رواية ليالي كرداسة الحلقة الثامنة المهندس أنور رياض

(14)

    توجه الرائد رياض إبراهيم في قوة عسكرية … طرق الباب … فتح له شاب في العشرينات .

  • مرسي مصطفي مرسي ؟؟
  • نعم .

الصفعة علي وجهه … دفعته إلي الخلف .

قال ساخرًا :

  • لا … مؤاخذة … ضيوف .

دخلوا … انتشروا يفتشون الغرف … ثم عزلوا الزوجة والأولاد في غرفة … أغلقوها عليهم … وجلسوا … أمامهم مرسي صامتًا .

قال له الرائد رياض :

  • أليس لديكم شاي للضيوف ؟

قال ذلك … فقام أحد العساكر … وتوجه إلي المطبخ … فتح الثلاجة … بدأ يختار … يضع في الأطباق ما يريد … والباقي يلقيه علي الأرض … حتى أفرغها تمامًا … وفي المطبخ … فعل الشيء نفسه … و … علي المنضدة … في الصالة … وضعوا الطعام … والشاي … وجلسوا يهرسون الطعام المنهوب … بأنياب … لا تعرف الرحمة .

الشيخ عبد الفتاح إسماعيل … يصحبه علي عشماوي … ومبارك عبد العظيم … في سباق … وقلق … يدفعهم إلي السعي لمعرفة آخر الأخبار … فقد كان مرسي مصطفي مرسي … هو الصلة بينهم وبين زينب الغزالي … وهي بدورها كانت حي حلقة اتصال مع المرشد المقيم في الإسكندرية بواسطة السيدة زوجته التي حضرت إلي القاهرة … عندما شعروا بحركة الاعتقالات .

دق الجرس .

انفتح الباب … طالعتهم الأخبار التي كانوا يهربون منها … المدافع مصوبة إلي رءوسهم … وقع الصيد الثمين … بضربة واحدة … ضربة حظ … باللاسلكي زف الخبر للعقيد … الآن يستطيع أن يعلن … النصر المبين .

في نفس الليلة … وعلي عكس محمد عواد تمامًا … اعترف علي عشماوي … بالتفصيل … وتفصيل التفصيل … لا صمود … ولا صبر … ووداعًا للثبات … وبعدًا لكل أدبيات الإخوة … عن الطاقة … والتحمل … والاستشهاد … في لحظة نسي … أو تناسي كل ما علمه عن السجن الحربي … لا فرق .

أين الحماس يا علي ؟ ! … موجود … ولكن المؤشر لف مائة وثمانية درجة … في الاتجاه المعاكس … أين الإخلاص … حاضر … لمواجهة أي إنكار … والإيقاع بالجميع .

لم يبق شيء لم يذكره … والذاكرة حديدية .

هل هو الحظ يا شمس ؟؟ .. يقولون أنه يأتي من دعاء الوالدين … للأبناء … ولكن بعض الأبناء لا يوافقهم الحظ إلا مع دعاء الوالدين … عليهم … ! ! ! الآن اتضحت الصورة … وانكشف هيكل التنظيم … ليبدأ الشغل .

       كرداسة .

    قرية ترقد في حضن هضبة الأهرام … غرب القاهرة … يومًا … ما … كانت تموج نشاطًا بشباب الإخوان … وكان من الطبيعي أن ينالها نصيب وافر من ضربة 1954 … والملاحقات البوليسية التي تبعتها لتمد عليها ظلاً كئيبًا من التوجس والخوف … فانسحب العلن إلي مكنون الصدور … وانطوت القلوب علي ما فيها من غيرة علي الدين … وعلي أمل كانت تمثله دعوة الإخوان في تنشأة الشباب علي الجدية … والخلق … والصدق … في هذا الجو … شب الرجال … الذين كانوا أشبالاً … وبراعم … رضعوا مبادىء الجماعة … فاستوطنت خلاياهم … وظلت – في شوق – تنتظر … يومًا الخلاص … و … عودة …

    الشمس تنحدر نحو الغرب … عندما توقفت – علي أطراف البلدة – ثلاث سيارات … ينزل منها ثمانية رجال … طول بعرض … فريق كاراتيه … يلبسون قمصانهم علي اللحم … فتنشف عضلاتهم … من الطبيعي – إذا ساروا – أن يدبوا علي الأرض في زهو … وغطرسة … قابلوا فلاحًا … سألوه عن منزل السيد نزيلي … في نجده أهل الريف … قادهم إلي الحارة … ثم إلي منزل مكون من طابقين … .

    فتح لهم الباب … أخوه الأصغر عبد الحميد .

  • هل سيد موجود ؟

لابد أنهم أصدقاء … جاءوا يباركون زواجه الذي تم منذ أيام … هم بالتأكيد ليسوا من أهل البلدة … و … نخوة أهل الريف .

  • أهلاً … وسهلاً … أتفضلوا … هو علي وصول .

أدخلهم غرفة المسافرين … بجوار الباب … ظلوا واقفين ينظرون حولهم … تردد عبد الحميد في لحظة شك … إلا أن واجب الضيافة دعاه إلي الذهاب لإحضار الشاي … و … كعك العرس …

قبل أن يتخطى عتبة الباب … شعر بأنه علق في الهواء … عندما خطفه أحدهم … ألقاه علي أحد الكراسي … وكمم فمه بيده … في حين انتشر بقية الرجال إلي داخل المنزل صعد ثلاثة منهم إلي الدور العلوي … حيث يسكن سيد مع عروسه التي لازالت تعيش نشوة الزواج … اقتحموا الباب … فوجئت بهم … صرخت :

  • من أنتم … ماذا تريدون ؟

أخرج أحدهم الطبنجة … وقال في حزم محذرًا :

  • إياك أن تصرخي … أين سيد ؟
  • من أنتم … وماذا تريدون ؟
  • نحن شرطة … ونريد سيد .

حاولت لملمت أعصابها المفككة … كان لديها خبر عن حركة شغالة للاعتقالات … أخبرها بها سيد هذا الصباح … ولكن بطريق مخففة … حتى تكون مستعدة لأي احتمال … حيث أنها نشأت في بيت اعتاد علي ( زيارات ) الشرطة بفظاظتها … فقد كان أخوها أحمد من الإخوان … زبون مرغوب … عليه العين … كانوا يأخذونه ليحل ضيفًا ( لديهم ) … أيامًا … قد تطول … وأحيانًا … لساعات … حسب الحنية … ودرجة حرارة الاشتياق … ولأن مزاج الحكومة … مزاج … متقلب … متعكر … فقد كان لا يصفوا إلا مع الفجر … والناس نيام … لذا كان هو الوقت المفضل لاقتحام شقتهم … ولا يتركونها إلا بعد أن يصبح كل شيء … وكأنها زاوية في سوق الجمعة تناولتها أيدي الزوار رميًا … وتقليبًا … عن أي شيء يبحثون ؟؟ .. الأوراق … الكتب … حتى كتبها المدرسية … ولكن في كل مرة – رغم سابق الخبرة وحرصهم – فإنه كانت تختفي بعض المبالغ المالية … علي قلتها … وأيضًا حسب المقسوم .

ردت علي السؤال … ورعدة لا تزال تسري في جسدها .

  • سيد … ليس موجوداً .

لم ينتظروا إجابتها … انتشروا في الغرف … يقلبون كل شيء … وينثرون علي الأرض … يفتحون الأدراج … وإذا اقتضي الأمر … عنوة وكسرًا …

انتبهت فجأة إلي أن شبكتها الذهبية في أحد الأدراج … همت أن تأخذها … إلا أن أحدهم صادرها .

قال في غلظة :

  • سنثبت ذلك في محضر التفتيش .

أي محضر تفتيش ؟؟ .. ومن أنتم أصلاً … من خبرتها السابقة … آثرت السكوت … فلم تكن مستعدة لتدفع ثمن اعتراضها … جمعوا الكتب … والأوراق … توجهوا إلي الباب … ظنت أن الحفلة قد انتهت … حين شدها أحدهم من ذراعها … وساقها أمامه … وسار الموكب وسط حواري القرية … وشوارعها .

المشهد الذي رآه أهل القرية … عبارة عن ثماني رجال … يدبون علي الأرض … وهم في حالة استنفار وتأهب … ويسوقون صبيًا … وامرأة … الصبي هو … عبد الحميد نزيلي … والمرأة … هي عروس سيد نزيلي … في ملابس البيت … مكشوف شعرها … تتعثر في مشيتها … وهم يدفعونها لتنتظم في خطوتها هلي مشيهم السريع … وقد هرب الدم … فبدا وجهها باهتًا … أما الصبي فقد كان يتململ ويتعثر … محاولاً الإفلات من القبضة التي تملأ كل قفاه …

صاح أحدهم … وهو يقذف الموكب بأول حجر :

  • حرامية … حرامية

وكأنهم … كانوا ينتظرون هذه الإشارة … أهل الريف أهل فزع ونجدة … توالي قذف الطوب … والحجارة … من التجمعات التي بدأت في حصارهم .

أخرج أحدهم طبنجته … وأطلق عدة أعيرة من النار … صوت إطلاق النار … أحدث هرجًا … ومرجًا … بين هروب الخائفين … وقدوم الآخرين لاستطلاع الأمر … و … حدث الالتحام … ودار الضرب … باليد … والطوب … و … العصي .

افلتوا الزوجة إلي بيتها … أما عبد الحميد فطار إلي نقطة الشرطة .

    نقطة كرداسة … علي الجدار الخارجي … كتب خطاط ( أُمَّي ) … الحروف كبيرة … اللون أزرق … فوق طلاء من الجير الأبيض .

( الشرطة في خدمة الشعب )

الشاويش عبد الحكيم … النوبتجي … يجلس خلف منضدة خشبية … تاريخها الأثري يقول … أنها كانت مطلية يومًا ما … حروفها متعضضة … التي غيرت لون الأحوال … وهو يشكو من حاله … ومن عرق الأيدي المتسخة التي غيرت لون صفحاته ,,, وتهرأت من كثرة التقليب فيها .

الشاويش عبد الحكيم حضر للتو من قريته المجاورة … وكعادته من سنين يبدأ – عمله – بأن يفتح منديله … ويخرج منه رصَّة الخبز الفلاحي المرحرح … يضعه علي الطاولة … ومعه طبق المش … وبجواره البصل الأخضر وعيدان الفجل … ثم يبدأ باسم الله ليحشو من فتحة فمه المتسعة عن آخرها … كتل الخبز المغموسة من المش … ثم يلحقها بعيدان الفجل … أما قطع البصل فإنه يدسها بإصبعه داخل هذا الزحام لتنال نصيبها من طحن أسنانه …

اندفع الصبي … إلي داخل النقطة وهو يصيح .

  • حرامية … حرامية يا شاويش عبد الحكيم .

لم يهتز الشاويش … خرجت كلماته بعد أن تسللت من خلال لغده الممتليء .

  • حرامية … أين … يا ولد ؟؟

استمر الصبي في الصياح :

  • خطفوا زوجة أخي سيد … والبلد مقلوبة .

الشاويش يعمل في هذه المنطقة منذ سنين … البلد غاية في الهدوء … حتى العداوة التي كانت بين أكبر عائلتين تتنافسان علي العمودية … زالت بمجرد انضمام الشباب من الطرفين للإخوان … فسرت روح جديدة داخل القرية … ود … تزاور … إيثار … منذ ذلك الحين … أصبح دوار العمدة هو المكان المفضل لحل التنازع والخصام … وأصبحت النقطة – واقعيًا – خارج الخدمة …

صياح الصبي … ومنظر وجهه المحتقن … وآثار الكدمات عليه … واحمرار قفاه … وملابسه الممزقة … تشير كلها إلي حدث ما … مظاهر تضفي الصدق علي هلع الصبي … قام في همة ثقيلة … وهو يجمع ما تبقي من طعامه … ويصرها داخل المنديل .

  • هه … نؤجل الأكل .

سار مع الصبي … حتى انتهي إلي مكان جرن متسع … شاهد الساحة وقد امتلأت بقطع الطوب والحجارة المتناثرة … أزاح تجمع الناس دفعًا … حتى انتهي إلي أحد الرجال … ملقي علي الأرض … فاقد الوعي … وقد انتفخ وجهه … وتقطعت ثيابه … وجرح في رأسه عليه آثار دم متجلط .

  • أين بقية الرجال ؟

صاح أحدهم منفعلً :

  • هربوا … من هنا … يا شاويش .. والست رجعت بيتها .

انحني الشاويش عبد الحكيم … أخرج من جيب الرجل تحقيق الشخصية … عندما فتحه … وشاهد الصورة في ملابس ضابط الشرطة العسكرية … لم يملك إلا أن يصيح مولولً :

  • خربتي … يا كرداسة .

جري نحو النقطة … ليبلغ بالمصيبة … ويطلب سيارة إسعاف … ولكن الرجال السبعة كانوا أسرع في الاتصال بقيادتهم .

تفرق الناس علي صيحة الشاويش … في حيرة من سبب انزعاجه … أقفرت قعدة المصاطب حول الجرن … لم يكملوا واجب العزاء … الشباب الجالسون علي المقهى … في مدخل البلد … تناولوا الحادث بالتعليق . قال أحدهم في تحدي :

  • شرطة عسكرية … أو من الجن الأزرق … النساء عندنا لهم حرمة … يا جدع … اسمها حرمة … لماذا يخطفونها ؟؟ .. ماذا فعلت ؟ .. ماذا جنت ؟ ..

قال الثاني مؤيدًا :

  • هل كانوا يظنون أن البلد خلت من الرجال … وهم يقودونها أمامهم ؟؟

قال آخر … وقد تجرأ … فانفتح منخاره وهو يقول في حماس وفخر :

  • لقد خلصتها من يدهم … عندما ضربت الرجل الطويل مقص … فاندلق علي الأرض لا يحط منطقًا .

قال الأستاذ جلال المدرس :

  • ماذا ينتظرون منا … وقد دخلوا البلد … لا احم … ولا دستور … هل كانوا يظنون أننا نخاف من ضرب النار .

بدأ الليل يزحف في سكون مريب . الحركة تذيل … دبيب الأرجل أوشك أن يتوقف في الطرقات … هكذا الحال في الريف ليلاً … لا تسمع فيه إلا نباح الكلاب … هنا … أو … هناك .

شق السكون … من بعيد … صوت الهدير يقترب … صوت الجنازير وهي تحرث الأرض … وعجلات السيارات بقسوته .

الشرطة العسكرية في طابور … تشكيل قتالي … الجنود في لبس الميدان … يحملون المدافع … العلامات الحمراء الفاقعة تميزهم عن بقية الجنود … المدرعات تفرم كل ما يقع تحتها … وتهز البيوت المبنية من الطين … وتتجه نحو التقاطعات لتتمركز فيها … وتصوب مدافعها في كل اتجاه … أما مداخل القرية … فقد سدتها الدبابات الثقيلة … في حصار محكم .

بعض جنود الشرطة العسكرية … قفزوا من سياراتهم … عندما شاهدوا الشباب في المقهى … لم يدم الأمر طويلاً … حتى صار كل شيء خرابًا … الكراسي … المناضد … أدوات صنع الشاي … والقهوة … الصواني … والزجاجات … والأكواب … اختلطت حطامًا … أما الشباب … فحاصروهم … ومنعهم من الفرار … واستمر الضرب بأرجل الكراسي … والمناضد … حتى قطعوا النفس … ثم ربطوهم جميعًا في حبل واحد … وساقوهم إلي حوش المدرسة … والتي اختاروها مقرًا محكم المداخل لتجميع كل من ألجأته الضرورة لترك بيته في هذه الليلة السوداء … ويقع سيرًا في قبضة القوة الغازية …

لم يكن الأمر في حاجة إلي إعلان … إلا أن الميكروفونات ظلت تنعق بالأمر العسكري … ينادي … بحظر التجوال … كل من يخرج من بيته … كل من يطل من شباك … كل من تسول له نفسه النظر من ثقب … سيطلق عليه النار … بلا تحذير … أو … إنذار . تبع ذلك بتسليط الأنوار الكاشفة تمسح جدران البيوت وتخترق ظلام الطرقات … ويسهم ضوءها الشديد في تكريس جو الذعر … والإرهاب . علي باب دوار العمدة … وقفت سيارات الشرطة العسكرية … قفز الضابط … وخلفه العساكر … صوبوا مدافعهم علي البيت … ونادي علي العمدة … تلقفه عسكري بكعب بندقية في صدره صائحًا :

  • اجري … حافي .

الرجل … المحترم … يوقره جميع أهل القرية … لم يهضم الأمر … رغم قسوة الضربة … تلكأ قليلاً … قبل أن يشعر بأن أحد ضلوعه كاد أن ينكسر عندما عاجلته ضربة أخري .

  • أجري … يا … ولد .

ولد ؟؟ .. العمدة يجري … حافي القدمين … ممثل السلطة … والحكومة يهان … كان أخوه يجري خلفه … في حالة توهان … هل ما يراه ويسمعه … حقيقة ؟؟ .. حلم … ؟؟ كابوس ؟؟ .. علم … فيه … إيه ؟؟

عند مدخل المدرسة … كان العقيد واقفًا … تحيط به الرتب … ووزير الداخلية المغضوب عليه … بجوار السور وقف كل من ألقي القبض عليه … الوجه بالحائط … والتعليمات … لا حركة … حتى الناموسة … يمنع هشها … والعقاب … حاضر … العصي … والكرابيج تؤدي مهمتها بحماس … وفي أحيان كثيرة كان الضرب … بلا سبب … ربما .. كنوع من التسخين … وشغل الوقت … سأل العقيد :

  • أين شاويش النقطة ؟

حضر … مهرولاً … رفع يده بالتحية … قابلها العقيد بشلوت هائل من قدمه … انتزعه من الأرض … وأطاح به واقعًا .

  • كنت فين يا بن الكلب … عند الاعتداء علي رجال الشرطة العسكرية ؟

توجه إلي وزير الداخلية … مؤنبًا .

  • هل هذا الـ ( …. ) من الرجال … الذين يحرسون أمن البلد .

توجه إلي العمدة … يده في جيبه … خاطبه في عنهجية … فأر في مصيدة

  • رجالي … يضربون في بلدكم .

قبل أن يرد العمدة … أنغرس كعب البندقية بين ضلوعه . استدعي أنفاسه الهاربة .

  • يا باشا … لم يخطرني أحد بقدومهم .

قال في غطرسة :

  • وهل نحن في حاجة إلي إخطار أحد ؟

قال أخوه … مشفقًا … محاولاً تخفيف الضغط عليه .

  • يا باشا … نحن دائمًا … في خدمة الحكومة .

صفعته نظرته … انقض عليه الجنود … طرحوه أرضًا … برك علي صدره … شحط في ثياب جندي … أصبح وجهه هدفًا سهلاً … يتأرجح يمينًا … ويسارًا … علي وقع الصفعات … يكيلها له … بكف غليظ .

  • قف … من أنت ؟

سحبه الجندي … من ثيابه … وقف .

  • أنا … أخوه … يا باشا .
  • تقدم … ابصق في وجهه .

هرب اللعاب … من فمه … جف حلقه … عشرات الأصوات تحاصره … ومعها انهال الضرب .

  • أبصق عليه … أبصق … يا بن الـ ( …. ) .

نظر إليه العمدة منكسرًا … قرب وجهه من فمه .

  • أبصق يا يوسف … أبصق يا أخي .

خرج الهواء من فمه مع الرذاذ الذي جمعه بصعوبة .

أنحبس اللعاب … إلا أن الدموع التي هربت من الخوف الأول … فاضت الآن … فانهار يبكي … شجاعته … الخائرة .

استمر العقيد :

  • أنت عمدة البلد … المسئول عن الأمن … تركت الرجعيين يدبرون المؤامرات ضد الثورة .
  • يا باشا .

لطمه العسكري علي فكه … أنحبس صوته … تدحرجت عيناه في محجريها … خطف برق اللطمة بصره .

  • كرداسة … وكر الإخوان … أنا لدي كارت بلانش لحرقها … لا يوجد من يتحدى الثورة .

    امتلأ فناء المدرسة بأسري الحرب من أهل القرية … قبضوا عليهم أفواجًا … أفواجًا … كل فوج قيدوه في حبل واحد … النساء مع الرجال … الشيوخ مع الأطفال … وكل حبل يسحبه عسكري واحد … كأنه قاطرة تجر قطارًا من الحيوانات … أو كأنها صورة من صور الماضي البعيد … عندما كان العبيد يساقون إلي سوق النخاسة … الكرابيج تلسعهم وتكويهم … وتقودهم إلي الحريق الذي أشعلوه في مقر التعليم … وتربية الرجال … علي حب الوطن … ولم يكن هناك أي تعارض … فإن الأدب فضلوه عن العلم !!!

في الفجر كدسوهم في السيارات … إلي … السجن الحربي … إلي محرقة حمزة البسيوني … في دقائق … كانت السيارات تفرغ حمولتها ممن كانوا يومًا ما … من البشر … و … كيفما اتفق … قفزًا … و … دفعًا … وكركبة … ليجد الجميع أنفسهم واقفون داخل كردون من العساكر المدججين … بالكرابيج … خبرة في إحكام الحصار … وخارج الدائرة كتيبة من الكلاب … من فصيلة الذئاب … تتوثب … وتزمجر … في وحشية مرعبة … و … بدأ … الشغل .

    الاستقبال … والتحية … واجب الضيافة … الشاي … والقهوة … و … بيتك ومطرحك … و … نورت … إحنا زارنا النبي … تذوق هذا الكرباج … ما رأيك في هذه اللدغة ؟؟ .. نحن محترفون … فنانون … نشانجيه … هل تفضل هذه الكربجة علي الأذن … أم علي الجبهة … إذا كنت تريد أن يكون الضرب علي الظهر فنحن نقدم معه خدمة التشريح … وأيضًا خدمة التخطيط … الضربات ترسم خطوطها بالتوازي … بالعرض … شق … بجوار شق … ثم تعود لتملأ مساحة الظهر بخطوط رأسية … ثم تختم بالخطوط المائلة ليصبح الظهر في النهاية ( كاروه ) … في شكل هندسي … أو تحوله إلي لوحة سيريالية بألوان الدم … الثلاثة … الأحمر نزيفًا … والأزرق للكدمات … والأسود في اليوم التالي . الضرب في الاستجوابات أو التحقيق … يخضع لتوجيهات الضباط … ومع إشارات متفق عليها … اضرب … اترك … استخدم التعليق … هات الخازوق … الكهرباء … أما ضرب الاستقبال … فهو ضرب تأديب … يقوده صفوت الروبي … يخضع للمزاج … والرغبة بالاستمتاع … وزادت حرارته بوقوف … سيادة اللواء حمزة البسيوني … يرقب … ويهز رأسه راضيًا … بالتنوع في العذاب … والانتقال من مرحلة إلي أخري وفقًا للبرنامج .

    صاح صفوت :

  • كله يرقد .

العساكر مبرمجون … فاهمين … دارسين … هجموا علي الرجال يدفعونهم علي وجوههم .

  • ارقد يا بن الكلب … ارقد يا ولد … ارقد .

صاح الروبي … وهو يفرقع بالكرباج … لقطيع البشر …

  • كل امرأة … تركب زوجها … حماري …

اختلط الصراخ … عم الذعر … الكرابيج تهوي علي أجساد الحريم … الغضة … مع الألم … قفزت النساء علي الظهور الممددة أمامها …

    زوجة شيخ الغفر … وقفت حائرة … كيف تتسلق ظهر زوجها … وهي حامل … وعلي وشك الولادة … دفعها أحد العساكر … وقفت فوق ظهره … تلقاها بيده … ثم … حملها … وهي لا تكاد تستقر … نظرًا لانتفاخ بطنها واصطدامه بالظهر …

    واجه الروبي … مشكلة … عدد النساء أقل من عدد الرجال … كان عليه أن يجد حلاً … بسرعة … وإلا سقط العرض … أمام سيادة اللواء .

    صاح : كل رجل … يركب الثاني … بالترتيب … حماري … يا ولاد الكلب والآن حان وقت الإثارة .

    صاح بالأمر : للأمام … مارش .

    الرجال تجثو علي الأيدي والأرجل … وفوق ظهر كل منهم زوجته … وأيضًا الرجال يحملون رجالاً … المرأة الحامل … وقعت … فقدت اتزانها … فتلقفها الكرابيج . وبدأ الطابور يسير في دوائر … مع لسع الكرابيج … والصول في نشوة … واستمتاع

  • بسرعة … يا … حمير كرداسة .

توقف العرض … عندما صاح الروبي : انتباه … وقوف .

انزلقت الحمولة … من فوق الظهور … انتصبوا واقفين .

صاح : صفين … متقابلين .

ضغط علي زر … في لحظة … تحركت الكرابيج لتنظمهم في صفين … متقابلين … بعد أن خرجت النساء والأطفال … لانتهاء دورهم صاح صفوت :

  • أبصق علي من يقابلك .

انهالت الكرابيج علي الظهور … مساعدة في تحضير اللعاب … وقذفة من الأفواه إلي الوجوه … الأمر التالي كان : اصفع الوجه قصادك . مع التردد … كانت الكرابيج تستحثهم … وصوت العساكر يردد :

  • اصفع … اصفع … بشدة يابن الكلب … لا … لا … بشدة أكثر .

ثم جاءت فترة الاستراحة .

  • كله يقف انتباه … شد جسمك … ولا حركة .

سار بين الصفين … وكأنه يستعرض حرس الشرف … ثم توقف أمام العمدة … سأله :

  • اسمك ؟؟
  • علي .

أوشك طرف الكرباج أن يلحس عينه .

  • اسمك ؟؟

مخه يدور في فراغ … جسمه يأن … الألم هو إدراكه … ماذا يريد هذا الشيطان ؟؟

  • علي … علي .

مع توالي الكرابيج … أوضح مقصده .

  • من يدخل هنا … ينسي أنه كان يومًا رجلاً … يختار لنفسه اسم امرأة ضرب الكرابيج أليم … ولكن جرح الكرامة قاتل وضعوا هامتك في الطين … تهروك … هل تبكي يا عمدة ؟ .. هل تبكي عزًا … يذله هذا الصول … الذي حكموه فيك ؟؟ .. كم يساوي لو عرضوه في سوق الخميس … ربما رضي أحدهم أن يستأجره بكيلة ذرة … وهل ترض أن يعمل عندك في الزريبة … كلافًا للبهائم … وهل كنت تتركه في خدمتك … لو ضرب حمارًا … أو … أهان جاموسة … العمدة التي اهتزت له الشوارب … وسعت له الحكومة … هل هذه هي الحكومة التي خدمتها … أين شعارات الحرية … والكرامة … والعدالة … التي كان يطلقها عبد الناصر … فتلتهب الأكف تصفيقًا …

وترعد الحناجر … هتافًَا … عبد الناصر كان يتباهى بأنه تابع الشعب … فالشعب هو القائد … وهو المعلم … يشعر بمشاكله … ويحس بنبضه … فقد انقطع نبضي … تعالي … يا زعيم … يا تابع … تعالي … تحسس نبضي …

أنا عمدة كرداسة … ممثل الدولة … أعلن أمام الشعب … شعب كرداسة … الذي تنازل … طواعية … واختيارًا عن قيادته لسيادة الصول صفوت الروبي … ويخضع بكل ارتياح … لتعليم معلم الأجيال … سيادة الكرباج … أعلن أنني قد أصبحت امرأة … اسمها سيدة .

أيها المواطنون … أيها المواطنون

  • أنا جمال عبد الناصر … زرعت فيكم العزة … زرعت فيكم الكرامة …

تصفيق … تصفيق

أيها المواطنون … أيها المواطنون

  • كلكم … كلكم … نسوان .

عن adminis

شاهد أيضاً

رواية القوقعة -الحلقة الخامسة مصطفى خليفة

يرد عليه الرقيب الأعوج : – تسقط … تسقط .. تسقط . – يعيش الرئيس المفدى …

رواية القوقعة -الحلقة الرابعة مصطفى خليفة

29أيلول استيقظت في الصباح الباكر على أنين رجل يتألم بشدة. كان يضع يده على بطنه …

رواية القوقعة -الحلقة الثالثة مصطفى خليفة

22 شباط فتح الشرطة باب المهجع ودخلوا بطريقة وكأن مائة ثور هائج قد دخل هذا …

رواية القوقعة -الحلقة الثانية مصطفى خليفة

16 تشرين الثاني منذ الصباح يعم ضجيج مكبرات الصوت. أرجاء السجن وما حوله تبث الأناشيد …

رواية القوقعة الحلقة الأولى مصطفى خليفة

يوميات متلصص إنها قصة الفتية الأبرار في سجون الطغيان، يكتبها سجين عاش معهم المأساة. ولعل …

رواية ليالي كرداسة الحلقة العاشرة {الاخيرة } المهندس انور رياض

(20)     لم تكن حسابات الداخلية التي اعتمدت علي خبرة أمنية طويلة … ومتابعات ميدانية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *