Daily Archives: مارس 9, 2021

المسرح السياســـي – د.ادريس الذهبي

1- توطئـة :
يعتبر سعد الله ونوس أحد أهم الدراميين العرب، الذين تفرغوا للعمل المسرحي تأليفا وإخراجا وإدارة فرقة مسرحية، والذين حملوا أعباء تأصيل المسرح العربي من خلال الأبحاث الدؤوبة وقنوات التجريب المستمر، ومواكبة القضايا العالقة، وحملوا هموم وآلام وطنهم وأمتهم. فهو ” ظاهرة المسرح العربي ا لحديث بامتياز، لأنـه صوته وفعله ومهندس رؤيته في تاريخ الدرامة العربية، وفي تاريخ التقاطعات العنيفة العربية بين واقع يتأسس على تناقضات ترمي به في متاهات الترفيهية والمجانية، وبين مسرح يحضر الثقافة في هذه التناقضات بهدف خلخلتها ليصعد بها إلى مستوى الفعل الثقافي الواعي بدور الصوت والفعل والرؤية البديلة في هذه الحتمية …(1) ، لقد عايش ونوس أحداث بلاده سوريا سواء على الصعيد الوطني أو القومي، بكل أحاسيسه ومشاعره، وتفاعل معها، مما انعكس على تكوينه النفسي والجسدي معاناة وحرقة، كما انعكس على حسه الفني قلقا وإبداعا.
وإذا كان الدكتور يوسف إدريس قد انطلق، في محاولته التأصيلية، من الدعوة إلى العودة إلى الشخصية الفرفورية، والانطلاق من حلقة السامر الشعبي في كتابه “نحو مسرح عربي،” فإن سعد الله ونوس انطلق من الدعوة إلى “المسرح التسييسي”.
فإلى أي حد يتمظهر التسييس في مسرح ونوس ؟. وأين تتجلى تنظيراته في تطبيقاته المسرحية ؟
المسرح فن سياسي، هكذا نشأ وإن كانت نشأته مرتبطة بطقوس الأديان البدائية أكثر من ارتباطها بأي نشاط سياسي مباشر. لكن الطابع السياسي للمسرح يجب أن يفهم من

حيث قدرة هذا الفن على الاستجابة لمتطلبات الحركة التاريخية للمجتمع. والدلالة السياسية هي الدلالة الأولى الأكثر شمولا لهذه الحركة التاريخية.
والمسرح، مثل كل الفنون الأخرى، يستطيع دائما، وفي صورة جادة أن يكون مصدرا يمد الإنسان بالطاقة الروحية والوجدانية التي يتزود بها في معركته المستمرة من أجل التطور والانطلاق. وقد كانت له جذور مباشرة في رومانسية القرن التاسع عشر. فهو بمعنى أوسع نتيجة حتمية لعملية تمهيدية طويلة، بدأت في العصور الوسطى؛ فمن فوق سقوط الطبقات الاجتماعية القديمة وأشلاء القيم البائدة وخرائب الأصول والأسس المنهارة في الثقافة التقليدية، يقف كاتب المسرح السياسي الحديث ليمعن التفكير في التمرد وفي واقعه الاجتماعي والسياسي، لأنه لا يمكن لأي مجتمع أن يتطور من تلقاء نفسه، ولكن من خلال عمل الإنسان فيه وتطلعه الأبدي إلى حل ما تطرحه عليه الحياة والوجود من قضايا ومشكلات.
وفي القرن العشرين” ظهر في أوروبا مصطلح مسرحي جديد، هو المسرح السياسي. وإذا حاولنا تعريف المسرح السياسي بأنه المسرح الذي يتعرض لقضايا سياسية، نكون كالذي عرف الماء بعد الجهد بالماء .” (2)
ويمكن تتبع خطوات المسرح السياسي عالميا قبل النظر فيما وصل إليه العرب في هذا الميدان.

2-المسرح السياسي العالمي :
2-1- المسرح الروسي :
نشأت بعد ثورة 1917 مجموعات مسرحية تعليمية معظمها من العمال والطلاب، كان هدفها دعائيا سياسيا. ذلك أن المسرح والأدب كله ” كان وما زال في أحد مظاهره سياسيا؛ أي أننا إذا ا تفقنا على تعريف السياسة بأنها مجموعة الأفكار أو الفلسفة التي تشكل نظرية الحكم التي يتم في ضوئها تنظيم علاقات الأفراد والمجموعات في المجتمع وفق قوانين وقيم معينة تحكم توزيع السلطة والمال وتحديد الأدوار ومناطق التحرك للأفراد والجماعات …(3) فإنه لم تكن هذه الحماسة المسرحية في الاتحاد السوفياتي بعد ثورة1917 صدفة أو انفعالية، لكنها راجعة إلى أن الثورة الجديدة قد غيرت من الوضع القائم، وفرضت مضامين جديدة كان من شأنها أن تفرض أشكالا مسرحية مناسبة لمضامين الثورة ومناصرة لها. ومن أهم هذه المجموعات المسرحية “جماعة القمصان الزرقاء” التي تطرح المفاهيم الاشتراكية الجديدة بشكل سياسي مقنع.
ولكن أحداث الثورة الاشتراكية الأولى في روسيا، قد ولدت ومعها مسرح المظاهرة السياسية أو مسرح “الجريدة الحية ” التي يجوز القول بحسب رأي الدكتور إبراهيم حمادة إنها نشأت في باطن ثورة أكتوبر الروسية حيث الظروف العامة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى(4). وكان من نتيجة تأثير”الجريدة الحية ” في روسيا أن ظهرت بألمانيا صيغة درامية مشابهة، ثم انتقل هذا الشكل المسرحي إلى أمريكا.

2-2 – المسرح الألماني :
قبل نشوب الحرب العالمية الأولى، عمل جيل الكتاب التعبيريين على تمهيد السبيل لوجود مسرح سياسي. وذلك عندما أنشأوا ما سموه “بالمسرح الشعبي” . عرف المسرح الألماني بعد الحرب مسرحيات “الإثارة والدعاية”، بل إنه قدم صورته المعدلة للقمصان الزرقاء باسم “القمصان الحمراء” (5)، وأخذ العمال في أول الأمر عنصر المبادرة في أيديهم بألمانيا عام 1919″(6)، كما عمل الحزب الشيوعي الألماني على تكوين جماعات مسرحية، بمثابة فروع للحزب، تعمل على إثارة الوعي الاجتماعي بين طبقات الشعب. وقد كانت تشترك مع المسرح الملحمي في “أن كلا منهما مسرح غير واقعي بطريقة لا تقبل الموازنة، فلم يحاول أحدهما خلق أي إيهام بالواقع سواء في المتن أو مكونات العرض المسرحي.
والواقع أن الصحف الحية في ألمانيا ومسرحياتها، لم تطرح جديدا على الشكل الملحمي الذي كان يتزعمه (برتولد بريشت) Bertold Brechtخاصة عروض (بسكاتور) Piscator في العشرينيات، في حين نجد أن بريشت في كتابة أعماله التي هاجم فيها النازية مثل “صعود وسقوط أرثووي” اعتمد على حبكة غير درامية، وتكاد تكون سردية تماما؛ حيث يحكي قصة سيطرة الحزب النازي على السلطة في ألمانيا متحالفا مع قطاعات معينة من الرأسمالية الاحتكارية الألمانية، كما جسد بشاعة الحرب الاستعمارية على الشعب، وأضحى الصراع في مسرحياته “هو الصراع بين الطيبين” “والأشرار” ، وبين الخير المطلق والشر المطلق بالمفهوم الملحمي، لكي يكشف عن البعد السياسي والاجتماعي لهاتين القيمتين المجردتين، وعن معناهما التاريخي المستمد من القضية التحررية التي يدور حولها الصراع نفسه”(7)، وهكذا يجد المسرح الغربي نفسه مضطرا إلى اكتشاف أشكال وأساليب جديدة لمعالجة المسرحية بموضوعات سياسية؛ ذلك أن السياسة بأوسع معانيها –أي اعتبارها المحيط الفكري والإجتماعي الذي يتم في إطاره الصراع الدرامي- تمثل فرضية أساسية في الدراما على مختلف أشكالها وفي مختلف عصورها (8)، و نجد التشيكوسلوفاكي (كارل تشابيك) CarlTchabik يعود إلى الشكل التقليدي في مسرحية “الأم” التي يجسد فيها بطولة أم تشيكية تضحي بأبنائها في مقاومة الغزو، كما نجد المسرحي الألماني( بيتر فايس) Peter Vais يلجأ إلى شكل تقليدي تماما في مسرحية “التحقيق”، ومادته كلها مستمدة من محاضر التحقيق مع مجرمي الحرب العالمية الثانية من النازيين، لكي يفضح جرائم النازية من ناحية، و التواطؤ المخزي بين الماكارثية الأمريكية الجديدة وبين النازية المهزومة من ناحية أخرى.
وعندما نتحدث عن “المسرح السياسي” يتبادر إلى أذهاننا منذ الوهلة الأولى، ذلك النوع من المسرح الذي ازدهر في ألمانيا أعقاب الحرب العالمية الأولى، أوفي أمريكا إبان أزمة 1929 الاقتصادية، حيث جاء محملا بوعي سياسي كبير، متوسلا بأساليب فنية جديدة سواء في أسلوب صياغة هذه الرسالة أدبيا أو في أسلوب عرضها على المسرح. غير أن هذا لا يعني أن هذا المسرح لم يكن منذ بدايته يحمل رسالة سياسية في طيات رسالته الفكرية؛ بل إننا نخطئ إذا توهمنا أن الأدب في كل صوره، وعلى اختلاف مذاهبه الفنية، لم يكن يعبر في المقام الأول عن رؤيا سياسية(9).

2-3-المسرح الأمريكي :
يعد المسرح السياسي وجها من وجوه المسرح المعاصر، لأنه دائم التطور والانطلاق، وللحقيقة والتاريخ لم يشهد العالم لفرقة مسرحية – تبنت موضوعات المسرح السياسي كما شهد لفرقة المسرح الأمريكية Theliving thestre ؛ تلك الفرقة التي أثارت اهتماما كبيرا في الأوساط المسرحية العالمية ، إذ وضعت –في مدى عمرها القصير –بصمات حقيقية في حياة المسرح الطليعي المعاصرعلى نحو جعلها تتمتع بلقب الفرقة الأم لسائر الفرق الطليعية في أنحاء الولايات المتحدة. لقد نالت هذه الفرقة شهرتها لما استحدثته من أساليب ، وما أبدعته من أفكار فاقت ما أنتجه غيرها من الفرق المسرحية المماثلة (10).
لقد ظهرت مسرحيات الصحف الحية في الثلاثينات(11) ، وتحديدا في عـام 1935. ويمكن القول إن المسرح الذي يندد بالحروب ويدعو إلى السلام ، ويعمل على إدانة المجتمعات الرأسمالية وفضح المجتمعات الاستهلاكية قد تأثر بصورة مباشرة وإيجابية بتعاليم (بسكاتور) ثم (بريشت)، وإلى جانب هذا نجد مسرحا سياسيا أمريكيا يتجسد في الجماعات المسرحية التي “تؤيد التغيير الاجتماعي وتكتب مسرحياتها بشكل جماعي”(12) مثل فرقة سان فرانسيسكو التي كان هدفها هو دفع الناس للتمكن من التحرك لتغيير المجتمع بمساعدة الفنون لتكون رؤية لحياة أفضل، ومثل هذه الجماعات منتشرة ومتعددة وكل واحدة منها تختار طريقة حياتها. ناهيك أن المسرح الحي ” يدعو مشاهديه للغوص في أعماق القلق الإنساني، وإلى بنية مسرحية تتبع أسلوب بيراندللو، الذي يقلد إنتاج الأفلام، لكن ذلك لن يسبب سوى حصر الجمهور في المسرح …” (13).
2-4- المسرح السياسي العربي :
بدأ المسرح السياسي العربي مرحلته الجديدة بعد نكسة 1967 ،عندما وجد نفسه مواجها بسؤال كبير: ” من نحن؟ إلى أين؟ كيف؟ وهذا يؤكد أن المسرح أداة ثورية بالغة الأهمية، من أجل تجاوز الهزيمة والتمزق والتخلف” (14)، ولكن هذا لا ينفي أن ميلاده الأول كان في بداية الثلث الأخير من القرن الماضي في أحضان المقاومة، منذ كتب يعقوب صنوع أولى مسرحياته مهاجما الاستبداد الخديوي أو التدخل الأجنبي. لكن المسرح السياسي العربي كان بحاجة إلى فترة طويلة نسبيا لكي ينضج فنيا، وينشط العقل للتفكير والتأمل دون أن يحده أو يكبله. وقد تحقق له ذلك بعد الحرب العالمية الثانية وبالضبط بعد نكسة يونيو 1967 هذه النكسة التي ” مرت أنواع من المسرحيات التي من شأنها أن تؤلم وتعذب الذات العربية كما أنها أسهمت إلى حد كبير في إبراز الشخصية النضالية للإنسان الفلسطيني”(15)، وذلك في صورة الفدائي الذي يولد مع الشعب بكل معاناته وآلامه، وبكل خبرته ووعيه في مجتمع يسوده البؤس والفقر، فلم يكن بطلا أسطوريا وتمثالا جامدا بل إنسانا صاحب قضية يعي أبعادها تماما، وقد اكتشف الطريق الذي يوصله إلى تحقيق أهدافه لاسترجاع حقه.
وهكذا فالنكسة حولت المسرح، بشكل خاص، نحو مرحلة جديدة تنحو بصورة أو أخرى نحو الإشتراكية، متأثرة بالمسرح الملحمي في أوروبا. وهي لا تقدم أحداثا منفصلة بل مشكلة تتكون من عدة أخبار يربطها جميعا نمط كلي واحد يوفر لها أثرا عاما واحدا مستخدمة الإذاعة والفيلم كحدث، وتقيم علاقة جدلية مع المتلقي كعنصر مشارك في الحدث المسرحي، “وكمواطن يعنيه حلها بشكل مباشر”(16)، كما كانت هناك مسرحيات تعرض في الشوارع وحيث تجمعات العمال خارج بوابات المصانع بهدف التغيير.
والمسرح الحي، على الرغم من أنه لا يرتبط بنظام سياسي من حيث نشاطه، ومن حيث قضاياه المطروحة، إلا أنه يعمل على إدانة المجتمع الرأسمالي، ويرفض نصوصه المسرحية، ويسعى إلى تحرير الإنسان على كل المستويات. وعن المضمون في المسرح الحي يرى سعد أردش أنه يتجه نحو أسلوب التعبير الساخر، ولا يخشى التعابير التي تعتبر منحطة وقبيحة. وقد كان الدافع الأساسي لظهور هذا النوع من المسرح في أمريكا لأن الأزمة الاقتصادية قد جاءت لتفتح عيون البعض على ضرورة الالتزام، ففتحت عيونهم على ضرورة ظهور مسرح جديد يتناول المشاكل الجديدة ويجسدها، حيث كانت البطالة سائدة في كل مكان ولم تعد الطبقة العاملة سوى كتلة ميتة لا حاجة بالكاتب للنظر إليها أو استخدامها كمادة للخلق الفني. ومن الأدوات التي كان يستعملها هذا النوع من المسرح لتوضيح قضيته المراد طرحها، وأخذ موقف منها، الشكل الملحمي ويستخدم مكبر الصوت والصور المعروضة على الشاشة الخلفية للمسرح، والإعلام والإضاءة الخاصة، وعلى تغيير المشاهد السريعة في كثير من الأحوال عن مذهب الفن للفن، وإن لم يفعل فعله المطلوب في تغيير العقلية العربية. كما خضع هذا المسرح في هذه الفترة لمراجعة أساسية، واتخذ طريقا لرؤياه محاولا إعادة اكتشاف الواقع العربي والإسهام في تغييره؛ بدءا برسم الحاضر بكل تناقضاته لتحديد أفق المستقبل بنظرة مغايرة لما كان سائدا قبل الهزيمة. فبدأ المسرح يستفيد من منهج التداخل و المباعدة، والإغراب وكسر الحائط الرابع، كالاتجاه نحو المسرح الملحمي البريشتي كما في مسرحية “حفلة سمر من أجل 5 حزيران” لسعد الله ونوس، “والنار والزيتون” لألفريد فرج و”وطني عكا” لعبد الرحمان الشرقاوي و”أغنية على الممر” لعلي سالم، و “ثورة الزنج” لمعين بسيسو و”بلدي يا بلدي” للدكتور رشاد رشدي، ومثل تجارب مسرح ” الشوك”، ومسرح “الشعب” في حلب، ومسرح “القهوة” في مصر، وتجارب مسرح “الهواة ” في المغرب. ولكنها كانت أمرا طبيعيا ومنطقيا جاء نتيجة التحولات الجديدة في المجتمع بعد النكسة، حين بدأ المثقفون والمسرحيون يفتحون أعينهم على الواقع، وبدأت رحلة البحث عن الذات العربية، وعن حقيقة الواقع العربي الذي نعيشه.
ونعود للحديث عن مسرح الشوك، كشكل من أشكال المسرح السياسي التحريضي، الذي تأسس على يد الفنان المسرحي عمر حجو، وشاركه عدد من الفنانين الشبان وعدد من الفنانين النجوم مثل دريد لحام ونهاد قلعي، وقد اتخذ هذا المسرح شكل الكباريه السياسي الذي يستند في تقاليده إلى تقاليد المسرح الشعبي في الأرض العربية “فهو لا يقدم عرضا مسرحيا متكاملا، ولا يهتم بالأصول الدرامية العلمية”(17)، وإنما يهتم أولا وأخيرا بالنقد والتحريض الاجتماعي وكشف الأخطاء رغبة في العلاج ومساهمة في الوصول إلي التغيير نحو الأفضل بمبدئه الذي يتمثل في “كثير من السياسة قليل من الفن”؛ وذلك لأن هدفه الإنساني هو السياسة. ويأتي الفن المسرحي في المرتبة الثانية، كما يعتمد مسرح الشوك على تقديم الأخطاء والعيوب بأسلوب “الكاريكاتير” مضخما الأخطاء ويطرحها بشكل يثير النفور، لأن تلك الأخطاء ما أن تتجسد وتظهر حتى تفضح. وفضحها هو الخطوة الأولى نحو الخلاص منها وتغييرها. وهنا تتمثل المهمة الأولى، المهمة الإنسانية لمسرح الشوك، “وهي با لضبط فضح الأخطاء الموجودة في المجتمع وتسليط الأضواء عليها تسليطا يشتمل على التحريض ويعمل على محوها”(18). وهكذا، فهو مسرح يشخص المرض أو العيب الفردي أو العيب الاجتماعي ويترك للمشاهد دوره في العثور على الدواء، باعتباره أي المشاهد جزءا من العرض المسرحي مشاركا فيه بيقظته بما يجري أمامه. ومن هنا تأتي مسؤولية المشاهد في العمل على تغيير الواقع السياسي أو الإجتماعي أو الإقتصادي نحو الأفضل،” فالقدرة على تغيير الواقع موجودة داخل الإنسان المتفرج، كما أن السلطة تملك الوسائل القادرة على التغيير. وهاتان القوتان المتفرج، والسلطة، هما المسؤولان الأساسيان عن تبديل الواقع”(19).
يبقى مسرح الشوك مجرد صورة لما يمكن أن يقوم به المسرح السياسي، كمنبر للنقد السياسي الجاد. “فهو صيغة سورية مثل المقاهي المسرحية والمسرح الحي في الغرب، وقد يكون تطويرا ذكيا لفكرة الاسكتش الفكاهي التقليدي أو احتفالا فنيا جماعيا لصالح المجتمع”(20). وهو أقرب ما يكون إلى الجماعات المسرحية ومسرح الصحف الحية في أوروبا وأمريكا من حيث اعتمادهم على فكرة النقد السياسي والاجتماعي المباشر والشجاع، لأن أروع ما في الموضوع هو الفكرة ذاتها، فكرة النقد الاجتماعي والسياسي المباشر عن طريق مسرح الشوك. وهي وظيفة عتيقة للكوميديا أحياها مسرح الشوك بعد موت طويل. وأبرز ما حققه مسرح الشوك هو الشكل المسرحي الجديد. والنجاح الحقيقي لفرقة مسرح الشوك هو نجاحها في أن تشغل الجمهور بمشاكله الحقيقية. وهكذا، ومن منطلق ذلك المضمون السياسي الاجتماعي التحريضي يأتي الشكل الجديد والطليعي لمسرح الشوك كمسرح سياسي، ومن أشهر عروض مسرح الشوك عرض “لا تسامحونا” للمخرجين فيصل الياسري، وعلاء كوكشي، وعرض في عام 1972 وعرض “ليلة ما بتتعوضش” وعرض “مرتي مناعة محلية” .وفي تلك العروض نجد اللوحة الانتقادية ذات الهدف السياسي والاجتماعي المباشر إضافة إلى الثوب الشعبي الدرامي. أما أجرأ عروض مسرح الشوك، فيتمثل في تجربة المخرج والممثل السوري أسعد فضة، الذي تأثر كثيرا بمسرح الجريدة الحية عندما عرض مسرحية “براويز” . ويتضح من هذا العرض أن الحيوان يرفض أن يستمر في مجتمع به كل هذا التناقض وهذه الانتهازية. و من خلال الضحكة السوداء يعمل على إلقاء الضوء على هذه الأوضاع لتنبيه المشاهد إلى هذه السلبيات، فيعمل من خلال هذا الدرس على التغيير نحو الأفضل.
تهتم جميع هذه العروض أو معظمها أساسا بالناحية السياسية، والتي تكون مباشرة في أغلب الأحيان أكثر من اهتمامها بالناحية الدرامية.وتقر على أن ” للمسرح علاقة بالسياسية ، وأن المسرح لا يستطيع أن يدير ظهره للأحداث السياسية القائمة في مجتمعنا” (21) ونشير إلى مسرحية “كأسك يا وطن” لدريد لحام التي، بالإضافة إلى السخرية في مختلف الميادين، تشير بشكل مباشر إلى مأساة فلسطين، وكيف أن الآباء قد خرجوا من قبورهم ليسخروا من جيلنا الحالي، الذي أضاع فلسطين وراح يحررها على الورق أو بالشعارات فقط. ومسألة خروج الآباء والأجداد من قبورهم خصوصا القواد الذين تركوا بصماتهم وانتصاراتهم علامات مضيئة في التاريخ العربي، مسألة مكررة في معظم العروض المسرحية السياسية التي تلجأ إلى البعد الزماني كمسرحية “المهرج” لمحمد الماغوط.
وفي الوقت الذي كانت تعرض فيه عروض “مسرح الشوك” في لبنان وسوريا، ظهرت تجربة مصرية تحريضية أيضا واتصلت اتصالا وثيقا برجل الشارع. وكان لها دورها المؤثر والحاسم في جبهتها الداخلية في ظروف معركتنا الحضارية بعد نكسة يونيو 1967 ونقصد بها تجربة “مسرح القهوة، ” والتي قدمها ناجي جورج كمؤلف شاب مع مجموعة من الشبان المتحمسين مسرحيا وسياسيا. فقدم مسرحية “إني أعترض” في مقهى المعلم أبي الهول التي لا يستغرق عرضها أكثر من خمس وأربعين دقيقة، وتدور أحداثها في أحد مقاهي السويس أو الإسماعيلية كخط مواجهة لنيران العدو الإسرائيلي صارخا في المسرحية نوعين من النماذج : الأول نموذج السلبي الانتهازي، والثاني نموذج “الوطني ابن البلد”. وينتقد العرض النظام الرأسمالي الانتهازي الذي لا يهمه إلا زيادة ثروته. ويتمثل هذا النموذج في المعلم “أبو الهول” والمسرحية باختصار ـ رغم حشدها للنماذج البشرية ـ تدعو إلى الخروج لملاقاة العدو الذي يتربص بالأمة العربية، وألا تنتظر حتى يأتي إلينا، ساخرة من البرجوازيين المثقفين الحالمين الذين ليست لديهم القدرة على الفعل. والمسرحية تكاد تقول بشكل مباشر “إن معركتنا مع العدو يجب أن تكون على مستوى الشعب كله”(22)، ورغم ما يمكن أن يؤخذ على العرض من بعض السلبيات إلا أنه استطاع أن يحقق التلاحم والمشاركة، ومخاطبة عقل المشاهد إلى جانب وجدانه، ” فلم يكن جمهور المقهى هو ذلك المتفرج السلبي ولكنه كان مشاركا في العرض يمثل دور المتفرج من خلال التحام خشبة المسرح بالصالة”(23) . وهكذا اكتسب الجميع حالة التمسرح، من خلال مقارنة أدوار أبطال العرض بالمشاهدين، الذين تمثلوا أنفسهم مكان الأبطال، مشاركين أحيانا في الحوار، بل في الفعل المسرحي. لهذا لم يكن غريبا أن يهب أحد المشاهدين ليطالب بفتح الباب وإنقاذ الفتاة البائسة التي كان المعلم قد تركها خارج مقهاه وقت الغارة خوفا على ممتلكاته.
ويمكننا طرح العديد من النصوص، كمسرحية “البعض يأكلونها والعة” التي كتبها نبيل بدران وأخرجها من مصر هاني مطاوع، ومسرحية “عضنا الجوع وغربه” فالمعنى الاجتماعي، أو السياسي لا يأتي من خارج العملية الفنية ذاتها، وليس مفروضا على الفن من خارجه، يأتي إليه من نظرية اجتماعية أو سياسية مثلا، ليصبح هو المضمون في العمل الفني، وإذا ما حدث مثل هذا، يصبح (الفن) في العمل الفني مدركا نظريا سالفا على العمل الفني ذاته. وهذا خطأ كبير يقع فيه التفكير المسرحي الحديث ، ويمكن التدليل على ذلك بالعديد من المسرحيات التي كتبها منظرو الحركات السياسية في العالم العربي فخرجت كتابا تهم ساذجة فنيا، أقرب إلى المقال السياسي، منها إلى المسرح السياسي. فالعلاقة بين عالم الواقع وعالم المسرح مشروطة بمدى قدرة المتفرج على أن ينتقل من عالم الواقع إلى عالم الاحتمال، والمتفرج يتقبل هذه النقطة، بل إنه يجد نفسه منغمسا في عمليتها، لأن عالمه الواقعي هو في حد ذاته عالم الاحتمالات.
وعليه، يمكن القول إن عالم الواقع مختلف تماما عن عالم المسرح، ونحن كمشاهدين لعالم المسرح قد نتخبط، على مسرح الشعارات البراقة والجوفاء، التي تساهم في التشويش، وتعتمد على الكلمة الصارخة، لأن هذا في حد ذاته، إلى جانب كونه ضد العملية الفنية، فإنه قد “يفرغ الناس من قدراتهم على التمييز والمحاكمة والاستيعاب”(24). وليس المقصود أن هذا الرأي ينطبق على مسرح التحريض والإثارة أو المسرح الملحمي أو التسجيلي، لكنه ينطبق فقط على تلك المنشورات السياسية، والتي يطلق عليها أصحابها ـ تجاوزا ـ اسم مسرح سياسي “فالفكرة والواقع المادي في تفاعل دائم، وأن الفكرة تشكل الواقع، بقدر ما يشكل الواقع الفكرة، فالعمل الفني ليس خادما للواقع بل رائدا، وأستاذا”(25).
ولقد عرفنا أن خاصية الأعمال الفنية الكبرى تعمل على إثارة القلق لدى المشاهد ، ومساعدته على الوعي بالواقع والعمل على تغييره وتبديله، وإذا كان لا يثير التمرد، أو يهدي الدفعات العنيفة، فهو يعمل في اتجاه الرغبة في التحول وذلك يقطع متناقضات الواقع سواء أكان سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا .
يقوم المسرح السياسي على الرغبة في انتصار نظرية مرتبطةباعتقاد جماعي، في أفق تحقيق مشروع فلسفي طموح وهادف(26).


الهوامـــــش

1-د.عبد الرحمان بن زيدان –مسرح سعد الله ونوس ، شهادات مقلقة حول وعي الذات بالواقع – سعد الله ونوس ، الإنسان/ المثقف/ المبدع، دار كنعان للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، 2000.
2-د. نهاد صليحة – المسرح بين الفن والفكر– الهيئة المصرية العامة للكتاب 1986ص. 97.
3-المرجع نفسه.
4-د. ابراهيم حمادة ـ آفاق في المسرح العالمي ـ المركز العربي للبحث والنشر، ط.1 ، 1981.
5-د. عبد العزيز حمودة ـ المسرح السياسي ـ مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1971.
6-المرجع نفسه.
7-سامي خشبة ـ قضايا معاصرة في المسرح ـ دار الحرية للطباعة بغداد،1972.
8-د. نهاد صليحة – المسرح بين الفن والفكر – مرجع سابق.
9-أمين العيوطي – المسرح السياسي – مجلة عالم الفكر، المجلد الرابع عشر، ع4، يناير/فبراير/مارس، 1984.
10-أحمد زكي – المسرح الحي مسرح سياسي – مجلة فصول، المجلد الثاني ، ع 3، أبريل/ مايو/ يونيو ، 1982.
11-د.ابراهيم حمادة ـ آفاق في المسرح العالمي ـ مرجع سابق.
12-نبودور شانك ـ المسح السياسي الممثلون و المشاهدون ـ ترجمة نيودلهي راكيش،1979.
13-فرانك جوتران – المسرح الأمريكي الجديد – ت: ولي الدين السعيدي ، دراســـات نقدية عالمية ” 18″، منشورات وزارة الثقافة، دمشق سوريا 1998.
14-أحمد العشري –المسرح التحريضي، الإثارة والدعاية –مجلة عالم الفكر ، الكويت عدد 1 أبريل /مايو/يونيو/ 1987 .
15-د. عبد الرحمان بن زيدان ـ أدب الحرب في المغرب ـ مجلة فصول المجلد2، ع1 ،1995.
16-د. ابراهيم حمادة ـ أفاق في المسرح العالمي ـمرجع سابق.
17-سعد أردش ـ المخرج في المسرح المعاصرـ مجلة عالم المعرفة عدد 19، الكويت، 1979.
18- مسرح الشوك إضحاك أم تحريض على التغيير-حوار مع دريد لحام مجلة الموقف الأدبي، ع.1، س.2 . 1992.
19-المرجع نفسه.
20-بهاء طاهر ـ المسرح والجمهور ـ مجلة المسرح، القاهرةع 4. يونيو 1969.
21-حوار مع : سعد الله ونوس، أجراه : نبيل حفار – مجلة الطريق، ع 2، أبريل /ماي 1986.
22-محمد بركات -مسرح القهوة تجربة جديدة وجريئة -مجلة المسرح القاهرة، يوليــوز/ غشت، ع73 ، 1970.
23-المرجع نفسه.
24-علي عقلة عرسان ـ سياسة في المسرح ـ منشورات اتحاد الكتاب، دمشق، 1978.
25-شكري عياد ـ تجارب في الأدب والنقد ـ دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1967.
26-أحمد بلخيري-معجم المصطلحات المسرحية –مطبعة سندي مكناس ، ط 1 ، 1997.

فى الألفية الثالثة

المسرح السياسى بين الانتقاد والتحريض

يكتمل العرض المسرحى إلا بالحضور الجماهيرى، فالجمهور شريك أساسى فى هذا الفعل وليس فقط مجرد متفرج.. والمسرح الذى يتوجه دائماً للإنسان ويعبّر عن قضاياه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية هو مسرح سياسى فى كل صوره المختلفة حتى لو كان يطرح قضايا ذاتية، منذ التراجيديات الإغريقية الكبرى التى جسدت صراع الإنسان مع القدر والتى لا تخلو أيضاً من السياسة، لأنها تطرح مأساة الإنسان وصولاً إلى عروض المسرح السياسى فى عصرنا الحديث. فالمسرح ارتبط بالسياسة منذ نشأته وعبر تاريخه من خلال التوجه إلى جماهير عريضة ومروراً بكل الصيغ والأشكال التى عرفها الجمهور.

فما أطلق عليه فى العصر الحديث  “political theater” كان موجوداً فى صيغ مسرحية عديدة قبل اعتماد هذ المصطلح، أهمها المسرح الشعبى، والمسرح التحريضى.

لذلك اعتبر البعض أن المسرح كله سياسى، بل ويمكن أن نعتبر أن فعل التوجه إلى الجمهور وشكل التلقى الذى يفترضه المسرح سياسة أيضاً، حتى وإن كان لا يحمل مضمونا سياسيا، فهناك دائما محاولة لخلق مسرح يربط بين الفن والسياسة ويعطى للمسرح دوراً تحريضياً يتوجه – فى الغالب – للطبقات الشعبية.

لكن علينا أن نفرق بين المسرح الذى يندرج بوضوح تحت مسمى المسرح السياسى، وهو الذى يتناول القضايا السياسية بشكل مباشر، وبين المسرح الذى يطرح قضايا اللحظة الراهنة وأسئلة الواقع أو مأساة الإنسان عبر العصور، فالنوع الأول ليس فقط يحتاج إلى كتابة يتحقق من خلالها شرط المسرح السياسى بل أيضاً صيغ الإخراج والتمثيل التى تعتمد على كسر الإيهام واستخدام أساليب المسرح السياسى مثل الكباريه، والريفيو، وغيرهما، ليتحقق الهدف من تقديمه فى التحريض وإثارة الجماهير. أما النوع الثانى الذى يطرح قضايا عامة ورؤية لا تخلو من الإسقاط السياسى فيتم تقديمه بصيغة المسرح التقليدى، الصيغة الأرسطية التى تتوحد فيها الصالة مع الخشبة من خلال تحقيق شرط الإيهام.

وعربياً، ارتبط المسرح بالسياسة وارتبطت السياسة بالمسرح منذ النشأة فى مصر وسوريا ولبنان، ليس فقط لأنه نشأ فى زمن الاستعمار، بل لأن كل الظواهر المسرحية الشعبية التى مهدت لاستقبال هذا الفن فى الوطن العربى يغلب عليها الطابع السياسى، مثل فن الأراجواز وخيال الظل والبابات والمقامات. وعلى الرغم من الطابع الغنائى للمسرح حال ولادته فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر فإن السياسة كانت لها الكلمة العليا، السياسة التى أغلقت مسرح يعقوب صنوع فى مصر، والرجعية الدينية التى لا تخلو أيضاً من السياسة والتى أجبرت أبوخليل القبانى على إغلاق مسرحه فى سوريا والهجرة إلى القاهرة، فلم يستطع الرواد الأوائل تجاهل الأحداث الجارية والواقع الذى يسيطر عليه التخلف فى ذلك الوقت، ولم تكن النشأة مخططا لها بشكل منهجى، بل جاءت من هواة ارتبط المسرح عندهم بالوظيفة الاجتماعية من خلال شعورهم بقدرة المسرح على القيام بعمليات التغيير الاجتماعى، حيث عرف المسرح المصرى الكوميديا الشعبية المرتجلة فى أوائل القرن من خلال عروض أقرب إلى الكوميديا الانتقادية التى بدأها عثمان جلال كما ذكر د.على الراعى، وتلاه تيمور فى الكوميديات الأخلاقية، ثم توفيق الحكيم فى مسرحية المرأة الجديدة عام 1923. وبفضل عثمان جلال أمكن لأحمد شوقى أن يقدم الست هدى التى يعتبرها على الراعى أول ثمرة حقيقية للنبت الذى استورده عثمان جلال وزرعه فى التربة المصرية، أى كوميديا النقد الاجتماعى المعروفة باسم كوميديا السلوك، والتى سوف تكون بعد ذلك ملمحاً رئيسياً فى المسرح المصرى من خلال صيغ وأشكال متباينة تتغير وتتطور وفقاً لشروط ومتطلبات اللحظة الراهنة. فالكوميديا الاجتماعية التى قدمها نجيب الريحانى وبديع خيرى فيما بعد فى مسارح شارع عماد الدين كانت لا تخلو من إشارات سياسية، وشيوع فن الأوبريت الذى قدمه سيد درويش وكان يعتمد على السياسة فى بنائه العميق، مثل العشرة الطيبة التى تؤكد فساد السلطان والحاشية. وإذا تأملنا عروض الريحانى وعلى الكسار وجيل النهضة بعد ذلك سنجد أن هذه الكوميديات تقوم فى بنائها العميق على السياسة، بل وعلى التحريض فى أحيان كثيرة. وأشار المؤرخون إلى أن وزارت عديدة كان يتم تشكيلها فى شارع عماد الدين، شارع المسارح، حيث أسهم مسرح التورية السياسى الفكاهى الوثائقى فى ذلك الوقت فى تنمية روح الوطنية والقومية وفى ثورة الشعب عمالاً وطلاباً. فقد آمن المجتمع بالمسرح وشارك أهل السياسة فى كتابة المسرح واستخدامه فى تنمية الروح الوطنية كما فعل عبدالله النديم فى مسرحية “الوطن” التى تخيل فيها الوطن إنسانا بائساً يجلس على قارعة الطريق يتسول المحبة من المواطنين ولا يحظى بها ويكشف من خلال هذا النص أمراض المجتمع فى نهاية القرن التاسع عشر.

استمرت كوميديا النقد الاجتماعى التى يغلب عليها طابع الانتقاد السياسى فى المسرح المصرى وكانت لها الكلمة العليا حتى بداية النصف الأول من القرن العشرين، لكن بعد يوليو 1952 تطورت العلاقة بين المسرح والسياسة من خلال المسرحيات التاريخية التى تعتمد على الإسقاط لطرح قضايا سياسية معاصرة، وذلك فى أعمال ألفريد فرج وعبدالرحمن الشرقاوى ومحمود دياب بعد ذلك، وأصبح المسرح يطرح المشاكل من خلال رؤية أعمق بعيدا عن الإسقاط والخطاب الانتقادى المباشر خاصة بعد أن أحكمت المؤسسة الرسمية قبضتها على المسرح والفنون الأخرى فلجأ المسرحيون إلى استلهام التراث أو قل الاختباء خلف الشخصيات التراثية والتاريخية واستخدام الرمز، وبرزت مسرحيات عديدة منها “الفتى مهران، وطنى عكا (لعبدالرحمن الشرقاوى)، سليمان الحلبى، حلاق بغداد (لألفريد فرج)، بير السلم، سكة السلامة (لسعد الدين وهبة)”، حتى صاحب البرج العاجى توفيق الحكيم كتب “السلطان الحائر، والصفقة، وبنك القلق”، بالإضافة إلى أعمال محمود دياب وميخائيل رومان ونجيب سرور وصلاح عبدالصبور وغيرهم، الأعمال التى هى أقرب إلى مفهوم التسييس كما وضعه سعدالله ونوس فيما بعد حيث طرح المشكلة السياسية من خلال قوانينها وعلاقتها المترابطة والمتشابكة داخل بنية المجتمع الاقتصادية ومحاولة استشفاف أفق تقدمى لحل هذه المشكلة.

لكن فى نهاية حقبة الستينات ظهر المسرح السياسى المباشر بقوة فى مصر والذى انحاز لصيغة الكباريه السياسى فى ظل هامش الديمقراطية الوهمى، وظهرت عشرات الأعمال التى يمكن أن تندرج تحت مسمى المسرح السياسى وتبتعد عن المفهموم العميق للتسييس، وتتخلى عن الإسقاط والرمز، بعضها تجاوز القوالب التقليدية مثل “البعض يفضلونها ولاعة” تأليف نبيل بدران وإخراج الدكتور هانى مطاوع، وعرض “كلام فارغ” إخراج سمير الصعفورى عن كلمات أحمد رجب الساخرة التى كان يكتبها فى الصحف، وإن كان البعض ظل يقدم المسرح السياسى فى صيغة الكباريه السياسى المباشر مثل جلال الشرقاوى، وهى عبارة عن مجموعة من اللوحات التى تجمع بين النقد الشديد لما يحدث فى المجتمع مع الغناء والاستعراض، وهذا يساعد فى توحيد الصالة وخشبة المسرح من خلال القواسم المشتركة بينهم وهى الأحداث الجارية والشخصيات المعروفة التى يتناولها العرض، أو إشارات التراث والتاريخ وهى الصيغة الأكثر شيوعاً للمسرح السياسى فى مصر خاصة فى العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين. ولأن الواقع كان مهيأ فى تلك اللحظة لاستقبال المسرح السياسى خاصة بعد يونيو 1967، أصبح الأسلوب الأكثر تداولاً خليطا بين الكباريه السياسى وعروض المنوعات ومسرح الجريدة الحية والمسرح التحريضى مع استعارة أشكال الفرجة الشعبية من خلال استخدام الأراجوز وخيال الظل وألعاب شعبية أخرى، ناهيك عن الاستعراض والغناء، ولهذا يكون عرضا أقرب إلى عروض المنوعات التى تقوم على أشكال فرجة متعددة من خلال التنوع فى استخدام الأشكال الفنية التى تهدف إلى الإثارة والتسلية والإبهار فى محاولة لتحقيق الربح التجارى، من خلال تقديم لوحات لها طابع الهجاء السياسى والنقد اللاذع للمجتمع، مع تفاوت المستوى الفنى، أى المسرح السياسى فى صيغته الصريحة المستعارة من الغرب، بالإضافة إلى ظهور المسرح السياسى التسجيلى مثل “ما حدث لليهودى التائه مع المسيح المنتظر” ليسرى الجندى.

وإذا انتقلنا إلى المسرح السياسى فى مطلع الألفية الجديدة، فسنجد أن ثمة تشابها بين ما حدث بعد يونيو 67 وبين السنوات التى سبقت الأحداث والوقائع التى حدثت فى 2011 بصور وأساليب مختلفة، فلا يمكن إغفال التغييرات التى طرأت على المجتمع المصرى فى الحقبتين وأصابت الواقع السياسى والاجتماعى والفكرى فى مصر، الأولى بفعل صدمة الهزيمة غير المتوقعة والحقبة الثانية بفعل فساد النظام السياسى والاجتماعى قبل 2011 ورغبة المسرحيين فى الإصلاح الاجتماعى عبر المسرح ونمو الوعى السياسى بعد الخامس والعشرين من يناير خاصة بين الشباب الذين اتجهوا إلى صيغ المسرح السياسى بأشكاله المختلفة.

فى محاولة للتعبير عن تلك اللحظة، وفى السنوات الأخيرة دخل الشباب حلبة الهجاء السياسى أو الانتقاد السياسى لطبيعة المرحلة حيث أصبح الجدل السياسى من أساسيات الحياة والطبق الرئيسى على مائدة المصرين اليومية، فقد تم تقديم عدد من العروض فى الفترة من 2011 وحتى 2013، مثل “1980 وأنت طالع”، “حكايات أم دينا”، “حلم بلاستيك” الذى تم تقديمه أثناء حكم الإخوان، بالإضافة إلى عروض تم تقديمها قبل 2011 بدأت مع مطلع الألفية الجديدة منها “اللعب فى الدماغ” وقهوة سادة وشيزلونج، ونلتقى بعد الفاصل لتطرح هذه العروض رؤية مغايرة للمسرح السياسى فى مصر بتأثير الأحداث السياسية الساخنة قبل وبعد 2011. وعلى المستوى الفنى استمر الأسلوب الكلاسيكى للكباريه السياسى فى عروض جلال الشرقاوى الذى قدم عرضين فى هذه الفترة “دنيا أراجوزات، ودنيا حبيبتى” قبل وبعد 2011، بالإضافة إلى عرض “غيبوبة” من تأليف محمود الطوخى فى 2016، وسوف نحاول فى هذه القراءة إلقاء نظرة على مجموعة من عروض المسرح السياسى قبل وبعد الثورة فى صيغه المختلفة من خلال اثنى عشر عرضاً، ستة عروض منها قبل الثورة “اللعب فى الدماغ، قهوة سادة، نلتقى بعد الفاصل، شيزلونج، دنيا أراجوزات، بصى” وستة عروض بعد الثورة “1980 وأنت طالع، حكايات أم دينا، دنيا حبيبتى، حلم بلاستيك، مافيش حاجة تضحك، غيبوبة”. ويلاحظ فى هذه العروض أولاً: أن بعضها تم تقديمه فى 2010 واستمر فى 2011 بعد الثورة حيث تم تعديلها بما يتناسب والأحداث الجارية، وهنا لا بد من التوقف أمام ازدهار المسرح السياسى عام 2010 قبل اندلاع أحداث الثورة للأسباب التى ذكرناها سلفاً. ثانياً: دخول الشباب حلبة المسرح السياسى خاصة الفرق المستقلة، بعد أن كان من نصيب المسرح التجارى فى السنوات الأخيرة أو من نصيب مسرح الدولة فى حدود الانتقاد المسموح به، وبالتالى تغيرت ملامح المسرح السياسى وخرجت من حيز الكباريه إلى آفاق أكثر حداثة من هذه الصيغة، لكن غاب عنها النص المسرحى الذى يطرح المشكلة من خلال قوانينها برؤية عميقة، بل معظمها غاب عنه النص المكتوب واعتمد على الارتجال الجماعى، بل وعاد إلى البدايات الأولى للمسرح الشعبى مستفيداً من الصيغ المسرحية الحديثة مثل المسرح التحريضى، وعروض المنوعات وتقنيات عصر الصورة مثل المالتيميديا. وما حدث يؤكد أن ازدهار المسرح السياسى أو تراجعه عبرالعصور مرهون بالتطور السياسى والاجتماعى والفكرى فى المجتمع، وهذا ما دفع شريحة كبيرة من الشباب للتخلى عن عروض القاعات، والعروض التجريبية واللجوء إلى المسرح السياسى وتجلياته حيث كان الهدف هو التحريض وإثارة المتفرج وتحفيزه على التغيير..

المصدر مجلة الاذاعة والتلفزيون

المسرح السياسي في الغرب ونظيره في الوطن العربي

في الوقت الذي تجاوز فيه المسرح العالمي تعريفه لمصطلح السياسي في المسرح لا تزال الإشكالية قائمة في الوطن العربي حول مفهوم المسرح السياسي وماهيته وممارساته ؛ وهي إشكاليات ترتبط بمفهوم مصطلح ( السياسة ) في الوطن العربي ؛ وبالتالي ما زال هناك غموض  حوله يؤدي إلى فوضى في المصطلح ؛ وفوضى في التصنيف ؛ وفوضى في الممارسة المسرحية ؛ وبالتالي يمكن طرح أسئلة مثل :
هل كل عمل مسرحي عربي يتناول ظاهرة سياسية ما هو مسرح سياسي ؟
هل يدخل النقد الاجتماعي في تصنيف المسرح السياسي ؟
أن يلجا المسرح إلى التراث العربي القديم لنقد ظواهر سياسية معاصرة هل يعني انه مسرح سياسي ؟
إلى آخر مثل هذه الأسئلة التي تعطي المسرح العربي صفة الزئبقية وعدم الوضوح ؛ فما يمكن وصفه بالمسرح السياسي في مكان يمكن وصفه بمسرح النقد الاجتماعي في مكان آخر ؛ وما يصنفه إيديولوجيون على انه مسرح سياسي قد يسفهه إيديولوجيون آخرون نافين عنه صفة المسرح السياسي؛ وعندما يحقق المسرح السياسي حضورا في فترة ما ؛ سرعان ما يدخل في إطار التمييع في فترة لاحقة ليصبح مسرحا تجاريا ..
وهكذا يعيش المسرح السياسي العربي أزمة هي جزء من أزمة المسرح العربي ككل ؛ واحد أشكال هذا المسرح السياسي تحوله كما قلنا سريعا إلى التجارية والتمييع ثم الانطفاء.
تاريخ المسرح السياسي في الغرب
لا يذكر تاريخ المسرح السياسي في الغرب انه تم تداول مصطلح المسرح السياسي كصفة مميزة لمسرح ما ؛ فالمسرح باعتباره جزءا من الطقوس الحياتية يتعرض للظواهر السياسية وغير السياسية ؛ ولكن ظهر مصطلح المسرح السياسي مع شهرة أعمال المسرحي الايرلندي ” شون اوكيسي ” الذي ربما يكون أول من طرح المصطلح بلفظه وجسَده عمليا على ارض الواقع ؛ ولعل استعراضا سريعا لسيرة هذا المسرحي توضح فكرة المسرح السياسي الذي سمَاه وطرحه.
ولد شون اوكيسي في عام 1828 في مدينة دبلن من أسرة فقيرة معدمة ؛ وعاش طفولة بائسة أثرت تأثيرا كبيرا في أعماله المسرحية ؛ فالحرمان الذي عانى منه والفقر الذي عاشه سنين طويلة وجو المقاومة الايرلندية للبريطانيين كان الأساس الذي بنى عليه مسرحه ؛ وقد تعرف على قادة المقاومة الايرلندية وصار هو نفسه من أعضائها النشطين.
لم يدخل اوكيسي مدرسة ؛ ولكنه تخرج من مدرسة الحياة ؛ وفي بداياته المسرحية كتب ثلاث مسرحيات هي : زهرة في الصقيع – عبدالحياة – اللون القرمزي؛ ولكن هذه المسرحيات لم تلق أي نجاح ؛ وشن النقاد هجوما عنيفا عليها لانها كانت تطرح مضامين غريبة عن المسرح السائد ؛ وقد رد اوكيسي على هجوم النقاد قائلا : ” ما على هؤلاء سوى أن يمجدوا أسيادهم ؛ بينما أنا أتحدث في السياسة التي لاترضي أسيادهم ؛ وبالتالي لا يمكن أن ترضيهم”.
وهكذا وردت كلمة ” السياسة ” في سياق الحديث عن المسرح لاول مرة في عبارات اوكيسي ؛ ومنذ ذلك الوقت اقترنت كلمة ” السياسي ” بالمسرح عندما كان يطرح مواضيع تشابه مواضيع اوكيسي ؛ ومع ذلك لم يصل النقاد الغربيون إلى تحديد تعريف نهائي للمسرح السياسي ؛ فهناك تعاريف ليست منسجمة مع بعضها ؛ ففي بعض هذه التعاريف نقرأ أن المسرح السياسي هو المسرح الذي ينشغل بأحداث سياسية معينة تمثل وجهات نظر محددة تجاه هذه الأحداث ؛ ومبدعو هذا النوع من المسرح يستخدمون أساليب وطرقا فنية متنوعة ؛ بالإضافة إلى فن الارتجال وغيرها من الوسائل والإمكانيات الفنية الأخرى التي تتضافر جميعها في خلق هذا المسرح الذي يعد ظاهرة مسرحية تنعكس في أعمال تتسم بتفوقها الفكري والفني .
وعلى هذا يمكن استخدام تسمية المسرح السياسي على الأعمال التحريضية ؛ أو تستخدم في تحديد نوع من المسرحيات تتناول مضامين دعائية تستثير ردود فعل فورية عند المتفرجين في مواجهة هذه الأحداث ؛ وتمتد تقاليد هذا المسرح وجذوره إلى فترة المسرح الروسي أثناء ثورة أكتوبر عام 1917 حيث احتاجت الثورة هذا النوع من المسرح في عملية الترويج لمبادئها ؛ كما تم تداول مصطلح ” المسرح السياسي ” بكثرة في ألمانيا عقب استيلاء هتلر على الحكم في ألمانيا ؛ وكان من جملة الوسائل التي اعتمدها للدعاية للنازية وترويج أفكارها المسرح .
أما المخرج والمنظر الألماني ( ايروين بيسكاتور ) فيرى في كتابه ( تسييس المسرح ) الصادر في ألمانيا عام 1929 أن الشرط الأساسي لكي يكتسب المسرح صفة السياسي هو أن يعتمد على وثائق وحقائق معروفة للجمهور ثم يعيد طرحها ضمن معالجات توجه الجمهور نحو رؤية سياسية يعمل من اجلها المسرحيون الذين يقدمون العمل ؛ وهذا يعني أنه لكي يكون المسرح سياسيا يجب أن يمتلك الحجة والبرهان على طرحه السياسي عبر المسرح ؛ وعندما يطلب منه أن يبرز وثائقه للجمهور يجب أن يملكها ويبرزها ؛ وعلى هذا فان المسرح المنتمي للبلشفية عند بيسكاتور لا ينتمي للمسرح السياسي لانه يطرح قضايا نظرية يمكن مناقضتها ومجادلتها من قبل الجمهور نفسه .
وهكذا تعددت تعاريف المسرحيين والنقاد للمسرح السياسي ؛ وتحول الأمر منذ الستينات إلى اجتهادات نظرية وعملية يحاول أصحابها تسييس المسرح عبر رؤاهم لوظيفة المسرح ؛ فظهر ما يسمى( مسرح الشارع ) ؛ وينادي أصحابه بدمج المسرح بالحياة من خلال عروض مسرحية تجري في الشارع ؛ وتعتمد التحريض هدفا لها ؛ ومن اشهر المسرحيين الغربيين الذين نادوا بهذا المسرح ومارسوه الفنان ” اندريه بينديتو” ؛ والحوار الأساسي في هذا المسرح هو الارتجال من قبل الممثلين ؛ والمادة الأساسية هي هموم الأحياء في الشارع الذي تقدم فيه المسرحية ؛ والمواقف تكون وليدة لحظتها ؛ والجمهور هم العابرون والمارة في الشارع ؛ ولذلك يجب لفت انتباههم في البداية بواسطة حركات بهلوانية ونشاطات تعتمد القدرات الجسدية للمثلين ؛ ثم يتدرج العرض المسرحي ليتوحد الممثلون مع المتفرجين ؛ ويصبح الجميع مؤدين مسرحيين لهموم الجميع.
وقد ظهر ضمن هذه المسارح السياسية ما عرف باسم مسرح جويريلا ؛ ويعني ” مسرح العمليات السياسية ” أو ” مسرح ما تحت الأرض ” ويقوم أيضا على التحريض والاستثارة ؛ وقد اسسه المسرحي رونييه ترووب ؛ ووضع اسسه في كتابه الشهير ” مسرح جويريلا”.


المسرح الزنجي
كمثال آخر عن المسرح السياسي في الغرب نتوقف عند المسرح الزنجي الذي يعتبر مثالا نموذجيا للمسرح السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية ؛ وتعود بدايات هذا المسرح إلى عام 1716 عندما أسس فنان زنجي يدعى براون مسرحا صغيرا في ولاية مانهاتن وصار يقدم عليه مسرحيات ترفيهية للزنوج ؛ وبسرعة اشتهر هذا المسرح بين زنوج مانهاتن مما جعل مؤسسه : براون ” يبني مسرحا اكبر منه سماه ” مسرح البستان الأفريقي ” وقد حقق عبر هذا المسرح شهرة تجاوزت ولاية مانهاتن للولايات الأخرى المجاورة ؛ وسبب شهرته بالدرجة الاولى تعود إلى طبيعة المسرحيات التي كان يقدمها ؛ فبالإضافة إلى الأعمال الهزلية التي قدمها في البداية تحول إلى النقد اللاذع ؛ ثم قدم مسرحيات قديمة من مسرح شكسبير ؛ ولما كان جميع الممثلين من الزنوج فقد بعث شعورا بالاعتزاز بين الزنوج في الولايات المتحدة ؛ وبأنهم لا يقلون مقدرة عن التعامل مع المسرح عن البيض .
واستمر مسرح براون في صعوده نحو الشهرة ؛ وبحكم التمييز العنصري السائد آنذاك حملت المسرحيات روح التحريض للزنوج وبعث مشاعر الاعتزاز بأصولهم الأفريقية ؛ وأدى ذلك إلى وقوع صدامات بين الزنوج والبيض ؛ وبالتالي قامت السلطات الأمريكية بإغلاق المسرح في عام 1821 ؛ ولكن المسرح عاد وفتح أبوابه مجددا ؛ وقدم دراما تحت اسم ” محاولة قتل ملك” وهي مسرحية تتحدث عن عصيان يقوم به مجموعة من الزنوج العبيد في جزيرة القديسة فينيسيت ؛ وقد استمر العرض لمدة أربع سنوات متصلة ؛ وكما هو متوقع ؛ كان استمرار نجاح المسرحية همَا يؤرق السلطات المحلية بسبب روح التحريض التي كانت تبثها بين الزنوج ؛ فعادت واغلقت المسرح نهائيا بعد صدامات جرت بين البيض والزنوج بعد انتهاء أحد عروض المسرحية.
لقد ترك ” مسرح البستان الأفريقي ” أثرا كبيرا في الواقع المسرحي الأمريكي فيما بعد ؛ فقبل ظهور هذا المسرح كان من المحظر على الزنوج أن يظهروا في أية مسرحية كممثلين ؛ وفي افضل الحالات كان من المسموح أن يظهر ممثل زنجي واحد فقط في دور المهرج أو الأحمق مع كل الصفات الشاذة ؛ ولكن مسرح البستان الأفريقي منذ أن أسسه براون شكل تمردا على ما كان سائدا تجاه الزنوج ؛ بل فرض هذا المسرح شهرته على البيض أنفسهم بحيث صارت تُنظم لهم عروض خاصة بهم يذهب فيها المسرحيون الزنوج إليهم ويقدموا لهم مسرحهم مع طروحاته المناوئة للتمييز العنصري ؛ ومن الواضح أن مسرح البستان الأفريقي فرض تأثيره المقاوم بين الزنوج وغير الزنوج طوال السنوات التالية ؛ ففي عام 1927 قُدمت مسرحية ” يورجي و بيس ” ؛ وهي مسرحية جادة تحمل فكرا عظيما ؛ واستمر عرضها فترة طويلة ؛ واحتشد المتفرجون لمشاهدة هذه المسرحية وتحية القائمين عليها من الزنوج ؛ وقد أستمر عرضها ثلاث سنوات متواصلة في مسرح يتسع لالف متفرج في الليلة الواحدة ؛ وفي عام 1936 قام الفنان اورسن ويلز وجون هاريسمان بإنتاج مسرحية ” مكبث ” لشكسبير وبممثلين زنوج ؛ وقد استمرت عروض المسرحية سبع سنوات متتالية في كافة أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية بنجاح كبير ؛ وفي عام 1943 قام الممثل الزنجي بول روبنسون بتقديم مسرحية ” عطيل ” لشكسبير لمدة عام كامل ؛ ولتتوالى عروض الزنوج على هذا النمط من النجاح ؛ وفي جميع هذه المسرحيات لم يول المسرحيون الزنوج أهمية للتقاليد المسرحية ؛ بل عبروا عن تراثهم الأفريقي وفلسفتهم الحياتية ورفضهم للتمييز العنصري ؛ ولم يكن تحقيق ذلك سهلا ؛ بل احتاج إلى كثير من النضال الشاق حتى استطاعوا أن يفرضوا مسرحهم كمسرح فعال في المجتمع.
التياترو كامبيسينو
نموذج آخر للمسرح السياسي الفعال في الغرب ؛ ويمثل هذا المسرح فئة من المكسيكيين الذين يعيشون في الولايات المتحدة الأمريكية ويطلق عليهم chlcanos ؛ ويعني هذا المصطلح ( المعذبون) ؛ وقد بدا هذا المسرح وجوده في عام 1965 كسلاح من أسلحة النضال الفني لهذه الفئة من اجل انتزاع حقوقهم وتحسين ظروف معيشتهم وتوفير فرص عمل لهم ؛ ورفع أجور العمال والفلاحين منهم.
ولد مؤسس هذا المسرح ومديره ( لويس فالديس ) في عام 1940؛ وهو ابن لفلاح مكسيكي تخرج من جامعة ولاية كاليفورنيا ؛ وكان ممثلا في سان فرانسيسكو في جماعة التمثيل الصامت ؛ وفي عام 1965 أسس مسرح ( التياترو كامبيسينو ) ؛ وفيه اعتمد على تقديم اسكتشات مثيرة تتخذ من أحداث التمرد والإضرابات مادة لها ؛ ولم يتقيد هذا المسرح بشكل فني محدد ؛ إذ صار هذا المسرح يجمع بين المسرح البريختي التعليمي الملحمي ؛ وبين الكوميديا المرتجلة ؛ وفن المهرج الشعبي المكسيكي ؛ ومعظم أعمال هذا المسرح لا تعتمد على الديكور ؛ ولكن منذ عام 1967 وسع مسرح التياترو من اهتماماته المسرحية إذ قدم مسرحيات كاملة تتسم باتساع بمنظورها في مجال إلقاء الأضواء على أوضاع المكسيكيين في الولايات المتحدة والمشاكل التي تواجههم كونهم مكسيكيين .
لقد عالجت مسرحيات مسرح التياترو مثلا مشكلة اللغة التي تشكل عائقا أمام أبناء المهاجرين في المدارس الأمريكية ؛ وصعوبة تكيف المهاجرين المكسيكيين مع المجتمع الأمريكي ؛ والقت الأضواء على شخصية المكسيكي المتأمرك الذي يفقد شخصيته ويتحول ليتحول إلى أمريكي ؛ وغير ذلك من المشاكل التي جعلت هذا المسرح معملا حقيقيا في إيقاظ الحس القومي في نفوس الجالية المكسيكية والحفاظ على كرامتهم وتحريضهم للنضال من اجل الحصول على حقوقهم كاملة ومواجهة التفرقة العنصرية في المجتمع الأمريكي ؛ وقد استمر هذا المسرح حتى عام 1971 بنجاح كبير .
مسرح فاسبيندر
وهو مدرسة أخرى من مدارس المسرح السياسي في الغرب ؛ وبدايته كانت في عام 1968 عندما اصدر المخرج السينمائي والمسرحي الألماني ( رياينر فيرنر فاسبيندر) بيانا وقع عليه عدد من الكتاب والمفكرين والمسرحيين ؛ وفيه استعرض مسيرة المسرح السياسي في الغرب عموما وفي ألمانيا خصوصا ؛ ورأى أن هذا المسرح لم يعد صالحا بعد التحولات السياسية والمادية التي أصابت المجتمع الغربي والتي أدت إلى انهيار القيم وطغيان المصالح الفردية والجماعية.
ورأى فاسبيندر أن المسرح السياسي ؛ أو المسرح المضاد كما أطلق عليه ؛ يجب أن يصعَد من صدامه مع المسرح البرجوازي التقليدي ؛ وان يرتقي بوظيفته إلى تطوير الأحداث المأخوذة من الواقع وإضفاء التنوير عليها عبر مسرح مضاد جديد مشحون بطابع الجرأة وسمة الغرابة والفضح والافتضاح ؛ وكلما كان للمسرح قدرة الفضح صار مسرحا ثوريا وتحريضيا ضد ما هو سائد في حركة المجتمع.
على هذه الرؤية ينادي سبايندر لإيجاد مسرح جديد بكل شيء ؛ مسرح يفضح ويسعى إلى تحقيق انقلاب من خلال معالجة تعري وتنير العقل ؛ وتدخل مباشرة على المدارك الحسية للمتفرج ؛ مسرح يتجه إلى تخير الشكل والبناء المناسبين دون قيود لينفذ من خلالهما إلى تفتيت الرؤية والأشكال السلبية التي صارت بحكم التكرار والعادة مألوفة للناس ؛ ويجب أن يكون هذا المسرح كتلة كبيرة من القسوة والشر وتجسيدا للفساد؛ ولكنه لن يكون اكثر شرا وقسوة وفساد مما يرتكبه البشر في السر والعلن .
يقول فاسبيندر ” إن الإنسان يعيش الفساد والشر كل يوم عشرات المرات ؛ وهو إما لا ينتبه لهما بحكم التكرار والاعتياد ؛ وإما يعتبر الشر والفساد قدرا لا بد منه ؛ ولذلك يتقبل وجودهما بدون تذمر ويمارسهما بدون تأنيب ضمير ؛ و لهذا يجب على المسرح المضاد أن يضع المتفرج أمام عملية اكتشاف الشر والفساد كما يجري تنفيذهما في الحياة ؛ ثم يكشف له الأشخاص والأسباب والعوامل التي تتحالف ليستمر الشر والفساد والقسوة ؛ وبعد ذلك يحرضه للتمرد على هذا الواقع الشرير والفاسد والقاسي ؛ ومن الخطأ أن يلجا المسرح للوعظ والإرشاد والخطابة الحماسية ليحرض المتفرج ؛ بل يجب أن يمر الحدث الدرامي بسرعة وان تتطور الشخصيات بقوة مدهشة ؛ ثم في لحظة يجب أن تتلاشى مبالغات الحلم والرومانسية وكل الأفعال غير الصالحة أو غير الصادقة من تلقاء نفسها لتحل محلها لحظات تعرية الذات ؛ وعلى هذا يجب على الممثل أن يعتمد التلقائية في الأداء متناسيا وجود الجمهور وكأنه يؤدي لنفسه”.
ملامح أساسية
من خلال هذا العرض السريع للمسرح السياسي ونماذج منه في الغرب نجد انه يتصف بصفات مشتركة عبر كل مدارسه منها :
– انه لم يأت كردة فعل على واقعة سياسية أو حدث سياسي عابر ثم يتوقف بعد مرور هذا الحدث ؛ بل إن المسرح السياسي في الغرب نشأ ليستمر ؛ وعندما تنتهي الظروف السياسية أو الاجتماعية التي ظهر بسببها يجد هذا المسرح لنفسه ظروفا أخرى ليستمر باعتباره رسالة مسرحية مستمرة ويجب ألا تتوقف ؛ والعاملون فيه يمارسونه على أساس قناعة تامة به .
– قد يتوقف هذا المسرح السياسي أو ذاك لفترات طويلة أو قصيرة ؛ ولكن لمراجعة النفس وليطور نفسه على أساس المستجدات السياسية ؛ فمسرح التياترو كاممبسينو مثلا توقف في عام 971 ؛ ولم يعلن القائمون عليه عن توقفه نهائيا ؛ بل عن التوقف المؤقت للقيام بقراءات سياسية وتطوير المسرح بما يناسب المستجدات السياسية ؛ وخاصة فيما يتعلق بموضوع التمييز العنصري ؛ وفعلا عاد المسرح للعمل في عام 1981 وتحت نفس التسمية ؛ وقدم مسرحية ( المنتفخ) لمدة أربع سنوات متواصلة على اشهر مسارح الولايات المتحدة الأمريكية ؛ وقد أجبرت تلك المسرحية السلطات الأمريكية على التخفيف من شروط منح الإقامة الدائمة “كرين كارد” لابناء الجالية المكسيكية ثم أبناء الجاليات الأخرى ؛ والمسرحية تتحدث عن معاناة المهاجرين من الحصول على حق الإقامة والأساليب الملتوية التي يضطرون لسلوكها التفافا على القوانين الأمريكية .
– يعطي المسرح السياسي بكافة أشكاله حيزا كبيرا لفن الارتجال ؛ ويبتعد عن البذخ في الديكور والملابس ؛ وغالبا لا يولي أهمية للخشبة المسرحية أو صالة العرض .
– ما زال هذا المسرح يفرض حضوره واحترامه على جمهور المسرح في الغرب ؛ وكل تجربة في المسرح السياسي ينظر إليها باحترام واهتمام من قبل الجمهور والنقاد .
– لا يطرح المسرح السياسي نفسه بديلا عن المسرح التقليدي ؛ بل ينظر إليه رغم صدامه معه باحترام ؛ ويراه ضروريا لاستمرار المسرح السياسي ؛ فيقول بيساتور مثلا في كتابه ” تسييس المسرح ” : ” من الخطأ ألا نصطدم مع المسرح التقليدي البرجوازي ؛ ولكن من الخطأ أيضا إلا ننظر إليه باحترام ؛ فهذا المسرح يشكل تاريخ البشرية ؛ ولهذا نرفض مقولة بعض المتطرفين الثوريين الذين يطالبون بإلغاء المسرح البرجوازي ؛ فلو تم إلغاء المسرح البرجوازي لن يكون هناك وجود للمسرح السياسي ؛ بل سيظهر مسرح سياسي نقيض يناضل من اجل إلغاء السائد المسمى مسرحا سياسيا وعودة المسرح البرجوازي ؛ من هنا يجب أن نقر بأننا في المسرح السياسي والمسرح التقليدي رغم تناقضاتنا نكمل بعضنا في المسرح .. إن المسرح البرجوازي يُخدم من قبل مسرحيين يقدمون للمتفرج ألواح شوكولا لذيذة ؛ ومهمتنا هي أن نقدم للمتفرج ما يوضح له أن هذه الشوكولا ليست لذيذة بقدر ما هي مزيفة ؛ ولكننا إن لم نحترم قدرات صانعي الشوكولا المزيفة لن نستطيع تحقيق كشف زيفها للناس …”. 
المسرح السياسي العربي
ما نريده من هذه الوقفة عن المسرح السياسي في الغرب هو أن نبحث عن موقع المسرح السياسي في الوطن العربي ؛ وكما قلنا في بداية هذه الوقفة ؛ نجد أن ما يسمى بالمسرح السياسي العربي لا يشكل في الحقيقة إلا أزمة من أزمات المسرح لعربي ككل ؛ ولنكون منصفين نعود إلى المسرح العربي كفن مستورد ؛ وحيث ما زالت إحدى إشكالياته عندنا هي موقعه من الثقافة العربية .
لقد جوبه المسرح كفن مستورد منذ البداية بالرفض والحساسية ؛ والرواد الذين نقلوه للثقافة العربية لم يقدموه لكافة فئات المجتمع ؛ والفئة التي اقتصر عليها حضور المسرح كانت طبقة تأثرت واندهشت بالحضارة الغربية المتفوقة ومعطياتها ؛ أي أن المسرح العربي لم يبدأ بداية شعبية ؛ وبقي مقصورا على طبقة الأغنياء السلطوية والمثقفة وذلك لاسباب كثيرة منها حداثة هذا الفن في الثقافة العربية ؛ وكل جديد طارئ لابد أن يجابه بنظرة ريب وتحسس ؛ ومنها أن هذا الفن لم يكن من الممكن تعميمه بوسائل النشر المعروفة كالصحف والمجلات ؛ بل كان يقدم في أماكن معينة ولجمهور معين .
لهذا منذ البداية وحتى عقود تالية اعتبر هذا المسرح دخيلا على الثقافة العربية وفنا شبه مرفوض ؛ وهذا ما أدى إلى تنازلات كثيرة في سبيل خلق وترسيخ هذا الفن على الأرض العربية ؛ واول تلك التنازلات دمج المسرح بالغناء والرقص على نحو ما فعل أبو خليل القباني ورفاقه ومن جاء بعده ؛ كما تأخر ظهور التأليف المسرحي الحرفي في الأقطار العربية إلى الخمسينات وما بعدها ؛ وبهذا وذاك انقضت عدة عقود من عمر المسرح العربي وهو يحاول أن يثبت وجوده في الثقافة العربية ؛ وطوال تلك العقود لا يمكن الحديث عن أي شكل من أشكال المسرح السياسي العربي ؛ وهذا بديهي وطبيعي .
بعد الخمسينات استطاع المسرح العربي أن يحصل على الاعتراف به كفن أدبي ؛ وربما من اصعب الفنون الأدبية ؛ وحصل على اعتراف الجماهير العربية به كظاهرة حياتية مسلية بالدرجة الأولى ؛ ولكنها مؤثرة ؛ فتم إدخال المسرح في النشاطات المدرسية كوسيلة تثقيفية وتربوية وتوجيهية ؛ وانشئت هيئات رسمية عربية مهمتها الإشراف على المسرح والتأليف وتشجيعه ودعمه ؛ فدخل المسرح العربي بذلك تحت وصاية المؤسسات العربية ؛ وتحت هذه الوصاية وبدونها شقت الظاهرة المسرحية طريقها ورسخت نفسها في الحياة العربية ؛ خاصة بعد هزيمة 1967 ؛ فقد انبرى المسرح العربي قويا وأصيلا يعبر عن غضبة الإنسان العربي وفضح هزائم الأنظمة العسكرية واللامبالاة بمصير الإنسان العربي والوطن ؛ وقد جعل هذا المسرح لنفسه القضايا القومية التزاما صريحا ؛ وعلى رأسها قضية فلسطين ومظاهر التبعية للغرب الاشتراكي أو الرأسمالي والمخاطر التي تهدد الهوية الثقافية العربية؛ ونذكر من تلك الفترة على سبيل المثال لا الحصر سعد الدين ونوس ونجيب سرور وسعد الدين وهبه وفوزي فهمي وعبدالكريم برشيد ؛ ولكن هذه الفترة لم لتلبث أن تراجعت لاسباب كثيرة منها أنها كانت فترة تأزم نجمت عن الجرح العربي الذي صار عميقا في العقل العربي ؛ ومما عمق التجزئة والتعصب القطري ؛ وأدى إلى غياب المشروع الحضاري العربي ؛ وفي هذه الأجواء انتكس الإبداع المسرحي ؛ وصار الإخراج سيد المواقف في اتجاه الابتعاد عن الهموم القومية والتركيز على الإلهاء السطحي .
النقطة الثانية هي أن المسرح الذي تكون تحت وصاية المؤسسات ضمن مصطلح ” الرعاية” ما كان ليستطيع تأسيس مسرح سياسي فعال ودائم ؛ اللهم إلا المسرح التجاري الخاص الذي تحت تسمية المسرح السياسي قدم كل ما يخطر على البال من ابتذال وانحطاط.
صحيح أن بعض الومضات ظهرت في المسرح السياسي العربي مثل مسرح الشوك الذي أسسه عمر حجو ودريد لحام ؛ وفرقة تشرين لدريد لحام ونهاد قلعي ؛ واستوديو الممثل لمحمد صبحي ولينين الرملي في مصر ؛ والمسرح الجديد في تونس … ولكن هذه التجارب وغيرها سرعان ما واجهت التسليخ والتمييع والتسخيف منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي ؛ وسنتوقف عند نماذج من هذه المسارح السياسية العربية ونرى كيف بدأت وأية مصائر مروعة وصلت إليها
مسرح الشوك
عقب هزيمة 1967 أسس عمر حجو مسرح الشوك بالتعاون مع دريد لحام ؛ وكانت الأجواء السائدة بعد الهزيمة العربية في الحرب مناسبة لنجاح هذا المسرح جماهيريا وإعلاميا ؛ إذ اعتمد هذا المسرح على فقرات قصيرة ناقدة ومتتالية ضمن العمل الواحد تتناول بشكل ساخر وناقد الظواهر الحياتية في المجتمع العربي ؛ والرسالة الأساسية التي أرد المسرح إيصالها هي أن المواطن المنهك وراء تحصيل لقمة عيشه والحصول على الحد الأدنى من حقوقه في الخدمات هو مهزوم أساسا في داخله ؛ وبالتالي لا يمكن محو الهزيمة إلا بتحقيق إنسانية العربي .
كان مسرح الشوك شكلا جديدا في المسرح السائد ؛ وجاءت نجومية دريد لحام ونهاد قلعي كمشاركين في المسرح لتضيفا أسبابا أخرى لرواج ونجاح هذا المسرح ؛ ولو استمر هذا المسرح لاستمرت تسمية السياسي له صحيحة ؛ ولكن بعد فترة من النجاح بدأ تألقه يخف ؛ فقد قدم القائمون عليه كل ما عندهم مما يهم المتفرج وسط تلك الظروف السياسية آنذاك ؛ بل بدأ يكرر نفسه رغم العدد القليل جدا من الأعمال التي قدمها ؛ وبذكائه التجاري المعروف أدرك دريد لحام أن هذا المسرح بدأ بالاحتضار ؛ فتقرر إيقافه بعد أن طغت على السطح الإعلامي أصداء الخلاف المستحكم بينه وبين عمر حجو حول من هو المؤسس لهذا المسرح ومن هو صاحب الأفكار فيه .
والمضحك المبكي أن مسرح الشوك هذا بعد أن أنهى نفسه فرَخ عددا من المسارح التي حاولت أن تنحو نحوه ؛ إذ أسس كل ممثل كان في مسرح الشوك لنفسه مسرحا ؛ فظهرت مسارح تحت تسميات مثل ” مسرح دبابيس ” و ” مسرح خوازيق ” و” مسرح قنوع ” وكلها مسارح اعتمدت على التهريج والابتذال والسخف ولم تخرج عن نطاق التجارية الرخيصة ؛ وكان كلها مصيرها الفشل الذريع بعد أن أساءت للمسرح ككل وكانت سببا في سرعة انطفائه؛ وقد عاد عمر حجو بعد سنوات ؛ وتحديدا في عام 1995 إلى محاولة إحياء مسرح الشوك في مدينة حلب ؛ وبالتعاون مع مسرحيين منها ؛ ولكن كان نصيب هذه المحاولة الفشل الذريع لانه أعاد تقديم نفس الفقرات التي قدمها في ستينات القرن الماضي مع دريد لحام في الوقت الذي كانت فيه المفاهيم السياسية قد تغيرت ووعي المواطن قد تغير .
وهكذا انطفأت هذه التجربة المسرحية السياسية سريعا ؛ بل صارت متهمة بأنها وراء التجارية الرخيصة التي لازمت المسرح الخاص السوري بعد انحلالها .
فرقة تشرين
أسسها بعد انحلال مسرح الشوك دريد لحام ونهاد قلعي ؛ وقدمت أعمالا لقيت صدى طيبا عند الجمهور العربي مثل ” ضيعة تشرين ” و” غربة ” و “كاسك يا وطن ” ؛ واعتبرت هذه الأعمال سياسية بكل ما تعنيه الكلمة من خلال مواكبة مواضيعها للأحداث السياسية العربية ؛ ولكن المشكلة أنها وصلت إلى مرحلة لم تعد تملك ما تستطيع قوله إزاء تسارع الأحداث السياسية العربية ؛ فوصلت إلى مرحلة التكرار والإملال ؛ ومع ذلك استطاعت الفرقة أن تقف على قدميها قليلا عندما كتب لها الشاعر والكاتب الكبير محمد الماغوط مسرحية ” شقائق النعمان ” ؛ ومع ذلك عاد الانحدار إلى الفرقة وجماهيريتها؛ وكما هو متوقع برز على السطح الخلاف بين محمد الماغوط ودريد لحام والذي انتهى بانسحاب محمد الماغوط ودخول دريد لحام تجربة الكتابة بنفسه .
والنتيجة لم تكن افضل من مسرح الشوك ؛ إذ فشل آخر عمل قدمته الفرقة فشلا ذريعا على المستوى النقدي والمستوى الجماهيري ؛ ولم ينفع تطعيم العمل بالرقص المجاني والأجساد الأنثوية المغرية ؛ أي أن دريد لحام وقع بدوره في مطب التجارية واللجؤ لنفس الأساليب التي يلجا إليها المسرح التجاري ؛ والنتيجة كانت اعتزال دريد لحام المسرح ” بسبب السن ” كما قال ؛ ولكن في الواقع كان اعتزاله المسرح بسبب انه لم يعد يجد ما يقوله في المسرح الذي يصر دريد لحام على تسميته بالمسرح السياسي ؛ وهو كان كذلك فعلا ؛ ولكنه انتهى إلى التجارية .. والانطفاء .
واقدساه
وفي المسرح السياسي العربي نتوقف عند أهم محاولة مسرحية كان من الممكن أن تكون نواة لمسرح سياسي عربي فعال هي مسرحية ( واقدساه ) التي أنتجها اتحاد الفنانين العرب من تأليف يسري الجندي واخراج المنصف السويسي ؛ وتم عرضها في عام 1989 بمشاركة فنانين من تسع دول عربية ؛ ومحورها كما يحمله العنوان هو مدينة القدس ؛ وبالتالي جاء العمل وقد توفرت له كفاءات عربية كبيرة ؛ ولكن منذ البداية يجب أن ننتبه إلى أن العمل جاء نتيجة ( قرار ) من اتحاد الفنانين العرب ؛ وكتابته تمت ب (تكليف) ؛ والإبداع لا يصنع بقرار .
وتم عرض العمل وسط اهتمام إعلامي عربي ؛ وحيث فكرة العمل تقوم على استحضار شخصيات تاريخية عربية وعرض مواقفها وارائها ولحظات قوتها وضعفها ؛ وذلك في ما يشبه المحاكمات لها ؛ ولتؤكد أسئلة المحاكمات على أسئلة مثل : لماذا استطاع صلاح الدين الأيوبي تحرير القدس ؛ ولو توفرت له ظروف اكثر ملاءمة هل كان من الممكن أن يستمر هذا التحرير ؛ وما هي الأسباب التي أضاعت القدس من جديد…؟!
وهكذا ؛ من الملحمية والتسجيلية والواقعية والتعبيرية؛ ومن الماضي والحاضر تم نسج النص المسرحي ؛ وبلغة مسرحية هي مزيج من الخطابية والإلقاء الشعري والسردية اللاهثة ؛ وكان من الطبيعي أن يجد الجمهور نفسه أمام نص غير مفهوم أبدا ؛ وحتى الممثلين أنفسهم كانوا يقدمون أدوارهم دون أن يعرف أحدهم ماهو موقع دوره في المسرحية ؛ وإزاء الإملال الذي كان يحيط بالجمهور لم يجد الممثلون سوى اللجؤ إلى ارتجال القفشات والقاء النكت الهزيلة في محاولة لاستجرار الضحك من الجمهور ؛ وبدلا من مسرحية سياسية كان العمل مسرحية عجيبة غير مفهومة ؛ وبالتالي كان مصيرها الفشل الذريع ؛ ولم يحاول اتحاد الفنانين العرب تكرار التجربة.
باب الفتوح
لعل هذه المسرحية تمثل إحدى أهم الإضاءات في مشروع المسرح السياسي العربي بعد نكسة حزيران 1967 ؛ فقد كتبها محمود دياب بعد النكسة وبعد أن تبلورت معطياتها وانعكاساتها وإفرازاتها السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية في ذهنه ؛ وقد قدمت هذه المسرحية عشرات المرات في معظم الدول العربية بعد أن قدمها المسرح القومي المصري في موسم عام 1976 من إخراج سعد اردش وبطولة عبد المنعم إبراهيم وفردوس عبد الحميد .
تترجم المسرحية باختصار أحزان نكسة 1967من خلال مقولة صريحة تتمحور في المعادلة التالية ” أن انتصار السيف وحده لا يكفي إن لم يدعمه انتصار الفكر” فالفكر هو الذي يعطي للنصر العسكري دلالته ومعناه وابعاده ؛ وحتى يصل دياب إلى عمق هذه المعادلة الفكرية ويجسدها دراميا بشيء من الواقعية لجأ إلى التاريخ ليعيد تشكيله وهيكلته من جديد وفق نظرة فلسفية مستمدة من في الأصل من الواقع ذاته من خلال استدعاء عصر صلاح الدين الأيوبي .. وبالطبع لسنا هنا في مجال عرض هذه المسرحية الهامة ؛ ولكن نريد من الإشارة إليها أن مسرحنا العربي قادر في الواقع على تأسيس مسرح سياسي لو وفر لنفسه هدف تأسيس هذا المسرح بعيدا عن الاستعجال والتجارية ؛ فمحمود دياب كتب مسرحيته في عام 1970 ؛ أي بعد ثلاث سنوات من نكسة حزيران ؛ وحيث أمضى هذه السنوات الثلاث مراقبا لمعطيات النكسة واستقراء أسبابها وسبل الخروج منها ؛ وبالتالي قدم نصا متكاملا في نضوجه وطروحاته الفكرية ؛ في حين وجدنا أن معظم الأعمال المسرحية التي تناولت النكسة ظهرت بسرعة بعد النكسة مباشرة مثل مسرح الشوك ؛ فكانت ردود فعل آنية ؛ وبالتالي لم يكتب لها الاستمرار .
ولكن من المؤسف أن ( باب الفتوح) مع تكرار عرضها هنا وهناك قتلها الاجتهاد الإخراجي للمخرجين الذين أخرجوها ؛ فكل مخرج صار يجتهد بإضافة ما شاء من بهرجات ولمسات وتفنن في استنباط ديكورات وأزياء ؛ وبحيث أن أهداف المخرجين كانت استعراض قدراتهم على حساب فكرة المسرحية وأهدافها ؛ وبالتالي قُتلت هذه المسرحية على أيدي المخرجين ؛ ولم تعد سوى من الذكريات الطيبة عن مسرحية سياسية عربية.
نفس الأمر يمكن أن نقوله عن رائعة ( حفلة سمر من اجل 5 حزيران ) فهذه المسرحية السياسية التي حققت نجاحا في بدايتها ؛ سرعان ما قتل المخرجون فكرتها باجتهاداتهم الإخراجية ؛ وشخصيا شاهدت عرض هذه المسرحية حوالي سبع مرات من قبل سبع فرق مسرحية عربية ؛ وفي كل مرة كنت أجد أن المسرحية قد صارت ساحة لاستعراض عضلات المخرج وقدراته اكثر من أن تكون مجالا لعرض الفكرة التي تحملها ؛ وأيضا بسبب ذلك صارت هذه المسرحية من الذكريات الطيبة عن مسرحية سياسية عربية .
التهريج أم السياسة
ما عدا بعض المسرحيات القليلة جدا مثل ( باب الفتوح) و ( حفلة سمر من اجل 5 حزيران ) يرتبط المسرح السياسي في قناعات وممارسات المسرحيين العرب بالكوميديا ؛ أو بالأحرى ؛ وبصراحة قاسية ( بالتهريج ) ؛ وكأن المسرح السياسي العربي لا يمكن أن يظهر إلا في أحضان الكوميديا (إذا التزمنا التهذيب ولم نقل التهريج ) ؛ فمسرح الشوك رغم أهميته كتجربة مسرحية لم يكن سوى قفشات كوميدية تعتمد على نجومية ( غوار الطوشة) الشخصية الشهيرة التي تقمصها دريد لحام ؛ ولهذا عندما قدم بعض المسرحيين في بيروت نفس فقرات مسرح الشوك في عام 1969 كان نصيبهم الفشل لان الجمهور كان يريد رؤية (غوار الطوشة) في المسرحية ؛ ولا يهم ما سيقال في المسرحية .
والأعمال التي قدمها دريد لحام بعد ذلك في إطار فرقة تشرين كانت تتكيء بالدرجة الأولى على نجومية دريد لحام وقدراته على الإضحاك عبر شخصية غوار الطوشة ؛ وهذا لامانع منه لولا انه وصل إلى حد الابتذال في معظم الأعمال المسرحية التي تصنف نفسها سياسية ؛ ويمكن أن نستشهد هنا بمسرحيات لعادل إمام مثلا ؛ وكمثال نتوقف قليلا عند مسرحية حملت اسم ( دستور يا أسيادنا ) قدمها الفنان احمد بدير وتحت تصنيف المسرح السياسي في عام 1995 ؛ وحيث حملت إعلانات العمل عبارة ” المسرحية السياسية …” بالإضافة إلى الضجة الإعلامية التي رافقت عرضها بعد أن منعت وزارة الثقافة المصرية عرضها بسبب “خروج الممثلين عن النص وعبارات الابتذال والنقد غير المبرر لشخصيات سياسية حية “.وفي الواقع لم يأت قرار إيقاف العمل إلا دعاية كبيرة مجانية للعمل ؛ إذ اجتمع المثقفون ونقابة المهن التمثيلية والمثقفون واحتجوا وتضامنوا مع احمد بدير وفرقته ؛ وخاصة بعد أن روج احمد بدر بان قرار المنع جاء بسبب الأفكار السياسية الجريئة التي يطرحها العمل ؛ وفعلا ؛ وبسبب ضغط الفنانين والمثقفين والإعلام تراجعت وزارة الثقافة المصرية عن قرار المنع وعاد العرض للعمل ؛ ولكن ليشكل صدمة كبيرة للذين تضامنوا معه لانه في الواقع لم يكن إلا كتلة كبيرة من التهريج والعري الرخيص غير المبرر والنكات المبتذلة ؛ وكل ذلك تحت يافطة المسرح السياسي .
وفكرة العمل تدور حول مواطن فقير يبتكر طريقة للتخلص من فقره بان يرشح نفسه لانتخابات رئاسة الجمهورية كمنافس لرئيس الجمهورية الذي أعيد انتخابه مرارا ؛ وهي فكرة جريئة بالتأكيد ؛ ولكن بحسب النقاد المصريين الذين شاهدوا العمل ” سيطرت على إخراج هذا العمل روح التجارة في المسرح ؛ فهناك أجساد كثيرة عارية بلا وظيفة واضحة ؛ وهناك ممثلون كثيرون يتحركون بلا أدوار حقيقية وكل شيء موظف للنجم الأوحد الذي يجيد إلقاء النكات والتهريج المبتذلة…”
في النتيجة
نستطيع القول انه لا يوجد مسرح سياسي عربي بما تعنيه التسمية من معنى ؛ بل هناك محاولات تظهر فجأة بعد أحداث سياسية هامة كطفرة الأعمال التي ظهرت بعد نكسة حزيران ثم انطفأت بسرعة ؛ بينما كما قلنا إن المسرح السياسي في الغرب موجود ومستمر وينجح باستنباط مواضيعه بعيدا عن الآنية والانفعالية ؛ وبالتالي ولا يمكن أن نقارن المسرح السياسي في الغرب بقرينه في الوطن العربي ؛ وان نسأل لماذا لا يوجد مسرح سياسي عربي مثل المسرح السياسي في الغرب ؛ فهذا يعني ترفا لا لزوم له الآن ؛ فالمسرح العربي كله يعيش أزماته القاتلة ؛ وعندما ننجح في إعادة الحياة إلى المسرح العربي من البديهي أن تعود الحياة إلى المسرح السياسي أيضا ؛ وعندها يمكن النقاش حول المدارس والأساليب التي يجب اتباعها لتفعيل المسرح السياسي ضمن تفعيل دور المسرح العربي ككل .