من الرصيد الماثل بين يديه، أي ينتقي مما يقرأ- في مجال الاستشهاد- ما هو أقوى دلالة على الرأي، وما هو أقدر من غيره على تمثيل نظر الشاعر وطوابعه النفسية واتجاهه الفني ومناحيه الفكرية.
ولكني لا أخفي على القارئ أن الحيرة قد أخذتني، وأنا أحاول أن آخذ نفسي بمبدأ الانتقاء أثناء قراءة ديوان “في غيابة الجب” للشاعر المصري “علي الفقي” فكل ما فيه- أو أغلبه على الأقل- قوي الدلالة متوهج الشعور مستجيب لما ينشده الناقد من إبراز الفكر والنفس والحياة.
وفي هذا الديوان ينقلنا الشاعر إلى عالمٍ عجيبٍ نعايش فيه ثلاث شخصيات متلاحمة: شخصية الطاغية المستبد، وشخصية الوطن المطحون، وشخصية الشاعر الذي وقف- بل عاش شاهدًا على العصر- يعيش في أحشاء وطنه بقلبٍ ممزقٍ محزون يتدفق بالألم العبقري في كلماته الشاعرة.
وغيابة الجب هي “السجن” والسجن- في مفهوم علي الفقي- ليس قطعةً من الأرض، أو ذلك البناء المحصور بين أربعة جدران، إنه أكبر من ذلك بكثير.. إنه أرض واسعة جدًّا.. رقعة واسعة شاسعة تحوي مدنًا وقرى وحقولاً وسهولاً وبيوتًا وشوارع ونهرًا.. فكل أولئك يصنع “سجنًا” أو “جُبًا” يسمى في الخريطة الجغرافية “مصر“.
هذه هي “المساحة المكانية” أو “المسرح المكاني” للجب الذي صورته قصائد هذا الديوان، أما “المساحة الزمانية” فيحددها الشاعر في مقدمة الديوان بقوله:
“بدأتُ في نظمها في أعقاب هزيمة يونيه 1967م، ولا أقول نكسة يونيه كما كان يدعي ولاةُ الأمور في هذه المرحلة المظلمة من حياة مصر؛ ذلك لأن معنى كلمة النكسة في لغتنا الجميلة هي عودة المرض إلى المريض بعد شفائه منه، ولكنها كانت هزيمة كبرى سبقتها هزائم وهزائم في الداخل والخارج.
إن الفترة التي كنت أنظم فيها قصائد الديوان كانت من أحلك الفترات التي مر بها شعب مصر. كان كل إنسان يشك فيمن حوله حتى في أسرته الصغيرة، مراكز القوى التي كانت عيونًا وآذانًا منتشرة في كل شبر من أرض مصر، ريفها وحضرها، كانت تتسلل إلى المصالح الحكومية والمصانع، والمرفق والمساكن حتى غُرف النوم.. تتعقب الخطى، وتعد الأنفاس وتنفذ إلى الضمائر” (1).
وانطلاقًا من هذا المفهوم الدقيق الصادق لطبيعة هذه “المحنة” وانطلاقًا من معاناةٍ حقيقية- لا أقول شاهدها الشاعر- بل أقول عاشها بروحه وأنفاسه وعينيه وأذنيه وقلمه.. انطلاقًا من كل أولئك جاء ديوان “علي الفقي” تعبيرًا صادقًا ينبض بألمٍ عبقري يمثل “نبض الإنسان المصري الحر”.. الإنسان المطحون “في غيابة الجب” في عهدٍ منكودٍ مهزومٍ موكوس.
والديوان بهذا الطابع الموضوعي النفسي يُعدُّ من الدواوين القليلة “المتخصصة”- إن صح هذا الوصف- وأعني بها الدواوين التي تدور حول “غرضٍ واحد” أو تكون ذات طابع أو منحى موضوعي واحد، على اختلافٍ في الأغراض والملامح الفنية من شاعرٍ إلى شاعر، ومن عصرٍ إلى عصر، كديوان عمر بن أبي ربيعة فكله في الغزل، وديوان “إناث حائرة” لعزيز أباظة، وديوان “من وحي المرأة” لعبد الرحمن صدقي، فكلها في “المرأة” على اختلافٍ في المفاهيم والنظرة وأسلوب المعالجة (2).
وديوان الفقي- من ناحية أخرى- يُعتبر ضميمةً حيةً صادقة للونٍ من الأدب لم يأخذ حظه الجاد من الدراسة على الرغم من أن “جذوره ضاربةً في أعماق تاريخنا، وأعني به “أدب السجون والمنافي” وهو الأدب الذي يصور- بصفة أساسية- ما يعانيه المظلومون تحت وطأةِ الظلم والاعتقال، والأسر، والنفي، والتشريد. ونستطيع أن نرى هذا اللون في أرقى صوره في القرآن الكريم، وهو يصور محنة يوسف- عليه السلام- في سجنه: ابتداءً من مكيدة امرأة العزيز إلى أن صار وزيرًا على “خزائن” الأرض” (3).
ومن هذا اللون أبيات “الحطيئة” المشهورة التي يستعطف فيها “عمر بن الخطاب“- رضي الله عنه- من سجنه، بعد أن أمر عمر بحبسه؛ لأنه هجا “الزبرقان بن بدر” أو “سلح عليه” على حد قول حسان بن ثابت. يقول الحطيئة:
ماذا أقول لأفراخٍ بذي مرخ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة فاغفرْ عليك سلام الله يا عُمرُ
أنت الإمام الذي من بعد صاحبه ألقى إليك مقاليد النهي البشر
لم يؤثروك بهذا إذ قدموك لها (4) لكن لأنفسهم كانت بك الأثر(5)
ومن هذا اللون أيضًا “روميات “أبي فراس الحمداني، و”سرنديبيات” محمود سامي البارودي، وكثير من “أندلسيات” شوقي، وديوان “وراء حسك الحديد” للشاعر العراقي “محمد بهجة الأثري” الذي نظَّمه خلال السنوات الثلاث التي قضاها معتقلاً في معتقلات الفاو والعمارة وغيرهما من 28/10/1941م إلى 27/8/1944م (6).
وفي مجال النثر نرى المكتبة العربية حافلةً بعشرات- إن لم يكن مئات- من كتب “أدب السجون” منها- على سبيل المثال-: “عالم السدود والقيود” للمرحوم “عباس العقاد“(7).
وكتاب “مذكرات واعظ أسير” للمرحوم أحمد الشرباصي، وكتب مصطفى أمين “سنة أولى سجن” و”سنة ثانية سجن” “وسنة ثالثة سجن”، وكتاب المناضل العراقي محمود الدرة “حياة عراقي من وراء البوابة السوداء“(8)، و”في الزنزانة” للدكتور علي جريشة، و”أيام من حياتي” لزينب الغزالي الجبيلي.
هذا اللون النثري من أدب السجون في شكل مذكراتٍ أو يومياتٍ أو ذكريات، وكثير منه لا يخلو من طوابع قصصية، ولكنه- بصفة عامة وخصوصًا من الناحية الموضوعية- يدور حول المحاور الآتية:
(1) تصوير المعاناة القاسية التي يعيشها السجين، والآلام الحسية والمعنوية الهائلة التي تستبد به، وتحديد أبعاد العلائق بين المسجونين وحكام السجن والمهيمنين عليه.
(2) تصوير بعض النماذج والأنماط البشرية التي يرصدها السجين ويصورها بقلمه وخصوصًا الشخصيات السيكوباتية الغريبة الأطوار(9).
(3) الربط بين حياة السجن والأوضاع السياسية القائمة وما فيها من اختلالات ومفاسد ومظالم قادت صاحب القلم إلى هذا المصير المظلم.
(4) ومن ناحية الاستشراف النفسي المستقبلي تتراوح نظرة الكاتب بين أملٍ مشرقٍ يتدفق بالحرية الشاملة، وبين يأسٍ مطبق يصبغ كلماته بلونٍ قاتم حاد، بيد أن كثيرًا من هذه الكتابات تنزع نزعةً أيديولوجية روحية في تبرير محنة السجن وعذاباته، والنظر إلى كل أولئك على أنه ابتلاء وتربية نفسية وروحية بعيدة المدى.
ويأتي ديوان “علي الفقي” ليضيف جديدًا إلى أدب السجون من ناحيتين:
الناحية الأولى: أن مفهوم السجن عنده ذو أبعاد نفسية معنوية لا ترتبط “بالمكان” بقدر ارتباطها بمجموعة من التمزقات والاهتراءات الخلقية الشاذة بالنظر إلى شخصية الحاكم، وبالنظر إلى شخصية المحكوم.
الناحية الثانية: شمولية التصوير وعمق المعايشة لمشكلة “الضياع والتبدد”.. فقد انتهى الشاعر بشاعريته الناضجة وحاسته الفنية القادرة على تصوير أن الضياع والتبدد السياسي والعسكري، والاجتماعي كان نتيجةً لعوامل متعددة ومتشابكة تضافرت وتلاحمت كلها، وتمخَّضت وأنجبت “النكبة العاتية” التي يرفض الشاعر– وله الحق في ذلك- أن يُسميها “نكسة“.
وبصوتٍ جهوري قهار ينم عن عاطفة متوهجة وثورة جياشة، يقف الشاعر موقف “القاضي الحاسم” ليعلن مسئولية “أطراف جريمة التبديد والضياع”، وهو لا يصدر الأحكام جزافًا، بل إن كل حكم “متلبس بحيثياته” وكل اتهام يحمل في ثناياه خطوط تبريره: فالمسئول الأول هو “الحاكم الطاغية” الذي يجابهه الشاعر بهذا الحكم الصاعق:
فاقد الحس ما رحمت عزيزًا ذَلَّ من بعد عزة وإبائه
لهفَ قلبي سلبته جهد كفي– – ه وما نالتاه من آبائه
ثم سخرته لتفسد في الشر ق وتؤذي الكرام من نبلائه
بلسان أعمى أحد من السي– – ف يسب الملاك في عليائه
فغرست العداء في كل قلب كان بالأمس مُشْرفًا في وفائه
وقسمْت الشعوب في أمة الشر ق وكانت يدًا على أعدائه
وفي عشرات من الأبيات، وبفيض عاطفي لا يجور على الوقار العقلي للشاعر نعيش ملامح الطاغية الذي جر على الوطن والشرق الخراب، فهو “عدو الوجود” وهو “عدو البرايا” وهو “إبليس في الأذى لا يجارى” وهو “لعنة الله في الأرض يحيل السلم حروبًا ونارًا”، وهو “الأرعن الوغد على قومه يسوق الدمارا“:
قائمٌ قاعدٌ على الشر سفا حٌ يرى في الدماء خير الغنائم
وهو لم يبدأ سفاحًا ظاهرًا للعيان، بل بدأ صفحته بسياسة الشعب بالمكر والخداع، حتى إذا ما استفحلت قوته ساس الشعب بالحديد والنار وقتل الأحرار في وضح الشمس.. حتى أخلاؤه وأصدقاؤه منا نجوا من شره وأذاه “وما يوم عامر ببعيد“.
وهذه الدموية الطاغية، وهذه “السادية” التي تسعد بالدم وتعذيب الغير.. هذا “الشذوذ الوحشي” الذي اتسم به “طاغية مصر” جعل الشاعر يهون من شأن مظالم الحجاج ونيرون والهكسوس إذا قيست بمظالم “فرعون مصر“:
أين ظلمُ بل ظلم نيرو ن إذا ما الرواةُ رووا مظالم
أين حكمُ الهكسوس حلوا على مص– – ر وساقوُا أبناءها كالسوائم
من غشومٍ في حكمه مستبدٍ عاثَ في مصرَ واستباح المحارم
واستحل الذي نهى الدين عنه من مآسٍ مثل الحصى وجرائم
قائمُ قاعد على الشر سفا ح يرى في الدماء خير الغنائم
لا ترى بقعةً من النيل جفت من دماء أو أقفرت من مآثم
ترى هل ظلم الشاعر التاريخ، وجار خياله الشعري على واقعه الثابت؟ الحقيقة أن الواقع التاريخي في صف الشاعر إلى حدٍّ بعيد.. فليس هناك مَن ينكر أن مَن ذكرهم الشاعر كانوا أمثلةً مشهورةً لطواغيت التاريخ ولكن حياة هؤلاء لم تخل من قيمٍ شريفةٍ وأعمال جليلة نسيها أو تناساها كثيرٌ من المؤرخين.
ولكن الحاكم الظالم ما كان ليستمرئ الظلم والتسلط والقهر والجبرية، ما لم يكن الشعب ذا “قابلية” لتشرب هذا الظلم، أو على الأقل مستسلمًا لما يفرض عليه من جلاديه.. وهنا تبرز مسئولية الشعب الذي شبهه الشاعر بأهل الرقيم؛ لأنه يألف الظلم “ويرضى في أرضه أن يضاما” وأنه “غافل لا يجيد إلا الكلاما“:
والشباب في كل أمة هم عمادها، وركيزة حاضرها، وأمل مستقبلها في شتى المجالات.. الشباب في كل أمة هم الرصيد الحقيقي الذي يمثل قوة الأمة.
هذا الشباب عاش سنوات الظلم والقهر، والدكتاتورية وقد
ضلَّ اليقين والشك مُرتَا بًا وتاهتْ خطاه بين الضباب
ومضى لا يرَيم للمثل العليا بعيدًا عن الهدى والصواب
سائرًا كالظليم يضربُ في الليل يحث الخطى وراء السراب
مستخفًا بالدين والمنهج الأسمى مُشيحًا عن سنة وكتاب
فإذا ما تساءلنا على من تقع مسئولية هذا “الإهدار” إهدار رصيد الأمة من شبابها؟ على من تقع مسئولية تمزق الشباب نفسيًّا وعقليًّا وعقديًّا؟ كانت الإجابة: إنهم أيضًا “الحكام الطواغيت” أما بُعْد الجريمة أو سببها فهو ما قاموا به من عملية “المسخ العلمي” إذ حرفوا حقائق التاريخ، وحجبوا عن الشباب واقع أمتهم المجيد في أيامها الخاليات، وجعلوا تاريخ مصر لا يبدأ إلا من اليوم الذي استولت فيه مجموعة من الضباط على السلطة، أما الفترة السابقة، بما فيها من أمجاد علمية وعسكرية وثقافية، وأدبية فهي، “فترة ساقطة” والشاعر يواجه الشباب ويصارحه بهذه الحقيقة المرة:
حجبوا عنكم كفاح جدودٍ جعلوا النيل برزخًا لغُزاتِه
قبروه فكان وقفًا عليهم واستباحُوا ما عزَّ من معجزاته
ما عرفتم تاريخ أمكمو مصر وقد أخرسوا لسان رُواته
قتلوه عمدًا على مشهد الدنيا شهيدًا ومثلوُا برُفاتِه
ثم تغيرت الحال.. بل تبدلت.. وانحدر أمر الأزهر بعد “قرارات التطوير الثورية” المشهورة.. وأصبح مؤسسة ممسوخة بلا كيانٍ أو اعتبار، وتولت في أسى أيامه النضرات الزاهيات:
وذوى زهرهُ وصَوَّح مرعا ه وجَالتْ بروضه الآفاتُ
وهَوَى صرحه وفرق أهلي– – ه من الدهر غربة وشتاتُ
وانطوى عهدُه وشاهت مجالي– – هِ وحلَّتْ بصحنهِ الكارثاتُ
وفي “أمة الجب” عاش القضاء محنة رهيبة بلغت ذروتها في 31 من أغسطس سنة 1969م ومن مظاهر هذه المحنة إبعاد مئات من القضاة عن ساحة القضاء، وذنبهم أنهم من أصحاب الرأي الشرف والنزاهة، وفي صوت تمتزج فيه نبرات الأسى برنات الغضب يصرخ الشاعر:
يا لها محنة تردَّى بها الحقَّ وضاقتْ بها العدالةُ حَمْلا
يا وسامَ القضاء يرحمك الله لقد شوهوك لونًا وشكلاً
أم تعدْ قادرًا على نصرةِ مظلو مٍ على ظالم قصاصًا وعدلاً
كان لمحنة القضاء.. أو كما يسميها البعض “مذبحة القضاء” ضحيتان: الضحية الأولى: قضاة عدول فصلوا من عملهم وسجن بعضهم “والضحية الثانية هي العدالة نفسها، بعد أن تربع على منصة القضاء في عهد الظلم والظلام رجال في أثواب القضاة وما هم بقضاة، وأصدروا من الأحكام- رهبة أو رغبة- ما سيظل عارًا إلى الأبد في تاريخ مصر، بل تاريخ الإنسانية. لقد صور الشاعر “محنة العدالة” هذه في أبيات من الشعر تعد من أرقى الشعر العربي كله عاطفة وتصويرًا وتعبيرًا، وذلك في قصيدته، “هذى يد الجاني” وهي تروي في إيجاز مكثف بارع، وفي لقطات فنية أخاذة قصة أحد الطواغيت الصغار من أذناب الطاغوت الأكبر، وقد روى يديه من دماء ضحاياه، فانبرى أحد الضحايا ودماؤه تقطر من جرحه:
صارخًا يا رقيبُ هذى يدُ الجا ني وهذا جرحي بكفيه دامي
قال سيف القضاء لا يعرف الزل– – فى ولم يخُشّ غضبة الحكام
وإذا القضاء يجزيه بالعفو ويسدي إليه أعلى وسام
ومن عادة الطغاة أن يتشدقوا بالشعارات المتوهجة والعبارات البراقة المنفوشة مثل “سيادة القانون” و”استقلال القضاء”، و”الديمقراطية” و”حرية الشعب“… إلخ، وكل ذلك زيف وضلال وباطل إذا نظرنا إلى الواقع المر الأليم.
وتستبد هذه النبرة اليائسة بالشاعر فتكاد تخنق صوته، وتلح عليه في أبيات عديدة في صدر الديوان كقوله:
هانت الأقدارُ يا نفس فلا تطمَعِي في العيش خُلْوًا رغدًا
اطرحي الأوهامَ لا تنخدعي لا تقولي- عبثًا- إنَّ غَدَا
لا تَروُمي الخير في مجتمع مولعٍ بالشر قلبًا ويدًا
ولا يشفع للشاعر- في نظرنا- منطقه الذي استند إليه في تبرير هذه السلبية وتلك الانعزالية اليائسة، وهو منطق يعتمد على ركيزتين: الأولى: اليأس من المستقبل؛ لأن مقدماته وإرهاصاته توحي بأنه غاثم.. بل مظلم، والثانية: اليأس من “الجهد الذاتي” أو “المحاولة الفردية”؛ لأن “اليد الواحدة لا تصفق” على حدِّ قول المثل الشعبي:
أنا منهُ وما أبرئ نفسي غير أني أرى الطريق ظلامًا
لستُ أقوى وهل تصفِّق كفٌ وحدها أو ترد موتًا زؤامًا؟
كيف أرقى وذي الملايين حولي لا أرى منهُمُ فتىً مقِداما
ومن حقنا أن نتصور خطورة هذا المنطق “الانسحابي السلبي” لو اعتنقه كل مواطن في أي مكان وأية أمة، إذن ما استقامت حركة كفاح، وما قام لنضال قائمة.. على أن التاريخ يقرر أن حركات النضال: صغراها وكبراها- تبدأ دائمًا بفردٍ واحد.. بضربة واحدة.. بكف واحدة.. سرعان ما تتحول إلى ملايين من الأكف والأيدي.
وتعميم الحكم في البيت الأخير ينقضه الشاعر نفسه في قصائد أخرى، فهو يقرر أن الساحة المصرية لم يكن فيها مجرد “صوت فردي” أو “كف واحدة”، بل كان في الميدان “قوة حقيقية مقاومة” وقفت في وجه الظلم، وهي التي صورها الشاعر تصويرًا بارعًا في قصيدته “جنود الرحمن“.
يركبون الصعابَ في نصرة الدي– – ن ومن عزمهم تهونُ الصعابُ
لا يهابون في الوغى شبح الموت ت، وللموت جيئة وذهابُ
هم جنودُ الرحمة درعهمو في نضرة الحق سنة وكتابُ
وعلى الرغم من هذا المأخذ يبقى الديوان- للحق ودون إسراف في الحكم- ضميمة ناضجة جدًّا “لأدب السجن والمنافي”؛ ذلك اللون من الأدب الذي يتطلب دراسة بل دراسات أكاديمية طويلة وواعية، والمكتبة العربية ما زالت صفرًا من مثل هذه الدراسة.
هذا، وقد ألمحت في مطلع مقالي إلى المفهوم الجديد للسجن أو “للجب” عند “علي الفقي” في ديوانه العظيم، ولا أزعم أنني قمت بتقييمٍ شاملٍ لهذا الديوان، إنما هي “جولة موضوعية” في أحشائه وثناياه، وهي لا تغني عن نظرات ووقفات أخرى لتقييم العناصر الفنية في الديوان من تصوير وخيال وأداء تعبيري وقيم شعورية.. وكل أولئك يحتاج إلى بحثٍ آخر.
الدكتور جابر قميحة رحمه الله
————–
المراجع والتعليقات:
(1) علي الفقي في غيابة الجب
( 2) ومن هذا القبيل أيضًا ديوان شعر للدكتور محمد صلاح الدين الذي عمل وزيرًا للخارجية في وزارة الوفد قبل الثورة ولم يقدر لي قراءة الديوان ولكنني سمعته منه يلقيه في جمع حافل في القاعة الكبرى بجامعة الكويت في أحد أيام شهر مارس سنة 1972م، وكل قصائد الديوان تدور حول محنته أيام اعتقاله في عهد عبد الناصر، ومن هذا القبيل أيضًا ديوان شعر- أعلن عنه حديثًا– لمحمد الحسناوي بعنوان “في غيابة الجب” وهو نفس العنوان الذي يحمله ديوان على الفقي.
(3) راجع سورة يوسف وخصوصًا الآيات من 23 إلى 55.
(4) الأثر: بضم الهمزة وفتح التاء: المكرمات والأعمال الطيبة “انظر ديوان الحطيئة وانظر كذلك الأغاني 2/604، تحقيق وشرح إبراهيم الإبياري- طبعة دار الشعب بالقاهرة“.
(5) محمد بن سلام الجمحي: طبقات فحول الشعراء 1 / 268 (تحقيق وشرح محمود شاكر مطبعة المدني القاهرة: 1974
(6) راجع: الأسس النفسية للإبداع الفني مصطفى سويف 218- 221 (الطبعة الثالثة- دار المعارف بالقاهرة).
(7) وقف النائب الوفدي عباس العقاد وصرخ صرخته المشهورة: ألا فليعلم الجميع أن هذا المجلس مستعد أن يسحق أكبر رأس في البلاد في سبيل صيانة الدستور وحمايته.. ولم يستطع الملك فؤاد أن يحاسبه على قولته لتمتعه بالحصانة البرلمانية ولكن الفرصة سنحت بعد أشهر قليلة فقدمت النيابة العقاد للمحاكمة في 12 من أكتوبر 1930م؛ لأنه كتب عدة مقالات في جريدة المؤيد يهاجم فيها الحكومة ونظام الحكم وحكم عليه بالسجن تسعة أشهر قضاها العقاد في سجن مصر من يوم 13 من أكتوبر 1930م إلى 8 من يوليو 1931م.
وكان كتاب (عالم السدود والقيود) هو حصيلة معاناة العقاد وتجربته في السجن طيلة هذه المادة (انظر: رجاء النقاش: العقاد بين اليمين واليسار 59- 95، ومحمد طاهر الجبلاوي: في صحبة العقاد 98، والدكتور جابر قميحة: منهج العقاد في التراجم الأدبية 151- 152).
(8) طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1976م، والكتاب ترجمة ذاتية للكاتب إلى الفترة التي سبقت أيام الثورة العراقية، وقد حكم عليه بالسجن لمدة أربع سنوات لاتهامه باشتراك في ثورة رشيد عالي الكيلاني ومحاولة الاعتداء على الأمير عبد الإله الوصي على عرش العراق، وقد وصف محاكمته ومشاعره وتجاربه في السجن في الصفحات 175- 275.
(9) وعلى سبيل التمثيل- انظر العقاد في تحليله الرائع لأربع شخصيات التقطها من أربعة آلاف إنسان تحويهم جدران السجن: أحد هؤلاء مجنون يتنازعه السجن والبيمارستان والثاني مجنون أيضًا ولكن على طراز آخر من الجنون، والثالث على مقعد مبتور الرجلين إلى الفخذين، والرابع خليط من الجنون والعربدة والمكر والدماثة المصطنعة والجموح الصحيح (عالم السدود والقيود 1978م- طبعة مكتبة النهضة المصرية، القاهرة 1937م)، وانظر كذلك تلك الصورة النفسية التي رسمها محمود الدرة لشخصية مجرم سجين يدعى “علي زين” (حياة عراقي في من وراء البوابة السوداء 230- 234).