المسرح السياسي في الغرب ونظيره في الوطن العربي

في الوقت الذي تجاوز فيه المسرح العالمي تعريفه لمصطلح السياسي في المسرح لا تزال الإشكالية قائمة في الوطن العربي حول مفهوم المسرح السياسي وماهيته وممارساته ؛ وهي إشكاليات ترتبط بمفهوم مصطلح ( السياسة ) في الوطن العربي ؛ وبالتالي ما زال هناك غموض  حوله يؤدي إلى فوضى في المصطلح ؛ وفوضى في التصنيف ؛ وفوضى في الممارسة المسرحية ؛ وبالتالي يمكن طرح أسئلة مثل :
هل كل عمل مسرحي عربي يتناول ظاهرة سياسية ما هو مسرح سياسي ؟
هل يدخل النقد الاجتماعي في تصنيف المسرح السياسي ؟
أن يلجا المسرح إلى التراث العربي القديم لنقد ظواهر سياسية معاصرة هل يعني انه مسرح سياسي ؟
إلى آخر مثل هذه الأسئلة التي تعطي المسرح العربي صفة الزئبقية وعدم الوضوح ؛ فما يمكن وصفه بالمسرح السياسي في مكان يمكن وصفه بمسرح النقد الاجتماعي في مكان آخر ؛ وما يصنفه إيديولوجيون على انه مسرح سياسي قد يسفهه إيديولوجيون آخرون نافين عنه صفة المسرح السياسي؛ وعندما يحقق المسرح السياسي حضورا في فترة ما ؛ سرعان ما يدخل في إطار التمييع في فترة لاحقة ليصبح مسرحا تجاريا ..
وهكذا يعيش المسرح السياسي العربي أزمة هي جزء من أزمة المسرح العربي ككل ؛ واحد أشكال هذا المسرح السياسي تحوله كما قلنا سريعا إلى التجارية والتمييع ثم الانطفاء.
تاريخ المسرح السياسي في الغرب
لا يذكر تاريخ المسرح السياسي في الغرب انه تم تداول مصطلح المسرح السياسي كصفة مميزة لمسرح ما ؛ فالمسرح باعتباره جزءا من الطقوس الحياتية يتعرض للظواهر السياسية وغير السياسية ؛ ولكن ظهر مصطلح المسرح السياسي مع شهرة أعمال المسرحي الايرلندي ” شون اوكيسي ” الذي ربما يكون أول من طرح المصطلح بلفظه وجسَده عمليا على ارض الواقع ؛ ولعل استعراضا سريعا لسيرة هذا المسرحي توضح فكرة المسرح السياسي الذي سمَاه وطرحه.
ولد شون اوكيسي في عام 1828 في مدينة دبلن من أسرة فقيرة معدمة ؛ وعاش طفولة بائسة أثرت تأثيرا كبيرا في أعماله المسرحية ؛ فالحرمان الذي عانى منه والفقر الذي عاشه سنين طويلة وجو المقاومة الايرلندية للبريطانيين كان الأساس الذي بنى عليه مسرحه ؛ وقد تعرف على قادة المقاومة الايرلندية وصار هو نفسه من أعضائها النشطين.
لم يدخل اوكيسي مدرسة ؛ ولكنه تخرج من مدرسة الحياة ؛ وفي بداياته المسرحية كتب ثلاث مسرحيات هي : زهرة في الصقيع – عبدالحياة – اللون القرمزي؛ ولكن هذه المسرحيات لم تلق أي نجاح ؛ وشن النقاد هجوما عنيفا عليها لانها كانت تطرح مضامين غريبة عن المسرح السائد ؛ وقد رد اوكيسي على هجوم النقاد قائلا : ” ما على هؤلاء سوى أن يمجدوا أسيادهم ؛ بينما أنا أتحدث في السياسة التي لاترضي أسيادهم ؛ وبالتالي لا يمكن أن ترضيهم”.
وهكذا وردت كلمة ” السياسة ” في سياق الحديث عن المسرح لاول مرة في عبارات اوكيسي ؛ ومنذ ذلك الوقت اقترنت كلمة ” السياسي ” بالمسرح عندما كان يطرح مواضيع تشابه مواضيع اوكيسي ؛ ومع ذلك لم يصل النقاد الغربيون إلى تحديد تعريف نهائي للمسرح السياسي ؛ فهناك تعاريف ليست منسجمة مع بعضها ؛ ففي بعض هذه التعاريف نقرأ أن المسرح السياسي هو المسرح الذي ينشغل بأحداث سياسية معينة تمثل وجهات نظر محددة تجاه هذه الأحداث ؛ ومبدعو هذا النوع من المسرح يستخدمون أساليب وطرقا فنية متنوعة ؛ بالإضافة إلى فن الارتجال وغيرها من الوسائل والإمكانيات الفنية الأخرى التي تتضافر جميعها في خلق هذا المسرح الذي يعد ظاهرة مسرحية تنعكس في أعمال تتسم بتفوقها الفكري والفني .
وعلى هذا يمكن استخدام تسمية المسرح السياسي على الأعمال التحريضية ؛ أو تستخدم في تحديد نوع من المسرحيات تتناول مضامين دعائية تستثير ردود فعل فورية عند المتفرجين في مواجهة هذه الأحداث ؛ وتمتد تقاليد هذا المسرح وجذوره إلى فترة المسرح الروسي أثناء ثورة أكتوبر عام 1917 حيث احتاجت الثورة هذا النوع من المسرح في عملية الترويج لمبادئها ؛ كما تم تداول مصطلح ” المسرح السياسي ” بكثرة في ألمانيا عقب استيلاء هتلر على الحكم في ألمانيا ؛ وكان من جملة الوسائل التي اعتمدها للدعاية للنازية وترويج أفكارها المسرح .
أما المخرج والمنظر الألماني ( ايروين بيسكاتور ) فيرى في كتابه ( تسييس المسرح ) الصادر في ألمانيا عام 1929 أن الشرط الأساسي لكي يكتسب المسرح صفة السياسي هو أن يعتمد على وثائق وحقائق معروفة للجمهور ثم يعيد طرحها ضمن معالجات توجه الجمهور نحو رؤية سياسية يعمل من اجلها المسرحيون الذين يقدمون العمل ؛ وهذا يعني أنه لكي يكون المسرح سياسيا يجب أن يمتلك الحجة والبرهان على طرحه السياسي عبر المسرح ؛ وعندما يطلب منه أن يبرز وثائقه للجمهور يجب أن يملكها ويبرزها ؛ وعلى هذا فان المسرح المنتمي للبلشفية عند بيسكاتور لا ينتمي للمسرح السياسي لانه يطرح قضايا نظرية يمكن مناقضتها ومجادلتها من قبل الجمهور نفسه .
وهكذا تعددت تعاريف المسرحيين والنقاد للمسرح السياسي ؛ وتحول الأمر منذ الستينات إلى اجتهادات نظرية وعملية يحاول أصحابها تسييس المسرح عبر رؤاهم لوظيفة المسرح ؛ فظهر ما يسمى( مسرح الشارع ) ؛ وينادي أصحابه بدمج المسرح بالحياة من خلال عروض مسرحية تجري في الشارع ؛ وتعتمد التحريض هدفا لها ؛ ومن اشهر المسرحيين الغربيين الذين نادوا بهذا المسرح ومارسوه الفنان ” اندريه بينديتو” ؛ والحوار الأساسي في هذا المسرح هو الارتجال من قبل الممثلين ؛ والمادة الأساسية هي هموم الأحياء في الشارع الذي تقدم فيه المسرحية ؛ والمواقف تكون وليدة لحظتها ؛ والجمهور هم العابرون والمارة في الشارع ؛ ولذلك يجب لفت انتباههم في البداية بواسطة حركات بهلوانية ونشاطات تعتمد القدرات الجسدية للمثلين ؛ ثم يتدرج العرض المسرحي ليتوحد الممثلون مع المتفرجين ؛ ويصبح الجميع مؤدين مسرحيين لهموم الجميع.
وقد ظهر ضمن هذه المسارح السياسية ما عرف باسم مسرح جويريلا ؛ ويعني ” مسرح العمليات السياسية ” أو ” مسرح ما تحت الأرض ” ويقوم أيضا على التحريض والاستثارة ؛ وقد اسسه المسرحي رونييه ترووب ؛ ووضع اسسه في كتابه الشهير ” مسرح جويريلا”.


المسرح الزنجي
كمثال آخر عن المسرح السياسي في الغرب نتوقف عند المسرح الزنجي الذي يعتبر مثالا نموذجيا للمسرح السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية ؛ وتعود بدايات هذا المسرح إلى عام 1716 عندما أسس فنان زنجي يدعى براون مسرحا صغيرا في ولاية مانهاتن وصار يقدم عليه مسرحيات ترفيهية للزنوج ؛ وبسرعة اشتهر هذا المسرح بين زنوج مانهاتن مما جعل مؤسسه : براون ” يبني مسرحا اكبر منه سماه ” مسرح البستان الأفريقي ” وقد حقق عبر هذا المسرح شهرة تجاوزت ولاية مانهاتن للولايات الأخرى المجاورة ؛ وسبب شهرته بالدرجة الاولى تعود إلى طبيعة المسرحيات التي كان يقدمها ؛ فبالإضافة إلى الأعمال الهزلية التي قدمها في البداية تحول إلى النقد اللاذع ؛ ثم قدم مسرحيات قديمة من مسرح شكسبير ؛ ولما كان جميع الممثلين من الزنوج فقد بعث شعورا بالاعتزاز بين الزنوج في الولايات المتحدة ؛ وبأنهم لا يقلون مقدرة عن التعامل مع المسرح عن البيض .
واستمر مسرح براون في صعوده نحو الشهرة ؛ وبحكم التمييز العنصري السائد آنذاك حملت المسرحيات روح التحريض للزنوج وبعث مشاعر الاعتزاز بأصولهم الأفريقية ؛ وأدى ذلك إلى وقوع صدامات بين الزنوج والبيض ؛ وبالتالي قامت السلطات الأمريكية بإغلاق المسرح في عام 1821 ؛ ولكن المسرح عاد وفتح أبوابه مجددا ؛ وقدم دراما تحت اسم ” محاولة قتل ملك” وهي مسرحية تتحدث عن عصيان يقوم به مجموعة من الزنوج العبيد في جزيرة القديسة فينيسيت ؛ وقد استمر العرض لمدة أربع سنوات متصلة ؛ وكما هو متوقع ؛ كان استمرار نجاح المسرحية همَا يؤرق السلطات المحلية بسبب روح التحريض التي كانت تبثها بين الزنوج ؛ فعادت واغلقت المسرح نهائيا بعد صدامات جرت بين البيض والزنوج بعد انتهاء أحد عروض المسرحية.
لقد ترك ” مسرح البستان الأفريقي ” أثرا كبيرا في الواقع المسرحي الأمريكي فيما بعد ؛ فقبل ظهور هذا المسرح كان من المحظر على الزنوج أن يظهروا في أية مسرحية كممثلين ؛ وفي افضل الحالات كان من المسموح أن يظهر ممثل زنجي واحد فقط في دور المهرج أو الأحمق مع كل الصفات الشاذة ؛ ولكن مسرح البستان الأفريقي منذ أن أسسه براون شكل تمردا على ما كان سائدا تجاه الزنوج ؛ بل فرض هذا المسرح شهرته على البيض أنفسهم بحيث صارت تُنظم لهم عروض خاصة بهم يذهب فيها المسرحيون الزنوج إليهم ويقدموا لهم مسرحهم مع طروحاته المناوئة للتمييز العنصري ؛ ومن الواضح أن مسرح البستان الأفريقي فرض تأثيره المقاوم بين الزنوج وغير الزنوج طوال السنوات التالية ؛ ففي عام 1927 قُدمت مسرحية ” يورجي و بيس ” ؛ وهي مسرحية جادة تحمل فكرا عظيما ؛ واستمر عرضها فترة طويلة ؛ واحتشد المتفرجون لمشاهدة هذه المسرحية وتحية القائمين عليها من الزنوج ؛ وقد أستمر عرضها ثلاث سنوات متواصلة في مسرح يتسع لالف متفرج في الليلة الواحدة ؛ وفي عام 1936 قام الفنان اورسن ويلز وجون هاريسمان بإنتاج مسرحية ” مكبث ” لشكسبير وبممثلين زنوج ؛ وقد استمرت عروض المسرحية سبع سنوات متتالية في كافة أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية بنجاح كبير ؛ وفي عام 1943 قام الممثل الزنجي بول روبنسون بتقديم مسرحية ” عطيل ” لشكسبير لمدة عام كامل ؛ ولتتوالى عروض الزنوج على هذا النمط من النجاح ؛ وفي جميع هذه المسرحيات لم يول المسرحيون الزنوج أهمية للتقاليد المسرحية ؛ بل عبروا عن تراثهم الأفريقي وفلسفتهم الحياتية ورفضهم للتمييز العنصري ؛ ولم يكن تحقيق ذلك سهلا ؛ بل احتاج إلى كثير من النضال الشاق حتى استطاعوا أن يفرضوا مسرحهم كمسرح فعال في المجتمع.
التياترو كامبيسينو
نموذج آخر للمسرح السياسي الفعال في الغرب ؛ ويمثل هذا المسرح فئة من المكسيكيين الذين يعيشون في الولايات المتحدة الأمريكية ويطلق عليهم chlcanos ؛ ويعني هذا المصطلح ( المعذبون) ؛ وقد بدا هذا المسرح وجوده في عام 1965 كسلاح من أسلحة النضال الفني لهذه الفئة من اجل انتزاع حقوقهم وتحسين ظروف معيشتهم وتوفير فرص عمل لهم ؛ ورفع أجور العمال والفلاحين منهم.
ولد مؤسس هذا المسرح ومديره ( لويس فالديس ) في عام 1940؛ وهو ابن لفلاح مكسيكي تخرج من جامعة ولاية كاليفورنيا ؛ وكان ممثلا في سان فرانسيسكو في جماعة التمثيل الصامت ؛ وفي عام 1965 أسس مسرح ( التياترو كامبيسينو ) ؛ وفيه اعتمد على تقديم اسكتشات مثيرة تتخذ من أحداث التمرد والإضرابات مادة لها ؛ ولم يتقيد هذا المسرح بشكل فني محدد ؛ إذ صار هذا المسرح يجمع بين المسرح البريختي التعليمي الملحمي ؛ وبين الكوميديا المرتجلة ؛ وفن المهرج الشعبي المكسيكي ؛ ومعظم أعمال هذا المسرح لا تعتمد على الديكور ؛ ولكن منذ عام 1967 وسع مسرح التياترو من اهتماماته المسرحية إذ قدم مسرحيات كاملة تتسم باتساع بمنظورها في مجال إلقاء الأضواء على أوضاع المكسيكيين في الولايات المتحدة والمشاكل التي تواجههم كونهم مكسيكيين .
لقد عالجت مسرحيات مسرح التياترو مثلا مشكلة اللغة التي تشكل عائقا أمام أبناء المهاجرين في المدارس الأمريكية ؛ وصعوبة تكيف المهاجرين المكسيكيين مع المجتمع الأمريكي ؛ والقت الأضواء على شخصية المكسيكي المتأمرك الذي يفقد شخصيته ويتحول ليتحول إلى أمريكي ؛ وغير ذلك من المشاكل التي جعلت هذا المسرح معملا حقيقيا في إيقاظ الحس القومي في نفوس الجالية المكسيكية والحفاظ على كرامتهم وتحريضهم للنضال من اجل الحصول على حقوقهم كاملة ومواجهة التفرقة العنصرية في المجتمع الأمريكي ؛ وقد استمر هذا المسرح حتى عام 1971 بنجاح كبير .
مسرح فاسبيندر
وهو مدرسة أخرى من مدارس المسرح السياسي في الغرب ؛ وبدايته كانت في عام 1968 عندما اصدر المخرج السينمائي والمسرحي الألماني ( رياينر فيرنر فاسبيندر) بيانا وقع عليه عدد من الكتاب والمفكرين والمسرحيين ؛ وفيه استعرض مسيرة المسرح السياسي في الغرب عموما وفي ألمانيا خصوصا ؛ ورأى أن هذا المسرح لم يعد صالحا بعد التحولات السياسية والمادية التي أصابت المجتمع الغربي والتي أدت إلى انهيار القيم وطغيان المصالح الفردية والجماعية.
ورأى فاسبيندر أن المسرح السياسي ؛ أو المسرح المضاد كما أطلق عليه ؛ يجب أن يصعَد من صدامه مع المسرح البرجوازي التقليدي ؛ وان يرتقي بوظيفته إلى تطوير الأحداث المأخوذة من الواقع وإضفاء التنوير عليها عبر مسرح مضاد جديد مشحون بطابع الجرأة وسمة الغرابة والفضح والافتضاح ؛ وكلما كان للمسرح قدرة الفضح صار مسرحا ثوريا وتحريضيا ضد ما هو سائد في حركة المجتمع.
على هذه الرؤية ينادي سبايندر لإيجاد مسرح جديد بكل شيء ؛ مسرح يفضح ويسعى إلى تحقيق انقلاب من خلال معالجة تعري وتنير العقل ؛ وتدخل مباشرة على المدارك الحسية للمتفرج ؛ مسرح يتجه إلى تخير الشكل والبناء المناسبين دون قيود لينفذ من خلالهما إلى تفتيت الرؤية والأشكال السلبية التي صارت بحكم التكرار والعادة مألوفة للناس ؛ ويجب أن يكون هذا المسرح كتلة كبيرة من القسوة والشر وتجسيدا للفساد؛ ولكنه لن يكون اكثر شرا وقسوة وفساد مما يرتكبه البشر في السر والعلن .
يقول فاسبيندر ” إن الإنسان يعيش الفساد والشر كل يوم عشرات المرات ؛ وهو إما لا ينتبه لهما بحكم التكرار والاعتياد ؛ وإما يعتبر الشر والفساد قدرا لا بد منه ؛ ولذلك يتقبل وجودهما بدون تذمر ويمارسهما بدون تأنيب ضمير ؛ و لهذا يجب على المسرح المضاد أن يضع المتفرج أمام عملية اكتشاف الشر والفساد كما يجري تنفيذهما في الحياة ؛ ثم يكشف له الأشخاص والأسباب والعوامل التي تتحالف ليستمر الشر والفساد والقسوة ؛ وبعد ذلك يحرضه للتمرد على هذا الواقع الشرير والفاسد والقاسي ؛ ومن الخطأ أن يلجا المسرح للوعظ والإرشاد والخطابة الحماسية ليحرض المتفرج ؛ بل يجب أن يمر الحدث الدرامي بسرعة وان تتطور الشخصيات بقوة مدهشة ؛ ثم في لحظة يجب أن تتلاشى مبالغات الحلم والرومانسية وكل الأفعال غير الصالحة أو غير الصادقة من تلقاء نفسها لتحل محلها لحظات تعرية الذات ؛ وعلى هذا يجب على الممثل أن يعتمد التلقائية في الأداء متناسيا وجود الجمهور وكأنه يؤدي لنفسه”.
ملامح أساسية
من خلال هذا العرض السريع للمسرح السياسي ونماذج منه في الغرب نجد انه يتصف بصفات مشتركة عبر كل مدارسه منها :
– انه لم يأت كردة فعل على واقعة سياسية أو حدث سياسي عابر ثم يتوقف بعد مرور هذا الحدث ؛ بل إن المسرح السياسي في الغرب نشأ ليستمر ؛ وعندما تنتهي الظروف السياسية أو الاجتماعية التي ظهر بسببها يجد هذا المسرح لنفسه ظروفا أخرى ليستمر باعتباره رسالة مسرحية مستمرة ويجب ألا تتوقف ؛ والعاملون فيه يمارسونه على أساس قناعة تامة به .
– قد يتوقف هذا المسرح السياسي أو ذاك لفترات طويلة أو قصيرة ؛ ولكن لمراجعة النفس وليطور نفسه على أساس المستجدات السياسية ؛ فمسرح التياترو كاممبسينو مثلا توقف في عام 971 ؛ ولم يعلن القائمون عليه عن توقفه نهائيا ؛ بل عن التوقف المؤقت للقيام بقراءات سياسية وتطوير المسرح بما يناسب المستجدات السياسية ؛ وخاصة فيما يتعلق بموضوع التمييز العنصري ؛ وفعلا عاد المسرح للعمل في عام 1981 وتحت نفس التسمية ؛ وقدم مسرحية ( المنتفخ) لمدة أربع سنوات متواصلة على اشهر مسارح الولايات المتحدة الأمريكية ؛ وقد أجبرت تلك المسرحية السلطات الأمريكية على التخفيف من شروط منح الإقامة الدائمة “كرين كارد” لابناء الجالية المكسيكية ثم أبناء الجاليات الأخرى ؛ والمسرحية تتحدث عن معاناة المهاجرين من الحصول على حق الإقامة والأساليب الملتوية التي يضطرون لسلوكها التفافا على القوانين الأمريكية .
– يعطي المسرح السياسي بكافة أشكاله حيزا كبيرا لفن الارتجال ؛ ويبتعد عن البذخ في الديكور والملابس ؛ وغالبا لا يولي أهمية للخشبة المسرحية أو صالة العرض .
– ما زال هذا المسرح يفرض حضوره واحترامه على جمهور المسرح في الغرب ؛ وكل تجربة في المسرح السياسي ينظر إليها باحترام واهتمام من قبل الجمهور والنقاد .
– لا يطرح المسرح السياسي نفسه بديلا عن المسرح التقليدي ؛ بل ينظر إليه رغم صدامه معه باحترام ؛ ويراه ضروريا لاستمرار المسرح السياسي ؛ فيقول بيساتور مثلا في كتابه ” تسييس المسرح ” : ” من الخطأ ألا نصطدم مع المسرح التقليدي البرجوازي ؛ ولكن من الخطأ أيضا إلا ننظر إليه باحترام ؛ فهذا المسرح يشكل تاريخ البشرية ؛ ولهذا نرفض مقولة بعض المتطرفين الثوريين الذين يطالبون بإلغاء المسرح البرجوازي ؛ فلو تم إلغاء المسرح البرجوازي لن يكون هناك وجود للمسرح السياسي ؛ بل سيظهر مسرح سياسي نقيض يناضل من اجل إلغاء السائد المسمى مسرحا سياسيا وعودة المسرح البرجوازي ؛ من هنا يجب أن نقر بأننا في المسرح السياسي والمسرح التقليدي رغم تناقضاتنا نكمل بعضنا في المسرح .. إن المسرح البرجوازي يُخدم من قبل مسرحيين يقدمون للمتفرج ألواح شوكولا لذيذة ؛ ومهمتنا هي أن نقدم للمتفرج ما يوضح له أن هذه الشوكولا ليست لذيذة بقدر ما هي مزيفة ؛ ولكننا إن لم نحترم قدرات صانعي الشوكولا المزيفة لن نستطيع تحقيق كشف زيفها للناس …”. 
المسرح السياسي العربي
ما نريده من هذه الوقفة عن المسرح السياسي في الغرب هو أن نبحث عن موقع المسرح السياسي في الوطن العربي ؛ وكما قلنا في بداية هذه الوقفة ؛ نجد أن ما يسمى بالمسرح السياسي العربي لا يشكل في الحقيقة إلا أزمة من أزمات المسرح لعربي ككل ؛ ولنكون منصفين نعود إلى المسرح العربي كفن مستورد ؛ وحيث ما زالت إحدى إشكالياته عندنا هي موقعه من الثقافة العربية .
لقد جوبه المسرح كفن مستورد منذ البداية بالرفض والحساسية ؛ والرواد الذين نقلوه للثقافة العربية لم يقدموه لكافة فئات المجتمع ؛ والفئة التي اقتصر عليها حضور المسرح كانت طبقة تأثرت واندهشت بالحضارة الغربية المتفوقة ومعطياتها ؛ أي أن المسرح العربي لم يبدأ بداية شعبية ؛ وبقي مقصورا على طبقة الأغنياء السلطوية والمثقفة وذلك لاسباب كثيرة منها حداثة هذا الفن في الثقافة العربية ؛ وكل جديد طارئ لابد أن يجابه بنظرة ريب وتحسس ؛ ومنها أن هذا الفن لم يكن من الممكن تعميمه بوسائل النشر المعروفة كالصحف والمجلات ؛ بل كان يقدم في أماكن معينة ولجمهور معين .
لهذا منذ البداية وحتى عقود تالية اعتبر هذا المسرح دخيلا على الثقافة العربية وفنا شبه مرفوض ؛ وهذا ما أدى إلى تنازلات كثيرة في سبيل خلق وترسيخ هذا الفن على الأرض العربية ؛ واول تلك التنازلات دمج المسرح بالغناء والرقص على نحو ما فعل أبو خليل القباني ورفاقه ومن جاء بعده ؛ كما تأخر ظهور التأليف المسرحي الحرفي في الأقطار العربية إلى الخمسينات وما بعدها ؛ وبهذا وذاك انقضت عدة عقود من عمر المسرح العربي وهو يحاول أن يثبت وجوده في الثقافة العربية ؛ وطوال تلك العقود لا يمكن الحديث عن أي شكل من أشكال المسرح السياسي العربي ؛ وهذا بديهي وطبيعي .
بعد الخمسينات استطاع المسرح العربي أن يحصل على الاعتراف به كفن أدبي ؛ وربما من اصعب الفنون الأدبية ؛ وحصل على اعتراف الجماهير العربية به كظاهرة حياتية مسلية بالدرجة الأولى ؛ ولكنها مؤثرة ؛ فتم إدخال المسرح في النشاطات المدرسية كوسيلة تثقيفية وتربوية وتوجيهية ؛ وانشئت هيئات رسمية عربية مهمتها الإشراف على المسرح والتأليف وتشجيعه ودعمه ؛ فدخل المسرح العربي بذلك تحت وصاية المؤسسات العربية ؛ وتحت هذه الوصاية وبدونها شقت الظاهرة المسرحية طريقها ورسخت نفسها في الحياة العربية ؛ خاصة بعد هزيمة 1967 ؛ فقد انبرى المسرح العربي قويا وأصيلا يعبر عن غضبة الإنسان العربي وفضح هزائم الأنظمة العسكرية واللامبالاة بمصير الإنسان العربي والوطن ؛ وقد جعل هذا المسرح لنفسه القضايا القومية التزاما صريحا ؛ وعلى رأسها قضية فلسطين ومظاهر التبعية للغرب الاشتراكي أو الرأسمالي والمخاطر التي تهدد الهوية الثقافية العربية؛ ونذكر من تلك الفترة على سبيل المثال لا الحصر سعد الدين ونوس ونجيب سرور وسعد الدين وهبه وفوزي فهمي وعبدالكريم برشيد ؛ ولكن هذه الفترة لم لتلبث أن تراجعت لاسباب كثيرة منها أنها كانت فترة تأزم نجمت عن الجرح العربي الذي صار عميقا في العقل العربي ؛ ومما عمق التجزئة والتعصب القطري ؛ وأدى إلى غياب المشروع الحضاري العربي ؛ وفي هذه الأجواء انتكس الإبداع المسرحي ؛ وصار الإخراج سيد المواقف في اتجاه الابتعاد عن الهموم القومية والتركيز على الإلهاء السطحي .
النقطة الثانية هي أن المسرح الذي تكون تحت وصاية المؤسسات ضمن مصطلح ” الرعاية” ما كان ليستطيع تأسيس مسرح سياسي فعال ودائم ؛ اللهم إلا المسرح التجاري الخاص الذي تحت تسمية المسرح السياسي قدم كل ما يخطر على البال من ابتذال وانحطاط.
صحيح أن بعض الومضات ظهرت في المسرح السياسي العربي مثل مسرح الشوك الذي أسسه عمر حجو ودريد لحام ؛ وفرقة تشرين لدريد لحام ونهاد قلعي ؛ واستوديو الممثل لمحمد صبحي ولينين الرملي في مصر ؛ والمسرح الجديد في تونس … ولكن هذه التجارب وغيرها سرعان ما واجهت التسليخ والتمييع والتسخيف منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي ؛ وسنتوقف عند نماذج من هذه المسارح السياسية العربية ونرى كيف بدأت وأية مصائر مروعة وصلت إليها
مسرح الشوك
عقب هزيمة 1967 أسس عمر حجو مسرح الشوك بالتعاون مع دريد لحام ؛ وكانت الأجواء السائدة بعد الهزيمة العربية في الحرب مناسبة لنجاح هذا المسرح جماهيريا وإعلاميا ؛ إذ اعتمد هذا المسرح على فقرات قصيرة ناقدة ومتتالية ضمن العمل الواحد تتناول بشكل ساخر وناقد الظواهر الحياتية في المجتمع العربي ؛ والرسالة الأساسية التي أرد المسرح إيصالها هي أن المواطن المنهك وراء تحصيل لقمة عيشه والحصول على الحد الأدنى من حقوقه في الخدمات هو مهزوم أساسا في داخله ؛ وبالتالي لا يمكن محو الهزيمة إلا بتحقيق إنسانية العربي .
كان مسرح الشوك شكلا جديدا في المسرح السائد ؛ وجاءت نجومية دريد لحام ونهاد قلعي كمشاركين في المسرح لتضيفا أسبابا أخرى لرواج ونجاح هذا المسرح ؛ ولو استمر هذا المسرح لاستمرت تسمية السياسي له صحيحة ؛ ولكن بعد فترة من النجاح بدأ تألقه يخف ؛ فقد قدم القائمون عليه كل ما عندهم مما يهم المتفرج وسط تلك الظروف السياسية آنذاك ؛ بل بدأ يكرر نفسه رغم العدد القليل جدا من الأعمال التي قدمها ؛ وبذكائه التجاري المعروف أدرك دريد لحام أن هذا المسرح بدأ بالاحتضار ؛ فتقرر إيقافه بعد أن طغت على السطح الإعلامي أصداء الخلاف المستحكم بينه وبين عمر حجو حول من هو المؤسس لهذا المسرح ومن هو صاحب الأفكار فيه .
والمضحك المبكي أن مسرح الشوك هذا بعد أن أنهى نفسه فرَخ عددا من المسارح التي حاولت أن تنحو نحوه ؛ إذ أسس كل ممثل كان في مسرح الشوك لنفسه مسرحا ؛ فظهرت مسارح تحت تسميات مثل ” مسرح دبابيس ” و ” مسرح خوازيق ” و” مسرح قنوع ” وكلها مسارح اعتمدت على التهريج والابتذال والسخف ولم تخرج عن نطاق التجارية الرخيصة ؛ وكان كلها مصيرها الفشل الذريع بعد أن أساءت للمسرح ككل وكانت سببا في سرعة انطفائه؛ وقد عاد عمر حجو بعد سنوات ؛ وتحديدا في عام 1995 إلى محاولة إحياء مسرح الشوك في مدينة حلب ؛ وبالتعاون مع مسرحيين منها ؛ ولكن كان نصيب هذه المحاولة الفشل الذريع لانه أعاد تقديم نفس الفقرات التي قدمها في ستينات القرن الماضي مع دريد لحام في الوقت الذي كانت فيه المفاهيم السياسية قد تغيرت ووعي المواطن قد تغير .
وهكذا انطفأت هذه التجربة المسرحية السياسية سريعا ؛ بل صارت متهمة بأنها وراء التجارية الرخيصة التي لازمت المسرح الخاص السوري بعد انحلالها .
فرقة تشرين
أسسها بعد انحلال مسرح الشوك دريد لحام ونهاد قلعي ؛ وقدمت أعمالا لقيت صدى طيبا عند الجمهور العربي مثل ” ضيعة تشرين ” و” غربة ” و “كاسك يا وطن ” ؛ واعتبرت هذه الأعمال سياسية بكل ما تعنيه الكلمة من خلال مواكبة مواضيعها للأحداث السياسية العربية ؛ ولكن المشكلة أنها وصلت إلى مرحلة لم تعد تملك ما تستطيع قوله إزاء تسارع الأحداث السياسية العربية ؛ فوصلت إلى مرحلة التكرار والإملال ؛ ومع ذلك استطاعت الفرقة أن تقف على قدميها قليلا عندما كتب لها الشاعر والكاتب الكبير محمد الماغوط مسرحية ” شقائق النعمان ” ؛ ومع ذلك عاد الانحدار إلى الفرقة وجماهيريتها؛ وكما هو متوقع برز على السطح الخلاف بين محمد الماغوط ودريد لحام والذي انتهى بانسحاب محمد الماغوط ودخول دريد لحام تجربة الكتابة بنفسه .
والنتيجة لم تكن افضل من مسرح الشوك ؛ إذ فشل آخر عمل قدمته الفرقة فشلا ذريعا على المستوى النقدي والمستوى الجماهيري ؛ ولم ينفع تطعيم العمل بالرقص المجاني والأجساد الأنثوية المغرية ؛ أي أن دريد لحام وقع بدوره في مطب التجارية واللجؤ لنفس الأساليب التي يلجا إليها المسرح التجاري ؛ والنتيجة كانت اعتزال دريد لحام المسرح ” بسبب السن ” كما قال ؛ ولكن في الواقع كان اعتزاله المسرح بسبب انه لم يعد يجد ما يقوله في المسرح الذي يصر دريد لحام على تسميته بالمسرح السياسي ؛ وهو كان كذلك فعلا ؛ ولكنه انتهى إلى التجارية .. والانطفاء .
واقدساه
وفي المسرح السياسي العربي نتوقف عند أهم محاولة مسرحية كان من الممكن أن تكون نواة لمسرح سياسي عربي فعال هي مسرحية ( واقدساه ) التي أنتجها اتحاد الفنانين العرب من تأليف يسري الجندي واخراج المنصف السويسي ؛ وتم عرضها في عام 1989 بمشاركة فنانين من تسع دول عربية ؛ ومحورها كما يحمله العنوان هو مدينة القدس ؛ وبالتالي جاء العمل وقد توفرت له كفاءات عربية كبيرة ؛ ولكن منذ البداية يجب أن ننتبه إلى أن العمل جاء نتيجة ( قرار ) من اتحاد الفنانين العرب ؛ وكتابته تمت ب (تكليف) ؛ والإبداع لا يصنع بقرار .
وتم عرض العمل وسط اهتمام إعلامي عربي ؛ وحيث فكرة العمل تقوم على استحضار شخصيات تاريخية عربية وعرض مواقفها وارائها ولحظات قوتها وضعفها ؛ وذلك في ما يشبه المحاكمات لها ؛ ولتؤكد أسئلة المحاكمات على أسئلة مثل : لماذا استطاع صلاح الدين الأيوبي تحرير القدس ؛ ولو توفرت له ظروف اكثر ملاءمة هل كان من الممكن أن يستمر هذا التحرير ؛ وما هي الأسباب التي أضاعت القدس من جديد…؟!
وهكذا ؛ من الملحمية والتسجيلية والواقعية والتعبيرية؛ ومن الماضي والحاضر تم نسج النص المسرحي ؛ وبلغة مسرحية هي مزيج من الخطابية والإلقاء الشعري والسردية اللاهثة ؛ وكان من الطبيعي أن يجد الجمهور نفسه أمام نص غير مفهوم أبدا ؛ وحتى الممثلين أنفسهم كانوا يقدمون أدوارهم دون أن يعرف أحدهم ماهو موقع دوره في المسرحية ؛ وإزاء الإملال الذي كان يحيط بالجمهور لم يجد الممثلون سوى اللجؤ إلى ارتجال القفشات والقاء النكت الهزيلة في محاولة لاستجرار الضحك من الجمهور ؛ وبدلا من مسرحية سياسية كان العمل مسرحية عجيبة غير مفهومة ؛ وبالتالي كان مصيرها الفشل الذريع ؛ ولم يحاول اتحاد الفنانين العرب تكرار التجربة.
باب الفتوح
لعل هذه المسرحية تمثل إحدى أهم الإضاءات في مشروع المسرح السياسي العربي بعد نكسة حزيران 1967 ؛ فقد كتبها محمود دياب بعد النكسة وبعد أن تبلورت معطياتها وانعكاساتها وإفرازاتها السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية في ذهنه ؛ وقد قدمت هذه المسرحية عشرات المرات في معظم الدول العربية بعد أن قدمها المسرح القومي المصري في موسم عام 1976 من إخراج سعد اردش وبطولة عبد المنعم إبراهيم وفردوس عبد الحميد .
تترجم المسرحية باختصار أحزان نكسة 1967من خلال مقولة صريحة تتمحور في المعادلة التالية ” أن انتصار السيف وحده لا يكفي إن لم يدعمه انتصار الفكر” فالفكر هو الذي يعطي للنصر العسكري دلالته ومعناه وابعاده ؛ وحتى يصل دياب إلى عمق هذه المعادلة الفكرية ويجسدها دراميا بشيء من الواقعية لجأ إلى التاريخ ليعيد تشكيله وهيكلته من جديد وفق نظرة فلسفية مستمدة من في الأصل من الواقع ذاته من خلال استدعاء عصر صلاح الدين الأيوبي .. وبالطبع لسنا هنا في مجال عرض هذه المسرحية الهامة ؛ ولكن نريد من الإشارة إليها أن مسرحنا العربي قادر في الواقع على تأسيس مسرح سياسي لو وفر لنفسه هدف تأسيس هذا المسرح بعيدا عن الاستعجال والتجارية ؛ فمحمود دياب كتب مسرحيته في عام 1970 ؛ أي بعد ثلاث سنوات من نكسة حزيران ؛ وحيث أمضى هذه السنوات الثلاث مراقبا لمعطيات النكسة واستقراء أسبابها وسبل الخروج منها ؛ وبالتالي قدم نصا متكاملا في نضوجه وطروحاته الفكرية ؛ في حين وجدنا أن معظم الأعمال المسرحية التي تناولت النكسة ظهرت بسرعة بعد النكسة مباشرة مثل مسرح الشوك ؛ فكانت ردود فعل آنية ؛ وبالتالي لم يكتب لها الاستمرار .
ولكن من المؤسف أن ( باب الفتوح) مع تكرار عرضها هنا وهناك قتلها الاجتهاد الإخراجي للمخرجين الذين أخرجوها ؛ فكل مخرج صار يجتهد بإضافة ما شاء من بهرجات ولمسات وتفنن في استنباط ديكورات وأزياء ؛ وبحيث أن أهداف المخرجين كانت استعراض قدراتهم على حساب فكرة المسرحية وأهدافها ؛ وبالتالي قُتلت هذه المسرحية على أيدي المخرجين ؛ ولم تعد سوى من الذكريات الطيبة عن مسرحية سياسية عربية.
نفس الأمر يمكن أن نقوله عن رائعة ( حفلة سمر من اجل 5 حزيران ) فهذه المسرحية السياسية التي حققت نجاحا في بدايتها ؛ سرعان ما قتل المخرجون فكرتها باجتهاداتهم الإخراجية ؛ وشخصيا شاهدت عرض هذه المسرحية حوالي سبع مرات من قبل سبع فرق مسرحية عربية ؛ وفي كل مرة كنت أجد أن المسرحية قد صارت ساحة لاستعراض عضلات المخرج وقدراته اكثر من أن تكون مجالا لعرض الفكرة التي تحملها ؛ وأيضا بسبب ذلك صارت هذه المسرحية من الذكريات الطيبة عن مسرحية سياسية عربية .
التهريج أم السياسة
ما عدا بعض المسرحيات القليلة جدا مثل ( باب الفتوح) و ( حفلة سمر من اجل 5 حزيران ) يرتبط المسرح السياسي في قناعات وممارسات المسرحيين العرب بالكوميديا ؛ أو بالأحرى ؛ وبصراحة قاسية ( بالتهريج ) ؛ وكأن المسرح السياسي العربي لا يمكن أن يظهر إلا في أحضان الكوميديا (إذا التزمنا التهذيب ولم نقل التهريج ) ؛ فمسرح الشوك رغم أهميته كتجربة مسرحية لم يكن سوى قفشات كوميدية تعتمد على نجومية ( غوار الطوشة) الشخصية الشهيرة التي تقمصها دريد لحام ؛ ولهذا عندما قدم بعض المسرحيين في بيروت نفس فقرات مسرح الشوك في عام 1969 كان نصيبهم الفشل لان الجمهور كان يريد رؤية (غوار الطوشة) في المسرحية ؛ ولا يهم ما سيقال في المسرحية .
والأعمال التي قدمها دريد لحام بعد ذلك في إطار فرقة تشرين كانت تتكيء بالدرجة الأولى على نجومية دريد لحام وقدراته على الإضحاك عبر شخصية غوار الطوشة ؛ وهذا لامانع منه لولا انه وصل إلى حد الابتذال في معظم الأعمال المسرحية التي تصنف نفسها سياسية ؛ ويمكن أن نستشهد هنا بمسرحيات لعادل إمام مثلا ؛ وكمثال نتوقف قليلا عند مسرحية حملت اسم ( دستور يا أسيادنا ) قدمها الفنان احمد بدير وتحت تصنيف المسرح السياسي في عام 1995 ؛ وحيث حملت إعلانات العمل عبارة ” المسرحية السياسية …” بالإضافة إلى الضجة الإعلامية التي رافقت عرضها بعد أن منعت وزارة الثقافة المصرية عرضها بسبب “خروج الممثلين عن النص وعبارات الابتذال والنقد غير المبرر لشخصيات سياسية حية “.وفي الواقع لم يأت قرار إيقاف العمل إلا دعاية كبيرة مجانية للعمل ؛ إذ اجتمع المثقفون ونقابة المهن التمثيلية والمثقفون واحتجوا وتضامنوا مع احمد بدير وفرقته ؛ وخاصة بعد أن روج احمد بدر بان قرار المنع جاء بسبب الأفكار السياسية الجريئة التي يطرحها العمل ؛ وفعلا ؛ وبسبب ضغط الفنانين والمثقفين والإعلام تراجعت وزارة الثقافة المصرية عن قرار المنع وعاد العرض للعمل ؛ ولكن ليشكل صدمة كبيرة للذين تضامنوا معه لانه في الواقع لم يكن إلا كتلة كبيرة من التهريج والعري الرخيص غير المبرر والنكات المبتذلة ؛ وكل ذلك تحت يافطة المسرح السياسي .
وفكرة العمل تدور حول مواطن فقير يبتكر طريقة للتخلص من فقره بان يرشح نفسه لانتخابات رئاسة الجمهورية كمنافس لرئيس الجمهورية الذي أعيد انتخابه مرارا ؛ وهي فكرة جريئة بالتأكيد ؛ ولكن بحسب النقاد المصريين الذين شاهدوا العمل ” سيطرت على إخراج هذا العمل روح التجارة في المسرح ؛ فهناك أجساد كثيرة عارية بلا وظيفة واضحة ؛ وهناك ممثلون كثيرون يتحركون بلا أدوار حقيقية وكل شيء موظف للنجم الأوحد الذي يجيد إلقاء النكات والتهريج المبتذلة…”
في النتيجة
نستطيع القول انه لا يوجد مسرح سياسي عربي بما تعنيه التسمية من معنى ؛ بل هناك محاولات تظهر فجأة بعد أحداث سياسية هامة كطفرة الأعمال التي ظهرت بعد نكسة حزيران ثم انطفأت بسرعة ؛ بينما كما قلنا إن المسرح السياسي في الغرب موجود ومستمر وينجح باستنباط مواضيعه بعيدا عن الآنية والانفعالية ؛ وبالتالي ولا يمكن أن نقارن المسرح السياسي في الغرب بقرينه في الوطن العربي ؛ وان نسأل لماذا لا يوجد مسرح سياسي عربي مثل المسرح السياسي في الغرب ؛ فهذا يعني ترفا لا لزوم له الآن ؛ فالمسرح العربي كله يعيش أزماته القاتلة ؛ وعندما ننجح في إعادة الحياة إلى المسرح العربي من البديهي أن تعود الحياة إلى المسرح السياسي أيضا ؛ وعندها يمكن النقاش حول المدارس والأساليب التي يجب اتباعها لتفعيل المسرح السياسي ضمن تفعيل دور المسرح العربي ككل .

عن adminis

شاهد أيضاً

المسرح السياسي في أمريكا

المسرح السياسى فى أمريكا((التعريف..الوظيفة..الأصول..وصولا إلي نظرية العرض المسرحي السياسي)المسرح السياسى، مصطلح عسير ووعر، مما تحمل …

المسرح السياســـي – د.ادريس الذهبي

1- توطئـة :يعتبر سعد الله ونوس أحد أهم الدراميين العرب، الذين تفرغوا للعمل المسرحي تأليفا …

فى الألفية الثالثة

المسرح السياسى بين الانتقاد والتحريض يكتمل العرض المسرحى إلا بالحضور الجماهيرى، فالجمهور شريك أساسى فى …

المسرح السياسي

خطاب العرض والتأثير بدءا يتجارب بيكاتور ومن ثم بريخت فبيتر فايس، رسخ مفهوم المسرح السياسي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *