Daily Archives: مارس 7, 2021

إيران: أدب السجون في “قسم المحكومين” لـكيهان خانجاني

بعد انتصار الثورة الإيرانية تراجع “أدب السجون “وغلب على النصوص الاستعارات والرمزية وذلك خوفا من الرقابة

تفتتح شخصية زاباتا رواية “قسم المحكومين”، للروائي الإيراني كيهان خانجاني، بهذه الجملة:”فتحوا الباب، ورموا في السجن فتاة” التي كانت قد صدرت في عام 2017. وفي أقل من 4 أشهر، صدرت الطبعة السادسة لها، وحصلت على جائزة “أحمد محمود”، الذي بدوره عانى من مصادرة رواياته ومنعها، ثم حجبت ومنعت، ثم أعيد إصدارها. فزاباتا يستعيد ماضي السجناء بجملة: “في سجن لاكان ألف حكاية وحكاية”، على طريقة “ألف ليلة وليلة”. فكلما حكت شهرزاد حكاية، تحدث فجأة انتقاله لشخصية جديدة، ومن ثم تعود لأصل حكايتها. 

وكان نجاح الرواية يظهر في الندوات المقامة في المدن الإيرانية التي استضافت الكاتب، إلى أن ظهرت مقالة هجومية أدت إلى منعها. وجاء في كتاب المنع’قسم المحكومين’ “كتاب تعليمي لتهريب المخدرات! مع حصوله على ترخيص من وزارة الثقافة، رغم ترويجه الرذيلة واللامبالية والحث على الفجور”. وكان الكاتب مهدي مرادي، قد نشره في موقع “فرهنك سديد”، التابع لمركز “جرفا للدراسات الثقافية الاستراتيجية”، المركز المؤثر في اتخاذ بعض القرارات في الشأن الثقافي الإيراني، ومنها منع الكتب، كما حدث مع رواية “قسم المحكومين”.

ومنذ الجملة الأولى، يظهر صاحب المقال “مرادي” أنه غير مطلع على النص وأحداثه، فقد حصر السجناء في هذا القسم بالمحكومين بالمؤبد والإعدام، بينما الأمر ليس كذلك بتاتا، إذ كتب في مقاله التحريضي: “ينتظر القارئ متى سيعتدي الـ250 سجيناً في القسم على الفتاة الداخلة عليهم… وليس النص سوى استغلال القارئ في أجواء إيروتيكية. يروي كيهان خانجاني روايته عبر أدبيات سخيفة، وشرح لتفاصيل القتل وتعاطي المخدرات، وتعليم طرق تعاطي المخدرات وإخفائها، وأساليب الانتحار”.

وامام هذا المنع وهجوم “مركز جرفا للدراسات الثقافية الاسترتيجية”، رحبت أصوات أدبية نقدية بالرواية، واعتبروها تؤسس لـ”خطاب الصمت”، حيث كتب محمود رضائي في مقالة نشراتها صحيفة “إيران” في العدد 6865″ تلك الفتاة، هي شهرزاد قسم المحكومين، ولكن على خلاف “ألف ليلة وليلة” الراوي هنا رجل يريد كل الحكايات في ليلة واحدة، وكأن له حق الحياة لليلة واحدة فقط”، وفي نهاية الرواية يطلب الرفيق المهندس من زاباتا أن يكف عن تقليد السجناء، ليروي واقع حكايتهم الحقيقية للآخرين.

حكايات مترابطة ببعضها، تستعيد فيها كل شخصية من الشخصيات ماضيها عبر قصة حبه “أمه أو أخته أو زوجته أو ابنته”، إلى أن ينتهي به المطاف في سجن لاكان: الخان، الذي يمثل الملك والسلطة، وأزمان، السلطة المواجهة لسلطة الخان، واللجوج، والعم الوزير، اليد اليمنى للخان، والأفغاني، والثعلب، وملك الأنوف، والرفيق المهندس، والدرويش، وغاز. ولكل شخصية من هذه الشخصيات أسلوبها في تعاطي المخدرات، مثلما لديها لغة هي وليدة السجن.

تبني المركزية الروائية مع دخول شخصية الفتاة وتنتهي معها، ولكنها تصبح دافعاً لزاباتا لكي يندفع في عرض شخصيات رفقائه في السجن. ثم تنقسم اللحظة الروائية في النصّ على خطين متوازيين: لحظة مواجهة المجرم لوجود فتاة، ولحظة استعادية لما كان عليه قبل دخول السجن. إنها حكاية أخطر قسم في سجن “لاكان” الواقع في مدينة رشت. قسم يقبع فيه أعتى السجناء والمجرمين؛ وكان زاباتا هو الأقل خطورة بينهم؛ إنه مجرد شاب أدمن الحشيش والثرثرة، وحفظ تاريخ ونزوات وآمال رفقائه في القسم. والإحالة في تسمية “زاباتا” هي إحالة مقصودة، فالتسمية مأخوذة من فيلم “فيفا زباطة”، الذي يعكس شخصية إميليانو زباطة الثورية الذي ثار من أجل حقوق الشعب المكسيكي، وهو اسم حاولت السلطة بعد الثورة أن تحفره في الذاكرة الشعبية، عبر دبلجة توحي بأن البطل يمثلهم، وما ثورتهم إلا ثورة زاباتا.

هذه رواية مولودة من رحم أدب السجون الذي لم يكن بعيداً عن الرواية الإيرانية، خصوصاً مع مؤسسه “بزرك علوي”، في روايته التي تغطي فترة تاريخية للسجناء الماركسيين قبل الثورة الإيرانية، كما في رواية “53 شخصا” و”أوراق سجنية”، وإن كانت تعتمد في سردها على جانب السيرة. كذلك كتب هوشنك كلشيري “شاه مرتدي السواد”، وعلي أشرف درويشيان “زنزانة رقم 18″، وشهرنوش بارسي بور “مذكرات سجن”، وعباس سماكار “أنا عنصر متمرد”، ورضى براهني في “ما الذي حدث بعد العرس؟”. وبعد أن تراجعت الأعمال التي يمكن إدراجها في خانة “أدب السجون” مع انتصار الثورة الإيرانية، غلب على النصوص السردية الغموض اللغوي، والاستعارات التي لا يفهمها إلا كتابها، وذلك خوفاً من الرقابة.

ويشعر القارئ مع هذه الرواية أنه أمام حوارات ساخرة ولغة معكوسة لا تتفتح معانيها بسهولة، ومن الممكن تحميلها عدة معان؛ إنها لغة تقصد المتكلم للمحافظة على سريتها وتشفيرها، ليشعروا “بحرية داخل اللغة”.

i24NEWS

أدب السجون في سوريا

قد تمر عشر سنين أو عشرون، وربما أكثر من ذلك بكثير، قبل ان يأتي يوم تصير فيه الكتب التي ترصد حياة السجون وتجارب الاعتقال في سوريا أدب سجون حقيقياً، وتتحول من مسرح لكشف الانكسارات والهزائم واستعراض البطولة في مواجهة الطغاة، إلى كتب تُطبَّق عليها معايير الروايات والمؤلفات الأخرى. عندذاك، ويا للأسف، ربما يسقط قسم كبير منها ويصير مجرد حبر على ورق. حقيقة ستكون محزنة حقاً، لكن هذه الحقيقة يصنعها الكتّاب أنفسهم، كنتيجة حتمية، في رأيي، لوقوعهم تحت ضغط الديكتاتوريات، وربما لاعتقادهم أن كتابة وقائع حقيقية على شكل كتاب أدبي، أي كرواية تخييلية، سيحول دون اعتبارها وثيقة قد يحاسبهم عليها الطاغية. لكن من أين لذلك أن يختبىء أو ينجو من المساءلة، فشخصيات السجون هم الرفاق أو معتقلو الإيديولوجيات الأخرى. أما جواب الكتّاب فجاهز: أدب السجون رواية وليست سيرة ذاتية. وهنا الطامة الكبرى.
قلائل في سوريا كتبوا عن تجربة السجن من دون أن يعيشوها، وخصوصاً أيام المد “النضالي”! “السجن” للروائي نبيل سليمان من أوائل الروايات التي خاضت في المسألة، ثم روايته “سمر الليالي”. ولا يزال ثمة كتّاب حتى اليوم يكتبون السجن وأجواءه من دون أن يعيشوه، مثلما فعل خالد خليفة في روايته “مديح الكراهية”. لكن أن يكتب سجين كتاباً عن السجن فأمر مختلف كلياً وخصوصاً عندما تتكشف اللغة عن أداة عاجزة أمام سطوة الواقع الحقيقي، فتقول دائماً أقل مما نحسّ أو نريد، وتخرج إلى القارئ أقل بكثير مما نزفته أو تنزفه أرواحنا.
في السبعينات افتتح إبراهيم صموئيل أدب السجون الحديث في سوريا، بمجموعاته القصصية الثلاث، “رائحة الخطو الثقيل”، “النحنحات” و”الوعر الأزرق”. كان صموئيل يؤرخ فيها لتجربة حقيقية وعميقة، لكن بلغة رفيعة وبحساسية خلاّق، الأمر الذي جعل تلك القصص بمثابة مانيفست عن السجون السورية، لا تزال الأيدي تتداوله حتى اليوم. ثم انقطعت الكتابات عن السجن طوال الثمانينات حتى أواخر التسعينات، لتعود حسيبة عبد الرحمن فتفتتح مرحلة أخرى بروايتها “الشرنقة” التي صدرت عام 1998. لكن “الشرنقة” التي حددت عبد الرحمن جنسها إذ سمّتها رواية، قد ظلمتها للغاية، لأن اعتبارها هذا جعل النقاد يحاسبونها على هذا الأساس، وليس كونها يوميات ذات حساسية عالية عن تجربة السجن المقيتة. تفتقر “الشرنقة” في اعتقادي الى بعض مميزات الرواية، من تماسك الشخصيات وتطور الحوادث ولغة القص وما إلى ذلك، كما أنها تقع في فخ أحكام القيمة التي تعج بها الرواية. على الرغم من ذلك سيسجل التاريخ الأدبي لحسيبة عبد الرحمن جرأتها التي قل مثيلها، وخصوصاً لجهة كونها أول معتقلة سورية تكتب السجن بلغة أنثى، لم تكترث بكل الضغط الأمني المحيط بها.
أصدر مالك داغستاني “دوار الحرية” عام 2002 عن “دار البلد”، لكن كتابه ظل طي الصمت حتى اليوم. سمّى نصه “لعبة” رغم أنه ينطوي على أدب سجون حقيقي، ويمكن اعتباره رواية. نص واحد متماسك، تندفن فيه تفاصيل المعتقل المشحونة والمكثفة بشكل لماح وغير مباشر، وقد كتبه كرواية مفترضة لحوادث مفترضة، نسجها سجين في عتمة الأقبية، وقصها كما أملى عليه تخييله الخصب، في محاولة حثيثة لاستعارة المكان والزمان، وتحويل محكمة أمن الدولة، التي يخضع للمحاكمة فيها، إلى حديقة، وبرد السجون إلى دفء العشق، وغياب المرأة إلى جسد حبيبة يحضر بكل سطوة الأنثى وهيمنتها. يقول داغستاني في أحد المقاطع: “إن الكتابة كالحب تماماً، فعل مبرر بذاته، إنه أولاً وقبل كل شيء فعل حرية، ولا يحتاج إلى التبرير من خارجه”. جملة أجدها غاية في الدلالة، وقد تنسحب على كل ما يمكن أن يكتب في أدب السجون.
لكن إلى أي حد استطاعت الكتابات عن السجن في سوريا أن ترقى إلى مستوى الكتابة المبررة في ذاتها، أو أن تكون فعل حرية بحق؟!
هبة دباغ افتتحت تاريخاً آخر حين أصدرت كتابها “خمس دقائق فحسب: تسع سنوات في سجون سوريا” في لندن. ويبدو أنها كتبته قبل ذلك بأكثر من عشر سنين. إلى الآن كانت كتابات السجون في مجملها بأقلام معتقلين يساريين، وكتاب هبة الدباغ هو الأول تصدره معتقلة “إخوانية” عن تجربتها، بعدما أصدر محمد سليم حماد، وهو شاب أردني سجن في سوريا، كتابه “تدمر… شاهد مشهود” عام 1998. لكن كتاب دباغ الذي لم يوسم بأنه رواية، كان مليئاً بالمبالغات والشطحات التي أثرت على صدقيته، كأن ينبت لسان إحدى المعتقلات بعد قطعه أثناء التعذيب، أو أن يلتصق جلبابها بجسدها كي لا يتاح للجلاد اغتصابها. يضج الكتاب بمثل هذه المبالغات، كما أنه يمتلىء بالنظرة السلبية إلى الآخر الذي لا يماثلنا في اعتقاده أو إيديولوجيته. الآخر دائماً سيىء في كتاب هبة دباغ. على الرغم من ذلك تقدم الكاتبة وثيقة صادمة لم يتم فضحها قبلاً، حتى لو اضطررنا الى حذف نصفها.
وجد مصطفى خليفة الحل بإصدار كتابه عن السجن،”القوقعة – يوميات متلصص”، بالفرنسية وفي باريس أيضاً. أول ما قد يتبادر إلى ذهن القارئ أنه جريء للغاية، وتكمن جرأته في تخلص الكاتب من محاولات الكتّاب السابقين، بالعربية، الالتفاف حول الحقيقة، سواء بالأسماء المستعارة أو بتحوير الأماكن وما إلى ذلك. لكن الرواية، التي تفضح الواقع السياسي السوري في السجون، لم تطبع بالعربية، ويبدو أنها لن تطبع في وقت قريب.
لم يمر زمن طويل على ذلك حتى نشر لؤي حسين كتابه “الفقد” سنة 2006، معتبراً إياه “حكايات متخيلة لسجين حقيقي”، وذلك كمحاولة ربما للهرب من سطوة الرواية، إلا أن الكتاب كان مضمخاً بلغة متماسكة، وبتفاصيل، رغم قلتها، موحية ومؤثرة.
خلال هذه السنة أيضاً أصدرت مي الحافظ روايتها “عينك على السفينة”، وقد ظلمت كتابها حين سمّته رواية. فعلى الرغم من المشاهد المؤثرة والتفاصيل المثيرة التي تنتشر على طول صفحات الكتاب، ومع أن الكاتبة بذلت جهوداً حثيثة لتحليل شخصيات المعتقلات السياسيات، اللواتي يشكلن عصب الرواية، فإن الاستعاضة عن الأسماء الحقيقية بأسماء مستعارة لا يحقق المطلوب، وهو خلق مسافة بين الراوي والحادث، ولم يكن ذلك كافياً لحقن الشخصيات بالدلالة، ولا لحقن النص بشحنة روائية خاصة، ذلك أن النص وقع في كثير من الأحيان في فخ المباشرة الشديدة والآراء المنجزة التي دفعتها مي الحافظ في وجه القارئ بشكل صادم. إضافة إلى أن لغة الرواية، وهنا مشكلتها الكبرى، لم ترق إلى لغة القص وهي تنوء بالأخطاء، مما يحوّلها من رواية إلى مشروع نص لا غير.
لطالما ناوشتني في هذا الموضوع تساؤلات عدة: لِمَ الكتابة عن السجن، وهل يحقق النص الجمال المطلوب، وهل سأغدو بعد القراءة كما كنت قبلها؟ يرى إيتالو كالفينو أننا “في الكتابة في حاجة إلى تركيز فولكان، الإله الحداد القابع في فوهات البراكين، وحرفيته المهنية لتسجيل مغامرات عطارد، الإله الخفيف الرشيق بقدميه المجنحتين”. أسمح لنفسي بأن أستعير قول كالفينو هذا في معرض الحديث عن أدب السجون: كم نحن في حاجة إلى حرفية اللغة ودلالاتها اللامتناهية وإلى نحت الكلمات كي نستطيع التعبير عن ذاكرة السجون المعششة في أرواحنا. وكم نحن في حاجة إلى ألم السجن وتجربته المشدودة كوتر في أعماقنا كي نهب اللغة تلك الحقنة من الواقعية المؤلمة الى حد الإنهاك!

روزا ياسين حسن

المصدر: النهار

أدب السجون بين جمالية القراءة وقسوة الحكايات

الناس نيوز :

ربما يستوقفنا، أو يثير تساؤلنا، ذلك المنحى الجماليّ الذي ينحو بالقارئ للصبر على استساغة أو هضم جرعةٍ مبالغٍ فيها من الألم والمعاناة، وهو يطالع كتاباً عن آداب السجون، والذي سيأخذه بالبداهة في منعرجاتٍ ضيقةٍ وعميقةٍ ومظلمةٍ من ردهات التعذيب والألم والصراخ، الذي تلفّه روائح الدم والقيح، والذي لن ينجو منه دون أن يسبغ عليه مسحةً من الكآبة، التي تطول أو تقصر حسب طبيعة المتلقي.

ينبغي الإقرار أنَّ معظم من كتبوا في هذا الباب، وإنْ هم ذهبوا مذهب الأدب المترامي في فضائه، والرحب في إتاحة المزيد من الحرية للكاتب، إلّا أنَّ الموضوع بمرارته وقسوته المكثفة، تبقى تشدّ الكاتب إليها، فلا ينفلت من عقال سرديتها التوثيقية، وإن ابتغى إلى ذلك سبيلا، فمقدار الإثارة المتصاعدة والمتواترة، التي تحبس الأنفاس وتسارع معدلات نبض القلب في كثير من الأوقات، والتي تتعدّى حدود الطبيعة والفعل الطبيعي، الذي يغري في تتبّع أثره وتفاصيله أكثر مما يغري بالركون إلى عالم التخيّل السردي.

يخبرنا “جورج أورويل” أنَّ الكاتب عموماً يكتب مدفوعاً بمدى وعيه للجمال الخارجي، وبالترتيب الدقيق للكلمات ومدى تناسقها وإيقاعها، وبصدى تلك الكلمات لدى المتلقي. كما يخبرنا “غاستون باشلار” في كتابه (جماليات المكان) أنَّ بؤرة الطيف الجمالي في الصورة، إنما تكمن في قدرتها على إثارة الدهشة في النفوس، حتى لو كانت الدهشة أمراً مرّاً ومليئاً بالألم.

مَن منّا على سبيل المثال لم يستمتع بتفاصيل مدهشة من فيلم “سبارتاكوس” بالرغم من مرارته وقسوة مشاهده!
هنالك تمايزٌ واسعٌ بين مَن كتب عن السجون على خلفية المعاناة والتجربة الشخصية، فكانت كتابته تغتني بالتوثيق والاستناد إلى مخزون الذاكرة أكثر مما تغتني ببراعة البلاغة والأسلوب وسعة الخيال، وبين من كتب عنها بريشة الفنان، الذي وسَّع اطلاعه على هذا العالم القاتم بطرائق مختلفة، ثم أعاد تشكيلها بريشته البارعة، كما فعل “عبد الرحمن منيف” في روايتيه (شرق المتوسط) و(الآن هنا)، و”نجيب محفوظ” في رائعته (الكرنك).

تشدُّنا آداب السجون والروايات التي تتحدث عن المعتقلات وعوالم التعذيب في وجه من أوجهها، بجمالية الإثارة التي يبعثها كشف المخفيّ المليء بالأهوال، فكأننا نستمع إلى إنسانٍ عائدٍ من الجحيم الذي تتحدث عنه الكتب المقدسة، بالرغم من كل التصوّرات القبلية التي تنبئنا بشكلٍ مستفيضٍ ومتكررٍ عن أهوال وأحوال تلك العوالم، إلّا أن سماعها من إنسان قد شهدها بذاته، له متعة الكشف الجديد الممتلئ بمعنى التحقّق.
كما يسعى المطالع لهذا النوع الخاص من الأدب، للتعرّف على أنماط شديدة الغرائبية في المقاومة والإصرار على الحياة، بالرغم من ظلال الموت التي تخيّم على عموم المشهد، الذي يفتقر للحياة أصلاً.

في رواية “برنارد شلينك”: (القارئ)، والتي تحولت عام 2008 إلى فيلم يحمل الاسم ذاته، من بطولة “كيت ونسليت” و”رالف فاينس” والذي حصل على جائزة الأوسكار، سنكتشف جمالية كشف ذلك الجانب الوحشيّ القاتم من التكوين الإنساني، حتى عند السجّان الساذج البسيط، الذي شكلته آلة الدعاية النازية على نحو متوحشٍ مختلفٍ عن الطبيعة الإنسانية.
ربما سنجد أنَّ من مؤشرات الجذب، الذي يحوزه هذا الضرب من ضروب الأدب، أنَّه يمتلك طيفاً واسعاً من الاهتمام والتشاركية، فهو أدبٌ تُعنى به النخب المثقفة والسياسية، إضافة لحضوره الواسع في قطاعاتٍ شعبيةٍ، نادراً ما تعنى بأصناف أخرى من الأدب.

يعتبر أدب السجون من الآداب العابرة للحدود وربما للقارات، لأنَّ السجون عموماً تشكّل مشتركاً تاريخياً في حياة الشعوب، ودعامةً أساسيةً من دعامات الأنظمة المستبدة الحاكمة، وهي تزداد قوةً وباساً وفظاعةً، بمقدار تطوّر الانسان وتنامي قدرته على توظيف منتجه العلمي والتقني في خدمة توحشّه، وتحوّله لإله من آلهة التعذيب التي تتباهى بقدرتها الفائقة على صناعة الألم وإذلال المعذبين، ومع تطور تقانات الاتصال وشيوع المعلومات ووصولها بالسرعة الفائقة، ستجدنا حين نتحدث عن سجن (تدمر الصحراوي)، سيستدعي هذا بالضرورة الحديث عن معتقل (قصر النهاية) و(أبو غريب) في العراق، وسجن (تازمامارت) في المغرب، وعن سجن (الباستيل) في فرنسا، وعن سجن (هنري شاريير) في مستعمرة غويانا الفرنسية، وصولاً إلى سجون النازية المتعددة.

لقد حققت رواية (الفراشة) لـ “هنري شاريير” انتشاراً عالمياً عبر ترجمتها للغاتٍ عدة، وبطبعاتٍ متكررة بلغت حداً قياسياً، وكما يرى المتتبعون، فقد كان لها بالغ الأثر في إلغاء عقوبة الإعدام في فرنسا.

يمكن لنا أن نلاحظ أن الروايات التي تتحدث عن أدب السجون المعاصرة عموماً، هي روايات تتحدث عن سجون ومعتقلات في دول العالم الثالث، حيث تغيب الديمقراطية ويتألّه الحكام وتستعبد الشعوب، ومع انفلات الكثير من شعوب المنطقة العربية على وجه الخصوص من عقال حكامهم، بفضل الربيع العربي وإن تعرض هذا الربيع لانتكاسات حادة، إلا أنه أتاح القدرة للعديد من الناجين أن يتحدثوا ويكتبوا، عن عوالم بقيت لسنوات طويلة طيّ الكتمان لا يسمع الناس عنها إلّا همساً، والمثير للسخرية أنَّ بعض الدول المتحضرة، حين تحتاج لقمع خصومها، تلجأ لإدارة معتقلاتٍ متوحشة في بقع جغرافية خارج حدودها، كما فعلت الولايات المتحدة في سجن (أبو غريب)، وكما هي السجون السرية التي تديرها بعض وكالات الاستخبارات الأوروبية، في بقاع شتّى من العالم.

محمد برو .

أدب السجون.. صورة حية لمقاومة الاحتلال

  • غزة- وليد عبد الرحمن

التاريخ: 15 يناير 2020

الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال، يلامسون المطر والثلج الأبيض قبل أن يبلل وجوههم، وبدأت الجباه تتفتح، اشتدّت زخات المطر، وبدأوا يركضون في ساحة السجن، ولكنهم خارج حدود الزمان والمكان.

يركضون جميعاً، الشيوخ والشباب والأطفال ويحلقون بسعادة حتى تحرروا من قسوة وسطوة السجن والسجان، وأصبحوا أكثر حرية من السجّان الذي شعر لحظتها بأنه السجين الوحيد رغم امتلاكه مفاتيح الأبواب، وهم الأحرار الطلقاء رغم أنهم أصحاب محكومات عالية ومؤبدة.

وعلى الرغم من التعذيب والمعاناة التي يواجهها الأسرى الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية، إلا أن الحياة اليومية للقهر والظلم في ظل احتلال لا يعرف الرحمة ويمارس أنواع العذاب بحق الأسرى تخلق نسيجاً قوياً بين أصحاب الفكرة والقضية الواحدة من العلاقات الإنسانية المتميزة التي تجمع المعتقلين وتؤلف بين قلوبهم، وهذا ما أسهم في إيجاد تربة خصبة تنمو فيها الإبداعات، لتبني نموذجاً ذا نكهة جديدة تسجلها اللحظات التأملية التي يحياها السجين بعيداً عن ذويه.

ونجح الأسير الفلسطيني في أن يخرج فناً وأدباً جيداً يؤرخ ويوثق الحياة التي يعيشها، ويعبر عن ذاته بشكل جيد وينقل تجربته داخل سجون الاحتلال في قصائد وحكايات ومسرحيات وتسليات جميلة وصادقة، والقسم المشترك للأعمال الأدبية التي خرجت من السجون هو التصوير الحي للصمود.

مجموع هذه الإبداعات التي ولدت في أقبية السجون وعتمة الزنازين وخلف القضبان، والتي خرجت من رحم المعاناة والوجع اليومي والمعاناة النفسية التي كانت نتاجاً لفنون السجان في التعذيب والتنكيل كانت تمنحهم الصبر والصمود أمام أيام السجن.

أدوات بسيطة

كانت باكورة العمل المسرحي قد بدأت في سجن «الجنيد» عام 1984 كتب فيها الأسرى المسرحيات وشاركوا بعروض عرضت داخل غرف السجون وبأدوات بسيطة، وتطورت موهبتهم خلال سنوات الأسر فأصبحوا الآن كتاباً ومخرجين وفنانين تعرض أعمالهم على المسارح.

يقول الأسير المحرر جهاد غبن لـ «البيان»، والذي أمضى 22 عاماً داخل السجون الإسرائيلية، إن اللجان الثقافية في بعض السجون كانت تنظم بين الحين والآخر مسرحيات تستثمر فيها المواهب المتوفرة، حيث كانت تتم التدريبات بالسر، وبعدها يُفاجأ الأسرى في «الفورة» بوجود مسرحية، وقد استمرت هذه الأعمال في السجون حتى عام 2000، وبعدها منعت إدارة السجون هذا النوع من الفن من خلال ملاحقة الأسرى ورشهم بالغاز، ثم نقل الأسرى إلى سجون جديدة تمتاز بغرفها الصغيرة ولا مجال للعروض المسرحية بداخلها، واكتفى الأسرى بعدها بالأدب ووسائل الترفيه عن النفس.

أما عن الموضوعات التي كانت تتناولها المسرحيات فقد أفاد غبن بأنها في الغالب تكون وطنية عن حب الأرض والشهداء وزيارة الأهل للأسرى، ومنها ما يكون حزيناً، أو كوميدياً يصحبه نقد ساخر عن حياة الأسرى لنشر الفرح في السجن.

الشعر وأدب السجون

امتدت جذور الإبداعات التي تخلقت في السجون الإسرائيلية في التاريخ الفلسطيني، وثمة أسماء عديدة كتبت الشعر والنثر وأصحابها يقبعون خلف الزنازين من الأدباء الذين جادت قرائحهم بالشعر والنثر، وسجلوا تجربتهم وهم في السجون الإسرائيلية.

يقول هشام عبد الرازق الأسير المحرر ووزير الأسرى سابقاً، والذي أمضى 21 عاماً داخل السجون الإسرائيلية لـ«البيان»: إن الأسرى ركزوا في أعمالهم الأدبية على موضوعات الفخر والحماسة بصفتهم مقاومين رفضوا الظلم الواقع عليهم وعلى شعبهم، إضافة إلى محاولتهم نقل تجربتهم وتجربة من حولهم، ويضيف أن أدب السجون تناول وصفاً دقيقاً للحالة الشعورية والنفسية للكاتب والأسرى من حوله ووصف المكان والزمان.

ويضيف عبد الرازق شهدت مرحلة انتفاضة الحجارة تنوعاً في إبداعات المعتقلين وتطوراً كمياً في النتاجات الإبداعية، وقد تحول الأدب من ممارسة هواية وثقافة جمالية، إلى مشاركة نضالية في أحداث الانتفاضة وزخمها الثوري.

وشهدت هذه الفترة الزمنية زيادة ملموسة في عدد الكتب التي صدرت للمبدعين المعتقلين، وأولت دور النشر والمؤسسات الثقافية والمجلات والصحف عناية خاصة بأدب المعتقلات.

انعكاس للواقع

ويقول عبد الرازق إن «الأسير الذي يكتب الأدب هو انعكاس للواقع الذي يعيشه، ومن أهم الأعمال التي كتبتها ديوان «الجِراح» وهو عبارة عن شعر نضالي مقاوم إضافة إلى رواية «فرسان الحرية»، والتي تتحدث عن تاريخ الحركة الأسيرة، وكذلك رواية «شمس في ليل النقب» عام (1991)، مشيراً أن هناك العديد من الكتاب والأدباء الذين تألقوا داخل السجون وكتبوا عدداً من الدواوين.

أما نهاد جندية والذي أمضى 24 عاماً داخل السجون الإسرائيلية فيقول لـ«البيان»: إن المعتقل الفلسطيني بفكره ومحتواه الثوري والنضالي، يشكل هدفاً أساسياً للاحتلال الإسرائيلي الذي كرس كل اهتمامه وطاقاته للتشويش على وعي وفكر الأسرى، وتشويه سلوكهم وأفعالهم النضالية، من أجل جعلهم في حالة شك لإحباط توجهاتهم وتفكيك قدراتهم الكفاحية والثورية، بهدف تحطيم وترويض إرادتهم وصمودهم.

ويضيف جندية: إن من الأساليب التي سعى الاحتلال لممارستها على المعتقلين الفلسطينيين لتنفيذ مخططاته، سياسة الإفراغ الفكري والثقافي، التي تهدف إلى زرع ثقافة مشوهة بديلة، تعمل على صياغة نفسية المعتقل من جديد وتطويعه وفق إرادتها، لهذا قامت سلطات الاحتلال بإعلان الحظر التام على الثقافة الوطنية والإنسانية، بل على كل وسيلة ثقافية، حتى الورقة والقلم والكتاب، فقد كانت سلطات الاحتلال تعتبر أن امتلاك ورقة وقلم في وقت من الأوقات من الأمور المرتبطة بالحضارة والرقي، لهذا لم يسمح الاحتلال بأن يتوجه معتقلوه نحو رفاهية الحضارة والرقي، بل عليهم أن يبقوا تحت القهر والإذلال وكتم الأنفاس.

مراحل مهمة

مرحلة السبعينيات نجح فيها المعتقلون في فرض مطالبهم على إدارة السجون.

وفي هذه الفترة شكّلت الرسائل التي يبعثها المعتقل إلى ذويه الكتابة الأدبية الأولى من خلف القضبان، حيث حاول المعتقلون في رسائلهم استعمال ديباجات إيحائية معينة لجأوا إليها لتمويه الرقيب الإسرائيلي، فكانوا يختارون أبياتاً من الشعر أو عبارات من النثر، يسطرون بها رسائلهم.

وقد كان الأدب أكثر التصاقاً بواقع المعتقلين، فقد كان وسيلة للتعبير عما يعتمل في النفس البشرية.

وكان التعبير بالشعر البدايات الأولى في إبداع المعتقلين، فهو أسرع الأنواع الأدبية استجابة للتعبير عن المعاناة.

أما في فترة الثمانينات فقد تطور الإبداع وتعدد لدى المعتقلين، ففي هذه المرحلة اتسعت مساحة الثقافة والمعارف لدى المعتقلين بعد السّماح بإدخال الكتب الثقافية المتنوعة، وخاصة الكتب الأدبية التي كان نصيبها من الرقابة المشددة أقل من الكتب السياسية، ما سمح للمعتقلين بفرصة الاطلاع على نماذج عديدة دعمت التجربة الإبداعية لهم.

وقد استطاع المعتقلون في فترة الثمانينيات تهريب نتاجاتهم الإبداعية إلى خارج المعتقل، واهتمت الصحف والمجلات المحلية بنشر إنتاجهم، ما شجعهم على مواصلة الكتابة وتطوير إبداعاتهم.

وعكف الأدباء المعتقلون جاهدين من خلال نتاجاتهم الإبداعية، لأن يكونوا صادقين مع تجربتهم، أوفياء لقضيتهم، يسجلونها بصدق وأمانة، لأنها تعكس ما يجول في خاطرهم من مشاعر وطموحات وتحديات وروح عالية، وتمسك بالهدف السامي الذي اعتقلوا في سبيله.

رواية”عناق الأصابع″ ومعاناة الأسرى

صدرت رواية”عناق الأصابع″للأديب المقدسي عادل سالم عام 2010عن دار شمس للنشر والتوزيع في القاهرة…..تقع الرواية التي صمم غلافها اسلام الشماع في 365 صفحة من الحجم المتوسط.

مدخل: “أدب السجون” والكتابة عن التجربة الإعتقالية ليست جديدة على الساحة الفلسطينية والعربية وحتى العالمية، وممن كتبوا بهذا الخصوص: الدكتور أسعد عبد الرحمن في بداية سبعينات القرن الماضي(يوميات سجين)كما صدرت مجموعة قصص(ساعات ما قبل الفجر) للأديب محمد خليل عليان في بداية ثمانينات القرن الماضي، و(الزنزانة رقم 706) لجبريل الرجوب، وروايتا(ستائر العتمة ومدفن الأحياء)وحكاية(العمّ عز الدين) لوليد الهودلي،و”رسائل لم تصل بعد” ومجموعة”سجينة”للراحل عزت الغزاوي و(تحت السماء الثامنه)لنمر شعبان ومحمود الصفدي، و”أحلام بالحرية”لعائشة عودة، وفي السنوات القليلة الماضية صدر كتابان لراسم عبيدات عن ذكرياته في الأسر، وفي العام 2005صدر للنائب حسام خضر كتاب”الاعتقال والمعتقلون بين الإعتراف والصمود” وقبل عام صدرت رواية”المسكوبية” لأسامة العيسة، وقبل أشهر صدرت”الأبواب المنسية” للمتوكل طه، وفي العام 2011 صدرت رواية “سجن السجن” لعصمت منصور، و”ألف يوم في زنزانة العزل الانفرادي” للقائد مروان البرغوثي، وأعمال أخرى لفلسطينيين ذاقوا مرارة السجن، كما أن أدب السجون والكتابة عنها وعن عذاباتها معروفة منذ القدم عربيا وعالميا أيضاً ومنها ما أورده الأستاذ محمد الحسناوي في دراسته المنشورة في مجلة”أخبار الثقافة الجزائرية” والمعنونة بـ”أدب السجون في رواية”ما لاترونه”للشاعر والروائي السوري سليم عبد القادر، وهي (تجربة السجن في الأدب الأندلسي- لرشا عبد الله الخطيب ) و ( السجون وأثرها في شعر العرب.. –لأحمد ممتاز البزرة ) و( السجون وأثرها في الآداب العربية من الجاهلية حتى العصر الأموي- لواضح الصمد )  وهي مؤلفات تهتم بأدب العصور الماضية ، أما ما يهتم  بأدب العصر الحديث ، فنذكر منها : ( أدب السجون والمنافي في فترة الاحتلال الفرنسي – ليحيى الشيخ صالح ) و( شعر السجون في الأدب العربي الحديث والمعاصر – لسالم معروف المعوش ) وأحدث دراسة في ذلك كتاب(القبض على الجمر – للدكتور محمد حُوَّر)
أما النصوص الأدبية التي عكست تجربة السجن شعراَ أو نثراً فهي ليست قليلة، لا في أدبنا القديم ولا في الأدب الحديث: نذكر منها ( روميات أبي فراس الحمداني ) وقصائد الحطيئة وعلي ابن الجهم وأمثالهم في الأدب القديم . أما في الأدب الحديث فنذكر : ( حصاد السجن – لأحمد الصافي النجفي ) و (شاعر في النظارة : شاعر بين الجدران- لسليمان العيسى ) و ديوان (في غيابة الجب – لمحمد بهار : محمد الحسناوي) وديوان (تراتيل على أسوار تدمر – ليحيى البشيري) وكتاب (عندما غابت الشمس – لعبد الحليم خفاجي) ورواية (خطوات في الليل – لمحمد الحسناوي)  وقد يكون آخر إصدار هو رواية (ما لا ترونه – لسليم عبد القادر).

عنوان الرواية: “عناق الأصابع″ عنوان رواية عادل سالم عنوان مباشر وفاضح للمحتل الاسرائيلي، الذي يحرم الأسرى وذويهم حتى من المصافحة والعناق اثناء الزيارة، وللتذكير فان قوانين الاحتلال بخصوص زيارات الأسرى شهدت تطورات سلبية متوالية ضمن سياسة القمع المستمرة، فقبل شهر نيسان 1969 كان الأسرى يصافحون زائريهم ويجلسون قبالتهم على طاولة واحدة، يتناولون وجبة طعام مشتركة يحضرها الزائرون معهم من الخارج، وكان يسمح للزائرين بادخال سلة فواكه للأسير قد يصل وزنها الى خمسة عشر كيلو غرام، ومنذ ذلك التاريخ منعوا ادخال وجبة الطعام، ومنذ منتصف  سبعينات القرن الماضي منعوا لقاء الأسرى بزائريهم، ومنعوا المصافحة بينهم إلا من خلال شباك حديدية لا تسمح إلا بدخول الأصابع كل إصبع على حدة، فأصبحت المصافحة بالأصابع فقط، فلا يستطيع الأسير حتى احتضان طفله الرضيع، ولا يستطيع والدا الأسير احتضان ابنهم، كما منعوا ادخال الفواكه.

وفي أواخر ثمانينات القرن الماضي أيضا أصبحت الزيارة من خلف زجاج مقوى وعبر سماعة هاتف تفتح بين الأسير وزائريه، يرون بعضهم البعض من خلال الزجاج الفاصل، ويتحدثون عبر الهاتف، ومنذ منتصف تسعينات القرن الماضي أيضا، لم يعد يسمح بزيارة الأسير إلا لأقربائه من الدرجة الأولى مثل(الوالدين والأبناء والأخوة والأخوات والزوجة فقط) وفي المراحل كلها فان الزيارة لثلاثة أشخاص فقط، ومرة كل أسبوعين في الظروف العادية، وهناك ظروف قد تمنع زيارة السجناء كافة في سجن ما لمدة شهور، أو تمنع الزيارة كليا لأسرى العزل الانفرادي.

وواضح أن عادل سالم قد استوحى عنوان روايته من مرحلة سلام الأصابع عبر الشباك الحديدية الفاصلة.

زمن الرواية: تمتد الرواية في فترة زمنية منذ منتصف سبعينات القرن الماضي وحتى منتصف التسعينات.

مكان الرواية: تدور أحداث الرواية في مدينة القدس العربية المحتلة، وفي سجون الاحتلال التي يحتجز بها الأسرى ومنها” الرملة، عسقلان، نفحة وشطة”.

الرواية تسجيلية: الرواية التي بين أيدينا رواية تسجيلية واقعية، لا خيال فيها، وحتى الأسماء الواردة في الرواية هي أسماء حقيقية في غالبيتها العظمى، وما يدور في السجون المغلقة على الأسرى  من إضراب عن الطعام، وسقوط شهداء ومرضى، ونضالات لتحقيق مكاسب، وتعذيب من قبل السجانين، وتحقيق الأسرى مع بعض المتساقطين، واعدام بعضهم، وخلافات عقائدية بين الأسرى أنفسهم، هي حوادث حقيقية وواقعية حتى النخاع، وبالأسماء الحقيقية لشخوصها…حتى أن الكاتب سجل التاريخ الحقيقي للحوادث مثل اضراب سجن نفحة الشهير في تموز 1980 والذي استمر لثلاثة وثلاثين يوما، سقط فيه الى قمة المجد الشهيدان باسم حلاوة وعلي الجعفري، وما تبع ذلك من استشهاد القائد عمر القاسم، واسحق موسى المراغي”أبو جمال”….وكذلك صفقة تبادل الأسرى عام 1985، وصفقة تحرير أسرى بعد قيام السلطة الوطنية الفلسطينية، واستثناء بعض المناضلين من أمثال عمر القاسم وغيره، كلها أمور حدثت على أرض الواقع.

شروط فنية: يبدو أن تركيز الكاتب على السرد التسجيلي لما يدور في أقبية السجون، ومعاناة الأسرى وذويهم، قد أوقعه في كتابة التقارير الصحفية، والحكاية أكثر من كتابة الرواية، وهذا ما يطغى على أسلوب النص السردي.

المرأة: ظهر في الرواية أن الكاتب ركز على الدور التحرري للمرأة الفلسطينية، فخولة شاهين كتبت عقد زواجها على علي النجار المحكوم مدى الحياة، وانتظرته حتى تحرر في صفقة بعد ثمان وعشرين سنة، ومع ذلك فقد استشهد يوم حفلة عرسهما دون أن تزف اليه، وكانت راضية بقدرها.

ورحاب شقيقة علي سافرت الى موسكو طلبا للعلم وهناك أحبت شابا روسيا وتزوجته، وأنجبت منه طفلا، ثم تطلقت منه، وعادت الى القدس تاركة ابنها في حضانة والده، وعملت في مجال الصحافة وتزوجت زميلا لها، بعد أن كاشفته بزواجها الأول، ولم يعترض على ذلك، وأنجبت منه، ولما عرض عليها طليقها الروسي أن تأخذ ابنها منه ليكون في رعايتها بعد أن قرر الهجرة الى أمريكا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، عارض زوجها الفلسطيني ذلك، لكنها تحدته وسافرت لاحتضان ابنها، بعد أن انكشف سرها لعائلتها التي تقبلت ذلك على مضض،  ليتبين لاحقا أنها سافرت وإياه للعمل في ألمانيا، ولتعود الى القدس للمشاركة في زفاف شقيقها علي الذي تحرر من السجن، لكنه يستشهد يوم زفافه وقبل أن تراه.

ونضال الأمهات والزوجات في زيارة أبنائهن وأزواجهن، ومشاركتهن في الاعتصامات والتظاهرات التضامنية مع الأسرى كلها أمور كان لها نصيب بيّن في الرواية.

وماذا بعد: تشكل هذه الرواية إضافة نوعية للمكتبة العربية عن معاناة الأسرى الفلسطينيين والعرب في سجون الاحتلال الاسرائيلي، والكتابة عنها لا يغني عن قراءتها، فالتجربة النضالية للأسرى فيها الكثير مما يحتاج الى الكتابة والنشر والتعميم.

20-12-2011

(ورقة مقدمة لندوة اليوم السابع الدورية الأسبوعية في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس)

موقع جميل السحلوت

“أدب السجون”.. قصاصات تخرج من عتمة الزنازين لتضيء طريق الحرية

في الوقت الذي تواصل فيه مصلحة سجون الاحتلال قمعها للأسرى في السجون، فإن الأسرى لا يتوقفون عن إصدارتهم الأدبية، ويخرجونها من داخل عتمة الزنازين لترى النور، وتضيء طريق الحرية.

مئات الإصدارات خرجت من سجون الاحتلال لمعتقلين، منها ما رأى النور وتم طباعته، ومنها ما بقي حبيس الأدراج ولم يجد من يطبعه، في ظاهرة أدبية وثقافية تسمى “أدب السجون”.

ولعل كتاب الأسير حسام شاهين “رسائل إلى قمر”، آخر ما خرج من السجن، وتم طباعته مؤخرا ووزع، وهو يتضمن 70 رسالة كتبها الأسير شاهين الذي يقبع في السجن منذ 15 عاما.

الخبير والمختص في شؤون الأسرى عبد الناصر فروانة، أوضح أن هناك مئات الإصدارات تخرج من داخل السجون، وهي نتاج عمل المعتقلين سواء روايات أو كتب أو رسائل ماجستير أو مؤلفات، وهذه ما يطلق عليها “أدب السجون”.

وقال فروانة لـ “قدس برس”: ” إن بعض هذه الإصدارات التي خرجت من السجون طبعت ورأت النور، وبعضها الآخر لم يخرج من السجن، وهناك أعمال خرجت، لكنها لم تطبع، وظلت على ورق”.

وأضاف: “هذا يحتاج لتجميع عمل الحركة الأسيرة في مكتبة كبيرة، وطباعة ما يلزم، لأن هذه الأعمال تحكي قصة آلاف الأسرى، وما وضعوه من أفكار في هذه القصاصات بحاجة لجمع لأرشفة أدب السجون”.

وأشار فروانة إلى أن معظم إصدارات الأسرى تركز على الجانب الأدبي، وتحكي ما يجول بخاطرهم سواء كتابات أو أعمال حرفية ومشغولات اليدوية.

واعتبر أن هذه الإصدارات هي جزء العملية الثقافية والتعليمية داخل السجون، التي لم تتوقف رغم محاولة الاحتلال معها ومرورها بمراحل عدة، وتطورت بفعل نضالات وتضحيات الأسرى، إلا أنها لم ترتقِ إلى نيل كامل الحق من إدارة السجن.

وتطرق فروانة إلى بدايات الاعتقال، وكيف فكر الأسرى  في الكتابة رغم صعوبة الأمر؛ لمنع الأقلام والأوراق عنهم.

وقال: “في السنوات الأولى التي تلت احتلال عام 1967، لجأ الأسرى والمعتقلون الفلسطينيون إلى تهريب الأقلام، والكتابة على علب السجائر والأوراق الفضية الرقيقة التي تغلف السجائر، والعلب الكرتونية لمعجون الأسنان وصابون الحلاقة، فضلاً عما كان يقع بين أيديهم من كراتين وقصاصات ورق، وغيرها مما يصلح الكتابة عليها وتدوير المعلومات بشكل سري فيما بينهم، فيما كانت إدارة السجون تجري تفتيشات مفاجئة وتصادر ما يقع بين أيدي السجانين من أقلام وهي نادرة، وأوراق شحيحة، وتعاقب كل من تجد لديه قلماً أو ورقة كتب عليها”.

وأضاف:”في وقت لاحق تمكَّن الأسرى وعبر المطالبات المستمرة، والاحتجاجات المتكررة، والإضرابات عن الطعام، من انتزاع  حقهم في امتلاك القلم والدفتر والأدوات القرطاسية وإدخال الكتب التعليمية، وتبعها انتزاع حقهم في الاجتماعات بين جدران غرفهم، وأحياناً على نطاق أوسع في ساحة الفورة، وعقد مناظرات ودورات تعليمية مختلفة في شتى الميادين، الأمر الذي شكّل أساساً لبناء عملية ثقافية وتعليمية بشكل منظم داخل سجون ومعتقلات الاحتلال الإسرائيلي”.

وتابع: “سرعان ما أدركت مصلحة السجون أهمية ما تحقق بالنسبة للأسرى، وخطورته على توجهاتها واستراتيجيتها، لكنها وقفت مكتوفة الأيدي، عاجزة عن مصادرته أمام وحدة الأسرى ونضالاتهم وإرادتهم القوية وإصرارهم على الحفاظ على ما تحقق، فيما نجحت بالمقابل في التضييق عليهم، وانتقلت من مرحلة منع القلم والورق إلى محاربة المادة المكتوبة، في محاولة منها لإفراغ ما تحقق من مضمونه، ووضعت قيوداً عديدة، وبدأت بتحديد كمية الدفاتر ونوعية الكتب المسموح بإدخالها ومراقبتها والمماطلة في إيصالها، واقتحام الغرف وإجراء التفتيشات المفاجئة ومصادرة بعض الكتب التي سُمح بإدخالها، والمادة المكتوبة على الأوراق وصفحات الدفاتر، وإتلافها، ومنعت الجلسات والتجمعات الثقافية في بعض الغرف متذرعة بحجج مختلفة”.

من جهته قال الأديب الفلسطيني محمود شقير على صفحته على “فيس بوك”: “ليس من السهل ممارسة الكتابة الإبداعية من دون نبض الحياة اليومية، ومن دون التفاعل مع هذا النبض”.

وأشاد بالكتابات الإبداعية التي تخرج من داخل السجون من الاسرى، معددا أسماء بعض الأسرى مثل: حسام شاهين، وباسم خندقجي، وخضر محجز ووليد دقة وسائد سلامة وعائشة عودة وعصمت منصور وغيرهم.

وقال شقير: “لعلنا نلاحظ أن مادة الكتابة تتمّ إما اعتمادًا على الذاكرة التي تستدعي وقائع وتفاصيل عايشها الأسير وهو خارج السجن؛ وإما اعتمادًا على التاريخ أو على قراءات الأسير داخل السجن؛ وقيامه بالتناص مع هذه القراءات”.

وأضاف: “تشكل المعاناة داخل السجن وقهر السجان، وتبادل الخبرات والتجارب بين الأسرى أنفسهم؛ وزيارات الأهل ومتابعة نضالات الشعب وأحوال الناس في الخارج مادة للكتابة”.

واعتبر شقير أن رتابة الحياة داخل السجن وتشابه الأيام والشهور لا تشكل أي حافز للإبداع، “وهنا تتجلّى قدرات المبدعين من الأسرى حيث يصبح الإبداع نفسه عنصرًا من عناصر تحدّي السجن والسجان، وكذلك التشبث بالحياة والأمل في المستقبل”.

وأشار إلى أن  الكتابات الفكرية والسياسية التي مارسها ويمارسها أسرى من أمثال مروان البرغوثي وأحمد سعدات وأحمد قطامش أكثر طواعية من الكتابات الإبداعية؛ لأنها تعتمد في الأساس على المخزون الفكري والسياسي للأسير وليس على المعاناة من السجن والسجان؛ وبالطبع دون ان يجدوا صعوبة في التعبير من خلال اليوميات او السير الذاتية عن المعاناة داخل السجون.

أما الأسير المحرر والأديب حسن عبادي صاحب مبادرة “كتاب لكل أسير” فقال على صفحته على “فيس بوك”: “يُعنى أدب السجون الكلاسيكي بتصوير الحياة خلف القضبان وخارجها، كما يناقش الظلم الذي يتعرّض له السجناء، والأسباب التي أودت بهم إلى السجن، حيث يقوم السجناء أنفسهم بتدوين يوميّاتهم وتوثيق كل ما مرّوا به من أحداث بشعة داخل السجن، فهو إن صحّ التعبير، رواية السيرة الذاتيّة، يهتم بوصف وتوثيق التعذيب والمعاناة وكشف البشاعة من وحدة ورعب وزنازين انفراديّة موحشة، وتعذيب نفسيّ وجسديّ وغيرها”.

وأضاف: “جاء أسرانا الفلسطينيّون ليشرّعوا الباب والتعريف، ليصبح أدب السجون الحداثيّ هو الأدب الجميل الذي يُكتَب خلف القضبان، بغضّ النظر عن موضوعاته ومضامينه”.

وتساءل عبادي حول تعريف أدب السجون – هل هو أدب كتبه سجناء؟ أم أبطاله سجناء؟ أم عالم السجن محوره وموضوعه ومادّته؟

ودعا إلى ضرورة جمع كتابات الاسرى بشتى الطرق من اجل نشر ما بداخلهم.

وقال: “لكل أسير قصّة، والقصص العظيمة لم تُحكى بعد، وهناك ضرورة ملحّة لتوثيق قصص أسرانا، ويشكّل الكتاب الهامّ لبنة ضروريّة في فسيفساء لم يكتمل”.

المصدر وكالة القدس برس انترنشيونال

لحسن اوزين: مقاربة روائية لسردية أدب السجون

تمهيد

حاولنا في هذه القراءة لأدب السجون أن نسلط الضوء على رواية الآن هنا لعبد الرحمن منيف، من خلال مجموعة من الروايات، في نوع من التفاعل الخلاق بين النصوص الإبداعية المؤسسة  لتشكل القارئ في النص كمُفعل لمتخيل الكتابة، انطلاقا مما تتيحه خلفيته الثقافية في إدراك حضوره النصي والتاريخي الاجتماعي، خلال سيرورة التدليل، وهو يحاول انتاج الدلالة وبناء المعنى. النصوص السردية الراقية فنيا وجماليا هي التي تورط القارئ في متخيل الكتابة وتجعله معنيا بتشكله الجمالي، حيث هو ملزم بتعبئة الكثير من الشقوق والفجوات، بشكل محايث يجعله متمفصلا مع البناء الفني للرواية. حسب هذا الفهم حاولنا مقاربة الرواية بعيدا عن سلطة النقد في فرض تصوراته النظرية وجهازه المفاهيمي بشكل إجرائي حارما نفسه كقارئ من لذة ومتعة النص، وهو يحاول فهم نفسه أكثر مما يسعى الى فهم شيء آخر مغيب في النص.

فخلال قراءتنا للرواية كانت تحضر بشكل عفوي وتلقائي تجربة محنة السجن من خلال بعض الروايات التي ترسبت بشكل أو بآخر في سجلنا الثقافي الواعي وغير الواعي. وكانت لنا تلك الروايات لكل من عبد اللطيف اللعبي وعبد القادر الشاوي وعبد الرحمن منيف بمثابة موجه إرشادي لتحقق عملية التفعيل لما قرأناه حول أدب السجون من أعمال إبداعية.

أولا * القارئ و تفاعل النصوص الروائية

(شردت أسر وخربت آمال ودمرت أحلام ومرت طاحونة القهر على طموحات أجيال كاملة بدون موجب حق . اقرأ صفحة الماضي قبل أن تطوي أيها اللبيب. اقرأ هي شاهدة على كل شيء اقرأ فلا شيء يضيع مهما أوهمتنا لحظة الجبروت …لا شيء يبقى إلا الحقيقة العارية)1

 لا أذكر كيف ومتى وجدت نفسي أدخل في علاقة نادرة وموجعة مع مجموعة من الكتابات حتى صارت جزءا مني . نصوص تسكنني كقوة غريبة تتحكم في تفكيري وحياتي. هل هي معاناة الجوع والعري والقهر، أو ربما الصدفة هي التي دفعت بمثل هذه الكتابات في طريقي . بما أنني أكره لغة الصدفة والظروف كما يتداولها الأذكياء فإنني لا أستطيع أن أجزم في سر هذه العلاقة. إذا كنت واثقا من شيء فلعل الحياة هي التي علمتني كيف ألتقط تفاصيلها الحية حتى في ثنايا الكتب. لا تستطيع أن تفلت مني لحظة، موقف، سلوك…، لها تفاعلاتها الخصبة مع ذاتي كلها . ربما تلك الأشياء التي تشكل الناس في مساراتهم على اختلافها هي التي ربطتني بكل القراءات التي عشتها ولا أزال كجزء من كياني ووجودي. الكتابة حرفة ومسؤولية، أو مهنة صعبة كما يقول ناظم حكمت. ليس بإمكاني أن أدعي القدرة على ذلك. وإذا كنت أكتب اليوم فليس لأني أعشقها عشقا جنونيا. إنما أدركت ببساطة أن لي الحق في الكلام، والأكثر من ذلك الحق في الحياة ( وقد زادت دهشتي حين قرأت الورقة الأولى. وها قد عرفت ولا يمكنني أن أعيش اليوم كما لو أنني لم أعرف )2.  لا أعرف كم مرة قرأت الرواية وفي كل مرة، أو أثناء كل قراءة كانت تنتابني الشكوك حول المعاني التي أعطيتها لشقوق النص، لفجواته كما يقول النقاد .كانت تعصف بي التأويلات الخيالية بين قوة النص الفنية وبين الشكل الروائي الجدير بالدراسة والتنظير. الشيء الأساسي من هذا كله هو أنني كنت أعتقد ومقتنع الى درجة كبيرة بضرورة الكتابة. هي المرات الكثيرة التي كتبت فيها حو ل الرواية لكن سرعان ما كنت أمزق ما كتبته بدعوى أنه لا يرقى الى مستوى الكتابة النقدية. وفي الوقت نفسه أحس بضرورة الكلام ( كيف أستطيع أن أبقى بعد ذلك صامتا كشيطان أخرس أو أن أبقى عاقلا كما لو أني أقرأ كتابا أصفر أو أستعيد حلما قديما خابيا)3.  أريد أن أقول للناس بأن هذه الرواية سكنتني وأنها لا  يمكن أن تقبل بالصمت والقراءة المترفة ( إذا تحول الانسان الى شاهد أخرس الى شاهدة قبر الى شيء عقيم فعندئذ يفقد مبرراته كلها)4.  قرأت لكتاب كبار كما يقول النقاد لكن وأنا أقرأ ” الآن..هنا” انفجرت ذاكرتي ووقفت جميع النصوص التي كنت أظنها قابعة في ذاكرة النسيان، في ذلك الجزء المهمل والمهمش القريب الى مستودع الأشياء التافهة، إلا أن جدلية القمع والكتابة كان لها رأي آخر في استحضار ما تم ادماجه بطريقة التآزر التدريجي لتطور سيرورة معرفتنا. هكذا فُتحت ذاكرتي على كل السجون، في اللغة، العادات، الثقافة، وفي المأكل و المسكن …

أتوقف أثناء قراءتي . أعرج بعيدا بحثا عن الجلاد في تفاصيل الحياة. في كل قراءة أزداد قناعة بضرورة الكلام وقهر الصمت ( وهل أقوى على ابتلاع هذا الكم الهائل ليس من الأوراق وإنما من العذاب وحدي )5. وحدي لا أقوى على تحمل هذه الرواية لابد أن يقرأها الجميع، أو على الاقل أن أكتب ما بدا لي ضرورة للحوار والقراءة. كمتلقي اقتنعت بهذا الحق في القراءة والكلام دون أن أدعي الحقيقة فيما أقول. النصوص التي قرأتها سابقا كانت تقطع قراءتي، تمارس شغبها، تقفز من منطقة مجهولة في الذاكرة فتقتحم بنزق سيرورة القراءة.  وهي كتب تتداخل فيها نصوص الرواية والنقد، وتفاصيل الحياة والمعيش اليومي. إن شيئا قريبا من لذة النص الذي تناوله بارت بمتعته الخاصة يحدث الآن وأنا أقلب جمر صفحات رواية ” الآن ..هنا”  ( أن أكون مع من أحب وأفكر في ذات الوقت في شيء آخر هكذا أتوصل الى أحسن الأفكار وأخترع بصورة أفضل ما هو ضروري لعملي . كذلك شأن النص يبعث في لذة أحسن إذا ما تمكن من أن يجعلني أنصت إليه بكيفية غير مباشرة إذا ما دفعني وأنا أقرؤه الى أن أرفع رأسي عاليا وأن أسمع شيئا آخر. فلست بالضرورة مأسورا بنص اللذة قد يكون فعله خفيفا معقدا دقيقا شاردا على وجه التقريب،  كحركة رأس طائر لا يسمع شيئا مما ننصت إليه،  ينصت الى ما لا نسمعه)6. وما علاقة قراءتي بالتصور النقدي لجمالية التلقي؟ أقرأ الرواية لكنها تحيلني على روايات أخرى بين السطور، نوع من حوار النصوص، مستوى فني أخر للرواية كان يرتسم في ذاكرتي، معاني ثانية مضاعفة و كثيرة تقفز وتفرض نفسها. أسئلة لا حصر لها تنفجر، ( هل أستطيع أن أغادر وأترك جميع هؤلاء دفعة واحدة، ولكي لا أراهم مرة أخرى أي قلب يحتمل، وهل أملك من القوة ما يجعلني قادرا على البقاء ولا أتبدد الى آلاف القطع)7 . ربما هذا المقطع يقصدني، يبلورني كقارئ ضمني في الرواية، يقحمني في التجربة، دون أن أنتبه الى متخيل الرواية في قدرته الرهيبة على أن يورطني في محنة السجن، حيث لم يعد بإمكاني أن أقول نجوت، لأن وجها واحدا على أقل من وجوه السجن العديدة يلفني، ويجعلني واهما بحرية العبيد التي أنا في خدعتها مجرد سجان بئيس على نفسي.  هكذا كانت صفحات الكتابة تستوقفني بطريقة لا تخلو من الاستفزاز على قبول وضعية مقايضة حريتي برضا الخوف الذي يدثرني. فأكتشف أنا هذا أو ذلك الموقف يستهدفني . هذا الترتيب للوقائع هو تسلسل منطقي فني يختفي حين أكتشف متخيل الكتابة الذي يجعل الشخصية المضمرة ظلا لي.  يقحمني النص في لعبة فنية نادرة بين كوني قارئا، وشخصية داخل المحكي، ومواجهة المصير نفسه. كنت أكتشف منطق القراءة في شكل الكتابة. وبذلك أتحول الى قيمة أدبية أو قل الى تفاعل بين فنية الكتابة وجمالية القراءة،  لا أستطيع أن أضع الكلمات التي تعنيني، ربما علاقتي باللغة سيئة جدا، حيث ما أحسه وأعيشه لا يمكن أن يختزل في عبارات متداولة. لم أعد أملك الخيار نفسه قبل أن أقرأ الرواية. فمع قراءتي الخطية كانت نصوص تخترقني لتتلاحم بالرواية. تضيء الكتابات الصادقة قراءتي، وأكتشف بفرح عارم طفولي لا يخلو من معاناة هذا التفاعل الخصب بين القراءة والكتابة ( تكتب أو تقتل احذر أن تفهم أن هذا الانذار موجه إليك من جلاد ما. إذا تجاوزت سطحية الرمز ستعرف أن صوت التاريخ هو الذي يتكلم. وهو يعبر عن أحد أعنف قوانينه. كل صمت تقصير في حق الحياة. كل يوم يمر دون أن تكون على موعد مع الكلمة يمثل انكسار فرع من شجرة الحياة. وبعبارة بسيطة كل كلمة تضيع هي صوت يخنق، صرخة يائسة لا تجد لها صدى. فضيحة تسقط في مستنقع الأحداث التافهة)8. كلما أنهيت قراءة الرواية أجدني مرة أخرى أعيد قراءتها. لم يكن من السهل علي أن أتخلص منها وأرمي بها كما أقدف بأي كتاب آخر، شعور ما كان يلازمني وإذا كان لي أن أعترف بهذا الشعور فربما القراءة فجرت الأسئلة ولم تعد تقبل بالصمت لغة مألوفة. وربما أيضا لم يعد بإمكاني أن أنسى طالع، عادل، سلوى والآخرين، لا أستطيع أن أخون الأشياء الجميلة التي فجروها في داخلي. ( ليس الخروج من الحمام مثل الدخول إليه عندما يكون المرء قد تحمل مسؤولية أرواح وآمال وتاريخ و هلمجرا،  لا يمكنه أن يقول بين عشية وضحاها لكم طريقكم ولي طريقي)9. لم أستطع أن أفعل ذلك حتى لو أردت. وبصراحة كلمة أردت ليست سهلة كما كنت أعتقد. أشعر عند كل قراءة للرواية أنني مطالب بفعل ما ( الانسان لا يمكن أن يترك يده أو أي جزء منه ويمضي دون أمل، دون عودة. هل نقوى على ترك هؤلاء الخمسة ومادا نستطيع الآن؟ كيف يجب ان نتصرف؟)10.  تقف كل السجون التي أعرفها في وجهي، ويعرفها الآخرون أيضا. يمر عشرات الرجال قربها دون أن يفكروا بمداهمتها وإخراج المعذبين منها حتى يلامسوا الشمس والهواء والأشياء والناس. أسأل نفسي لماذا تسكننا البرودة كما تسكن الرطوبة زنازن شرق المتوسط كلما وضعت الرواية إلا وأشعر ( أني تركت قلبي، جزءا منه)11.  كانت الأسئلة المحرقة .. الوجوه واللحظات العنيفة للحرية، والحياة الحقيقية تلاحقني. لم تكن لتخيفني مراحل التعذيب، لم يمسسني الخوف، طوال الطريق كنت معنيا بالصمود بالقيء والدم وسوط الجلاد، وبصلابة وقوة الانسان وأرادته العظيمة. لم تكن قراءتي مسلية ولا مجانية، بل هي كما يقول الناس الملح والطعام الذي نتقاسمه مع الذين نحبهم.  كنت أشعر أن أجمل شيء أقدمه لأحبائي ولطالع وعادل اللذين ساعداني على الكلام هو أن أواصل القراءة وأنا في وضعية ( تلزمني السيطرة على تنفسي وجعله يتطابق مع ايقاع الضربات الشهيق عند ارتفاع اليد بالسوط والزفير عندما تهوي. الشهيق والزفير بهدوء دون أن يتبين الجلاد ذلك. لكن يلزمني في نفس الوقت الانفصال عن تنفسي نسيانه لأتمكن من تخيل صور أخرى أمكنة أخرى أزمنة أخرى)12.

هكذا هي الرواية تحكي أشياء كثيرة، لكنها في الوقت نفسه تحيلني على عوالم أخرى، طفولتي المستعادة، والقهر الذي عشناه في حي فقير. وضعت نفسي في الذكرى حتى أرى الجلاد أين كان يختبئ،  و ما هو القناع الذي كان يلبسه يومئذ؟ والآن كيف غير مساحيقه؟ تمثلت موقف طالع حين ضربت سلوى، فماذا أفعل وأنا شاهد على كل هذا العنف الدموي ولم أتكلم ( سوف تمر ألف سنة والسؤال الذي لا يبرح خيالي والذي يجعلني حائرا ومملوءا بالذنب الى آخر الأيام هو كيف استطعت أن أرقب كل هذا الذي جرى أمامي ولم أنبس بكلمة، لم أبك كيف؟)13 وعيت هذا الموقف، خفت أن ينطلي علي، كانت القراءة تدعوني للفعل ولم أجد أمامي غير الكتابة ( ما يستعصي على التعبير هي ذي معضلتك هذه المهنة الصعبة التي تجترها في رأسك ويديك مند بواكير شبابك دون أن تستطيع أبدا النفاد الى سرها )14.  لم يكن بإمكاني أن أصمت كما أنني خفت أن أسيء الى حياة الآخرين، الى أجمل ما قدموه من تضحيات ( لست مهرج أحد ما على الذي أو التي تلتمس الهزل وحده إلا أن تمضي لحال سبيلها، لست بائع كلمات أتسمعني، أكتب بحياتي بمجازفاتي ومخاطري وبمجازفات ومخاطر ذاك أو تلك التي يمكن لهذا الأمر أن يسليها أو يثير اهتمامها للحظة )15. أعتقد أنه ليس من حقي أن أصمت أو أرفع صوتي ناكرا دور هؤلاء الذين أيقظوا في قلبي الانسان. وضعوني في وسط الحلبة، صارعت أعزلا من أي سلاح إلا من حريتي وجسدي، كنت لا أريد أن ( أظل كسلحفاة خائفة أحاول أن أتقي نظرات الشهيري وإذا تجرأت فأوجه إليه الشتائم بصوت لا يخرج من اللهاة وأدعو الله أن يحل المشكلة نيابة عني وعن جميع البشر وأشارك بالقلب وحده سلوى وهي تتلوى ثم وهي تسحب، وحين قال الشهيري كإله سومري أعيدوه شعرت بالفرح لأني نجوت)16 لا أستطيع أن أضع الرواية وأقول نجوت. فهمت أن كلام طالع يعنيني ويقصدني في دلالاته الواضحة، وهو يؤسس وجودي النصي والتاريخي الاجتماعي كفرد ينتمي الى أحد سجون شرق المتوسط بشكل أو بآخر. وفي هذا الحضور في عمق التجربة أكتشف ذاتي، وأختار طريقي الذي يحررني من الخوف الذي لوى لساني، فالدرب لايزال محفورا في خلايا جسمي: ( تلك الظروف التي تنعدم فيها أبسط الحقوق الانسانية والقانونية. فالعصابة موضوعة على العينين باستمرار والقيد لا يفارق اليدين والكلام ممنوع بين المعتقلين زيادة على رداءة التغذية وعدم كفايتها مع غياب النظافة وانعدام أدنى رعاية طبية. وقد كان مفروضا على المعتقلين أثناء المدة التي قضوها في المعتقل السري أن يظلوا منبطحين على جنوبهم أو ظهورهم ولا يسمح لهم بالجلوس إلا أثناء فترة الأكل القصيرة. وكل مخالفة لما ذكر تعرض مرتكبها للعقاب القاسي والجلد بالسياط)17.  هي المرات الكثيرة التي كنت أشتم فيها، فبعد كل صفحة أمتلئ بالحقد والغضب، والثقة في النفس.  كانت تسافر بي خيالاتي وأفكاري بعيدا في البحث عن السبل الممكنة لتقوية الانسان داخل الإنسان، من أجل القضاء على السجن. هذا هو الأفق الذي ترسمه الكتابة وهي تحاول تفكيك السجن، أي هدمه نهائيا. أحيانا يبدو لي أن أخطر سجن هو شكل الحياة الذي نعيشه، أي ما تراكم عبر التاريخ الطويل. الكتابة في الآن هنا هي امتداد لصمود الجسد، الكتابة أداة للمواجهة بين السجن والحرية، الكتابة كما هو الجسد: ( جسد الانسان صخرة طاقة لا تنضب ولا تعرف الانتهاء والإرادة رغم أنها تبدت وخبت. إلا أن ذلك الفتيل الباقي يجعل كل شيء قابلا للاشتعال من جديد)18 الكتابة متخيل لا تعكس، لا تمثل واقعا حقيقيا، ليست رؤية ثابتة خارج الزمن التاريخي. إنها لحظة في السيرورة، فعل له آلياته الخاصة. إذا كان الجلاد ينظر الى الذات في سقفها الجسدي فرؤيته ضيقة، وعاجزة عن كسر إرادة الانسان. ما أفهمه أن الكتابة أفق الذات، أو بتعبير آخر يمكن للكتابة أن تشتغل كممارسة لها منطقها الخاص، لا تستطيع أدوات الجلاد أن تقف في وجهها. “الان هنا”  تستحضر الواقع والقارئ من خلال منطق وآليات الكتابة في تمفصل رائع. الكتابة هي هذا العمق الذي يجعل من الذات قادرة على الصمود والاستمرار. إذا كان الجسد يخضع للقهر والتعذيب، للتهميش والالغاء من دائرة الحياة فإن للجسد منطقه الخاص، له آلياته وارتباطاته المتبادلة التأثير والتأثر، يعني يمتلك جدله المميز. إن ما يميز الجسد في الرواية هو المتخيل وليس الروح، أو النفس. هل أحسنت الفهم والتأويل. لم يكن ذلك ليهمني إلا بدرجة فهمي للرواية على أنها امتداد لتجربة السجن، وليست تصويرا أو توثيقا للتجربة. السجن كما تطرحه الرواية هو المتخيل الثقافي، أو شفرة اللاشعور الثقافي الاجتماعي الجمعي الذي يصوغ حياة الناس، ويحدد نمط إدراك الناس ومستوى وعيهم. يتحول الى قوة مادية متحكمة وضابطة للمعيش اليومي ونمط التفكير والسلوك. جسدان في حالة صراع الى حد الاستنزاف. الجلاد يصيبه التعب والارهاق والمرض، بينما جسد المعتقل يدخل في مرحلة أرقى مطورا آليات المقاومة متشبثا بالحياة رافضا للموت. الكتابة كمتخيل فني هي إحدى تجليات إرادة الحياة، هي جزء عضوي تتبلور  في صراع مع امتدادات تجربة القهر والتعذيب وزرع الخوف في الناس ليرضوا بالعيش في ذل السجن العام، الكتابة بهذا المعنى مرحلة متقدمة من السيرورة الاجتماعية الثقافية والإبداعية. لهذا يتضح لنا بأن الكتابة في الآن هنا قناعة متجذرة في عمق الذات ( يجب أن أتحول الى صخرة )19. لا مجال للتردد أمام ( معجزة الحياة أن تكون إنسانا ما هو إن لم يكن الشعور بهذه المعجزة الدفاع عن هذا النبض الذي يجعلنا نظراء متزامنين للبشرية جمعاء، رفض اختناق هذا النبض. الالتحاق بنبض العالم،  هذه المغامرة الفريدة للحياة التي تسري فيه)20.

 شيء ما كان في داخلي يتكسر يضعف ويتلاشى الى أن يمحي، في وقت كانت نواتي تتصلب تزداد قوة وثقة. ولكي أكون إنسانا كان علي أن أدفع من لحمي الحي. هل كنت أقرأ أم كنت طرفا في الصراع. الكتابة شكل آخر لهدم الدهليز، لانبعاث الانسان النائم والمخدر في عمق الجلاد( فالإنسان مخلوق جبار قوي وذكي لأنه قادر على تحمل المصاعب وتجاوزها)21. فكل شيء يتوقف على ( نقض منطق الجلاد وقلب معادلة قواميسه. الانسان معلق مند ساعات. يداه ورجلاه المقيدة قد تورمتا الآن بشكل كبير رأسه يتدلى في الفراغ، لقد بلغ الألم الذي يسحق جسده تلك الدرجة التي تتجاوز كل تصور أوإدراك. الصفراء تبقبق في فمه، يؤمر للمرة الألف بأن يتكلم، يفقد وعيه، يفيق من جديد. الضربات تنهال من جديد بلا هوادة. الحشد يواصل رقصته الوحشية )22 أية مقاربة نقدية تستطيع أن تموقعني خارج القيء والألم والضربات التي لا تهدأ؟ أية ادبية أو جمالية أكثر من حفلة التلقي هذه التي أنا في زحمتها؟ .شيء ما في داخلي يوترني ليس السبب في ذلك أنني تماهيت الى درجة الاختفاء أو أني لم أستطيع أن آخد موقعي النقدي. اختلفت مع طالع وعادل في أشياء كثيرة، لكن ( هدم السجون الداخلية التي نحملها في أعماقنا، وبالتالي هدم سجون كثيرة بما فيها العالية الأسوار والموجودة تحت الأرض لابد ان نهدمها بالكلام والجرأة في خرق الصمت )23 لا يدعي عبد الرحمن منيف، وكل أدب السجون عمل الانبياء لكن بإمكاننا أن نفعل الكثير دون أن نخلق أوثانا جديدة. هكذا اقتنعت( بأن الحياد في أي شيء أكذوبة كبيرة . فالإنسان يحب ويكره يفرح ويحزن ولأنه تعلم النظر الى الأشياء بطريقة معينة فإنه يقيم هذه الأشياء وفقا لتلك الطريقة والذين قضوا الشهور والسنين شهرا وراء آخر سنة بعد أخرى في ذلك المكان العاتي الرجيم في سجن العبيد ولا تزال على جدرانه بقع من دمائهم وأجزاء من لحومهم إضافة الى صرخات الألم وآهات الأحزان. إن هؤلاء الناس لا يمكن ان يكتبوا عن سجن العبيد بحياد أو بدم بارد ) 24.

لا أستطيع أن أمزق صرخات وأحزان الناس، وأنا المعني بسجون شرق المتوسط ، لا يمكن أن أتحول الى بائع كلمات، ولست واحدا من تجار الصمت ( إنني بمجرد الاقتراب من هذا الجو استعادته أشعر أن كل شيء داخلي يتغير يتوتر جسدي وأصاب بحالة من الشراسة قد أرتكب معها الحماقات كلها، بل وأصبح مستعدا للحرب حتى ولو كنت وحدي)25. أستحضر تلك الليالي العنيفة وأنا أقرأ الرواية، ( وأتذكر تلك الليالي الطويلة كنت أحشد إرادتي وأنا أرى عيونهم المحتقنة تطل مثل فوهات النار وأسمع أصواتهم تهدر من كل مكان، يجب أن تعترف فأقول لنفسي الفرق بين الحياة والموت لحظة والفرق بين الصمود والسقوط لحظة)26. سر الصمود هو تلك الاشياء الجميلة الغامضة، إنها أشبه بنداء قوي يشبه الطوفان( أنت الآن في مواجهة التحدي الكبير إما أن تصمد أو أن تسقط ويشمخ في داخلي نداء عات. صوت كانه الطوفان الإنسان لحظة قوة وقفة عز فاحذر. تتقوى ثقة الانسان بنفسه بقواه الظاهرة والكامنة التي يعرفها أو التي يدركها في لحظة المواجهة. يكتشفها بفرح عارم الله .. كم في الانسان من قوى غير قابلة للكسر والالغاء)27. خلال لحظات التعذيب التي أنا في مرجلها بين صفحة وأخرى تتشكل الكتابة كآلية إنسانية، تتحرك تلك الأشياء الغامضة التي تجعل الانسان صامدا ( كنت أمتلئ بشيء غامض لكن طاغ وكثيف وقد افترضت أن أية تضحية في سبيل هذا الشيء ليست مقبولة فقط بل وضرورية الى أقصى الحدود)28.  الانسان لا يستطيع أن يحدد حقيقة هذه الاشياء التي تجعله صلبا كالصخرة أثناء لحظة التعذيب لكنه لا يملك  موقفا آخر غير مواصلة الصمود والعناد.( الى وقت متأخر، وربما الى الآن لم أستطع أن أحدد طبيعة هذا الشيء الذي أدافع عنه هل هو الكرامة الشخصية الإنسانية، هل هو اليأس أو الاستقالة الكاملة من الحياة )29 إن هذه الاشياء التي كانت غامضة ومتمثلة في العناد سرعان ما يتضح أنها قناعة قوية بحق الانسان في الحياة والحرية، و لا مساومة في ذلك، خصوص بعد هذا الخراب الذي نشرته آلة التعذيب والقمع الرهيبة .( من العار بعد هذا الإذلال والعذاب، أن أقدم لهم لحمي عشاء شهيا يتمتعون به. ثم إني أدافع عن قضية عادلة وبسيطة. حقي وحق الآخرين في الحياة والحرية، وهم يدافعون عن امتيازاتهم وعن السلاطين والشيوخ الفاسدين ولذلك يجب أن أكون أقوى منهم، لأن قضيتي هي المشروعة)30. تلك الأشياء الغامضة والإرادة الصلبة والقناعة بحق الحرية والحياة، هي التي تواصل فعلها من خلال الكتابة كشكل من أشكال الصمود. الكتابة تضعني عند لمسها والحفر فيها وجها لوجه مع الجلاد، مع السجن في حقيقته السياسية الاجتماعية والثقافية. تقحمني الكتابة في عالم الكتابة الذي هو عالمي المعيش. تصبح الكتابة مرجعا واقعيا، يتحول الوقائعي الواقعي فآخذ موقعي الذي هو موقع الرفض والفضح والتعرية. ما أبشعنا ونحن ننام على إيقاع صرخات المعذبين. متى تأتي الرياح التي تخرج القلوب من أقفاصها. تصير قراءتي كتابة. أحاور، أبحث أحتج( وجدت نفسي أغرق في تلك الأوراق، كنت وأنا أتوغل في ذلك العالم المجنون أزداد مرارة وحقدا وأزداد اقتناعا أيضا أن هذا العار الذي حملناه معنا فترة طويلة. يجب أن ينتهي وأن يزول)31. أهدأ وأفكر بجدية وأقول مع نفسي كيف يمكن أن يزول السجن؟ أبحث وجهة نظر عادل حول أهمية الكلمة كسلاح شجاع. أتأمل حالة الانهيار الشامل التي أصابت المجتمع، خصوص بعد التحولات العربية والعالمية الأخيرة. أنظر لمحاولة الدولة التقليدية معاودة انتاج الاشكال السياسية لمعاودة إنتاج نفسها كاستبداد مستحدث، وهي تغرق الصراع السياسي في الصراع ضد الإرهاب والأسلمة، مما يحررها من طرح المشكلة الحقيقية على أنها مشكلة سياسية.

كتابة لا تتركني ألتقط أنفاسي، لا تمنحني لحظة راحة. أقرأ الأوراق وأعيد قراءتها. كتبتني بقدر ما قرأتها( كانت أوراق طالع موجعة، نازفة، قلت لنفسي لا بد من نشرها)32. لو لا قناعة عادل بقوة الكلمة لما عرفت أوراق طالع طريقها الى النشر. أنه يرفض استمرار تجارب الناس وفق أسلوب الذاكرة الشفوية التي أنتجها الخوف والصمت ( ألا تعتقد أن الجبن يكتسي كل يوم وجها جديدا، قناعا جديدا وإلا كيف نفسر هذا الفرق الهائل بين ما يقع كل يوم وعلى مرأى من الآلاف ولا نجد ما وازيه من وقائع مكتوبة ؟ ولماذا يكتفي الناس في بلدي بهذه الذاكرة الشفوية وحدها طريقة للتعلم والتواصل ثم التاريخ؟)33. كانت الأسئلة تتلاحق ، أو بالأحرى تطاردني كما لو أني في حالة طوارئ قصوى. تستفزني بقدر ما تكشف عن حقيقة السجن ( ما أفكر فيه السجن الداخلي وهو أن يرضى جميع الناس بالبقاء في هذا السجن، عدا مجموعة صغيرة للحراسة، وهذه المجموعة ذاتها دائمة الخوف لأنها لا تعرف متى ستلتحق بالآخرين وتدخل السجن أيضا. لو كان شعور الناس بالحرية حقيقيا لتقلص السجن الى حدوده الجغرافية وربما انتهى. لكن مادام الناس هكذا فإن السجن لن يبقى أحد خارجه)34.

تبدو لي الكتابة في الآن هنا كصمت الذات أمام المحقق والجلاد، لها المفعول نفسه، تعمل على كسر الخوف والرعب الذب لوى اللسان وغلف القلب بالصمت. كتابة تحررني من الصمت وتهزم الخوف، تولد الغضب وتعري ليل الصمت ونهاره الذي يسربل الانسان في شرق المتوسط بكفن خوف الموت قبل أن يأتي الردى. هاجس الكتابة هو الكتابة التي تحث على خلق ذاكرة إضافية لدى الناس، أي على الأقل ما يمكن اعتباره مساميرا للذاكرة. وحدها الكتابة تفضحني، إذ تفضح واقع الصمت وتضع حدا لأوثاني، وللغة السرية التي تجثم على صدري. لا أحد يستطيع أن يصرخ بالحقيقة في بلديغير المجنون. إني أبارك وأعتز بهذا الجنون الذي ولدته سرديات أدب السجون. ( اللغة السرية في بلادنا وحدها اللغة المتداولة، وهي نتيجة السجن الطويل، سجن الآباء والأديان والأقوياء. ولا أحد يعرف متى يمكن أن تترجم هذه اللغة الى كلمات فوقائع يقرأها جميع الناس ويعرفون في أي مستنقع يعيشون)35

“الآن.. هنا”  ليست رواية عادية، أقذف بها الى متحف الذاكرة. كلما أغلقت الرواية أجد سعد الله ونوس يعيد على مسمعي كلامه الشفاف الجميل النافذ، وهو يحثني كالعادة على أن رحلة الألف ميل تبدأ بالخطوة الأولى( إنها تتعمد أن تظل قولا ناقصا، قولا لا يكتمل إلا إذا أضاف القارئ عليه موقفا أو فعلا)36.

الهوامش

اعتمدنا في كتابة هذا النص على الروايات التالية وهي تندرج الى حدما فيما يعرف بأدب السجون

المصدر الرّأي اليوم

  • عبد الرحمن منيف الآن هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى
  • عبد اللطيف اللعبي مجنون الأمل
  • عبد اللطيف اللعبي تجاعيد الأسد
  • عبد القادر الشاوي كان وأخواتها