أرشيف يوم: مارس 5, 2021

أدب السجون.. إضاءات داخل العتمة

الصورة:

إبداعات فريدة الملمح، تغرف من مخزون قلم هو مزيج نفثات وخطرات وآهات، مجبولة بترنيمات عوالم الروح الغارقة في التأمل وبمفردات التجربة المريرة..

هكذا يوصف بعض النقاد والمحللين ماهية الأعمال الروائية التي كتبها مثقفون كثر، يوما ما، بينما كانوا يقبعون خلف قضبان السجن، إذ سجلوا فيها ومعها، أروع نماذج تجاربهم، ومن بينهم صنع الله إبراهيم،الذي قال في أحد حواراته، إنه غير نادم على الفترة التي قضاها في السجن، بل يرى أنه مدين إليها كونها أتاحت له القدرة على التفكير بصفاء، ومراقبة البشر والتعرف إلى سلوكهم.. فهل حقا، يُمكن القول إن تجربة السجن لدى الكاتب، نبع خصب، كونه يستفيد من زخمها، وينجح في ترويضها وتشكيلها؟

لا يتردد روائيون كثر، عايشوا واختبروا تجربة السجن، في التأكيد ضمن أحاديثهم، على انهم يحنون إلى ذكرى فترة السنوات التي قضوها في السجن، ونجدهم يروون سيرا وحكايا لا تنتهي، عن دورها في صقل مستوى خبراتهم، ومدهم بأدوات ومهارات الرواية المتقنة، المحاكية روح الواقع، وكذا النضح من عمق الوجدان الانساني.

هزيمة السجان

تعرضت نخبة من الكتاب والمفكرين والأدباء، إلى ألوان القهر والظلم، من خلال السجن، سعياً إلى كسر حدة أقلامها وتأطير رؤاها، ومنعها من التعبير عن الوجدان المجتمعي بجرأة وشفافية، ومن بين أبرز الأسماء في هذا الصدد: صنع الله إبراهيم، جمال الغيطاني، مصطفى أمين، عبد الرحمن الأبنودي. إذ ذاق هؤلاء مرارات الاعتقال والحبس.

لكنهم انتصروا، في النهاية، على سجانهم عبر تحويلهم تلك المواقع خلف القضبان، إلى مرتع فكر وتأمل، بل وزوادة ثرية المكونات، تحصن تجربتهم الإبداعية، فتهزم توليفة القهر والكبت، لتحول الظلام فضاءات نور توقد جذوتها بقوة، فتشع كاشفة غوامض وخبايا الحياة خارج السجن، معززين إيمانهم، خلالها، بقدرة الكلمة الحرة على مواجهة الظلم، والتصدي لطغيان الحاكم المستبد.

«عريان بين الذئاب»

تحكي الأديبة سلوى بكر، عن رأيها في شأن سمات وتاريخ « أدب السجون»، مبينة أنه ظاهرة أدبية قديمة، إذ إن وجود القهر الإنساني والاستعباد، دائما ما كانا السبب في وجود هذا النوع من الأدب. وتشير سلوى إلى أن أول من كتب عن أدب السجون في مصر، هو محمد شكري الخرباوي، وقدم كتابا بعنوان: «55 يوما في مخبأ».

وتضيف: «إن من أبرز الكتاب الذين مروا بهذه التجربة، أيضا، الروائي صنع الله إبراهيم الذي عبّر عن تجربة سجنه، من خلال رواية «تلك الرائحة».. كما أن الاديب الراحل عباس محمود العقاد، تعرض للسجن، بتهمة سب الذات الإلهية. ونجد أن بعض المناضلين، وليس الكتّاب فقط، خلقت فيهم تجربة السجن، الرغبة في الإمساك بالقلم؛ لتسجيل التجربة التي مرّوا بها، ومن بين هؤلاء فخري لبيب، الذي عبّر عن سجنه، من خلال كتاب (عريان بين الذئاب).

وتستعرض سلوى بكر، قيمة أدب السجون، لافتة إلى انه يسجل معاناة الإنسان في زمن ما، وداخل السياق التاريخي الخاص بهذا الزمن، حتى لا ننسى، وموضحة أنه أدب يمثل ظاهرة في مجتمعاتنا العربية، تتعلق بالقمع السياسي، وواصفة هذا الأدب بأنه أدب مؤلم ويضغط على الروح. كما تتحدث عن تجربة اعتقالها: «تعرّضت للاعتقال مع مجموعة من المثقفين والصحافيين، بتهمة محاولة قلب نظام الحكم، وتحريض العمال على الإضراب، خلال حكم الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك..

وعلى الرغم من أن تجربة اعتقالي لم تستمر سوى 15 يوما، قضيتها في سجن القناطر، فإنها كانت غنية، إذ التقيت بالسجينات ووجدتهن في صورة وهيئة سببت لي صدمة بالغة, إذ رأيت جانبا لم أشاهده من قبل، في المجتمع المصري،باعتباره بعيدا عن الأضواء، ولا يُرى في الحياة اليومية العادية، وهو ما دفعني إلى الكتابة عن المسجونات كضحايا، وعن أشكال التمييز الموجودة في المجتمع، فكانت كتابة أدبية بعيدة عن السجن السياسي، كما كتبت أيضا رواية لتبيّان حقيقة أن القمع السياسي لا يستجيب من الوهلة الأولى».

حكاية ثلاثة مقالات

يؤكد صلاح عيسى أن أدب السجون، نموذج لأصدق الكتابات التي يكتبها صاحبها، فهو ناتج عن معاناة حقيقية، يحياها مؤلفها ولا يستطيع أن يعبّر عنها، إلا من خلال الورقة والقلم، ليصوّر معاناته داخل السجن.

ويروي عيسى حكايته مع أدب السجون فيقول: «في عام 1966، نشرت ثلاث مقالات في إحدى المجلات اللبنانية، تحت عنون «ثورة 23 يوليو بين المسير والمصير»، وبعدها أمر الرئيس جمال عبد الناصر، باعتقالي، بتهمة الإساءة إلى الثورة ولشخصه، ووضع العيب في النظام الاشتراكي.

وذلك رغم أن قصدي لم يكن أبدا الإساءة إلى الثورة أو إلى شخص الرئيس الراحل، بل كان لتوضيح الوضع السياسي غير الديمقراطي، الذي كانت تعانيه مصر.. وأود أن أشير هنا، إلى أنني، وفي الفترة نفسها، كنت منضويا في إطار تنظيم تنظيم سياسي سري».

ويتابع عيسى، ساردا ملامح وجوانب ما مر به، أثناء تلك الفترة: «نقلت إلى سجن الاستجواب الموجود في سجن القلعة، والذي تنفصل فيه كل علاقة للإنسان بالعالم الخارجي، فلا صحف ولا مذياع ولا أهل أو أصدقاء، وبقيت على تلك الحال، حتى نقلت إلى سجن طرة، فبدأ يحدث الاختلاط بيني وبين المساجين اليساريين والإسلاميين..

وكان الحصول على الكتب، من ضمن الصعوبات التي تواجهنا؛ ذلك بفعل تشديد إدارة السجن على عدم دخول أي أوراق أو كتب إلى المساجين، وكان الحل الوحيد أمامنا، التحايل على إدارة السجن، بزعم أننا نريد إعادة التقدم إلى امتحانات الشهادة الثانوية العامة، بغرض تحسين المجموع الكلي، وبهذا الإجراء كنا نستطيع إدخال الكتب إلى السجن».

صالونات ثقافية «سجنية»

وعن طبيعة قراءاته، وكيفية إثرائها مخزونه الإبداعي، يقول عيسى: “بدأت أكتب في السجن بعد أن تزودت بقراءات مهمة لكتب تاريخية وسياسية متنوعة، وكنا اعتدنا، نحن السجناء، إقامة فعاليات صالونات ثقافية في السجن، واستمرت هذه النشاطات، إلى أن خرجت منه.. ولكن سرعان ما عدت إليه، مرة أخرى، بتهمة توزيع المنشورات في التظاهرة الطلابية التي خرجت، احتجاجا.

وتعبيرا عن الغضب الشعبي لنكسة 1967، فعندها غضب عبد الناصر، وأقسم أنني لن أخرج من السجن طوال الفترة التي يكون فيها على قيد الحياة، فاتخذت من القلم والورقة خنجرا لأقتل به الهزيمة، ونشرت 15 مقالاً .. تحت اسم مستعار في جريدة (المساء)، وألفت 72 رواية ومجموعة قصص قصيرة، جمعتها في كتاب :

(بيان مشترك ضد الزمن)، إلى أن توفي ناصر، وخرجت من السجن متمنيا أن نحيا عصرا ديمقراطيا مختلفا عن ذي قبل، ولكني وجدت أن الوضع لم يتغير كثيرا في عهد السادات، واعتقلت شهورا عديدة، إلى أن أتى عهد الرئيس مبارك، فقرّرت التفرغ التام للصحافة والبحث التاريخي».

«أصعب المراحل»

تصف الكاتبة فريدة النقاش، رئيسة تحرير صحيفة الأهالي، فترة اعتقالها، بأنها من أصعب المراحل التي مرّت بها في حياتها، ففي الوقت نفسه، كان زوجها رهن الاعتقال، وتوفي أخوها أثناء اعتقالها، مؤكدة أنه لم يهوّن عليها الأمر، إلا إيمانها بالإصلاح الذي كانت تسعى إليه، مشيرة إلى أنه في المرة الاولى التي سُجنت فيها، كان معها 24 امرأة، ومن بينهن الكاتبات: نوال السعداوي ولطيفة الزيات وأمينة رشيد”.

وتلفت فريدة إلى أنه، ولكثرة اعتقالها، كانت حقيبة السجن لديها، جاهزة دائما، إلا أنها، ورغم هذا، لم تنقطع عن القراءة طوال فترات الاعتقال، وخاصة قراءاتها المعميقة في مجال التاريخ المصري والسياسي عموما. وتختار هنا الاشارة الى تجربة محددة في ما تعرضت إليه من اعتقالات، إذ انها سجنت عقب قرارات سبتمبر الأسود، ووضعت في عنبر يطلق عليه اسم:

(عنبر الجرب)، فتعرفت فيه على صوت الفنانة عزة بلبع، والتي كانت تغني مع الشيخ إمام عيسى، ثم اعتادت، حينها، هي وزميلاتها، على تنظيم برنامج ثقافي، يشارك الجميع فيه، فيجري النقاش عبره، حول كتاب أو موقف ما.

وتتابع: “أردت تخليد هذه الذكرى وتلك التجربة، فألفت كتاب (السجن دمعتان.. ووردة)، كتبت فيه ما أضحكني وما أبكاني”.

خيوط الظلام

يتطرق الكاتب التونسي سمير ساسي، الى تجربة سجنه، على أساس ما أفادته به من إنضاج لخبراته، وصقل لإمكاناته، ويوضح أنه بقي مسجونا لأكثر من عشر سنوات، بينا كان في مقتبل العمر، وذلك بتهمة الانتماء إلى جمعية غير مصرح لها.

ويضيف: “كنت في ذلك الوقت، ضمن الفريق الطلابي التابع لجمعية النهضة.. ونجحت، فعليا، في الانتصار على السجن، لأنني لم أدعه يهزمني، فحركت جذوة الإبداع في مكنوناتي، وصقلت معارفي وخبراتي، ومن ثم كتبت وانا في السجن، رواية “خيوط الظلام” التي تفضح السجون التونسية في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، حيث وصفت من خلال هذه الرواية، أصناف التعذيب التي تتم ضد المسجونين”.

ويبين ساسي، إلى أن فترة التسعينيات من القرن الماضي، شهدت تعرّض الكثير من المثقفين والناشطين التونسيين، إلى السجن السياسي، ويسترسل: “كان أمامي خياران؛ إما الرضا بما يعرضه الجلاد أو الصبر، والصبر أيضا كان نوعين، إما السلبي منه أو الإيجابي، فاخترت النوع الثاني.

وهو الصبر الإيجابي الذي قرّرت أن أحوّله إلى صبر جميل وإبداع جمالي، وحاولت أن أعبّر عن تجربة السجن في البداية من خلال الشعر، ولكن لم تستطع القصائد أن تحكي بعمق عن هول ما رأيت، فكان الحل الأمثل عن طريق الرواية، وبذا خرجت “خيوط الظلام”.

ويختم الروائي التونسي مؤكدا على أن هذه التجربة، لا تزال محفورة في وجدانه، ولا يمكن نسيانها، فالإنسان لا يستطيع أن ينسى كرامته التي أهينت، فما كان خلالها، أشياء لا يمكن محوها من الذاكرة، إلا انها، لا يجب ان تكون عائقا أمام استمرار الحياة، بل حافزا على العطاء.

المصدر البيان

ينام الليل وأبقى أنا زكرياء بوغرارة

طال  نوم الليل  بهذي الروابي وهذي الشقوق

ينام الليل وأبقى أنا مستفيق

ينام  طويلا على حافة قهر

وأبقى أنا أرقب دمي المهراق

يسيل يسيل كقارورق عطر

تريق الشذى  وتنثر  العبق في هذا الطريق

ينام الليل  وأبقى أنا…..

قلقا موحشا

لا أستريح

فمتى ؟؟؟؟

تنتفض يا رفيق

متى تستفيق؟؟؟

قبلما يستفيق الليل الأسود

الذي ينام ملئ أجفانه  ..

 وأبقى انا مستفيق

على أمل في هطول المطر

على عجل لإطفاء الحريق

2

جاء الظلام كالموت الزئام

والليل ينام

وأبقى أنا أرقب من ثقوب الدجى

أملا

ربما

حلما

ربما

في السكون السحيق العميق

ينام الليل ملئ أجفانه

يراقص هدبيه على فراش وثير

وأبقى أنا قلقا موحشا صدئا

كشمعة  او ل قطرة تسكبها …

دمعة لاشتعال الحريق

3

لعل الليل الذي ينام قرير العين

بعد مؤامراته في الخفاء

يحوكها بمكر الدهاء

ليظل الظلام يلفنا

في هذا الطريق الطويل السحيق

قد جفاني الكرى عندما نام الليل البهيم

وبقيت أنا موقدا..

كوهج جمرات الحريق

مقرفصا في الظلام

 في ليالي جمرنا

بعمق أقبية الزنازن الموحشة

أرقب طلائع فجر ينبثق

معلنا من أفق قد بدا

انبعاث الشروق….

سجن سلا  المحلي 2 اقبية العزلة حي هاء  المنفردة رقم 3

صيف2015

تحرير

رواية ليالي كرداسة الحلقة الخامسة المهندس أنور رياض

(5) قرأ الشيخ المريض .. الإمام المرشد .. الأوراق في عناية شديدة .. ثم سألها فجأة

هل تثقين في عبد الفتاح إسماعيل ؟

قالت في ثقة :

– لو رأيته فضيلتك … لوثقت به قبل أن تبادله التحية … شاب عليه مهابة الشيوخ .

– هذا واضح في كتابته … اسمعي يا حاجة زينب … طريق المجاهدين لا يفرش بالورد … هذه المحنة لن يجتازها من يأخذ بالرخصة … وإنما هي في حاجة إلي أولي العزم … استمروا في سيركم … ولا تلتفتوا إلي الوراء .

– ولكن هناك من الإخوان القدامى الذين ينصحون بالكمون … وعدم الحركة حتى تهدأ العاصفة .

بادرها بسرعة :

– وهل لديهم موعد محدد لهدوء العاصفة ؟؟ .. لا تغتروا بعناوين الرجال وشهرتهم … أنتم تبنون بناء جديدًا

– وبماذا تنصح فضيلتك عن البرنامج

– برنامج الإخوان ومنهجهم في التربية معروف … القرآن … والحديث والسيرة … ورسائل الإمام الشهيد حسن البنا … ووصاياه … تحدد الحركة في خطوط عريضة … والكتب كثيرة … ولكن ضموا إلي مراجعكم المحلي لابن حزم .

قال لها زوجها :

– زينب … أريد أن نتحدث قليلاً .

– سكتت … أدركت ما يدور في رأسه … استطرد قائلاً :

– يتردد علينا … في الفترة الأخيرة … عدد من الشباب … هل هو نشاط لالإخوان المسلمين . قالت دون تردد :

– نعم .

– أي نوع من النشاط ؟

أجابت في حسم :

– إعادة تنظيم الجماعة .

قال في قلق واضح :

– ولكن يا زينب … لعلك تدركين مدي خطورة هذا الأمر .

قالت في سعة من الصدر :

– هل تذكر يا زوجي العزيز … عندما تم اتفاقنا علي الزواج … ماذا قلت لك

– اشترطت شروطًا ولكني مشفق عليك من الطريق … أنت تتعرضين لجبابرة لا يرقبون في أحد إلاَّ … ولا ذمة .

قالت في ود :

– سأكرر لك ما قلته يومئذ … للتذكرة … قلت لك يومها هناك شيئًا في حياتي يجب أن تعلمه أنت لأنك ستصبح زوجي … وما دمت قد وافقت علي الزواج فيجب أن أطلعك عليه … علي ألا تسألني عنه بهد ذلك … وشروطي بهذا الأمر لا أتنازل عنها … أنا رئيسة المركز العام لجماعة السيدات المسلمات … وهذا حق … ولكن الناس في أغلبهم يظنون أني أدين بمبادئ الوفد السياسية … وهذا غير صحيح …

سكتت لحظة … ثم استأنفت … وقد ازداد حماسها :

– الأمر الذي أؤمن به … واعتقده … هو رسالة الإخوان المسلمين … ما يربطني بمصطفي النحاس هو الصداقة الشخصية … لكني علي بيعة مع حسن البنا علي الموت في سبيل الله … غير أني لم أخط خطوة واحدة توقفني داخل دائرة هذا الشرف الرباني حتى الآن … ولكني أعتقد أنني سأخطو هذه الخطوة يومًا ما … وأحلم بها … وأرجوها … و … لكن إذا تعارضت مصلحتك الشخصية … وعملك الاقتصادي مع عملي الإسلامي … ووجدت أن حياتي الزوجية ستكون عقبة في طريق الدعوة … وقيام الدولة الإسلامية فسوف تكون علي مفترق طريق …

– قاطعها قائلاً : أنا لازلت أذكر ردي علي شروطك … أنا سألتك حينها … ماذا يرضيك من المطالب المادية التي تطلبها كل عروسة … من مهر أو مطالب الزواج … قلت أنه ليس لديك سوى ألا أمنعك عن طريق الله … فقد كنت لا أعلم أن لك صلة بالأستاذ البنا … وإنما كنت علي علم فقط بالخلاف بينكما بشأن انضمام جماعة السيدات المسلمات إلي الإخوان المسلمين .

– قالت : وأنا أذكر موقفك الكريم … عندما أطرقت والدموع محبوسة في عينيك سكت متأثرًا … وهي تضيف : اتفقنا يومها … رغم أنه كان يراودني خاطر إلغاء الزواج … والتفرغ كلية للدعوة أثناء محنة 1948 .

انتظرت لتلتقط أنفاسها من التأثر ، وأردفت : أنا – اليوم – لا أستطيع أن أطلب منك أن تشاركني في الجهاد … ولكن من حقي أن أطلب منك ألا تمنعني منه … المسئولية وضعتني في صفوف المجاهدين … أرجو ألا تسألني ماذا أفعل … ولتكن الثقة بيننا تامة … كما كانت دائمًا بيننا … فأنا لا أستطيع أن أنسي أنني وهبت حياتي – منذ كنت صبية في الثامنة عشر من عمري – للدعوة في سبيل الله … وقيام دولة الإسلام … وعندما يتعارض هذا الهدف مع الزواج … فسينتهي الزواج … وتبقي الدعوة .

قال في تأثر : لقد اخترت يا زينب …

قالت وقد خنقتها العبرات : أنا أعلم أن من حقك الأمر … وعلي واجب الطاعة … ولكن الله أكبر في نفوسنا … من أنفسنا … ودعوته أغلي من ذواتنا … وأدعو الله أن يجعل أجر جهادي قسمة بيننا بلغ تأثره مداه

– سامحيني يا زينب … اعملي علي بركة الله … يا ليتني أعيش وأري غاية الإخوان وقد تحققت … وقامت دولة الإسلام … ليتني في شبابي وأعمل معكم .

رواية ليالي كرداسة الحلقة الرابعة المهندس أنور رياض

(4) قالت لها مديرة منزلها

قالت لها مديرة منزلها :

– الشيخ عبد الفتاح .

ردت الحاجة زينب :

– ادخليه إلي الصالون .

– لقد فعلت .

كانت قد قامت من النوم لتوها … بمجرد أن جهزت نفسها … دخلت عليه … حبست عبارات الترحيب … واستدارت خارجة … لتعود وهي تحمل بطانية وتلقيها عليه … فقد استغرق في النوم بمجرد أن لمس جسده الكرسي اللين …

وقالت للمديرة :

– اتركيه … إلي أن يستيقظ … وجهزي له فطورًا

لم يلبث إلا ساعة … قام بعدها فزعًا .

قالت :

– يبدو علي وجهك الإرهاق

– لم أنم منذ الأمس … لن ألبث إلا قليلاً … لدي موعد بعد ساعة في مسجد الملك في حدائق القبة … مع بعض الأخوة .

قالت :

– لازال الوقت مبكرًا … تناول إفطارك

– سأكتفي بالشاي … أخبريني … ماذا قال لك الإمام المرشد .

– لقد أذن لنا أنا وأنت بالعمل … وأوصانا بالحذر … ولا ينضم إلينا إلا من يرغب … ونري فيه الصلاحية … كما طلب منا موافاته بالتفاصيل .

– هذا خبر طيب … الحمد لله

أخرج من جيبه مظروفًا :

– هذه ثلاثمائة جنيه

لازالت مشفقة عليه … تناولت النقود من يده الممدودة :

– بعض الراحة ستعطيك طاقة للحركة … ويمكنك إدراك الموعد لو ركبت تاكسي … وهذا جنيه تبرعًا مني لك

أمسك بالجنيه … ثم رده إليها :

– ضعيه إلي الثلاثمائة جنيه … هناك من هو أكثر حاجة إليه مني … نحن لا نركب التاكسي … الذين يركبون السيارات استرخوا … ولم يعودوا صالحين للعمل

قالت تراجعه :

– قد لا تدرك موعدك

قال في ثقة :

– الذين ينتظرونني هم من جند الله … ولن ينصرفوا حتى أصل إليهم

قال باسمة وهي نودعه :

– أنا أركب السيارة … ولم أسترخ … ولم يتوقف نشاطي … بل – كما تري – يزداد إصراري … واستمراري في العمل من أجل الدعوة

قال في مودة و … صدق :

– هذا ابتلاء نجحت أنت فيه … وربما لا أنجح أنا فيه

استطرد وهو يناولها مظروفاً متضخمًا بالأوراق :

– لقد نسيت … وما أنسانيه إلا الشيطان … هذه الأوراق فيها حصيلة جولتي … اقرأيها … ثم أعرضيها علي فضيلة المرشد … وبالطبع يتم حرقها … بعد ذلك .

رواية ليالي كرداسة الحلقة الثالثة المهندس انور رياض

(3) سيدة ارستقراطية

سيدة ارستقراطية … غنية … الفيلا … والعربية … والدخل … الزوج رجل أعمال … لديها كل ما يجعلها تنتمي إلي المجتمع الهاي … هذه هي الحاجة … زينب الغزالي

كان الشعب المصري عند نشأتها يعيش إما تحت خط الفقر … وهم الغالبية العظمى … أو علي خط الفقر نفسه … وهي شريحة رقيقة وصفوها ظلمًا بالطبقة المتوسطة … ويفصلهما عن الطبقة الثرية مسافة قد تكون أبعد مما بين السماء والأرض . وعندما يكون الإنسان لديه كل شيء من متع الدنيا … فإن مشكلته الأساسية تكون هي … طرد الملل … كيفية قضاء الوقت … أو قتله … فالسيدة الثرية لديها الشغالات والخدم والحشم والطباخ … تقوم من النوم في كسل وكل همها هو كيف ستقضي ما بقي من نهارها … وأين تمضي ليلها … الاختيارات أمامها محدودة … مكررة … بين الرغي في التليفون … وماتش نميمة … وبين زيارات لفلانة … وعلانة … واغتياب خلق الله … وتقطيع في سيرة الأصدقاء ، و( الأعدقاء ) علي السواء … ثم النادي … وهي أيضًا جلسات لت وعجن … وأحيانًا تقيم الحفلات والولائم … وهي مناسبات للتباهي وإثارة الحسد … ومباريات للتنافس باستعراض الملابس الفاخرة … والعطور النادرة … والتعالي بما تملكه من مجوهرات بكافة أنواعها … ذهب … أحجار كريمة أو … ( لئيمة ) … مع المطرب … أو مطربة … مغني أو ( مجعر ) … قد لا يسمعه أحد وهو يرقع بموال عن الليل وغدر الحبيب … والتخت الموسيقي يساهم في زيادة تلويث الجو بالضوضاء التي تحدثها رءوس قد لعبت بها الخمر … وضحكات تفرقع مثل الطلقات الفشنك …

زينب الغزالي … رفضت هذه الحياة … بفطرتها … رغم صلتها برجال الوفد وباشاواته … علية القوم … الوزراء … الأسماء اللامعة في عالم السياسة … والنفوذ … سراج الدين … النحاس … الزعيم الجليل … اختارت … وآثرت أن تستجيب لدواعي الإيمان … فأسست جماعة السيدات المسلمات … والتف حولها … وتجمع معها كل من هو نافر من حياة الفراغ والضياع … وكل من هرب يجلده من مستنقع الشياطين … جماعة لفعل الخير … مساعدة الفقراء والمحتاجين … ورعاية اليتامى … يدعم هذا الاتجاه … ويسنده … توعية … ودراسات … ومحاضرات تدعو إلي دين حنيف لا تتم الصالحات إلا به …

كان ذلك عام 1936 :

اتصل بها الشيخ حسن البنا … يدعوها إلي الانضمام بجماعتها إلي الإخوان المسلمين … الحاجة زينب لها شخصيتها المستقلة … لم ترفض … لأنها سمعت عن البنا ودعوته … وهو رجل صادق … متجرد … أمين … توجهاته تنفق مع أهدافها … إلا أنها أيضًا لم توافق … كان رأي البنا أن توحيد الجهد يعطي ثمرات أسرع … والوحدة أساسًا هدف إسلامي … وكان رأيها أن في التنويع مجال أوسع لخدمة الإسلام والمسلمين … وعرضت بدلاً من الاندماج … التعاون والتنسيق … ولأن البنا كان شعاره الذي يرفعه دائمًا … نتعاون فيما نتفق عليه … ويعذر بعضنا بعضًا فيما نختلف فيه … فقد وافق . وهكذا عرف الإخوان الحاجة زينب الغزالي محاضرة في دار الإخوان … وفي اجتماعات الإخوات المسلمات .

أيقظتها محنة الإخوان الأولي … عندما أصدر النقراشي قراره بحل الجماعة عام 1948 … استفزها الظلم … والكيد الحقود لضرب الدعوة الإسلامية … القوة الصاعدة التي تتصدي للمستعمرين الانجليز … والصهاينة الذين يغتصبون أرض فلسطين … الأيدي التي تضرب … مصرية … قاصرة … وغبية … والمحرض … عدو خبيث … والمتلقي للإيذاء … هو المدافع الحقيقي … والمدرك لأهدافهم ونواياهم … والضحية في النهاية … هو الشعب المسالم … الموجود دائمًا في حالة تحذير … وفقدان الوعي . أحست بأن الضربة أصابتها … فهي جزء من الدعوة الإسلامية … وأحد روافدها … لم تنتظر من أحد أن يشعرها بما يجب عليها … فبدأت حملة لجمع التبرعات وإعالة أسر المعتقلين … في الوقت الذي بدت فيه حكمة الهروب من السفينة الغارقة … وأنجو سعد … فقد هلك سعيد … إلي هنا … ومن واحدة ست … فإن الشكر يكون واجبًا مستحقًا لها … إلا أن طبعها المتحدي دفعها إلي الاتجاه المعاكس للريح … والتيار … أرسلت إلي البنا … ورقة كتبت فيها :

سيدي الإمام حسن البنا …

زينب الغزالي الجبيلي … تتقدم إليك اليوم … وهي أَمَة عارية من كل شيء … إلا … من عبوديتها إلي لله … وتعبيد نفسها لخدمة دعوة الله … وأنت اليوم الإنسان الوحيد الذي يبيع هذه الأَمَة بالثمن الذي يرضيه لدعوة الله تعالي

في انتظار أوامرك … وتعليمات سيدي الإمام

وكانت بيعة … أكدتها بصراحة أكثر … عندما قابلته قبل استشهاده علي سلم دار الشبان المسلمين …

اللهم أني أبايعك علي العمل لقيام دولة الإسلام

وأرخص ما أقدم في سبيلها دمي والسيدات المسلمات بشهرتها

وهي البيعة التي ذكرها لها عبد الفتاح إسماعيل عندما قابلها فيما بعد أثناء موسم الحج … وتكررت نفس المعادلة مع التعديلات إلي الأسوأ … الأيدي التي تضرب … أيضًا … مصرية … ولكنها هذه المرة أيدي نجسة … غبية حاقدة … نعم … ولكنها علي دراية ومشتركة … ومتورطة … والمحرض استعمار جديد وصهاينة لئام علي الحدود … عقدوا الصفقة … علي الطرف الأول الوفاء ببغية وطغيانه أملاً في الثمن … وعليهم كطرف ثاني هو الخداع … والمراوغة … والثمن الذي سيدفعونه … هو الغدر لطرف لا يستحق منهم إلا الاحتقار … حيث لا يوجد في أدبياتهم حاكم يستحق احترامهم يقوم بإهدار إنسانية شعبه وأبناء جلدته … أما بقية المعادلة … فهي … هي … لم تتغير … الضحية شعب مسالم يعيش في غيبوبة وغفلة .

كانت محنة 1954 عبارة عن نفق ضخم مظلم … معتم … مقبرة هائلة … أرادوا … دفن الإخوان المسلمين فيها … دعوة … وفكرًا … وشخوصًا أحياء … إذا لزم الأمر … كانت موجات الحقد طاغية … تقذف حممًا بركانية تجرف أمامها بنيان الدعوة في طوفان لتقبره في هذا النفق .

لم تتخل عن دعوتها … ولكن التحدي كان عاجزًا عن الوفاء بطلبات الآلاف من الأسر … التي انكشفت عريًا … وجوعًا … ورضع … وطلاب في المدارس والجامعات … نساء عفيفات … وشابات حوامل … وشابات حوامل … وأمهات وآباء … في سن الشيخوخة والعجز … لقمة العيش … والدواء … وإيجار الشقق … في هذا لم يكن الدافع هو الحكمة للقفز من المركب الغارقة … وإنما هو الفزع … والرعب … الذي شل أيدي الخير … وقطع دابر الهمة … وطمس علي مشاعر الأخوة والنجدة .

وقفت … وحيدة … سيدة … بلا عون .

ذهبت إلي الشيخ محمد الأودن … جلست إليه مطرقة ثم قالت :

– أنت تعلم – يا مولانا – أني علي بيعة الإمام البنا … وعلي العهد … ولكن اليد عاجزة عن الوفاء … موجة الظلم عاتية … أني أعيش مأساة الأسر الكريمة التي اجتمع عليها كارثة الزوج الذي يكتوي بناء الفجار … وفاجعة الدخل الذي انقطع عن الزوجة والأولاد . بكي الشيخ التقي … وقام فقبل رأسها … وقال مثبتًا :

– استمري يا ابنتي … فالله لن يخذلك … وسيجعل لك مخرجًا

– أنا علي ثقة فيمن معي من السيدات المسلمات … هن معي … ولا يدخرن طاقة إلا وبذلوها في سبيل الله

– استعيني علي قضاء حاجتك بالكتمان … والحذر … وعضي علي أصل الشجرة … فإن مع العسر يسرًا .

قالت :

– أنا علي صلة بالسيدة المجاهدة زوجة الإمام الهضيبي وبناتها … والمجاهدة بنت العشماوي باشا زوجة المستشارمنير الدلة … وأخوات الأستاذ سيد قطب … وهن يتلقين بعض العون … والاتصالات بيننا سرية … وقد جئت لك لأتزود منك بالنصح … والتثبيت … بعد أن عز الناصح … وندر الصديق .

– سيري علي بركة الله يا بنيتي … واعلمي أن أمل الإسلام في هذه العصابة من الإخوان المسلمين … والله لا يخذل – أبدًا – من يجاهد في سبيله … هو ابتلاء … ليميز الله المؤمنين … الصادقين .

كان ذلك … قبل لقائها الشاب … عبد الفتاح إسماعيل … أو الشيخ عبد الفتاح كما صارت تدعوه … وكان اللقاء … بداية لجولة جديدة في الصراع بين الحق … والباطل هكذا … دائمًا … تجري سنة الله .