فى الألفية الثالثة

المسرح السياسى بين الانتقاد والتحريض

يكتمل العرض المسرحى إلا بالحضور الجماهيرى، فالجمهور شريك أساسى فى هذا الفعل وليس فقط مجرد متفرج.. والمسرح الذى يتوجه دائماً للإنسان ويعبّر عن قضاياه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية هو مسرح سياسى فى كل صوره المختلفة حتى لو كان يطرح قضايا ذاتية، منذ التراجيديات الإغريقية الكبرى التى جسدت صراع الإنسان مع القدر والتى لا تخلو أيضاً من السياسة، لأنها تطرح مأساة الإنسان وصولاً إلى عروض المسرح السياسى فى عصرنا الحديث. فالمسرح ارتبط بالسياسة منذ نشأته وعبر تاريخه من خلال التوجه إلى جماهير عريضة ومروراً بكل الصيغ والأشكال التى عرفها الجمهور.

فما أطلق عليه فى العصر الحديث  “political theater” كان موجوداً فى صيغ مسرحية عديدة قبل اعتماد هذ المصطلح، أهمها المسرح الشعبى، والمسرح التحريضى.

لذلك اعتبر البعض أن المسرح كله سياسى، بل ويمكن أن نعتبر أن فعل التوجه إلى الجمهور وشكل التلقى الذى يفترضه المسرح سياسة أيضاً، حتى وإن كان لا يحمل مضمونا سياسيا، فهناك دائما محاولة لخلق مسرح يربط بين الفن والسياسة ويعطى للمسرح دوراً تحريضياً يتوجه – فى الغالب – للطبقات الشعبية.

لكن علينا أن نفرق بين المسرح الذى يندرج بوضوح تحت مسمى المسرح السياسى، وهو الذى يتناول القضايا السياسية بشكل مباشر، وبين المسرح الذى يطرح قضايا اللحظة الراهنة وأسئلة الواقع أو مأساة الإنسان عبر العصور، فالنوع الأول ليس فقط يحتاج إلى كتابة يتحقق من خلالها شرط المسرح السياسى بل أيضاً صيغ الإخراج والتمثيل التى تعتمد على كسر الإيهام واستخدام أساليب المسرح السياسى مثل الكباريه، والريفيو، وغيرهما، ليتحقق الهدف من تقديمه فى التحريض وإثارة الجماهير. أما النوع الثانى الذى يطرح قضايا عامة ورؤية لا تخلو من الإسقاط السياسى فيتم تقديمه بصيغة المسرح التقليدى، الصيغة الأرسطية التى تتوحد فيها الصالة مع الخشبة من خلال تحقيق شرط الإيهام.

وعربياً، ارتبط المسرح بالسياسة وارتبطت السياسة بالمسرح منذ النشأة فى مصر وسوريا ولبنان، ليس فقط لأنه نشأ فى زمن الاستعمار، بل لأن كل الظواهر المسرحية الشعبية التى مهدت لاستقبال هذا الفن فى الوطن العربى يغلب عليها الطابع السياسى، مثل فن الأراجواز وخيال الظل والبابات والمقامات. وعلى الرغم من الطابع الغنائى للمسرح حال ولادته فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر فإن السياسة كانت لها الكلمة العليا، السياسة التى أغلقت مسرح يعقوب صنوع فى مصر، والرجعية الدينية التى لا تخلو أيضاً من السياسة والتى أجبرت أبوخليل القبانى على إغلاق مسرحه فى سوريا والهجرة إلى القاهرة، فلم يستطع الرواد الأوائل تجاهل الأحداث الجارية والواقع الذى يسيطر عليه التخلف فى ذلك الوقت، ولم تكن النشأة مخططا لها بشكل منهجى، بل جاءت من هواة ارتبط المسرح عندهم بالوظيفة الاجتماعية من خلال شعورهم بقدرة المسرح على القيام بعمليات التغيير الاجتماعى، حيث عرف المسرح المصرى الكوميديا الشعبية المرتجلة فى أوائل القرن من خلال عروض أقرب إلى الكوميديا الانتقادية التى بدأها عثمان جلال كما ذكر د.على الراعى، وتلاه تيمور فى الكوميديات الأخلاقية، ثم توفيق الحكيم فى مسرحية المرأة الجديدة عام 1923. وبفضل عثمان جلال أمكن لأحمد شوقى أن يقدم الست هدى التى يعتبرها على الراعى أول ثمرة حقيقية للنبت الذى استورده عثمان جلال وزرعه فى التربة المصرية، أى كوميديا النقد الاجتماعى المعروفة باسم كوميديا السلوك، والتى سوف تكون بعد ذلك ملمحاً رئيسياً فى المسرح المصرى من خلال صيغ وأشكال متباينة تتغير وتتطور وفقاً لشروط ومتطلبات اللحظة الراهنة. فالكوميديا الاجتماعية التى قدمها نجيب الريحانى وبديع خيرى فيما بعد فى مسارح شارع عماد الدين كانت لا تخلو من إشارات سياسية، وشيوع فن الأوبريت الذى قدمه سيد درويش وكان يعتمد على السياسة فى بنائه العميق، مثل العشرة الطيبة التى تؤكد فساد السلطان والحاشية. وإذا تأملنا عروض الريحانى وعلى الكسار وجيل النهضة بعد ذلك سنجد أن هذه الكوميديات تقوم فى بنائها العميق على السياسة، بل وعلى التحريض فى أحيان كثيرة. وأشار المؤرخون إلى أن وزارت عديدة كان يتم تشكيلها فى شارع عماد الدين، شارع المسارح، حيث أسهم مسرح التورية السياسى الفكاهى الوثائقى فى ذلك الوقت فى تنمية روح الوطنية والقومية وفى ثورة الشعب عمالاً وطلاباً. فقد آمن المجتمع بالمسرح وشارك أهل السياسة فى كتابة المسرح واستخدامه فى تنمية الروح الوطنية كما فعل عبدالله النديم فى مسرحية “الوطن” التى تخيل فيها الوطن إنسانا بائساً يجلس على قارعة الطريق يتسول المحبة من المواطنين ولا يحظى بها ويكشف من خلال هذا النص أمراض المجتمع فى نهاية القرن التاسع عشر.

استمرت كوميديا النقد الاجتماعى التى يغلب عليها طابع الانتقاد السياسى فى المسرح المصرى وكانت لها الكلمة العليا حتى بداية النصف الأول من القرن العشرين، لكن بعد يوليو 1952 تطورت العلاقة بين المسرح والسياسة من خلال المسرحيات التاريخية التى تعتمد على الإسقاط لطرح قضايا سياسية معاصرة، وذلك فى أعمال ألفريد فرج وعبدالرحمن الشرقاوى ومحمود دياب بعد ذلك، وأصبح المسرح يطرح المشاكل من خلال رؤية أعمق بعيدا عن الإسقاط والخطاب الانتقادى المباشر خاصة بعد أن أحكمت المؤسسة الرسمية قبضتها على المسرح والفنون الأخرى فلجأ المسرحيون إلى استلهام التراث أو قل الاختباء خلف الشخصيات التراثية والتاريخية واستخدام الرمز، وبرزت مسرحيات عديدة منها “الفتى مهران، وطنى عكا (لعبدالرحمن الشرقاوى)، سليمان الحلبى، حلاق بغداد (لألفريد فرج)، بير السلم، سكة السلامة (لسعد الدين وهبة)”، حتى صاحب البرج العاجى توفيق الحكيم كتب “السلطان الحائر، والصفقة، وبنك القلق”، بالإضافة إلى أعمال محمود دياب وميخائيل رومان ونجيب سرور وصلاح عبدالصبور وغيرهم، الأعمال التى هى أقرب إلى مفهوم التسييس كما وضعه سعدالله ونوس فيما بعد حيث طرح المشكلة السياسية من خلال قوانينها وعلاقتها المترابطة والمتشابكة داخل بنية المجتمع الاقتصادية ومحاولة استشفاف أفق تقدمى لحل هذه المشكلة.

لكن فى نهاية حقبة الستينات ظهر المسرح السياسى المباشر بقوة فى مصر والذى انحاز لصيغة الكباريه السياسى فى ظل هامش الديمقراطية الوهمى، وظهرت عشرات الأعمال التى يمكن أن تندرج تحت مسمى المسرح السياسى وتبتعد عن المفهموم العميق للتسييس، وتتخلى عن الإسقاط والرمز، بعضها تجاوز القوالب التقليدية مثل “البعض يفضلونها ولاعة” تأليف نبيل بدران وإخراج الدكتور هانى مطاوع، وعرض “كلام فارغ” إخراج سمير الصعفورى عن كلمات أحمد رجب الساخرة التى كان يكتبها فى الصحف، وإن كان البعض ظل يقدم المسرح السياسى فى صيغة الكباريه السياسى المباشر مثل جلال الشرقاوى، وهى عبارة عن مجموعة من اللوحات التى تجمع بين النقد الشديد لما يحدث فى المجتمع مع الغناء والاستعراض، وهذا يساعد فى توحيد الصالة وخشبة المسرح من خلال القواسم المشتركة بينهم وهى الأحداث الجارية والشخصيات المعروفة التى يتناولها العرض، أو إشارات التراث والتاريخ وهى الصيغة الأكثر شيوعاً للمسرح السياسى فى مصر خاصة فى العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين. ولأن الواقع كان مهيأ فى تلك اللحظة لاستقبال المسرح السياسى خاصة بعد يونيو 1967، أصبح الأسلوب الأكثر تداولاً خليطا بين الكباريه السياسى وعروض المنوعات ومسرح الجريدة الحية والمسرح التحريضى مع استعارة أشكال الفرجة الشعبية من خلال استخدام الأراجوز وخيال الظل وألعاب شعبية أخرى، ناهيك عن الاستعراض والغناء، ولهذا يكون عرضا أقرب إلى عروض المنوعات التى تقوم على أشكال فرجة متعددة من خلال التنوع فى استخدام الأشكال الفنية التى تهدف إلى الإثارة والتسلية والإبهار فى محاولة لتحقيق الربح التجارى، من خلال تقديم لوحات لها طابع الهجاء السياسى والنقد اللاذع للمجتمع، مع تفاوت المستوى الفنى، أى المسرح السياسى فى صيغته الصريحة المستعارة من الغرب، بالإضافة إلى ظهور المسرح السياسى التسجيلى مثل “ما حدث لليهودى التائه مع المسيح المنتظر” ليسرى الجندى.

وإذا انتقلنا إلى المسرح السياسى فى مطلع الألفية الجديدة، فسنجد أن ثمة تشابها بين ما حدث بعد يونيو 67 وبين السنوات التى سبقت الأحداث والوقائع التى حدثت فى 2011 بصور وأساليب مختلفة، فلا يمكن إغفال التغييرات التى طرأت على المجتمع المصرى فى الحقبتين وأصابت الواقع السياسى والاجتماعى والفكرى فى مصر، الأولى بفعل صدمة الهزيمة غير المتوقعة والحقبة الثانية بفعل فساد النظام السياسى والاجتماعى قبل 2011 ورغبة المسرحيين فى الإصلاح الاجتماعى عبر المسرح ونمو الوعى السياسى بعد الخامس والعشرين من يناير خاصة بين الشباب الذين اتجهوا إلى صيغ المسرح السياسى بأشكاله المختلفة.

فى محاولة للتعبير عن تلك اللحظة، وفى السنوات الأخيرة دخل الشباب حلبة الهجاء السياسى أو الانتقاد السياسى لطبيعة المرحلة حيث أصبح الجدل السياسى من أساسيات الحياة والطبق الرئيسى على مائدة المصرين اليومية، فقد تم تقديم عدد من العروض فى الفترة من 2011 وحتى 2013، مثل “1980 وأنت طالع”، “حكايات أم دينا”، “حلم بلاستيك” الذى تم تقديمه أثناء حكم الإخوان، بالإضافة إلى عروض تم تقديمها قبل 2011 بدأت مع مطلع الألفية الجديدة منها “اللعب فى الدماغ” وقهوة سادة وشيزلونج، ونلتقى بعد الفاصل لتطرح هذه العروض رؤية مغايرة للمسرح السياسى فى مصر بتأثير الأحداث السياسية الساخنة قبل وبعد 2011. وعلى المستوى الفنى استمر الأسلوب الكلاسيكى للكباريه السياسى فى عروض جلال الشرقاوى الذى قدم عرضين فى هذه الفترة “دنيا أراجوزات، ودنيا حبيبتى” قبل وبعد 2011، بالإضافة إلى عرض “غيبوبة” من تأليف محمود الطوخى فى 2016، وسوف نحاول فى هذه القراءة إلقاء نظرة على مجموعة من عروض المسرح السياسى قبل وبعد الثورة فى صيغه المختلفة من خلال اثنى عشر عرضاً، ستة عروض منها قبل الثورة “اللعب فى الدماغ، قهوة سادة، نلتقى بعد الفاصل، شيزلونج، دنيا أراجوزات، بصى” وستة عروض بعد الثورة “1980 وأنت طالع، حكايات أم دينا، دنيا حبيبتى، حلم بلاستيك، مافيش حاجة تضحك، غيبوبة”. ويلاحظ فى هذه العروض أولاً: أن بعضها تم تقديمه فى 2010 واستمر فى 2011 بعد الثورة حيث تم تعديلها بما يتناسب والأحداث الجارية، وهنا لا بد من التوقف أمام ازدهار المسرح السياسى عام 2010 قبل اندلاع أحداث الثورة للأسباب التى ذكرناها سلفاً. ثانياً: دخول الشباب حلبة المسرح السياسى خاصة الفرق المستقلة، بعد أن كان من نصيب المسرح التجارى فى السنوات الأخيرة أو من نصيب مسرح الدولة فى حدود الانتقاد المسموح به، وبالتالى تغيرت ملامح المسرح السياسى وخرجت من حيز الكباريه إلى آفاق أكثر حداثة من هذه الصيغة، لكن غاب عنها النص المسرحى الذى يطرح المشكلة من خلال قوانينها برؤية عميقة، بل معظمها غاب عنه النص المكتوب واعتمد على الارتجال الجماعى، بل وعاد إلى البدايات الأولى للمسرح الشعبى مستفيداً من الصيغ المسرحية الحديثة مثل المسرح التحريضى، وعروض المنوعات وتقنيات عصر الصورة مثل المالتيميديا. وما حدث يؤكد أن ازدهار المسرح السياسى أو تراجعه عبرالعصور مرهون بالتطور السياسى والاجتماعى والفكرى فى المجتمع، وهذا ما دفع شريحة كبيرة من الشباب للتخلى عن عروض القاعات، والعروض التجريبية واللجوء إلى المسرح السياسى وتجلياته حيث كان الهدف هو التحريض وإثارة المتفرج وتحفيزه على التغيير..

المصدر مجلة الاذاعة والتلفزيون

عن adminis

شاهد أيضاً

المسرح السياسي في أمريكا

المسرح السياسى فى أمريكا((التعريف..الوظيفة..الأصول..وصولا إلي نظرية العرض المسرحي السياسي)المسرح السياسى، مصطلح عسير ووعر، مما تحمل …

المسرح السياســـي – د.ادريس الذهبي

1- توطئـة :يعتبر سعد الله ونوس أحد أهم الدراميين العرب، الذين تفرغوا للعمل المسرحي تأليفا …

المسرح السياسي في الغرب ونظيره في الوطن العربي

في الوقت الذي تجاوز فيه المسرح العالمي تعريفه لمصطلح السياسي في المسرح لا تزال الإشكالية …

المسرح السياسي

خطاب العرض والتأثير بدءا يتجارب بيكاتور ومن ثم بريخت فبيتر فايس، رسخ مفهوم المسرح السياسي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *