم من أخٍ دخل السجن وهو لا يحفظ من القرآن إلا جزءاً أو اثنين، وخرج وهو يحفظ عشرة أجزاء أو عشرين، أو يحفظ القرآن الكريم كاملاً!.

        ونزيد هنا: إنَّ نظام فرع مخابرات حلب لم يكن يسمح باقتناء المصحف الشريف، فضلاً عن الكتب الأخرى وعن الأقلام والدفاتر… وكنّا نحصل على ما نحصل عليه عن طريق رشوة بعض السجانين. وبما أن الذي نحصل عليه قليل فكنّا نعتمد بشكلٍ أساس على رصيدنا العلمي والثقافي والفكري… الذي نحمله في صدورنا قبل دخول السجن.

        ونظام الحلبوني ليس أفضل بكثير، إلا في المرحلة التي أصبح فيها الرائد محمد أحمد فتح الله رئيساً للفرع فقد أعلن لنا – بعد حوارات معه- أن أي كتابٍ مسموحٍ به في السوق، مسموحٌ به عندكم!. لكنَّ عهد هذا الرائد لم يستمرّ، بل عزلته إدارة المخابرات العامة بعد نحو سنةٍ واحدةٍ من توليه المسؤولية.

        والسجن المدني بعكس سجون المخابرات، فإدارة السجن وعناصر الشرطة، حين تفتش الأمتعة والهدايا التي تأتي إلى السجين، تركّز على اكتشاف مخدرات أو سكاكين… في هذه الأمتعة، وبما أنَّ هذه الأمور ليست من اهتماماتنا، وليست مما يمكن أن يحضره لنا أهلونا فقد كان يسمح بإدخال كل شيء: الألبسة والأطعمة والكتب والأقلام والدفاتر… بل كان معنا رجل من أعضاء حزب التحرير، فكانت تصل إليه نشرات الحزب كذلك.

 اللعب والمرح والأدب

        كنّا كذلك نسلّي أنفسنا بما يخفف من ضغط السجن وكَرْبه. ففي أيام التحقيق والتعذيب كنا نتذكر أنَّ المحنة والابتلاء من لوازم الانتماء لهذا الدين: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُون﴾. ونتذكّر كم لقي النبي صلى الله عليه وسلم، والأنبياء من قبله، وأصحابه ومن تبعهم بإحسان… من ألوان العذاب… ونتذكر أنَّ قافلة دعوة الإخوان المسلمين قدّمت العشرات من الشهداء (قبل أن تقدِّم الآلاف، وعشرات الآلاف فيما بعد، في مجازر تدمر وحماة وحلب وجسر الشغور وغيرها) والآلاف من المعتقلين أيام عبد الناصر….

        وعندما تمضي أيام التحقيق وننعم ببعض الاستقرار، كان المرح والسرور والمزاح… هي التي تملأ مجالسنا، وقد نحوّل بعض مظاهر المأساة إلى مناسبة للفكاهة، سواء بما يتعلق بالطعام واللباس، أو بالنوم والحلاقة، أو بالسجانين والمحققين…

        وكنّا نتبادل النكات، ونقوم ببعض الألعاب، وننظم بعض التمثيليات والنشيد والمسابقات الثقافية والمسرحيات!.. وقد يشعر بنا السجانون أحياناً، فيشاركوننا مرحنا، أو يتجاهلوننا، أو ينكّلون بنا.. حسب انتماء كل سجان، ودرجة تعاطفه، أو درجة حقده ولؤمه!.

        وكان فينا الشعراء الذين ينظمون القصائد الجادّة العالية في أغلب الأحيان، أو الأبيات المرحة الساخرة في بعض الأحيان.

        ومن الطرائف أنَّ أحد الشعراء كان ينظم القصائد السياسية الملتزمة، فكنت أكتب نسخة من القصيدة، وأبدِّل بعض الألفاظ بألفاظ أخرى مع المحافظة على الوزن والقافية، مخافة أن تقع بأيدي السجانين لدى أي تفتيش… فأزيل بعض الكلمات التي تُعدُّ مستمسكاً شديداً كاسم الأسد أو الدبّاغ (مدير المخابرات العامة)، أو البعث….

        قال لي هذا الشاعر الظريف: هذه التعديلات والتغييرات في الكلمات لن تنقذك لو وقعت القصيدة في أيديهم. سيقولون لك: تتكلم عن الظلم والظالمين، ومَنِ الظالمون غيرنا؟! وتتكلم عن الخائنين للوطن والأمة: هل يوجد خائنون غيرنا؟! وتتكلم عن المتخاذلين أمام إسرائيل. ألسنا نحن المتخاذلين؟!. وتتكلم عن الجولان، أليس الرئيس هو الذي باع الجولان؟!..

        قلت له: فعلاً، إنَّ حججهم قوية!.

الاغتسال

        الاغتسال حاجة إنسانية، بما أن جسم الإنسان يتعرض للتعرق والغبار وسوى ذلك. وقد أكّده الإسلام فجعله مندوباً في أوقات عدة، كغسل الجمعة مثلاً، وجعله واجباً في أحوال معروفة.

        والأصل في المعتقلات السورية أن يُحرَم المعتقل من هذا الحقّ، أو أن يضيّق عليه فيه..!.

        ولكي نقوم بالاغتسال، المندوب منه والمفروض، كنا نحتال بشتى الحيل، وغالباً ما نفعله بالتجزئة! فعلى المغسلة نستخدم الماء والصابون في غسل وجوهنا وأيدينا إلى المرافق، وفي غسل رؤوسنا أحياناً… وكان هذا يضايق السجانين، لأن أحدنا يستهلك وقتاً زائداً لأجل أعمال النظافة هذه، والسجّان يريد أن يفرغ من مراقبتنا بأسرع وقت، ويحبسنا في غرفنا أو زنزاناتنا، ويقفل علينا الأبواب ويطمئن!.

        وكنا كذلك، عند دخول الخلاء، نغسل ما استطعنا من أجسامنا. فإذا كان أحدنا جنباً كان يهيئ نفسه قبل دخول الخلاء فيلبس الجلابية، من دون أي شيء تحتها، فيخلعها في الخلاء، ويقضي حاجته ويغسل ما أمكنه من جسده بسرعة فائقة ويخرج، ليكمل غسل رأسه على المغسلة….

        وقد لا يتمكن من استكمال الغسل إلا على ثلاث دفعات، في الصباح وفي الظهيرة، والمساء… وقد يكون الجو بارداً جداً.

        وإلى أن يكتمل غسل أحدنا كان يتيمّم ويصلي.

        وبعضنا لا يستطيع استعمال الماء البارد في الغسل، فيخاف المرض، فيمضي أياماً وهو يصلي بالتيمم.

        أما الاغتسال في الحمّام فلم يكن له نظام محدّد، فقد يكون الفاصل بين اغتسالٍ وآخر أسبوعاً واحداً، أو عشرة أيام، أو أسبوعين، أو ثلاثة… وقد يكون الماء حاراً، وقد يكون بارداً… وفي كل الأحوال يكون مقترناً بضيق الوقت، فعلى السجين أن لا يستغرق أكثر من عشر دقائق، في معظم الأحيان.

الحلاقة

        والحلاقة كذلك لم يكن لها وقت محدّد.

        ففي كل فرعٍ للمخابرات يوجد عنصرٌ حلاق، يستفيد من خدماته ضباط الفرع وعناصره. وبين حينٍ وآخر يُطلب منه أن يحلق للسجناء كذلك.

        هناك الحلاقة الإجبارية التي يقصد بها حلق رأس السجين (على النمرة صفر!) أو حلق لحيته كذلك لإزالة المظهر الإسلامي الذي يؤذي مشاعر “البعث”.

        أما الحلاقة النظامية فهي في مستويين، مستوى تجاري، يقصد به الحلاق أن ينجز مهمةً مأموراً بها، وهي حلاقة وسط بين التزيين والتشويه. ومستوى جيد أو مقبول، وتكون للمعتقل الذي يدفع أجرة للحلاق الذي يفترض أنه موظف، ويقوم بعمله على أنه من واجبات مهنته التي وظّف لأجلها.

        وفي السجون المدنية يتغير الأمر كلياً، فهناك صالونات للحلاقة متواضعة، يعمل فيها سجناء مدنيون، مهنتهم الأصلية هي الحلاقة، فهم أصحاب مهارة، ويأخذون على عملهم أجرة مناسبة.

        وكنّا أحياناً نتمكن من الحصول على أدوات للحلاقة فيقوم بعضنا بالحلاقة لبعضنا الآخر.

        (أما ما سمعناه من أحوال الحمام والحلاقة في سجن تدمر، فهو لونٌ من التعذيب، بل من أحلك أنواع التعذيب، وقد تكون ضحيةُ الحمام، أو الحلاقة شهيداً أو أكثر، وعدداً من الجرحى، حالة بعضهم خطيرة، والعياذ بالله، وقاتل الله الذين نُزعت من قلوبهم الرحمة).

النوم

        هل يجادل أحد في حق الإنسان في النوم؟ نعم، هذا الحق مجادل فيه في المعتقلات.

        أما في أيام التحقيق فإن الحرمان من النوم نوع من أنواع التعذيب يمارسه الجلاوزة حتى يؤذوا السجين ويُذلّوه ويصِلوا به إلى “الهلوسة” أو الانهيار!. وحتى يتحقّقوا من تنفيذ مهمتهم النبيلة فهم يجبرون السجين على البقاء واقفاً على قدميه، أو على قدمٍ واحدة، وقد يكون عاري البدن وفي عنقه دولاب (إطار عَجَل سيارة)!. ثم يمرُّون عليه –وهو في الزنزانة- كل بضع دقائق ليتأكدوا من حُسْن التزامه،  فيصرخون صراخاً مفاجئاً عالي الدرجة، أو يخبطون على باب الزنزانة خبطة قوية، وقد يفتحون طاقة الباب ليتأكّدوا بأمّ أعينهم. قلع الله عيونهم!.

        وحتى إذا تكرّموا عليه وسمحوا له بالاستلقاء على الأرض، فلن يفوتهم ذلك الإزعاج. إنهم يمرُّون أمام الزنزانة بين الفينة والأخرى، ويصرخون بأعلى أصواتهم، أو يضربون الأبواب بعقب الحذاء، أو بعقب البندقية، أو بالخيزرانة…

        ولكن ماذا بعد أيام التحقيق؟!.

        هناك إزعاجان مضمونان للسجين داخل الزنزانة:

        الأول هو أنَّ طول الزنزانة في الغالب لا يكفي لأن يمدَّ السجين جسمه ويرتاح. فإذا كان طول الإنسان عادة بين 160و 180سم فإن القصار فقط هم الذين يستطيعون أن يمدُّوا أجسامهم على طولها. بل إن بعض الزنازين لا تكفي لهؤلاء!.

        والثاني: وسائل الراحة والدفء لا تكفي في الحد الأدنى للكفاية. ففي البدء يوضع السجين في غرفة عارية ليس فيها أي شيء. فإذا أراد النوم فلا نوم إلا على البلاط! لا فراش ولا غطاء ولا وسادة!.

        وإذا مرّ يومان أو ثلاثة، بدأت أحوال الزنزانة تتحسن، فقد يعطى بطانية أو اثنتين… وعليه أن يتخذ من ذلك فراشاً وغطاءً ويجعل حذاءه وسادة!.

        وفي الغرف الجماعية يكون الوضع أحسن قليلاً، وهو يختلف بين سجنٍ وآخر، ومرحلة وأخرى. ففي إحدى المراحل، كنا خمسةً في غرفة واحدة، وفي هذه الغرفة أربع بطانيات ليس غير!. بينما في مرحلة أخرى –في الحلبوني- كانت حصة السجين الواحد أربع بطانيات (يتكيّف بها السجين ليجعل منها الفراش والغطاء والوسادة).

        أما مساحة المكان المتاح ففي أغلب الأحيان تكون صغيرة، بل صغيرة جداً! وكثيراً ما كان يتاح للسجين الواحد عرضٌ لا يتجاوز 40 سم! وطول ضئيل يضطر السجين معه لأن يطويَ رجليه! وقد تزدحم الغرفة (الكبيرة) فينقسم السجناء إلى قسمين، قسم تكون رؤوسهم على جهة حائط، وقسم آخر تكون رؤوسهم على الحائط المقابل. أما الأرجل فإنها تتداخل أو تتراكب!.

        وقد يزداد الزحام أكثر، فيضطر السجناء إلى النوم بالتناوب. فبعضهم ينام والباقون يقعدون في مساحة ضيقة جداً، ثم يستيقظ النائمون، أو يوقَظون، لينام زملاؤهم، ويقعدون!.

        وبعض إدارات السجون تجبر السجناء على إبقاء المصابيح مضاءة في أثناء النوم!.

        النوم راحة فعْلاً. لكن السجين محروم من هذه الراحة!.

الزيارات

        لا شكَّ أن ذوي المعتقل، من أبوين وزوج وأولاد، يرغبون في زيارة قريبهم، شوقاً إليه، واطمئناناً عليه، ومواساةً له…

        لكنَّ إدارة السجون تتفاوت في مدى ما تسمح به من هذه الزيارات، لا سيما سجون المخابرات. فهي تمنع الزيارات في فترة الاعتقال الأولى، هذه الفترة التي تمتدّ أياماً، أو أسابيع، أو شهوراً… وحين تسمح بالزيارة تقيّدها بقيودٍ كثيرة، وقد تعود إلى منعها لسببٍ أو لغير سبب!.

        وعلى سبيل المثال فإن الأشهر الخمسة التي قضيناها في فرع مخابرات حلب، لم يتمكن ذوو أي موقوف من زيارة صاحبهم أكثر من مرة واحدة، بل إن بعضهم لم يتمكن من زيارته مطلقاً!.

        والزيارة -حين تتم- تكون بحضور  واحد أو أكثر من الجلاوزة، للحيلولة دون نقل أي خبر، أو التحدث في شأن التعذيب والتحقيق، أو تحميل أي رسالة شفهية أو خطية… ولا تتجاوز الزيارة عادةً خمس عشرة دقيقة!.

        وفي الحلبوني يفرّقون بين مصطلحين: زيارة ومقابلة.

        فالزيارة عندهم هي أن يأتي بعض ذوي المعتقل إلى باب فرع الحلبوني ويسلّم بعض الهدايا للحرس حتى يوصلوها إلى المعتقل، ويبلَّغوه بوصول أهله!. وكثيراً ما تصل بعض هذه الهدايا فقط، إلى صاحبها!.

        والزيارة، بهذا المعنى متاحة في معظم الأيام، والزائر لا يلتقي صاحبه ولا يراه!.

        أما المقابلة فتعني أن يجلس الزائر وصاحبه المعتقل، بحضور بعض الزبانية، في غرفة الحرس، مدة ربع ساعة، تزيد قليلاً، أو تنقص قليلاً!.

        وهذه المقابلة قد تتاح بمعدل مرة كل أربعة أشهر!.

        وغني عن البيان فإن أي طعام أو متاع يحضره أهل الأخ المعتقل يخضع للتفتيش الدقيق، كما يخضع غالباً لشيءٍ آخر!.

ومضات

“نعم، أنا الذي بعت الجولان!”

من النكات المرّة التي كان يتناقلها الموقوفون في فروع المخابرات، هي أن يقولوا لمن يتوقعون له أن يقدَّم إلى محكمة أمن الدولة: بإمكانك أن تنكر كل شيء اعترفت عليه أمام المحقق، وذلك بأن تقول للقاضي: “لقد كانت اعترافاتي كلها تحت التعذيب! ولو أنهم طلبوا مني أن أعترف لهم بأنني أنا الذي بعت الجولان، لقلتُ لهم: نعم!”.

اشطُبوا اسمه من الملفات جميعاً

كان أحد المعتقلين من إخواننا شاباً، في الثانية والعشرين من عمره، طالباً جامعياً، وقد ثبتت عليه “الجريمة” نفسها التي ثبتت على غيره! وهي انتماؤه إلى جماعة الإخوان المسلمين!.

لكن، كان لهذا الشاب مزية خاصة هي أن له أخاً شقيقاً، تاجراً كبيراً، ولم يكن هذا التاجر متديناً، بل كانت له علاقات وثيقة بالنقيب دياب، رئيس فرع المخابرات العامة في حلب، وكانا يسهران معاً في بعض الليالي الحمراء أو الخضراء، وكان يُغرق النقيب بالهدايا، لا لوجه الله، ولا لسواد عيني النقيب، ولكن لأنه يحتاج إليه في تخليص البضائع، أو حل الإشكالات مع “ضريبة الدخل” وغير ذلك، فإن مكالمة هاتفية من النقيب الشهم كافية لحل الإشكالات جميعاً!.

كان قد مضىٰ على اعتقال الشاب يومان أو ثلاثة، واتّصل أخوه التاجر بالنقيب ليقول له: إنَّ أخي معتقل عندك، وأنت صاحب فَضْل!!.

اتصل النقيب، بدوره، بالمحقق عبد القادر حيزة، وكان يقوم بالتحقيق مع بعض إخواننا. فقال له: إنَّ فلاناً، الشاب المعتقل عندك، أَفْرِجْ عنه فوراً، ومزّق كلَّ الأوراق التي تشكل “محضر التحقيق” بشأنه، واشطب اسمه من كل الملفّات.

وكان ذلك. وتم الإفراج الفوري عن أخينا الشاب.

وكان النقيب مخلصاًَ لصديق “السهرات” فنصحه بأن يُخرج أخاه من سورية كلها، لأنه لا يأمن أن يقوم فرع آخر من فروع المخابرات باعتقاله، وتخرج القضية من يده.

وكان ذلك أيضاً، والأخ يعيش خارج سورية منذ عام 1973م.

لقد فرحنا لنجاة أخينا، وأسفنا للاعتبارات التي تتحكّم في بلدنا المنكوب!.

ما هذا التناقض؟!

حدثني زميلٌ لي مهندس، اسمه (ش.ش)، وهو بعثي، جميل الصورة، اجتماعي، حلو الحديث… قال: جاءتني سيّدة تشكو إليّ أنّ أحد فروع المخابرات قد داهم بيتها، واعتقل ابنها، وهي لا تدري أي فرع هذا، وكلما ذهبت إلى أحد الفروع تسأل عنه، أنكروا أن يكون عندهم صاحب هذا الاسم!!.

يقول السيد (ش.ش): كان ابنها من أصدقائي، ولكنه كان ينتمي إلى “بعث” آخر، هو البعث اليميني، بعث أمين الحافظ أو بعث العراق!.

ويمضي (ش.ش): توقعت أن يكون هذا الصديق معتقلاً لدى فرعٍ معيّن، وكان أحد ضباط ذلك الفرع صديقاً لي، فذهبت إليه وقلت له: إنَّ فلاناً عندكم في السجن، وإنَّ بال أمه مشغولٌ عنده، وتريد أن تطمئن عليه… قال الضابط: طمئنْها. إنه بخير. إنها مجرد تحقيقات بسيطة، وما هي إلا أيام قلائل حتى يعود إليها. وهو الآن مبسوط. وكل أسباب الراحة مهيّأة له، من طعام، و”تنفُّس” وحسن معاملة….

قال السيد (ش.ش): عرفتُ أنَّ الضابط يكذب عليّ، فقلت له: البعث العراقي التكريتي إذا اعتقل واحداً من رفاقنا يعذِّبه، ويُذلّه، ويذيقه الأمرَّين… وأنتم إذا اعتقلتم واحداً من جماعتهم تدلِّلونه؟!. قال الضابط: أتريد أن أقول لك الحقيقة: واللهِ، إنه يلقى من العذاب ما لا يطاق. إنه لا يعرف متى ينام، ومتى يفيق؟ ولا يذوق من الطعام إلا أسوأه… لقد نسي الحليب الذي رضعه من أمه!!.

فأجابه (ش.ش): العمى على الكذب!! منذ لحظات فقط، كنت تحدثني عن الدلال والرفاهية!! فكيف تريدني أن أصدِّقك؟!.

“مستو” وعلبة الحلاوة!

في بعض مراحل السجن، كنا مع مجموعة من الإخوة في “الغرفة المظلمة”. إنها إحدى الغرف الأربع المطلّة على الساحة، لكن لهذه الغرفة خصوصية! وهي أنَّ شباكها صغير، لا تتجاوز مساحته 1×1م، وهو مرتفع كثيراً، ومغطى بشبك معدني، ذي قضبان غليظة متعامدة، لا تدع لدخول الهواء والنور إلا فتحات صغيرة مربّعة 6سم×6سم.

وكأن هذه الغرفة تخصص عندهم لعتاة المجرمين، لتكون سجناً في سجن!.

مع هذا كنا مسرورين لوضعنا في هذه الغرفة، فإن شباكها العالي الصغير يمنع السجانين من المرور بنا بين الحين والآخر ومراقبتنا. وإنَّ رؤية السجّان عذابٌ فوق العذاب!.

وبما أنَّ الخروج من الغرفة إلى المغسلة لا يتم إلا في أوقات محددة، وكثيراً ما نحتاج إلى استعمال الماء، فقد احتفظنا في الغرفة بإبريق وسطل من البلاستيك، نصبُّ على أيدينا   -للوضوء وغيره- من الإبريق فوق السطل. وحين يتاح لنا الخروج نفرغ محتويات السطل في المغسلة…

وحصل أنّ عقب السطل قد انثقب، ففكّر أحد إخواننا، وهو “مستو” الكردي، طالب الطب، بأن يقوم بلحامه؟!. أتى بغطاء بلاستيكي لعلبة الحلاوة، وأشعل فيه النار، فصارت قطرات منه تنزل فوق الثقب لينسدّ. ولكن في أثناء ذلك تنبعث من الاحتراق غازات بألوان مختلفة، وروائح خانقة. وهذا ما جعل أحد الإخوة يصرخ فيه: يا مستو، لقد خنقتنا! فأجاب مستو بغضب: أتراني أتسلّىٰ، ألا تراني أقوم بذلك خدمة لكم؟!.

انتهت الخصومة عند هذا الحد. وشعر الأخ أنه أساء فعلاً إلى أخيه مستو، فقام يعتذر إليه، ويصرُّ أن يقبِّل يده، تعبيراً عن أسفه. ومستو يقول: “لقد سامحتُك، ولعلّي أنا الذي أسأت إليكم. وأنا الذي عليّ أن أقبِّل يدك، وأن أعتذر من الإخوة جميعاً”.

وكانت لحظة صفاء، وسالت دموع الإخوان تقديراً لموقف كل من الأخوين، وإعظاماً لروح الأخوّة، وحمداً لله على مشاعر الحب في الله.

ذكاء سجّان

من “تقاليد” سجن الحلبوني أنَّ المحقق يبدأ التحقيق مع “الموقوف” أي المعتقل، من غير تعذيب، إلا بعض اللكمات والتهديدات….

وبعد الجلسة الأولى يطلب من أحد السجانين أن يهيِّئ “المعتقل” لجولة جديدة من التحقيق. وهذه التهيئة تعني أن يعرِّضه للتعذيب الشديد، ثم يحضره إلى المحقق عند الطلب.

وحدث أنَّ معتقلاً أجنبياً، يحمل الجنسية الأسترالية كان نزيلاً في إحدى زنازين الحلبوني. وطلب المحقق من السجّان “خميس” أن يهيّئ ذلك المعتقل للتحقيق.

كان ذلك في الساعة الأخيرة من الدوام الصباحي.

وعند بداية الدوام المسائي، استدعى المحققُ السجّانَ وسأله: هل قمت بتعذيب الأجنبي الذي طلبتُ منك تعذيبه؟! قال: نعم يا سيدي. والله عذَّبته عذاباً شديداً حتى “صار يحكي عربي!”. قال المحقق: “يخرب ديارك. لقد قمت بتعذيب سجين آخر”!.

أبو طلال و”صديق المحقق”

أبو طلال، السجان الشهير، يقوم بعدد من المهمات، إحداها أنه سائق “سوبر”.

وقد حدّثنا أنه كان يقود السيارة باتجاه الحلبوني، وإلى جانبه المحقق. ووقفت السيارة عند الإشارة الضوئية، وكان ذلك أمام أحد المقاهي. قال المحقق: انظُرْ إلى ذاك الذي يجلس على تلك الطاولة، ويلبس القميص الأزرق، وبيده سيكارة… هل رأيتَه؟! قال أبو طلال: نعم. قال: متى أوصلتني إلى الفرع ارجع وأحضر لي هذا الرجل.

رجع أبو طلال، ودخل المقهى، ورَبًّتَ على كتف الرجل. نظر الرجل إليه: ماذا؟. قال: “امشِ معي. الآن تعرف. مطلوب إلى المخابرات!”.

استجاب الرجل بطبيعة الحال، فانطلق به أبو طلال، وأدخله الفرع، وحشره في إحدى الزنزانات، وهو ينتظر أن يطلبه المحقق حتى يقدِّم له تلك الفريسة.

ومرَّت أيام، وتذكّر المحقق أنه طلب ذلك الرجل، ولم يأته الجواب. وسأل أبا طلال عنه فقال: نعم يا سيدي لقد أحضرتُه كما قلت لي، وهو الآن في الزنزانة منذ خمسة أيام، ومتى أمرتني أحضرتُه إليك. قال المحقق: بئس ما صنعت!! إنه صديقي. وقد كنتُ مناوباً في الفرع يوم أن طلبتُه. وأحببتُ أن يأتي لنتسلّى معاً!.

الصحفي وليد جركس

هذا الصحفي من محافظة حمص، وكان يعمل في جريدة “النهار” اللبنانية.

وفي بعض المراحل كانت هذه الجريدة في عداء مع السلطات السورية.

وكان وليد جركس يسافر بين الحين والآخر بين دمشق وبيروت. وفي دمشق عقد صداقة مع “جورج درزي” وهو المصور الرسمي للدولة، وصاحب استوديو في شارع الصالحية. فكان كلما زار هذا الاستوديو اشترى منه بعض الصور، ليبيعها –بدوره- إلى جريدة النهار.

ومرة زاره، وسأله عما عنده من صور جديدة، فقال له: اصعد إلى السقيفة لتختار ما تريد.

وصعد وليد فوجد بالفعل عدداً كبيراً من الصور. لكنه شكّ كثيراً بأن تكون تلك الصور مجازة!. فإنَّ نشر تلك الصور تحتاج إلى إجازة من المخابرات العسكرية.

كانت تلك الصور تتعلق بجولة أحد المسؤولين الكبار في بعض المناطق، وفيها صور له بأوضاع غير لائقة، على موائد الخمر ونحو ذلك!!.

التقط وليد عدداً من هذه الصور فأخفاها في جيبه، واختار صوراً أخرى، من الصور التي يقدِّر أنها مجازة، وعرضها على صاحب الأستوديو، فباعه إياها.

أخذ وليد الصور غير المجازة، وباعها للجريدة. وراحت إدارة الجريدة تسوِّق لهذه الصور: انتظروا صوراً فاضحة لبعض المسؤولين السوريين… ثم قامت بنشر إحدى هذه الصور.

استدعت المخابرات المصور جورج درزي، ولدى الحوار معه توقعوا أن يكون وليد هو الذي سرّب تلك الصور، فقاموا باختطافه من بيروت.

تم التحقيق مع الصحفي بأسلوب “حضاري”، استخدمت فيه تكنولوجيا الكهرباء والخيزران والدولاب… فاعترف، ببيع الصورة التي نشرتها تلك الجريدة.

ولكن الجريدة عادت فأعلنت عن صورة جديدة، وتم نشر هذه الصورة كذلك، فاستدعى المحقق وليداً ليحقق معه في هذه الصورة!. فأجابه وليد: انظر، لقد بعت الجريدةَ خمساً وعشرين صورة، فإذا أردتم ضربي وتعذيبي، فالأرخص لي أن تضربوني بالجملة، والجملة أرخص من المفرّق!.

العراقيان الشقيقان (س)

        تعرّفنا في “الحلبوني” إلى أخوين شقيقين من العراق الشقيق!.

        أصغرهما محمد (س) كان طالباً في جامعة دمشق، أبيض البشرة، ضئيل الجسم. وكان محسوباً على المعارضة العراقية، مرتبطاً بمكتب العراق –القيادة القومية لحزب البعث.

        لكن هذا الشاب اتهم –فيما بعد- بالتواطؤ مع رئيس المكتب، الذي فرّ إلى العراق، وأخذ معه معظم وثائق المكتب، بعد أن كان من أقطاب المعارضة، ولو في الظاهر. وإذاً فالشبهة قوية في حقّه، أنه مدسوس لحساب النظام العراقي.

        ولمّا كان محمد (س) صديقاً لرئيس المكتب المذكور، ويتردّد عليه، فلربما كان مدسوساَ كذلك.

        وإنَّ تهمة أقلّ من هذه كافية لاعتقاله.

        تم اعتقال محمد (س)، وضغطَ عليه ضباط الحلبوني حتى اضطرّ أن يكتب رسالة إلى أخيه الأكبر عبد الوهاب (س) في بغداد، يقول له: إنه مريض وبحاجة إلى دخول المستشفى لإجراء عملية جراحية، ويرجوه أن يحضُرَ إليه.. ورسم له مخططاًَ يبيّن فيه عنوان بيته.

        تسلَّم الأخ الأكبر الرسالة، فحمل معه مبلغاً جيداً من المال، ومجموعة من الهدايا الثمينة، وجاء إلى دمشق، ووصل إلى بيت أخيه، لكن عناصر المخابرات كانوا قد احتلّوا البيت. فلما طرق الباب، خرجوا إليه واستقبلوه!. وضعوا القيود في يديه، وجرّدوه من المال ومن الهدايا كذلك، وساقوه إلى الحلبوني، ولكن في غرفة غير غرفة أخيه.

        كان من حظّنا أن عبد الوهاب (س) كان في غرفتنا. فهو رجل هادئ النفس، متّزن، رزين، دمث، ذو ثقافة سياسية وعلاقات حزبية بعيدة المدى.

        ذكر لنا أنه كان قد زار سورية سرّاً لحضور مؤتمر لحزب البعث قبل أن يصل هذا الحزب إلى السلطة، وأنَّ هذا المؤتمر كان في مدينة حمص، وكان ممّن تعرّف إليهم في ذلك المؤتمر عبد الله الأحمر!.

        وفي أثناء السجن كتب رسالة، سلّمها إلى إدارة السجن، ووجّهها إلى زميل المؤتمر القديم عبد الله الأحمر. ولكن لا نعلم أنه استفاد من ذلك شيئاً. فهل حجبت الرسالة، ولم تصل إلى غايتها، أم أنها وصلت فتنكّر السيد الأحمر لصاحبه، أم أنه أراد مساعدته فكانت “العين بصيرة واليد قصيرة!”.

        كان عبد الوهاب (س) يحدثنا عن التاريخ السياسي للعراق منذ مطلع القرن العشرين وحتى يومه هذا، فيذكر أسماء الملوك والرؤساء، وأسماء أعضاء مجالس الوزراء ووظائفهم واتجاهاتهم، وتوافقاتهم وخصوماتهم…

        ومرّة أسرّ إليّ بكلمات، لا أدري لماذا خصّني بها دون إخواني الآخرين.

        قال لي: إنَّ النظام الحاكم في بلدكم ينقم عليكم، ويحقد على الإسلام والمسلمين. وإنه لا بد أن تصطدموا به يوماً ما، وقد يكون الصدام عنيفاً، وستحتاجون إلى دعم من الحكومة العراقية… فإذا حصل ذلك فاعلموا أنَّ العراق مستعدّ لتقديم كل عون!.

نقبلُه في “الإخوان” على مضض!

أمضينا خمسة أشهر في فرع مخابرات حلب. كانت الأيام الأولى كثيفة في التحقيق وما يتبعه من تعذيب مادي ومعنوي. ثم خفّت حدّة التحقيق تدريجياً ولكن قلَّ أن يخلو أسبوع من بعض تحقيق، وذلك بغية استكمال الملفّات.

بعد هذا تمّ نقلنا إلى دمشق، حيث فرع التحقيق المركزي، في الحلبوني. وهناك بدأ المحقق يطالع تلك الملفّات، فلا يجد مجالاً للمزيد!. لكن موقعه في “فرع التحقيق المركزي” يقتضي منه القيام بأي تحقيق، ولو كان شكلياً، فراح يضع خطوطاً حمراً تحت بعض الجمل والسطور في ملفّاتنا، ثم يستدعينا واحداً واحداًَ، لمزيد من الاستيضاح والتفصيل.

وجد في أحد الملفّات اسم “الدكتور مصطفى السباعي” حين ذكر الأخ صاحب الملفّ أن الدكتور السباعي رحمه الله، هو الذي أسّس التنظيم في سورية. لكن السيد المحقق في فرع التحقيق المركزي لم يكن يعلم مَنْ صاحب هذا الاسم؟! لقد ظنّه واحداً من الإخوان الناشطين في هذه الأيام، وينبغي إصدارُ أمرٍ باعتقاله، وما درى هذا المحقق الفهمان أنَّ الأستاذ السباعي –رحمه الله- أشهر من نارٍ على علم، فهو مؤسس التنظيم في سورية، وهو قائده، أو مراقبه العام، مدة اثني عشر عاماً، وهو مؤسس كلية الشريعة وعميدها الأول…. وهو في النهاية قد توفي عام 1964، والآن –في نهاية عام 1973- يسأل عنه المحقق.

لقد طلب المحقق من أخينا صاحب الملفّ، عنوان الدكتور السباعي، فأجابه: إنه في مقبرة الدحداح!. وكانت نكتة مُرّةً لا ندري هل أخجلت المحقق، أم أنَّ مستوى ثقافته يتناسق مع هذا الجهل؟!.

*   *   *

واستدعى كذلك واحداً من إخواننا، هو الأخ عبد الله س، وكان هذا الأخ ممن ابتُلي بالتدخين، على خلاف معظم أبناء الصف الإخواني. وكان الإخوة الذين تربطهم صلة تنظيمية بالأخ عبد الله س، من طلاب المرحلة الثانوية، وقد تم الإفراج عنهم مذ كانوا في فرع مخابرات حلب. فانتهزها الأخ عبد الله فرصة كي ينكر علاقته بالتنظيم، فحين دخل على المحقق استأذنه في أن يدخّن، فأذِن له. وفي أثناء الحديث قال للمحقق: أنا لست منظماً، فالإخوان متمسكون بدينهم على نحوٍ عالٍ، أما أنا، وإن كنت مسلماً، وعلى جانب من التدين، لكنني أدخّن وأرتاد دور السينما… ومن كان مثلي لا يقبله الإخوان في صفوفهم!. قال: وما شأنُ الذين اعترفتَ أنهم كانوا مسؤوليك في التنظيم؟! قال: إنها أسماء خيالية ابتكرتُها من مخيلتي كي أتخلّص من التعذيب. ولو أنك بحثت في الدنيا كلها فلن تجد لهذه الأسماء وجوداً في عالم الواقع.

اهتزّت قناعة المحقق فعلاً: لعلَّ هذا الإنسان، كما قال، ليس من الإخوان!.

———–

كان ذلك في الدوام الصباحي. وعاد الأخ عبد الله س إلى الغرفة، وحدَّثَنا بما جرى بينه وبين المحقق.

وفي الدوام المسائي، استدعاني المحقق، فقد جاء دوري، في جولة استكمال التحقيق. وما إن دخلت عليه حتى قدَّم إليَّ سيجارة!. قلت: أنا لا أدخّن، والحمد لله!. قال لي: هل أنت فقط لا تدخّن أم أنكم لا تقبلون المدخِّن في صفوفكم؟!. قلت له: قد نقبله على مضض!. فهزَّ المحقق رأسه، وكأنه يربط بين كلامي وبين ما سمعه من الأخ عبد الله، ثم قال: وإذا كان يرتاد دور السينما هل تقبلونه؟! قلت “أبداًً”! فهزَّ رأسه ثانية.

لقد وصلت الرسالة. ويبدو أنَّ المحقق الهمام رفع توصية إلى إدارة المخابرات العامة بالإفراج عن “عبد الله” لأنه ليس من الإخوان. وفعلاً تم الإفراج عنه على رأس تسعة أشهر من اعتقاله. والحمد لله على سلامته، وقد استفدنا أحياناً من غباء بعض المحققين، ومن محدوديّة ثقافتهم، كما تضرّرنا بذلك في معظم الأحيان.

الذين اغتالوا محمد عمران

كان الثلاثي الأكثر نفوذاً في السلطة، في المرحلة الأولى من تسلّط البعث، أي في عهد أمين الحافظ، هم أعضاء اللجنة العسكرية المكوّنة من صلاح جديد وحافظ أسد ومحمد عمران.

وبترتيب هذه اللجنة كانت تُعَدّ قوائم بأسماء الضباط بالعشرات، أو بالمئات، للتسريح من الجيش، بحجة أنهم متواطئون، أو أنهم من أعداء الثورة! وكانت هذه القوائم تضم الضباط من أهل السنة، وقليلاً من أبناء الطوائف. ودفعةً من التسريحات إثر دفعة، كانت تتغير البنية الطائفية في الجيش، فإبعاد أهل السنة أولاً، ثم إبعاد عناصر من الطوائف الأخرى… والتعويض عن المسرّحين بعناصر جديدة، معظمهم من الطائفة النصيرية… كان يرفع نسبة النصيريين ونفوذهم بشكل ملحوظ (اقرأ الصراع على السلطة في سورية- نيكولاس ڤان دام).

ولكن حافظ أسد، مع هذا كله، أطاح، فيما بعد، برفيقيه. أما اللواء محمد عمران فقد أرسل إليه مجموعة تغتاله، وأما صلاح جديد فقد اعتقله، يوم قام بانقلابه الذي سمّاه حركة تصحيحية في 16 من تشرين ثاني 1970، واعتقل معه القيادة القطرية بكاملها، إلا من تمكن منهم من الفرار, وهؤلاء الذين اعتقلهم بقوا في السجن نحو عشرين سنة أو تزيد، فمنهم من مات داخل السجن، ومنهم من أفرج عنه حين جاءت التقارير أنَّ حالته الصحية متردّية، فأخرجه كي يموت بين أهله بعد أيام أو أسابيع من الإفراج عنه.

المجموعة التي كلّفها أسد باغتيال محمد عمران، أتمت عملها بنجاح! ولكنها انكشفت، وحتى لا يؤدي انكشافها إلى انكشاف من كلَّفها، فقد أمر أسد باعتقال العنصرين اللذين انكشفا، أو حامت حولهما الشبهات! وكانا رجلاً وامرأة! ووضع هذان في زنزانتين في “الحلبوني”. ولدى التحقيق معهما، تبيَّن لهما أنَّ الأوامر قد جاءت إلى المحقق بأن يجعلهما كبش فداء، ويقطع الخيوط عندهما، فلا يثبت شيء، على من كلّفهما. لذا قررت المرأة أن تنتحر، واستخدمت بعض ثيابها، وخنقت نفسها شنقاً!.

ولا أدري ماذا كان مصير زميلها بعدئذ. فقد كان نزلاء الحلبوني يتناقلون قصة المرأة التي انتحرت!

الشمَّري البدوي

من طرائف السجن أن يُسجن معنا في الحلبوني ذلك البدوي.

يقول أبو إبراهيم عن نفسه إنه من البدو الرحَّل، وإنه أمّيّ لا يقرأ ولا يكتب، وإن الحكومة العراقية قد وطّنته في بعض مضارب العشيرة في قرية قرب الحدود السورية، ونظّمته كذلك في حزب البعث!.

وقد افتتح لنفسه دكاناً في القرية، وتعلّم قيادة الدرّاجة الهوائية فصار يتنقل بها بين قريته وقرية قريبة ضمن الحدود السورية ليشتري بعض البضائع يزوّد بها دكّانه لا سيما “الناشد” أي السكاكر السورية المصنوعة في حلب في مصنع ناشد إخوان!.

إنه بذلك يتجاوز الحدود الدولية المقدّسة التي رسمها الاستعمار وفق اتفاقية (سايكس بيكو) وأمثالها!.

وفي أثناء إحدى رحلاته للتسوُّق! ضبطته المخابرات السورية واعتقلته، واعتقلت معه الدراجة كذلك، وصادرت له البضاعة المحمّلة، وتصل حمولتها إلى بضعة كيلوغرامات!.

وتم نقله إلى الحلبوني عبر عدد من المحطّات: الحسكة، دير الزور، حلب، دمشق. فكان يبيت في فرع المخابرات في كل محطة ليلةً أو أكثر، وكانت درّاجته تنتقل معه، وكانت بضاعته تتبخّر وتؤخذ منها ضريبة الجمرك! حتى إذا وصل إلى دمشق استهلك الجمرك ما بقي من البضاعة!.

كان معنا في الغرفة محلَّ إيناسٍ وألفة وتفكُّه. فهو يحمل بين جوانحه ذكاء البدوي، وصفاء الفطرة، وبراءة الضحية لشطري البعث في العراق وسورية.

كان عشاؤنا في إحدى الأمسيات تمراً! نعم: خبز وتمر. وبعد أن تعشينا وحمدنا الله، زادت كمية من التمر. وخطر في بال أحدنا أن يداعب إخوانه فيسألهم عن توقعاتهم لعدد التمرات التي أكلناها. فواحد يقدّر أنها مئة وعشرون، وآخر يقول بل هي أكثر، ربما كانت مئة وخمسين… وكانت الوسيلة التي ستحسم الأمر وتبيّن العدد الصحيح هي أن نَعُدَّ النَّوىٰ!.

وبدأ أحد الإخوة بالعدّ، فقال أبو إبراهيم: ماذا تصنعون؟! قلنا: نعرف عدد التمرات من عدد النوى!. قال: كل التمر الذي أكلتُه أكلتُه بنَواه، وكنت أعجب منكم لماذا تلفظون النوى؟! وقد استغربنا كلامه، وكدنا نكذّبه: كيف يأكل النوى؟! لكنه قطع علينا تشككنا وأخذ مجموعة من التمر فمضغها وابتلعها مع نواها، ثم أخذ مجموعة ثانية كذلك من غير تكلُّفٍ ولا صعوبة!.

—————-

بقي الرجل معنا نحو شهر قبل أن يستدعيه المحقق، وهذه العادة كانت من التقاليد العريقة في الحلبوني. لكنه لما مَثُلَ بين يديه، ورأى هيئته، وسمع كلامه تعجّب كل العجب.

قال المحقق: أنت عميل للمخابرات العراقية، وقد دخلت سورية بتكليفٍ منها!.

أجابه أبو إبراهيم: نحن من البدو الرحّل، وقد وطّننا العراقيون في قرية، وجعلونا حزبيين.

المحقق: وماذا تفعلون بالحزب؟!.

أبو إبراهيم: يأتينا كل أسبوعين رجلٌ أفندي، يقعد على الكرسي، ونقعد نحن على القاع (الأرض) وندنّج (نخفض) رؤوسنا، ويقول –ونردد خلفه- : أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة.

المحقق: هل تعرف معاني هذه الكلمات؟!.

أبو إبراهيم: يبدو أنه كانت هناك امرأة عظيمة، أمّها عربية اسمها خالدة، وكان عندها رسالة تخبّئها في مكانٍ ما!.

ضحك المحقق حتى كاد ينقلب على قفاه. وأمسك بسماعة الهاتف واتّصل برئيس الفرع: يا سيدي سأرسل إليك هذا الرفيق ليشرح لك شعار الحزب!.

ثم قال المحقق: نريد أن تتعاون معنا!.

قال: نعم. لماذا لا أتعاون؟. أنا راعي بِلّ (إبل). فإذا كان عندكم بِل، فأنا مستعدّ لأرعاها لكم، ولا آخذ منكم أجراً كبيراً.

—————-

كان المحقق منطقياً فرفع توصية بالإفراج عنه، وأفرج عنه فعلاً بعد أسبوعين.

وبقيت مشكلة: من يعوِّضه عن السكاكر التي جمركَتْها له فروع المخابرات؟! ومن يصلح له الدراجة التي أصابتها الأعطال لدى نقلها معه من فرع، إلى فرع، إلى فرع؟! ومن يعطيه أجور المواصلات ليعود أدراجه من حلب إلى الحسكة؟! وهل سيسمح له بالعودة إلى العراق ويدوس بأقدامه تلك الحدود التي رسمها الاستعمار؟!.

قال: أبوس “كذا”

في أوائل شهر حزيران من عام 1973م، وكنّا معتقلين في فرع مخابرات حلب، وكانت غرفتنا مقابل غرفة التحقيق والتعذيب، وكان الوقت بعد منتصف الليل، سمعنا جَلَبَةً تقترن عادة مع إحضار سجين جديد.

أُدخل السجين إلى غرفة التحقيق، وبدأت الأسئلة تنهال عليه، وتنهال الخيزرانات والشتائم.

كان السجين، أو الموقوف، واحداً من مجموعة من الشباب المائع الذي ربّاه الحزب القائد.. وكانت هذه المجموعة التي يبلغ عددها ثلاثة أو أكثر، يخرج أفرادها من إحدى دور السينما في الحفلة الليلية، حيث رأوا رجلاً ومعه امرأة متبرّجة، ولم يعلموا أهي زوجته أم “صاحبته”.. وراحوا يغازلونها غَزَلاً غليظاً، ويوجِّهون إليها كلمات فاحشة.

ولم يكن الرجل سوى عنصر من المخابرات العامة، برتبة مساعد، ولم تكن المرأة سوى زوجته!

وماذا يستطيع المساعد أن يفعل مع هؤلاء الأشقياء.. إنه يلبس لباساً مدنياً، وهم لا يعرفون أنه مساعد في المخابرات.

وفجأة جاء الحل. لقد رأى المساعد سيارة تحمل دورية مخابرات. وهم تابعون للفرع نفسه الذي ينتمي إليه. فأشار إليهم باتجاه إلقاء القبض على العصابة، فسارعوا للاستجابة، لكن الشباب هربوا، ولم تتمكن الدورية من القبض إلا على واحد منهم.

جيء بهذا الشقي إلى الفرع، والتفّ حوله عدد من عناصر الفرع ليحققوا معه. لكننا -نحن في الغرفة المقابلة نتابع التحقيق- لمسنا شيئاً خاصاً، وهو أن “العناصر” الذين

يحققون مع الشاب الشقي، يقصدون الانتقام من المساعد أكثر مما يقصدون التعذيب.

لقد كان التعذيب وسيلة فقط إلى فضح المساعد، فقد كان هذا المساعد مكروهاً من جميع عناصر الفرع أو من معظمهم.

المحقق: قل يا حقير ماذا قلت لامرأة المساعد؟!

الشاب: والله يا سيدي لم أقل لها شيئاً.

المحقق يغمز للجلادين لينهالوا عليه ضرباً، ويسأله: قل: ماذا قلت لها قبل أن نهلكك من التعذيب.

الشاب: يا سيدي، واللهِ ما قلت لها شيئاً.

المحقق: ما زلتَ تكذب؟! قل: ماذا قلتَ لها.

الشاب: يا سيدي قلت لها: أبوس “كذا”.

المحقق: يا حقير، أهكذا تقول لامرأة المساعد؟!.

الشاب: والله يا سيدي ما كنت أعرف أنها زوجة مساعد، بل ما كنت أعرف أنها زوجة الرجل الذي تمشي معه.

المحقق: إذاً أنت تتهمها بشرفها، وتحسبها امرأة ساقطة.

الشاب: يا سيدي وما ذنبي؟! لقد كان شكلها ولباسها يوحي بذلك.

المحقق: حسناً، سوف ترى ماذا نفعل بك أيها الساقط.

*    *    *

ويذهب المحقق والجلادون.

*    *    *

وفي الصباح تأتي مجموعة أخرى من العناصر:

قل لنا “وْلاك” ماذا قلت لامرأة المساعد.

– والله ما قلتُ لها شيئاً؟.

– لقد اعترفت سابقاً، ولا فائدة من الإنكار.

– والله ما قلتُ شيئاً.

 – إذاً نعيد عليك التعذيب حتى تعترف من جديد.

– يا سيدي لقد قلت لها: أبوس “كذا”.

–  يا رذيل، أهكذا تقول لامرأة المساعد.

*    *    *

وتخرج المجموعة وأفرادها يتضاحكون…

ثم تأتي مجموعة أخرى، وتتكرر الأسطوانة: ماذا قلتَ؟ لم أقل شيئاً، اعترفْ، قلت لها أبوس …

وتأتي مجموعة ثالثة ورابعة حتى يمرّ جميع أعضاء الفرع من محققين وسجانين وحرس ليسمعوا الكلمة البذيئة وليخرجوا ضاحكين شامتين بالمساعد.

وفي المساء يفرج عن المعتقَل العظيم، إذ إنَّ جريمته لا تشكل خطراً على القائد أو على الحزب القائد.

مذكرات سجنية – لانهم قالوا لا الحلقة السادسة

الأمير فايز حرفوش

دخل علينا طويلَ القامة، شاحب الوجه، مهدّل الحاجبين، نحيل الجسم، طويل شعر الرأس واللحية على نحوٍ عفوي أو وحشيّ، كأن الحلاق لم يقترب منه منذ سنة، طويل الأظفار، هيئته تذكّر بالرسوم التي يَتخيّل بها الفنانون رجال الكهوف في العصور الأولى!. قسمات وجهه توحي أنه على رأس الأربعين، وضعف بنيته يوحي أنه على رأس الثمانين!.

يتكلم بتلعثم وتردُّد، وهو يتلفت يمنة ويسرة، كأنه يتوجّس من عدوٍّ غادر.

لقبُ الأمير في بداية اسمه، لقبٌ رسمي يتحلى به آل حرفوش اللبنانيون. فهو مواطن من لبنان الشقيق! ووالده –كما ذكر لنا- هو السيد فوزي حرفوش الموظف في مجلس النواب اللبناني آنذاك.

كنا في الحلبوني في خريف 1974، يوم دخل علينا الرجل. وقد حاولنا تطمينه، وإدخال الأمن إلى نفسه. ورويداً رويداً بدأ الرجل يستأنس ويندمج فيمن حوله، ويستعيد نضارة الوجه، والحيوية والروح الاجتماعية والمرح، وبدأت تظهر مواهبه. فهو يملك مهارات يدوية فائقة. وعلى سبيل المثال كان يصنع من لبّ الصمّون عجينة، ويلوّن نصفها برماد الورق المحروق، ويصنع مجموعتي أحجار شطرنج على نحوٍ متقن… يكمل ذلك كله في أقل من نصف ساعة!. كما يصنع من بعض فضلات غرفة السجن، من علب الورق المقوّى، ومن أغلفة علب السجائر.. مجسّم طائرة من الطراز الذي نريد: فانتوم أو ميغ 17 أو ميغ21 .

ويتقن صناعة الأحبار السريّة، ويحفظ عدداً كبيراً من قصص السجون والجواسيس..

وصحيحٌ أننا لم نعرف السبب الحقيقي لاعتقاله، لكنّ أجهزة المخابرات السورية عوّدتنا على وجود طيفٍ واسعٍ لديها من الأسباب الموجبة للاعتقال، وإذا كانت هناك أسباب وجيهة في أحيان قليلة، فإن وراء الاعتقالات في معظم الحالات سببين كبيرين:

الأول الإساءة لوجه سورية أمام العالم، فكم من سائحٍ بريطاني أو إسباني أو أسترالي أو ألماني… دخل البلاد بشكلٍ نظامي، ثم تحرَّشت به إحدى دوريات المخابرات في بعض شوارع دمشق، فاعتقلته احترازياً، وأطلعته على فنون التعذيب في فروع المخابرات، وأكرمته بالضيافة أياماً أو أسابيع على الطريقة البعثية، ثم أطلقت سراحه ليكون مندوباً إعلامياً يقوم بالدعاية المشرّفة لدولة المؤسسات (الأمنيّة)!.

الثاني: تحقير الإنسان الذي كرّمه الله تعالى، وهذا لا يقتصر على الإنسان السوري، بل يشمل دول الجوار، والدول القريبة والبعيدة في القارّات الخمس!.

بعد هذا لا يهمّ أن تكون التهمة الموجّهة للسيد حرفوش هي تهمة العمالة لإسرائيل، أو تهمة النيل من بطل الصمود والتصدي، أو تهمة الاعتراض على النفوذ السرّي لأجهزة الأمن السورية في لبنان (كان هذا قبل دخول القوات السورية العلني عام 1976). فأجهزة الأمن جاهزة لاصطناع التهم وإلصاقها بمن تريد، وقد أحرزت تقدماً في صنع التهمة المناسبة للرجل المناسب!.

بعد هذا أقول: أيّاً كانت التهمة الموجّهة، ومهما كانت درجة ثبوتها، فلن نجد مسّوغاً لما لقيه السيد حرفوش والظروف التي صاحبت ذلك:

1- فقد تم خطفه من الشارع في بيروت، واقتياده إلى سجنٍ سرّي للمخابرات السورية داخل لبنان، وإبقاؤه هناك نحو سنتين. وفي هذا ممارسة لأسلوب العصابات الإجرامية (التي تخطف من دون سند قانوني)، وفيه تجاوز لسيادة الدولة اللبنانية، إذ يحدث هذا على يد أجهزة غير لبنانية، ووجود سجون سرّية على أرضها تابعة لدولة أخرى (بعلمها، أو بغير علمها!).

2- وقد كان السجن في غاية الوحشية، بعيداً عن كل المعايير الإنسانية. ذكر لنا السيد حرفوش أن السجن في قبو عميق، ينزل إليه بنحو خمسين درجة، فلا يمكن تسرُّب أشعة الشمس إليه، ولا وصول الهواء النظيف. ويؤكد كلامَه هذا، الشحوبُ على وجهه، والنُحول في جسمه، والضعف الشديد في بنيته، يوم أن جاءنا.

3- وكانت معاملته كذلك في غاية السوء، يدل على ذلك هيئته المزرية (يوم انتقاله من ذلك السجن إلى الحلبوني في دمشق) وشعوره بالوحشة والخوف… فعلى الرغم من سوء المعاملة التي كنا نقاسيها في الحلبوني، شعرنا أننا في سجن (خمس نجوم) بالقياس إلى ما كان عليه هذا الرجل. ولا يزيد على سجنه سوءاً إلا ما لقيه المعتقلون في سورية في سجن تدمر بدءاً من عام 1980 فما بعد.

لقد استطاع الحزب القائد، وأجهزة أمنه المتطورة أن تختلق كل حين من أساليب القمع والسحل وتحطيم الشخصية… ما يستصغر المرء معه كل ما سبقها من أساليب!.

السجين سعيد (ك)

        كان من السجناء الذين عاشوا معنا، أو عشنا معهم، في قبو الحلبوني. شاب دمشقي اسمه سعيد (ك).

        إنه شاب مرح اجتماعي حلو الحديث.. طويل القامة، أبيض البشرة.

        استفدنا منه في التعرف على طرائق أجهزة المخابرات!

        من ذلك أن الذين تستعين بهم تلك الأجهزة على ثلاثة أصناف:

        صنف موظف في تلك الأجهزة. وهذا الصنف منه مَن يحمل رتبة عسكرية، ويكون في أصله ضابطاً في الجيش أو صف ضابط، ومنه المدني، ويعمل في الغالب في مهنة محقق أو كاتب!.

        وصنف عميل للمخابرات، يكون الواحد من هؤلاء صاحب بقالة أو مقهى، أو عاملاً في فندق، أو طالباً في الجامعة… ويرتبط مع أحد العناصر من الصنف الأول، ويتلقى منه التكليفات، ويتقاضى منه أجراً على “الإخباريات”، وقد يقِّدم إخباريات كاذبة، إما انتقاماً ممن يختلف معه في شأن من شؤون الحياة، أو ممن ينافسه في مهنته، وإما طلباً للاسترزاق فحسب!… وقد تعتقله أجهزة الأمن التي يعمل معها، لأنه ورّطها نتيجة تقاريره الكاذبة، ثم تفرج عنه بعد أن تكون أدّبته!.

        وهذان الصنفان معروفان لدى معظم الناس، بمعنى أنَّ وجود هذين الصنفين معروف، لكن الصنف الثالث هو الذي لا يعرفه معظم الناس:

        الصنف الثالث: وهو مجموعة أفراد يتعاقد أحدهم مع فرعٍ من فروع المخابرات مدة سنة أو اثنتين، ويكلَّف خلال هذه المدة بمهمات في مدينته أو قريته أو في مكانٍ آخر… أو خارج القطر. فإذا انقضت مدة العقد، فإما أن تجدد لمدة أخرى برضا الفريقين، وإما ألا تُجدد، وقد يجري التعاقد بين الفرد نفسه وبين فرعٍ أمنيٍّ أخر.

        ولقد كان سعيد (ك) من هذا الصنف، كما ذكر لنا، فعمل مدةً مع الشعبة السياسية، ومرةً أخرى مع مخابرات القوى الجوية… ولعله كذلك عمل مع أجهزة أمن أخرى.

        وكان يبدو من شخصيته أنَّ التعليم الذي تلقّاه متواضع جداً، فهو في الغالب لا يحمل شهادة الدراسة الثانوية، ولا أدري إذا كان قد اجتاز المرحلة الإعدادية. لكن ثقافته الاجتماعية جيدة، وعنده كذلك ثقافة دينية مقبولة، فهو من أبناء هذا الشعب: ينشأ في صغره في بيئةٍ متدينة، قد تكون واعية متعلمة، أو ساذجة قليلة العلم والتعليم! وفي مرحلة الشباب يتصيده بعض الفاسدين، لا سيما إذا أخفق في دراسته وترك المدرسة، ويجرّونه إما إلى لعب القمار وشرب الخمر… وإما إلى العمل في المؤسسات الحزبية أو الأمنية. ومثل هؤلاء يتردد في سلوكهم أثر التربية الدينية التي نشؤوا عليها في صغرهم، وآثار الفساد الذي لحقهم في سن المراهقة فما بعدها. وكان سعيد (ك) من هؤلاء.

        وقد حدثنا عن بعض مشاهداته لألوان التعذيب في سجن الآمرية الجوية. ففضلاً عن الأنواع المعروفة من الضرب بالكابلات وبالخيزرانة والتعذيب بالكهرباء، هناك التعذيب بالضوء الباهر!! كيف؟.

        قال: يُلقى السجين على ظهره في وسط غرفة التعذيب الكبيرة، وتربط يده اليمنى من الرسغ بسلسلة معدنية إلى حلقة في أرض الغرفة، في الزاوية الأقرب إلى هذه اليد، وتربط اليد اليسرى كذلك بسلسلة إلى الزاوية القريبة منها، وتربط كذلك كل من القدمين إلى الزاويتين المقابلتين، وبذلك يصبح الجسد ملتصقاً بالأرض، والأطراف الأربعة مشدودة إلى الزوايا الأربع!. وهذا بذاته تعذيب، ولكن التعذيب المقصود هو فوق ما ذكر، إذ تفتح عيناه ويوضع بين كل جفنين عود ثقاب حتى تبقى العينان مفتوحتين لا يمكن إغلاقهما، ويطلب من السجين أن “يعترف”! فإذا لم يعترف بما يرضي المحقق، أشعل المحقق ضوءاً باهراً (بروجكتور) وقال للسجين: ستبقى هكذا إلى الغد!. وغادر الغرفة!.

        يقول سعيد (ك): مهما كانت قدرة السجين على التحمل فإنه بعد دقيقتين، في أعلى تقدير، يبدأ بالصراخ والاستغاثة. ويكون المحقق واقفاً في غرفة مجاورة يسمع الصراخ، فهو يعلم أن السجين لن يتحمل هذا الضوء الباهر، وسيصرخ. وعندئذ يأتي إليه ويقول: اعترفْ!. فيقول السجين: أرجوك أطفئ الضوء، وأعترفُ لك بما تريد!، فيصرُّ المحقق على أن يتم الاعتراف قبل إطفاء الضوء!.

        كما حدثنا أن السلطات الأمنية قلقت من اتساع شعبية الشيخ حسن حبنكة (رحمه الله)، وازدياد عدد تلامذته، ونشوء حلقات العلم المختلفة في جماعته، فأرادت أن تحوك مؤامرة تورّط فيها بعض هؤلاء التلامذة بعملٍ (غير قانوني)، وتتخذ الذريعة لضرب جماعة الشيخ. وكانت المؤامرة أن كلفتْ بعض العناصر، ومنهم سعيد (ك) فبدؤوا يحضُرون دروس الشيخ ويُبدون تجاوباً كبيراً، ويتظاهرون بالتدين، ويشاركون في حلقات العلم… ثم راحوا يَدْعون إلى إيجاد تنظيم سرّي يحرّض على معارضة الدولة… ولقيتْ دعوتهم قبولاً لدى بعض تلامذة الشيخ. وبعد أسابيع على سير المؤامرة قامت عناصر المخابرات بمداهمة بعض هذه المجموعات، واعتقلت أفرادها، ومارست عليهم التعذيب للتعرف على أفرادٍ آخرين، ولاكتشاف حقيقة توجهاتهم…

        وكان سعيد نفسه بين المعتقلين، وتلقى تعذيباً كالآخرين. وربما لم يتم إعلام عناصر الفرع الذي يتم فيه التحقيق، بحقيقة وضع سعيد، وذلك حتى يأخذ التحقيق مجراه.

        وبعد مضي الأيام الأولى للاعتقال، وإقفال التحقيق، تم فرز المعتقلين، حسب درجة خطورة كل منهم، وجاءت التوصية أن يصنّف سعيد في المجموعة ذات التهمة الخفيفة، التي سيتم الإفراج عن أصحابها. وبذلك أفرج عنه، ودفعت له الشعبة السياسية تعويضاً مالياً مجزياً، لقاء التعذيب والسجن اللذين تعرض لهما.

        ما أخبث إبليس وجنوده!.

نقولا حنّا

        الناس يعرفون هذا الاسم على أنَّ صاحبه مذيع في إذاعة صوت أمريكا. ولا شك أنَّ أهله وأصدقاءه يعرفون عنه جوانب أخرى، لا يطّلع عليها المستمع له من الإذاعة.

        وقد كان لي مع الأستاذ نقولا معرفة في سجن الحلبوني، ذلك الصرح الذي يمثّل “الكَرَم البعثي، والسماحة الأسدية”!!.

        الأستاذ نقولا فلسطيني الأصل، أقام في سورية، وانتسب إلى حزب البعث، و”ترقّى” فيه إلى أن أصبح رئيس فرع الحزب في الحسكة.

        وعندما قام حافظ أسد بانقلابه الذي أطاح برفاق دربه، نشأت معارضةٌ له في صفوف الحزب، وكان من الذين وقفوا معارضين: الأستاذ نقولا حنّا. ولكن ما هي إلا أيام قلائل حتى استتبّ الأمر لحافظ أسد، وإذا معظم المعارضين له في الحزب يتراجعون عن معارضتهم. إنهم مبدئيون! ومبدؤهم هو المحافظة على المواقع والمكاسب والامتيازات! وما دام هذا المبدأ يتحقق بالوقوف إلى جانب المتسلّط فليكن، فأصحاب المبادئ يدورون مع مبادئهم حيث دارت.

        لكن اللئيم لم يغفر لهؤلاء أنهم عارضُوا حركته “التصحيحية” بضعة أيام. فبدأ يترصَّدُهم، ويستفيد من كُتّاب التقارير، ثم يتصيَّدهم، ويودِعهم في سجونه. وكان الأستاذ نقولا من نزلاء الحلبوني العتيد.

        شخصية الأستاذ نقولا غنيّة بالصفات التي تميِّزُه.

        لقد كان يحفظ القرآن الكريم غيباً، ويعمل دائماً على مراجعة محفوظاته وتثبيتها!. ويقول: إنه في صغره تربّى في بعض الكتاتيب التي يعلِّم فيها الشيوخُ تلامذتهم تلاوة القرآن. ولعلَّ والده قد أدخله هذه الكتاتيب، لتعاطفه مع الإسلام، أو لثقته بأنَّ جوَّ هذه الكتاتيب هو الذي يضمن للطفل النظافة الأخلاقية، أو لعلمه بأنَّ القرآن –في أقلِّ الاعتبارات- هو كتاب العربية الأول.

        وقد بقي الأستاذ نقولا –كما ذكرنا- على صلة ودِّية عميقة بكتاب الله تعالى، وكان إلى جانب ذلك يحتفظ بنسخة من ترجمة معاني القرآن الكريم ليقرأ فيها كذلك.

        وهو –بالمناسبة- يحمل شهادة بكالوريوس في الأدب العربي، وشهادة بكالوريوس أخرى في اللغة الإنكليزية.

        وثقافته العامة واسعة، واهتماماته متعددة، ومواهبه كذلك فائقة.

        وحديثه عذب، فإذا كان في مجلس فهو الذي يتصدّر الحديث في ذلك المجلس، والآخرون يستمعون إليه أكثر مما يتدخلون، ويكون معظم تدخلهم باتجاه أن يستزيدوه.

        وهو شاعر مُجيد، ولقصائده أثر كبير في حياته!.

        ففي مطلع أيام الوحدة بين مصر وسورية، أَعلنت الجمهورية العربية المتحدة الناشئة، عن مسابقة لأجمل قصيدة عن الوحدة، فكانت قصيدة نقولا هي الفائزة الأولى، فاستدعي إلى القاهرة لتسلُّمِ الجائزة، وقابل هناك الرئيس جمال عبد الناصر الذي أُعجب به، ودعاه للإقامة هناك، وأصبح مذيعاً في إذاعة صوت العرب، في زاوية يومية اسمها صوت فلسطين.

        وفي أحد الأيام قدّم تعليقاً إذاعياً تهجّم فيه على أحد الزعماء العرب، كما هو شأن إذاعة صوت العرب، فاستدعي إلى المخابرات، حيث قيل له: ماذا جَنَيْتَ على نفسك؟! إنَّ إذاعتنا، وإن كانت تهاجم ذلك الزعيم، وغيره كذلك، دائماً، فقد قرَّرت التوقف عن مهاجمته، لأنَّ زيارة مرتقبة سيقوم بها إلى مصر!.

        قال: وما يدريني بذلك؟! ألم يكن عليكم أن تخبروني مسبقاً؟!.

        المهم أنهم عزلوه من عمله في الإذاعة، ووضعوه تحت الإقامة الجبرية. وبعد حين توسط له بعض أصحابه عند أنور السادات الذي كان يومئذ رئيساً لمنظمة المؤتمر الإسلامي في القاهرة!.

        وتمكَّن السادات من رفع الحظر عن حركته، والسماح له بالسفر. وكان يحتاج إلى ثمن بطاقة طائرة ليسافر إلى سورية، فأمر السادات بصرف ثمن البطاقة من حساب منظمة المؤتمر الإسلامي! فقال له المحاسب: يا سيدي كيف نصرف من حسابنا، ونسجل في دفاترنا عَطاءً له وهو ليس بمسلم؟! قال السادات: اصرفْ، واكتب: صُرِفت “للحجّي نقولا!”.

        وتمرُّ الأيام ويصبح نقولا رئيساً لفرع حزب البعث في الحسكة، كما ذكرنا، ويقيم الفرع احتفالاً بمناسبة المولد النبوي، فيختار الشاعر نقولا أن يلقي قصيدة من شعره في هذه المناسبة.

        لقد أسمعَنا أبيات هذه القصيدة التي تبلغ نحو سبعين بيتاً.

        كانت الأبيات الخمسون الأولى إسلامية صرفة، يمتدح الشاعر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يمتدحه أي شاعر مسلم. فلما وصل إلى هذا الحد من القصيدة توقف قليلاً وقال: هنا يبدأ النفاق. وأكمل الأبيات الأخرى، وإذا هي تماماً كما يقول المنافقون من مشايخ السلطة: “رسول الله عظيم، ودينه عظيم، وأخلاقه عظيمة، وإذا أردتم أن تروا ترجمة عملية لهذه العظمة، وأردتم أن تروها متمثّلة في إنسان، فهذا الإنسان هو حافظ أسد”.

*     *     *

        إن تراجع الأستاذ نقولا عن معارضة “الحركة التصحيحية”، ومسايرته للوضع الجديد لم يشفع له، فقد بقي أسد ينتظر الفرصة المناسبة للانتقام منه فكان أن زجَّه في الحلبوني مدة سنتين. وكان من نصيبي أن أتعرَّف عليه هناك.

“الكرُّوم” و”الحسُّون”

حين نُقلنا إلى سجن حلب المركزي، أصبح بإمكاننا لقاء سجناء من نوعٍ آخر، منهم تجار المخدرات، ومنهم السارقون والقَتَلة والهاربون من خدمة العَلَم.. ومنهم من تمتزج تهمته بين “السياسي والمدني”.

وكان من هذا النوع الأخير شاب اسمه أحمد كرّوم. في أواسط العشرينيات من عمره. متوسط الطول، نحيف، تشع عيناه ذكاءً، وتمتلئ جوارحه حيوية، يتحلَّى بعدد من المواهب، مَرِحٌ، ودودٌ، حلو الحديث… ومن كان بهذه الصفات فهو يمتلك جاذبية وقدرة على إنشاء علاقات اجتماعية واسعة، وقد اصطاده البعثيون وجعلوه عضواً ناشطاً في “شبيبة الثورة”، وأصبح يعمل في تدريب الفرق المسرحية الشبيبية، وما يتصل بهذا الاختصاص.

وفي عمله ذاك كوَّن صداقات حميمة مع عددٍ كبيرٍ من “الشبيبة” من الجنسين، وصل بعضها إلى مستوى الفضائح، ومع رجالات الحزب والأمن.

وحين جرى حفل افتتاح “سد الفرات” في صيف 1973 قام بتدريب بعض الفتيات الشبيبيات، لتقديم عروض وأنشطة، من غناء وتمثيل، في ذلك الحفل الساهر!.

وأرسل مجموعة الفتيات برفقة عناصر من سرايا الدفاع شرقاً إلى “الطبقة” لإجراء تدريبات على المسرح نفسه الذي ستقام عليه العروض، قبل يوم الحفل الرسمي.

 أما كرّوم نفسه فقد ذهب بمهمة حزبية غرباً إلى اللاذقية، فإذا قضى مهمته توجّه كذلك إلى “الطبقة” ليشارك في تنظيم الحفل.

يقول كروم: كانت المفاجأة أنني نزلت في منطقة “القسطل”، بين حلب واللاذقية، لأتناول طعام الغداء هناك في بعض الاستراحات، فوجدت –يا للفضيحة- مجموعة الفتيات ذاتها التي من المفروض أنها سافرت نحو الشرق إلى الطبقة، برفقة عناصر سرايا الدفاع!!.

*   *   *

وحدَّثني السيد أحمد كرُّوم أنَّ والده رجل متديّن، وأنه من أتباع الشيخ أديب حسُّون. قلت له: إذاً أنت تعرف الشيخ أحمد بن أديب حسون! قال: نعم، وهو صديقٌ لي. قلت: ما حقيقةُ ما يشاعُ عنه بأنه مرتبط بأجهزة المخابرات؟!.. قال: “هذا الكلام غير صحيح، وقد تدخلت بنفسي قبل ثلاث سنوات من أجل الإفراج عنه، عندما اعتقلته الشعبة السياسية، بعد أن تكلّم على المنبر بكلامٍ يسيء إلى الدولة.”

كلام السيد كرُّوم لم أقتنع به، ولكنني قلت في نفسي: إنه يتكلم بما يعرف. ولعل هناك جوانب لا يدري بها.

ومضى على كلامه نحو سنة كاملة، ثم جاءني إلى غرفتي (في سجن حلب المركزي) وقال لي: لقد سألتني عن الشيخ أحمد حسون، وأجبتُكَ بكذا وكذا! قلت: نعم. قال: كان جوابي يمثِّل ما كنت أعرفُه عنه فعلاً، أما الآن فقد جاءتني معلومة مناقضة تماماً!. قلت: وما ذاك؟. قال: زارني اليوم أحد الأصدقاء الحزبيين، وحدثني أن أحمد حسُّون مرتبط بالشعبة السياسية، وذو موقع مهم فيها، وأن علاقته بها قد ابتدأت منذ أن اعتُقل عندهم قبل سنوات، فقد تمكنّوا، بقليلٍ من الضغط، وفَيضٍ من الإغراءات، أن يشتروه!. لقد أصبح عميلاً لهم، بل عضواً فيهم، يسمحون له بهامش واسع من القول والحركة، بمقابل دورٍ هدّام يقوم به، من “إخباريات” ومن بثِّ إشاعات، ومن تفريقٍ في صفوف أبناء الصحوة الإسلامية، ومن تشويهٍ لبعض المفاهيم الإسلامية أو الشخصيات.

قلت: الحمد لله. لقد كان للرأي السائد عنه في المجتمع، سند متين!.

بقايا الفطرة

في الحديث القدسي الصحيح: “إني خلقتُ عبادي حنفاء كلَّهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتْهم عن دينهم..” رواه مسلم وغيره.

لا بد أن يظهر أثر الفطرة التي فطر الله الناس عليها، الفطرة التي تتوجه إلى عبادة الله تعالى وحده، وإلى فعل الخير ونبذ الشر. وقد ظهر أثر هذه الفطرة في نفوس بعض أهل الجاهلية الأولى، فمنهم من دخل في الإسلام بعدئذ، ومنهم من بقي على كفره!.

ووجود أثر الفطرة لا يعني بالضرورة أن الإنسان خيّر، إنما يعني أن الإنسان لا يمكن أن يتمحّص للشر. وقد تجد الشرير السيء الظالم المعتدي المتغطرس… يرقّ أحياناً، ويشفّ أحياناً، ويصنع الخير أحياناً. فنُقِرُّ بأن ما ظهر منه خير، ونبقى على وصفه بأنه شرّير، حيث يكون الشرُّ هو السمة الغالبة فيه، ويكون الخيرُ كالنقاط البيض المبعثرة في ثوبٍ أسود.

وقد مرّ في الصفحات السابقة لقطاتٌ من الخير ضمن ركام الشرّ في نفوس الأشرار، نشير إلى بعضها ونذكر مزيداً:

فالجلاد أبو طلال يصلي أحياناً ويصوم أحياناً مع كل سوئه!.

 والسجّان “بدري” كان يرى قطعة من الخبز مرميّة على الأرض فتثور ثائرته، ويعنّف المعتقلين الذي لم ينتبهوا إلى قطعة الخبز هذه: “ألا تخافون الله؟! تُلقون النعمة على الأرض؟!” ولا يرى في جَلْدْ الأبرياء، وفي سرقة طعامهم، وفي القسوة عليهم… ما ينافي خوف الله!.

و”عدنان الدباغ” مدير المخابرات العامة، آنذاك يدير أعمال الظلم والطغيان والقهر والإذلال لعباد الله… ثم يرقّ قلبه في موقف خاص: لقد جاءت والدتي من حلب إلى دمشق لتزورني بعد سنة أو أكثر لم تعلم فيها شيئاً عن أخباري، لأن الداخل إلى سجون المخابرات –كما يقولون – مفقود، والخارج مولود.

جاءت وهي تحمل حقيبتين من الألبسة والأطعمة، وزن كل منهما نحو عشرة كيلو غرامات، وهي في سنّ يتجاوز الستين. وليس من شأنها أن تسافر مثل هذه الأسفار، وهي المرة الأولى التي تصل فيها إلى دمشق، وقد بذلت جهداً كبيراً في الوصول إلى “الحلبوني” لكنّ الصدمة التي لقيتها هي أنَّ عناصر الفرع لم يسمحوا لها بزيارتي، وحين كرّرت توسّلاتها، وأصرّت على الدخول: قالوا لها: هناك حلٌّ واحد هو أن تأتي بإذن من مدير المخابرات العامة!. ودَلّوها على مقرّه، فذهبت إليه، وقالت له: أيها الأفندي، تراني أمامك امرأة مسنّة، وقد جئت لزيارة ولدي فمنعوني من زيارته، وقد دفعت خمسين ليرة أجرة السفر، وعانيت الصعوبات حتى وصلت إلى الشام!.

        فرقَّ لها قلب الطاغية، وأخرج من دُرج مكتبه خمسين ليرة، ودفعها إليها، واتصل بإدارة فرع الحلبوني ليأذنوا لها بزيارتي!.

—————

        والرائد بخيتان، رئيس فرع مخابرات حلب، أبدى سروراً بالإفراج عني وعانقني وهنأني!، وهو نفسه الذي يدير شبكة الظلم!.

—————

        والحاج أحمد عاصي، هكذا كان يلقَّب، هو عنصر مخابرات في فرع حلب، برتبة مساعد، كان إذا مارس التحقيق مع أحد الموقوفين يحلو له أن يستعمل الكهرباء في التعذيب، وهو من أشد أنواع التعذيب، لكنه كان يحافظ على صلاته، كما يبدو، ويصوم رمضان، ولعله فعلاً قد حجّ البيت الحرام!، وفيه جوانب أخرى من الخير.

—————

        وجاسم الطيط، الجلاد الشهير الذي ذُقتُ وإخواني على يديه الويلات، هو نفسه أصبح عام 1980 رئيساً لدورية تقف على حاجز عند مدخل حلب الغربي، وكنت أمرّ يومياً ذهاباً وإياباً عند غُدوّي إلى عملي وعند رواحي، فكانت الدوريات تقف على حواجز عدّة، فتستوقف السيارات، وتطلب هويّات الركاب، تماماً كما تفعل دوريات الجيش الإسرائيلي في فلسطين. وكنّا نتضايق من ذلك بلا شك. وفي إحدى المرات استوقفتنا الدورية التي يرأسها جاسم، وما إن رآني حتى تذكّرني وحيّاني وابتسم، وأذِن للسيارة بالعبور من غير تفتيش!!.

—————

        وعبد القادر حيزة المحقق في فرع مخابرات حلب، ودرجة ذكائه وأخلاقه مناسبة جداً لصفات جلاد، لا صفات محقق!. مع ذلك فإنه حين جاء على رأس دورية لاعتقالي من الرقة، حيث كنت حينذاك رئيساً لورشة صوامع الحبوب هناك، وكانت معي زوجتي وطفلتي ذات الأشهر الثلاثة، أوصلنا أولاً إلى مركز انطلاق سيارات “التاكسي” المسافرة إلى حلب، وحجز في السيارة مقعدين، على حسابي، لكنه أوصى السائق بلهجة تهديد واضحة، أن يوصل زوجتي إلى بيت أهلها، وإذا مسّها سوء فسيتحمّل المسؤولية. وتأكيداً لتهديده سجّل رقم لوحة السيارة على ورقة عنده!.

        وبعد فهذه نماذج لبقايا خير في نفوس الأشرار، تضؤُل وتشحّ حتى تكون كشعرة بيضاء، في جلد ثور أسود، أو تزيد قليلاً لتكون كشعرات!.

        نسأل الله الهداية لعباده، فاهتداء هؤلاء أحب إلينا من نزول عذاب الله فيهم. ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون﴾.

لأنهم قالوا: لا -مذكرات سجنية الحلقة الرابعة

جاسم وشيخو وأبو حميد

هذا العنوان ليس اسماً لمسلسل إذاعي أو تلفزيوني، بل هو عنوان لمسلسل التعذيب في فرع مخابرات حلب في الحقبة التي كنت فيها ضيفاً على ذلك الفرع.

جاسم هو زعيمهم. لا أعرف اسمه بالكامل. يقال إنه جاسم الطِّيط، ويقال: جاسم سلطان. ولكنه يُعرف عادة باسمه: جاسم، أو بكنيته: أبي الفوز.

لقد حَرَمَهُ الله من أي جمال في خلقته، لكنه كان صاحب ذكاء خاص في اقتناص الفرص، كما سأوضِّح.

وكان يتباهى في أنَّه تخرّج على يديه الوزير الفلاني، أو المسؤول الكبير الفلاني، بمعنى أنهم اعتُقلوا عنده قبل تولِّيهم وظائفهم، أو بعد إخراجهم منها، ونالوا من يديه القويَّتين سيلاً من الخيزرانات، وغير ذلك مما يجود به حذاؤه، ولسانه كذلك!.

ويبدو أنه أطول الجلادين مدةً في هذه المهنة الشريفة، وهو يحسّ بالحرج، بل بالخوف الحقيقي وهو يسير في الشارع، أو يدخل بيته، أو ينام فيه!، أو يتسوَّق لعياله… بل يخاف على أولاده كذلك… فأعداؤه كُثُر، وكل من تلقّى منه تعذيباً فهو عدوٌّ له، ولا يأمن جاسم أن ينتقم منه بعض الأعداء!.

ولهذا فقد اتخذ لنفسه “استراتيجية أخرى” وهي أن يمتنع عن اصطناع أعداء جدد بقدر المستطاع، فإذا لم يكن مضطراً فإنه يتهرب من ممارسة التعذيب المباشر، بل يدفع إلى هذه المهمة بعض شركائه مثل شيخو وأبي حميد ومحمد وردة (الحمصي)… وفوق ذلك فإن استراتيجيَّته تقتضي أن يمارس النهب بأسلوب آخر. فهو يعيش في حلب منذ سنوات طويلة ويعرف كثيراً من تجارها ووجهائها… فكلما جاءه أحد المعتقلين سأله ما اسمك وما اسم أبيك، وما اسم أمك؟…

ثم يسأله: ما القرابة بينك وبين فلان، وفلان، وفلانة؟!. فإذا عرف أنَّ فلاناً عمه أو خاله أو ابن أخته أو… قام بجولة عليهم في أماكن عملهم أو بيوتهم الخاصة ليأخذ منهم الرشاوي بمقابل أن يحسن التعامل مع قريبهم المعتقل!. وقد تكون الرشوة نقوداً أو تكون ساعة يد، أو قطعة أثاث، أو بعض الألبسة… حسب اختصاص كل من هؤلاء الأقرباء.

أما “شيخو” فهو كما يقول عن نفسه: “شيخو أبو الشوارب”، أسمر البشرة، طويل القامة، له شاربان كبيران جداً، أسودان لامعان، يجعلان شكله مخيفاً.

وهو كردي، من قرية كفر جنّة، متعصب لقوميته، في لهجته العربية أثر واضح لكرديته، فهو يخلط مثلاً بين المذكر والمؤنث. وعلى الرغم من حبه الشديد للتعذيب، يراعي المعتقلين الأكراد قدر استطاعته!.

في أحد الأيام كان شيخو مناوباً، ينام في الفرع، وعند شروق الشمس سمع خبطاً على باب إحدى الغرف، واستمر الخبط حتى قام شيخو من نومه غاضباً وأتى بالخيزرانة معه ليؤدِّب هذا الذي يتجرَّأ على إيقاظه في هذه الساعة المبكرة، وقبل وصوله راح يصرخ: من هذا الذي يدق الباب؟ فجاءه الجواب: “آس. آس” وهي بالكردية تعني: “أنا. أنا” إذاً فالمعتقل هو أخونا طالب كلية الطب مستو، فابتلع شيخو غضبه، وظهرت البسمة على وجهه، وفتح الباب للأخ مستو حتى يقضي حاجته.

Image processed by CodeCarvings Piczard ### FREE Community Edition ### on 2019-07-10 12:08:39Z | | ÿÿÿÿÿÿÿÿÿÿÿÿÿÅWÑGÿ

وأكثر من مرة كان يؤتى ببعض المعتقلين الأكراد، وقد يؤمر شيخو نفسه بتعذيبهم، فيقوم بذلك، إذا كان المحقق فوق رأسه، لكنه في غياب المحقق كان يحاول أن يكرمهم.

ومن المآسي الصغيرة! أن عدد الملاعق التي خصصت لنا، كانت أقل من عددنا، وبعض الطعام كالمرق، يصعب تناوله من دون الملاعق. وكان أحد إخواننا في وضع صحي خاص، فكنّا نكرمه بأن نخصّص له ملعقة!. ولما شعر شيخو بذلك، خاطبَ أخانا مستو، باللغة الكردية: لم تعطون هذا العربي ملعقة؟! وظهر الغضب المكبوت في وجه مستو، ولما ذهب شيخو قام مستو بترجمة ما سمعه!.

وشيخو هذا أمِّيّ، لكنه يضع في جيب السترة على صدره، ثلاثة أقلام أو أكثر! وإذا رفع سماعة الهاتف، وسأله الطرف الآخر: مَنْ؟ أجاب: شيخو أبو الشوارب.

وقد قرّرت إدارة الفرع إجراء دورة محو أميّة لعناصر الفرع، ومنهم شيخو هذا، فكان يحضر الدروس لكنه لا يفهم شيئاً، وإذا أعطاه المدرّس وظيفةً ليكتبها، طلب من أحد المعتقلين أن يكتبها عنه! فإذا قدّم الوظيفة للمدرّس تبيّن له أنها ليست بخط شيخو، فيطلب من إدارة الفرع معاقبته! ثم يأخذ وظيفة أخرى، ويحاول أن يكتب، وكلما كتب حرفاً أو رقماً بدأ يشتم: “يلعن أبوه هذا أربعة” أي يلعن الله الرقم 4. ما أصعب كتابته! (ونكتفي بهذا المثال عن أمثلة أخرى فاحشة).

وكان أحد إخواننا المعتقلين ينصح شيخو أحياناً فيقول له: يجب أن تترك الخمر، فالخمر وبال عليك في الآخرة، وهدم لصحتك!. فيقول: لا. أنا مرضت وذهبت إلى الطبيب فكتب لي في الوصفة: “واحد فروج، وواحد عرق”! قلت له عندئذ: وهل صرفتَ الوصفة من الصيدلية أم من الخمارة؟!. فنظر في وجهي ولم يُحِرْ جواباً!.

ويقصّ علينا هذه القصة التي تصور شخصيته، فيقول:

مرة طلب مني النقيب أن أعذِّب أحد الموقوفين، وصعد النقيب إلى غرفته في الطابق الأعلى، فوضعتُ القيد في يَدَي الموقوف (المعتقل) حتى تقلَّ حركته، وأتمكن من ضربه كما أريد. ورحت أضربه بالخيزرانة مرة، وبعصا غليظة مرةً، وبعقب الحذاء مرة ثالثة.. ولم أشعر إلا وقد انكسرت يده كسراً ظاهراً، وهو يصرخ من شدة الألم. خفت أن يعاقبني النقيب على ذلك. فاتصلت به هاتفياً: سيدي، هذا الذي قلتَ لي: عذِّبْه، لقد انكسرت يده.

(وأراد المحقق أن يطمئنه فقال له): “يلعن أبوه. خلّي تنكسر إيدُه التانية” : فلتنكسر يده الثانية.

فقال شيخو: حاضر سيدي.

وراح يضرب الضحية بقسوة بالغة حتى كسر يده الثانية. استجابة لما فهمه من كلام النقيب!.

قلت لشيخو: وكيف تفعل ذلك؟! قال: النقيب ربّي! فإذا قال لي: اكسر يده فأنا أكسرها!.

ونكتفي بهذا الحديث عن شيخو لننتقل إلى الجلاد الثالث:

أبو حميد: هو الآخر كردي، لكنه يتكلم العربية بلهجة حلبية تامة، مع احتفاظه بلغته الكردية.

وهو ضخم الجسم، جميل الهيئة، قوي البنية جداً. كان يعمل -قبل دخوله هذه الوظيفة- عتّالاً ينقل الحمولات التي يعجز عنها العتّالون الآخرون!.

وإذا أُمر بالتعذيب قام “بواجبه” على أكمل وجه، لكنه إذا غاب عن أعين المحقق بدا لطيفاً مهذباً.

كان هو الآخر أميّاً، فكنّا نكتب بعض الرسائل إلى أهلينا وأصدقائنا، ونرسلها مع أبي حميد، بمقابل خمس ليرات للرسالة الواحدة، ونشرح له العنوان فيوصلها بأمانة، وقد يأتينا برسالة جوابية بمقابل أجر آخر، يأخذه منهم.

وأحياناً يحمل رسالتين أو ثلاثاً في آنٍ واحد. وبما أنه أمّي، كنا نخاف أن يخطئ فيسلِّم الرسالة إلى غير صاحبها، فننبهه إلى ذلك فيقول: لا تخافوا. رسالة فلان هنا في هذا الجيب، ورسالة فلان في جيب القميص، والرسالة الثالثة في الجيب الخلفي. وبالفعل كان يصيب الهدف!.

ومرة اعتُقل مجموعة من عصابة تضم أطباء فمَنْ دونهم، من مستشفى حلب العسكري. وكانت هذه العصابة تأخذ الرشاوي من المواطن حتى تهيّئ له سبيل الإعفاء من الخدمة العسكرية…

في أثناء التحقيق مع أحدهم يقول المحقق حيزة: ألا تخجلون على أنفسكم تأخذون الأموال من أجل تمكين المواطن من التهرب من خدمة العلم؟!.

فيتدخل أبو حميد فيقول: سيدي. هل تظن أن كل الناس مثلي ومثلك، يعيشون على رواتبهم؟!.

وقد ذكرتُ آنفاً كيف كنا ندفع الرشاوي لأبي حميد. أما الحيزة فقد كانت رشاواه بأسعار باهظة.

فقد جيء مرة بمهرِّب حشيش على مستوى دولي (يهرِّب بين الدول)، وضبطت معه بضعة عشر كيلوغراماً من هذه المادّة. فلما وصل إلى الفرع ووضع تحت التعذيب، أشار بطرف عينه إلى المحقق، والتقط المحقق الإشارة، فصَرف الجلاد من الغرفة.

ثم كتب التحقيق بالشكل الذي يرضي المهرِّب. ثم طَلَبَ له فطوراً -على حساب المهرِّب- وهو “مامونية”، من عند المستّت!.

ووضعه المحقق في غرفتنا بضع ساعات إلى أن أُفرج عنه. وقد حدَّثنا أنه دفع للمحقق ثلاثة آلاف ليرة مقابل ذلك!.

رئيس فرع الحلبوني

عندما نُقِلنا من معتقل فرع المخابرات في حلب إلى فرع الحلبوني في دمشق، في مطالع أيلول 1973م، كان رئيس الفرع هو الرائد عارف نصر، وهو شخصية غامضة، يُدير الأمور من وراء جدار!. فقد بقينا “ضيوفاً” عليه مدة تزيد على أربعة عشر شهراً، ولم نجتمع به مطلقاً. نعم قد نراه خِلْسة، ونحن نتسلّق أعالي النوافذ، فربما صادف ذلك دخولَه إلى مبنى الفرع عبر الساحة الواسعة، فكان دخوله يقترن “بخشوع” ظاهر من السجانين والحرس.. إذ إن مِشْيته تدل على تجبّر وغطرسة.

كان يدير الفرع بشكل مباشر اثنان:

المحقق آصف يتولى أمور التحقيق والتعذيب ويُعدُّ ملفّات الموقوفين، ويرفع التوصيات بشأن التوقيف (الاعتقال) والإفراج.. وهو ضابط في مطلع الثلاثينيات من عمره، محدود الثقافة والذكاء!.

والمساعد شلحة (لا أعرف اسمه الأول)، يتابع الأمور الإدارية، من دوام للعناصر، وترتيب الحراسة، وتنظيم خدمات الطعام وغير ذلك. وهو كذلك ضعيف الثقافة والذكاء، قاسٍ جَلف. قد يتولى التحقيق في بعض المسائل الصغيرة.

وهو يعترف –بلسان حاله- أن الإخوان هم الأكثر نظافة في أخلاقهم وسلوكهم.. وفي طعامهم وثيابهم ومكان إقامتهم كذلك. فإذا جاءت توصية بأحد المعتقلين الجدد، فإن المساعد شلحة يضع هذا المعتقل الجديد في غرفة الإخوان، تكريماً له، وحفاظاً على نظافته البدنية والخلقية.

ولسنا ندري شيئاً عن العلاقة بين رئيس الفرع وبين كل من “آصف” و”شلحة” هل هي علاقة مودّة، أم علاقة إدارية وظيفية فحسب.

——————–

في أواخر العام 1974م حدث تغيير في إدارة الفرع، فقد عيّن رئيس جديد له، إنه الرائد محمد أحمد فتح الله.

كان متوسط الطول، أبيض البشرة، هادئاً ورزيناً.

وهو من منطقة يبرود -بين دمشق وحمص- وقد كان قبل ذلك “بمنصب القاضي الفرد العسكري”.

وكان مجيئه محاطاً لدينا بالغموض، فهل سيكون كسَلَفِه أم أقلّ سوءاً، أم أشد؟!.

واستمرّ الأمر نحو أسبوعين حتى بدأنا نلحظ ثمرات التغيير:

1-  أجرى رقابة على طعام الموقوفين، فعلم أن السجانين يسرقون أفضل الطعام، ويوزعون الباقي!. وأَمَر بسجن الرقيب أول أحمد سيفو (وهو ابن أخٍ للوزير شتيوي سيفو) بسبب سرقته بعض الطعام.

2- أمر بإعطاء الموقوفين حق الخروج إلى الباحة للتنفس، مدة نصف ساعة يومياً. (كنّا قبل عهده نخرج مرة واحدة في الأسبوع، لمدة عشر دقائق!).

3- اطّلع على ملفّات الموقوفين فوجد أنهم مظلومون، وليس هناك مسوّغ لاعتقالهم، فبدأ يرفع الكتب إلى إدارة المخابرات العامة يوصي بالإفراج عنهم. فاستجابت الإدارة فأفرجت عن بعض أصحاب القضايا الفردية البسيطة.

4- عندما لم تستجب الإدارة بالإفراج عن معظم المعتقلين، رفع كتاباً يقول فيه: إذا لم تستجيبوا، فلا أقلّ من أن تنقلوهم إلى سجون مدنيّة، حيث يمكن أن ينالوا بعض حقوق السجناء!. فاستجابوا لطلبه هذا، وتم نقلنا فعلاً. وكان نصيبي من سجن حلب المركزي، وخفّت بذلك وطأة السجن، فأين سجون المخابرات من السجون المدنية؟!.

لكن إدارة المخابرات العامة وجدت أنَّ هذا الرجل لا يصلح أن يكون رئيساً لفرع مخابرات، فمثل هذا المنصب يحتاج إلى ظالمٍ فظّ غليظ القلب حاقد لئيم.. فلم تمض سنة على توليه منصبه هذا حتى تم نقله إلى مكان آخر!.

الجلاد أبو طلال

إنه من أشهر جلادي فرع الحلبوني. لكن الاقتصار على وصفه جلاداً، لا يوضح حقيقة شخصيته، بل إن فيه بعض الظلم له.

بلغ من شهرته أنَّ بعض عناصر المخابرات في فروع أخرى، غير الحلبوني، يكنيّ أحدهم نفسه بأبي طلال تيمّناً بأبي طلال الحلبوني، ويطيل شاربيه ليكونا مثل شاربي أبي طلال.

والقلائل هم الذين يعرفون اسمه الحقيقي، فيكتفون بكنيته: أبي طلال.

اسمه هشام الشيخ نجيب، ويقال: إنَّ أباه شيخٌ بالفعل، لعله إمام مسجد مثلاً. وهو دمشقي.

وشخصيته غنية بالصفات المتناقضة، أو لنقل: بالخطوط ذات الألوان المختلفة.

تلمس فيه بعض الذكاء، وبعض العنف، والقدرة الكبيرة على التعذيب مع الروح الساديّة، وبعض التديّن، وبعض الوطنية، وكراهية حزب البعث الحاكم، وفيه قوة في الشخصية، وتعدد في المواهب، وفيه بعض الطِّيب، وبعض الجهل.

وحين نذكر بعض مواقفه تظهر تلك الخطوط المتباينة.

أحياناً يطلب المحقق من أبي طلال أن يقوم هو بدور المحقق في بعض القضايا الصغيرة، وعندئذ يبدو ذكاؤه، إذ يستطيع استخلاص الحقائق من دون أن يضرب المتهم صفعةً واحدة أو سوطاً واحداً. قد يهدد، وقد يمسك بيده الخيزرانة ويلوح بها ويضرب بها الأرض أو الحائط.. ويرفق ذلك باستدراج الموقوف (المتهم) حتى يستخرج منه الاعتراف المطلوب.

وإذا أصيب أبو طلال بمرض أو أصيب أحد أفراد أسرته فإنه يقول: لا شك أنَّ ذلك نتيجة دعاء أحد المظلومين الذين تولّيت تعذيبهم.

وإذا اقتضت منه مهنته أن يعذب أحد المتدينين، ولم يكن المحقق فوق رأسه، فإنه يختار أحد المسجونين غير المتدينين فينسب إليه ذنباً ما، ويفرغ فيه شحنة الغضب، حتى إذا وجد أنَّ الغضب ذهب عنه أمسك بالمتدين ليضربه ضرباً خفيفاً، أو يكتفي بتوبيخه…

وإذا جيء بموقوف من جنسيات غير سورية، وبخاصة إذا كان أوروبياً أو أمريكياً فإنه يتفنَّن في تعذيبه بمبادرة منه! وإذا سئل عن ذلك قال: إن أبناء وطننا يلقَون سوء العذاب عندنا، فهؤلاء أَولى!.

ومرة يخطر في باله أن يصلّي لله تعالى، فيقف في باحة السجن ويصلي علناً، لا يخاف أن يراه أحد!.

ومرة يعلن إفطاره في رمضان، فيضع -في باحة السجن كذلك- كرسيين متقابلين، يجلس على أحدهما، ويضع الطعام على الآخر ويأكل!.

وهو صاحب “مَقْمَرة” أي مقهى للعب القمار، يعمل فيها خارج أوقات الدوام، ويشغّل فيها بعض الشباب الأشقياء، ويستغلّ وظيفته في حماية المقمرة والعاملين عليها.

ومرة كان في أحد النوادي الليلية (الكباريهات) واشتبك مع عناصر من سرايا الدفاع، لا أعرف سبب الاشتباك، لكن عناصر المخابرات (من روّاد الكباريه) وقفوا مع أبي طلال، ضد عناصر السرايا (من روّاد ذلك المكان) وتبادلوا إطلاق النار على الخفيف فأصيب بساقه، ونقل إلى المستشفى، وبعد الشفاء بقي يعرُج عرجاً خفيفاً، ولعل هذا العرج استمرّ معه وشكّل عاهة دائمة.

وكان يمتاز بضربات معينة يعذّب بها الموقوفين. وذلك بأن يمسك الموقوف من مقدمة شعر رأسه، ويحرّكه يمنة ويسرة، فيستجيب ولا يستطيع المقاومة، ثم يشده بقوة نحوه فيرتمي إلى الأمام قليلاً، فيضربه ضربةً قوية بساعده (قرب المرفق) فيرميه أرضاً بقوةٍ قرب الجدار، وعندئذ يدوس بعقب حذائه على رأس الموقوف ويضربه عدداً من الضربات المؤلمة المهينة… ثم يخرج مزهوّاً بانتصاره!.

وهو يعبّر بطرق مختلفة عن كراهيته لحزب البعث وقيادته، وعن ضعف ولائه للسلطة التي يخدمها! فبين الحين والآخر تضبط السلطة بعض المتسللين من العراق عبر الحدود بحجة أنهم معارضون لحكم صدام حسين وطالبون للجوء السياسي في سورية، فكانت المخابرات تعتقلهم وتزجُّهم في سجن الحلبوني لتحقق معهم فتطمئن إلى وضعهم، أو تتهمهم بأنهم مدسوسون لإحداث شغب في سورية… فحين يقول أحدهم إنني قادم لطلب اللجوء السياسي كان أبو طلال يشتمه ويقول له: أعندنا تطلب اللجوء السياسي! والله نحن لا نشبع الخبز، فكيف نطعم غيرنا؟!.

ومرة اعتقل شاب عراقي يدرس في جامعة دمشق اسمه كُوسْرَتْ، يقول: إن أباه كردي وأمه عربية، وهو بعثي مرتبط بالقيادة القومية –مكتب العراق في دمشق. وحصل أن دارت شبهة حوله بأنه متعاون مع بعث العراق، فاعتقلته المخابرات، وجيء به إلى “الحلبوني” وبدأ به التعذيب، وكان الذي يعذبه أبا طلال، فيقول كوسرت: والله يا رفيق أنا بعثي، واسألوا عني القيادة القومية، فيجيبه أبو طلال: “كذا” عليك وعلى القيادة القومية.

يحدثنا كوسرت فيما بعد، وهو يروي قصة تعذيبه فيقول: ما كنت أصدّق أن تشتم القيادة القومية لحزب البعث داخل فرع المخابرات، وأن تصدر الشتيمة من أحد عناصر الفرع!.

ومن القصص الطريفة التي حدثنا بها أبو طلال قصتان:

الأولى تدل على بقايا القيم الدينية في نفسه، وهي أن شاباً اعتقلته المخابرات في الصباح الباكر من أحد الأيام، في منطلق الباصات وهو يريد السفر، وجيء به إلى الحلبوني، ووجهت إليه بعض التهم، وطُلب من أبي طلال أن يقوم بالتحقيق معه. يقول أبو طلال: حاولت معه بالحسنى، وبالتهديد، ثم بالضرب المبرّح… ولكنه لم يعترف بشيء، فوضعته في الزنزانة بانتظار جولة أخرى في اليوم التالي، وكنت يومها مناوِباً (أي عليه أن يبيت في الفرع نفسه) ومع شروق الشمس سمعت خبطاً على باب إحدى الزنازين، فاستيقظت لأستجلي الخبر، وإذا الشاب الذي أتحدّث عنه هو الذي يخبط الباب. فتحت له الباب وقلت له: ما شأنك؟! لماذا تطرق الباب في هذه الساعة المبكرة؟! قال: أريد أن تضربني، أريد أن تعذبني فإنني أستحق ذلك وأكثر!!. قلت في نفسي: هل أصيبَ الشاب بالجنون؟! قلت له: احكِ لي قصتك، فقال: أما التهم التي وجهتموها إلي فأنا منها بريء بريء. ولكنني أستحق الضرب والتعذيب لأن أمي لم تكن راضية عن سفري، وقد أرادت منعي من السفر فعصيتها وخرجت، فهذا نتيجة غضبها، وأسأل الله أن يغفر لي.

أما القصة الثانية فتدل على مدى الرعب الذي يعيشه عناصر المخابرات، إذ صار لهم في المجتمع أعداء كثر. يقول: كنت يوماً  مناوباً في الفرع. وكان علي أن أبيت هناك، لكنني كما أفعل مرات كثيرة، أبقىٰ حتى منتصف الليل ثم أذهب إلى بيتي، وهو قريب من الفرع، ويتحمل عني زملائي الأعباء إلى الصباح، وهي في الغالب أعباء شكلية.

ووصلت إلى البيت ، وبعد دقيقتين سمعت قرعاً بالباب، فقلت: لا شك أن أحد الناقمين كان يترصَّدُني، والآن يريد قتلي أو إيذائي، فلقّمتُ المسدس، وهيأت نفسي لأفتح الباب وأعاجل الواقف خلفه بضربة شديدة تجعله يتدحرج على الدرج ثم أرى إن كان هناك حاجة لإطلاق النار. وفعلاً فتحت الباب سريعاً ووجهت لكْمة قوية لهذا الطارق فتدحرج وهو يقول لي: مالَكَ يا أبا طلال؟ أنا صديقك فلان!!.

لقد كان صديقي فعلاً، وكان يعلم أني مناوب في الفرع، فجاء إلى هناك ليزورني ويسهر معي، فلما قيل له: الآن ذهب إلى البيت، لحق بي، وكان ما كان!.

الشيخ الشاعر يوسف عبيد

        كان من حظّي أن تعرَّفت إلى هذا الشيخ الشاعر في سجن حلب المركزي. فبعد فترة وجيزة من نقلي إلى هذا السجن، تم نقل اثنين من السجناء السياسيين، فصرنا ثلاثة في غرفة واحدة: أنا، والشيخ يوسف، وعبد العزيز ج، المحسوب على البعث العراقي.

        الشيخ أبو ضياء: يوسف عبيد رجل ضرير، ضخم الجسم، خفيف الظلّ، يحفظ القرآن الكريم، ويحمل إجازة (بكالوريوس) في الشريعة، وهو شاعر مجيد، ينتمي إلى حزب التحرير. ويكاد كل شعره أن يكون شعراً ملتزماً، بل إنَّ السبب المباشر في اعتقاله كان قصيدة قالها في هجاء حافظ أسد واتهامه إياه بالخيانة.

        ولا غرابة أن يكون يوسف عبيد من فحول الشعراء، فهو من قرية “عين النخيل” من أعمال منبج وما أكثر الشعراء الفحول المنبجانيين، بدءاً من البحتري، ومروراً بعمر أبي ريشة، ثم محمد منلا غزيّل وعبدالله عيسى السلامة… ولعلّ منبج قد أنجبت شعراء كُثُراً آخرين، فلست ممّن يتابع تاريخ الأدب والحركة الأدبية.

*   *   *

        بعد حرب تشرين “التحريرية”! قام وزير خارجية الولايات المتحدة هنري كسنجر، بزيارات، وُصفت بالمكّوكيّة، بين واشنطن وتل أبيب ودمشق. وفي إحدى المرات طال الفاصل بين زيارةٍ له وأخرى، فقد أمضى مدة تزيد على الشهر في الولايات المتحدة، تزوّج حينَها من “نانسي”، وعاد إلى دمشق، في استئناف لرحلاته المكّوكية.

        الشاعر يوسف عبيد نظم قصيدة بعنوان “شهر العسل”، على أنه لزيارة كسينجر هذه، بصحبة عروسه. ابتدأ الشاعر قصيدته واصفاً العروس وعروسه:

شربَ المُدامةَ وانثنى نشوانَ مغـرور  الأمــاني

واختال فوق الريح في سبّاقةٍ كالبرق  جامحةَ العِنان

وعروسُهُ الحسناء في صَلَـفٍ تتيـه بعُنفـــوانِ

والخنجر المسـموم في يـده كَنَـابِ  الأُفعــوان

وحقائبُ الدولارِ مُثقلةٌ فِصاحَ النطق،  ساحرة البيان

يُلْقَى بها ثمناً لمأجورٍ صغيرِ النفس خَوَّانٍ جبــانِ

فلتبرزِ الأوطانُ هاتفةً مُرَحِّبَةَ المرابع والمغانــي

بوزير أمريكا بِرَكْبِ عروسه الحسناءِ سيِّدةِ الغواني

وفي مقطعٍ آخر يخاطب رأس النظام:

يا مَنْ تسير وراء أمريكا ذليـل الـرأس، منقاد اللجـامِ

   وترى الوسام الأجنبي بصدرك الخاوي فتفخر بالوسـام

 وتَعَبُّ كأس الغدر خلف ستائر الإجرام، والجولان ظامي

لا تَحسَبِ الأوطان غافلةً عـن اللُّعَبِ المُدمِّرةِ الجسـامِ

وهكذا إلى آخر سبعين بيتاً.

        ويبدو أنه ألقى هذه القصيدة في عدد من السهرات والتجمعات. فاعتقلته المخابرات، وسجنته في فرع مخابرات حلب، ثم في الحلبوني، ثم كان مستقرُّه في سجن حلب المركزي.
        وفي كلِّ سجن من هذه السجون كان رؤساء هذه السجون، ومحقّقوها، وسجّانوها، وسجناؤها… يُعجبون بالقصيدة، ويلتذّون بسماعها، لكنَّهم لا يجرؤُون غالباً أن يُبْدوا إعجابهم بها وبقائلها، وشماتتهم بـ “بطل الجولان” فكانوا يحتالون لسماع القصيدة مرة تلو الأخرى.

        ففي بداية الاعتقال استمع المحقق إلى القصيدة كاملةً من الشاعر، وبعد ذلك قال كلاماً يلوم فيه ذلك الشاعر لَوْماً رسمياً!. يقصُّ أبو ضياء علينا قصة جلوسه أمام هذا المحقق:

وجلسـتُ فـي صمـتٍ وألـقى بالسـؤال: أَأَنـتَ شاعـــر؟!

ومتى نظمتَ الشعرَ، أوَ ما علمتَ بأنَّ نظم الشعر من إحدى الكبائر؟

ولـمَ الهجــاءُ المـرُّ للأسـد الهمـام، وعَدْلُه كالشمس ظاهـر؟!
وإذا تطـاول شاعـرٌ يهجـوه، فالمذيـاعُ يُخْـرس كـلَّ شاعــر.

        وهكذا في قصيدة جديدة، يردُّ فيها على المحقّق “الموظف”.

        وفي الحلبوني كذلك، كان يأتي عنصر المخابرات، من سجّانٍ أو محقّق، أو رئيس حَرَس… فيقول:  هل صحيح يا أبا ضياء أنك نظمت قصيدة في هجاء الرئيس؟! فيقول: نعم. فيقول: هل يمكن أن تسمعنا إياها؟!.. فيسمعه إياها كاملة.

        يذهب هذا “العنصر” ثم يعود ومعه عنصر آخر أو اثنان، ويطلب من أبي ضياء أن يُسمع القصيدة ثانية.

        ثم يأتي عنصر آخر فيكرر القصة. وكلهم يبدي سروره وإعجابه! فتصوّروا.

        بل إننا، في سجن حلب المركزي، شاهدنا موقفاً أعجب. ففي أمسية أحد الأيام، كان يمرّ أمام السجن قائد شرطة محافظة حلب، ومعه “النائب العام” وبدا لهما أن يزورا ذلك السجن. واستقبلهما الضابط المناوب النقيب نهاد شقيفة، وراح الثلاثة يتجولون في ردهات السجن. فلما مرّوا أمام غرفتنا توقفوا، وتعرّفوا بنا وبقضايانا, وكان منظر أبي ضياء لافتاً للانتباه، فهو سجين سياسي ضرير! سأله قائد الشرطة: ما قضيتك؟. قال: قلتُ قصيدة في هجاء الرئيس!. قال: هل تسمعنا إياها؟! قال: نعم. وبدأ ينشد قصيدته. وكنتُ أنظر في وجوه الثلاثة: النقيب والضيفين، فأرى مظاهر الفرح والإعجاب.

        وبعد ذهابهم. عاد إلينا النقيب فقال: إنَّ السيد رئيس شرطة المحافظة يطلب نسخة من القصيدة!!!.

*   *   *

        وأختم هذا الحديث عن الشاعر أبي ضياء، فأقول: لكل شاعر أبيات يقولها تندّراً وتملُّحاً، وتكون في الغالب بِنت لحظتها، وهي، وإن لم تكن في مستوى الشعر العالي الذي ينسب إليه، تعبِّر عن مشاعره العفويّة.

        مرّة كان يتناقش مع أحد البعثيين، فقال البعثي: شعارنا: أمة عربية واحدة. ذات رسالة خالدة. فسأله أبو ضياء: وما تعريف الشعار؟! فارتبك. وبعد ذهابه قلت: أتسأله عن التعريف، والتعريفات يعجز عنها من هو أكثر علماً وثقافة منه، بل لعلَّ هذا “الرفيق” لا يفرِّق بين الشعير والشعار؟! فضحك وقال:

الشِّعر والشعير والشعار         يحسبها سواءً الحمارُ

———-

        ومرة، فقد نعليه من مكانهما. وهو يسمي النعلين “كُلاشاً” فقلت له: خُذْ أيَّ كُلاش من كلاشاتنا! فقال:

إذا ذهب الكُلاش فلا كلاشٌ      يقومُ مقامهُ عند اللَّبـوس

كان شِراكَهُ لمســاتُ خَزٍّ  كأنَّ مَدَاسَهُ وجه الرئيس!.

———-

        وقد قضينا في السجن معاً ما يزيد على السنة، فكانت روح أبي ضياء الحلوة تُذهب أكدار السجن، وتضفي عليه سروراً وحبوراً.

        رحمه الله رحمةً واسعة، فقد علمت أنه توفي في صبيحة يوم الأربعاء 24/10/1427هـ- 15/11/2006م.

وهو من مواليد قريته (عين النخيل) عام 1931م.

لأنّهم قالوا .. لا مذكرات سجنية الحلقةالثالثة

وسرقوا بيتي

            هل فهمتم من العنوان أنهم سرقوا بعض محتويات بيتي، أو أنهم سرقوا بيتي كله واغتصبوه! كلا الفهمين صحيح. فمرّة فعلوا هذا، ومرة فعلوا هذا. ولا يخفى عليكم من هؤلاء الذين سرقوا؟ إنهم هم، وليس غيرهم!.

        في شهر آذار من عام 1973 كان عملي قد استقرّ مهندساً في مؤسسة المشاريع الكبرى –مديرية صوامع الحبوب- موقع حلب، فجاء قرار بنقلي إلى الرقة لأكون مسؤولاً عن موقع الصوامع هناك،  الذي هو في طور التأسيس.

        وفي الأيام الأخيرة من الشهر المذكور التحقت بعملي هناك، ونقلت معي زوجتي وطفلتي ذات الأشهر الثلاثة. وحتى لا يبقى بيتي فارغاً، أعطيت مفتاحه لأحد فتية الحي، من روّاد المسجد، حتى يتردّد على البيت، أو يستخدمه في تحضير دروسه المدرسية…

        وما هي إلا أيام، حتى بدأت الاعتقالات بمناسبة الاحتجاجات الشعبية على دستور حافظ أسد. ولم يكن أمام الجماهير المحتجّة إلا وسائل بسيطة، وطرق ضيّقة، للتعبير عن احتجاجها. فقام بعض الشباب بكتابة شعارات على جدران الشوارع تندّد بذلك الدستور، مثل: “لا، للدستور الظالم”. وألقي القبض على أحدهم، وتحت التعذيب اعترف على بعض من له به علاقة، وبعض هؤلاء اعترفوا على علاقة بي، ليس في شأن تلك الكتابات، ولكن بشأن التنظيم في جماعة الإخوان المسلمين!.

        جاءت دورية مخابرات لاعتقالي، لكني كنت –كما ذكرت آنفاً- قد انتقلت إلى الرقة، وكان في البيت الفتى الذي سلَّمته مفتاح البيت، وبعض أصدقائه، وأستاذ لهم يعطيهم درساً خاصاً في مادة اللغة العربية.

        وحتى لا تعود الدورية خائبة، فقد اعتقلت كلَّ من في البيت، وسكنت البيت نفسه، وجعلته مصيدة، تعتقل كلَّ من يطرق بابه!. واستمرَّت على ذلك أسبوعين أو يزيد.

        وعلى إثر مجيء الدورية إلى بيتي شُكِّلت دورية أخرى فسافرت إلى الرقة، واعتقلتني هناك.

        بعد مضيِّ نحو ثلاثة أشهر، سمحت إدارة فرع مخابرات حلب، حيث كنت معتقلاً، بأن تزورني والدتي. وفي الزيارة أخبرتني، أنَّ عناصر المخابرات الذين احتلوا البيت مدة أسبوعين سرقوا منه ما خفَّ حمله، وغلا ثمنه، ومن جملة ذلك بعض القطع الذهبية، وبدلة جديدة لي، لم أكن لبستها إلا مرة واحدة، وأشياء أخرى.

        شكوتُ إلى المحقق ما فعلته الدورية، فنفى أن يكون عناصرها قد سرقوا شيئاً، وقدّم دفاعاً قوياً عنهم. قال: وماذا يفعلون بالذهب؟! وما يفعلون بالبدلة؟! وماذا يستفيدون من تلك المسروقات؟!! وانتهى التحقيق.

*   *   *

        وفي صيف عام 1980 جاءت دورية لاعتقالي من بيتي. ولم أكن فيه! فتواريت عن الأنظار، ثمَّ تمكنت من الخروج من سورية. وبقي البيت مغلقاً، إلى أن وَضَعَ مساعد في المخابرات العسكرية يده على البيت فاحتلّه، وسكنه “مفروشاً” هو وأسرته الكريمة!.

        لم يكن هناك أمرٌ بمصادرة البيت. ولكن متى كانت العصابات تنتظر الأوامر؟! إنها شريعة المافيا. فقد استباحه ذلك “العنصر” واتخذه مسكناً لأسرته.

        وعَلِمَ أخي “مطيع” –رحمه الله- بالأمر، فاحتال على طريقة للسؤال عن البيت. وذهب إلى المخابرات ليقول لهم: إنَّ أخي مسافر خارج القطر، وبيته فارغ، ولكننا وجدنا حَرَكَةً في البيت، وإشعالاً للأضواء فيه، فلعلَّ بعض “الحرامية” قد فتحوا بابه واغتصبوه!.

        فقالوا له: “لا. إنه في أيدٍ أمينة. إنَّ بيت أخيك هو بيتنا، ونحن نحافظ عليه. ولا حاجة لأن تسأل عنه مرة أخرى. أفهمت؟!”.

        وتذكَّرتُ الأيدي الأمينة التي كانت تحتفظ بثمن النفط السوري كله مدة ثلاثين سنة كاملة، فهذه الأيدي من تلك. قطع الله هذه الأيدي وتلك!.


أبو غياث

إنه نفسه، المحقق عبد القادر حيزة، الذي كان رئيس الدورية التي جاءت لاعتقالي.

متوسط الطول، ذو كرش كبيرة، أسمر اللون، شعره أسود خفيف، يتأنق بملابسه ليبدو منظره مقبولاً.

وهو يحوز درجة متقدمة في الغباء وضعف الثقافة!!

قد يتصنّع اللطف أحياناًً، لكن طبعه سرعان ما يخونه، فتبدو فظاظته المنكرة.

وولاؤه للسلطة التي يخدمها كولاء كثيرين: متسلّق، متكسّب، مرتزق، يروقه ممارسة التعذيب على الآخرين ليستكمل التحقيق، ويرضي مشاعره الساديّة. وهو يلوّن في الأساليب، بين استعمال الخيزرانة، والصعق الكهربائي، واللكمات والشتائم…

لكنه إذا شعر أنه استكمل التحقيق وختمه، ثم ظهرت له معلومة جديدة تقتضي منه إعادة النظر في النتائج، فإنه يتقاعس، ويكتفي بأن يأخذ المعلومة لنفسه!.

في أثناء التحقيق معي في اليوم الأول، حين كان النقيب دياب يتولى رئاسة فريق التحقيق، تدخّل أبو غياث ليوجه إليّ تهمة غريبة تنمّ عن ثقافته الأمنية والدينية والأدبية! قال لي: أنت المسؤول عن توزيع الكتب في جماعة الإخوان المسلمين!. قلت له: كيف ذاك؟ ليس عندنا مثل هذه الوظيفة. نحن نشتري الكتب من السوق، أو من “السوق السوداء” وندفع ثمنها من جيوبنا… قال: إذاً لماذا عندك عشر نسخ من كتاب سيد قطب، هذا الذي يبحث في القرآن (وبدأ يتلعثم ليتذكر اسم الكتاب) فقلت له: تقصد: “في ظلال القرآن”؟ قال: نعم، هذا الكتاب عندك منه في البيت عشر نسخ، وقد فتشنا بيتك وأخذنا إحدى النسخ!. قلت له: إنها ثمانٍ وليست عشراً!. قال: لتكن ثمانياً؟ لماذا هذا العدد كله؟! قلت له: إنه كتاب واحد في ثمانية مجلدات! ألا تعلم أن هناك كتباً كبيرة تضمّ عدداً من المجلدات؟!

وفي اليوم الثالث، بعد حفلة التعذيب الثانية، قام أبو غياث هذا بجولة من التحقيق، فلم يقصّر في التعذيب والإيذاء. فعلى الرغم من أن الحفلتين قد استنفدتا معظم ما يمكن أن يأخذوه، فإن بعض الصعقات الكهربائية، وبعض الخيزرانات، وما يرافق هذه وتلك من لكمات وشتائم… هي من لوازم التحقيق!.

ولقد كنت بالفعل ناشطاً في التنظيم قبل دخولي السجن، ومعظم الإخوة المعتقلين يعرفونني، وقد كنتُ سبباً في تنظيم عددٍ منهم… وحين شاع في غرف السجن وزنزاناته أنني معتقل معهم، صار كل أخ منهم إذا سئل: من الذي نظّمك؟ أشار إليّ، سواء أكنتُ أنا الذي نظّمه أم لا، وذلك حتى لا يوقعوا إخوة آخرين ويتسببوا في اعتقالهم. وقد سرّني هذا السلوك الذكي منهم، ولكن المحقق أخذ عني فكرة -بسبب ذلك- هي أنني نظّمت عدداً هائلاً من الشباب.

كان إذا أراد أن يتثبت من إحدى المعلومات، أو يحل إحدى معضلات التحقيق يأتي إلى زنزانتي ليسألني، فأحاول أن تكون إجابتي “محسوبة”!. جاءني مرة ليسألني أتعرف فلاناً (سأسمّيه عبد الله المهندس)؟. كان السؤال صاعقاً لي. فهذا الأخ ليس من حلب. وإذاً كيف وصل الاعتقال إليه، وكيف توقّع المحقق أن يكون عندي علمٌ به. وكان لا بدّ من الإجابة سريعاً. وبما أنه سأل عن اسم حقيقي فهم يعرفونه. ولكن هل يعرفون أنه منظّم؟!..

دارت مثل هذه الأسئلة في ذهني، ربما في ثانية واحدة. قلت للمحقق: نعم أعرفه!. قال لي: هل هو من الإخوان؟! قلت: وما يدريني؟!.

اكتفى بهذا الجواب وذهب. أما أنا فقد بدأت أفكّر إلى أيّ مدى امتدّت الاعتقالات؟ وكيف تمّ الربط بين المعلومات في محافظات متعددة؟!.

بعد حوالي ساعتين، جاءني المحقق إلى زنزانتي (أمام المرحاض) هو ومحمد سعيد بخيتان، وكانا، على غير العادة منشرحين يبتسمان لأمر ما. قال: قلتَ لي إنك لا تعرف هل عبد الله المهندس منظَّمٌ أم لا؟! لقد اعترفَ أنك أنت الذي نظمتَه!. والله إن الطير الذي يطير فوقك في السماء تنظّمه! ولو أنني ترددتُ على بيتك مرتين لنظَّمتني! قلت له: لا، والله! فابتسم هو وصاحبه وذهبا، وذهبتْ مثلاً. فقد كان بعض الإخوان في الزنازين المجاورة يسمعون الحوار، فكانوا بعدئذ يصفونني بأنني أنظم الطير الذي يمرّ فوقي في السماء!.

والمحقق لم يسألني كيف نظّمته ومتى؟! ولو سألني لأحرجني. لقد نظّمته بالفعل، ولكن كيف سأذكر له مناسبة ذلك، وتكون متطابقة مع ما ذكر أخي عبد الله المهندس؟!..

بعد أيام حدث لقاء بيني وبين الأخ عبد الله وسألته عن سبب اعتقاله، وعن اعترافه بالتنظيم… فذكر أنه كان يؤدي خدمة العلم، وأن الدورة التدريبية العسكرية كانت في مدرسة المشاة وقد تعرّف إلى بعض إخواني من الحلبيين فدلّوه على بيتي، وجاء ليزورني فكان عناصر المخابرات قد احتلّوا البيت فاعتقلوه، وحين أتوا به إلى السجن وعلم بوجودي اعترف أنني نظّمته، لكنه ذكر لهم مناسبة لتعرفي عليه، وتنظيمي إياه، لا يمكن أن تخطر ببالي فيما لو سألني المحقق أن أتحدث له عن ذلك.

وبعد مضي حوالي ثلاثة أسابيع على الاعتقال، وكان التحقيق قد انتهى (نسبياً) وبدأنا نشعر بشيء من الاستقرار، جاء أمرٌ من رئيس الفرع بحلق اللحى للإخوة الملتحين، وكان معظمنا كذلك.

لم تكن هناك جدوى من المقاومة والامتناع. جاؤوا بحلاق فحلق لنا اللحى، ورحنا ينظر بعضنا في وجوه بعض، ونتذكّر قول السيدة عائشة الصديقة التي كانت تحلِف: “والذي زَيَّنَ الرجال باللحى، والنساء بالشعور”. لقد ذهبوا بهذه الزينة، قاتلهم الله.

ومرّ بنا المحقق ووجَدَنا جميعاً حليقي اللحى، فتبسّم ابتسامةً صفراء وقال: أمرُ حلق اللحى لم يصدر من عندي، لقد صدر من رئيس الفرع. لو كان الأمر إليّ لأمرتُ بحلقها منذ اليوم الأوّل!.

لقد ظننّا أن الغبي يريد أن يعتذر لنا، وإذا هو يعبِّر عن لؤمه وحقده على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم!.

كان المحقق يعود إلينا، أو يطلبنا إلى غرفة التحقيق بين الحين والآخر كلما قرأ الملف الخاص بكل منّا، ووجد فيه بعض الثغرات… لكنه، بعد هذا كله، لم يستطع أن يكمل الصورة. فهو لم يعرف، طوال خمسة أشهر، ما معنى المكتب التنفيذي، وما معنى مجلس الشورى، وإدارة المركز…. وكان إذا سألني، أستجلي من صيغة سؤاله التصور الذي عنده، فأعلم أن الصورة التي عنده -على بساطتها- مضطربة، فأعمل على تثبيت الاضطراب أو زيادته!.

[استدراك: ذُكِر لي، بعد نشر الكتاب، أن المحقق عبد القادر حيزة قد تحسّنت حاله في آخر أيامه، ومال إلى التدين، ثم توفي!]

أبو سعيد بخيتان

شاب في الثلاثينيات من عمره، طويل القامة، حنطي اللون، رتبته ملازم أول، ووظيفته: نائب رئيس فرع المخابرات العامة بحلب.

هكذا كان يوم دخلتُ المعتقل في نيسان 1973، أما حين أطلق سراحي بعد أربع سنوات فقد كانت رتبته نقيباً أو رائداً، وكانت وظيفته رئيساً للفرع المذكور. وهو الآن عضو في القيادة القطرية، ورئيس لمكتب الأمن القومي!. إنه اللواء محمد سعيد بخيتان.

من مهماته – يوم كان نائباً لرئيس الفرع- صناعة العملاء، وشراء الذمم والضمائر، يستخدم في ذلك التهديد والإغراء، وبعض الفكاهة، ويساعده في ذلك ذكاؤه. ويمارس التحقيق مع المعتقلين أحياناً.

وليس بالضرورة أن يكون حادّ الذكاء، إنما إذا قورن بمعظم من نعرف من ضباط المخابرات السورية… كان من أذكاهم.

والحقيقة إنه يصعب على الذكي أن يعمل في مثل ذلك السلك، فالمهمات المطلوبة منه تحتاج إلى ذكاء، نعم، لكنها كذلك تتناقض مع الذكاء، بل مع العقل، إذ كيف يطيق الذكي أن يَسْجِن ويُعذِّب إنساناً بتهمة أنه يفكر تفكيراً منطقياً، ويعتقد اعتقاداً سويّاً، ويعارض السلطة الغاشمة بلسانه أو بقلمه، ويرفض أن يهتف أو يصفِّق للطاغية، أَقْصِدُ: للقائد الملهم بطل الجولان!.

وصاحبنا أبو سعيد يدرك منذ الأيام الأولى، تلك البنية الطائفية للنظام وفشوّ المحسوبيات والرشاوي…

ومن خلال التحقيق الذي يمارسه أحياناً، ومن خلال الجلسات التي يحاول بها شراء الذمم.. يسرِّب كلمةً هنا، وكلمة هناك.. لتفهم أنه مخلص لمهنته، لكنه عارف بمفاسد الأوضاع القائمة في السلطة، عالمٌ بأنَّ السلطة تتربَّص بالإسلاميين لتُوجِّه إليهم ضربةً تعيدهم إلى الصفر.

لقد كانت المناسبة التي اعتُقِلتُ بسببها هي أنَّ حافظ أسد، الذي قام بانقلابه على رفاقه في 16 من تشرين الثاني عام 1970م، وبدأ يسيطر على مفاصل السلطة، ويرسي قواعد حكمه… أصدر دستوراً للبلاد عام 1973م، وأراد أن يحمل الناس على قبوله.

وحدث، نتيجة ذلك، غليان شعبي، لا سيما في أوساط المتدينين، لإظهار الاستنكار لهذا البلاء. ولكن ماذا يفعل الناس؟! ليس عندهم صحافة أو إذاعة أو منتديات… يعبِّرون فيها عن غضبهم. فكل هذا، وغيره كذلك، قد استحوذت عليه السلطة التي يقول رأسها: “سنحارب أعداء الديمقراطية بمزيد من الديمقراطية”! وعلينا أن نصدِّق!.

كان من الوسائل القليلة التي عبَّر بها بعض الشباب عن سخطهم على هذا الدستور أنهم راحوا يكتبون على جدران الشوارع عبارات السخط والتنديد، مثل: “لا، للدستور الظالم”.

وضبط بعض الشباب بـ “الجرم المشهود” واعتُقلوا وعُذِّبوا فاعترفوا على غيرهم… وكان بعضهم من الإخوان المسلمين، وتتابعت الاعتقالات بأن تُستخلص اعترافات من المعتقل تحت التعذيب، فتتّسع الدائرة ويؤتى بمعتقل جديد.

في أثناء التحقيق الثانوي معي (بعد تحقيق الليلتين الأُوليين) قلت لبخيتان: أنتم تقولون: إنكم اعتقلتمونا بسبب الشعارات التي كُتبت على الجدران استنكاراً للدستور. لكنكم لم توجِّهوا إليَّ أيَّ تهمة بهذا الخصوص، فهل يمكن أن تذكر لي: ما دوري في مسألة كتابة الشعارات؟!.

قال: لا دور لك فعلاً، ولكننا كنا نريد “ضربكم” منذ زمن بعيد، وكنا ننتظر مناسبة، فهذه كانت “المناسبة”.

إذاً فالنيّة كانت مبيَّتة، وضربُ التنظيم مقصود، إنما هو انتظار المناسبة.

ومرّةً قدّم إليّ سيجارة للتدخين، فقلت له: أنا لا أدخّن، والحمد لله. ولحظت أن باكيت السجائر، عليه اللصاقة الخاصة بالصناعة السعودية، يعني أن التبغ مهرَّب, فقلت له: كيف تدخِّن تبغاً مهرَّباً؟! (تجرَّأت عليه بهذا السؤال وبما بعده لأن الجوَّ كان مريحاً، يسمح بالحوار).

قال لي: أنزاود على بعضنا؟! إنه أرخص ثمناً من الدخان الوطني.

قلت: أنت رجل “أمن” ويجب أن تنظر إلى مصلحة الاقتصاد الوطني.

قال: كل الناس يدخنون منه فلماذا أمتنع أنا عنه؟!.

قلت: بإمكانك أن تضبط من يبيعه وتعاقبه وتمنع التهريب؟.

قال: أهذا الولد الذي يبيع في الشوارع من الصباح حتى المساء ليحصّل قوت أهله أو عياله.. نعاقبه ونحرمه من رزقه؟.

قلت: هذا الولد يدلُّكَ بسهولة على من فوقه ثم من فوقه، حتى تصل إلى المهرِّب الكبير.

قال: المهرِّب الكبير يكون مدعوماً ولا أستطيع عقوبته!

*   *   *

ومرة استدعاني إلى غرفته، وراح يساومني: “إذا لم تتعاون معنا فقد تبقى في السجن سنة كاملة”.

كنا نتوقع أن لا يستمر اعتقالنا سوى أيام أو أسابيع. فالتهديد بالسَّنة له معناه. وفي الواقع بقيت أربع سنين ويوماً!.

وقال: “سوف نسرِّحك من وظيفتك”.

قلت: هذا لا يهمني، فأنا مهندس، قد أحتاج إلى الوظيفة سنة أو اثنتين بعد التخرج، أما الآن وقد مضى على تخرجي ست سنوات، فالتسريح من مصلحتي.

قال: وماذا تفعل إذا سرّحناك.

قلت: يمكن أن أعمل بالتعهدات مثلاً.

قال: وهل معك رأس مال لهذا العمل؟.

قلت: لا، ولكن…

قاطعني وقال: نحن مستعدون لأن نعطيك رأس المال الذي تحتاجه، ونستطيع أن نجعل المشروع الذي ترغب بتنفيذه من نصيبك، أي نجعل المناقصة ترسو عليك.

قلت: لا حاجة لي بذلك. فهناك من يثق بأمانتي، ويستثمر أمواله عندي.

سَكَتَ قليلاً ثم قال: الوزارة الحالية توشك أن تتغيّر. وفي الوزارة الجديدة نعطيك موقع وزير الصناعة!.

قلت: وهل تتوقع أن أقبل المشاركة في وزارةٍ عندكم؟!.

وبينما هو يحدثني جاءته مكالمة هاتفية، فتكلم فيها نحو دقيقتين. وفي أثناء ذلك رحتُ أقلِّب بصري في محتويات الغرفة الأنيقة. ولفت نظري جهاز راديو ذو تصميم جميل.

قال لي: هل أعجبك هذا الجهاز.

قلت: نعم، إنه جميل.

قال: نريد أن نهديك إياه، مقابل أن تعمل معنا!.

ابتسمت وقلت: لا حاجة لي به.

قال لي: هل تعشَّيت؟.

قلت: لا.

قال: سأصحبك معي إلى العشاء في (البلو أب).

قلت: وما هذا البلو أب؟.

قال: مطعم ظريف. يقدِّم “المشروبات”. أنا أعلم أنك لا تشرب. ولكن سنقعد على الطاولة ونضع عليها بعض المشروبات، ونلتقط لك بعض الصور، ثم نعرضها على إخوانك المعتقلين ونقول لهم: انظروا، هذا معلمكم وشيخكم الذي تثقون به. إنه يقعد على مائدة الخمر.

والحقيقة إنه لم ينفذ وعده، أو تهديده هذا. إنما أراد فقط أن يعرِّفني بالأساليب الساقطة التي يستخدمونها.

ومرة كان يحقق مع أحد الإخوة المعتقلين، وكان هذا الأخ قد تلقى تعذيباً شديداً فقال: أليس دستوركم الذي تعتقلوننا بحجة اعتراضنا عليه ينصُّ على حفظ كرامة المواطن، وحُرْمة البيوت و…؟ وها أنتم هؤلاء تنتهكون ذلك كله؟! قال أبو سعيد: وهل تصدِّق شيئاً مما ينصُّ عليه الدستور؟! لقد وضعنا هذه المواد في الدستور كي نضحك عليكم فقط!.

*   *   *

بعد مضيِّ أربع سنوات على اعتقالي، وفي اليوم الذي ابتدأت به سنة خامسة جاءت سيارة (باص كوستر) إلى سجن حلب المركزي، حيث كنت أقضي فيه الفترة الأخيرة من سجني منذ ثمانية عشر شهراً، ونقلت مع عدد من المعتقلين إلى فرع مخابرات حلب، الفرع الذي قضيت فيه الأشهر الخمسة الأولى من الاعتقال.

دخلنا إلى بهو كبير في الطابق الأول، حيث غرفة رئيس الفرع وبعض المحققين…

اصطففنا بشكل عفوي على محيط البهو، ونحن ننتظر أن يأتي أحد المسؤولين ليلقي فينا “كلمة”! أو نستدعى واحداً واحداً إلى غرفته. ولم يطُلْ الانتظار فقد كنتُ أولَ من نودي عليه، وخرج الرائد بخيتان إلى باب الغرفة ليستقبلني!. مددت يدي لمصافحته، فمدَّ ذراعيه ليعانقني ويقبِّلني وقد بدا السرور على وجهه. قلت: إذاً ما زلت تذكرني! قال: وهل تشكُّ في ذلك؟!.

أدخلني إلى الغرفة، وأجلسني قبالته وقال: لقد رفعت بشأنك عدداً من الكتب من أجل الإفراج عنك. وضَغَطَ زرَّ الجرس، فجاء النقيب سحلول وانحنى أمامه باحترام. قال له: أحضِرْ لي ملفَّ الأستاذ لنطلعه على الكتُب التي أرسلناها بشأنه. خبط سحلول قدمه على الأرض وانحنى من جديد وانصرف ولم يعد!!.

إنها طريقة لتمرير الغشّ والكذب، فلا ملفات ولا هم يحزنون. وبالمناسبة فإن النقيب الذي ينحني ويقف باستعداد “كالقملة المفروكة” هو ذاته كان رئيس الدورية التي أحضرتنا من سجن حلب المركزي إلى فرع المخابرات، وقد رأيته عندما جاء إلى سجن حلب، كيف كان يتصرف بعجرفة واستعلاء، ولا يعبأ بضباط الشرطة ولا بغيرهم، لأنه من خِلْقَةٍ أخرى، أو لأنَّ الدم الأزرق يجري في عروقه، دم المخابرات النبلاء!.

*   *   *

بقيت مسألتان مما أريد الحديث عنه بشأن “أبي سعيد”:

الأولى: أنه لا يحب أن يعذِّب المعتقلين، وإذا احتاج إلى تعذيب أحدهم يأمر الجلادين بذلك ويذهب هو إلى غرفته كي لا يتمّ التعذيب أمام عينيه. ولكن هذه القاعدة ليست مطّردة، فقد يمارس التعذيب بيديه، أو يمارسه الجلادون أمامه. وقد حدثني أحد الإخوة الفضلاء أنَّ أبا سعيد قد حقق معه فصفعه على وجهه صفعات، وقام بنتف لحيته بيده.

هكذا طبيعة هذا السلك. لا يمكن لمن يعمل معه أن يحافظ على قدرٍ مناسب من الطهارة. هذا إن افترضنا أن العنصر المذكور طاهر!.

الثانية: في أواخر عام 1977، أو أوائل 1978، حَدَثَ أنَّ مدرِّبة الفتوّة في إحدى المدارس الثانوية للبنات في حي الأنصاري بحلب، أرادت إلزام الفتيات بنزع الحجاب. ويقال: إنَّ رسالة وصلت إليها بالبريد تهدِّدها (بالضرب أو القتل، لا أدري) إذا هي عادت لإلزام الفتيات بذلك.

عُرضت الرسالة على المخابرات، وكان من الصعب، أو من المستحيل، معرفة من الذي كتب الرسالة، وكان رئيس الفرع آنذاك أبا سعيد، فقام باستدعاء بعض رجالات الحي ليحقق معهم. وكان من هؤلاء أحد الأساتذة الفضلاء.

أبو سعيد: من الذي كتب الرسالة؟.

الأستاذ: وما يدريني بذلك؟!.

أبو سعيد: سأنتقل إلى موضوع آخر. أنت تعلم أنه يحدث بين الحين والآخر عملية اغتيال لبعض رموز السلطة. فمن يقوم بذلك؟.

الأستاذ: أتسألني أنا عن هذا؟! أنت رئيس فرع المخابرات، وعليك أنت أن تعلم.

أبو سعيد: الذي ينفّذ تلك العمليات أحد اثنين: إما واحد تابع لأحد مراكز القوة في السلطة، فلا أنا، ولا غيري، يستطيع أن يكشفه! وإما واحد: الله معه، ويرسل له ملائكة تحميه!.

ولا تعليق!.

لأنهم قالوا: لا مذكرات سجنية الحلقة الثانية

السلام عليكم

-1-

        الاضطهاد وما يتبعه، وما قد يتبعه، جزء من نظام “حزب البعث العربي الاشتراكي” الذي ابتلي به قطرنا السوري، وانخدع به بعض الناس فترة من الزمن، ولا يزال بعضهم مخدوعاً به.

        من توابع الاضطهاد في قطرنا: الاعتقال لأهل الرأي، والتعذيب الوحشي بدنياً ونفسياً، بل الاعتقال كذلك لزائري القطر من سيّاح وغيرهم!… وانتشار الرشوة على المستويات كافّة، ونشر الرذيلة، وتكميم الأفواه، واحتكار الإعلام، ومنع تشكيل الأحزاب السياسية والجمعيات الثقافية والنوادي… إلا ما ينام على يد السلطة ويأتمر بأمرها ويسبّح بحمدها!. والتمييز والتسلط الفئويّان والطائفيان، وممارسة ألوانٍ من الظلم. منها ما يشمل الشعب كله أو معظمه، ومنها ما يخصّ فئات معينة كالإسلاميين والأكراد والتنظيمات التي لا تسير في فلك السلطة، كبعض أجنحة البعث الخارجة عن الطاعة! وكثير من التنظيمات الفلسطينية….

-2-

        الفترة التي أتحدث عنها في هذا الكتاب هي الفترة الممتدة من 6/4/1973 إلى 7/4/1977، وهذه الفترة هي جزء من الحقبة الكئيبة التي أقعى فيها حافظ أسد على صدر الشعب، بأجهزته “الأمنية” وبالأشقياء من أبناء طائفته وغيرهم، وأبعد المعارضين له والمناوئين والشرفاء، سواء أكانوا من أبناء الطائفة أم من غيرها… أي أنه مكّن جزءاً يسيراً، من الحثالات، وأقصى جماهير الشعب، وفرض وصاية التُّحوت على الوعول!.

        قضيت الفترة المذكورة في عددٍ من السجون:

1- من 6/4/1973 وحتى 6/9/1973 (تقريباً) في فرع مخابرات حلب، المعروف باسم سجن أمن الدولة، وكان رئيس الفرع آنذاك محمد خير دياب، ونائبه محمد سعيد بخيتان، والمحقق عبد القادر حيزة، وأبرز الجلادين والسجانين: جاسم وشيخو وأبو حميد…

2- ومن 6/9/1973 وحتى 6/10/1975 في فرع الحلبوني.

3- ومن 6/10/1975 وحتى 7/4/1977 في سجن حلب المركزي.

        وكان وصولي إلى سجن حلب المركزي في ليلة عيد الفطر. وفي صباح العيد تم الإفراج عن الإخوة الثلاثة الذين نقلوا معي، وكانت الإشاعات قد تحدثت عن تلك الإفراجات مسبقاً، ولا شكَّ أنَّ أهلي -كأهالي المعتقلين الآخرين- تعلقوا بهذه الإشاعات، وبنوا عليها الآمال. لكن السلطة الحاقدة خيبت أمل أهلي، فبقيت بعد هذا التاريخ ثمانية عشر شهراً أخرى!. لقد امتدت فترة السجن إلى أربع سنوات، قضيت أكثر من نصفها في فرع الحلبوني.

-3-

        كان السجن لي مدرسةً عرفت فيها نفسي، وعرفت شرائح مختلفة من البشر: من الإخوان، ومن الإسلاميين الآخرين (وبخاصة أعضاء حزب التحرير)، ومن الفلسطينيين (من فتح والجبهة الشعبية وغيرهما)، ومن البعثيين الذين انشقّ عنهم حافظ، أقصد اليمينيين جماعة أمين الحافظ، واليساريين جماعة صلاح جديد… فضلاً عن أفراد من هنا وهناك، من التنظيمات الكردية، ومن أصحاب انتماءاتٍ مختلفة، ومن أناس غير سوريين: عراقيين وأردنيين وبريطانيين وكنديين وإسبانيين…

        وعرفت فيها أزلام السلطة وأجراءها، من ضباط مخابرات، ومحققين وجلادين… وضباط شرطة وأفراد شرطة (في سجن حلب المركزي)…

-4-

        الصفة العامة لمعظم ضباط المخابرات والمحققين الذين عرفتهم، أنهم قليلو الذكاء، ضعيفو الضمير، محدودو الثقافة، جفاة الطبع، منحدرو الأخلاق… ولا تخلو القاعدة من شذوذات يسيرة، فقد تجد الذكي ولو نسبياً، ومن عنده بقية من أخلاق!.

        أما السجانون والجلادون فيتّسمون عادة بالغباء والمحدودية، وبضعف الثقافة بل الأمّية أحياناً. ويصطرع في نفوسهم أثر التربية البيتية، والانتماء إلى شعبنا الطيب، والجهل، والتوجيهات الحاقدة اللئيمة التي يتلَّقونها من رؤسائهم…

        أما المعتقلون فهم يمثّلون شرائح متباينة جداً. وكثير منهم ينحاز، بعد أن يرى الظلم والسوء، إلى دينه وفطرته، ويتوجّه إلى الله بالعبادة…

        ومعظم الأجانب الغربيين الذين كنا نلتقيهم في السجن، يُعربون عن نيّاتهم بفضح “النظام” الذي سجنهم، وشَرْح الظلم الذي شاهدوه أو طُبِّق عليهم، أمام حكوماتهم وأمام وسائل الإعلام، وأمام منظمات حقوق الإنسان!.

-5-

        وقد حاولت تحرّي الدقة والموضوعية فيما كتبت، ولم أمتنع عن ذكر إيجابية رأيتها من محقق أو سجّان، على قلّة ما رأيت… فالنفس البشرية لا تتمحَّض للشر، لكنَّ شرّها يتكاثر أحياناً ويطغى حتى يكاد يغطّي كل خير!.

        وقد تخونني الذاكرة فأهمل كثيراً من التفصيلات.

        ومع أني تحرّيت الكتابة بالعربية الفصيحة، فقد تساهلت مرّات بذكر كلماتٍ لها وقع في النفوس، عاميةٍ أو أعجمية!.

-6-

        ولا يفوتني أن أذكر أنَّ الظلم الذي لقيته، على فداحته، لا يُعَدُّ شيئاً أمام الحقبة التي كانت بعد عام 1979، لا سيما في سجن تدمر، وفي السجون المؤقتة التي أنشئت في مدرسة المدفعية بحلب، أو في حماة، في شباط 1982…

        كما أنَّ سجن المخابرات العسكرية في حلب، حي السريان، وسجن فرع فلسطين في دمشق، وسجن الآمرية الجوية… تعجّ بألوانٍ من الظلم والقهر والتعذيب البدني والنفسي لا يعرفها إبليس!.

        ومن المناسب أن نشير إلى بعض الكتب التي تتحدث عن حقبة ما بعد 1979، بما فيها حقبة ما بعد 2000م!. فمن هذه الكتب: “تدمر شاهد ومشهود”، “خمس دقائق وحسب” و”تدمر.. المجزرة المستمرّة” ومقالات الرياضي العراقي البريطاني هلال عبد الرزاق علي في جريدة القدس العربي، ومقالات الدكتور هشام الشامي على المواقع الالكترونية وغيرها.

لقطات من البداية

كانت البداية في يوم السادس من نيسان عام 1973م، في يوم جمعة وقت أذان العصر، وكنتُ وقتها في ورشة بناء صوامع الحبوب بجوار مدينة الرقة، حيث كنت المهندس المسؤول عن ذلك الموقع من جهة الدولة.

توقفت بجواري سيارة (لاندروفر) وترجّل منها ثلاثة. أحدهم هو أكبرهم سناً، في مطلع الأربعينيات من عمره، منظره مقبول، أسمر، ذو كرش، لباسه أنيق… قدّم لي نفسه أنه ضابط مخابرات. عرفتُ فيما بعد، أنه عبد القادر حيزة، المحقق. وفهمت أن الاثنين الآخرين مرافقان، وأحدهما هو سائق السيارة.

بادر المرافقان وقالا لسيدهما: سيدي، أنفتِّشُه؟ قال: “لا. لا حاجة. الإخوان المسلمون لا يحملون سلاحاً”.

إذاً جاء يعتقلني بصفتي عضواً في جماعة الإخوان المسلمين، وهو يشهد أن الإخوان المسلمين لا يحملون سلاحاًَ. وبالمناسبة فقد بقيت معتقلاً حتى يوم 7/4/1977 أي مدة أربع سنين كاملة!.

دخل إلى البيت الذي أسكنه في الورشة، ولم يكن تفتيش هذا البيت عملية معقدة، فالبيت شبه فارغ! لكنه وجد على الطاولة دفتر جيب صغيراً. وضعت قلبي على كفّي، كما يقال، حذراً من أن يسألني عن حل ألغاز ما في الدفتر، فقد كان فيه مواعيد لقاءاتي التنظيمية، مكتوبة برموز وأرقام، لا يحلّها غيري.

قلّب أوراق الدفتر ثم رماه، وقال: إنه دفتر حسابات!.

قال لي: إنك مطلوب إلى فرع المخابرات في حلب، للتحقيق معك في بعض الأمور.

قلت: لكنّ معي زوجتي وطفلتي، ولا يمكن أن أتركهما هنا، ألا يمكن أن آخذهما في السيارة إلى حلب؟ قال: لا، ولكن نوصلهما إلى منطلق سيارات “التاكسي” المسافرة إلى حلب!.

في منطلق السيارات وجدنا سيارة تحتاج إلى راكبين، دفعت أجرة راكبين حتى لا يضايق زوجتي أحد، وأوصى المحقق “حيزة” سائق السيارة: “هذه السيدة ستسافر معك إلى حلب، لسبب يهمّ الدولة. عليك أن توصلها إلى بيت أهلها. وإذا أصابها مكروه فلا تلومَنَّ إلا نفسك! أسمعت؟!”.

قال السائق: نعم سيدي. إنها أمانة في عنقي.

وتأكيداً لجدّية الأمر فقد سجّل حيزة رقم السيارة على ورقة عنده.

وقد بقيتُ في قلق وتوجُّس مع هذا كله، فليس من شأن زوجتي أن تذهب في سيارةٍ مع سائقٍ غريب ضمن مدينة حلب نفسها، فكيف بسفرها مسافة 150 كيلومتراً؟!. ولكن لم يكن أمامي خيار آخر، فأنا معتقل بيد من لا يرحمون. سلَّمتُ الأمر إلى الله، وقرأت بعض الآيات الكريمة والأدعية، رجاء أن يحفظ الله الزوجة وطفلتها.

مضت بنا السيارة إلى فرع مخابرات “الطبْقة”. بقينا هناك مدة ساعتين أو أكثر، وُضعت فيها في غرفة وحدي. أما المحقق فقد قعد في مكان آخر، وأظنّه كان يتسامر مع زملائه.

مرّة أخرى مضت بنا السيارة نحو حلب. دخلنا فرع المخابرات العامة هناك، الذي يسمى أحياناً (بناية العدّاس) أو (مدرسة نابلس) إذ يقال: إن المبنى كان يملكه أحد الأثرياء من آل العدّاس، وصادرته الدولة، وجعلته مدرسةً باسم ثانوية نابلس، ثم وجدتْ أن الأنفع للمجتمع أن يصير فرعاً للمخابرات فصار!.

يبدأ الدخول بدرج نازل إلى القبو، بنحو عشرين درجة متوالية، نصفها تقريباً يقع خارج باب القبو ونصفها الثاني بعد الباب.

ينتهي الدرج ببهو صغير فيه طاولة صغيرة، خلفها كرسي، يجلس عليه عادة أحد السجانين، وفيه كذلك سرير ينام عليه السجّان المناوب.

في هذا البهو كان في استقبالي مجموعة من “الأشخاص” بعضهم ممّن (إذا رأيتهم تُعجبك أجسامُهم) وبعضهم ليس كذلك.

كان أجملُهم هيئةً: قصيرَ القامة نسبياً، أبيض البشرة، أنيق الملبس، لكنه، كما تبيّن بعدئذ، أكثرهم حقارة وسفاهةً، وأسوؤهم أدباً… إنه رئيس الفرع م خير دياب، وكان برتبة نقيب. ولأن رئيس الفرع موجود، فطاقم الجلاوزة كله موجود، وسوف يتبارى في إثبات الجدارة أمام “المعلم”، وهو اللقب الذي يطلقونه على رئيس الفرع!.

وكان الثاني طويل القامة؛ يلبس بدلة رمادية مخططة، هيئتهُ تشير إلى أنه من أصول بدوية، وحين نظرت في وجهه بادرني بالكلام: ألا تعرفني؟! قلت: لا أدري، ربما تقابلنا مرةً ما! قال: أنا أراقبك منذ ستة أشهر، وأعرف عنك كل شيء: من زارك في هذه المدة، ومن قابلك، ومن زرتَ أنت…

تشكّكتُ في كلامه، وتبيّن لي فعلاً أنه كان يكذب عليّ، كما هو شأن هذا الصنف من الناس، ليوحي إليّ أنه لا فائدة من إنكار شيء!. فكل شيء عنك معروف لدينا.

وعرفت بعدئذ أنه الملازم أول محمد سعيد بخيتان، نائب رئيس الفرع (الذي أصبح في عهد بشار أسد عضو قيادة قطرية).

وكان في البهو “شخصان” آخران، سأتحدث عنهما في فصل آخر، إن شاء الله، وهما السجّانان: شيخو وأبو حميد.

قام أحد السجّانين بتفتيشي، صادر مني “ساعة اليد” والمفاتيح، والمشط والهوية… وسئلت عن معلوماتي الشخصية، ثم قادوني إلى غرفة التحقيق.

في الحقيقة هما غرفتان. غرفة خارجية، يُدخل إليها من ممرّ طوله نحو 6 أمتار وعرضه حوالي 1.40 م، والغرفة نفسها كبيرة نسبياً، أبعادها حوالي 4.5× 5.5م، وهي غرفة جرداء، ليس لها أي نافذة، وليس فيها أي شيء من قطع الأثاث، سوى دولاب، أي إطار سيارة ركّاب، وحزمة من الخيزرانات، وجهاز لاسلكي صغير علمتُ بعدئذ أنه يستعمل في التعذيب بالكهرباء!.

وهذه الغرفة هي غرفة التعذيب.

أما الغرفة الثانية فهي غرفة التحقيق، وهي غرفة أصغر من الأولى، يُدخل إليها من الغرفة الأولى. أبعادها حوالي 2.5×3م، ولها شباك مقابل بابها. فيها طاولة مكتب، وعلى الطاولة جهازان للهاتف.

كان النقيب دياب هو الذي باشر التحقيق، وكان يناوب بين القعود خلف الطاولة، وبين مغادرة الطاولة لأجل “القيام بالواجب”. أما الآخرون فكانوا يكملون الدور، فالجلادان بأيديهما الخيزران، فهما لا يقصّران في الضرب اللاسع، والصفع والشتم والتهديد، وبخيتان يرمي بعض الكلمات بين حين وآخر من أجل المزيد من الاستدراج.

وكان النقيب أفحشهم بذاءةً، وأكثرهم قسوة، لكنه لم يكن أكثرهم ذكاء.

وراحوا ينقّلونني بين غرفة التعذيب وغرفة التحقيق، وقد جرّدوني من ملابسي، إلا ما يستر العورة الغليظة، ويسلّطون عليّ أنواع التعذيب من لسعات الخيزران على أنحاء جسمي كافّة، وهزّات الكهرباء الفظيعة.

أما لسعات الخيزران فقد كانت تؤلمني مثل الكيّ بالنار، وقد تكسَّرت بين أيديهم مجموعة من الخيزرانات، فكانوا يستبدلون بها خيزرانات جديدة، وأشهد أنهم لم يطالبوني بثمن الخيزرانات التي تكسَّرت على جسدي.

لقد سال الدم من أماكن مختلفة، جرّاء الضرب المبرّح، وكانت بعض الضربات قوية فخلّفت خطوطاً أو بقعاً داكنة، بعضها بقي ظاهراً على ساقيّ أو على ظهري أكثر من سنة. وبعضها ما يزال ظاهراً، بعد مضيّ أكثر من ثلث قرن!!.

ولا أدري عدد الضربات التي تعرَّضت لها، لكنني، ومن خلال خبراتي التي كوّنتها فيما بعد، أقدِّر أنها لا تقل عن ثلاثمئة!.

أما الصعقات الكهربائية فهي شيء مختلف. يمسك الطاغية الكبير جهاز اللاسلكي بيده، ويساعده الجلاد بأن يلفّ مقدمة كل من السلكين المتصلين بالجهاز، حول أصابع قدميّ. وللجهاز ذراع صغيرة ومقبض، فإذا أدار الطاغية الذراع انطلق تيار كهربائي، وانطلق معه صوت الضحية بصراخ قوي، من غير شعور أو قصد.

وقد وجدت من نفسي، ومن غيري في أوقات أخرى، أنَّ الضحية قد يملك التحمل وضبط النفس وكتمان الصوت أمام لسعات الخيزران مع ألمها الشديد، أمّا عند التعرّض لهزّات الكهرباء فلا يملك أحد كتمان الصوت، فإن صراخَه قسري، لا إرادة له به.

ومعظم ما يتلقّاه الضحية من تعذيب، بالخيزرانة أو بالكهرباء، يتلقّاه وهو محشور في الدولاب، فخذاه ملتصقتان ببطنه، والدولاب هو الذي يشدّ الفخذين إلى البطن، والضحية ملقى على الأرض، وتتناوشه اللسعات والضربات والهزّات الكهربائية من كل جانب، ويتلقى الشتائم والبذاءات من أشاوس البعث القائد.

وفي حوالي الساعة الثانية ليلاً أو الثالثة غادرني فريق التحقيق، وبقيت في غرفة التحقيق عارياً كما ذكرت (أو شبه عارٍ)، لكنهم قبل أن يغادروا طلبوا مني أن أبقى واقفاً على قدمي ولا أجلس.

وكيف عرفتُ الوقت، ولو بشكل تقريبي؟! لقد سمعت أذان الفجر، الذي جاءني من أحد المساجد القريبة نسبياً، عبر نافذة غرفة التحقيق. وحين سمعته كان قد مضى على ذهاب “الفريق العتيد” نحو ساعتين.

وفي الصباح، ربما في الساعة الثامنة جاءني الجلاد أبو حميد فرآني قائماً، وآثار التعذيب تملأ جسدي، ولعله أشفق على حالي. قال لي: بعد قليل سيأتي المحقق، فإذا سألك عن حالك قل له: “إن السجّان لم يتركني. ما زال يذهب ويأتي ويضربني”. فعلمتُ أنَّ أبا حميد هذا مجرد موظف لا يهمُّه أن يعذبني، بل يريد أن يكسب رضا “أسياده” بأن يظهر أمامهم ظالماً قاسي القلب..

ومرّ النهار ولم يحققوا معي بل نقلوني إلى إحدى الزنازين، وحين طلبتُ ثيابي التي بقيت في غرفة التعذيب فأحضروها إلي.. ولكن بعد أن سرقوا بعض ما فيها من نقود، فقد كان في أحد الجيوب راتبي الذي قبضته قبل أيام قليلة!.

ولكنّ التعذيب لم يتوقف في الزنزانة، بل أخذ شكلاً آخر، إنه التعذيب النفسي: إهانات وتحطيم للكرامة. فقد أوجبوا عليّ أن أبقى واقفاً على قدمٍ واحدة! وأحمل الدولاب ذاته، أضمّه في رأسي وأسنده على كتفي. وحتى  يطمئنّ السجّان إلى حُسْن التنفيذ، ويزيد في العذاب النفسي، كان يمرّ بجانب الزنزانة بشكل غير منتظم: كل دقيقتين، أو كل ربع ساعة، فيفتح “الطاقة” ليراني في الوضع النظامي، أو يكتفي بالضرب على الباب المعدني ضربة قوية لأرتعب من مفاجأتها. يستخدم في الضرب على الباب قبضة يده، أو حذاءه، أو الخيزرانة….

لقد مضى عليّ أكثر من 24 ساعة في الاعتقال، ولم يدخل إلى جسمي لقمة طعام أو نقطة ماء، بل اكتفوا بالغذاء المذكور: الضرب والشتم والصدمات الكهربائية…

أما في المساء، فكما كان يقول أحد السجناء: جاء الليل وجاء الويل، فقد عاد النقيب والجلادان لإقامة “حفلة تعذيب” جديدة، لاستكمال التحقيق، لكن هذه الحفلة.. والحق يقال.. كانت أخفّ وأقصر من الحفلة الأولى، فقد كانت مدتها حوالي ثلثي مدة الحفلة الأولى، وكان عدد لسعات الخيزرانات، وصعقات الكهرباء كذلك حوالي ثلثي ما حوته الحفلة الأولى.

وحتى لا يظنّ أني لم أذق الطعام بعد، أذكر أنه بعد مضيّ الأربع والعشرين ساعة الأولى، كنت في الزنزانة الصغيرة، وكان موقعها استراتيجياً، فهي أمام دورة المياه تماماً! ولا يفصل بينهما سوى ممر بعرض متر واحد، فكان السجناء جميعاً يمرُّون أمامها عند قضاء الحاجة، وكان يسمح لهم بذلك مرتين يومياً، وكان السجن بكامله محجوزاً لحسابنا في تلك الأيام نحن أبناء جماعة الإخوان المسلمين، وقد تمكن أحد الإخوان من استغفال السجّان الذي يراقب الحركة، ففتح عليّ “الطاقة” ورمى إليّ برغيف وقطعة جبن.

وحين جاء دوري لقضاء الحاجة ثم استعمال المغسلة، تمكنت من شرب بعض الماء.

لقد كانت الأسئلة التي يوجهها المحقق إليّ تدور حول التنظيم: متى دخلت التنظيم؟ ما موقعكُ فيه؟ من نظّمك؟ ما بِنْيةُ التنظيم وما هيكليّته؟ ما المناهج التي تدرسونها؟!,,,

فضلاً عن عُروضٍ “للتعاون” مع أجهزة الأمن “لمصلحة الوطن”!.