في مرحلة ما من السجن ونحن نتجرع غصص ليالينا المقفرة في سجن القنيطرة وبعد نضالات كثيرة تحقق لنا نزر يسير من مطالبنا وكان يومها انتصارا هائلا بالنسبة لنا.. في السجن كل الانتصارات تافهة .. لكنها تكون في حس المعتقل هائلة غاية في الضخامة ….
هي تافهة لأنها كذلك .. لكن الجلاوزة بطريقتهم في صناعة القهر يحولونها الى شيء هائل غاية في الهول…..
وهكذا أصبح من حقنا أن نستفيد مرة كل شهر من المكتبة..
في ذلك الزمن الآسن كانت في السجن المركزي القنيطرة مكتبة كبيرة تضم بين جوانحها مئات الكتب…. لكنها ظلت تعاني من الإهمال فترات طويلة ..
لم يسمحوا لنا بالوصول للمكتبة بحجة أن أعدادنا كبيرة لايستوعبها المكان …
لكن إدراة السجن حولت كل مكتسب ولو كان لعاعة الى ورقة للضغط وقد احترفت فن تقطير كل مننها لتكون قطرة فقطرة
هي وحدها تتحكم في الصنبور … كلما تلبدت سماء السجون اغلقته باحكام وعادت بنا للمربع الأول .. كانما لتلقي في روعنا ان {هنا عتمة}
وقتذاك قررت أن ترسل لنا المشرف عن مكتبة السجن… ليبشرنا بمنة مدير السجن علينا… وقد كان المدير مستكبرا فيه كبر يكفي لعشرات السنين
كبر معجون بصلف وغرور
{أخيرا أصبح بإمكانكم أن تستفيدوا من المكتبة هكذا امر السيد المدير}
كان القيّم على المكتبة رجلا في عقده السادس لم يتبقى له إلا نزر يسير ليتم حلقته السادسة كان طيبا متفانيا في عمله وعالمه المكتبة وكفى كانت مهمته تتلخص في تنفيذ تعلمات السيد المدير
لكنه كان محبا للكتب عاشقا للقراءة.. يؤحلو له ان يصف نفسه بالأديب
إتفقنا بعد طول جدال معه ..على أن يأتينا بلائحة الكتب المسموح بها ثم نطلب منها ما نريد على أن يأتي ببالكتب المنتقاة لاحقا..
فقد كان المعتقلون في الملفات الخاصة يومها قرابة ال{200} معتقل موزعين على ثلاثة احياء
حي جيم ويضم المعتقلين من ذوي المحكوميات ما بين 30 سنة والعشرة سنوات
حي ألف 1 وكان يضم المعتقلين من الاحكام الثقيلة مؤبدات و قلة من المحكومين ما بين 30 وعشرة سنوات
حي الف 2 وكان مخصصا لأصحاب الاحكام النهائية الإعدام وكنا نسميه حي الإعدام………
وكان عليه أن يمر على الأحياء الثلاثة كلها ويوزع وقته بينهم طوال أيام الأسبوع
فيما بعد كان يستعين ببعض المعتقلين منا لحمل الكتب… من المكتبة الى عنابرنا السجنية في حي ألف 1 وألف 2 وحي جيم
ثم بعد ان كثرت زيارات المشرف على المكتبة لنا حدثت بيننا وبينه ألفة وكان يسعد كثيرا بالضجيج الذي يصاحب مجيئه محملا بكرتونه الكتب….
ذات يوم قال لي بوجه عجنته سنوات السجون
-لم يتبقى لي إلا القليل ثم اتقاعد عن العمل ……
يسكت للحظات ثم يردف قائلا بطريقة مضحكة
– ثم يعفو علي الله من هذا السجن
بعد أيام من الغياب جاء بلائحة الكتب المسموح بها كنا نختار منها ما نريد ثم يذهب للمكتبة ليعد الكتب المطلوبة ويعود بها لتوزع ويتم تسليم كل كتاب للمعتقل الذي طلب الحصول عليه ثم يقوم القيّم على المكتبة بتسجيل اسماء الكتب و أسماء المعتقلين الذين إستعاروها مرفوقة برقم الاعتقال
في السجن يجرد الانسان من إسمه ثم يصبح مجرد رقم اعتقال
الطريف أن كثيرا من تلك الكتب إعتبرت عارية لاتسترد ….
وهكذا رويدا رويدا خفت الطلب على الكتب وغاب الموظف الذي كان يحلو له ان يجزي الوقت معنا كلما جاء محملا بكتبه القديمة المتهالكة…
عن قصصه وحكاويه .. فقد كان ميّالا للثرثرة…
من أهم ما أذكره وعلق بمخيالي من ذلك الزمن.. المعتم لحظة وصول الدفعة الأولى من الكتب… وكانت المفاجأة بالنسبة لي عندما وجدت بين يدي احد المعتقلين رواية شرق المتوسط لعبد الرحمان منيف … وكتت قد قرأتها من سنوات سحيقة في طبعتها الأولى….
تفضل هذا المعتقل بمنحي الرواية لقراءتها وكان زاهدا فيها…..
امسكت بها بيدي وكنت أروم احتضانها بقلبي …. كان منتهى غايتي زمنذاك ان أقرأ رواية من ادب السجون اصل بها ما أنقطع من هذا الأدب وكنت به شغوفا قبل اعتقالي بسنوات….
لذت لمنفردتي .. أخلو بها وحدي مع رجب هذه المرة بطل رواية شرق المتوسط والمبدع عبد الرحمان منيف….
الأغا… كان جلاد رجب ورفاقه في شرق المتوسط…
وكان عندنا جلادون مهرة في الجلد والقهر
جلاوزة مماثلون لكنهم لم يكونوا آغاوات…
إختلفت أسماء الجلاوزة…
لكن المهمة واحدة ….
كان عندنا الحجاج والمكاويون والعلويون ……………………..
أكتشفت مصر وأنا اتابع ما تلفظه سجونها من حكايات الرعب ان الأغا ى في الشاام اوالحاج عندنا أصبح عوف في عندهم
كل الجلاوزة في عتمة السر المصرية باسم عوف …
هزتني مشاعر كثيرة وانا أتلقف رواية شرق المتوسط ..
لذكرى أخرى قبل اعتقالي تركت على طاولتي رواية الآن هنا .. او شرق المتوسط مرة أخرى
في الصفحة 111 كانت بالقرب من قهوتي السوداء التي لم أخذ معي للعتمة الا حكلتها……..
يتبع في الحلقة القادمة