بعد انتصار الثورة الإيرانية تراجع “أدب السجون “وغلب على النصوص الاستعارات والرمزية وذلك خوفا من الرقابة
تفتتح شخصية زاباتا رواية “قسم المحكومين”، للروائي الإيراني كيهان خانجاني، بهذه الجملة:”فتحوا الباب، ورموا في السجن فتاة” التي كانت قد صدرت في عام 2017. وفي أقل من 4 أشهر، صدرت الطبعة السادسة لها، وحصلت على جائزة “أحمد محمود”، الذي بدوره عانى من مصادرة رواياته ومنعها، ثم حجبت ومنعت، ثم أعيد إصدارها. فزاباتا يستعيد ماضي السجناء بجملة: “في سجن لاكان ألف حكاية وحكاية”، على طريقة “ألف ليلة وليلة”. فكلما حكت شهرزاد حكاية، تحدث فجأة انتقاله لشخصية جديدة، ومن ثم تعود لأصل حكايتها.
وكان نجاح الرواية يظهر في الندوات المقامة في المدن الإيرانية التي استضافت الكاتب، إلى أن ظهرت مقالة هجومية أدت إلى منعها. وجاء في كتاب المنع’قسم المحكومين’ “كتاب تعليمي لتهريب المخدرات! مع حصوله على ترخيص من وزارة الثقافة، رغم ترويجه الرذيلة واللامبالية والحث على الفجور”. وكان الكاتب مهدي مرادي، قد نشره في موقع “فرهنك سديد”، التابع لمركز “جرفا للدراسات الثقافية الاستراتيجية”، المركز المؤثر في اتخاذ بعض القرارات في الشأن الثقافي الإيراني، ومنها منع الكتب، كما حدث مع رواية “قسم المحكومين”.
ومنذ الجملة الأولى، يظهر صاحب المقال “مرادي” أنه غير مطلع على النص وأحداثه، فقد حصر السجناء في هذا القسم بالمحكومين بالمؤبد والإعدام، بينما الأمر ليس كذلك بتاتا، إذ كتب في مقاله التحريضي: “ينتظر القارئ متى سيعتدي الـ250 سجيناً في القسم على الفتاة الداخلة عليهم… وليس النص سوى استغلال القارئ في أجواء إيروتيكية. يروي كيهان خانجاني روايته عبر أدبيات سخيفة، وشرح لتفاصيل القتل وتعاطي المخدرات، وتعليم طرق تعاطي المخدرات وإخفائها، وأساليب الانتحار”.
وامام هذا المنع وهجوم “مركز جرفا للدراسات الثقافية الاسترتيجية”، رحبت أصوات أدبية نقدية بالرواية، واعتبروها تؤسس لـ”خطاب الصمت”، حيث كتب محمود رضائي في مقالة نشراتها صحيفة “إيران” في العدد 6865″ تلك الفتاة، هي شهرزاد قسم المحكومين، ولكن على خلاف “ألف ليلة وليلة” الراوي هنا رجل يريد كل الحكايات في ليلة واحدة، وكأن له حق الحياة لليلة واحدة فقط”، وفي نهاية الرواية يطلب الرفيق المهندس من زاباتا أن يكف عن تقليد السجناء، ليروي واقع حكايتهم الحقيقية للآخرين.
حكايات مترابطة ببعضها، تستعيد فيها كل شخصية من الشخصيات ماضيها عبر قصة حبه “أمه أو أخته أو زوجته أو ابنته”، إلى أن ينتهي به المطاف في سجن لاكان: الخان، الذي يمثل الملك والسلطة، وأزمان، السلطة المواجهة لسلطة الخان، واللجوج، والعم الوزير، اليد اليمنى للخان، والأفغاني، والثعلب، وملك الأنوف، والرفيق المهندس، والدرويش، وغاز. ولكل شخصية من هذه الشخصيات أسلوبها في تعاطي المخدرات، مثلما لديها لغة هي وليدة السجن.
تبني المركزية الروائية مع دخول شخصية الفتاة وتنتهي معها، ولكنها تصبح دافعاً لزاباتا لكي يندفع في عرض شخصيات رفقائه في السجن. ثم تنقسم اللحظة الروائية في النصّ على خطين متوازيين: لحظة مواجهة المجرم لوجود فتاة، ولحظة استعادية لما كان عليه قبل دخول السجن. إنها حكاية أخطر قسم في سجن “لاكان” الواقع في مدينة رشت. قسم يقبع فيه أعتى السجناء والمجرمين؛ وكان زاباتا هو الأقل خطورة بينهم؛ إنه مجرد شاب أدمن الحشيش والثرثرة، وحفظ تاريخ ونزوات وآمال رفقائه في القسم. والإحالة في تسمية “زاباتا” هي إحالة مقصودة، فالتسمية مأخوذة من فيلم “فيفا زباطة”، الذي يعكس شخصية إميليانو زباطة الثورية الذي ثار من أجل حقوق الشعب المكسيكي، وهو اسم حاولت السلطة بعد الثورة أن تحفره في الذاكرة الشعبية، عبر دبلجة توحي بأن البطل يمثلهم، وما ثورتهم إلا ثورة زاباتا.
هذه رواية مولودة من رحم أدب السجون الذي لم يكن بعيداً عن الرواية الإيرانية، خصوصاً مع مؤسسه “بزرك علوي”، في روايته التي تغطي فترة تاريخية للسجناء الماركسيين قبل الثورة الإيرانية، كما في رواية “53 شخصا” و”أوراق سجنية”، وإن كانت تعتمد في سردها على جانب السيرة. كذلك كتب هوشنك كلشيري “شاه مرتدي السواد”، وعلي أشرف درويشيان “زنزانة رقم 18″، وشهرنوش بارسي بور “مذكرات سجن”، وعباس سماكار “أنا عنصر متمرد”، ورضى براهني في “ما الذي حدث بعد العرس؟”. وبعد أن تراجعت الأعمال التي يمكن إدراجها في خانة “أدب السجون” مع انتصار الثورة الإيرانية، غلب على النصوص السردية الغموض اللغوي، والاستعارات التي لا يفهمها إلا كتابها، وذلك خوفاً من الرقابة.
ويشعر القارئ مع هذه الرواية أنه أمام حوارات ساخرة ولغة معكوسة لا تتفتح معانيها بسهولة، ومن الممكن تحميلها عدة معان؛ إنها لغة تقصد المتكلم للمحافظة على سريتها وتشفيرها، ليشعروا “بحرية داخل اللغة”.
i24NEWS