مفهوم الأدب الإسلامي من كونه أدب أمة إسلامية لها تصوراتها ومنظورها للكون والحياة والناس
الجزء الأول
أدب السجون- حاوره :زكرياء بوغرارة
حوارنا هذا الأسبوع مع أديب رفيع وناقذ فذ وقامة أدبية عالية ظلت تنافح عن قيمها ومبادئها تحت راية الاسلا م طيلة عقود مديدة انه الاديب والروائي والناقذ حلمي محمد القاعود أشهر من نار على علم… كان لي شرف محاورته والغوص معه في أعماق مفاهيم الادب الإسلامي وقضاياه المعاصرة ولم يفتني وانا احاوره ان انكش في ادب السجون ما هو ؟؟ ولماذا هو ادب هش لدى الاسلاميين يتسم بالضعف من حيث قلة الكتابة فيه رغم انهم الأكثر تعرضا لوحشية الأنظمة الوظيفية والاستبدادية …؟؟ وقضايا اخرى ادبية
الدكتور حلمي محمدالقاعود استقبل أسئلتنا بصدررحب رغم انشغالاته الكثيرة و بتواضع جم هو سمة الادباء الكبار
فكان هذا الحوار الشيق الماتع ننشره في جزئين من خلال موقعنا ادب السجون وشبكة وا إسلاماه
بطاقة تعريف
الدكتور حلمي القاعود غني عن التعريف °° اسم يعرفه العاملون على الساحة الإسلامية، كما يعرفه خصوم الإسلام من المثقفين العرب أيضاً، هو حاضر في أذهان الجميع بما يكتبه من آراء جريئة، وأفكار قوية، ومقالات حادة لا تعرف المراوغة أو المداورة.
في المجال الأدبي، هو ناقد أصيل وكبير. منذ بداياته، وصفه الأديب الكبير “وديع فلسطين” في مجلة “الثقافة” التي كانت تصدر في السبعينيات من القرن الماضي بأنه أفضل النقاد الشبان، وفي عام 1968م فاز في مسابقة مجمع اللغة العربية، التي كان يتنافس عليها كبار الأدباء والكتَّاب، وكان عمره آنذاك لا يزيد عن الثانية والعشرين، وفي عام 1974م فاز في مسابقة “يوم الأرض” الخاص بالشعب الفلسطيني ببحث عن شعراء المقاومة الفلسطينية، وهي المسابقة التي كان يقيمها المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية (المجلس الأعلى للثقافة الآن).
في حياته الجامعية، يمثِّل صورة للأستاذ الجامعي الجاد، الصارم من غير قسوة، الحازم في غير شدة، وخاصة في مجال الدراسات العليا، حيث يأخذ طلابه بالعمل الدؤوب، والبحث المستمر، والاهتمام بالجزئيات مثل الاهتمام بالكليات، وهو كذلك أيضاً في مناقشة رسائل الماجستير والدكتوراه، حيث تكون مناقشاته ـ كما شهد زملاؤه وطلابه ـ درساً تطبيقياً وعملياً، يعلِّم الطالب كيف يصل ببحثه إلى التفرد°°
وقد عرف الدكتور حلمى القاعود طريقه إلى الصحافة الأدبية والفكرية مبكراً، فكتب فى مجلات: °°”الأديب”، و”الآداب”، و”الجديد”، و”الرسالة”، و”الثقافة”، ومجلة “الأزهر”، وكانت تجربته مع الصحافة الإسلامية تجربة ثرية جدا جديرة بالدراسة والتحليل، والمقالات التى نشرت بها شكلت صلب الكتب الثقافية التى نشرها على مدار تاريخه الثقافى الطويل، فكتب فى “الاعتصام”، و”لواء الإسلام” و”المختار الإسلامى”، و”الدعوة” وصحف “المصريون”، و”النور”، و”آفاق عربية”، و”الشعب” الأولى والثانية، كما كتب فى مجلات الخليج مثل “المجتمع”، و”المنهل”، و”الأمة”، و”الوعى الإسلامى”، و”منار الإسلام”..ويمتاز أسلوبة بالبساطة والعمق وسبر أغوار الموضوعات فى لغة بسيطة راقية يستفيد منها الباحث المتخصص والقارىء العادى..°°
بوصف دقيق جامع مانع اجاد رسمه بعمق الدكتور محمد عباس وهو يتحدث عن اديبنا الرفيع فقال
{إن عملا واحدا من أعماله وهي عشرات كثيرة بل مئات،عمل واحد منها كان كفيلا باستغراق عمر إنسان عادي، فكيف بهذه الأعمال جميعا؟
دراساته عن محمد عبد الحليم عبد الله على سبيل المثال، ومعايشة أعماله الأدبية ونقدها حيث النقد إبداع لا يقل عن العمل الإبداعي نفسه وقد يزيد. أو دراساته عن با كثير ورحيله إلى بلاده في أقصى بلاد العرب كي يعيش جوه وبيئته ولغته والمؤثرات في كتاباته، نعم أحب الدكتور حلمي القاعود الكاتب الكبير علي احمد باكثير (1969،1910) وكتب عنه الكثير أيضا كما سافر إلي بلده حضرموت ليعيش مع بعض من أهله بعض الوقت. وكان دافعه أن يضيء جوانب حياة الرجل الذي عتم كلاب الحكام والنخبة العفنة عليه انتقاما من كتاباته الإسلامية التي تسببت في نقمة الشيوعيين علي أدبه وفكره فحاصروه حتى لقي ربه .
. عمل واحد من أعمال الدكتور حلمي القاعود كدراساته عن نجيب الكيلاني كفيل باستغراق العمر كله، حيث يخيل إليك من فرط الانصهار أو الذوبان أنهما كتبا نفس العمل معا،أو أن القاعود هو الذي كتبه ووضع اسم الكيلاني عليه، سمة النقاد العظماء، الذين يتناولون العمل بحب وشغف وذوبان، فتختلط نبضات القلب بنبضات العمل، ومع ذلك لا يعوقه هذا عن انتقاده سلبا أو إيجابا كالأب الحنون يعامل ابنه الأعز فتكون حتى قسوته رحمة.
عمل واحد كمتابعته البديعة للأدب الإسلامي بداياته وتطوراته وأفكاره وتطبيقه، بطريقة ربما لا يكون مسبوقا فيها، ثم دراساته في النقد الأدبي الحديث، وفي تيسير علم المعاني، وكتابه البديع: محمد – صلي الله عليه وسلم – في الشعر العربي الحديث، ثم دع هذا كله وادلف معه إلى كتابه عن البلاغة القرآنية،مناقشا ومتعلما ومعلما يحلق في الآفاق كما لو كان يركب بساط الريح أو عربة الزمن فيجعلك تعيش معه كل العصور وعبر الدهور، ثم دع ذلك واقفز ألف عام أو يزيد إلى الأمام لتقرأ له القصائد الإسلامية الطوال في العصر الحديث : دراسة ونصوص.}
وأخيرا لايعسنا الا ان نستعد للتحليق معه في سماء الادب الرحبة من خلال هذا الحوار الماتع لما فيه من فائدة لاتخلو منها كتابات القاعود او حواراته
1
في البداية نحب أن نسألكم عن مفهوم الأدب الإسلامي بإيجاز؛ بحيث يتضح معناه، وتتكوَّن صورته في ذهن القارئ الكريم
وما الذي يعنيه الأدب الإسلامي بالنسبة إليك؟ وما الذي يدل عليه في رأيك؟
وهل لهذا الادب الإسلامي مستقبل؟؟؟؟
الأدب الإسلامي هو أدب أمتنا الإسلامية منذ بدء الدعوة حتى اليوم. إنه ليس شيئا جديدا أو مستحدثا، ولكنه استمرار لأدب أمة تغيرت معتقداتها وتصوراتها من الجاهلية إلى التوحيد ومن الفوضى الاجتماعية والفكرية إلى منظومة الأخلاق والقيم والثقافة التي تدعو إلى الوحدة والأخوة والإنسانية والعمل والأمل تحت راية الدين الحنيف. ويأتي مفهوم الأدب الإسلامي من كونه أدب أمة إسلامية لها تصوراتها ومنظورها للكون والحياة والناس، فكل أدب يصدر عن معتقدات الكاتب وثقافته وتصوراته لما حوله. الأدب الشيوعي مثلا يحتفي بقضايا الصراع بين الطبقات وما يسمى الحتمية التاريخية، ومخاطبة الغرائز المادية ورفض الدين والألوهية، والأمر نفسه في الآداب الوجودية والعلمانية والوثنية .. كل أدب يعبر عن تصور أصحابه وثقافتهم وفكر هم. والأدب الإسلامي بإيجاز يعبر عن التصور الإسلامي، وهو تصور مفتوح وممتد في الزمان والمكان والفكر والقضايا المختلفة. وقد ظهرت الدعوة إليه أخيرا في سياق استعادة الهوية التي تغبشت بحكم هيمنة الثقافات الأجنبية على كثير من أدبائنا المحدثين، ونبذهم للتصور الإيماني الإسلامي، فكانت تجديدا في حقيقة الأمر لأدبنا التاريخي.
ويمثل الأدب لإسلامي بالنسبة لي التعبير عن إنسانيتي وديني وقيمي وهويتي. ويشير ذلك إلى استقلالي وخصوصيتي وعلاقتي بالبشرية جمعاء من خلال الرغبة في إسعاد الإنسانية وهدايتها إلى طريق الرشد والأمل بأسلوب فني راق.
2
حسب اعتقادك هل يجسد الأدب الإسلامي جسرا ممتدا بين الأدب والإسلام؟ ثم ما جوهر العلاقة القائمة بينهما؟
و ما الذي تراه في شأن رسالة الأديب المسلم؟
في إجابة السؤال السابق بعض أو معظم إجابتي على هذ السؤال. والأدب الإسلامي لسان الإسلام في الجانب الفني الذي يناغي الوجدان البشري، وخاصة إذا كان الأديب الإسلامي موهوبا ويملك القدرة التعبيرية عن التصور الإسلامي الناضج. الإسلام دين عام شامل ، صالح لكل زمان ومكان، والأديب الحق هو الذي يستطيع التعبير عن ذلك من خلال القيم الفنية والعناصر الجمالية، وبذا يكون الأدب الإسلامي جسرا ممدودا في كل الاتجاهات مع مضمون الإسلام وتصوراته.
الأدب الإسلامي بالمفهوم الصحيح هو لسان الإسلام والمعبر عن حقائقه ومعطياته وهداياه بالنسبة للإنسانية، ورسالة الأديب المسلم لا تقل عن رسالة الداعية الذي يوضح طبيعة الإسلام وينشر قيمه ويدعو إليه ويصحح ما ألصق به من دعاوى، ويدفع عنه الأكاذيب والتشويه والتلوث في الإطار الفني الجمالي المبهر.
3
بنظرة شمولية نجد أنَّ هناك تبايناً في النتاج الإسلامي للأجناس الأدبية: فالشعر يتصدر المشهد دائماً، ثم تأتي القصة والرواية، ثم المسرح. فهل لذلك أسبابٌ ترونها؟ وهل تتحقق هنا أهمية “الكمّ”؟
سأخبرك بقصة طريفة كنت أحد أطرافها . ذات يوم كنت عضوا في لجنة تختار المعيدين لإلحاقهم بالكلية التي أعمل بها في بلد عربي. وفي المقابلة الشخصية كان هناك شاب يبدو عليه سمت التدين الهادئ ،سألته هل قرأت روايات أو مسرحيات؟ فسكت ولم يجب. فأعدت عليه السؤال، فلم يجب ولزم الصمت، فابتسمت وقلت له: هل القصة حرام؟ فقال: الشيخ سُئل فسكت. فضحكت، وقلت له : ألم تدرس في كليتك شيئا عن القصة والرواية والمسرحية.. وذكرت له بعض أسماء أساتذته فقال: بلى. قلت له: إذا القصة ليست كذبا ولا حراما، لكنها خيال مسموح به.
الشاهد في القصة أن هناك فهما مغلوطا لدى بعض الناس تجاه الفنون السردية، وهو ما يجعل الاتجاه إلى الشعر أكثر من السرد، ولكن المناقشات والحوارات التي جرت في العقود الأخيرة جعلت الأمر مختلفا، فقد اتجه كثيرون إلى كتابة القصة والرواية والمسرحية، وقد شجعت بعض الجهات هذه الفنون من منظور إسلامي ،مما أظهر بعض المواهب الجيدة.
ومناط الأمر في كل الأحوال ليس “الكم” ولكن “الكيف” . ونحن نتمنى أن يكون هناك كم كثير جيد في إطار كيف كثير جيد.
4
نلاحظ كثيراً أن عدة ألقاب تسبق بعض الأسماء، فهذا “القاص والكاتب والشاعر”، وذلك “الناقد والمسرحي والروائي”.. إلَخ. فهل أنتم مع “احتراف” الأديب لفنٍّ واحد؟ وما مدى تأثير عدم الاحترافية والتخصص على المشهد الإبداعي؟
الأدب موهبة والأديب كاتب موهوب، ويمكن أن تكون موهبته ممتدة ومتسعة وتستوعب فنا أدبيا أو أكثر وهناك أدباء جمعوا بين الشعر والقصة القصيرة والرواية والسيرة الذاتية والمسرحية والمقالة والبحث النقدي والدراسة الأدبية إلى جانب الكتابة في تخصصهم العلمي مثل الطب والرياضيات والهندسة والكيمياء والفيزياء. وأبرز الأمثلة على ذلك نجيب الكيلاني وعبد السلام العجيلي ويوسف إدريس ومن قبلهم أحمد زكي أبو شادي فقد كتبوا في معظم الفنون الأدبية إلى جانب تخصصهم في مهنة الطب..
احتراف الأدب في البلاد العربية ليس مجديا. الاحتراف يفرض على صاحبه في بلادنا التفرغ، كي يأكل ويعيش، وهوما لا يتناسب مع واقعنا الذي تشيع فيه الأمية، وضعف القراءة، وسوء التعامل مع الناشرين. الأديب في بلادنا العربية إن لم تكن له وظيفة أو مصدر آخر للرزق يموت جوعا إذا احترف الأدب، أو يضطر للتنازل عن قيمه وأخلاقه ليلتحق بجهة رسمية توفر له دخلا ما، مقابل أن تفرض عليه نمطا معينا من التصور أو الرؤية تختلف عن اقتناع بما يمليه الضمير والدين والأخلاق.
ولعلي فهمت بجانب المفهوم العام للاحتراف وهو التفرغ للكتابة الأدبية، فهما آخر لمصطلح الاحتراف في السؤال وهو التخصص في فن معين من الفنون الأدبية، ولا أرى مانعا أن يتخصص في فن يظهر موهبته، ويجعل صاحبه يبدو أكثر تجويدا وأفضل تعبيرا.
وبصفة عامة يبدو التخصص في فن واحد يجيده الكاتب ويحبه أفضل من تشتيت الموهبة في مجموعة فنون لا يبدو فيها التميز والتفوق.
5
كناقد له باع طويل في النقد ومتابعة كافة أنماط الفن الروائي أود أن أسألكم عن أدب السجون إلى أي مدى يمكن أن نصنفه ضمن الأدب الإنساني في فن الرواية والشعر؟؟؟
أدب السجون أدب إنساني بامتياز. لأنه يكشف وحشية السجان ومن يأمر بالسجن، والحديث هنا بالدرجة الأولى عن السجون التي تقوم على التعذيب واستباحة الضحية في الأنظمة الديكتاتورية التي تسعى إلى الانتقام من المعارضين السياسيين. هناك سجناء جنائيين (ليسوا سياسيين) يتعرضون أيضا للتعذيب حتى الموت، ولكن هؤلاء قلة بالنسبة للسياسيين الذين لم يرتكبوا غير جريمة المطالبة بالحرية والعدل والكرامة والمساواة. وفي الأدب العربي الحديث صور ونماذج للتعذيب في السجون تقشعر لها الأبدان، وكشف وحشية الجلادين عمل ضروري لتكتمل إنسانية الإنسان برفضه لهذه الوحشية واستنكاره لها.
6
كتب الكثير من الادباء الذين يحملون الهم الإسلامي والفكرة الإسلامية الروايات والشعر المصنف ضمن ادب السجون بل لعل الدكتور نجيب الكيلاني كان أطول نفسا في هذا ومن المعاصرين ايمن العتوم
ما رؤيتكم النقدية فيما يحمله هذا الادب وهل يمكن ان نصنفه بالأدب الإسلامي….؟؟؟
كل أدب يعبر عن الإنسان ومعاناته في السجون أو غيرها، يعدّ أدبا إسلاميا حين يعبر عنه أديب إسلامي موهوب. في روايته رحلة إلى الله مثلا يصور نجيب الكيلاني ما تعرض له المعتقلون في سجن القلعة أو السجن الحربي من تعذيب وحشي يفوق الخيال تصويرا حيا ومؤثرا، وفي روايات أخرى تعرض لوصف ما يلاقيه السجناء الإسلاميون والمجاهدون ضد السلطات الاستعمارية الغازية تصويرا يجرّم كل من شارك في التعذيب ولو بالموافقة والرضا. وقد نجح في تصوير التعذيب لأنه عاني في السجن الحربي وسجون أخرى.
وفي رواية القوقعة الشهيرة صورة لوحشية الكائنات التي مارست التعذيب ضد السجناء السوريين ،والمفارقة أن راوي الأحداث كان غير مسلم تعرض للتعذيب بوصفه مسلما!
الفصل الثاني : كفر سوسة : رحلة خارج الزمن (يناير 1981 – أكتوبر 1982 )
كفر سوسة : رحله خارج الزمان
عبرت السيارات الثلاث بوابة السجن العامة مضيا نحو المبنى الرئيسي الذي انتصب أمامنا بطوابقه الثلاث ، والتفط السائق حوله بين ممرات ومداخل معقدة حتى بلغ بابا كهربائيا توقف بنا عنده ، واجتذبتنا الأيادي مرة أخرى فاقتادتنا عبر ساحة المبنى الداخلية إلى باب اخر تنزل خمس درجات منه إلى القبو المعتم ، فإذا هو عالم اخر من عوالم الرعب التي قطعناها خلال اليومين الماضيين عن غير ما اختيار .
مضت الأيدي القاسية عبر ممر القبو المظلم فالتفت بنا جهة اليسار وليس في طريقنا إلا الصمت والأ بواب الحديدية الكئيبة ووحشة المكان ، ولم يلبث أن قطع لهاثنا المتدفق صوت أجش أتانا من وسط العتمة ينادي : -منيرة! فما كدنا نلمح المنادي حتى بدت من الجهة المقابلة في اخر الممر فتاة مضفورة الشعر ترتدي “جلابية” شاعت موضتها وقتذاك ، وجعلت تتقدم نحونا متمايلة يوحي مظهرها أنها سجانة أو موظفة هناك . . فلما اقتربت ومن غير أن يلتفت إلينا قال لها أبو عادل رئيس نوبة السجانين وقتذاك : – هيا فتشيهن واحدة واحدة .
ودفع بي أول الجميع إلى غرفة علمنا بعدها أنها غرفة التحقيق والتعذيب ، ودخلت منيرة هذه ورائي وسألتني ؟ – ما اسمك ؟ قلت وقد بلغ التوتر بي مبلغا : وماذا تريدين من اسمي ؟ أحسست وقتها أن بامكاني أن أقتلها من شدة توتري بيدي . . لكنها قالت ببرود : -وليش معصبة؟ .
قلت : والله لا أدري ! ماذا تريدينني أن أفعل ؟ هل يمكن للإنسان أن يكون مبسوطا هنا ! أجابت بنفس برودها ورتابة صوتها : بس لا تعصبي . . أنا سجينة مثلك. قلت بحدة : لماذا تكذبين على ؟ شكلك هذا ليس كشكل السجينات .
قالت : والله العظيم أنا سجينة وقاعدة في مهجع مملوء بنسوان من الإخوان . لم أجرؤ أن أزيد معها وظننتها سجانة تريد أن تستدرجني في الكلام خاصة وأنها تتحدث بالقاف العلوية ، لكنها عادت وقالت لي : ما صدقتيني ؟ بكره بنلتقي بالمهجع وبذكرك .
أحسست لهجة صدق في حديثها فاستأنست بعض الشيء وسألتها دون أن أغادر الحذر : – ومن معك من الإخوان هناك ؟ قالت : هناك واحدة حاجة من حلب وأخرى اسمها أم شيماء و جلست تعد لي أسماء وألقاب لا أعرفها وأضافت : وأنا الشيوعية الوحيدة في المهجع والبقية كلهن من الإخوان فتشتني منيرة بعد ذلك ، وفعلت الشيء نفسه مع ماجدة وملك بالتتابع ، وكان العنصر في انتظاري حينما انتهت ، فأخذني وأصعدني ثانية من القبو ، واقتادني عبر سلالم وممرات عديدة إلى المبنى الجنوبي للفرع ، ليبدأ التحقيق معي حسب الأصول !
بين يدي الجلاد !
كان كل ما حولي يثير الفزع والإضطراب : هذا داخل وذاك خارج . . باب يقفل واخر من أين لا أدري يفتح . . وكل قادم أو عابر يحمل بيده جهاز لاسلكي أو كبلا أو أداة أخرى للتعذيب . . وفي البداية أدخلوني على مكتب رئيس الفرع ناصيف خير بك ، فأحسست وكأنني انتقلت إلى عالم اخر . . فالغرفة واسعة دافئة أنيقة التأثيث ، يمتد السجاد الفاخر على أرضهما بمهابة وقد توزعت عليه كنبات وثيرة ومكتبة ومكتب فاخر يحتل تمثال لرأس الرئيس الأسد ركنا منه ، بينما ينتصب في زاوية الغرفة القصوى تمثال برونزي آخر لرأس الرئيس بالحجم الطبيعي .
وأما المقدم ناصيف الذي كان منهمكا بمحادثة لاسلكية وقتها فلم يعرني أكثر من نظرة ازدراء بطرف عينه ، وأومأ للعنصر أن يعيدني إلى مكاني وأكمل حديثه . . ولم ألبث أن اقتادني ذاك ثانية إلى غرفة أخرى مقابل مكتب ناصيف ، فوجدت مجموعة أشخاص مجتمعين على شاب مقيد يعذبونه ويحققون معه ، وناصيف ممسك جهاز اللاسلكي بيده يتحدث فيه مرة ومع الشاب المسكين والعناصر مرة .
ولم يلبث أن أشار بيده إلى العنصر الذي أحضرني فجذبني ذاك من منكبي وأمرني أن أنتظر خارج الغرفة من جديد ، وأنا كالنائمة لا أكاد أقدر على متابعة المشاهد المتجددة والوجوه المتعاقبة والأصوات التي تختلط الشتائم فيها بالإستغاثات والآهات ! وسرعان ما عاد العنصر فأدخلني الغرفة ذاتها لأحضر تعذيب الشاب نفسه لعلي أخاف وأتكلم ما يريدون .
كانوا أربعة أو خمسة يشتركون في التعذيب أمامي بالكابل والعصي والخيزران والكهرباء : ناصيف خير بك رئيس الفرع ، والرائد عبد العزيز ثلجة وهو رجل ضخم الجثة بالغ الجلافة ، وعناصر آخرون كان أحدهم لم يبلغ العشرين بعد مجندا من درعا كما عرفت لاحقا ينادونه حسين ، ولم أعرف من كان ذاك الشاب ولماذا يعذبونه ، لكنه كان يصيح طوال التعذيب ويستغيث مناديا : – والله العظيم موأنا . . ثم اعترف اخر الأمر لا أدري ليتخلص من مزيد من العذاب أم لسبب اخر فأقرأنه قتل أحد الضباط . . وعندما اشتد التعذيب عليه وكاد صراخه يصيبني بالإنهيار التفت إلى العنصر معي وسألته : -لماذا أتيتم بي هنا ؟ قال بسخرية : لا أعرف . . إسأليهم.
قلت بانفعال : لا أريد أن أسألهم ولكن أنا ما عندي شيء لأعترف به ويضعوني في هذا الموقف فأتفرج على تعذيب الناس . ولم يزد العنصر عن أن هز كتفيه وابتسم متهكما وهو يقول : -لا أعرف . . لا علاقة لي بأي شيء هنا ! واستمر الضرب والتعذيب حوالي نصف الساعة أنهضوا الشاب بعدها مضرجا بالدماء والكدمات فكبلوا يديه ورجليه ، وفيما اقتادني العنصر وراءه لأكمل كما يبدو رؤية المشهد ، سحب الرائد ثلجة الشاب إلى رأس الدرج ، ثم ركله برجله بكل قسوة ، فتدحرج هاويا يئن ، ونادى على أحد ما هنالك لينزله إلى المنفردة في القبو أسفل المبنى ، وعاد فأمر العنصر ليدخلني إلى الغرفة مرة أخرى ، فأوقفني في زاويتها ، وجعل ناصيف وثلجة يتحدثان باللاسلكي لا أدري مع من ، ثم خرج الجميع فجأة ، ليعود الرائد ثلجة وحده ويغلق الباب كهربائيا بضغطة زر ، فاستوى الباب بالجدار حتى لم أعد أدري من أين دخل ولا أين كان هذا الباب . . ومن غير أن يلفظ أي كلمة أو يسألنى أي سؤال لم أحس إلا وصفعة مفاجئة تأتيني على حين غرة اصطدم رأسي من عزمها بالجدار وارتد ، وصارت الدنيا تدور كلها في ، وصرت أرى الرائد أمامي أربعة أشخاص معا ، وأرى رأسي أسفل مني ورجلاي فوق الرأس وفوقي ! لم يزد عن أن قال : – انظري . . إذا ما بدك تحكي ما بتعرفي ما الذي سيحصل لك .
بساط الريح !
خروج الرائد ثلجة برهة لم أكد أتمالك فيها نفسي حتى عاد مع ناصيف ورئيس الدورية التي أحضرتنا من البيت وشخص رابع لم أعرف من كان . وابتدرني ناصيف يقول : -وليك . . شو ما بدك تحكي ؟ ما بدك تقري وتدلينا فين أخوك ؟ قلت له :أخي ليس هنا . قال : إذا أين هو ؟
قلت : لا أعرف الظاهرأنه ذهب ليكمل دراسته . وواقع الأمر فإن أخي صفوان كان قد أخبر أمي عندما زارته في الأردن وقال لهما : إذا سألك أبي أين أنا فقولي له ذهب ليكمل دراسته في الباكستان .
تذكرت ذلك بمجرد أن سألني عنه ، ولم أكن أدري وقتها بأن أمي كانت معتقلة في نفس السجن معي ، وأنه سألها قبل دقائق عن أخي فأجابت الجواب نفسه ، والتقى كلامي مع كلامها في هذه النقطة ، الأمر الذي أعفاني من التعذيب على ذلك السؤال ، ولكنه سألني بلؤم : -أنت تعرفين بأن أخاك هنا ، وسوف تأخذيننا وتدليننا عليه ، أو على رفاقه والبيت الذي يجلسون فيه .
قلت : لا أعلم أي شيء من هذا . . فنادى على أحدهم وقال له : إذهب وأحضر لها بنطالا وأعطها إياه خليها تنستر وضعها على بساط الريح .
تقدم العنصر مني وطرحني على لوح من الخشب له أحزمة طوق بها رقبتي ورسغي وبطني وركبي ومشط رجلي ، ولما تأكد من تثبيتي رفع القسم السفلي من لوح الخشب فجأة فبات كالزاوية القائمة ، ووجدتني وأنا بين الدهشة والرعب مرفوعة الرجلين في الهواء وقد سقط الجلباب عنهما ولم يعد يغطيهما إلا الجوارب والسروال الشتوي الطويل ، ولا قدره لي على تحريك أي من مفاصل جسمي . . وبكل وقاحة صاح العنصر يقول : – انظر سيدي .. أرأيت ؟ قالت إنها ليست من الإخوان . . ولكن انظر كيف أنها منهم ومجهزة نفسها للفلقة ولا حاجة لها للبنطلون ! حاولت دفع أي من القيود الجلدية عن مفاصلي فما استطعت . . وقبل أن أحاول إعادة لوح الخشب إلى استقامته طلبا للستر كانوا قد علقوه من جنزير مثبت به إلى السقف ، وتقدم رئيس الدورية التي اعتقلنا وبيده خيزرانة طويلة رفيعة وسألنى بلهجة تهديد صريح : -شوما بدك تحكي ؟
قلت :ليس لدي أي شيء لأحكيه . في نفس الوقت كان الرائد ثلجة فوق رأسي يجهز مولدا كهربائيا مربع الشكل موصولا بالفيش وله يد يدار بها وملاقط قربها مني وأطبقها فجأة على أصابع يدي . . وفيما هوى ذاك بالخيزرانة على بطن رجلي أطلق هذا شحنة من الكهرباء سرت كالنار في بدنى ، فقال دون أن يلتفت لصرختي : -هه إلسه مابدك تحكي ؟ صرخت : قلت لكم ماعندي شيء للحكي .
قال ببرود : أرأيت كم كانت الكهرباء قوية؟ هذه أخف الموجود لدينا! قلت : حتى ولو كان ، هل أعترف بأشياء أنا لم أفعلها ! قال : لا . . أنت تكذبين وتخبين علينا . . بدك تقومي الآن تأخذينا وتدلينا على البيت الذي يسكن فيه أخوك ورفاقه والا فسنأخذك إلى تدمر ! وأقبل ثلجة هنا بصورة قربها من وجهى وسألنى : – هل تعرفين هذا الشاب ؟ قلت :لا. قال : كيف ؟ ألا تعرفين رفاق أخيك ؟ قلت :لا.
قال : لكن هذا رفيق أخيك الحميم . . هذا عبد الكريم رجب . . ألا تعرفينه ؟ قلت بحزم وقد تأكدت لي الوشاية الرخيصة التي حيكت لي : لا . . لا أعرفه . تبسم الرائد ثلجة ابتسامة صفراء وشرع يقرأ من مجموعة أوراق بين يديه بعين ، وعينه الأخرى تتاج انفعالات وجهي : – هبة الدباغ : منظمة مع الإخوان وتتعامل معهم . . اشترت لهم بيتا ، وتعطي دروسا لسيد قطب في مساجد دمشق و . . صرخت بانفعال وأنا أسمع قائمة الإتهامات الكاذبة للمرة الألف : كذب . . كذب . . لا أعرف أي شيء تتحدث عنه .
دس الرائد ثلجة الأوراق بوجهي وهو يقول : -ألا تري ؟ هذا كله مكتوب هنا . . كله من اعترافات الرجب . . هو الذي تكلم عنك بهذا ، وهو من الإخوان مائة في المائة ويعرف عنك كل شيء ولا بدوأنك تعرفينه أيضا . . عدت إلى قولة كلا . . وعاد التعذيب من جديد ، وصار رئيس الدورية يضرب قدمي بكل عزمه ، حتى أصبحت الخيزرانة عندما تهوي عليهما تشق الهواء بصوت كالصفير ، وجاء عنصر آخر بخيزرانة ثانية وجعل يشارك معه الضرب ، فيما عاد عبد العزيز ثلجة فقبع فوق رأسي وجعل يكوي أصابعي بالكهرباء من جديد .
كان الألم أشد من أن يوصف . . وكنت في البداية أصيح : يا الله . . لكنني لم أعد أستطيع اخر الأمر أن أخرج صوتي ، فصرت ألوح برأسي فقط ولم أعد أحس بشيء . . ووجدتهم بعد عشر دقائق تقريبا من الضرب المتواصل يتوقفون فجأة ، ومع الشتائم والعبارات البذيئة طرق سمعي عبارة : – إلى تدمر! وسرعان ما انفكت القيود عن مفاصلي ، وسحبني عنصر من غرفة التعذيب عبر الممرات والسلالم ثانية إلى سيارة متوقفة عند الباب ، ففوجئت برفيقتي ماجدة قد سبقتني إليها بحراسة عنصر آخر . أركبانا معا ولكنني لم أجرؤأن أتحدث معها بشيء . . وانطلقت السيارة بحركة مسرحية إلى أن بلغت الباب الخارجي ، فسألنى من جديد : -لسه ما بدك تحكي ؟ أحسست وكأن أعصابي المشدودة تصيح كلها معي بصوت واحد : -ما عندي أي شيىء أحكيه . . أنا لا علاقة لي بأحد . . هل تريدون أن أكذب عليكم فقط ؟
هل تريدون ! توقفت السيارة ، ولم يلبث السائق أن عاد بنا إلى المبنى من جديد، وأعادوني مرة أخرى إلى التعذيب . . وعادت نفس الأسئلة والإتهامات تطرح علي ، لكن الضرب والتعذيب اشتد أكثر ، وزاد عدد المشاركين بتعذيبي حتى لم أعد أستطيع أن أعرف عدد من حولي أو عدد المحصي والخيزرانات التي تهوي على رجلي . . وبدأت أرى الغرفة كلها عصيا وخيزرانات . . والناس فيها من كثرة أسئلتهم كالضفادع تنق وتنق بصوت واحد غامض . . فلم أعد في النهاية أجيب على أحد ! وأتاني صوت الرائد ثلجة من جديد
يقول : – ها . . أنت إذا مسلحة . . انظروا إليها . . تدعي البراءة وتنفي أنها منظمة وهي ليست من الإخوان وحسب . . ولكنها مسلحة أيضا! أحسست أن تهمة أكبر تلفق لي هذه المرة فصرخت بعصبية : لا . .أنا لا علاقة لى بأحد . . وأنا لست مسلحة . قال : ولكن رفيقتك ماجدة هي التي قالت ذلك عنك .
قلت : لا تصدقها . . أحضرها لتقول ذلك أمامي . . ربما قالت ذلك من خوفها حتى تنجو من الضرب . قال : لا . . رفيقتك لا تكذب . . هى أصدق منك . . تكلمت عن كل شيء وما تعذبت ، وأنت أذا لم تتكلمي فستبقي تأكلي ضربا حتى تحكي .
وتقدم ثلجة من جديد نحوي وبيده بطارية كهرباء وضعها على فمي مباشرة وقال بلهجة التهديد : -الن تتكلمي ؟
قلت : ما عندي شيء أحكيه . . مهما وضعت لي الكهرباء أو أطعمتني ضربا فما عندي شيء أحكيه ولن أكذب على نفسي .
وهنا صاح ناصيف بضجر : – هيا أنهضها وأعطها ورقة لتكتب ما لديها من معلومات وسنرى بعدها . والتفت نحوي مهددا
يقول : -إذا لم تتحدثي بكل شيء هذه المرة فاعلمي أن لدينا عناصر الواحد منم كالوحش يسد الباب . وأضاف : – هل تعرفين ألشوايا الديرية كيف يكون شكلهم ؟ إذا لم تعترفي فسأدخلهم عليك وسنرى بعدها !
الموت راحة المؤمن !
أنهضوني عن “بساط الريح ” فوجدت نفسي مبللة من غير أن أشعر، وكنت كأنما أغمي علي أثناء التعذيب فدلقوا علي سطل ماء حتى أصحو . تلفت حولي كالسكرى فرأيت الغرفة خلت تقريبا من الناس ، وأدركت من خلال نافذة كانت فوق رأسي أن الدنيا قد أصبحت ليلا ، فقدرت أن ساعتين أو ثلاث انقضت علي وأنا في التعذيب ! وبينا أنا لا أزال أحاول استعادة توازني جاء أحد العناصر بورقة وقلم وجلس أمامي يقول : – انظري . . إذا حكيت فستساعدي نفسك ، وإلا فستطمسي أكثر مما أنت طامسة . قلت له : ماعندي أي شيء أحكيه . قال : لا أحد يأتون به إلى هنا وما عنده شيء . . ولا أحد يصل هنا إلا إذا كان مذنبا . قلت له : ولكن أنا ليس لدي أي شيء .
قال : أنت حرة . وأعطاني استمارة معلومات عامة عن دراستي ومدارسي ثم عن علاقتي بتنظيم الإخوان . . أجبت بما أعرف وأعطيت الورقة للعنصر فذهب بها ، ولم يلبث أن عاد الرائد ثلجة يلوح بها وملامح الغضب بادية على وجهه وهو يصرخ في : – هل هذه أجوبة تلك التي أجبت بها يا أخت ال . . . واندلقت كل الشتائم والعبارات البذيئة دفعة واحدة من لسانه وكأنها كانت تنتظر فرصتها للإفلات وفى آخر عبارة أطلقها سمعته
يقول :أنت تعرفين هذا البيت الذى يسكن فيه أخوك ورفاقه وبدك تدلينا عليه الآن لكن أنا أعرف لماذا لا تريدين ذلك . . تريدين أن تماطلى بالوقت حتى يهربوا اوسجل دون أن أرد عليه بعض الكلمات على الاوراق التى معه وخرج ولم يلبث أن عاد وقالو خرج ، ولم يلبث أن عاد وقال : – إذالم تتكلمي فسننزلك إلى القبو ،والقبو إذا نزلت إليه لا تخرجى منه حتى تموتى قلت له : أحسن. . الموت راحة المؤمن !
قال بغيظ :وتجيبين بكل وقاحة وكل عين يخرب بيتك الم تحسي كم أكلت من قتل ؟ ألا تفكري في أن ترحمى نفسك وتعترفى لتخلصى من هذا العذاب.
قلت له :لكن أنا ليس لدي أي شيء حتى أعترف به . . قلت لكم ماعندى شىء : في تلك اللحظة دخل ناصيف خير بك من وسمعنى أقول ذلك جديد للرائد ثلجة ،فابتدرني بتكشيرة ونظرة مرعبة وقال والشتائم البذيئة تسبق كلماته- إذا الم تعترفي بكل شيء الان .. مباشرة . .فسوف أعريك من ثيابك صحت وقد هزني التهديد:لكن انا ما عندي شيء احكيه . قال بلهجة الأمر:إخلعي جلبابك .وقفت هنا ونظرت إليه والخوف الحقيقي يغمر قلبي لأول مرة . ل قال ألا تريدين أن تخلعيه؟ أنا سأخلعه لك. وتقدم مني فمد يده يريد أن يفك أزرار الجلباب فما وجد شيئا .
ففي تفصيلة ذلك الجلباب كانت الأزرار مخفية ، فحول يده وأنا أحاول مدافعته إلى رأسي لينزع حجابي فلم يستطع . . أمسكني من شعرى تحت الحجاب وكان طويلا وقتها وملفوفا للخلف أمسكني منه وبدأ يشده فينجذب رأسي كله من غير إرادة مني إليه ،ثم يعود ويخبطه بالجدار . .وسيل الشتائم البذيئة يرافق ذلك كله ،لكنه لم يتمكن رغم ذلك من نزع الحجاب لأن غطاء الصلاة كان قد نزل في أكمامي عندما لبست الجلباب فوقه ساعة الإعتقال . .
فصاح بي : وتقولي عن نفسك أنك لست من الإخوان وثيابك كلها ملتصقة ببدنك التصاقا والجلباب أزراره سرية ومخفية ومجهز اخر تجهيز! .
ومع استمرار صمتى وسيل الشتائم منه نادى أحدهم ليعطيه الكبل أو الخيزرانة ليجدد ضربي . . ووقتها كانت قدماي قد تورمتا من الضرب ولم يعد بإمكاني لبس الحذاء، فقال وهويتناول ماطلب :لا تريدين الكلام ؟ أنا سأريك ” وتقدم ليبدأ ضربي ، فركضت بعفوية منه والتجأت وراء الطاولة فركض ورائي . . وبدأت أركض وأدورحولها وهويركض ورائي ليمسك بى ويصيح : يخرب بيتك كل هذا التعذيب والضرب ولازال فيك روح لتنطي وتركضى ونادى الحاجب وقال له : أمسكها من عندك فلما تقدم العنصر وأمسكني صاح ناصيف فيه : خذها . . خذها تنقلع من وجهى . . خذها إلى المنفردة . . لا أريد أن أراها أكثر من ذلك. لم أصدق أن حفل التعذيب قد انتهى ولم أعي مامعنى أن أذهب الى المنفرده إلا عندما دفع العنصر حذائى الى وجذبنى خارج الغرفه وجعل يقودنى عبرالسلالم والممرات ثانية نزولا هذه المرة وهو يقول لى: لماذا؟ لماذا لم تتكلمي ؟ أما كان ذلك أفضل لك ؟ كنت على الأقل رأفت بحالك . . أنظري كيف انتفخ وجهك وازرقت يداك وتورمت رجلاك وأكلت قتل الدنيا حتى لم تعودي تستطيعين أن تلبسي حذائك .
قلت : ما عندي شيء أحكيه . وأضفت وقد فاض بي الأمر ولم أعد ألقي بالا لكلماتي : الله لا يعطيهم العافية هؤلاء الظلام . . لكنه وكأنما كان يؤدي دورا مرسوما لم يلتفت لعبارتي وأكمل يقول : لكن لو أنك كذبت عليهم كنت خلصت حالك.
قلت :- أنا لا أكذب وأعلم أن الذي يصدق هنا أو يكذب فنتيجته واحدة .
سألنى بدهاء: وكيف عرفت ذلك ؟
قلت : – لأنهم لم يصدقونني . . قلت لهم الحقيقة فلم يصدقوا فكيف سيفعلون إن أنا كذبت عليهم ! كنا قد وصلنا باب القبو أخيرا ، فوجدت حسين . . العنصر الذي كان يشارك قبل قليل في تعذيب الشاب في الأعلى يطل علينا بوجه مظلم وقد فتح فمه على ابتسامة سخرية تكشف سنا مقلوعة فى الوسط فكأنها نافذة في بيت خرب . . استقبلني وبيده كبل يتلوى مثلما تلوت كلمات الترحيب الساخر على فمه وهو يقول : -أهلا . . أهلا وسهلا . . والله نورت !
قن الدجاج !
أمسكني حسين من كتفي وأنزلني الدرجات الخمس إلى أسفل ، واقتادني من جديد عبر الممر المعتم إلى ثاني زنزانة منفردة في ممر آخر لا يكاد يبدو آخره ، وقال وهو يشير إلى الداخل -هذا مكانك . . غرفتك العامرة . . وان شاء الله نومة هنية ! أحسست بالنفور من الظلمة ووحشة المكان وكنت لا أزال متوترة الأعصاب جدا فقلت بلا وعي : – لا والله . . لا أدخلها أبدا ! قال وهو يدفعني إلى الزنزانة بغلظة : -إي بدك تدخلي بكسر رأسك .
التفت إلى أبواب الغرف الأخرى فلمحت صديقاتي زميلات السكن معي يطللن بوجوههن من طاقات الزنازين التي وزعوهن عليها ، فركضت نحوهن وأنا أصيح : فاطمة . . فلانة . . فجذبني بقوة وهو يقول : تعالي . . تعالي . . هل تظنين نفسك في فندق أو في زيارة ! وفجأة سمعت من آخر الزنازين (رقم 24 ) صوت أمي التي يبدو أنها سمعت صوتي أيضا فبدأت تدعو عليهم بصوت عال وتصيح : -هؤلاء حريمات تتقوون عليهن يا ظلام . . ما عندكم رحمة ! والله أنا طول عمري أسمع أنه لا رحمة في قلوبكم ولكنني أرى ذلك الآن بعيني ! بهرتني المفاجأة . . وركضت ثانية باتجاه مصدر الصوت وأنا أصيح بدوري : -أمي هنا ؟ الله يخرب بيتكم . . ماذا تفعلون بها ؟ إخوتي صغار وأبي مريض . . ولا حول جميعا لهم ولا قوة .
فناداني حسين وهو يقهقه بسخرية : -وما حاجتنا لأبيك وإخوتك ؟ نحن نريد أمك فقط ! وذهب فأغلق نوافذ المنفردات جميعا ثم عاد يدفعني إلى المنفردة وأنا أحاول المقاومة وأتكىء على زاوية الباب ، فقال لي مهددا : -إذا لم تدخلي الآن فسأحضر كل عناصر الفرع ليدخلوك.
قلت : المكان معتم جدا ! أجاب بسخرية : أنت الآن ستنورينه . . هيا ادخلي . نظرت فإذا بعلبتين من الصفيح في زاوية الزنزانة واحدة فيها خبيص من أرز أو برغل مع مرق وفي الثانية ماء . . قلت له : والله هذا مثل قن الدجاج . . وهذه والله مثل معاملة الحيوانات ! قال : هذا عشاؤك الليلة داذا كان لك نفس لتأكلي فكليه .
قلت وقد تملكني الغيظ : أنتم تعرفون أن الذي يدخل إليكم لا تعود له نفس ليأكل ! وهنا حضر عنصر اخر متقدم في السن كان يحسن معاملتي فيما بعد قدر المستطاع . . تقدم مني وقال بصوت منخفض : – يالله يا أختي ادخلي وتوكلي على الله ولا تتركي له مزيدا من الفرص ليسخر منك.
فدخلت المنفردة وصوت أمي لا يزال يبلغ مسمعي . . ثم لم يلبث صوتها أن غاب وسط قهقهات العناصر وصياحهم وهذرهم ، وعمت المكان رائحة الخمر وصيحات المجون احتفالا بليلة رأس السنة إ! فيما لفتني في وحدتي الظلمة ووحشة المكان فازدادت أعصابي توترا ولم أستطع حتى أن أغير جلستي ، خاصة وأنهم أخذوا ماجدة بعدي إلى التحقيق وكان من الممكن أنها تعذب في تلك الساعة مثلما كان محتملا أن تقول عني أي شيء . وبقيت على هذا الحال إلى ما بعد منتصف الليل ، حينما حضر أحد العناصر واقتادني إلى غرفة التحقيق من جديد .
لون الليمون !
في غرفة التحقيق وجدت الرائد ثلجة في انتظاري يستقبلني قائلا : – لست من الإخوان أليس كذلك ؟ ولم تقومي بأي عمل لهم ولا تريدين الإعتراف . . ولكن هناك من أرسله الله ليعترف عليك الليلة . هذه رفيقتك – يقصد ماجدة – قالت بأنك مسلحة وأنها رأت السلاخ معك بعينها .
قلت له بتحد : أحضرها لأفقأ لها عينها . . هيا أحضرها لتقول ذلك أمامى . قال : هي لا تكذب ،أنا قلت لك هي لا تكذب . . هي أصدق منك ، والدليل على كذبك لونك الذي أصبح أصفر مثل الليمون .
قلت له : لي ليلتان كاملتان لم أنم ولم آكل ولم أدخل الحمام مع القتل والتعذيب ولعيان القلب ، فكيف لا يصفر لوني ! هز برأسه وهو يمط شفتيه بلا معنى وصاح للحاجب كي يعيدني للمنفردة ، فعدت إلى جلستي القلقة ذاتها وعاد إلي التوتر والأرق ، حتى أنني لم أمد البطانيات خوف أن يأتي أحد العناصر فيفتح نافذة الباب أو يدخل علي وأنا نائمة . . وبينما أنا متكورة على نفسي وسط الزنزانة أرمق الصراصير في تلك الظلمة تتسلق الجدران حولي دونما اكتراث بالنزيل الجديد . . شق جدار السكون فجأة صوت مزلاج الباب الخارجي وصياح السجانين وتدافع أقدام تتخبط مهرولة فوق الدرجات وعلى الممر باتجاه منفردة قريبة .
أدركت بحدسي أن دفعة من المعتقلين الجدد قد وصلت ، وعلمت لاحقا أنهم ستة أو سبعة شباب بين الثانية عشرة والخامسة عشرة من العمر جمعوهم من مسجد واحد وحشروهم معا في هذه المنفردة التي لا تزيد بمساحتها عن متر بمتر ونصف ! والذي يبدو أن واحدا منهم أصابه إسهال من الخوف أو التعذيب فجعل يصيح طالبا الخروج إلى الحمام ، فلا يجيبه إلا صوت العناصر الغارقين في متعة الإحتفال برأس السنة : -سد حلقك ! لكن الفتى لم يكن يستطيع الصبر ، فيعيد الرجاء وينادي : -والله بطني بتوجعني . . يا عالم . . لم أعد أستطيع ضبط نفسي . . عندها جاءه عنصر منهم وفتح النافذة وتناوله بضربة بالكبل وهو يكرر-سد حلقك واخرس يا . . .
وسكت الفتى لبرهة يا حرام ، بدأنا نشم بعدها رائحة من زنزانتهم خنقتنا . . فعاد العنصر إليه يكفر ويلعن ويقول له : -فعلتها هنا يا ابن ال . . . وأخرجه إلى الممر وانهال عليه ضربا كالمجنون ، وتعالى صراخ أمي من منفردتها ثانية تدعو عليهم وتقول له : -يخرب بيتك . . مالك قلب بشر؟ سألك أن تخرجه فلم تفعل ففعلها تحته . .ماذا يفعل المسكين بنفسه ؟ وعاد الأمر بعد هذه المهزلة إلى ما يشبه الهدوء من جديد . . ومضت ساعات الليل المتبقية تمر علي أثقل من الجبال ، وعلى الرغم من أنني لم يطرق لي النوم جفنا ليلتها إلا أنني بدأت أفقد الإحساس بما حولي ، وأتخيل ربما من شدة البرد أن الثلج قد غطى المكان كله ، وأن العناصر تستعد لاقتحام الزنزانة علي ليسحبوني في هذا الثلج فيعروني ويعذبوني للمرة الأخيرة قبل أن يرشوني وأغادر الحياة ! لكن شيئا من ذلك لم يحدث ، ولم ألبث وقد دنا وقت الفجر أن أحسست بما يشبه الطرق الخافت على الجدار من الزنزانة الأخرى المجاورة حيث وضعوا ماجدة ، فعلمت أنها تنبهني إلى موعد الصلاة ، ولم نكن خلال الفترة السابقة من الإعتقال كلها قد تمكنا من الصلاة ، فتيممت وهممت أن أبدأ ، لكنني لم أستطع معرفة اتجاه القبلة فطرقت الباب ، ولم يلبث أن حضر حسين من جديد فسألته ، فقال بسخرية : – كيف وضعت رأسك على الفلقة فهذا اتجاه القبلة ! كررت عليه السؤال مع الرجاء ، فقال بتبرم : – أنا لا أصلي . . لا أعرف ، لكنني أشاهد الشباب في المنفردات يصلون بهدا الإتجاه .
فصليت إلى حيث أشار وظهري إلى الباب ، فكان قلبي ينتفض من الرعب طوال الصلاة خشية أن يفتح أحد العناصر علي فيراني وأنا أصلى! فيحدث ما لا تحمد عقباه ! وبالفعل . . وبينما أنا في صلاتي فتح السجان ابراهيم الطاقة ليعطيني الإفطار ، فلما رآني أصلي قال بما يشبه السخرية : -شو . . عم بتصلي ؟ فلم أجب ، ولكنني أحسست أن قلبي قد سقط بين يدي ، غير أن الله سلم ، ومضى إبراهيم فأكمل توزيم الفطور على الزنزانات الأخرى ثم عاد ففتح وسألنى باستهزاء : -خلصتي ؟ الله يتقبل ! هززت برأسي دون أن أجيب ، فاكتفى بدفع طبق الطعام إلي والذهاب . . ولم يكد يفعل حتى فتحت الطاقة من جديد وكان القادم هذه المرة أبو محمد . . الرجل الذي ترفق بي لأدخل الزنزانة ليلة الأمس ،
فسألني : – ألا تريدين الخروج إلى الحمام ؟ أشرت بالإيجاب ، فلما فتح باب المنفردة أطللت على الممر برأسي فما وجدت أحدا . .
سألته : – مالي لا أسمع صوتا هنا ؟ وهذه صديقتي ملك ألم تنزل من التحقيق ؟ قال : خرجوا . . كلهم خرجوا ، وما بقي إلا أنت ورفيقتك الثانية – يقصد ماجدة – . قلت بدهشة واضطراب : وأمي ؟ قال : أنت ورفيقتك وأمك فقط . . صفوكم ! أحسست أنها النهاية وأنها راحت علينا . . خرج الجميع وبقينا نحن . . إذا فهي النهاية! سألته وأنا أشهق بالبكاء : – ولماذا أخرجوهم ولم يخرجونا نحن ؟ أنا لم يثبت أي شيء علي . . أنا بريئة .
أطرق وهو يقول : والله لا أعلم . . إسأليهم ، أنا هنا مجرد موظف. ثم غير مجرى الحديث وقال : – أتريدين أن تأكلي .. ألست جائعة؟ أنا أحضرت فطوري الخاص معي : زبدة ومربى وأشياء أخرى . . أكلت منهم وزاد معي قطعة .
تذكرت وقتها أنني لم أكن قد أكلت شيئا إلى ذلك الوقت من قبل ، لكنني لم أشأ أن آكل طعام غيري أيضا ، فشكرته واعتذرت . . ثم لما اشتد علي الجوع في اليوم الثاني بدأت آكل القشرة الخارجية للصمون الذي يحضرونه لأن الداخل عجين كله . . وقطعة الجبن التي لا يحضرونها إلا نادرا بطبيعة الحال ، وعلى هذه الحال بقيت طوال فترة بياتي في المنفردة ثمانية أيام بالتمام والكمال !
“الخط “ورعاه البقر !
طلع صباح أول أيامي في سجن كفر سوسة وأنا لا أزال قابعة أترقب في زنزانتني المجهول بوجل ، وأطل على أحداث الأيام التي مضت مصدقة ومكذبة! تلفت أتأمل “مسكني ” الجديد فإذا به أشبه بالقبر منه إلى أي شيء اخر ، وعدا الصراصير التي كانت لا تزال تبحث بمجساتها المقرفة عن شيء رطب تقتات عليه لم أستطع في البداية أن أجد على الجدار القاتم شيء ، لكن تسرب بعض الضوء واعتياد عيناي على الظلمة جعلني أبصر خطوطا مميزة بعض الشيء وشعار “الله أكبر ولله الحمد” محفورة أكثر من مرة وحولها أسماء أشخاص عديدين مروا على هذا المكان التعس قبلي . . وكان ثمة نقش لمسجد كتب حوله “لا إله إلا الله محمد رسول الله ” وأسفل منه اسم الشخص الذي نقشه على الأغلب . . كذلك لمحت خريطة لفلسطين وتحتها عبارة “الله أكبر ولله الحمدا ا! لم تكن أكثر من ساعتين على صلاة الفجر قد مضتا حين بدأت دورة يوم جديد من أيام السجن تأخذ مجراها . . فكما الكلاب تفعل كان المحققون والجلادون والسجانون لا ينامون إلا إذا دنا الفجر ويستيقظون وقت الضحى! وسرعان ما بدأت الشتائم واللعنات وعبارات الكفر بالله تختلط بفرقعة الكبلات على ظهور السجناء يقتادونهم إلى الحمامات أو إلى “الخط ” بلغة السجن المتداولة .
كان (ياسين ) المجند العلوي المتطوع أحد أجهل خلق الله وأغباهم يتصدر لهذا العمل على الدوام ، فتراه يمسك بالكبل بيده ويتفرس في طابور المعتقلين المتجه نحو الحمامات لبرهة ، ثم لا يلبث أن ينقض على المساكين لطما ولسعا يسلخ جلودهم كالدواب . . والويل كل الويل لمن كان يجرؤ ويصيح من الألم . . فجزاء ذلك مضاعفة العذاب حتى لا يعيدها ثانية! وسرعان ما انطلق صوت أمي من زنزانتها تنادي عليه : يا ولدي . . هل تظن أنك لا تزال في الضيعة التي جئت منها وهؤلاء قطيع من البقر الذي كنت ترعاه ! ولم يكن ياسين ليرضى أن يقطع متعته الصباحية شيء فاستمر يجلد الشباب ويتلذذ في خلق هذا المشهد الرهيب . . وأمي تطرق الباب بأيديها وأرجلها وتبكي ألما عليهم وحسرة وليس من مجيب ! ولم تكد تنته هذه المأساة ويهدأ المكان بعض الوقت حتى كان موعد التحقيقات قد جاء ، وعاد صراخ المعذبين وصيحات العناصر وشتائم المحققين تقرع اذاننا وتذيب منا القلوب ، ثم وكما بدأت بلا مقدمات خفتت الأصوات من جديد ، ولم ألبث أن وجدت باب الزنزانة يفتح وأحد العناصر يدعوني للذهاب إلى الحمام ، فلما أصبحت هناك وحدي وبدأت الوضوء وكل ظني أنني قد أغلقت الباب بإحكام علي فوجئت بوالدتي أمامي ، فأدهشتها المفاجأة مثلما أدهشتني . . واندفعت من فورها تحيطني بذراعيها وتسألنى وهي بادية الإضطراب : – قتلوك ؟ عذ بوك ؟ قلت أريد أن أخفف المصاب عنها : لا . . أنا بخير . لكنني كنت وقتها أضع رجلي على الحوض وأغسلها للوضوء ، فأشارت مفجوعة إليها
تقول :ولكن ما هذا ؟ رجلك كلها زرقاء وأصابعك مزرقة أيضا ولا تكاد تظهر ! هل أذاك أحد؟ هل مسك أحد ؟
قلت من جديد : لا . . الحمد لله ما مسني أحد .
سألتني وكأننا في سباق مع الزمن : ولماذا أمسكوك إذا ؟
قلت : والله لا أعرف . . يريدون أخي صفوان ويريدونني أن أدلهم عليه .
فأخبرتني هنا أنها أجابت في التحقيق كما أجبت بأنه يدرس في الباكستان ، فشعرت بارتياح لتطابق كلامي مع كلامها ، ولكنني وجدتها تتركني وتخرج إلى الممر ندعو عليهم بأعلى صوتها ، فحضر حسين راكضا وهو يصيح بالعنصر الآخر : – كيف جعلتها تدخل والأخرى لا تزال هناك ؟ ألا تعلم أن اجتماع أكثر من شخص هناك ممنوع ؟ أجاب العنصر الذي أحضر أمي : لم يكن لي عالم بوجود أحد اخر . . لماذا أغلقت أنت باب المنفردة التي كانت فيها ولم تتركه مفتوحا لأعلم أنها لا تزال في الخارج ؟ واقتاد كلاهما والدتي وهي لا تكف عن إطلاق دعواتها عليهم ، ولم تتح لي رؤيتها ثانية إلا بعد أيام ، ولم تتح لي معرفة سبب وكيفية اعتقالها إلا حينما اجتمعنا في المهجع بعد انتهاء التحقيق . . فقصت علي – رحمها الله – ما جرى بالتفصيل .
الكمين !
كانت والدتي – علية الأمير – قادمة من حماة لتحضر لي بعض أغراض كنت قد نسيتها أثناء الإجازة هناك ، ولتكمل بعدها إلى الأردن حيث استقر أخي صفوان مع كثير من الشباب الملاحقين بتهمة معارضة الحكومة والإنضمام إلى تنظيم الإخوان . . ومع والدتي حضرت أسرة ال مرقة ترافقها لزيارة ابنهم المقيم في عمان لنفس السبب .
قالت والدتي – استيقظ أبوك ليلة اعتقالك على منام مزعج أولمه شرا أصاب أخاك صفوان ، فقال لي اذهبي وا نظري أحواله ، فمضيت يرافقني المرقة وقد اتفقنا على المبيت عندكم ليلتها والتحرك إلى عمان في اليوم التالي . ، ولما وصلنا قرب بيتكم في دمشق وبت على خطوات من مدخل البناية سمعت صوتا يأتيني ويقول برجاء ظاهر : يا خالتي ارجعي . . لا تدخلي ! كان أحد الجيران ينادي من جهة لا أراها ويحذرني من الصعود بعد أن تم اعتقالكم قبل ليلة ، ولكنني لم أرد وما ظننت النداء كان لي ، فما أن طرقنا الباب حتى استقبلتنا الرشاشات وأيادي جذبتنا إلى الداخل بغلظة ، ووجدنا أنفسنا بعد ساعة زمن في سجن كفرسوسة !
أحكم الأحكمين . .
كنت وأمي تحدثني عن اعتقالها لا أقل تأثرا وحزنا على حالها من تأثري وألمي على حال هؤلاء المساكين أسرة عمر مرقة الذين اعتقلوا معها ، فوالدتهم لم تكن قد أفاقت بعد من صدمة مقتل ابنها أيمن 18 سنة وأخته مجد 14 سنة حينما رشهما الخابرات في الشارع انتقاما من أهالي الملاحقين وحسب ! وكانت الأم حتى هذه الفترة فاقدة لتوازنها العقلي وقد نزعت حجابها وعصبت رأسها بعصابة تشد بها على الألم . . فلما وجدت نفسها قيد الإعتقال المفاجيء انهارت المسكينة . . وكنت وأنا في أول ليلة لي في المنفردة أسمع المحقق يصرخ في أذنها بأعلى صوته فيصل الصوت عندي وهي كالبلهاء لا تجيب . . وأما الزوج فكان أسوأ حالا وقد جاوز المسكين السبعين من عمره . . تجره والأم ابنتاهما اللتان اعتقلتا معهما وأغمي عليهما على باب المحقق ، فاضطرت والدتي أن تصفعهما لتفيقا ! وعندما لم يجدوا ما يهمهم من التحقيق مع هؤلاء البؤساء أرسلوهم للمبيت في القبو تلك الليلة ، لكن ولاغتصاص المكان ليلتها بالمعتقلين لم يجدوا مساحة يضعون العجوز فيها فتركوه بهرمه وشيخوخته ينام على أرض الممر أمام منفردتي ، فكنت أدعو الله أن يخفف عنهم المصائب التي تتوالى عليهم واحدة بعد الأخرى . . وأما والدتي فقد جابهتهم من البداية ما شاء الله بحزم . .
قال لها المحقق : -خبرينا عن ابنك المجرم . . أين هو؟ فقالت : أنا ماعندي ابن مجرم . . دير بالك ها !
قال لها : ماذا لديك إذا ؟ مجرم ومغرر بإخواته أيضا على طريق ا لإجرا م . قالت : أنا لا أعرف نفسي إلا أنني ربيت ابني من الجامع إلى البيت ومن البيت إلى الجامعة. فقال لها ساخرا : الله يعطيك العافية . . تعيشي وتربي ! إذا لا تريدي أن تحكي . . والتفت إلى أحد العناصر وقال له : ضعها على الفلقة .
فقالت له : كتر خيرك . . أنا في سن أمك وتضعني على الفلقة ؟ قال لها : ولكنك ما تكلمت . قالت : وماذا تريدني أن أقول ؟ لا الذي يصدق يسلك معكم ولا الذي يكذب ! فتركها – سبحان الله – ولم يعذبها . . وكانت لا أدري كيف تقوم طوال فترة اعتقالها فتشد معهم وتواجههم وتدعو عليهم وكانوا مع ذلك يراعونها من دون جميع السجينات والسجناء الآخرين . . وكانت لا تكاد تنام لا في الليل ولا في النهار ، وتراقب كل صغيرة تجري وكبيرة فلا يفوتها شيء ! وفي بداية اعتقالها في المنفردة كانت تنادي أبا عصام مدير السجن – وهومن درعا – وتسأله : – ماذا فعلت أنا . . ولماذا تعتقلونني ؟ فيجيبها : أنا لا علاقة لي بذلك .
فترد عليه وتقول : بل بيدك كل العلاقة . . أنا أريد أن أرفع كتابا لرئيس الفرع ، أعطني ورقة وقلما . فينهرها وهو يكرر عليها : -ممنوع . . لا تصل . . مخالفة للأوامر . . . فيصيبها القهر ويشتد بها الغيظ وتنادي داعية عليه : شكيتك لواحد أحد . . لأحكم الحاكمين . . وإن شاء الله تقعد قعدتي وما بتصبر صبري . وسبحان الله لم يمر شهر أو شهران حتى قتل هذا الرجل كما بلغنا حادث سيارة . . ودخل المقود في بطنه . . وسمعت أمي بموته قبل أن تموت
رهائن !
ولقد استمر الكمين من بعد اعتقال أمي ومرافقيها ، فاعتقلوا من زميلات السكن ومن الزائرات من غير أي تهمة أو علاقة أكثر من عشر أشخا ص : –
فاطمة : من قارة ،طالبة تسكن معنا . – سوسن س : خريجة طب أسنان من حلب كانت في سنة التدريب بعد التخرج وتسكن معنا .
أختين من ال جاموس إحداهما كانت تسمى منى فيما أذكر ، وهما طالبتا علوم من التل وتسكنان معنا أيضا . –
يسرى ح : وهي أردنية كانت تدرس في جامعة دمشق كلية العلوم الطبيعية وتسكن معنا ، وقد اعتقلوا والدتها أيضا التي كانت في زيارة لها أيام الإمتحان .
مها أ : طالبة طب في دمشق وهي فلسطينية لبنان ية . طالبة أخرى من اللاذقية من ال درويش . كذلك اعتقلوا غادة ع طالبة جامعة تسكن معنا كما اعتقلوا أخاها وصديقا له حضرا لزيارتها فاعتقلا معا . والذي حدث أنهم أخذوهم إلى التحقيق جميعا بعدما انتهوا مني ومن ماجدة واحدة بعد الأخرى ، فلما لم يجدوا فائدة من احتجازهم أطلقوهم . . لكنني ومن شدة تعبي وآلامي لم أحس ساعتها بما حدث رغم أنني كنت يقظة متنبهة طوال الليل
أمى والإضراب
لم ينته اليوم الثاني علي من غير تحقيق جديد . . كنت خلال ساعاتي التي مضت في السجن قد أدركت مجمل ما يدور حولي ، وتذوقت في أول قدومي أشد العذاب وأبشع التهديدات ، فلما نادوني للتحقيق من جديد لم يكن هناك ثمة جديد ! أعادوا طرح نفس الأسئلة وتوجيه نفس الإتهامات بنفس الطريقة ونفس الأسلوب . . وعلى مدار أسبوع كامل استمر البرنامج نفسه ، ولم يتغير فيه إلا طريقة الضرب بعض الشيء ! فمع الضرب بالخيزران والعصي أرادوا مرة أن يضعوني على الدولاب فلم يكن على مقاسي ، فصار المحقق يعوض عن ذلك بالضرب بالخيزرانة وأنا واقفة ، فطال بذلك كل جسدي ، وزاد من بقع الألم وآثار المعاناة ، ولكن شيئا في الأسئلة أو الإجابات لم يتغير ! أما في المنفردة فكانت المتغيرات مستمرة هناك . . والمشاهد المفجعة والحوادث المحزنة لم تتوقف : كانت استغاثات السجناء لا تكاد تكف ليلا أو نهارا . . والويل كل الويل لمن يضبطه العناصر وهو يصلي ! كانوا يمرون عليهم بلا ميعاد ، فإذا ضبطوا أحدهم من الطاقة يصلي أخرجوه فأوسعوه ضربا وتعذيبا بلا رحمة ، وأما الكفر بالله والشتائم البذيئة فكانت ديدنهم حتى عندما يتخاطبون فيما بينهم ، لكنهم لم يكونوا ولله الحمد يضربوننا نحن النساء على ذلك ، وكنا نتمكن من الصلاة حتى تحت مراقبتهم .
وكنت في بعض الأحيان أعطي ماجدة بعض الإشارات بالضرب على الجدار بيني وبينها ، واذا تأكدنا من خلو المكان من العناصر كنت أكلمها وتكلمني عبر الجدار ، وأذكر أن عنصرا أحس بنا مرة نتحدث في الليل فنهض بسرعة وأتى نحونا يصيح : -أنا أسمع صوتا . . من هذا الذي يتكلم ؟ وحتى لا تكون سببا في تعذيب أحد من الشباب قالت ماجدة بثقة : – أنا .
فسالها بغضب : مع من ؟ قالت : مع صديقتي . . أهو حرام؟ ومرت الحادثة ولله الحمد بسلام . وأما والدتي فلم تكن تدخر فرصة للإتصال بي إلا واغتنمتها . . حتى ولو كلفها ذلك الكثير .
كانت كلما أرادت أن تخرج إلى “الخط” توقفت عند زنزانتي وتعلقت بقفلها لا تريد أن تتزحزح حتى يفتحوا لها فتراني وتحدثني ولو كلمتين ، فإذا ملوا أحيانا من سحبها ومدافعتها فتحوا لها الطاقة وقالوا : – هيا شوفيها ولكن بلا كلمتين . . فترفض وتطلب أن يفتحوا الباب لها . . فيقولوا : ممنوع .
ولم تلبث في اليوم الثاني من اعتقالها وبعد خروج بقية البنات من دوننا أن أضربت عن الطعام وعن الخروج إلى الحمام وحتى عن النوم حتى تراني . . ولم أدر بذلك إلا عندما حضر أبو عادل رئيس النوبة يقول لي : -إذا التقيت أمك مرة ثانية فأعطيها دروسا في الدين . . قولي لها إن لجسدك عليك حقا . . ألم تدرسي ذلك في الشريعة؟ خليها تأكل .
قلت له : هي أم وأنت تعرف كيف يكون قلب الأم . . والحق معها . وفي اليوم الثاني ومع استمرارها بالإضراب أتى الأمر بالسماح لها أن تراني وأراها ، فجاء أبو عادل ثانية وأخذني إلى زنزانتها وهو يذكرني بحديث الأمس ، وقال وهو يدفعنى إليها : -مثلما اتفقنا . .قولي لها . . قلت له : ماذا أقول ؟ هي حرة . قال : ألا تريدين أن تساعدينا لتفك إضرابها ؟ قلت : ماذا يمكن أن أفعل . . ألا ترى وضعها ؟ الله يعينها ويساعدها .
فالتفت إليها بغيظ وسالها : هل رأيت ابنتك ؟ ولم تكن رفعت نظرها إلي طوال ذلك الوقت لتقهرهم . . فقالت : لا . فقال : إذا ماذا تريدين ؟ والله حيرتينا ! قالت : أنت تعرف ماذا أريد . . وحتى يأذن الله . . هو أحسن منكم جميعا وهو أحكم الحاكمين . . وهو قادر على أن يقصف رقابكم ! فلم يجد ما يفعله إلا أن يضحك بغباء ويقفل الزنزانة عليها ويعيدني أنا لزنزانتي من جديد ، لكن إضرابها كان – والله أعلم – سببا للتعجيل بإنهاء التحقيق معنا ونقلنا بعد ثمانية أيام قضيناها في المنفردة إلى المهجع ،لننضم هناك إلى بقية النساء المعتقلات .
إلى المهجع
لم نكن خلال الأيام الثمانية قد رأينا أيا من المعتقلات أو اتصلنا بهن باستثناء منيرة التي فتشتنا أول وصولنا ، لكنهن كن قد رأيننا من شق صغير في طاقة باب المهجع وعرفن بوجودنا كما أخبرننا لاحقا ، وذات مرة وأنا في طريقي إلى الحمام رأتني الحاجة مديحة إحداهن بجلبابي الأسود أعبر من أمام مهجعهن فدقت الباب تنادي أحدا من العناصر ، فلما جاءها حسين بادرته قائلة : -أريد أن أنفض البطانية . . افتح لي ! فأدخلني الحمام بسرعة ليخرجها ، فصارت تتحدث بصوت عال لنسمع صوتها ونعلم بوجود نساء وتصيح :فلانة . . هيا تعالي نظفي البطانية معي . . ثم مضت كعادتها تحاول استدراج حسين وسألته : – كأن هناك أحدا في الحمام . . أنا أسمع صوت نساء ! أجابها وقتذاك : لا . . لايوجد أحد . . لوأن هناك نساء لأتينا بهن إليكن .
لكنها استمرت تلح عليه حتى ضجر وسألها : -خبريني أنت . . ماذا على بطانيتك ؟ لك ساعة تنفضين فيها ! قالت : صرصور . . ووالله ماعرفنا وين راح ! قال لها : إي يالله ادخلي وخلصيني . . فعادت وهي تلم البطانية تسأله بصوت خافت : – هناك نسوان أليس كذلك ؟ فأجابها أخيرا : نعم . . وبكرة سيأتون إليكم فاطمئني . لكنها عادت تسأله : ألا تعرف من أين ؟ فأجابها : بكرة جايين لعندكم وستعرفي . . وتجلسوا تتحدثوا معا حتى تشبعوا حكي ! ثم أدخلها وأرجعني المنفردة ، لكنني كنت أسمعهما وأنظر بين حين واخر إليهما بدوري من شق باب الحمام ، فاستأنست بذلك بعض الشيء واطمأننت إلى أن هناك نساء غيرنا في هذا المكان الموحش . . وفي اليوم الثامن وبينما أنا في المنفردة جاء مدير السجن وأعطاني استمارة معلومات عامة عن الإسم وتاريخ الإعتقال وسببه وعدد الأيام التي أمضيت في المنفردة . . فأجبت بشكل عادي وكتبت أنني اتهمت بالإنتماء إلى تنظيم الإخوان ووقعت ، وبعد حوالي نصف الساعة حضر حسين وفتح الباب بسرعة وطلب مني القيام ، فسألته وقد ظننت أنها جولة أخرى من التحقيق والتعذيب والأ خذ والشد والإتهامات : – إلى أين ؟ إلى التحقيق ؟ قال :لا . قلت : إلى الإعدام ! قال : الان سترين .
قلت له : إذا كان الإعدام فسيكون أريح ! فأجابني ساخرا : لا . . لن نعدمك الان . قلت : واذا فمتى ؟ قال بلؤم : حتى تعترفي أنك منظمة .
قلت له : طيب . . هل تعدمونني فعلا إذا اعترفت ؟ قال : اعترفي أولا والأمر بعد ذلك بينك وبين رئيس التحقيق ! أخرجني من المنفردة وساقني عبر الممر إلى باب اخر كبير وأسود فقلت لنفسي : خلاص . . رحت فيها . . إلى التعذيب من جديد ! فلما فتح الباب ودفعني باتجاه الداخل مددت رأسي بحذر فرأيت المكان مليئا بالنساء وكلهن يضعن شاشيات صلاة بيض على رؤوسهن فارتحت قليلا وخطوت نحوهن سلمت ،ولكن الخوف كان لا يزال يتملكني ،فيما أغلق السجان الباب ورائي وعاد بعد هنيهة بأمي وماجدة فأدخلهما وعلقها إلى السقف من يديها المكبلتين خلف ظهرها ،ومضى يعذبها على ومضى، وجعلنا في البداية نتلفت حذرات خشية أن يكون بين هؤلاء النسوة جاسوسة أو مخبرة ،ولم تلبث أمي أن انفجرت بالبكاء في اللحظة التي اندفعت أنا نحوها وعانقتها ، وكأنها أحست أنهم وضعونا في المهجع ولن يخرجونا منه إلى الأبد. . فجعلت تزدادبكاء وتدعو عليهم بحرقة وتجهر بالدعاء. . في تلك اللحظة تقدمت واحدة من النساء وهي تمد إليهايدها وتقول : ابوي . . لا تبكي ولا على بالك . . حطي إيديك ورجليك بمي باردة واقعدي .. ولاراحة لمؤمن إلابلقاء ربه ! كانت هذه هي الحاجة مديحة أ.أول من دخل السجن من النساء كانت الأيام التي أمضيناها معها أكثر من كافية لنسمع منها ومن بقيه السجينات حكاية اعتقالهن وقصص تعذيبهن ومآسيهن .
تعرية . . وتعذيب . . وقص اللسان!
كانت الحاجة مديحة في الأربعينيات من عمرها ، وهي امرأة معروفه في حلب تدرس النساء درو سافي الدين على الرغم من أنها تكاد تكون أمية لاتقرأ أوتكتب وكانت قد جعلت من بيتها قاعدة سكن فيها بعض الملاحقين ،وبينما كانت ذاهبة إلى موعد خارج البيت لتسليم رسالة ألقوا القبض عليها نتيجة فسادة من سامح كيلاني – عميل المخابرات الآخر وجاسوسهم داخل تنظيم الإخوان – وحملوها مباشرة إلى فرع مخابرات أمن الدولة ، وهناك ازدادت نقمة رئيس الفرع عمرحميدة عليها حينما استطاعت رغم التعذيب الشديد أن تراوغهم فترة كافية تمكن الشباب في بيتها من الهرب بعد مضي فترة أمان كانوا متفقين عليها فيما بينهم . . ونتيجة جرأتها وصلابة ردودها ازداد حميدة غيظا منها فختم لها حفلة التعذيب بأن قص لها طرف لسانها بالمقص . . وفقدت قطعة منه بالفعل ! ولقد قصت علينا أن حميدة عراها في البداية من ملابسها وعلقها إلى السقف من يديها المكبلتين خلف ظهرها ، ومضى يعذبها على هذه الحالة ويسمعها أقذع الشتائم وأبشع العبارات . . ثم أمر بإحضار أخيها الأصغر وعرضها عليه بهذه الحالة وساله :هل عرفتها؟ قال الولد بصدق : لا . . من هذه ! أجاب حميدة بتشفي : أختك مديحة . فأغمي على الولد فورا ولم يعد يحس بشيء ، وأعادوه إلى البيت وهو لا يزال في غيبوبته . . واستمرت حفلة التعذيب ساعات عديدة تأكدت بعدها أن الشباب غادروا البيت كما يفترض فدلتهم عليه ، ولما لم يجدوا هناك إلا آثارهم وحسب عاد حميدة غاضبا يقسم أنه سيقص لها هذا اللسان الذي كذب عليهم وخدعهم.
وقصه بالفعل ! لكنها ولله الحمد شفيت بسرعة وعاد اللسان فنما بشكل طبيعي ، بل إن مدير السجن المدني بدوما المقدم عماد وكان سيىء الخلق جدا قال لها بعد ذلك بسنوات : – قطعنا لك لسانك ليقل كلامك فلا أراه إلا ازداد طولا ! وبعد اعتقالها الذي كان قد مضى عليه نحو الشهر أتوا بها إلى كفر سوسة مرورا بسجن المسلمية بحلب مع مجموعة السجينات الأخريات : أم شيماء ، وزوجة عبد العزيز سيخ ، وعائشة ق . فيما أفرجوا عن عدد اخر من البنات والنساء كانت بينهن – فيما روين لنا – سناء . . . . . ، و . . . . . . وكانت تسكن مع الحاجة مديحة وتلازمها في بيتها ، ولذلك كانت تدعوها الحاجة ابنتها ، وزوجة عبد القادر حربلي ووالدتها من بيت القطان ، وسيدة أخرى وكانت عروسا في شهرها السادس وفي السادسة عشرة من عمرها ، أمسكوا زوجها نتيجة وشاية من سامح كيالي أيضا وجعلوا يعذبونه ليعترف بمكان القاعدة التي اتهم أنه يديرها ، فلما لم يفعل أحضروا الزوجة بأمر من حميدة أيضا واعتدوا عليها أمامه قبل أن يرسلوه إلى تدمر فيقتل لاحقا هناك في المجزرة الكبيرة التي جرت . . وأفرجوا عن المرأة وقد سقطت عنها كل الإتهامات !
وترك لها جوربان
تقدمت الحاجة مديحة تخفف عن أمي وعنا ، وتبعتها بقية البنات : أم شيماء ، وعائشة ق . ومن ورائهما كانت منيرة التي فتشتني أول دخولي تنظر وتبتسم ! وأما عائشة فهي طبيبة من حلب قامت بعلاج جريح من الشباب الملاحقين فبلغ النبأ المخابرات واعتقلوها من بيتها ، وقالت لهم وقتها إن أشخاصا أتوا إليها كأي طبيب وسألوها أن تعالج جريحا ففعلت ، ولم تسألهم عن هويتهم لأن مهمتها الإنسانية خدمة الناس لا التحقيق معهم ، لكن جوابها لم يرق لهم ، واعتقدوا أنها تداوي كل جرحى الملاحقين ومصابيهم ، وقد تولى التحقيق معها مصطفى التاجر أول الأمر فسألها في البداية : -أترضي أن تبقي بلا حجاب ؟
قالت : لا طبعا . . قال : فما رأيك إذا أن تبقي بلا جلباب ؟ فانتفضت تتطلع إلى مكان تلتجئ إليه ، لكن المجرم لم يترك لها فرصة وهجم عليها كالوحش يصفعها ويضربها وهو يمزق ثيابها قطعة بعد قطعة وهي مكبلة تقاوم بكل ما أوتيت من قوة دون أن تستطيع الدفع . . فلما مزق كل شيء ووصل إلى جواربها قال لها : -سأتركهم عليك حتى لا تبردي ! وأمر فمددوها على “بساط الريح ” ومر عليها بكافة أنواع التعذيب : الخيزران والعصي والكهرباء . . علاوة على نزع نظارتها الطبية وحرمانها من استعمالها فترة من الزمن . . ثم أتى دور عمر حميدة فأجلسها على كرسي وقد كبل أيديها وأرجلها من الخلف ببعضهم البعض وجعل يطفىء أعقاب السجاير فى اعف منطقه ببدنها ليطفىء بعضا من نيران حقده الاسود ويودعها الزنزانه من ثم بضعه ايام قبل ان تنقل مع بقيه المجموعه الى كفر سوسه
فنون التعذيب !
كانت إيمان ت . “أم شيماء” راجعة إلى بيتهم مع زوجها وابنتها الرضيعة شيماء وكانت في الشهور السبعة أو الثمانية من عمرها ، وعندما بلغوا مدخل البناية لاحظوا مؤشرات غير طبيعية في المنطقة ، فتقدمت ايمان ووضعت المفتاح في القفل لتفتح ، فيما كان الزوج والطفلة معه ينتظر أسفل الدرج ، فما أن فعلت حتى أحست كما روت من بعد صوت تلقيم السلاح من الداخل ، فأعطته إشارة سريعة بالهرب ، في الوقت الذي فتح عناصر المخابرات الباب بسرعة وأمسكوا بها وسحبوها إلى الداخل ، وفي إحدى غرف البيت دخل عليها رئيس الدورية يسألها عن زوجها وعن الشباب الذين كانوا معها في البيت لأ نهم دخلوه ولم يكن فيه أحد ، وهؤلاء جميعا أبلغ عنهم سامح كيالي ، فقالت إنها لا تعرف شيئا ولا تعرف أين ذهب زوجها ولا من كان معه ، فجعل يهددها بالإعتداء عليها إن لم تبلغه المعلومات فأصرت على الإنكار ، فنفذ تهديده بالفعل وحاول فعل ذلك ، لكنها قاومته بشدة وراحت تتصارع معه فأنجاها الله وألقى في قلبه الرعب فلم يتمكن منها كما أراد . . وبعد ذلك نقلوها إلى الفرع عند عمر حميدة الذي اتبع نفس الطريقة معها ، فشبحوها في السقف بأن كبلوا أيديها خلف ظهرها وعلقوها منهما مرفوعة عن الأرض فكأنما هي الذبيحة بين يدي الجزار ، وجعلوا يضربونها ويعذبونها وهي على هذه الحالة لا حول لها ولا قوة ، ثم وضعوا لها الكهرباء في صدرها والحليب يقطر منه زيادة في التعذيب والإهانة . . وبعد انتهاء التحقيق ومن غيرأن تدان المسكينة بشيء نقلوها إلى كفر سوسة مع عائشة والحاجة مديحة ، لنجتمع واياهن في هذا المهجع المقيت !
سحل القتلى
أما رابعة نزيلات المهجع وقتها فكانت أما من إدلب لأربعة أو خمسة أولاد من إدلب اسمها فوزية ح . هذه السيدة استشهد زوجها وهو يقاوم أثناء مداهمة قاعدتهم بحلب ، وقامت السلطة بعد مقتله بسحل جثته أمامها بالدبابة في شوارع المدينة ثم اقتادوها للسجن وعذبوها أشد العذاب .
وعلى الرغم من أنها لم تتحدث عن ذلك كثيرا وكانت من النوع الذي يؤثر الصمت إلا أننا بقينا نرى اثار التعذيب على أرجلها والزرقة مكان أظافرها المقلوعة إلى حين ، وبقيت فوزية في الشهور الأولى معتدة على زوجها لا تكاد تكلم أحدا وتسارع كلما فتحوا الباب أو الطاقة فتغطي رأسها بالبطانية وتدير وجهها إلى الجدار .