(3) سيدة ارستقراطية
سيدة ارستقراطية … غنية … الفيلا … والعربية … والدخل … الزوج رجل أعمال … لديها كل ما يجعلها تنتمي إلي المجتمع الهاي … هذه هي الحاجة … زينب الغزالي
كان الشعب المصري عند نشأتها يعيش إما تحت خط الفقر … وهم الغالبية العظمى … أو علي خط الفقر نفسه … وهي شريحة رقيقة وصفوها ظلمًا بالطبقة المتوسطة … ويفصلهما عن الطبقة الثرية مسافة قد تكون أبعد مما بين السماء والأرض . وعندما يكون الإنسان لديه كل شيء من متع الدنيا … فإن مشكلته الأساسية تكون هي … طرد الملل … كيفية قضاء الوقت … أو قتله … فالسيدة الثرية لديها الشغالات والخدم والحشم والطباخ … تقوم من النوم في كسل وكل همها هو كيف ستقضي ما بقي من نهارها … وأين تمضي ليلها … الاختيارات أمامها محدودة … مكررة … بين الرغي في التليفون … وماتش نميمة … وبين زيارات لفلانة … وعلانة … واغتياب خلق الله … وتقطيع في سيرة الأصدقاء ، و( الأعدقاء ) علي السواء … ثم النادي … وهي أيضًا جلسات لت وعجن … وأحيانًا تقيم الحفلات والولائم … وهي مناسبات للتباهي وإثارة الحسد … ومباريات للتنافس باستعراض الملابس الفاخرة … والعطور النادرة … والتعالي بما تملكه من مجوهرات بكافة أنواعها … ذهب … أحجار كريمة أو … ( لئيمة ) … مع المطرب … أو مطربة … مغني أو ( مجعر ) … قد لا يسمعه أحد وهو يرقع بموال عن الليل وغدر الحبيب … والتخت الموسيقي يساهم في زيادة تلويث الجو بالضوضاء التي تحدثها رءوس قد لعبت بها الخمر … وضحكات تفرقع مثل الطلقات الفشنك …
زينب الغزالي … رفضت هذه الحياة … بفطرتها … رغم صلتها برجال الوفد وباشاواته … علية القوم … الوزراء … الأسماء اللامعة في عالم السياسة … والنفوذ … سراج الدين … النحاس … الزعيم الجليل … اختارت … وآثرت أن تستجيب لدواعي الإيمان … فأسست جماعة السيدات المسلمات … والتف حولها … وتجمع معها كل من هو نافر من حياة الفراغ والضياع … وكل من هرب يجلده من مستنقع الشياطين … جماعة لفعل الخير … مساعدة الفقراء والمحتاجين … ورعاية اليتامى … يدعم هذا الاتجاه … ويسنده … توعية … ودراسات … ومحاضرات تدعو إلي دين حنيف لا تتم الصالحات إلا به …
كان ذلك عام 1936 :
اتصل بها الشيخ حسن البنا … يدعوها إلي الانضمام بجماعتها إلي الإخوان المسلمين … الحاجة زينب لها شخصيتها المستقلة … لم ترفض … لأنها سمعت عن البنا ودعوته … وهو رجل صادق … متجرد … أمين … توجهاته تنفق مع أهدافها … إلا أنها أيضًا لم توافق … كان رأي البنا أن توحيد الجهد يعطي ثمرات أسرع … والوحدة أساسًا هدف إسلامي … وكان رأيها أن في التنويع مجال أوسع لخدمة الإسلام والمسلمين … وعرضت بدلاً من الاندماج … التعاون والتنسيق … ولأن البنا كان شعاره الذي يرفعه دائمًا … نتعاون فيما نتفق عليه … ويعذر بعضنا بعضًا فيما نختلف فيه … فقد وافق . وهكذا عرف الإخوان الحاجة زينب الغزالي محاضرة في دار الإخوان … وفي اجتماعات الإخوات المسلمات .
أيقظتها محنة الإخوان الأولي … عندما أصدر النقراشي قراره بحل الجماعة عام 1948 … استفزها الظلم … والكيد الحقود لضرب الدعوة الإسلامية … القوة الصاعدة التي تتصدي للمستعمرين الانجليز … والصهاينة الذين يغتصبون أرض فلسطين … الأيدي التي تضرب … مصرية … قاصرة … وغبية … والمحرض … عدو خبيث … والمتلقي للإيذاء … هو المدافع الحقيقي … والمدرك لأهدافهم ونواياهم … والضحية في النهاية … هو الشعب المسالم … الموجود دائمًا في حالة تحذير … وفقدان الوعي . أحست بأن الضربة أصابتها … فهي جزء من الدعوة الإسلامية … وأحد روافدها … لم تنتظر من أحد أن يشعرها بما يجب عليها … فبدأت حملة لجمع التبرعات وإعالة أسر المعتقلين … في الوقت الذي بدت فيه حكمة الهروب من السفينة الغارقة … وأنجو سعد … فقد هلك سعيد … إلي هنا … ومن واحدة ست … فإن الشكر يكون واجبًا مستحقًا لها … إلا أن طبعها المتحدي دفعها إلي الاتجاه المعاكس للريح … والتيار … أرسلت إلي البنا … ورقة كتبت فيها :
سيدي الإمام حسن البنا …
زينب الغزالي الجبيلي … تتقدم إليك اليوم … وهي أَمَة عارية من كل شيء … إلا … من عبوديتها إلي لله … وتعبيد نفسها لخدمة دعوة الله … وأنت اليوم الإنسان الوحيد الذي يبيع هذه الأَمَة بالثمن الذي يرضيه لدعوة الله تعالي
في انتظار أوامرك … وتعليمات سيدي الإمام
وكانت بيعة … أكدتها بصراحة أكثر … عندما قابلته قبل استشهاده علي سلم دار الشبان المسلمين …
اللهم أني أبايعك علي العمل لقيام دولة الإسلام
وأرخص ما أقدم في سبيلها دمي والسيدات المسلمات بشهرتها
وهي البيعة التي ذكرها لها عبد الفتاح إسماعيل عندما قابلها فيما بعد أثناء موسم الحج … وتكررت نفس المعادلة مع التعديلات إلي الأسوأ … الأيدي التي تضرب … أيضًا … مصرية … ولكنها هذه المرة أيدي نجسة … غبية حاقدة … نعم … ولكنها علي دراية ومشتركة … ومتورطة … والمحرض استعمار جديد وصهاينة لئام علي الحدود … عقدوا الصفقة … علي الطرف الأول الوفاء ببغية وطغيانه أملاً في الثمن … وعليهم كطرف ثاني هو الخداع … والمراوغة … والثمن الذي سيدفعونه … هو الغدر لطرف لا يستحق منهم إلا الاحتقار … حيث لا يوجد في أدبياتهم حاكم يستحق احترامهم يقوم بإهدار إنسانية شعبه وأبناء جلدته … أما بقية المعادلة … فهي … هي … لم تتغير … الضحية شعب مسالم يعيش في غيبوبة وغفلة .
كانت محنة 1954 عبارة عن نفق ضخم مظلم … معتم … مقبرة هائلة … أرادوا … دفن الإخوان المسلمين فيها … دعوة … وفكرًا … وشخوصًا أحياء … إذا لزم الأمر … كانت موجات الحقد طاغية … تقذف حممًا بركانية تجرف أمامها بنيان الدعوة في طوفان لتقبره في هذا النفق .
لم تتخل عن دعوتها … ولكن التحدي كان عاجزًا عن الوفاء بطلبات الآلاف من الأسر … التي انكشفت عريًا … وجوعًا … ورضع … وطلاب في المدارس والجامعات … نساء عفيفات … وشابات حوامل … وشابات حوامل … وأمهات وآباء … في سن الشيخوخة والعجز … لقمة العيش … والدواء … وإيجار الشقق … في هذا لم يكن الدافع هو الحكمة للقفز من المركب الغارقة … وإنما هو الفزع … والرعب … الذي شل أيدي الخير … وقطع دابر الهمة … وطمس علي مشاعر الأخوة والنجدة .
وقفت … وحيدة … سيدة … بلا عون .
ذهبت إلي الشيخ محمد الأودن … جلست إليه مطرقة ثم قالت :
– أنت تعلم – يا مولانا – أني علي بيعة الإمام البنا … وعلي العهد … ولكن اليد عاجزة عن الوفاء … موجة الظلم عاتية … أني أعيش مأساة الأسر الكريمة التي اجتمع عليها كارثة الزوج الذي يكتوي بناء الفجار … وفاجعة الدخل الذي انقطع عن الزوجة والأولاد . بكي الشيخ التقي … وقام فقبل رأسها … وقال مثبتًا :
– استمري يا ابنتي … فالله لن يخذلك … وسيجعل لك مخرجًا
– أنا علي ثقة فيمن معي من السيدات المسلمات … هن معي … ولا يدخرن طاقة إلا وبذلوها في سبيل الله
– استعيني علي قضاء حاجتك بالكتمان … والحذر … وعضي علي أصل الشجرة … فإن مع العسر يسرًا .
قالت :
– أنا علي صلة بالسيدة المجاهدة زوجة الإمام الهضيبي وبناتها … والمجاهدة بنت العشماوي باشا زوجة المستشارمنير الدلة … وأخوات الأستاذ سيد قطب … وهن يتلقين بعض العون … والاتصالات بيننا سرية … وقد جئت لك لأتزود منك بالنصح … والتثبيت … بعد أن عز الناصح … وندر الصديق .
– سيري علي بركة الله يا بنيتي … واعلمي أن أمل الإسلام في هذه العصابة من الإخوان المسلمين … والله لا يخذل – أبدًا – من يجاهد في سبيله … هو ابتلاء … ليميز الله المؤمنين … الصادقين .
كان ذلك … قبل لقائها الشاب … عبد الفتاح إسماعيل … أو الشيخ عبد الفتاح كما صارت تدعوه … وكان اللقاء … بداية لجولة جديدة في الصراع بين الحق … والباطل هكذا … دائمًا … تجري سنة الله .